مرآة الحقائق - ج ٢

إسماعيل حقّي البرسوي

مرآة الحقائق - ج ٢

المؤلف:

إسماعيل حقّي البرسوي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
977-344-218-7

الصفحات: ٤٤٩
الجزء ١ الجزء ٢

ثم إن هذا العلم بالتوحيد هو التوحيد العقلي لا الإيمان الشرعي ؛ لأن الإيمان إنما يتعلّق بالشارع ، وأمره ؛ فهذا العالم ؛ ليشفع فيه العليم الخبير بحاله فلا يخلده في النار ، ويكون آخر أمره الجنة إن لم يأت بما ينافي أصول الشرائع ، وكان حاله على حال الفطرة الأصلية.

فأهل الفترات ، والذين في شواهق الجبال ، وأقطار الأرض وغيرهم ممن لم يبلغه الدعوة ، ولم يصدر منه ما يخالف أصول الشرائع ؛ فكلهم من أهل التوحيد العلمي ، والتصديق العقلي ، يشفع فيهم الاسم الرحمن ؛ فيدخلون الجنة ، ولو بعد حين ، وذلك فضل عظيم ، وإحسان جسيم من الله تعالى ؛ لكون رحمته واسعة شاملة لكل شيء خصوصا الذين بقوا على نقاء سريرتهم ، وصفاء فطرتهم ، فلم يصدر منهم ما يخالف التوحيد ، والأصول المتفق عليها في جميع الأديان والملل.

__________________

ـ الثاني ـ إنه للشك لكن لا في الحال بل في العاقبة ؛ لأن الإيمان المفيد هو الباقي عند الموت وكل شاك في ذلك.

الثالث ـ لما كان الإيمان عندهم مجموع الاعتقاد والقول والعمل والشك في العمل الذي هو أحد أجزائه يوجب الشك فيه فصح الشك في حصول الإيمان.

وقال المانع : أنا مؤمن حقا لأن الشك في الحال والاستقبال يوجب ضعف الاعتقاد في الحال ولا نزاع إن كان للتبرك.

وقال أهل السنة : كل من اعتقد أركان الدين تقليدا فإن اعتقد مع ذلك جواز ورود شبهة عليها وقال :

لا آمن ورود شبهة تفسدها فهو كافر ومن لم يعتقد جواز ذلك فقد اختلفوا فيه ، فمنهم من قال :

إنه مؤمن ، وإن كان عاصيا بترك النظر ، والاستدلال المؤدي إلى معرفة أدلة قواعد الدين وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد والأوزاعي والثوري وكثير من المتكلمين ومنهم من قال : إنه لا يستحق اسم المؤمن إلا بعد عرفان أدلة قواعد الدين سواء أحسن العبادة عن الأدلة أولا ، وهو مذهب الأشعري وقوم من المتكلمين.

ومن لم تبلغه دعوة الإسلام فإن اعتقد وحدانية الله تعالى ، وعدله فحكمه حكم المسلمين وهو معذور في جهله بأحكام الشرع وإن اعتقد الشرك والتعطيل فهو كافر ، فإن لم تبلغه دعوة نبي آخر لم يكن مكلفا ولا يكون له ثواب ولا عقاب وإن بلغته ولم يؤمن بها كان مستحقا للوعيد على التأبيد وإن لم يعتقد شيئا لا توحيدا ولا كفرا فليس بمؤمن ولا كافر. وانظر : الصحائف (ص ١٥٨) بتحقيقنا.

١٤١

وأمّا اليهود والنصارى فقد بيّن في القرآن والحديث أنهم كفار لا اعتداد بإيمانهم بالله ، وببعض الكتب والرسل ، فلمّا لم يؤمنوا بالشارع المبلّغ إليهم ؛ كانوا كفارا في الشرع والحقيقة ، وكذا المشركون فإن إقرارهم بأن خالق السماوات والأرض ؛ هو الله يفيد إيمانا لهم مع بقائهم على الشرك والعناد.

وكما أن الذين لم يهاجروا حين كانت الهجرة فرضا ؛ كانوا كفارا بالنص في الحقيقة ، وإن كانوا مؤمنين في الصورة ، ومثلهم من يلقي المصحف في القاذورات ، أو يفعل نحو ذلك مما جعله الشارع إمارة التكذيب ، فلا يعتبر دعوى الإيمان في مثل هذا ، فهم في الفراق في عين الوصل ، فياليتهم أقاموا على الشرائط ، والمسلمون عند شروطهم.

وهذا مقام هائل ينبغي أن يكون المرء على حذر منه ، فإن الأمر ليس بالدعوى ؛ بل بالمعنى ، ولن يحصل المعنى إلا بمتابعة الشارع في أمره ونهيه إن كان من شأنه ذلك بأن بلّغ إليه الدعوة ، وأمّا غيره فليس له دعوى ، ولا معنى ، وإنما هو مفوّض إلى سعة رحمة الله تعالى.

٤٠ ـ في صحيح مسلم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من منح منحة» (١)

: أي عطية ، والمراد : منحة اللبن ؛ كالناقة ، والبقرة ، والشاة مما ينتفع بلبنه.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عادت تلك المنحة له متلبسة بصدقة ، وراحت الغدو أول النهار إلى الزوال ، والروح من الزوال إلى الآخر» (٢) ، كما أكد ذلك بقوله : «صبوحها وغبوقها» (٣) ، منصوبان على الظرفية : أي في أول النهار ، وأول الليل.

والإشارة في الحديث : إن اللبن إنما هو لتربية الأجسام ، كما أن العلم إنما هو لتربية الأرواح ، ولا شك أن الصدقة تطفئ غضب الرب ؛ وهو نار جهنم التي أعدّها الله تعالى لتعذيب أجساد الفسّاق ، كما أن العلم يطفئ غضب الرب أيضا ؛ وهو نار الجهل والقطيعة التي أعدّها الله تعالى لتعذيب أرواح الجهلة والمحجوبين.

__________________

(١) رواه أحمد (٤ / ٢٨٥) ، والوياني في مسنده (١ / ٢٤٤).

(٢) لم أقف عليه.

(٣) رواه أحمد (٢ / ٧٠٧) ، والبيهقي في الكبرى (٤ / ١٨٤).

١٤٢

ولمّا كان العذاب على نوعين : عذاب بنار وحرور ، وعذاب برد وزمهرير ، أشار صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبوح إلى أن الصدقة تدفع عن المتصدّق عذاب الزمهرير وبالغبوق إلى أنها تدفع عنه عذاب الحرور ، فينجو المتصدّق من كلا العذابين بحسب جسمانيته ، ويبقى له التخلّص عن العذاب الروحاني ؛ فإنه عذاب أيضا ؛ بل هو أشدّ من الجسماني ؛ لتعلّقه بالروح الذي هو ألطف الأشياء في الوجود الإنساني ، وذلك بالكلمة الطيبة ؛ فإنها صدقة أيضا ، ولها تعلّق بمرتبة الروح ، فإن الروح يستريح بما يسمعه من الكلمة الطيبة ، ويتخلّص عن تعب الغمّ والكدورة ، فلا بد للعاقل من تحصيل كلتا الصدقتين.

