مرآة الحقائق - ج ٢

إسماعيل حقّي البرسوي

مرآة الحقائق - ج ٢

المؤلف:

إسماعيل حقّي البرسوي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
977-344-218-7

الصفحات: ٤٤٩
الجزء ١ الجزء ٢

القلوب وتميل ، وكذا المشرق محلّ شروق النور وطلوعه ، فإن الإنسان يتوّحش من الظلمة ، ويميل إلى النور ؛ ولذا لا يخلو عن إيقاد السراج في الليل ، كما أن الآفاق لا يخلو عن القمر فيه.

والشمس : إشارة إلى الروح الأمري الإضافي ، وطلوعها من المشرق ؛ إشارة إلى بقاء نور الروح في الوجود ، واستمرار التجلّي في القلب ؛ ولذا جعل الله طلوعها من المغرب من أشراط الساعة ؛ لأن طلوعها منه ؛ إشارة إلى زوال حكم الروح الإنساني ، والتجلّي الإلهي ، وظهور حكم الروح الحيواني ، وإدبار أمر التجلّي ، وارتداده إلى الأصل ؛ ولذا قال : بالدّبور ، فإنه كما أن المشرق محلّ الإقبال ؛ فكذا المغرب محلّ الإدبار ، ومثل ذلك الروح الإنساني ، والروح الحيواني ، وكذا القالب والقلب.

وأشار قوله : (نصرت) : إلى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبب النصرة بالأصالة ؛ وإنما الصبا نفس من أنفاسه الرحمانية.

وأمّا ورثته فسبب النصرة بالتبعية ، فكل جند ليس معهم أحد من الورثة ، فهم مخذولون ؛ لأن النفس الرحماني معهم أين ما كانوا من الآنيات المختلفة ، وهذا قد غفل عنه سلاطين الزمان ؛ لاحتجابهم عن الله تعالى بحجاب الكون ، فكان أكثر حالهم الخذلان ، ثم لا يكفي أن يكون معهم واحد منهم ؛ بل لا بد من المبايعة ، وحسن الاعتقاد ، وإليه الإشارة بقوله : «أنا عند حسن ظن عبدي بي» (١) ؛ وهو سرّ عظيم لم ينتبه له كثيرون ، فبقوا حيارى ، وليس محلّ الحيرة بالنسبة إلى الخبير البصير ، والله الغيور.

٦٢ ـ في الحديث : «سافروا ؛ تصحّوا وتغنموا» (٢) :

اعلم أن السفر إمّا سفر صوري من مكان إلى مكان ، وإمّا سفر معنوي من مقام إلى مقام.

وأمّا الصحة في السفر الصوري (٣) : فقد يكون الإنسان مريضا محتاجا إلى

__________________

(١) رواه البيهقي في الشعب (٦ / ٥٤٦) ، وذكره المنذري في الترغيب والترهيب (٤ / ١٣٦).

(٢) رواه البيهقي في الكبرى (٧ / ١٠٢) ، والديلمي في الفردوس (٢ / ٣٠٦).

٢٤١

تبديل الهواء ، والبقاع مختلفة من حيث العفونة ، والكثافة ، والاعتدال ، واللطافة ، فإذا صادف الهواء المعتدل ؛ اعتدل مزاجه ، وسرى حكم الصحة إلى جميع أجزائه.

فقد حكي : إن بعض الملوك خرج من بغداد إلى بعض النواحي فمرض هناك ؛ فلم يصح حتى جيء إليه بماء بغداد ، وهوائها في زقّ منفوخ ؛ فظهر الاختلاف بين ماء وماء ، وهواء وهواء ، ومكان ومكان.

وأمّا الغنيمة : فقد قيل : إن في الحركات البركات ، فقد يكون المرء بحيث يربح في تجارته في الغربة ما لا يربح فيها في الوطن ، لمّا أن الله تعالى بثّ النفع والضرّ ، والخير والشر في أقطار الأرض ، والمرء لا يدري أي قطر هو خير له؟ وقد يكون بعض البلاد بحيث يغلب عليها حكم بعض الكواكب ؛ كالثريّا في الشام ، وسهيل في اليمن ، وقس عليها ما هو نحس منها ؛ كالمريخ ، والزحل ، ووقت السعد والنحس من الاقتران ؛ فيصادفه في السفر ، فهذه غنيمة متعلّقة بالمال ، والأولى صحة متعلّقة بالبدن وقدمها ؛ لأن الصحة أصل في انتفاع البدن بالمال إذ لا ينتفع المريض بماله ؛ ولو كان قنطارا.

ولذا ورد : «العلم علمان : علم الأبدان ، ثم علم الأديان» (٢) ، إن الدين وقوامه تابع لصحة البدن واعتداله ، فكان المال والانتفاع به.

وأمّا الصحة في السفر المعنوي : فإن المسافر الخارج إلى الله تعالى من اسم له إلى اسم مريض من جهة أوصاف نفسه المضرّة ، وأخلاق قلبه الذميمة ، فباطنه سقيم مجروح ، وله قروح لا تحصى ، محتاج إلى طبيب وجرّاح ، وهذا السفر يعين على صحته المعنوية ؛ لأن باليقين يزول الشك ، وبالتمكين يذهب التلوين ، وبالشهود يغيب

__________________

(١) السفر عند الصوفية : عبارة عن القلب عند أخذه في التوجه ، بتصحيح معاملات وتعديل أحوال ، تسفر عن النفس المرتقية في مناهج كمالاتها سفساف الأخلاق ويحليها بمعرفة مكامن القواطع ، وموارد القطعيات من المراتب الكونية ، والحضرات الحقية إلى الحق تعالى بالذكر.

والذكر هنا : إحضار القلب مذكورة ، ومواجهته إياه ، واستمراره على ذلك إلى حد تنطمس فيه موارد الذهول والنسيان.

(٢) رواه أبو نعيم في الحلية (٩ / ١٤٢) ، وذكره العجلوني في الخفا (٢ / ٢٨٠).

٢٤٢

الاحتجاب ، وبالعلم يضمحل الجهل ، ولا يزال في كل نفس من أنفاسه يسافر إلى حال من الأحوال ، وإلى مقام من المقامات إلى أن ينتهي إلى آخرها بحسب استعداده.

فإن المنتهى وإن كان واحدا كما قال تعالى : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) [النجم : ٤٢] ؛ لكن نقاط الدائرة مختلفة بالنسبة إلى المركز ، فالتفاوت إنما هو في الكيفيات.

ألا ترى إلى الأبصار فإنها لا تدرك إلا بقدر قوتها وضعفها ، وإن كان المرء قريبا.

وأمّا الغنيمة في هذا السفر : فالاستكثار من العلوم الإلهية ، والمعارف الربّانية ، والحكم اللطيفة ، والحقائق الرقيقة ، والأذواق الشهية ، ومعانقات العذارى المقصورة في خيام ومواصلات حور عين ؛ كأمثال اللؤلؤ المكنون في أصداف البحر.

