مرآة الحقائق - ج ٢

إسماعيل حقّي البرسوي

مرآة الحقائق - ج ٢

المؤلف:

إسماعيل حقّي البرسوي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
977-344-218-7

الصفحات: ٤٤٩
الجزء ١ الجزء ٢

وفيه إشارة إلى شرف الافتقار ، وإظهار الرغبة في حصول الموعود ، وإلا فالله تعالى يخبر وعده دعا به العباد أولا.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حلّت له شفاعتي يوم القيامة» (١) :

المراد بالحلول : الوجوب والثبوت ، أو النزول ، وبالشفاعة خصوصها لا عمومها ؛ لأن عموم الشفاعة لا يحتاج إلى الدعاء بالدعوة المذكورة ، ومعنى خصوص الشفاعة راجع إلى سرّ الوسيلة ، فإن من دعا في حق نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمقام لا أخص منه مقاما ؛ استجلب من صاحب المقام بخصوص عمله جزاء مناسبا له ؛ وهو المذكور من خصوص الشفاعة ، وهو سرّ بينه وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

إذ الأحوال متباينة ، والناس في الاستعدادت متفاوتة ؛ ولذا نقول : إن استغفار

__________________

ـ فيقول : وعزتي وجلالي ما زويت الدنيا عنك لهوانك عليّ ، ولكن لما أعددت إليك من الكرامة والفضيلة ، اخرج يا عبدي إلى هذه الصفوف ، فمن أطعمك فيّ ، أو كساك فيّ يريد وجهي ، فخذ بيده فهو لك ، والناس يومئذ قد ألجمهم العرق ، فيتخلل العبد الصفوف ، وينظر من فعل ذلك به فيأخذه بيده ويدخله الجنة».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أكثروا من معرفة الفقراء ، واتخذوا عندهم الأيادي ، فإنّ لهم دولة فقالوا : يا رسول الله وما دولتهم؟

قال : إذا كان يوم القيامة قيل لهم : انظروا من أطعمكم كسرة ، أو سقاكم شربة ، أو كساكم ثوبا ، فخذوا بيده ثم امضوا به إلى الجنة».

فإذا أعطى مولانا جلّ جلاله هذه الفضيلة للفقراء من سائر خلقه ، وأمر باتّخاذ الأيادي عندهم ، فكيف أيّها المحبون في هذا النبي الشريف لا تتخذون الأيادي عند من أعطاه الله المقام المحمود ، وخصه بمزايا الكرم والجود ، وحباه بالمنن ، وشرّفه على سائر الوجود؟

فاجهدوا جهدكم في تعظيمه وتوقيره ، وإكرامه وتبجيله ، واقدروه قدره ، وعظموا ذكره ، فإنّه السيد الكامل الفاتح الخاتم ، المسمّى في الجنة أبا القاسم.

فأكثروا من الصلاة عليه ، وادّخروا من الصلاة هذه الغنيمة لديه ، تردوا يوم القيامة عليه متعلقين بلوائه ، محشورين مع خاصة أصفيائه ، مستنصرين بجنابه الرفيع ، مستمسكين بحصنه المنيع ، فهو الكريم على الله فلن يخيب طالبه ، وهو العزيز القدر عند مولاه فلا يحرم سائله :

وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ، وسلّم تسليما ، وزاده مولانا شرفا وتعظيما.

(١) تقدم تخريجه.

١٠١

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنفسه ليس كاستغفار أحدا منا لنفوسهم ، فإن الزّلات والتلوينات على مراتب ، فالاستغفار مشترك فيه ؛ لكن المغفرة إنما تجيء من الله تعالى بحسب حال المستغفر.

وكذا الشفاعة في الدّارين (١).

__________________

(١) اختص صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه أول من تنشقّ عنه الأرض ، وأول من يفيق من الصعقة ، وبأنه يحشر في سبعين ألف ملك ، ويحشر على البراق ، ويؤذّن باسمه في الموقف ، ويكسى فيه أعظم الحلل من الجنة ، وبأنه يقوم عن يمين العرش وبالمقام المحمود ، وأنه بيده لواء الحمد ، وآدم فمن دونه تحت لوائه ، وأنه إمام النبيين يومئذ وقائدهم وخطيبهم ، وأول من يؤذن له في السجود ، وأول من يرفع رأسه ، وأول من ينظر إلى الله تعالى ، وأول شافع وأول مشفّع ، ويسأل الله في غيره ، وكل الناس يسألون في أنفسهم ، وبالشفاعة العظمى في فصل القضاء ، وبالشفاعة في إدخال قوم الجنة بغير حساب ، وبالشفاعة فيمن استحق النار ألا يدخلها ، وبالشفاعة في رفع الدرجات بأناس في الجنة ، كما جوز النووي اختصاص هذه والتي قبلها به ، وورد به الأحاديث في التي قبل ، صرح به القاضي عياض وابن دحية ، وبالشفاعة في إخراج عموم أمته من النار حتى لا يبقى منهم أحد ، ذكره السبكي ، وبالشفاعة لجماعة من صلحاء المسلمين ليتجاوز عنهم في تقصيرهم في الطاعات ، ذكره القزويني في العروة الوثقى ، وبالشفاعة في الموقف تخفيفا عمن يحاسب ، وبالشفاعة فيمن خلد في النار من الكفار أن يخفف عنهم العذاب ، وبالشفاعة في أطفال المشركين ألا يعذبوا ، وسأل ربه ألا يدخل النار أحد من أهل بيته فأعطاه بذلك ، وأنه أول من يجيز على الصراط ، وأنه أول من يقرع باب الجنة ، وأول من يدخلها وبعده ابنته ، وبالكوثر ، زاد أوب سعد وابن سراقة : وبالحوض.

قلت : لكن ورد أن لكل نبيّ حوضا ، وفي إثر في خصائصه : «وحوضه أعرض الحياض وأكثرهم وارد» ، وبالوسيلة وهي أعلى درجة في الجنة.

وقال عبد الجليل القصري في شعب الإيمان : الوسيلة التي اختص بها في التوسل وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكون في الجنة بمنزلة الوزير من الملك بغير تمثيل لا يصل إلى أحد شيء إلا بواسطته ، وقوائم منبره رواتب في الجنة.

ومنبره على ترعة من ترع الجنة ، وما بين قبره ومنبره روضة من رياض الجنة ، ولا يطلب منه شهيد على التبليغ ، ويطلب من سائر الأنبياء ، ويشهد لجميع الأنبياء بالبلاغ ، وكل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببه ونسبه ، فقيل معناه : أن أمته ينسبون إليه يوم القيامة ، وأمم سائر الأنبياء لا ينسبون إليهم ، وقيل : ينتفع يومئذ بالنسبة إليه ، ولا ينتفع بسائر الأنساب ، ويكنى به آدم عليه‌السلام في الجنة دون

١٠٢

وأيضا فإن حلول الشفاعة للداعي المذكور ؛ إشارة إلى زيادة تعلّقها به ، وفرط اتصالها ، إذ لا شك أن الأسباب الموجبة للمسبب إنما من بين قوية وضعيفة ، ثم سر التحريض على الدعاء المذكور من باب الغيرة الإلهية ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن كان معدن جميع الكمالات ، ومنبع جملة الفيوض والكرامات إلا أن الأمة من حيث وقوفهم في موقف التفصيل لتلك الجملة الشريفة ؛ كان لهم حكم مخصوص من الله تعالى.

وإليه يشير أن السلطان إنما يجلس في السرير في ابتداء السلطنة باتفاق الرعية وإجلاسهم ، وإن كان هو آمرا لهم ، وناهيا ، ومتصرّفا ، وحاكما.