وإنما خصّ منحة اللبن بالذكر ؛ لأن اللبن أول ما يغتدي به بدن الإنسان ، ويتربّى ، وله زيادة اختصاص بالفطرة الأصلية ، وإلا فجميع المأكولات والمشروبات مما يتربّى به الوجود الظاهرة من قبيل الصدقة والجسمانية ، ومنه يعلم قرب العرب في الصدر الأول بالفطرة ، إذ كان أغلب مطعوماتهم اللبن ، ثم آل الأمر من تنوعات الأغذية إلى التنزّلات ؛ فصارت حال الفطرة بعيدة بعد ما كانت قريبة.

وإليه الإشارة بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) [البقرة : ٢١] ، وذلك إنما وقع في القرآن ؛ فإنه ينبئ عن النسيان ، وهو إنما يعرض بكثرة العوارض والحجب على وجه الفطرة ، ومعظمها المطعومات المختلفة ، والمباحات المتنوعة لاسيما المحرّمات ، والمشتبهات ، فأنّى ينجر الإنسان من ذلك ؛ فوجب عليه إصلاح ظاهر الوجود بالشريعة ، وباطنه بالطريقة إلى أن يكشف الله عماه ، ويبصره هداه ؛ فيستسعد بعلم الفطرة ، وبعلم الكسب ، وبعلم الشكر ، وبعلم الذوق والحقيقة ، وإلى هذه العلوم الإشارة بالأنهار الأربعة المذكورة في القرآن الكريم.

ثم إن الغدو والرواح لمّا كانا مشتملين على الصدقة ؛ سرى سرّهما إلى جميع الأوقات ، فإصلاح الأول والآخر إصلاح لما بينهما أيضا ، كما أن إصلاح البدن والروح ، وإن شئت قلت : القلب إصلاح لجميع الأعضاء والقوى ، وبذلك ينجو الهيكل الإنساني بجميع أجزائه وأعضائه وقواه ، ومن تفطّن لحكم العموم ، ولم يقصر عمله على الخصوص ، والله شهيد على ما تعملون ، وهو العليم الخبير ، ومنه الفيض العزيز إلى كلّ من الصغير والكبير.

١٤٣

٤١ ـ في صحيح مسلم : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من نام على حزبه» (١) :

: أي غفل عن ورده ، أي ورد كان من قراءة قرآن ، أو صلاة تهجّد أو نحو ذلك من العبادات المقرّبة إلى الله تعالى.

قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من الليل» : خصّه بالذكر مع أن الورد لا يختص بوقت ، ولا يتعيّن بمكان لما إنه زمان مناجاة العباد وقت انخراق السرادقات ، وله اختصاص بسكون القلب ، وهدوء الباطن ، وفيه وقع المعراج الصوري والمعنوي ؛ فكانت العبادة فيه أشد على القلب وأصفى ، والتوجه أقوى ، والانكشاف أزيد ، والقربة أوفر ، والوصلة أتمّ ، والواردات أكمل ، ويلحق به أول النهار إلى وقت الضحوة لا ما بعده ، وقد يحصل بعض التجليّات فيما بين العصر والمغرب أيضا ، أو عن شيء منه : أي عن بعض حزبه بألا يسعه الوقت لإتمام كل الورد ، فيبقى باق على النهار ، والقضاء فيه.

فإن الفيض الإلهي ؛ كالماء فكما أن الماء إذا انقطع ؛ هلك الإنسان والحيوان ، فكذا الفيض الإلهي إذا انقطع هلك القلب والروح ، ففي القضاء تدارك لما فات ، وفي تركه حرمان عن الماضي ، وعمّا هو آت ، فافهم الإشارة ، ومن الله التوفيق والثبات.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر» ، لا لأنه وقت متسع كما ذهب إليه أهل الظاهر ؛ بل لأنه ملحق بآناء الليل ؛ لقربه منها ، فكما أن وتر النهار وهو المغرب يعدّ من النهار ؛ لاتصاله به حتى أوجب الإفطار للخواص بعد السّلام لا وقت الغروب قبل القيام فافهم الكلام.

فكذا وتر الليل يعدّ من الليل ، وإن كان يقام في السّحر الأعلى قرب الانفجار جدا ، ونظيره الخميس والسبت ؛ فإنهما لكونهما طرفي الجمعة أخذا حكمها ، وشعبان وشوال ؛ فإنهما وقعا بين شهر رمضان ، فألحقا به في الحرمة ؛ كصوم شعبان ، وست شوال السارية إلى جميع أجزائه من الأول إلى الآخر ، فإن التجلّي لا ينحصر ، وإنما الانحصار يجيء من القائل.

__________________

(١) رواه مسلم (١ / ٥١٥) ، وابن حبان في صحيحه (٦ / ٣٧٠).

١٤٤

ألا ترى إلى الشمس فإنها طالعة فاشية ، وإنما جاءت الظلمات في بعض البقاع والاقطار من حيلولة الجبال الشواهق ونحوها كتب له كأنما قرأه من الليل.

أورد كلمة التشبيه ؛ لأن ورد الليل أقوى من ورد النهار ، وإن كان الله تعالى جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر ، أو أراد شكورا.

ومنه : يعلم أنه كلّما بعد زمان القضاء بعد القرب ، ففرّق بين القضاء في الوقت الذي عيّنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وهو ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر من ذلك اليوم ، وهو اليوم الذي فات في ليلة الورد ، وبيّن القضاء في الأيام الآتية ، ويرشدك إلى ما قلنا : إن من فات عنه الفجر ؛ فإنه يقضيها في يومها مع السنة والفرض جميعا لا فيما بعده من الأيام ، فإنه حينئذ إنما يقضي الفرض فقط ، وهذا السرّ قد غفل عنه أرباب الظواهر فقالوا ما قالوا في شرح الحديث ، والله العليم الخبير ، ثم إن النذر يدخل في مطلق الورد ؛ فهو مقضى بطريق الأولى.

٤٢ ـ وفي حديث البخاري : «من نذر أن يطيع الله ؛ فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله ؛ فلا يعصه» (١) :

فهذا الأمر والنهي ؛ للوجوب ، ومنه يعلم أن نذر المعصية لا ينعقد ، وعن الإمام : إن من نذر صوم يوم العيد ؛ يقضيه في يوم آخر ، وكذا من نذر ذبح ولده ؛ فإنه لا يذبحه ؛ بل يتقرّب إلى الله تعالى بقربان ، والنذر وإن كان قربة مشروعة بالنسبة إلى العوام ؛ لكن الخواص إنما يعلمون بالخواطر ، والإيجاب ليس إلا الله تعالى هذا ؛ فإنه ينفعك إن شاء الله تعالى (٢).

__________________

(١) رواه البخاري (٦ / ٢٤٦٣) ، وابن حبان في صحيحه (١٠ / ٢٣٤).