وأية غنيمة فوق هذه الغنيمة؟ فهذه غنائم الفقراء السالكين ، فإنهم قلّلوا الأغذية الجسمانية ، واختاروا السهر ، والصمت ، والخلوة حتى أغناهم الله من فضله الكثير ، ومنه الوفيرة ، وأراهم جماله حين قام الخلق ، وكالمهم ، وكان معهم حيث كانوا ، نسأل الله سبحانه أن يسلك بنا مسالك أولئك الواصلين ، ويرزقنا من نعيمهم ، ومزيدهم في كل حين.

٦٣ ـ في الحديث : «من أهان سلطان الله ؛ أهانه الله ، ومن أكرم سلطان الله ؛ أكرمه الله» (١) :

الإهانة ضد الإكرام ، كما يعرف من المقابلة ، وسلطان الله أعم من أن يكون القرآن ، أو القائم بالقرآن بظاهره ومعناه ، والإمام الظاهر بصورة السلطنة.

أمّا الأول ؛ فلأنه حجة الله وبرهانه على المنكرين ، فمن أهانه بترك العمل به ؛ أهانه الله بالعذاب المهين ، وكان عمر رضي الله عنه يقبّل المصحف كل صباح ، ويقول : هذا كلام ربي ؛ يعني : يعظّم ظاهره بالتقبيل ، وباطنه بالعمل بموجبه.

ولا شك أن تعظيم الكلام تعظيم للمتكلّم ، وكذا الإهانة به ، واستحقاره

__________________

(١) رواه البيهقي في الكبرى (٨ / ١٣٦) ، وأحمد (٥ / ٤٨).

٢٤٣

إهانة ، واستحقار للمتكلّم ، واستحقار العظيم عظيم ؛ ولذا كان جزاؤه الإهانة من الله تعالى على حدّ قوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة : ١٥].

ومن إهانة القرآن ؛ إهانة ما يدلّ عليه من الآثار ، ويخبر عنه من أحوال الأخيار والأشرار.

وأمّا الثاني ؛ فلأن القائم بالقرآن بظاهره وباطنه ؛ هو خليفة الله ووارث رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان خلق رسول الله ؛ هو القرآن ؛ بل كان هو بنفسه عين القرآن ؛ هو الكلام التنزيلي ، والإنسان الكامل ؛ هو الكلام التكويني.

فكما أن الكلام التنزيلي مشتمل على الحروف ، والكلمات ، والآيات ، والسور ؛ فكذا الكلام التكويني مشتمل على ذلك ، فحروفه الشئون الذاتية ، وكلماته الأعيان العلمية ، وآياته الحقائق المجرّدة الأرواحية ، وسوره الآثار المثالية الجسمانية ، فهذه هي حروف كتاب الوجود الظلّي ، وكلماته ، وآياته ، وسوره.

وأمّا كتاب الوجود الحقيقي ؛ فحروفه الأسماء الذاتية الأحدية ، وكلماته الأسماء الصفاتية الواحدية ، وآياته الأسماء الأفعالية ، وسوره الآثارية.

فظهر أن الإنسان الكامل ؛ هو القرآن من حيث إنه كتاب جامع لحقائق الأشياء كلها ، وله كلام يصدر عنه ؛ فهو كلام الله أيضا ؛ لأنه مظهر الحق ، ومظهر أسرار القرآن ، فمن أهانه بعدم الإصغاء إلى كلامه ، وحجته ، وبرهانه ؛ أهانه الله بتركه في الحجاب المانع عن سماع الخطاب الإلهي ، ومن أكرمه بأن يقبل كلامه لعلمه بأنه كلام الله حقيقة ؛ أكرمه الله بكرامات المكمالة ، والمناجاة ، والتحقق بحقائق الكلام ، وفيه إنذار عظيم للغافلين المحجوبين ، وتبشير جسيم للمتيقّظين المكاشفين.

وإليه الإشارة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم أرنا الحق حقا ، وأرزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلا ، وأرزقنا اجتنابه» (١) ، فمن الحق أولياء الله ، ومن والاهم ، ومن الباطل أعداء الله ، ومن والاهم.

فإن الأولين يلزم موالاتهم ؛ لحقيّتهم ، والآخرين يجب معاداتهم ؛ لبطلانهم.

__________________

(١) ذكره ابن كثير في تفسيره (١ / ٢٥٢).

٢٤٤

وأمّا الثالث فلأن السلطان سرّ الله الرحمن ؛ القيامة بوحدته مقام وحدة الحق ، ووجوب وجوده ، وشمول ظلّه على جميع الرعايا ؛ كشمول رحمة الله على جملة البرايا ، فهو ظاهر على صورة اسم الله الأعظم ، فمن أهانه بترك المبايعة له ، والخروج عن حكمه ، وسلطانه ؛ أهانه الله بإقامته في دائرة المبتدعة الشاردة عن حكم الجماعة ، ومن أكرمه بالدخول تحت لوائه ؛ أكرمه الله بالنصرة على الأعداء الظاهرة والباطنة.

فإن قلت : فكيف الإكرام إذا كان خارجا عن حكم الله في أكثر أحواله؟

قلت : قد ثبت أن الطاعة اليسيرة من السلطان بمنزلة الطاعة الكثيرة من غيره ؛ فهو مظهر اسم الذات ، ولذا كان قائد الخلق.

كما أن الاسم الأعظم يقود جميع الإلهية ، وكذا من هو رجال السلطنة تحت يده ، فإنهم أيضا مظاهر الأسماء الذاتية الكلية ؛ لكليتهم بالنسبة إلى سائر الأسماء الجزئية ومظاهرها ، ولهم ملائكة متعيّنة في السماوات تلهمهم الحق ليعملوا به.

ومنه قولهم : أرباب الدول ملهمون ، فربما يوجد عندهم من العلم ما لم يكن هو عند العلماء ؛ بل منهم أمي لا يعلمون الكتاب ؛ لكن ما باشر به من الأفعال ؛ يكون موافقا له بتوفيق الله تعالى ، هذا إذا كان صحيح النية في سلطانه ، وإلا فيعسر الوقوف عند الحق ، والوصول إليه ؛ لغلبة حجاب الكون.

ألا ترى أن السمع إذا كان مسدودا ، أو كان القائل وراء حجاب غليظ ؛ فإن السامع محروم عن السماع ، فكذا إذا كان القلب محجوبا بحجب العوائق ، والتعلّقات الكونية ، والخواطر الفاسدة ؛ فإنه عين العمى ، والأعمى لا يبصر شيئا ، وكذا أعمى القلب لا يدرك شيئا مع أجود الإلهام ، والإلقاء ، والتجلّي على حاله ، إذ ليس عند الله بخل وإمساك ؛ بل جود وفيض.