فالأفضلية من وجه لا ينافي المفضولية من وجه آخر ، وعليه إطباق كبراء الصوفية ، ولله الحمد ، ولرسوله وآله وصحبه الصلاة والسّلام.

وفي الحديث : إشارة إلى أن الدعاء يستجاب عند الأذان ؛ لأنه ينفتح أبواب الملكوت عنده ، ويفرّ الشيطان منه ، ويجذّ النفس إلى الرحمن ، وتخصيص الدعاء بالأذان لما فيه من الشهادتين ، ورفع لذكر النبي كما قال تعالى : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) [الشرح : ٤] ، فكان أنسب أن يطلب له الدرجة الرفيعة في الآخرة أيضا ، فهو في الدنيا أرفع كل رفيع من حيث الكمال ، وفي الآخرة أعلى كل علي من حيث المقام والحال ، فله صورة العلو ومعناه على التمام.

ولذا كان شجرة طوبى محمدية المقام ، منه انقسمت الكمالات في الدنيا ، ومنه

__________________

ـ سائر ولده تكريما له ، فيقال له : أبو محمد ، ووردت أحاديث في أهل الفترة : أنهم يمتحنون يوم القيامة ، فمن أطاع دخل الجنة ، ومن عصى دخل النار.

قال بعضهم : والظن فيهم كلهم أن يطيعوا عند الامتحان لتقربهم عينه ، وورد أن درجات الجنة بعدد أي القرآن ، أو أنه يقال لصاحبه : اقرأ وارق ، فآخر منزلة عند آخر آية يقرؤها ، ولم يرد في سائر الكتب مثل ذلك ، ويخرج من هذا خصيصة أخرى ، وهو أنه لا يقرأ في الجنة إلا كتابه ، ولا يتكلم أحد في الجنة إلا بلسانه ، وفي تفسير ابن أبي حاتم عن سعيد بن أبي هلال : أنه بلغه أن المقام المحمود أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم القيامة يكون بين الجنان وبين جبريل فيغبطه بمقامه ذلك أهل الجمع. وانظر : مرشد المحتار لابن طولون الدمشقي (ص ٢٤٧) بتحقيقنا.

١٠٣

تشعبت الراحات في الآخرة ، وقد خلق الله الجنان على طبقات مختلفة ؛ مراعاة لمقامات أهاليها ، ومحافظة على أحوال ساكنيها ، فيا أعظم سعادة للأعالي ، ويا أفضل سيادة للموالي ، فمن تحرّكت نفسه ؛ فلتتحرك إلى المعالي ، فإن تلك الحركة من علو الهمة لا كامل الأهالي ، والله العالي ، وإليه رجوعي في مصعدي ، وعليه اتّكالي.

ثم لمّا كانت حال الآخرة على طبق حال الدنيا في بعض الصور ؛ كالشفاعة كالترقيات الجليّة ، والعفو عن الجرائم العظيمة ؛ كان من خصّ الشفاعة النبوية في الآخرة بالترقيات ، وزيادة الثوبات ؛ جاهلا عن أسرار التنزّلات والمنازلات ؛ فقد يصعد العبد إلى ربه ، وقد ينزل الرب إلى عبده.

وقد قال : «ألا تحبون أن يغفر الله لكم» (١) ، فقد علّق مغفرته لمغفرة الناس بعضهم لبعض ، وقد كانت الأسماء الجمالية أقتضت سعادات العباد دنيا وآخرة ، فمن سعادة وقعت في الدنيا بالشفاعة العظمى ، ومن سعادة وقعت في الآخرة بها ، وآخر الشفعاء أرحم الراحمين ولا يعرفه إلا الكبراء من العارفين المحققين.

٣٠ ـ في الحديث : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الشيطان إذا سمع النداء بالصلاة ذهب حتى يكون بالروحاء» (٢) :

الروحاء : موضع بينه وبين المدينة المنورة ستة وثلاثون ميلا على أن يكون كل ميلين منها ساعة نجومية ؛ فيكون المجموعة من الأميال ثماني عشرة ساعة ؛ هي مدة السفر عند الإمام أبي حنيفة رحمه‌الله ، يعني : إن الشيطان المأخوذ من البعد إذا سمع الآذان بالمدينة أبعد إلى مدة السفر ؛ ليستريح من الألم كما دلّ عليه لفظ الروحاء.

وفيه إشارة إلى من خرج عن مجلس العلم ، ولو خطوة ؛ فإنه كمن سافر منه إلى مدة السفر ، إذ لم يخرج إلا لراحته الطبيعية ، وبين الراحة الطبيعية ، والراحة القلبية بون بعيد ، فسحقا لأصحاب السعير ، وبعدا للقوم الظالمين ؛ لأنهم ظلموا أنفسهم بالبعد عن مجلس العلم ؛ فأبعدهم الله تعالى عن المعلوم الحقيقي الذي هو ذاته تعالى ،

__________________

(١) رواه البخاري (٢ / ٩٤٥) ، ومسلم (٤ / ٢١٣٦).

(٢) رواه أحمد (٣ / ٣١٦) ، والبيهقي في الكبرى (١ / ٤٣٢).

١٠٤

وكانوا من أصحاب السعير ، إذ الجزاء من جنس العمل.

وذلك إنهم خرجوا عن مجلس العلم ؛ ليبرّدوا حراراتهم الطبيعية بالمأكولات والمشروبات ، وبكلام الدنيا والمساوئ ؛ فأدخلهم الله تعالى في سعير أشدّ من نارهم المسعورة في بواطنهم ؛ لأنها تطّلع على الأفئدة ، والأفئدة هي قوام الأجساد ، فإذا احترقت ؛ احترقت الأجساد كلها.

فعلم من هذا التقرير : إن الشيطان مظهر البعد ، فكل من كان مظهر البعد ؛ فهو شيطان أضلّه الله تعالى على قرب منه وعلم ، فإن المحجوب الجاهل لا يرى إلا ما سواه تعالى ، ولا يعرف إلا الأغيار ، عصمنا الله وإياكم من نار البعد ، والقطيعة ، وعذاب السعير.

وإنما خصّصنا مجلس العلم بالإشارة ؛ لأن نداءه أعم من النداء الحسي والمعنوي.

أمّا النداء الحسي : فكالدعوة إلى مرتبة الشريعة ، وآثارها آثار حسّية جنائية ؛ هي نعيم حسّي من مأكول ، ومشروب ، ومنكوح حسّي ، وفيه يدخل الآذان ، والدعوة الصلواتية.

وأمّا النداء المعنوي : فكالإرشاد إلى مرتبة الحقيقة ، وآثارها آثار معنوية رحمانية روحانية ؛ هي نعيم باطني من مأكول ، ومشروب ، ومنكوح حقيقي دلّ عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنكم مثلي إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» (١).

٣١ ـ في المتفق بين الصحيحين : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير عشر مرات ؛ كان كمن اعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل» (٢) :

المراد بالوحدة المطلقة التي هي مبدأ نفي الشركة لا الوحدة المقابلة للكثرة (٣) :

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) رواه البخاري (٥ / ٢٣٥١) ، ومسلم (٤ / ٢٠٧١).

(٣) قال السيد مصطفى البكري : وأمّا قول أهل الحق القائلين بوحدة الوجود على الوجه الأحق ، فإذا قالوا : ما في الوجود إلا الله مثلا فمرادهم من حيث القيومية فإن به تعالى قيام كل شيء وهو

١٠٥

__________________

ـ القائم على كل نفس بما كسبت ومن حيث تجلّيه وإمداده وتولّيه ، لا أن هذه الصور الحادثة الفانية المقيّدة المحدودة وجوده ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

وتختلف أذواق أهل هذه المشاهد ، فمنهم من يكون ذوقه صديقيّا ، فيقول : ما رأيت شيئا إلا رأيت الله قبله.