(٢) فائدة : قال العلواني : فصل في روح وصل في أرواح النذر ، وفي الروح الفرقاني قوله : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) [الإنسان : ٧] فروح الثناء على روح الوفاء بأرواح النذر فروح النذر من أرواح الإيمان إلا أنه روح مكروه على روح التتريه لأنه روح زيادة على الأرواح الفرقانية في أرواح الإيجاب.

وذلك من روح قلة الأدب مع أرواح الحكمة في أرواح الواجبات بروح الوضع الإلهي وروح النذر من أرواح النفس الأمارة لأرواح قلق عند روحها.

وفي الأرواح المحمدية «إنما يستخرج النذر من مال البخيل» ولو كان على روح الكرم لكان على

١٤٥

__________________

ـ أرواح الإحسان في روح الوقت لأرواح مرضاة الله بدون روح تعليق على روح من الأرواح والبخيل لا يكون منه شيء إلا بروح شيء كأن يقول : إن شفى الله مريضي فلله علي روح من مال ، فإذا حصل روح الشفاء لزم الروح الناذر ذلك الروح من المال فإن وفى كما التزم فهو الروح المثنى عليه وروح الأصل في روح الآية إن الأبرار أي الأرواح المحسنة مع أرواح الحق بأرواح الصلاة وغيرها على روح الإيمان (يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً) [الإنسان : ٥] والكأس روح من أواني الشراب مملوء من أرواح الشراب والمزاج الروح المخالط والكافور هو ما ذكر الله بروح قوله (عَيْناً يَشْرَبُ بِها) [الإنسان : ٦] أي : منها :

(عِبادُ اللهِ) فتكون أرواح منازل عباد الله فوق منازل الأبرار لأن الأبرار ليس لهم من تلك العين إلا أرواح من المزاج وعباد الله يشربون من تلك العين على روح الإطلاق بدون كأس :

(يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) كالروح الكامل في الأرواح الفرقانية والأرواح المحمدية بالأرواح النورانية المتترلة من الأرواح الرضوانية على أرواح الحب لأرواح التقريب.

فالأرواح القريبة إنما تشرب من عين الكافور روح الإشارة من روح العبارة إن الروح الذي هو عبد الله على أرواح التحقيق هو الذي شرب من راوق الشراب الروحي والفتح السبوحي ما خلص روحه من الأرواح العنصرية والأرواح الظلمانية من الأرواح الشيطانية فكان روحا خالصا سابحا سائحا في بحار الإطلاق في أرواح الكمال وأرواح الجمال كافرا بالأرواح الشيطانية بالكلية لا يدين لها ولا يلين لأرواح خيالها فكانت له العين المطلقة من أرواح المزج مع الروح الشيطاني فيكون مع أرواح الحق تارة ومع أرواح الباطل أخرى كأصحاب الممزوج بالكافور لوجود الكفران بأرواح الشيطان في بعض الأحيان.

وعباد الله على أرواح الكفران لأرواح الشيطان في كل روح من أرواح الزمان فما كان روح النذر إلا من روح المزج من روح الشيطان ومن روح الإيمان فإن روح النذر لله من روح الإيمان به وروح تعليق الوفاء على روح فعل من روح الشيطان.

ولذلك كان النذر على روح من الكراهة فكان شراب الأبرار ممزوجا بأرواح الكافور التي فيها فيضها من أرواح الكفران بأرواح الشيطان ، فإن الروح الخبيثة لا تأمر إلا بأرواح الخبث ومن أرواح الخبث التقاعد عن أرواح الوفاء بأرواح النذر وهو من أرواح العهد ، فالروح النادر معاهد لله على روح الوفاء (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ)[الإنسان : ٧] إكادة للروح الشيطاني ومرضاة لله تعالى (وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً)[الإنسان : ٧] والعمل على روح من أرواح العلل وكان لهذه الأرواح البارة روح المزج لأنها لم تكمل في أرواح التجريد من أرواح العلل.

١٤٦

__________________

ـ وإن لم تكن على روح من أرواح الزلل وأرواح حسنات الأبرار سيئات المقربين على الروح اليقين عند أرواح المتقين للروح الشيطاني وأرواح التعلق بالفلك السفلاني من أرواح العناصر وأرواح الطبائع المعجونة بأرواح البعد من روح الإطلاق في الأرواح الجمالية الفائضة من الأرواح الذاتية على أرواح الوصلة بأرواح الخلوات والعزلة ومن أرواح النذر ما يسمى نذر لجاج كأن يقول الروح الإنساني لنزغ روح شيطاني إن كلمت فلان أو إن دخلت دار فلان فلله علي أن أصوم سنة أو أن أعتق رقبة.

وهذا الروح من النذر لا يلزم فيه الروح الإنساني ما التزم بل هو على روح من التخيير بين أن يفعل ما التزمه من الأرواح وبين ما يكفر به عن اليمين فهذا روح من اليسر على الأرواح الجاهلة بأرواح الأدب مع روح الشرع.

فما للروح المكلف والزيادة في أرواح التكليف وروح التكليف روح سخيف والروح الإنساني روح ضعيف (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها)[البقرة : ٢٨٦] فالتكاليف الواقعة من روح الفرقان ومن الأرواح المحمدية على روح ما في الوسع لروح هذه الآية.

وما كان من روح النذر فهو من أرواح الزيادة في أرواح الواجبات من قبل روح الإنسان فلما أن كان الروح الإنساني متعديا بروح الزيادة في أرواح الواجبات أمر يوجب الوفاء عقوبة له فروح الوفاء بأرواح النذر مطلوب بالأرواح الفرقانية والأرواح المحمدية.

وفي الروح المحمدي أن روحا من أرواح الصحابة مرض فزاره الروح المحمدي فلما عافاه الله بأرواح من القوة ورآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على روح من العافية قال : أوف بنذرك فقال : ما نذرت شيئا يا رسول الله فقال : بلى فإنه ما من عبد مرض إلا ويحدث ربه خيرا أي يقول في روح نفسه إذا كان لي روح من الشفاء وروح من العافية أفعل الروح الفلاني من الخير كأرواح الصلاة وأرواح الصدقات وأرواح الصيام.

يريد أن يجعل ذلك روح من الشكر على أرواح العافية لروح الحق فإن الروح المخاطب بكل روح من أرواح القربات عند أرواح البلاء بذلك جرت عادات الأرواح البشرية (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) عند أرواح البلاء باختلاف الريح وخوف الغرق لروح من الأسباب.

ومثل ذلك أرواح المرض وسائر أرواح البلاء كأن يخاف الروح الإنساني من روح ظالم أو روح قاطع لأرواح الطريق أو روح سارق أو روح مزور فكل أرواح البلاء من الأرواح التي جرت العادة أن العبد يحدث فيها ربه يخبر فلا يرجع الروح الإنساني بعد حصول الروح الإحساني بأرواح العافية

١٤٧

__________________

ـ عن الروح الذي حدث ربه في حال البلاء بأرواح من المرض أو غيرها من أرواح الشدائد من الأرواح الفرقانية : (إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) [آل عمران : ٣٥] أو المحرر المطلق من رق العبودية للأرواح البشرية.