فالمانع من طرف العبد ؛ فهو محجوب لا من طرف الحق تعالى ؛ إذ هو محتجب بصفاته ، وأفعاله ، وأسمائه ، وذلك بحجاب له في الحقيقة ؛ لأنه كقناع العروس ؛ فهو حجاب للغير لإلهام ، ولا غير هنا بالنسبة إلى أحدية التحلّي ، فإن الغيرية الحاصلة في مرتبة الواحدية إنما هي باعتبار التعينّات ، وصور الحقائق ، واختلاف التجليّات ، وذلك لا يضرّ بالعينية في المرتبة الأولى.

٢٤٥

واعلم أن وجود الإنسان الكامل ؛ هو حرم الله تعالى ، ويمينه بمنزلة الحجر الأسود ، فكما أن من استلم الحجر الأسود ؛ فقد بايع الله ورسوله في مرتبة الشريعة ؛ فكذا من استلم يمين الإنسان الكامل ؛ فقد بايع الله ورسوله في مرتبة الحقيقة ، ولمّا كان السلطان الأعظم ظلّ الله : أي صورة الحقيقة الإلهية الجامعة للحقائق كلها ؛ كان استلام يده ، والمبايعة له بمنزلة استلام يمين الإنسان الكامل ، والمبايعة له ، ومنه يظهر إن المراد الاستلام بحقائق الإيمان ، والإسلام ، والتوحيد لا بمجرّد التقليد.

فربّ كافر يستلم الحجر الأسود ، ولا ينفعه ذلك في الباطن ، وإن نفعه في الظاهر ، وكذا ربّ منكر يستلم اليمين مطلقا سواء كانت يمين باطن الحقيقة الإلهية ؛ وهو يمين الإنسان الكامل ، أو يمين ظاهر تلك الحقيقة ؛ وهي يمين السلطان الأعظم ، وقد يكون السلطان خليفة الله تعالى ؛ فيكون له يمينان ؛ يمين ظاهر السلطنة ، ويمين بطانها ، فيكون استلام يمينه بمنزلة استلام اليمنين ؛ كالخلفاء الأربعة ، ومن تبعهم في طريقتهم ، وسيرتهم.

وأمّا إذا كان ظاهرا في صورة الظلّ ؛ فلا بد له أيضا من مبايعة من هو في مرتبة الخلافة الكاملة ، ومتابعته ؛ كمتابعة الظلّ للمظلول ، وإلا لم يكن متصورا ؛ بل مخذولا هذا ، فإنه مطابق لنفس الأمر ، ومن لباب المعرفة الحاصلة في أواخر العمر.

٦٤ ـ في الحديث الصحيح : «الرؤيا الصالحة يراها الرجل ، أو ترى له (١)» :

الرؤيا الصالحة هي الصادقة التي توافق الوقع ، وهي ما لم تكن من غلبة الخيال ، ولا من مداخلة وسوسة الشيطان ، فإنها إذا تكون كاذبة خيالية أو شيطانية ، ومنها الاحتلام وقد تكون للسالك حين سلوكه ، وقد تكون من ضعف المزاج والقوى ، ولذا قد تقع من الكمّل ، ولا تقدح في مرتبهم.

ومنها : ما روي : «إن آدم أبا البشر احتلم ، فخلق الله من نطفته يأجوج ومأجوج (٢)» ، إن صحّ فإن بعض العلماء ذهب إلى عدم صحته بناء على أن ساحة

__________________

(١) رواه مسلم (١ / ٣٤٨) ، وأبو داود (١ / ٢٣٢).

(٢) لم أقف عليه.

٢٤٦

أعراض الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ مصونة عن مثل ذلك التلوث ، وليس بذاك على أن الله تعالى إن كان قد قدر خلق يأجوج ومأجوج من نطفة آدم.

لم يلزم أن يكون ذلك عن شهوة خيالية ، بل على وجه غير ذلك ، فكان من حكمته الخفية أن خلق حواء من ضلعه ، ويأجوج ومأجوج من نطفته من غير علوق في الرحم ، إشارة إلى خساستهم في نفوسهم ، وسائر الذرية بعلوق الرحم ، إشارة إلى شرفهم في نفوسهم ؛ لكونه طريق التناسل ، حتى إن أفضل الأنبياء جاء على هذا الطريق.

ثم إن قوله : (يراها الرجل) : إشارة إلى الرؤيا الأنفسية.

وقوله : (أو ترى له) على المجهول : إشارة إلى الرؤيا الأفارقية ، والرجل عالم لكل رجل معهود في الذهن : أي رجل كان ، والتخصيص مبني على الغالب ، أو على أن المرأة تابعة له في الأحكام ، وذلك أنه إذا صفا الوقت كالأسحار ، أو ارتفع الموانع ، واعتدل المزاج ، فإن المرآة الإنسانية مطلقا تقبل الصور المثالية.

٦٥ ـ في الحديث : «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقل من ذلك (١)» :

اعلم أن الإنسان إما أن يكون مع الحق فقط ، بأن يكون غائبا عن الخلق رأسا ، وهو حال الجمع والفناء التام ، والمحفوظ منهم من يعود إلى الحس وقت أداء الفرائض ، فلا يجري عليه لسان ذنب بخلاف غيره ، وإما أن يكون مع الخلق فقط ، بأن يكون غائبا عن الحق وشهوده ، وهو حال أهل الفرق الأول ، والمحفوظ منهم من تداركه الله تعالى في حال الصلاة بالشهود في الجملة ، ولو خياليّا.

وإمّا أن يكون مع الحق والخلق جميعا ، وهو حال أهل جمع الجمع والبقاء ، والفرق الثاني ، والمشروح الصدر ، فمن كان حضوره دائما مع الله تعالى سواء كان من أهل الفناء ، أو من أهل البقاء ، فهو مصون عن النفس والشيطان ، وعن كل ما سوى الله ؛ لأن الحضور والغيبة لا يجتمعان ، ومن كان غائبا عن الله تعالى ، كأهل

__________________

(١) رواه أحمد (٥ / ٤٢) ، والبيهقي في الشعب (١ / ٤٧٦).

٢٤٧

الفرق الأول ، فهو موكول إلى النفس والخلق ؛ لما ذكرنا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كمال رحمته على أمته ، دعا بما ذكر من الدعاء ، فهو إما تشريع لهم بأن يدعوا الله تعالى.

هكذا حذرا عن الغفلة والحجاب ، وإما أن التقدير : اللهم لا تكل أمتي إلى نفوسهم ، فإن النبي نفسه معصوم مع بقاء الإمكان الذاتي ؛ لأن العصمة امتناع بالغير ، وهو لا ينافي في ذلك والله العاصم الحافظ.

٦٦ ـ في أحاديث الجامع الصغير : «عليك بالهجرة فإنه لا مثل لها» (١) :

إن قلت : قد ثبت في الجامع الصغير أن الصوم لا مثل له أيضا ، فكيف التوفيق؟

قلت : فيه جوابان :

الأول : إن ما لا مثل له من الأعمال كثير ، فمنه : الصوم ، ومنه : الهجرة.