فأولا رأى قيوميّة الحق وتجلّيه على الشيء ، ثم رأى الشيء ولم ينفه ولو نفاه ؛ لكان سكرا ، فكان مشهده كاملا حيث جمع بين شهود الحق والخلق في آن ، لكنه غلب عليه شهود الحق ، فرآه أولا ثم رأى الخلق.

ومنهم : من يكون مشهده فاروقيّا ، فيقول : ما رأيت شيئا إلا رأيت الله فيه : أي متجلّيا بقيوميته عليه ، وهذا المشهد دون الأول من حيث الذوق.

ومنهم : من يكون مشهده مشهدا عثمانيا ، فيقول : ما رأيت شيئا إلا رأيت الله معه.

ومنهم : من يكون مشهده مشهدا علويّا ، فيقول : ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله بعده.

وثمّ فوق هذه الأذواق أذواق كثيرة لا حدّ لها ولا نهاية ، قد ذاقها الأصحاب والأحباب ، ساروا على منهج السنّة والكتاب.

ولقد سألت شيخنا الهمام سيدي الشيخ عبد الغني حفظ الله وجوده للأنام عن مقام المعرفة الخاصة ، هل يكون بدون جدّ واجتهاد.

فقال : لا ، فقلت : ولا بد فيه من الذوق والوجدان ، والقال لا يكفي دون الحال.

فقال : نعم ، فقلت : وكيف السبيل إلى طريق الذوق والوجدان.

فقال : بملازمة الطاعات ونوافل الخيرات والاشتغال بالله والإقبال عليه ، كما نصّت عليه الأشياخ.

فبهذا يحصل الذوق لطالبه أو ما هذا معناه ، وسألته عن أهل مقام الجمع.

فقال : أولئك قوم سكارى ، فالسكران لا يعول على قوله فإنه يقول : أرى كذا وكذا والصاحي ينكر قوله ؛ لعلمه أن ما يدّعيه غير صحيح في نفس الأمر ، وإنما تخيّل لفرط سكره ، إن الأمر كما أخبر وليس كذلك ؛ بل الأمر كما هو عند الصاحي فإن السكر حال مدهش يذهب بعقل صاحبه فلا يعتد بكلامه) بما معناه.

فقول السكران : ما في الوجود إلا الله حق من وجه ؛ لأن الوجود الحادث قائم به تعالى ، فالوجود على الحقيقة له ؛ إذ قيام الكل به ، لكنه لما أنكر وجود الخلقيّة بالكليّة.

قلنا : بسكره ، ورددنا قوله : فإنها ثابتة حسّا وشرعا وعقلا ، وقد يقول الصاحي مثل قول السكران ، لكنه يعني من وجه دون وجه ، فمن حيث أن الكل هالك بالنظر لنفسه فإن الشيء لا يعطى لنفسه وجودا ، فإنه معدوم بالنظر لها أيضا ، وأمّا بالنظر ؛ لمفيض الوجود عليه فهو ثابت به باق بإبقائه.

فقول سيدي محي الدّين قدّس الله سرّه : (فلولاك ما كنّا) : أي من حيث ان وجودنا بك ، ولولاي لم

١٠٦

فإنها مخلوقة لا بيوصف الله تعالى بها ، وعلى هذا يدور الوجود المطلق ، والوجود العام ،

__________________

ـ تكن : أي آثار أسمائك الحسنى ، فإن الأسماء تطلب الآثار ، فإن المانع يطلب من يمنعه ، والمعطى كذلك ولا ظهور للآثار إلا بظهور المؤثرات.

ولهذا لم يكن ظهور الكون إلا عن الأسماء وطلبها ، كما ذكره الشيخ في «إنشاء الدوائر» ، وفي «عنقاء مغرب».

وأمّا بالنظر إلى الذات العليّة المتعزز درك كنهها بالكليّة ؛ فهي مطلقة غنيّة حتى عن الإطلاق والكل في قيد وفي وثاق ، فلا تعلّق لها بشىء إلا من حيث الإمداد ، ولا يتعلق بها شيء إلا من حيث الاستمداد ، والأسماء الحسنى هي الوسائط التي لولاها كنّا من البسائط.

ثم قال : «فكنت : أي كنزا مخفيّا» ولم تزل على ما كنت عليه إلى الأبد في الأزل وكنّا بك أعيان ثابتة في العلم ثم أبرزت صورة ما في علمك لا الذي في علمك ، فإنه قديم لا تحلّه الحوادث ، وهذا معنى قول الشيخ الأعيان الثابتة : أي في العلم ما شمت رائحة الوجود : أي في العين.

ثم قال : والحقيقة لا تدري إلا بمنحة منك وكشف عنها ، فهناك يكون الإدراك بك وإذا كان بك فلا إدراك ، أو يكون أراد بالحقيقة الحقيقة الإلهية.

وهي كما قال رضي الله عنه : فالأنبياء والمرسلون لا يدركون كنه الذات العلية ؛ بل عمّ بالنظر إلى الكنه في حيرة جليّة ، وأمّا التجليات الواقعة في الدنيا والآخرة فلا تخرج عن رتبة التقييد والتجليات المطلقة ، فلا حظّ للعبد فيها إلا أن رتبة التقييد وإدراك التجلّي المطلق لا يتخلص للعبد على ما حققه الشعراني رضي الله عنه في «ميزان الذرية» إلا عند فنائه لا في حال بقائه مع الحق ، وحينئذ فما رأى إطلاق الحق إلا الحق فافهم.

قال : وإيّاك والغلط ، فإنه لا حلول ولا اتحاد ولا يلحق عبد رتبة الحق أبدا ولو صار الحق سمعه وبصره وجميع قواه ، فإن الحق تعالى قد أثبت عين العبد معه بالضمير في قوله في الحديث القدسي : «كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به» ، إلى آخر النسق ، فإن قيل أن كلام الحق تعالى قديم.

وقد قال : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ)[الحديد : ٤].

وهذا يشعر بأنّا معه في الأزل ، كما يقول بذلك الفلاسفة.

قلنا : التحقيق أن العالم قديم في العلم الإلهي ، حادث في الظهور ، فشهود الحق في رتبة التقييد ، يخص الحق تعالى به أفراد العبيد ، ولشهود الحق علامة فمن شهدها في نفسه كان في قوله صادقا ، وإلا كان مبطلا لدعاويه الكاذبة موافقا.

قال سيدي محيي الدين رضي الله عنه في باب «الوصايا» : «اعلم أن علامة من يدّعي أنه يشاهد الحق تعالى إذا عكس مرآة قلبه إلى الكون ؛ يعرف ما في ضمائر جميع الخلق ويصدق الناس على ذلك الكشف».

١٠٧

فإن الله تعالى موجود بوجود حقيقي مطلق ؛ وهو مبدأ الوجود العام الساري في الموجودات لا بوجود عام مقيّد مأخوذا في ضمن المشخّصات ، فلا يلزم ما يقوله الوجودية ؛ ولكمال صعوبة هذا المعنى خاض فيه من خاض ؛ فطعن على أهل الله تعالى في قولهم : بالوجود المطلق ؛ وهم أهل الرسوم ، وبعض المكاشفين القاصرين.