وامرأة عمران تقربت إلى الله بتحرير ما في بطنها على أن يكون ذكر فما وضعت إلا روح أنثى لا تصلح لأرواح الخدمة فلما وقع روح الاختلاف أظهرت روحا من الاعتذار فكان روح الاعتذار أرواح كمال روح إكرام في روح مريم (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) على أرواح الإكرام فكانت روحا كاملا في أرواح القرب ومنازل الحب.

وشهد لها بذلك الروح المحمدي أنها سيدة نساء العالمين فإنها كانت على أرواح الكمال في أرواح الانقطاع إلى الله وعلى ذلك الروح الفرقاني في قولها (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا)[مريم : ٢٦] أي فصلا عن أرواح الوساوس وهي الأرواح الشيطانية فإن من أرواح أحكام الصيام رفع روح الكلام بما لا يعني الروح الإنساني فإنه روح عبادة.

وأرواح العبادة مبنية على أرواح الحذر من الوقوع في أرواح الكدر ولا يجلب أرواح الكدر مثل روح اللسان بأرواح الكلام في أرواح البعد عن أرواح الحق.

وقد يكون الروح المراد في روح (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا)[مريم : ٢٦] أنها لا تتكلم إلا بأرواح ذكر الله ولا يكون منها إلا أرواح مناجاة لله.

وذلك من كمال روح الصوم إما روح السكون في روح الصوم أو في روح الحج أو في غير ذلك من غير روح من أرواح ذكر فذلك روح من الكراهة فإن الأرواح العالمة قالت : يكره صمت يوم إلى الليل بدون ذكر الله وقد وقع من الصديق روح نهي لامرأة إلا حجت على روح من السكوت.

وقال في ذلك : «الإسلام ينسخ ما قبله» وأمر تلك المرأة بالتكلم فتكلمت وفي الأرواح المحمدية «وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم» فروح اللسان ما لم يفيد فهو روح ضرر على الإنسان الروحي فإنه يضعفه.

ويكشف أسراره ويهتك أستاره بكشف أسرار الروح الإنساني فيظهر لأرواح الناس ما في باطن الإنسان مما لا يطلع عليه أرواح البشر فإن كان على روح من أرواح الكمال تطرقت إليه أرواح الحسد وإن كان على روح من أرواح النقص وقع على تلك الروح روح الإزراء وروح التحقير من أرواح العقلاء.

فإن الروح العاقل يستخف بالروح الجاهل بأرواح الكمال في أرواح الدين ، وفي أرواح الدنيا فروح الكمال وروح الجمال في روح الكامل وروح المريد القابل روح (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً)

١٤٨

٤٣ ـ في الصحيح قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» :

قوله : «شفاعتي» (١) : أي شفاعتي ، وشفاعة الورثة من أمتي ، فإن العبارة وإن كانت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لكن الإشارة شاملة لوراثته أيضا مع أن الأحاديث الصحيحة صريحة في شفاعة غيره صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خواص الأمة.

والكبائر أنواع منها : أذيّة الورثة بالشتم ، والنفي ، والقتل ؛ بل هي أعظم الكبائر ؛ لأنها في الحقيقة أذيّة للرسول ، وهي أذيّة لله تعالى ، والله أرحم الراحمين.

قوله تعالى : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ) [النحل : ٦١].

وقد قال حضرة الشيخ الأكبر قدس‌سره الأطهر في الفتوحات المكية : إنه يشفع للمنكرين له ، والطاعنين فيه ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وأحسن إلى من أساء إليك» (٢) ، هذا إذا مات المنكر على الإيمان ، وما يدريك لعلّه يموت على الكفر ؛ لأن الله تعالى استعظم المؤذيين ولعنهم ، كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) [الأحزاب : ٥٧].

__________________

ـ على روح الإطلاق فلن أكلم اليوم إنسيا ولا بأس بأرواح الإشارة إذا كان الروح الإنساني على روح خلوة لله.

وروح تقرب إلى الله على أمر من الله (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أي : أشار ، وذلك بعد ما أمر ألا يكلم الناس ثلاث ليال سويا فظهر من هذا الروح أن العزلة عن كلام الأرواح البشرية روح وصل بأرواح المواهب لأنه روح.

فصل عن أرواح المكاسب فعلى مقدار أرواح الفصل من أرواح المكاسب يقع روح الوصل بأرواح المواهب فالروح الكامل والمريد القابل من كان على روح (إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) آمن أرواح السيئات وأرواح الحب فلا روح في باطني لغير أرواح مرضاتك فإن روح القصد حركات السر وأرواح حركات الغلانية.

ومن كان على غير هذا الروح فهو على روح من التخليط في أرواح السلوك وأرواح الوصول إلى أرواح الحب ومنازل القرب.

(١) رواه أبو داود (٢ / ١٦١) ، والترمذي (٤ / ٦٢٥).

(٢) ذكره المناوي في فبض القدير (٤ / ١٩٦) ، والمنذري في الترغيب والترهيب (٣ / ٢١١).

١٤٩

وقال خطابا لموسى عليه‌السلام : «هل واليت لي وليا ، وهل عاديت لي عدوّا؟» (١) ، فقد أشار الحق تعالى إلى أن موالاة الوليّ موالاة له ، كما أن معاداته معادة له ، والله تعالى غيور ، ذو البطش الشديد للأعداء.

وقد قال خطابا للخليل عليه‌السلام : «خف مني يا إبراهيم ؛ كما تخاف من السبع الضاري» (٢) ، فقد استبان منه إنه لا يفلح المنكر الطاعن أبدا ، فإنه قابل للرحمة بالغضب.

وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اشتدّ غضب الله على من قتل نبيا ، أو قتله نبي» (٣).

والطعن في حكم القتل ؛ لأن عرض المؤمن كدّمه ، ولا شك عند أهل الله في كفر المنكرين ؛ لأنهم استحلّوا الطعن في أولياء ، وحملوا ما صدر منهم من الحقائق على الخيالات النفسانية ؛ فكانوا كقريش في جعل القرآن من قبيل الأساطير ، والسّحر ونحو ذلك ، وأيضا جعلوا طاعتهم المتنوعة من قبيل المعاصي ، ولا شك أن اعتقاد الطاعة معصية كفر كالعكس.

وقد قال المولى : لا يكفر ، وكيف يكفر أهل التأويلات الصحيحة ، وقد جعلهم العلماء من أهل الدين الصحيح؟ كما ينطق به علم الكلام ، فإن تأويلاتهم تأييدات للعبارات ، وموافقات لها في الحقيقة ، وإلا فكل حقيقة ردّتها الشريعة ؛ فهي ردّ ؛ ولكن الحقيقة المردودة والمقبولة أي شيء هي لا يعرفها إلا الأكابر من العلماء.