والثاني : إن الصوم من باب الهجرة في المعنى ، فإن الهجرة ترك الوطن والمألوف ، فالهجرة من دار إلى دار من باب ترك الوطن والمألوف جميعا ، والصوم من باب ترك المألوف فقط ؛ لأن عادة الطبع الأكل والشرب بحيث لا يكاد يصير عنهما ، فإذا صام ؛ فكأنه ذبح الطبع ، وأحي القلب ، وأتى بعمل لا مثل له ، وكذا الهجرة من دار إلى دار ، فإن فيها مهاجرة المألوف ، وقطع السكون إليه.

ولا شك أن الاستئناس والائتلاف بالمخلوق ؛ بل بما سوى الله تعالى انقطع عن الله ، كما أن قطع العلامة عنه اتصال بالله ، وقد أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، كما قال تعالى : (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ) [الأنعام : ٩١] ، فإنه إذا وجب مقاطعة صحبة الإنسان ؛ وهو صورة الحق في الحقيقة ؛ فما بالك بغيره من الأشياء ، وقال تعالى (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) [المزمل : ٨].

٦٧ ـ وفي أحاديث الجامع الصغير : «لا تذهب الدنيا حتى تصير إلى لكع ابن لكع» (٢).

__________________

(١) رواه النسائي (٥ / ٢١٣) ، والديلمي في الفردوس (٣ / ٣٢).

(٢) رواه أحمد (٢ / ٣٥٨) ، والطبراني في الكبير (٢٢ / ١٩٥).

٢٤٨

أراد باللكع ؛ اللئيم ؛ وهو ضد الكريم.

فإن الدنيا تقوم بكرم الكرماء ، فإذا صارت إلى اللئيم البخيل ؛ كان ذلك من أشراط الساعة على أن اللئيم يخطئ غالبا ؛ إذ ليس بأصل بخلاف الأصل ، فإنه لا يخطئ كما ورد في الأثر.

والحاصل : إن الكرم من شأن الأصل غالبا ، كما أن البخل من شأن غير الأصيل غالبا ، وقد جرّب كل منهما مرارا في كل عصر ، فوحّد كذلك ، وصيرورة الدنيا إلى اللئيم ؛ بمعنى انتقال الدولة والمناصب إليه ، كما نشاهد في زماننا هذا.

فإن الأصيل مبعد ، والداعي الدخيل مقرّب ، وذلك مبغوض عند القلوب ، والبغض من علامات التفرقة ؛ ولذا قلّما اتفق نصرة اللئام ، ولو اتفق تحت راياتهم ألوف ، ثم إن اللئيم في الحقيقة ؛ هو البخيل بذكر الله ، كما دلّ عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض : الله الله» (١) ، حتى ينقرض أهل الذكر المتّصل ؛ وهو ذكر أهل الله الاستغراق.

فاتصال أهل الذكر في جميع الأوقات يعدّ من الكرم ، كما ورد أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنه يذكر الله على كل أحيانه ؛ ولذا وصف بالجود والعطاء بحيث لا غاية له ، وأمّا انقطاعه في بعض الأوقات ؛ فيعدّ من البخل ، كما عليه أهل الغفلة والنسيان.

ومن أعظم النسيان : منع من ذكر الله تعالى عن الذكر ، وفي مثله ورد : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) [التوبة : ٦٧] ؛ يعني : نسوا الله في أنفسهم حق لم يرضوا في حق غيرهم إلا النسيان ؛ ولذا منعوا من الذكر ، وحملوا الذكر على الترك ، والنسيان ؛ فنسيهم الله حيث لم يذكرهم في ملأ خير منهم ؛ وهم أهل النور أصحاب المكانة المثلى.

اللهم إني أسألك الذكر الكثير ، والخير الوفير ، والحضور الدائم ، والورد القائم ، والوارد الملائم.

٦٨ ـ في المرفوع : «عليكم بالشام» (٢) :

لم يرد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالشام دمشق فقط ؛ بل أعمّ منها ، ومن غيرها من الشامات إلى آخر الأرض المقدّسة.

__________________

(١) رواه مسلم (١ / ١٣١) ، والترمذي (٤ / ٤٩٢).

(٢) رواه الترمذي (٤ / ٤٩٨).

٢٤٩

وفي الحديث أيضا : «صفوة الله من بلاده يجيء إليها صفوته من خلقه» (١) ، وفيه من التحريض على الإقامة في الشام.

ما في الحديث الأول : فإنه إذا كان المجتبي إليها والمجموع صفوة الخلق ؛ فليرغب العاقل في الهجرة إليها ، والإقامة فيها ؛ ليكون من صفوة الخالق ، ومختار الناس ، فإن قلت : إن الشام لا تخلط من أجلاف العرب والترك ونحوهم.

فكيف يكونون من صفوة الخلق؟ قلت : قد ورد في بعض الأحاديث : «إن لله ملكا ينقل الأموات ، فمن استأهل بالشام ؛ فهو فيها حيّا وميّتا ، ومن لم يستأهل لها ؛ فهو في الشام حيّا ، وفي غيرها ميّتا ، فإن الله يضم كل مجانس إلى مجانسه ؛ كما يضم من عمل عمل قوم لوط إليهم» (٢).

كما ورد في الحديث الصحيح.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ادفنوا أمواتكم وسط قوم صالحين» (٣) ، فإن ذلك إنما هو بالمستأهل في الجملة.

فإن الأرض المقدّسة لا تقدّس أحدا بلا عمل ، واعتقاد الصالح لا يشفع في الطالح إلا إذا كانظظو فمن أذن له في الشفاعة ، وهو المؤمن الغير المتعمّد المعظّم للشريعة في الجملة ، فإن قلت : لم حرّض على الإقامة بالشام مع فضل الحرمين الشريفين عليها.

قلت : الأمور الأول : إنها نهاية مقام الصفات ، وفيها يطيب عيش الناس.

فإن المدينة أول مقام من مقاماتها ، وفيها عيش الناس ؛ لقربها من مقام الذات الذي هو حرم الله تعالى.

والثاني : إن من الفتنة الكبرى في آخر الزمان ؛ فتنة بني الأصفر ؛ وهم لا يدخلون الشام ، وحلب ، فهما مأمنان للخلق في ذلك الزمان ؛ لكن الشام أفضل من حلب ؛ لقرب حلب من أرض الروم بالنسبة إلى الشام.

__________________

(١) رواه البيهقي في الكبرى (٩ / ١٧٩) ، والطبراني في الكبير (٢٢ / ٥٥) بنحوه.

(٢) لم أقف عليه.

(٣) رواه أبو نعيم في الحلية (٦ / ٣٥٤) ، والديلمي في الفردوس (١ / ١٠٢).