وإنما قدّم النفي على الإثبات كما في قوله : (سبحان الله وبحمده) ؛ لأن النفي والتنزيه صفة الروح ؛ ولذا كان من شأن الملائكة التسبيح ؛ وهم أقدم وجودا من البشر ، كما أن الروح أسبق من الجسد الأشبة إلى الخواص ، فكان البشر من الملائكة بمنزلة التحميد من التسبيح ؛ لكن لمّا كانت هذه الأمة المرحومة أكمل استعدادا من الأمم السالفة ؛ جمعوا بين كمالي التسبيح والتحميد ؛ لأنهما لباسان جميلان للروح الذي طرفه الذي يلي الحق يقتضي التسبيح والتنزيه ، وطرفه الذي يلي الحق يستدعي التحميد والتشبيه ، فلم يتحقق ، ولم يتلبّس بهذين اللباسين على وجه الإحاطة (١) والكمال إلا هذه الأمة.

فكان من شأنهم : كمال التوحيد والتسبيح على ما يقتضيه نشأة أرواحهم الطيبة المجرّدة المنسلخة عن الفواشي ، وكمال التحميد والتشبيه على ما يقتضيه نشأة أجسادهم النظيفة المتعلّقة بالملابس ، كما ينبئ عن كلا هذين الكمالين قوله تعالى :

(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١].

وإنما رتب صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجزاء المذكور وهو : إعتاق أربعة أنفس من ولد إسماعيل على القول المذكور عشر مرات ؛ لأن العشرة هي العدد الكمال ، كما قال تعالى : (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) [البقرة : ١٩٦].

وسرّ العدد هو أن الجزاء المذكور مكتوب في اللوح المحفوظ الذي هو المرتبة

__________________

(١) قال سيدي محمد وفا في الشعائر : الإحاطة هي تكثير الواحد بالتجلي في هيئات متنوعة ، كالماء ينعقد بردا.

وحقيقة الإحاطة أن يكون المحيط بالذات محاط به بالشخص في العين ، وفي المعنى أن يكون المحيط بالعلم محاط به بالمعلوم الأول بالوجود والاستغراق ، والثاني بالشهود والاستهلاك.

١٠٨

العاشرة من المراتب العلوية ؛ وهي السموات السبع ، والكرسي ، والعرش ، واللوح ، والقلم ، ولّما كان اللوح المحمّدي الذي هو قلب الوسيع مقابلا للوح الخارج ؛ أخذ الجزاء المذكور عنه فرتّبه على القول المذكور ، ومنه يعلم أن وضع الحديث باطل ، إذ وضع الأجور مفوّض إلى الشارع ؛ وهو الله تعالى ، والأخذ من اللوح ؛ وهم الأنبياء ؛ لأنهم أصحاب الشرائع.

وأمّا كمّل الأولياء فإنهم وإن كانوا آخذين منه أيضا ؛ لكن إنما يأخذون العلوم الحقيقية لا ما يتعلّق بالشرائع ؛ إذ ليسوا بأنبياء مشرّعين ؛ وإنما هم أولياء مبلغّون متابعون لحضرة النبوة.

ووجه العدد في الإعتاق : إن التهليل المذكور أربع جمل في الحقيقة ؛ لأن قوله : «لا شريك له» بيان للحال قبله ، فكان في مقابلة كل جملة إعتاق نفس ، وسرّ تخصيص الجزاء به ؛ هو أن الروح يتخلّص من رقّ الجهل بذلك التهليل ؛ فيسري حاله إلى القلب ، والنفس ، والطبيعة ؛ فيكون جملة الوجود حرّة عن عبودية ما سوى الله تعالى شريعة ، وطريقة ، ومعرفة ، وحقيقة.

فإذا الجزاء المطابق لما في الأنفس من الحال إعتاق الأنفس في الإنفاق من المال ، فتفطّن لهذا السرّ السري ، وإنما قال : «من ولد إسماعيل» تقريبا للقائل من جنابه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فكأنه قال : كان كمن أعتق كذا من قرابتي ، فكان هذا المقال تقرّبا إلى الله تعالى من جهة العلم ، وتقرّبا إلى الجناب النبوي من جهة العمل ، فطوبى لمن قال صدقا وإخلاصا ، وعمل بما أرشده إليه الشارع رحمة له ورأفة ، والله الهادي ، ورسوله المرشد إلى طريق مستقيم.

٣٢ ـ في حديث مسلم : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قال : لا إله إلا الله» (١) :

لم يقل : محمد رسول الله ؛ لأن الإيمان بالله إنما يتم بالإيمان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبسائر الأنبياء عليهم‌السلام.

دلّ عليه قوله سبحانه وتعالى في سورة النساء :

__________________

(١) رواه مسلم (١ / ٥٣) ، والطبراني في الكبير (٨ / ٣١٨).

١٠٩

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً* أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) [النساء : ١٥٠ ، ١٥١].

فإن المقصود من هذه الآية : إن الإيمان ببعض الأنبياء ، والكفر ببعضهم ؛ كالكفر بالأنبياء كلهم ، والكفر بالأنبياء كفر بالله تعالى ؛ لأن الأنبياء مبلّغون عن الله تعالى ، ومساوون في النبوة والمعجزة ، فمن استهان بهم ؛ فقد استهان بالذي أرسلهم إلى الناس.

ألا ترى أن من أزور واسطة السلطان في عرض الأمور ؛ فقد أزور السلطان ، فلا يغتر المؤمن بالله بإيمانه تعالى مع كفره برسول من رسله ؛ فإنه لا يقبله الله تعالى ، فإن الإيمان أمر أحدي لا يقبل التجزيء والتفرّق.

فالأمر إمّا إيمان ، وإمّا كفر ، كما أن الإيمان بالأولياء أيضا كذلك ، وأعني بالأولياء الكمّل منهم ؛ وهم أعلى المقرّبين ، وأمّا من دونهم ، فقد تختلف كشوفهم وكلماتهم (١) فيعرض المتعرّض لهم ، وذلك لا يقدح في إثبات ولايتهم في نفس الأمر ،

__________________

(١) قال الشيخ ابن ناصر في سبب الاختلافات الواقعة في الكشوف والأذواق :

اعلم أن سبب الاختلافات التي وقعت في الكشوف والأذواق حتى طعنوا فيهم وقالوا : لو كان كشفا صريحا وعلما صحيحا لما وقع الاختلاف بينهم ، فحملوا مسائلهم الكشفية على المسائل النظرية الفكرية التي هي تخطئ وتصيب ، هو عدم الاستشراق على أمهات الحقائق وأصول المقامات ، بل يتكلمون على تفاصيل منتقلين من بعض الفروع إلى بعض آخر ، فلذلك يقع الخلاف بينهم ويرد النقض عليهم ، ويبدوا حكم الحيرة فيهم عند المحاققة ، كما يقع بين المتوسطين وأهل البدايات من أهل الله أصحاب المكاشفات الظاهرة ، الذين تبرز لهم الحقائق والحضرات وغيرهما ، مما لا يدرك إلا كشفا ، ولكن بحكم الطبيعة فإن لها حكما عليهم ما داموا في ربقة الطبيعة ، فتختلف الكشوف باختلاف الطبائع فيخطئ ويصيب ، بل الكشف لا يخطئ أبدا ، فإن المتكلم في مدلوله يخطئ ويصيب كالرؤيا ، فإن كشفه صحيح فما يقع من الغلط إلا في التعبير.