وقد كان من أحوال أهل الرسوم في هذه الأعصار : أن من لم يعرف منهم الأحكام والشرائع ؛ يطعن في المعارف والحقائق ، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ، ولا يذلّ إلا من عادى الله ورسوله ، والورثة من أمته (٤).

__________________

(١) رواه الحكيم الترمذي في النوادر (٤ / ٨٤) ، وأبو نعيم في الحلية (١٠ / ٣١٧).

(٢) رواه أبو نعيم في الحلية (٨ / ٣٣) ، والبيهقي في الزهد الكبير (٢ / ١٠٦) بنحوه.

(٣) رواه البيهقي في الشعب (٦ / ١٩٧) ، والديلمي في الفردوس (١ / ٢١٧) بنحوه.

(٤) بيان في ضرر معاداتهم والوقيعة فيهم والإنكار عليهم ، وعلاج ذلك : قال ربنا سبحانه وتعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) [الأحزاب : ٥٨].

قال مجاهد : يقعون فيهم ، ويرمونهم بغير جرم ، (فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً).

١٥٠

قال تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) [التوبة : ٣٢] : أي كفّار الحقائق ، نسأل الله أن يرحمنا بالاعتقاد الصحيح والثبات عليه.

٤٤ ـ في الحديث القدسي : «الصوم لي وأنا أجزي به» (١) :

أسند الحق سبحانه الجزاء إلى نفسه مع أنه المجازي لكل عمل ؛ لزيادة العناية

__________________

ـ وروي عن نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «المؤمن أفضل من الكعبة ، والمؤمن طيّب طاهر ، والمؤمن أكرم على الله تعالى من الملائكة».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تعالى يقول : من عادى لي وليّا فقد آذنته بالحرب : أي أعلمته أنّي محارب له ، وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضته عليه ، وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التى يبطش بها ، ورجله التي يمشى بها ، وإن سألني لأعطينّه ، وإن استعاذني (روي بالنون والباء) لأعيذنّه ، وما ترددت في شيء أنا فاعله تردّدي عن نفس المؤمن ، يكره الموت وأنا أكره مساءته ولا بدّ منه» رواه البخاري.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : صعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المنبر ، فنادى بصوت رفيع فقال : «يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تعيّروهم : أي لا تعيّبوهم يعني : لا تنسبوهم إلى عيب ، ولا تصفوهم بعيب ، ولا تتبعوا عوراتهم ؛ فإنه من تتبّع عورة أخيه المسلم تتبّع الله عورته ، ومن تتبّع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته» رواه الترمذي.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما عرج بي ربّي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمّشون وجوههم وصدورهم. فقلت : من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحم الناس ويقعون في أعراضهم» رواه أبو داود.

وفي الحديث الطويل لأنس رضي الله عنه قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله شرّف الكعبة وعظّمها ، ولو أنّ عبدا هدمها حجرا حجرا ثم أحرقها ما بلغ جرم من استخفّ بوليّ من أولياء الله تعالى. قال الأعرابى : ومن أولياء الله تعالى؟ قال : المؤمنون كلهم أولياء الله تعالى. أما سمعت قوله عزوجل : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ)[البقرة : ٢٥٧].

(١) رواه البخاري (٦ / ٢٧٢٣) ، ومسلم (٢ / ٨٠٧).

١٥١

بالصوم ؛ لأنه صفة صمدانية ، وقد تخلّق بها الملائكة جميعا ، وكذا بعض البشر ؛ كإدريس عليه‌السلام ؛ فإنه لم يأكل ، ولم يشرب ، ولم ينم ستة عشر عاما حتى رفعه الله مكانا عليّا ، وعلوّه بحسب قطبية للأمكنة العلوية والسفلية ، فإن الرابع مقر الشمس ومدارها.

ومنه يعرف قطبية إدريس إلى هذا الآن ؛ لأنه حيّ باق ، وأقطاب كل عصر إنما هم نوابه ، وأيضا قطبية الصوم بالنسبة إلى سائر الأخلاق ، فإنه لتحسين الأخلاق ؛ فهو مدار الأخلاق كلها ، فإذا تمّ التحقق به ، وكمل ؛ كان مبيت الصائم عند الله تعالى ، فلا يفطر إلا على علوم لدنية.

وقد وصل حضرة الشيخ الأكبر قدس‌سره الأطهر ، وهو في درباء المغرب إلى تسعة أشهر.

وأمّا عقال المغربي فمكث في مكة المكرّمة أربعة أعوام لم يأكل ولم يشرب إلى أن مات عليه ؛ لانسلاخه عن حال الطبيعة ، وأمر البشرية بالكلية ، ومنه يعلم أن مثلّثه لا يحتاج إلى بدل ما يتحلّل ؛ لأن عروقه مملوؤه بالأنوار ، والنور يفعل لصاحبه من القوة ما لا يفعله الدم.

وربما يعود الصائم إلى صورة الطبيعة ؛ كحال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن يتابعه في هذا المعنى لكنه مفطر صورة ، وصائم معنى ؛ لأنه دائم في صلاته ، وإنما يترقّى من طبقة إلى طبقة كما دلّ عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أرحنا بلال» (١) ؛ فإنه أراد الإراحة بالصلاة والدخول فيها.

واعلم أن تقليل الغذاء في حكم الصوم أيضا ؛ لأن قدر ما يقوم به البدن لا يعدّ من التنعّم ؛ ولذا يوصي به الحكماء الإلهية في كل عصر ، ومن لم يهتد إليه بقى في تيه طبيعته ، حائرا عن السداد ، ومن لم يهد الله ما له من هاد ، فأرباب الشريعة لهم أكلتان ؛ لغلبة جسمانيتهم على روحانيتهم ، وأرباب الحقيقة لهم أكلة واحدة في يوم وليلة ؛ لغلبة روحانيتهم على جسمانيتهم.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

١٥٢

ثم اعلم أنه أخذ من الحديث القدسي المذكور : إن الصوم له تعالى دون غيره من الأعمال ؛ بل هي لنفس العامل ؛ ولذا كان تعالى بنفسه جزاء للصائم ، فإن قلت :

قد ورد في المخاطبات موسى عليه‌السلام : إن الصلاة ونحوها إنما هي للعامل نفسه.

وأمّا ما كان لله تعالى ؛ فهو موالاة أوليائه ، ومعادة أعدائه ، فما التوافيق بينهما؟ قلت : إن الصوم عمل مخصوص لله تعالى واقع بينه وبين العبد ، والموالاة والصلاة المذكورة ، قلت : عمل مخصوص لله تعالى واقع بين العباد.

فالصائم : عمل لله تعالى فيما بينه وبينه ، والموالي : عمل فيما بينه وبين غيره من العباد ، فكل منهما مخصوص له تعالى في مرتبة ، وفيه إشارة إلى فضيلة الموالاة والمعاداة المذكورتين ؛ كفضيلة الصوم ، وهذا لا ينافي أن يشهد المكاشف في كل مشهد أسماء الله تعالى وشئونه ، فإن العبرة في الحقيقة للمتعيّن لا للتعيّن.