٢٥٠

والثالث : إن الشام والقدس أرض المحشر ، فالأمر بالهجرة إليها رحمة من الله تعالى لخلقه ؛ حتى يكونوا يوم القيامة محشورين من محلّ الشفاعة ؛ لأنها محفوفة بالأرواح الطيبة من الأنبياء ، وكمّل الأولياء.

فمن الأول : الجد النبوي ؛ وهو الخليل ، وابنه إسحاق ، وابنه يعقوب ، وموسى ، وزكريا ، ويحيى ، ويوسف وغيرهم عليهم‌السلام.

ومن الثانية : حضرة الشيخ محيي الدين العربي ـ قدس‌سره ـ فإنه كان يسمّى عليه‌السلام من اسم أبيه زكريا ، وفي الدنيا ذبح كبش الموت في الآخرة ، ولذا بحضرة الشيخ وبعلومه وحقائقه حييت القلوب ، وبإرشاده وتربيته ماتت النفوس ، وكانت آثاره باقية إلى قيام الساعة ، وبها حيى اسمه كما قال هو نفسه في الفتوحات : ولكل عصر واحد يسمو به ، وأنا الباقي العصر ذاك الواحد.

ولا شك أن الإقامة في بلدة كانت الكمّل فيها بأجسامهم وأرواحهم أقوى من الإقامة في بلدة كانوا فيها بأرواحهم فقط ، ومن هذا رغب في زيارتهم أينما كانوا ؛ كأنها لزيارة الأحياء.

ألا ترى إلى قوله تعالى : (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [آل عمران : ١٦٩].

فإنه إذا كانت الشهداء الصورية أحياء عند ربهم ؛ كانت الشهداء الحقيقية أولى بذلك ؛ لأنهم فانون في الله ، باقون بالله ، والله هو الحيّ القيّوم ؛ فكذا نفوسهم في أبدانهم ، فكانت محفوظة عن التفسّخ والانحلال ، والله يقول الحق على لسان الحقي بلا وهم ولا خيال.

٦٩ ـ قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله في قبلة أحدكم» (١).

اعلم أن جميع الإنسيات قبلة عند العارفين على ما أفاده قوله تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة : ١١٥] ؛ لكن الأدب ؛ هو التوجه إلى أين الكعبة كما أفاده قوله تعالى : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [البقرة : ١٤٩].

__________________

(١) حديث ذكره بعض صوفية التحقيق في كتبهم.

٢٥١

ثم إن الله تعالى نصّ على المعيّة الذاتية في قوله : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [الحديد : ٤] ، وقد حملها العارفون على معنى معيّة الشيء إلى نفسه ، ونصّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أن الله في جهة قبلة المصلّي ، وبينهما تدافع.

والتوفيق هو أن كون الله تعالى مع عبده ؛ إشارة إلى التجلّي الوجودي ، والنفس الرحماني ، فهو مظهر نوره تعالى ، وعامل سرّه ، وكونه في قبلته ؛ إشارة إلى القلبي من باطن الغيب إلى ظاهره في العلماء التفضّلي ، فإنه تعالى متين في تلك المرتبة بين الفاعل ، والقابل ، والمؤثّر ، والمتأخّر ، والمفيض ، والمستفيض ، فكانت الحقيقة الواحدة حقيقة فاعلية من حيث باطنها وقدسها ، وحقيقة قابلية من حيث ظاهرها وتعيّنها.

وهذه نسبة معتبرة بين الحقائق الإلهية ، والحقائق الكونية ؛ لتمييز المراتب على ما يستدعيه الأسماء المختلفة الحقائق ، فكان الله تعالى ساجدا ومسجودا في الحقيقة من حيث أحدية الوجود ، والفيض الأقدس ، ومسجودا فقط من حيث اعتبار الوحدة ، والفيض المقدّس.

فالعبد ساجد في هذه المرتبة الذاتية ، فلا تحصل : أي المناجاة ، ولا تتحقق إلا بينهما ، ومن مقتضياتها الفهوانية والمشافهة على ما يستدعيه الخطابات القرآنية لا سيما ما وقع في الفاتحة ؛ ولذا اقتضى الحال المحاذاة والمقابلة ؛ ليصحّ الخطاب والمناجاة ، وهي بكون العبد متوجها إلى القبلة.

وكون الرب متوجها إلى العبد ؛ فيكون الحق هو القبلة في الحقيقة ، كما أنه هو المجيب لمكالم غيره منه تعالى حتى لا يكون توجه العبد إلى ما سواه تعالى لا صورة ولا معنى ، أمّا المعنى فلا بحث عنه ؛ لكونه مما لا يدرك إلا بالذوق بعد الدخول في دائرة البساطة ، وأمّا الصورة ؛ فلأن الله تعالى في حالة المناجاة والمكالمة يتجلّى في صورة مثالية يحصل فيها الكلام والخطاب ، وأمّا باعتبار تجرّد ذاته ، وغناه عن العالمين ؛ فلا صورة له أصلا ، وكذا لا يكون في جهة ونحوها على ما أفاده الحقائق ، فاعرف ، فإنه من لباب المعرفة.

٢٥٢

٧٠ ـ وأمّا قوله : «من ثبت نبت» (١) ؛ فإنما هو في حال التلوينات أو غيرها.

واعلم أن أحسن الأخلاق بين الله وبين عبده ؛ هو الرضا والتسليم ، وأحسنها بين العباد ؛ السخاء وحسن الخلق.

كما ورد : «إن لله ثلاثمائة وستين خلقا» (٢) ؛ أحسنها السخاء ؛ لأن فيه تخلّقا بسرّ الوجود والفيض الذي هو من عين المنّة ، فمن كان جوّادا في ماله ؛ كان في نفسه ، كذلك كحال الخليل عليه‌السلام.

ولا شك إن كلّا من المال والولد والنفس حجب كونية لا بد للسالك من خرقها ، والولوج في عالم الجبروت والمعاني ، أيّدنا الله تعالى وإياكم في طريقه ، وأذاقنا حلاوة فيضه وتوفيقه ، آمين بجاه النبي الأمين.

ظهر لي ليلة الخميس التاسع من شهر المولد النبوي من سنة ثلاثين ومائة وألف : إن كتب الهداية لا تباع وأعظمها القرآن ، ثم الحديث ، ثم التفسير ، ثم ما يتوسّل إلى ذلك من العلوم النافعة ، ومن ثم ذهب العلماء إلى كراهة بيع المصحف ، والتلاوة بالأجرة ونحو ذلك ؛ لأن ما كان من الأمور الأخروية ؛ فله قدر عند الله تعالى ، وما له قدر عنده كيف يباع بثمن بخس دراهم معدودة؟ فما رفعه الميزان الإلهي لا يخفض ولا يوضع.

ثم إن المراد من كتب الهداية من طريق الإشارة ؛ هي كلمات الله التامات ؛ وهي الأرواح الخيّرة ؛ كالأنبياء ، وكمّل الأولياء ، فإن وجوداتهم كتب إلهية مشتملة على الحروف ، والكلمات ، والآيات ، والسور الإلهية الحقيقية ، وكلها لدعوة الناس ، وهدايتهم إلى الله تعالى كما قال تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى : ٥٢].