ذكره رضي الله عنه في باب إحدى وثلاثمائة من «الفتوحات» بخلاف المتمكنين من أهل الله رضي الله عنهم في علمهم الموهوب ، وكشفهم التام المطلوب ، يعرفون غاية ما أدرك كل بفكره ، واطّلع بحسبه ونظره ، ويعرفون سبب تخطّيه الناظرين بعضهم بعضا ، وما الذي أدركوه وأصيبوا ما الذي فالذي

١١٠

__________________

ـ فافهم ، ومن أي وجه أصابوا ومن أي وجه أخطأوا ، وهكذا حالهم رضي الله عنهم مع أهل الأذواق والمكاشفين الذين لم يتحققوا بالذوق الجامع ، ويعرفون أيضا حال المتمكنين ، ومن غلب عليهم من الأسماء والأحوال والمقامات ، التي أوجب لهم تعشّقهم وتقيدهم بما هم فيه ، ومن الذي له أهلية الترقّي من ذلك ، ومن ليس له ذلك فيقيّمون رضي الله عنهم أعذار الناس وهم لهم منكرون ، وبمكانكم جاهلون ، وعن مقامهم عمون.

ولهذا التحقق والإشراف لم يقع بين الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسّلام خلاف في الأصول من أحكام الحضرات الأصلية الإلهية ، وإن تفاضلوا في الإطلاع وما نقل من خلاف عنهم صلوات الله عليهم إنما ذلك في جزئيات الأمور والأحكام الفرعية الشرعية ؛ لكونها تابعة لأحوال المكلفين وأزمانهم ، وما تواطئوا عليه ، وما اقتضته مصالحهم فتتعيّن الأحكام الإلهية في كل زمان بواسطة رسول ذلك الزمان ، بما هو الأنفع لأهله ، وأما هم صلوات الله عليهم مما عدا الأحكام المذكورون فمتفقون ، وكل تال يقرر قول من تقدمه ويصدقه ، لاتحاد أصل مآخذهم صلوات الله عليهم أجمعين وصفاء محلهم حال التلقي من الحق سبحانه عن أحكام العلوم المكتسبة ، والعقائد المقيّدة ، والتعلقات الطبيعية ونحو ذلك.

أما ترى قوله تعالى يشير إلى هذا المقام (إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)[آل عمران : ٦٤].

فليس بين القوم بحمد الله خلاف فيما يتحققون به ، بل هم في شغلهم أحقّ وأصح من أهل الحسّ فيما يدركونه بحواسهم ، بل ولا نقول أن الحق مع أحد القولين أو مع إحدى الطائفتين ، بل نقول : إن الحق مع كل طائفة ، وكلهم صادقون في قولهم ولكن باعتبار المواطن والمصارف ، فإن كنت عارفا بالمواطن وعرفت صدق كل من هذا ، وعرفت أن كل مجتهد مصيب ما معناه فقم في كل موطن باستحقاقه تحمدك المواطن ، والمواطن شهد أحق عدل عند الله ، فإنها لا تشهد إلا بصدق فافهم.

فإني أدّيتك الأمانة مع السلامة من البشاعة.

اعلم أنّ الحق سبحانه وتعالى ربط العوالم والموجودات جليلها وحقيرها ، كبيرها وصغيرها بعضها ببعض ، وجعل بعضها مرائي ومظاهر للبعض ، فالعالم السفلي بما فيه مرآة للعالم العلوي ، ومظهر لآثاره ، وكذلك العالم العلوي مرآة تتعيّن فيه أرواح أفعال العالم السفلي تارة وصورها تارة أخرى ، والمجموع تارة أخرى ، وعالم المثال الكلي من حيث تقيده في بعض المراتب ، ومن حيث عموم حكمه وإطلاقه أيضا مرآة لكل فعل وموجود ، ومرتبته وانفراد الحق سبحانه بإظهار كل

١١١

__________________

ـ شيء على حد علمه به لا غير ، وجعل ذلك الإظهار تابعا لأحكام النكاحات الخمس التابعة للحضرات الخمس ، فظهور الموجودات على اختلاف أنواعها وأشخاصها متوقف على سر الجميع النكاحي على اختلاف مراتبه المذكورة ، وأحكامها المشار إليها ، فإن قيل : ما الحضرات الخمس وما بيانها؟.

قلنا : اعلم أن الحضرات الكليّة التي إليها الاستناد والمرجع هي الخمسة التي أولها :

الغيب الإلهي الذي هو معدن الحقائق والمعاني المجردة الإجمالية.

وثانيها : الغيب الإضافي وهو عالم الأرواح المجردة.

وثالثها : عالم المثال يتصور فيها الأرواح كالأشباح.

ورابعها : عالم الشهادة ولها الصور المركبة الطبيعية والبسيطة.

وخامسها : الأمر الجامع وكل موجود لا بد أن يستند إلى أحد هذه المراتب الخمس ، أو يكون مظهر الحكم الجميع كالإنسان الكامل.

ولها باعتبار آخر تفصيل آخر وهو هكذا عيب الغيب ، وهو التعين الأول الإجمالي ، والغيب الثاني هو التعين الثاني حضرة حقائق الأسماء والأعيان الثانية ، والشهادة الإضافية وهي عالم الأرواح والشهادة الحقيقية ، وهي عالم الأشباح وعالم المثال ما بين الشهادتين ، وهي عالم تنزل فيه الأرواح على صورة الأشباح ، وتتروحن الأجسام إليه وتصير أجسادا ، فالأمر الجامع بهذا الاعتبار تصير المرتبة السادسة الجامعة للكل فافهم.

ثم اعلم ثانيا أن أوّل المراتب والاعتبارات العرفانية المحققة لغيب الهويّة هو الاعتبار المسقط لسائر الاعتبارات ، وهو الإطلاق الصرف عن القيد والإطلاق ، وعن الحصر في أمر من الأمور الثبوتية والسلبية كالأسماء والصفات ، وكلما يتصور ويعقل ويفرض بأي وجه تعقل وتصور وفرض فهو غير ذلك ، وليس لهذا المقام لسان فغاية التنبيه عليه هذا ، وأمثاله هذا هو حقيقة الحق التي لا تدرك ولا تعلم ولا يحكم عليها ، لا بسلب ولا بإيجاب ، وتسمى هذه المرتبة مرتبة لا تعين ، وإنما سموها بهذا الاسم لضرورة البيان والتواصل إلى الإفهام ، وإلا فهي منزّهة عن الإحاطة علما وشهودا ووجودا سيّما عن التسمية ، وكيف لا والمسمى مدرك ، وقد قررنا أنها ما تدرك ، فإن قيل فكيف اتّصل علمنا بهذا المشهد الأنزه الغريب والمقام الأنوه العجيب.

قلنا : ذكر صدر الدين القونوي قدس‌سره في شرح الفاتحة إن هذا القدر من المعرفة المتعلقة بهذا الغيب ولا غيب إنما هي معرفة إجمالية حاصلة بالتعريف الإلهي الأجلى الأعلى ، أو بالكشف الأجلى الذي لا واسطة فيه غير نفس التجلي المتعين من هذه الحضرة الغير المتعيّنة ، وكوشف صاحب

١١٢

__________________

ـ الكشف الأوسع الأتم أن كل تعيّن مسبوق بلا تعيّن ، ثم الاستدلال عليه ثانيا بما ظهر منه وامتاز عنه من الأسماء والآثار الوجودية والتجليات النوريّة فإنه أصل كل غيب فافهم.

واستخلص المقصود من الكلام غير متقيّد بالألفاظ وأدوات التوصيل ، فإن المقام ما هو مقام المحاققة فافهم فإذا فهمت هذا فلنرجع ونقول : أول الاعتبار اعتبار علمه نفسه بنفسه ، وكونه هو بنفسه هو فحسب من غير تعقّل تعلق ، أو اعتبار حكم ، أو تعين أمر ثبوتي أو سلبي كان ما كان مما يقبله غيره بوجه من الوجوه ما عدا هذا الاعتبار الواحد المنفي حكمه عن سواه ، وهو مستند الغنى والكمال الوجودي الذاتي والوحدة الحقيقة الصرفة وقوله : «كان الله ولا شيء معه» ونحو ذلك وهو أول ما يصح أن يعلم المسمّي بالتعين الأول ، فعلّم نفسه بنفسه غنى عن العالمين فافهم.