فلا ولي إلا لله ، ولا عدو إلا ما سوى الله ، كما قال تعالى حكاية عن إبراهيم عليه‌السلام : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ٧٧].

وقال تعالى : (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ) [الأنعام : ٩١] : أي الأسماء ، والتعيّنات ، وتعلّق بالذات المسمّاة بها فإنها هي الأحرى بذلك.

٤٥ ـ في الحديث كما في الروضة لابن الخطيب : «يعجب ربكم من شاب ليس له صبوة ظاهره» (١) :

إن الصبوة ، والميل إلى الهوى ، والجهل : من شأن الشاب ؛ لاستيلاء قواه البشرية على القلب ، وزيادة حرارته الغريزية ، فإذا ترك ذلك ؛ كان محلّ التعجب بالنسبة على الخلق ، والتعجب بالنظر إلى الحق تعالى.

فإن التعجّب في الأصل : صفة نفسانية يمتنع اتّصاف الحق تعالى بها ، ويمكن أن يحمل على معنى الرضا ونحوه على ما هو شأن مثلها ، وباطنه إن زمان الشباب زمان العشق والمحبة ، ومن المعلوم إن المجاز قنطرة الحقيقة ، فإذا فات الصبوة والميل إلى العشق عن الشباب ؛ دلّ ذلك على نقصانه في استعداده ، إذ حركة الباطن مما ينبئ عن

__________________

(١) رواه ابن أبي عاصم في السنة (١ / ٢٥٠) ، وذكره العجلوني في كشف الخفا (٢ / ٥٢٨).

١٥٣

صلاح النشأة ، واستقامة المزاج ، حتى أن أهل بعض الديار كانوا يجربون الصبيان بالملاهي ، فإن أظهروا النشاط ؛ دلّ ذلك على استعدادهم لما طلب هو له ؛ كالسلطنة ، ففيه مدح للصبوة ، وذمّ لعدمها.

والصبوة هاهنا : الصبوة المقبولة ؛ وهي الميل عمّا سوى الله تعالى إلى الله تعالى ، وهي صبوة أرباب الحقائق ، وهي عين الإيمان الحقيقي ، ومن لم يذق من طعم هذه الصبوة ، ولو شيئا قليلا ؛ لم يذق لذّة حقيقية أصلا ، فكان حيوانا في صورة الإنسان ؛ بل أضلّ منه ، فإن بعض الحيوان ؛ كالأبل لها ميل إلى حد : أي لعرب وسكرة من ذلك حتى أنها تقطع بذلك مسافة ثلاثة أيام في يوم واحد.

وفي الكلمات المولوية : الصبوة إيماني : أي الإيمان الحقيقي ؛ هو الميل من الزّهد إلى العشق ، ومن الحجاب إلى الكشف ؛ فإن الإيمان ما لم يكن عيانيا ؛ فصاحبه مؤمن من وراء الحجاب ، وأين هو من العيان؟ وهو عند صاحب الزّهد مذموم ؛ لأنه يقول للعاشق : قد صبا هذا ، ومال من السّنة إلى الإلحاد.

وفي الكلمات الأكبرية : جننا مثل مجنون بليلى : أي ابتلينا بالجنون الحقيقي ، كما ابتلى المجنون بالجنون المجازي حتى أدّاه ذلك إلى الابتلاء بالجنون الحقيقي حتى ابتلى بليلى الحقيقة ، وتجاوز عن الميل إلى ليلى المجازية (١).

__________________

(١) فائدة : أثبت الشيخ الجيلي قدس‌سره في كتاب «الإنسان الكامل» : «للإرادة تسعة مظاهر الأول :

هو الميل أيّ : انجذاب القلب إلى المطلوب.

والثاني : الولع وهو إذا قوّى ودام ذلك الميل.

والثالث : الصبابة وهي إذا اشتدّ الميل ، وأخذ القلب في الاسترسال فيمن يحب.

والرابع : الشغف وهو إذا تفرغ القلب للحبيب بالكلية ، وتمكن ذلك منه.

والخامس : الهوى وهو إذا استحكم الحب في الفؤاد.

والسادس : الغرام وهو إذا استولى حكم الحب على الجسد.

والسابع : الحب وهو إذا نما وزادت العللّ المقتضية للميل.

والثامن : الود وهو إذا هاج إلى أن ينفى المحب عن نفسه.

والتاسع : العشق وهو إذا طفح حتى أفنى المحب والمحبوب».

وقال الشيخ المذكور في هذا المقام : «يرى العاشق المعشوق فلا يعرفه ، ولا يصغي إليه ، كما روي عن

١٥٤

فإن المشهور عند أهل الله أن قيس بن عامر مجنون حقيقي في الميل ، فانظر إلى لطافة العشق مطلقا.

قال تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) [الأنعام : ١٢٢] ، فالقلب ميت لا يحيى إلا بفيض العشق ، ومن المقرّر عند أرباب الحقائق : إن عالم الوجود عبارة عن : الحسن والعشق ؛ فالحسن صفة المعشوق الحقيقي ، والعشق صفة العاشق الحقيقي.

وأمّا الحسن الصوري فمن آثار الحسن المعنوي الكمال الساري في جميع الأشياء ، فالعاشق لا ينظر إلى صفات الحسن ؛ وهي المظاهر الخلقية ؛ بل ينظر إلى حسن الصفات ؛ وهو الظاهر الحقّي في كل شيء من الأشياء ؛ لأن الأشياء الممكنة مراء لحسن الذات القديمة ، فمن أراد التجلّي ، وشهود الحسن ؛ فلينظر إلى الأشياء ، ثم أن ترقى إلى التجريد ؛ دخل في عالم الأنفس ، وأن ترقى إلى التفريد ؛ خلص عن التعيّنات ، وقيودها بالكلية ، ولا غاية وراءه ، والله المستعان.

قال الله تعالى : (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ) [الأنعام : ٩١].

إنما أمر تعالى بتركهم مع أنهم مظاهر الأسماء ، ومن شأن العارف النظر في كل شيء إلى الحق ؛ لأنهم نظروا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنظر البشرية ، ولم يعرفوا إنه الحق في صورة الخلق ؛ فعوملوا معاملة الأجنبي ؛ وهي الترك ، ولو إنهم أعطوا للنظر حقه ؛ لكانوا من المكاشفين.

والمكاشف لا يهجر المكاشف ؛ لأنه مرآته ، فكما أن الله تعالى تركهم في احتجابهم ؛ فكذا النبي ؛ لأنه صورة الحق تعالى ، فانظر إن الله تعالى واصل إلى الخلق ، والخلق محجوبون عنه ؛ فكذا من هو مظهره تعالى في أسمائه؟ فعلم إن المعلوم لا

__________________

ـ مجنون ليلى أنها مرت عليه ذات يوم فدعته إليها لتحدثه ، فقال : دعيني فإني مشغول بليلى عنك».