ولا شك أن هذه الكتب ؛ هي سرّ الله الأعظم ؛ ولعظمها لو بيعت ؛ لبيعت بالله تعالى ، والله لا يباع بالله ، فليس هذه الكتب ما يقابلها من الثمن ، فمن وجدها ؛ فقد

__________________

(١) لم أقف عليه.

(٢) لم أقف عليه.

٢٥٣

اهتدى ؛ ولذا وصّى الكمّل بمبايعة الكمّل ، وبذل المال والوجود لهم ؛ حتى يكون لهم قدر عند الله تعالى مثلهم ، وأين هذه المعرفة الكاملة من عقول العوام وقلوبهم؟ فإنما يهتدي إلى الخواص من يهتدي بالله ، لا بالنفس ، فإن كان دين صحيح ؛ فلا بد لك من الكتاب مطلقا ، فإن الدين لا ينفك عنه قطعا.

٧١ ـ في الحديث : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم فتح مكّة : «لا هجرة ولكن جهاد ونيّة» (١).

أشار صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى فتح مكة الوجود بحصول المشاهدة للقلب ، فليس بعد ذلك هجرة : أي تعب ومحنة ، وإن كان فبالإضافة.

ألا ترى أن أهل الله مبتلون بأنواع البلاء بعد الوصول إلى مقام ، وكشف حجاب الحسّ ، والخيال بتجليّات نور الأفعال والصفات ، فإن ذلك من باب التتمّة ، والتكميل ، والتهيؤ إلى تجلّي نور الذات بإزالة حجاب الوهم ، فللسالك هجر مرة بعد مرة لكن بعض ذلك من قبيل الفرائض ، وبعضها من قبيل النوافل ، وأكثر غير الملائم في الدنيا متوجه إلى الأماثل والأفاضل ؛ ليتسع القلب لظهور التجليّات المتنوعة.

فمن عرف هذا السرّ ؛ لم يبك من البلاء ، فإنه إنما ابتلي به ؛ لأجل الترقّي والإعراض عن الأسباب ، الترقّي تنزّل جدا ، والسفر من بواعث الإقبال إدبارا قطعا ، ثم إن الله تعالى يبتلي عبده بما شاء ، كيف شاء ، متى شاء. ولا ينبغي للعبد أن يسأل ذلك ، فربما لا يتحمله ؛ بل الواجب عليه عند جريان القضاء طلب الصبر والسكون والرضا ؛ حتى يهوّن عليه ذلك ، ولا يشقى به كما شقى الكفار ، ومن يليهم من المحجوبين.

نعوذ بالله من الجهل والغرور والمكابرة ، ونسأله العفو والعافية والمصابرة.

__________________

(١) رواه البخاري (٢ / ٦٥١) ، وأبو داود (٣ / ٣) ، والنسائي (٤ / ٤٢٦).

٢٥٤

بعض الواردات

وارد المرشد والمريد (١)

اعلم أن المرشد الكامل كالملك الذي ينفخ الروح في الجنين ؛ فإنه ينفخ روح الفيض في الجنين الذي يشتمله رحم استعداد المريد ، والمراد بالنفخ ، صورة اشتعال حطب الجسد بنار الروح ، ولمّا كان ظهور تلك النار في المحلّ من تربية النافخ ؛ جعل المرشد كالنافخ ، وليس إلا المظهر ، ففيه سرّ الخلافة ؛ ولذا قال تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١] ، وإنما كان الله أحسنهم ؛ لأنهم إنما يخلقون على صورة ما خلق الله ؛ فهم الفرع في ذلك ، والله هو الأصل والمبدأ.

__________________

(١) أعلم رجال الطريق هم الذين وصلوا إلى مقام القرب ، والتمكين وله خمسة أركان ، وعشرون صفة :

أمّا الأركان فهي : عبدية الحضرة ، واستعداد قبول الحقائق الحضرة بلا واسطة ، ووجود الرحمة الخاصة من المقام العندية ، وشرف تعلم العلوم من الحضرة ، وكون التعلم منها بلا واسطة قال الله تعالى : (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) [الكهف : ٦٥] ، فاندرج فيه جميع ما ذكر من الأركان كما هو الظاهر ، وأمّا الصفات : فهو أن يكون عالما بالشريعة على قدر الحاجة ، وأن يكون على اعتقاد أهل السنة والجماعة ، وعاقلا بالعقل الديني والمعاشي ، وسخيّا وشجاعا ، وعفيفا من جهة النفس ، وعالي الهمّة مشفقا على المريد ، وحليما وعفوا ، وحسن الخلق ، وصاحب الإيثار ، وكريما ومتوكلا ، ومسلّما وراضيا بالقضاء ، وذات وقار وساكنا في الحركات ، وثابت القدم في الإرادات ، وذات هيبة ، فالموصوف بهذه الأوصاف متخلق بأخلاق الله يوصل المريد إلى الحق تعالى بإذنه تعالى في مدة قصيرة بشرط أن يكون المريد أيضا موصوفا ؛ لأنه ينبغي أن يكون موصوفا بعشرين وصفا كالشيخ ، وهي التوجه والزهد والتجريد واعتقاد أهل الحق والتقوى والصبر والمجاهدة والشجاعة والبذل والفتوت والصدق والعلم والطلب والحيلة مع الأعداء.

والملامتية هي أن يكون المدح والذم ، والرد والقبول عنده سواء والعقل والأدب وحسن الخلق والتسليم والتفويض ، فإذا وجد المريد كذا ، وأخذ عن رجل كذا في مدة يسيرة يحصل ذا ، وإلا فمتعسر أو متعذر كما عرفت ، فإذا لم يأخذ الطريق من الرجال فالانتقال محال ، وإذا لم يحصل الانتقال لم يتحقق بحقائق الحروف والأسماء ، ومن لم يتحقق بها يكون مصروفا عن كشف غوامض الأشياء.

٢٥٥

فظهر أن المريد ولد المرشد وفرعه : أي في الظهور ؛ لأنه لو لا ظهور المرشد قبل ظهور المريد ، كما أنه لو لا ظهور الحق بذاته لذاته في ذاته ؛ لما ظهر الخلق أبدا ، فكان ظهور الحق ؛ هو المبدأ في جميع الظهورات ؛ ولذا وصف نفسه بالأولية والظاهرية ، ولمّا كان ظهور الإنسان بالمعنى أولى من ظهوره بالصورة ؛ لأن المعنى حق ، والصورة خلق ؛ كان الأستاذ أحق بالتعظيم من الأب ، والمرشد أولى بالتقديم من الوالد.