والاعتبار الثاني : شهوده نفسه في مرتبته سواه من غير أن يدرك ذلك الغير نفسه ؛ لقرب نسبته وعهده ممن امتاز عنه ، ولغلبته حكم الغيب المطلق والتجلي الوحداني ، ثم ظهر حكم تعلق الإرادة بنسبتي التفضيل والتدبير ؛ لاتحادي عالم التدوين والتسطير ، وإبراز الكلمات الإلهية التي هي مظاهر نوره وملابس نسب علمه ومرائي أسمائه وتعيناتها في رقّ مسطور.

فكانت ثمرته شهود الظاهر نفسه في مرتبة الغير والسوي الممتاز عنه في الشهادة الأولى المسمّى بها خلقا ، وسوى هذا غاية الخلق وحكمه الإيجاد وهي قوله عزوجل : «أحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف».

وهذا معنى قوله رضي الله عنه في أوّل الكتاب : إن رؤية الشيء نفسه بنفسه ليس مثل رؤية نفسه في أمر آخر يكون كالمرآة ، فشاء أن يخلق الخلق حتى يكون مرآة يرى فيها فافهم.

ونص متم لأمر وحدة الوجود ، والذي هو العين المقصود ، واعلم أيّدك الله وإيّانا بروح منه أن كل ما ظهر في الوجود ، وامتاز من الغيب على اختلاف الظهور ، والامتياز في التحقيق الأتم ، ليس إلا تجلّ واحد يظهر له بحسب القوابل ومراتبها واستعداداتها تعينات ، فيلحقه لذلك التعدد ، والنعوت المختلفة والأسماء والصفات ؛ لأن الأمر في نفسه متعدد ، ووروده طار ومتجدد ، هذا حقيقة معنى مقول القوم لا تكرار في التجلّي.

ذكر الشيخ رضي الله عنه في «الفتوحات» هذه الكلمة عن أبي طالب المكّي قدس‌سره : وإنما التقدم والتأخر وغيرهما من أحوال الممكنات يوهم التجدد والطريان والتقيّد والتغيّر ونحو ذلك كالحال في التعدد ، وإلا فالأمر أجلّ أن ينحصر في إطلاق أو تقييد أو اسم أو صفة أو نقصان أو مزيد ، وهذا التجلّي الأحدي المشار إليه ليس غير النور الوجودي ، ولا يصل من الحق تعالى إلى الممكنات بعد الاتصاف بالوجود ، ولا قبله غير ذلك ، وما سوى ذلك فإنه أحكام الممكنات وآثارها تتصل من

١١٣

__________________

ـ بعضها بالبعض حال الظهور بالتجلي الوجودي الوحداني المذكور ، ولما لم يكن الوجود ذاتيّا لسوى الحق سبحانه ؛ بل مستفاد من تجلّيه اقتضى العالم في بقائه إلى الإمداد الوجودي الأحدي مع الأنات دون فترة ولا انقطاع ؛ إذ لو انقطع الإمداد المذكور طرفة عين لفني العالم دفعة واحدة ، فإن الحكم العدمي أمر لازم للممكن ، والوجود عارض له من موجده فافهم لتفهم سر وحدة الوجود ، وهذا هو الأصل في كل موجود ، فإذا أشرق نور التجلّي الوحداني على القلب الوحداني توحّدت أحكام الأحديات ، واختفت آثار الكثرات فيها ، وشهد أن التجلّي هو التجلّي الذاتي والفيض فيض الأقدس دون المقدس ، وأن ما في العالم سواه ؛ بل هو المتجلى والمتجلّي له ، والتجلّي هذا هو : المعتمد والمعتني والمعوّل عليه وغير هذا الذوق لا تمل إليه ولا تحول لديه فافهم.

واشكر هذه النعم ؛ حيث جعلك الله ممن قرع سمعك أسرار الله المخبوءة في خلقه ، يخص الله بها من يشاء من عباده ، وأثبت لما يلقى.

قال تعالى : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً)[المزمل : ٥].

فتبتّل إلى إصغائه وإذعانه تبتيلا جميلا ، وكن له من القابلين المؤمنين القائلين بها ولا تحرم التصديق بها فتحرم مخيرها ، وتجمع بين الحرمانين عدم الاتصاف وعدم الإيمان والإنصاف.

قال تعالى : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ)[المجادلة ١١].

ورد في الحديث الصحيح : «إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله فإذا نطقوا به لم ينكره إلا أهل الغرة بالله» ذكره الديلمي عن أبي هريرة رضي الله عنه وهو من العلم الذي يكون تحت النطق والبيان فما ظنك بما عندهم مما هو خارج عن حكم الدخول تحت النطق والبيان ، فما كل علم يدخل تحت السيارة وهو علوم الأذواق كلها ، فإذا رأيت فيك شعرة من قابلية قبول كلامهم ، فأبشر فإنك سعيد فإنهم قوم لا يشقى جليسهم فكيف من يجد في نفسه رائحة ذوقهم وبارقة فهم كلامه؟! وما ذلك إلا لمناسبة موجودة ، وأنت ما تدري كما قيل أن المناسبة علة الضم.

قال الشيخ الإمام خواجة عبد الله الأنصاري قدس‌سره : إن أول علامة القبول قبول كلامهم وعدم الإنكار عليهم.

وقال رضي الله عنه في «الفتوحات» : إذا حسن عندك كلامهم وقبلته ، وآمنت به فأبشر فإنك على كشف منه ضرورة ، وأنت لا تدري لا سبيل إلا هذا ؛ إذ لا يثلج الصدور إلا بما يقطع بصحته وليس للعقل هنا مدخل ؛ لأنه ليس من دركه إلا إن أتي بذلك معصوم حينئذ يثلج صدر العاقل ، وأمّا المعصوم فلا يلتذ بكلامه إلا صاحب ذوق.

فلهذا قال سيد الطائفة الجنيد قدس‌سره : «الإيمان بعلمنا ولاية».

١١٤

ومعنى الإيمان بالأولياء : الإقرار بهم ، والانقياد لهم ، ولأحوالهم ، والتسليم لمذاهبهم ومسالكهم.

ولمّا كان القول بكلمة التوحيد لا يكفي في إيمان القائل : أروقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «وكفر بما يعبد من دون الله» (١) : أي أنكره بقلبه ، وصدّق كلمته بالعبادة له تعالى بالإخلاص والإعراض عن المعبودات الباطلة ؛ بل عمّا سوى الله تعالى بالكلية ، فإنه ما من شيء من الأشياء الموجودة الملكية والملكوتية إلا وهو معبود بوجه من الوجوه من حيث إن فيه تجلّي بعض الأسماء الإلهية.