ثم قال : «وهذا آخر مقامات القرب والوصول فيها ينكر العارف معروفه ، فلا يبقى عارف ولا معروف ولا عاشق ومعشوق ، فلا يبقى إلا العشق فقط ، فهو الذات الصرف الذي لا اسم ولا رسم ولا وصف ولا نعت له فيظهر بالصورتين ، ويوصف بالوصفين فتارة عاشق ، وتارة معشوق» انتهى ملخصا.

١٥٥

يجهل ، وإن المجهول لا يعلم فاعرف.

ومعنى ثم ههنا : التوقف في الترك ؛ لأنهم إمّا على الإدبار ، وإمّا على الوقوف ، وإمّا على الإقبال ، فكل من المدبّر والواقف مردود ، وكل من أهل الحركة والإقبال مقبول ؛ لأن الحركة غايتها السكون ، وليس السكون إلا عند الوصول ، فبعض السكون ليس بشيء ؛ كالسكون قبل الحركة ؛ لأن فيه الفراق ، ولذا قال تعالى حكاية : (وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) [البقرة : ١٥٦] ، إذ لا شك أن الرجوع لا يمكن إلا بالحركة.

وأمّا السكون بعد الحركة : فسكون مقبول ؛ ولذا قالوا : الصوفي من لا مذهب له ؛ يعني : إن الصوفي الواصل لا مذهب له ، فإنه أين يذهب ، وهو عنده تعالى؟.

وأمّا السير في الله : فلا نهاية له ؛ لأنه تعالى متجلّ في كل آن ، وقدير مطلق ، فلا غاية لشؤونه ، وهو الواسع العليم ، جعلنا الله وإياكم ممن لا ينفد شرابه ، ولا ينقطع خطابه آمين.

قال تعالى : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ) [الحجر : ٤٦].

يعني : إذا دخل السالك جنة القلب ، ووصل على نهاية درجاتها ؛ سلم من آفات الظنون والشكوك ؛ لأنها مرتبة عين اليقين ، وحق اليقين ، ولا غاية وراءها ، فكلّ يرتقي بقدر حاله ؛ ولذا يقال للقارئ : اقرأ وارق إلى حيث ينتهي قراءتك.

فالقارئ الحقيقي هو : المتخلّق بأخلاق القرآن ، والمتحقّق بحقائقه كما كان حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكما أنه لا نهاية لحقائق القرآن ؛ فكذا لا نهاية لدرجات السير في الله.

وأمّا درجات الجنان الصورية فمحصورة كسور القرآن اللفظي ، وآياته ، وكلماته وحروفه ؛ وإنما قلنا : ووصل إلى نهاية درجاتها ؛ لأنه ليس في كل يقين سلامة ؛ ولذا قال تعالى : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر : ٩٩] : أي اليقين المطلق الذي هو غاية اليقين ، ولا تحصل إلا في نهاية الاطمئنان.

فربّ سالك مردود إلى ورائه في بداية المطمئنة ؛ بل في وسطها أيضا ؛ لأن البداية والوسط من مظان الاضطراب والتلوين ، وهذا : أي التلوين لا يمدح إلا بعد التمكين ؛ لأنه تلوين التجلّي لا تلوين الاستتار ، فمن ادّعى النهاية ؛ فبرهانه وجود

١٥٦

الصفاء على كل حال ، وأين هو من غير الكامل المكمّل؟ وإذا عرفت هذا ؛ فلا تقنع بقليل الكشف واليقين ، فإنه قد يكون مسلوبا ، كما وقع لكثير من السّلّاك حيث رجعوا قهقري ، واحتجبوا عن الحق احتجابا كثيفا ؛ وهو احتجاب الرحمة بالرأي لا الرحمة.

٤٦ ـ في صحيح البخاري : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الإيمان ليأرز إلى أهل المدينة ما تأرز الحيّة إلى جحرها» (١) :

الأروز كالدخول بتقديم المهملة ، الانقباض ، والتّجمع ، والانضمام ، والجحر بالضم ، وتقديم الجيم ؛ كل شيء يحتفره الهوام والسباع لأنفسها ؛ والمراد هنا ما يعبّر عنه بالفارسية : سوراخ.

اعلم أن المدينة هو : النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال : «أنا مدينة العلم وعليّ بابها» (٢) ، وإيمان الناس ينضم إليه ، والوفى أواخر أوقاتهم ، وحين احتضارهم ، كما دلّ عليه قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) [النساء : ١٥٩].

وقد شبّه الإيمان الاضطراري بدخول الحيّة في جحرها دخولها فيه لا يخلو عن سبب ضروري ، وشدة ، وضيق ، فالنفس الإنسانية أشدّ من الحيّة في الضرر ، والاعوجاج ، وإنما تستقيم وقت المعاينة للأحوال الأخروية ، وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها.

فالمراد بالإيمان : إيمان النفس ، ودخولها في مقام القلب الذي لا يقتضى إلا بالتصديق ؛ فإنه مدينة العلم في الحقيقة ؛ ولذا ورد : «استفت قلبك» (٣) ، وهو المظهر للاسم العليم ؛ كالمغني.

وفيه إشارة أخرى وهي : إن عليّا كرّم الله وجهه لمّا كان باب مدينة العلم ، والباب يعدّ من المدينة ، ومن البيت ؛ كانت الطرق المتفرّقة الحقة ، موصّلة إليه ، فليس طريق من الطرق الحقة إلا وسلوكها إلى ما كان عليه المرتضى من الاعتقاد ، والعمل ، والحقيقة.

__________________

(١) رواه البخاري (٢ / ٦٦٣) ، وابن ماجه (٢ / ١٠٣٨).

(٢) رواه الحاكم في المستدرك (٣ / ١٣٧) ، والديلمي في الفردوس (١ / ٤٤).

(٣) تقدم تخريجه.

١٥٧

ولذا كان هو رضي الله عنه أبا هذه الأمة ، فقامت الأمة ، وأخيارهم به ؛ كما قام الولد بالأب.

ولما في النفس شدة الشكيمة ، ومشيها على الطريق الحقة صعبا ، ودخولها في الرياضات ، والمجاهدات في الخلوات ؛ كدخول الحيّة في جحرها ؛ أفصح عن حالها بذلك.

وفيه إشارة إلى أن البدعة مردودة ، وإن أهل البدعة ليس لهم أن ينتموا إلى المرتضى رضي الله عنه ؛ لأن الله تعالى ارتضاه لما إنه لم يكن فيه إلا السنة.

ولذا كان وارث النبوي ، وخليفة الله في العالم ، إمّا في زمان تعيّنه الخارجي ، فبوجوده الظاهري والباطني ، وإمّا بعد انتقاله فبروحانيته ؛ لكن لمّا كان الحكم للظاهر ؛ كان وزيرا للمهدي الذي هو من أولاده ، ولا ضير فإن الوزير في حكم السلطان ظهورا ؛ فهو والسلطان سواء في الحكم.

وإنما لم يقل : إن التوحيد ليأرز إلى المدينة لما أن أدنى المراتب في هذا الباب : هو الإيمان والتصديق ؛ وهو من شأن العامة.