ومن العجائب أنه كما أن للمرشد والوالد فضلا على المريد والابن من حيث التربية والوالدية ؛ فكذا للمريد والابن فضلا على المرشد والأب ؛ لأن كلّا منهما في حكم المعين لهما ؛ فالمرشد مثلا كالأنثى الحاملة ، والمريد المستعد كالقابلة ، فإن ما يلد منه إنما يلد بمباشرة المريد ، ولو لا المريد لما ولد مولود من المرشد ، ففيهما سرّ قول من قال من بعض الأكابر : فلولاه ولولانا ؛ لما كان الذي كان.

فظهر أن مرتبة الألوهية من الإضافات ؛ فإنها نسبة بين الإله والمألوه ، والنسبة لا ترتفع مادامت المرتبة باقية ، ومنه يعلم سرّ قوله تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) [محمد : ١٩] ؛ يعني : إن علمك إنما يتعلّق بمرتبة الألوهية.

وأمّا ما فوقها من مرتبة الغنى عن العالمين ؛ وهي مرتبة الذات البحث ؛ فلا يدخلها علم ؛ لأنه لا اسم ، ولا وصف ، ولا رسم هنالك ؛ ولذا يقال : إن الله هو المحيط بكنهه.

ومما قررنا يعرف سر طلب مقام الوسيلة لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فإن ذلك من باب الغيرة الإلهية ؛ فهو كنصب السلطان من قبل الرعية مع أن السلطان ؛ هو الحاكم الآمر الناهي ، فليس الكمال المطلق إلا لله تعالى ؛ ولذا كان أعلم مطلقا.

وأمّا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد قال : «أنتم أعلم بأمور دنياكم» (١).

وقال تعالى : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٨٥].

وإن كان علم الكائنات بجنب علمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قطرة من سبعة أبحر ، ولم يزل الإنسان

__________________

(١) ذكره السيوطي في شرح سنن ابن ماجه (١ / ٢) ، وابن حزم في الاحكام (٥ / ١٢٨).

٢٥٦

الكامل في الدنيا يطلب مرآة لكماله ، فإن بتلك المرآة يظهر لكماله في المريد ، وأيضا يحصل صورة كمال من المريد ينتفع به المرشد ، وقد جرّب إنه كلّما كان المريد أكمل استعدادا ، وقرر عند الشيخ أمرا من أموره ؛ فإن للشيخ ترقيا بحصول معارف زائدة من تقريراته.

وإن كان المريد لا يعرف ذلك ، ونظيره علم الكيمياء فقد يدخل المتحيّر في العلم من تقرير بعض من لا يقدر على علمه ، وبيد الله الحل ، والعقد ، والقبض ، والبسط ، والعطاء ، والمنع ، ونحن نستفيد إلى الآن من الأرواح الطيبة ، ولهم الاستفادة منّا أيضا بما شاء الله تعالى.

وارد الداخل والخارج

اعلم أن الإنسان صورة العالم وبالعكس ؛ لكن الأول من قبيل الإجمال ، والثاني من قبيل التفصيل.

فكما أن للإنسان ظاهرا ؛ هو قالبه ، وباطنا ؛ هو قلبه ؛ فكذا للعالم ظاهر ؛ هو عالم الكون والفساد ؛ وهو من مقعر السماء السابعة إلى تحت الأرضين ، وباطن ؛ وهو عالم الكرسي والعرش ، وما فوقهما من عالم اللوح ، والأرواح (١).

__________________

(١) قال سيدي محمد وفا في المعاريج : وأما الأرواح فإنها مخلوقة من النور الإفاضي العرشي ، ولها التقدّم في الخلق على الأجساد بألفي عام بما شهد به الخبر النبوي ، وأما الأرواح النورانية السعيدة فإنها تعرج إلى مقامها العلي ، ومحلها البهي ، ضمنها لطيف الجسم النوراني ، والهيكل الإنساني ، فأرواح السعداء ظاهرة أنوارها ، باطنة نفوسها ، مستهلكة الأجسام ضمن الأرواح ، فالأجسام باطن الأرواح في دار البرزخ ، ودار المحشر ، وفي دار الدنيا جسم ظاهر ، والروح باطن ، فالأرواح النورانية في داري الدنيا والبرزخ ، يكشف بعضها بعضا ، ويشهد بعضها لبعض لما بينهن من المناسبة والتعارف ، وقد نبّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك بقوله : «خلق الله الأرواح أجنادا مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف».

وكذلك النفوس في مجانستها ومناسبتها ، فالأرواح أنوار للسعداء ، وظلم للأشقياء ، وأجسام السعداء منعمة بتنعيم نفوسها ، وأجسام الأشقياء والعذاب مشترك بين النفوس والأجسام ، وهذا ظهر لهذا ، وهذا بطن لهذا ، فانتشار البشرية ظهور صفات النفس الطبيعية ، التي لا انفكاك للصفة الآدمية الإنسانية منها ، ولا خروج لها عنها ، ولهذا أمر الله تبارك وتعالى نبيه

٢٥٧

والقلب من كل منهما لا يبلى ولا يغنى أبدا ؛ لأنه مما يلي عالم الأمر والملكوت ، وأمّا القالب فيبلى ويفنى ؛ لأنه مما يلي عالم الخلق والملك.

ولا شك إن عالم الخلق والملك عالم الكثافة ، وعالم الأمر والملكوت من عالم اللطافة ، فكما أن من شأن الكثيف الفناء ؛ فكذا من شأن اللطيف البقاء ؛ فالجواهر والمواد باقية من كل من العالمين ، والصورة والأشكال فانية ؛ ولذا تطوى السماوات السبع يوم القيامة ، وتنشق على ما نطق به النص.

فإذا عرفت هذا ؛ اعلم أن ظاهر الإنسان لا يدركه إلا الحسّ ، كما أن باطنه لا يدركه إلا العقل ، فكما أن الحسّ لا يدخل عالم العقل ؛ فكذا العقل والخيال لا يدخل عالم الملكوت ، فمن نظر إلى ظاهر الإنسان ؛ فليس له دعوى الدخول في باطنه ، فإن النظر الحسّي ليس من طرق الدخول في الباطن.

وكذا من نظر إلى ظاهر العالم ؛ فليس له الدعوى المذكور ؛ فإن الحس إنما يدرك الصور ، والأشكال ، والخيال ، والعقل المعاني الجزئية المتعلّقة بالسبع الطباق ،

__________________

ـ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول : قل : إنما أنا بشر مثلكم فامتثل أمر ربه عزوجل وقال : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ) [فصلت : ٦] كما أمر ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يقل : (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) ، فهو مأمور ببلاغ ما ينزل إليه من ربّه كما أنزل ، من غير زيادة ولا نقصان ، قال الله تبارك وتعالى :

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) [المائدة : ٦٧].