ولذا قال تعالى : (قُلِ اللهُ) : أي لا تتعلّق إلا بالله الذي له جميع الأسماء الجمالية اللطيفة والجلالية القهرية ، فإن الحجاب إمّا حجاب الكون والظلمة ، وإمّا حجاب

__________________

ـ وقال رضي الله عنه في «الفتوحات» في الباب الثالث والسبعين عن أبي يزيد البسطامي قدّس سره أنه قال لأبي موسى الديبلي : يا أبا موسى إذا رأيت من يؤمن بكلام هذه الطائفة ، فقل له : يدعو لك فإنه مجاب الدعوة ، وهو أبو يزيد من أحد النوّاب ، ثم قال رضي الله عنه : وكيف لا والمسلم في بحبوحة الحضرة ، ولكن لا يدري أنه فيها لجهله بها ولا يغرّك أيّها الناظر قول العموم أن كل علم لا يكون عن حال فليس بشيء كما يتخيله الجهّال ، والعوّام فإنه رضي الله عنه ذكر في الفصل الرابع في المنازل من «الفتوحات» : إن الرجولية ليست فيما يتخيله الجهّال من عامة الطريق بطريق الله ، فيتحجّبون بالحال عمّا يقتضيه العلم والمقام يقولون : كل علم لا يكون بالحال ، فليس بشيء فقل له : لا تقل ذلك يا أخي فإنه خلاف الأمر وإنما الصحيح أن تقول : كل علم لا يكون عن ذوق فليس بعلم أهل الله ، فأراك لا تفرّق بين الحال والذوق ، وما تم علم قط إلا عن ذوق لا يكون غير هذا والمتمكّن في العبودية لا حال له البتة مخرجه عن عبوديته ، فلو لم يكن في الأحوال من النقص إلا أن يخرج من مقامه إلى ما لا يستحقه ، وهو لا حق له حتى أنه لو مات في حال الحال لما مات صاحب نقص وحشر صاحب نقص ، فليست الأحوال من مطالب الرجال لكن الأذواق من مطالبهم ، وهي لهم فيها من العلوم بمنزلة الأدلّة لأصحاب النظر فيها انتهى كلامه رضي الله عنه.

فلا يصرفنكم صارف عما تلوته عليكم ولو شاء الله ما فعلته.

قال تعالى : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ)[الكهف : ٢٩].

قال تعالى : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ)[النحل : ٩].

(١) تقدم تخريجه.

١١٥

حجاب الإله والنور ، فكما أن عالم الحدوث يشتمل الحجب العائقة للسالك عن الترقّي إلى عالم الإله ؛ فكذا عالم القدم يشتمل الحجب المانعة له عن الصعود إلى عالم إله الألهة ، فقد يحتجب بالظلمة ، وقد يحتجب بالنور ، فمن توقف في مرتبة من مراتب الكون أو مراتب الإله ؛ كان ناقصا غير واصل إلى أعلى المطالب.

ثم إن هذا الكفر وهو الكفر بما سوى الله تعالى ؛ هو الإيمان الحقيقي دلّ عليه قوله تعالى : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) [البقرة : ٢٥٦] ، وقدّم الكفر بالطاغوت ؛ لأنه من باب التخلية ؛ وهو أساس الإيمان ، فإن الإيمان بالله قبل الكفر بالطاغوت لا يعتدّ به أصلا ، وقول من قال : إن جنة الفردوس للكافر إشارة إلى ما ذكرنا من الكافر الحقيقي ، وهذا الكفر لا يناله إلا الكمّل من أولياء الله ، ولم يكن إيمان مثل إيمانهم.

فيا أصحاب السلوك قوموا إلى منزل المنازل ، ولا تحتجبوا بشيء مما سوى الله ، فإنه عائق الطريق ، ومانع التوفيق ، حرّم ماله ، ودمه ظاهره وباطنه على الخلق ، وعلى النار ، وعلى الأرض ؛ فلا يتعرض له بسوء ؛ بل يتبرّك به ، وبملابسته ولا يحرقه النار ؛ لأنه النور ، ولا تأكله الأرض ؛ لأنه الروح.

وفيه إشارة إلى حرمة الإيمان الذي يحصل بالقرآن ، والقرآن إذ جعل في أهاب ما مسّته النار ، وما في حكمها ، وحسابه على الله : أي حساب سرّه ؛ وهو أن يرزق بغير حساب ، كما هو شأن أهل الجنة المعنوية ؛ إذ هم السلاطين تحت الأطمار ، ولا شك أن السلاطين أغنى الناس.

٣٣ ـ في البخاري : «من قتل معاهدا» (١) :

: أي بعدما قتله سيف الذمة والجزية ، قال : «لم يرح رائحة الجنة» (٢) ، كما لو قتل غير المعاهد ، فإن القتل عند الله عظيم ؛ ولذا كان هو نفسه ديّة من قتل فأعرف.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وإن ريحها» (٣) : أي نسيمها الفاشي.

__________________

(١) رواه البخاري (٣ / ١٥٥٥) ، والبيهقي في الكبرى (٨ / ١٣٣).

(٢) تقدم تخريجه.

(٣) تقدم تخريجه.

١١٦

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «توجد من مسيرة أربعين عاما» (١) ؛ المراد التكثير بالاعتبار الظاهر في لا التحديد ، فإن تجليّات الله تعالى لا حائل لها ، وإنما عدم ظهورها من جانب المحجوبين عن حقائق الحواس ، وقد وقع للأنبياء والأصفياء إنهم كانوا يستشمّون وهم في الأرض روائح الجنان ؛ وهي في أعلى السموات السبع مع ما بينهما ألوف من السنين من جهة المسافات فاعرف هذا ، واتّهم نفسك المحجوبة في عدم الإدراك.

وقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم برهانا من الله تعالى : أي كل جزء من أجزائه الداخلة والخارجة ؛ لما فيه من الخوارق الخارجة عن غيره.

وفي الحديث : إشارة إلى أن النفس إذا أسلمت ، وأصلحت حالها بما تعطيه من الطاعة والانقياد ، وكالذّمي فلا تقتل مرة أخرى بإفنائها بالمرة ، والألم يرح صاحبها ، وريح الجنة المعنوية التي هي جنة القلب ، فإن استشمام ريحتها إنما هو مع بقاء النفس في الجملة : أي بأصلها وذاتها لا بفرعها وصفاتها.

وريح هذه الجنة المغبوطة عند أهل التذكية توجد من مسيرة أربعين عاما ؛ لأنه لا يحصل كمال التزكية إلا في أربعين عاما من أدلّ السلوك ؛ بل من ابتداء الكشف ، والدخول في حضرات الأسماء ؛ بمعاينة حقائقها ، ومشاهدة ملكوتها ، فإذا تمّت الأربعون ؛ فالرفق بالنفس ؛ لأنها المطيّة أبدا ، فمن أراد الإنسلاخ الكلي ؛ فالذوق لا يوجد في الفناء الكلي ، ومنه الاستشمام بكذا ذاقوا ، واستشموا في الكشّاف.

٣٤ ـ في آخر سورة البقرة : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنزل الله آيتين هما : قوله عزوجل : (آمَنَ الرَّسُولُ) [البقرة : ٢٨٥] إلى آخر السورة» (٢) ، وأنزلهما ليلة المعراج بلا واسطة الملك.

وكل وحيّ يعتبر فيه النزول من العلو على الوجه العام إلا هاتان الآيتان ونحوهما ؛ فإن نزولهما وإن كان يعتبر فيه العلو المعنوي ؛ لكنه من الوجه الخاص لا من الوجه العام ؛ والمراد بالوجه الخاص ما لم يكن بواسطة الملك ، كما أن الوجه العام هو ما كان بوساطته.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) رواه الترمذي (٥ / ٢٢١).

١١٧

وكل وجه عام يستلزم الوجه الخاص دون العكس ؛ ومعناه أن ما نزل به الملك ؛ فهو حاصل في قلبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقت نزوله ؛ لأن علم الإنسان ليس بخارج من ذاته ، وإنما ظهوره على التدريج ، فالقلب حقيقة اللوح فما ينزل من اللوح فهو صورة ما في القلب ، وإنما نزل الملك تشريفا للمنزّل عليه على ما هو عادة الملوك في الدنيا.