وأمّا التوحيد : وهو رؤية الموحّد في الأنفس والآفاق متجليّا على سرّ من الأسرار ، ونور من الأنوار ، ودائرا مع اسم من الأسماء ، وكذا التجريد الذي هو انقطاع الملاحظة من الآفاق ، وكذا التفريد الذي هو استقطاعها من الأنفس أيضا ؛ فإنما يحصل لأهل الإحسان ، وذلك بعد مرتبة الإيمان : أي الإحسان خصوص مرتبة في الإيمان.

فكل مؤمن ليس بموحّد توحيدا حقيقيا أفعاليا أو صفاتيا أو ذاتيا ؛ إذ المشرك بالشرك الخفي مؤمن ، وليس بموحّد ، وأين أهل الشرك من التوحيد؟ ولذا أن نقول أيضا : إن الإيمان إنما يوحّد بمتابعة شرع من الشرائع ، ودخول النفس في السلم ؛ وهي صعبة جد الاعتياد النفس بالاسترسال والإطلاق.

وأمّا التوحيد : فصفة القلب من حيث نفسه ؛ ولذا لا يبقى موحّد في النار ، فعليك بالتوحيد ، ومراعاة الأصول ، وعليك بالإيمان أيضا إن أردت أن تكون من أهل الوصول ، فإن الطريق هو طريق المتابعة.

قال الله تعالى : (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠] ، وفيها قطع النفس عن المألوف.

١٥٨

٤٧ ـ في حديث مسلم : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الكافر» :

أي : الساتر لنعمة الوجود ، وما يتصل بها بالجحود والكفران.

قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا عمل حسنة من الحسنات» ؛ أيّة حسنة كانت من صلة الرحم ، وقرى الضيف ، وإكرام اليتيم ، وإماطة الأذى من الطريق ونحو ذلك.

قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أطعم بها طعمة في الدنيا» (١) ، إذ لا خلاق في الآخرة ، والله تعالى كما هو عدل ؛ كذلك هو مفضّل ، فمن كونه مفضّلا ورحمانا على عباده ، كلهم يفيض على الكافر أيضا أجور حسناته ، ولو كانت تلك الحسان قليلة كما ينبئ عنه الأفراد ، والتنكير في حسنة إذ ليس من شأنه تكثير الحسنات ؛ إذ الإيمان له بالله ، وباليوم الآخر كما ينبغي.

وكذا الحال في إفراد طعمة بالضم وتنكيرها ؛ لأن أجور الدنيا في جنب أجور الآخرة مما لا قدر له أصلا.

وفي قوله : (أطعم) : على بناء المجهول ؛ تحقير لشأنه من حيث إنه كافر.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وأمّا المؤمن فإن الله تعالى يدّخر له حسناته في الآخرة» (٢) ، في إسناد الادّخار إلى الله تعالى حيث لم يقل : فإنه يدخل له على المجهول تعظيم لشأن المؤمن من حيث إنه مؤمن ، وفي الحسنات دون الحسنة ، كما في خلافه ، إشارة إلى أن شأن المؤمن تكثير الحسنات ، فإنه بحسب الأسماء الإلهية يجرى ، فله في مقابلة كل اسم خلق وفعل يعقبه رزقا في الدنيا على طاعته ، يعني : كما أن له أجرا عظيما في الآخرة بحسب صدقه وإخلاصه ؛ فله في الدنيا أجرا أيضا على طاعته وعبادته.

خصص الرزق بالذكر ؛ لأن أكثر ما يهتم به الإنسان هو الرزق ، وفيه إشارة إلى الرزق المعنوي أيضا ؛ لأن الحسنات أعمال صالحة ، ومن عمل بما علم ؛ ورّثه الله علم ما لم يعلم ، فله رزق ظاهر وباطن جميعا ؛ لأن الله تعالى عنده ثواب الدنيا والآخرة ، ونعيم الصورة والمعنى.

__________________

(١) رواه مسلم (٤ / ٢١٦٢) ، والطبراني في الأوسط (٣ / ١٨٩).

(٢) تقدم تخريجه.

١٥٩

وفي الحديث إشارة إلى أن الفرق بين الزاهد والعاشق : إن الزاهد وإن كثر حسناته فلا يترقّى عن مقام الطبيعة ، والنعيم الحسّي ، وأمّا العاشق فله النعيم الحسّي بحسب عمله الحسّي ، وله النعيم الروحاني بحسب حاله المعنوي ؛ ولكن رزقه في الآخرة أكثر من رزقه في الدنيا صورة ومعنى ، إمّا صورة ، وإمّا معنى.

فإن الإنسان في الترقّي دائما ، فما حصل له عند الاحتضار أكثر مما حصل له قبل ذلك ، وكذا ما حصل له في البرزخ أكثر مما قبله ، وقس على ذلك ما حصل في المحشر ، وفي الجنة ، وفي مقام الكثيب ؛ ولذا قالوا : الشوق دائم ، والنقصان لا يزول.

وهذا مشرب من ليس له ري أبدا ، فإن كماله حقيقي بالنسبة إلى كمال من دونه ، وإضافي بالنسبة إلى أن السير في الله لا ينقطع أبدا ، فالأمر إذا لم يكن له انتهاء ؛ فالسالك في السير أبدا ، وهذا لأن الله تعالى غير متناه بذاته ، وأسمائه ، وصفاته ، وتجليّاته ، وهو الواسع ، فكيف الوصول إليه حتى ينقطع السير؟

وقد قال تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) [محمد : ١٩].

فجعل الألوهية منتهى العلم إذ ما وراءها حيرة وبهت ؛ ولكن الأمر لمّا كان بسيطا ؛ كان السير بسيطا ، فالإنسان على السفر دائما ، ومن استوى يوماه ؛ فهو مغبون ، وليس الاستواء إلا بالوقفة ، أو بعدم المحرك من العشق والانجذاب ونحوهما.

ولذا فضّل العمل الروحاني على الجسماني بأضعاف ، فأين العابدون من العاشقين؟ وأين العاشقون من الواصلين؟ وأين الواصلون من الحاصلين؟

فاجتهد أن تكون من أهل المكاشفة ، ثم من أهل المشاهدة ، ثم من أهل المعاينة ، فأول الأمر الطلب ، ثم السير ، ثم الوصول والفناء ، ثم الحصول والبقاء ، فمن بقى مع الله ؛ فله بقاء بقاء الله ، فاعرف (١).

__________________

(١) قال الشيخ أبو المواهب الشاذلي : قال الله تعالى : (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) [طه : ٧٣].

قاعدة : البقاء مقام يملك حقيقة الشهود على بساط الأدب مع الشهود.

فائدة : بقاء البقاء أكمل من البقا ، وصاحبه هاد مهتد بكمال التّقى.

قاعدة : متى وجد البقاء وجد الصحو ، وإذا ذهب جاء السكر لصاحب المحو.

فائدة : الباقي فاني ، وليس كل فان باقي.

١٦٠