فأجسام الأصفياء والمرسلين والأنبياء والصديقين والصالحين نورانية ، ونفوس الأشقياء وأرواحهم وأجسامهم مظلمة ، فإنها هابطة في الدركات إلى أسفل سافلين ، عكس نفوس السعداء ؛ فإنها عارجة إلى عليين ، فالطبيعة أثر الترابية ، والبشرية أثر الطبيعة ، فهي سماء الطبيعة ، ولها النشور من الحشر بالخروج إلى فضاء البسط ، فالحشر صفة قبض ، والنشر صفة بسط ، والله يقبض ويبسط ، فالنفوس بالتزكية تخرج من حشرها إلى نشرها البسطي النوري ، والنفس الشقية ترد على عقبها ، فتدس من نشرها ، وتحشر في عوالم طبيعتها. قال الله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها)[الشمس : ٩ ، ١٠].

٢٥٨

وأمّا عالم الملكوت فلا يدخله إلا القلب السليم من تعلّقات الكونين ، والروح المحلّى بزينة المعرفة ، المكحّل بنور الشهود.

ولذا أعيى الفلاسفة وأهل النجوم إدراك حقائق عالم الملكوت ، بل صوره النورانية أيضا ؛ لأنه ليس لهم إلا التصرّف الحسّي ؛ كأهل الرصد ، والتصرّف العقلي الفكري الخيالي القياسي ، كما لعامة الفلاسفة ، وهم في ذلك ملحقون بأهل الكشف الخيالي ، فإن أهل هذا الكشف ليس سيرهم إلا في ظاهر الكون وخارجه لا في باطنه وداخله ، وإن كانوا يدّعون إنهم دخلوا عالم العرش والأرواح ؛ خوطبوا بالخطابات الإلهية ، وورد عليهم الواردات الغيبية ، فإن ذلك كشف من ظاهر العالم ، ومعارف ظنية ؛ بعضها مطابق للواقع الذي عليه أهل الكشف الصحيح القلبي ، وبعضها مخالف له.

وكم في بعض كتب التصوّف من السقطات ؛ كواردات الشيخ بدر الدين المصلوب ، وكتاب إخوان الصفا وغيرهما من كتب أهل الضعف والتلوين ، وما يعقل ما فيها إلا العالمون ، فإن أردت الكشف الصحيح ؛ فعليك بكتب الشيخين محيي الدين ، وابنه الشيخ صدر الدين قدس‌سرهما ، ويلي تلك الكتب الجليلة تأويلات الشيخ نجم الدين الكبرى ، وكتب الشيخ الحكيم الترمذي ، وكتب شيخي وسندي الشيخ السيد عثمان الفضلي الإلهي ، كشرح تفسير الفاتحة لصدر الدين ، وكتاب «اللائحات البرقيات» وغير ذلك.

فعليك بنحو ذلك الكتب السماوية ، وإياك والكتب الأرضية ، فإن كنت دخلت في عالم الكتب السماوية : أي من طريق الذوق لا من طرق التصرّف ، والتّتبع العقلي ؛ فقد عرفت الحق ، وميّزته من الباطل ، ودريت الغثّ والسمين ، وتخلّصت عن الخيال والظن والتخمين ، ونجوت من أوهام البرانيين العشريين (١).

__________________

(١) للقوم رضي الله عنهم في الكلام على تقاسيم وأنواع العلوم ، وبيان الدليل من الكتاب والسنة المطهرة على العلم اللدني ـ أو السمائي كما سماه المصنف قدس‌سره ـ أقوال جمّة ، أحسن سيدي جعفر الكتاني قدس‌سره في جمعها في بحث من مقدمة كتابه العظيم (جلاء القلوب من الأصداء

٢٥٩

__________________

ـ الغينية في بيان إحاطته ـ عليه‌السلام ـ بالعلوم الكونية) وإليك قبسا من هذا الجمع ، قال ـ قدس الله سره ـ في بيان جملة العلوم وأنها بالاعتبار ثلاثة عند أرباب الإدراكات والفهوم :

اعلم أن العلوم على ما قاله غير واحد ثلاثة :

الأول منها : علم الشريعة الظاهرة ، وهو قسمان :

أحدهما : علم الشريعة المتعلق بالأعمال البدنية ، أعني به علم الحلال والحرام ، والأمر والنهي والوعد والوعيد ، ونحوها مما هو متعلق ومرتبط بتكميل ظاهر الذوات من أقوالها وأفعالها ولوازمها ، وتحسين هيئاتها مثل الصلاة والزكاة ، والصوم والحج والجهاد ، وأنواع الأذكار والأدعية وتلاوة القرآن ، واستكمال خصال الفطرة ، وغير ذلك من كل ما له تعلق وارتباط بالسير الجسماني المتعلق بالأعمال البدنية الظاهرة.

والثاني : علم الشريعة المتعلق بالأعمال القلبية وأدوائها وعلاجاتها ، وما تصلح به وما لا أعني به علم كيفية الرجوع إلى الله وإلى طريقه ، ومعرفة الآفات الطارئة على سائر هذا الطريق من دسائس النفوس وغوائلها وشهواتها ، وما تصلح به تلك الآفات ، وتزال به الانحرافات والأخلاق ، ويتبدل به مذمومها لمحمودها ، وتتخطى به المقامات من التوبة والزهد ، والمحاسبة والمراقبة ، والتوكل والرضا ، والتسليم والخوف ، والرجاء والصبر ، والشكر والمحبة ، وغير ذلك من كل ماله تعلق وارتباط بالسير النفساني والروحاني المتعلق بالقلوب.

وهذا هو علم الظاهر المنقول ، الذي هو علم الحكمة والعبودية ، ويسمى أيضا بعلم الكتب والأوراق ، ومنها كما ذكرناه العلم الثاني وهو المسمى عندهم بعلم الطريقة ، الذي هو العلم المتعلق بكيفية تعديل الهيئات النفسانية والروحانية ، وهو وإن كان متعلقا بالقلوب ، والقلوب باطنية لكنه يؤدّى بالعبارة ، والعبارة تظهره وتوضحه ، فصار من قبيل علم الظاهر ، وهو التصوف ، وقد احتوت عليه كتب كثيرة قديمة كالرسالة للقشيري و «القوت» و «الإحياء» ، وحادثة ككتب ابن عطاء الله و «شرح الحكم» لابن عباد ، وكتب الشيخ زروق في التصوف ، والشعراني ، وهذه الكتب بها يحصل السلوك في طريق القوم لنهجها للعبيد ، وببيانها للطريق التي بها يصل المريد ، مع خلوها من الحقائق التي قد تكون سببا في قطعه ، وهو أيضا باطن علم الشريعة المتعلق بالأعمال البدنية ولبه ، وعلم الشريعة المذكور ظاهره وقشره ، لأنه الذي يصونه ، كما أن علم الطريقة قشر لعلم الحقيقة (١) ، لأنه هو الذي يصونها ، فإن من رام الوصول إلى علم الحقيقة ولم يطرق إليه من علم الطريقة فسد حاله ، فصارت حقيقته زندقة ، ولذا قالوا : لا وصول إلى حقيقة إلا بعد تحصيل الطريقة.

٢٦٠