وأسند الإنزال إلى الاسم الجامع لما أنه مما يقتضيه الألوهية كما يعرف من محصول الآيتين من كنوز الجنة : أي من خزانات العالم العلوي بين العرش والكرسي ؛ فكانتا من مكنونات الغيب التي لا يمسها العقول والعلوم.

وفيه إشارة إلى أنهما من نفائس الآيات القرآنية ، وجوامعها ؛ كالأموال النفيسة المدّخرة لوقت الحاجة ، وإلى أن لكل علم مخزنا من مخازن الملكوت خزانة الله تعالى فيه إلى أن يظهر قابله في الأرض ، وإلى أن جميع العلوم الإلهية مما يتنافس فيه المتنافسون ، وإن اختلفت طباقاتها وطبقاتهم ، إذ ليس كل قابل يقبل جميع العلوم ؛ وإنما يقبله من هو أكمل استعدادا من غيره ، وربما يدّعي إن المراد بالجنة الغيب ؛ لأن الاجتنان الاستتار.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كتبهما الرحمن بيده» (١) : أي قدر كتابتهما بيده الجمالية ؛ لأنهما من الآيات الجمالية ، وأسند الكتب إلى الاسم الرحمن ؛ لأنهما من الرحمة العامة للمؤمنين.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قبل أين يخلق الخلق بألفي سنة» (٢) ؛ المراد بالخلق العرش وما يحويه ، وبالألفين اليومان ؛ لأن كل يوم عن الله تعالى كألف سنة ، فظاهره يوم ممدود مفصّل ، وباطنه يوم مقصور أتى كلمح بالبصر.

فإن أفعال الله تعالى لا تتوقف على الأمور العادية والأسباب ، فالتأنّي من قبيل التعليم والإرشاد على ما يقتضيه عالم الصفات ، وأشير باليومين إلى يومين : القلم واللوح ، فإن كلّا منهما وضع إلهي قد اعتبر فيه تلك المدة ونظيره خلق الأرزاق قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة ، فإن الكرسي متنزّل المقدرات ، وفوقه العرش ، وفوقه

__________________

(١) رواه ابن عدي في الكامل (٧ / ٨٤) ، وذكره الجرجاني في تاريخ جرجان (١ / ٢٦٥).

(٢) تقدم تخريجه.

١١٨

اللوح ، وفوقه القلم ، وكما أن الله تعالى كتب الآيتين بيده : أي بلا توسّط قلم وملك ، فكذا أنزلهما على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلا توسّط شيء أيّا كان.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأهما بعد العشاء الآخرة ؛ أجزاتاه عن قيام الليل» (١) ؛ لأن نزولهما كان في الليل ؛ فكان من فوائدهما الإجزاء المذكور ، وأشار بالعشاء الآخرة إلى الفرق الثاني الذي يحصل بعد شهود الحق بلا خلق ؛ وهو المقبول من الفريقين ؛ لأن الفريق الأول ؛ وهو شهود الخلق يلاحق من قبيل الحجاب ، كما أن العشاء الأولى ؛ وهي المغرب من قبيل النهار ، والليل ظاهره الظلمة ، وباطنه النور ، كما أن النهار بالعكس.

فمن قرأهما قراءة سرية بعد الفرق الثاني ، وتحقق بحقائقهما ، ووصل إلى ملكوتهما ؛ كفتاه عن قيام الليل ؛ لأن نوم العارف عبادة ، ونفسه تسبيح ، وحاله مناجاة ، ووقته كليلة الإسراء ، والله مشهود له على كل حال.

٣٥ ـ في المتفق بين البخاري ومسلم : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كانت له أرض ينتفع بها ؛ فليزرعها لينتفع بها» أي : نفسه ، ومن يتعلّق به ـ أو ليمنحها أخاه» (٢) :

أي : ليعطها أخاه المؤمن إمّا بالهبة ، أو بالإجارة ، أو بالعارية.

قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لينتفع بها» هو ومن يتصل به ، «فإن أبى» : أي صاحب الأرض.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من الزرع والمنحة» ولم يكن له نصيب من الاسم النافع المعطي الجوّاد ـ فليمسك أرضه».

وفيه توبيخ له ، وتنبيه على أنه صار بخيل ممسك خسيس ؛ لأن إمساكه إنما وقع على الأرض الخسيسة السفلية ، فكان من شأنه أن يرفع له عمل عال إلى السماء من الأرض ؛ لكنه من حيث الخضار لنفسه ، وضيقها الجنس في الأرض الضيقة ؛ فكان سفليا ؛ كالأرض.

وفيه إشارة إلى حال السالك ، فإنه ينبغي له أن يزرع أرض وجوده ، وتراب نفسه بما يمكن له من الأعمال الصالحة الشرعية ، ويسقيه بماء الصدق والخلوص ؛

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) رواه البخاري (٢ / ٨٢٥) ، ومسلم (٣ / ١١٧٦).

١١٩

لينتفع بها يوم لا ينفع مال من الصفات ، ولا بنون من القوى ، فإن لم يكن له معرفة بكيفية الإصلاح والزرع ، ولم يقدر على ذلك ؛ فليسلّم نفسه إلى من يقدر عليه من أرباب الإرشاد ، فإنه يعرف كيفية الزرع من جهة أعمال الشريعة ، ومن جهة أحوال الطريقة إلى أن ينبت نباتا حسنا بإذن الله تعالى ، كما قال تعالى : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) [الأعراف : ٥٨].

وذلك أن أكثر السّلّاك قاصرون عن الاستفادة الروحانية ، أو السرية من غير توسّط واسطة ، وأعني بالاستفادة الروحانية : أن يأخذ بالروح من روح بقدر الطاقة ، وبالسرية : أن يأخذ بالسر من الله تعالى.

فالاستفادة الأولى بلا واسطة جسم من الأجسام وهو نادر ، والثانية بلا واسطة روح من الأرواح ، وهو أندر ، وعليه أويس القرني رحمه‌الله ، ومن يتصل به في ذلك ونظيره في القرن الموسوي برخ الأسود ؛ فإنه مثل أويس في هذه الأمة.

ويقال : لا مثال له الذاتيون ، ولغيرهم الصفاتيون ، ولكل منهم مشرب مخصوص ، وما يقال : من أن أويسا ، وبرخ الأسود كانا يأخذان من الأرواح بالقلوب ، والأرواح بلا واسطة صحبه جسمانية ، ومكالمة لسانية ، فليس بمسلم عند كمّل أرباب الحقائق ، فانحصر السلوك في ثلاثة الأخذ بواسطة صحبة جسمانية ، كما هو الغالب ، والأخذ بواسطة صحبة روحانية كما هو النادر ، والأخذ بلا واسطة شيء من روحاني وجسماني وهو الأندر.

ففي قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فليزرعها) : إشارة إلى القسم الثالث كما كان حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ حيث كان يجتهد في جبل حراء إلى أن فاجأه الوحي والفيض.

وفي قوله : (أو ليمنحها) : إشارة إلى القسم الأول ، وفي التعبير عن الواسطة الجسمانية بالأخوة إشارة إلى حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع المؤمنين الذي جاءوا بعده حيث عدّهم من إخوانه ، كما عدّ معاصريه من أصحابه ، وذلك أن المرشد إنما يأخذ في الحقيقة من مشكاة النبوة شريعة وحقيقة ، فكما أن النبي أخو ذلك المرشد من حيث خلافته بعده ؛ فكذا هو أخو من هو في تربية ذلك المرشد على أن الأخوة الدينية لا

١٢٠