مرآة الحقائق - ج ١

إسماعيل حقّي البرسوي

مرآة الحقائق - ج ١

المؤلف:

إسماعيل حقّي البرسوي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
977-344-218-7

الصفحات: ٤٣٦
الجزء ١ الجزء ٢

مقام الإحسان والشهود ، وفيه وعد للمؤمنين المكاشفين بأن لهم من الله الأجر الأخروي في التوجه الصوري ؛ لأنه من عمل البدن ؛ فله الجنة ونعيمها ، وبأن لهم منه تعالى النور في التوجه المعنوي ؛ لأنه من عمل الروح والسر ؛ فله الجنة في الجنة ونعيمها ؛ وهو كشف الحجاب عن وجهه فعلا وصفة وذاتا ، وإراءته لهم الحقائق ، والملكوت على ما هي عليها.

نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من الواصلين إلى العين دون القائمين عند الأثر ، والواقفين عند الباب.

وفيه : إن الغافل عن المرتبتين ، والتوجه اللائق بكل منهما محجوب عن الحق تعالى صورة ، ومعنى جميعا ؛ وهو تارك الصلاة الشرعية ، والغافل عن المرتبة الحقيقية محجوب عنه تعالى معنى ؛ فهو إنسان في صورة الحيوان ؛ لأنه له نعيما جسمانيا بحسب روحه الحيواني ، وليس النعيم الروحاني بحسب روحه الإضافي.

والروح الحيواني بالنسبة إلى الروح الإنساني (١) كالظل بالنسبة إلى ذي الظل ،

__________________

(١) قال سيدنا القونوي : قاعدة كلية تتضمن التعريف بكيفية تدبير الأرواح الأجساد وصورة الارتباط بين كل منها مع الآخر :

اعلم أن الارتباط الذي بين الروح الحيواني ، وبين المزاج الطبيعيّ الإنساني ثابت بالمناسبة ، كما أن الارتباط بين النفس الناطقة وبين الروح الحيواني إنما صح وثبت أيضا بالمناسبة ، ولو لا ذلك ما تأتي للنفس تدبير المزاج البدني لما بينهما من المباينة من جهة بساطة النفس ، وتركيب البدن ، وفرط كثرة أجزائه ، واختلاف حقائق ما تألّف منه.

فالبخار الذي في تجويف القلب ، وإن كان جسما فإنه ألطف أجزاء بدن الإنسان وأقربها نسبة إلى الأجسام البسيطة ؛ وهو كالمرأة للروح الحيواني.

والروح الحيواني : من حيث اشتماله بالذات على القوى الكثيرة المختلفة المنبثّة في أقطار البدن ، والمتصرفة بأفانين الأفعال والآثار المتباينة تناسب المزاج البدني المتحصّل من العناصر ، وما يتبعه من الخواص المعدنية والنباتية والحيوانية ، ومن حيث أنه قوة بسيطة متعلقة غير محسوسة مجعولة في ذلك البخار القلبي الذي قلنا أنه كالمرآة له تناسب النفس الناطقة ؛ وإنه أيضا كالمرآة لها : أي للنفس.

ونسبة النفس الجزئية الإنسانية إلى النفس الكلية ، نسبة الروح الحيوانية إليها من جهة الافتقار إلى المادة ، والتقيّد بها وملابسة الكثرة ، ومن جهات غير هذه المذكورة كخواص إمكانات الوسائط من الأفلاك والنفوس والعقول والشئون المعبر عنها بالأسماء.

ونسبة النفس الكلية إلى القلم الأعلى المسمّى بالعقل الأول ، والروح الكلي ؛ نسبة النفس الجزئية إلى النفس الكلية ، ونسبة الروح الكلي المشار إليه إلى جناب الحق سبحانه نسبة النفس الكلية إليه ؛ بل أقل

٤١

__________________

ـ وأضعف هذا وإن كان هذا الروح الكلي الذي هو القلم أشرف الممكنات ، وأقربها نسبة إلى الحق ، وأنه حامل الصفات الربانية ، والظاهر بها علما وعملا وحالا.

فالسير ، والسلوك ، والتوجه بالرياضة ، والمجاهدة ، والعلم ، والعمل ؛ المحققين المتأصّلين بأصول الشرائع والتعريفات الربّانية يثمر بعناية الله ومشيئته انصباغ القوى المزاجية بوصف الروح الحيواني في الجمع بين خاصية البساطة والتجريد ، وبين التصرّفات المختلفة بالقوى المتعددة في فنون الأفعال ، والتصريفات الظاهرة في بدن الإنسان بالقوى والآلات.

والروح الحيواني كماله الأول انصباغه بأوصاف النفس الناطقة ، والنفس الناطقة الجزئية كمالها الأول تحقّقها بوصف خازن الفلك الأول المسمّى في الشرائع ب «اسماعيل» ؛ وعند أهل النظر بالفعال ، وكمالها المتوسط ظهورها ، وتحققها بوصف النفس الكلية ، واكتساب أحكامها على وجه يوجب لها التعدي منها إلى المرتبة العقلية والروح الكلي.

ثم الاتصال بجناب الحق والاستهلاك فيه بغلبة حكم الحقية على الخلقية ، وزوال الخواص الإمكانية والتقييدية بأحكام الوجوب ، وبقهر حكم الحق الواحد القهار كل حكم ، ووصف كان يضاف إلى سواه ، وهذا القهر يرد على كل ما امتاز من مطلق الغيب الكليّ الربانيّ ، وتلتبس بواسطة الأحوال الإيجادية بأحكام الإمكان والتقييدات الكونية المتحصّلة من الشروط الوسائط.

فيستهلك الجزء في كله ، ويعود الفرع إلى أصله ، مستصحبا خوص ما مرّ عليه واستقر فيه مدة ، ووصل إليه ؛ كماء الورد كان أصله ماء فسرى في مراتب التركيب والمواد ، واكتسب بسرايته ما صحبه بعد مفارقة التركيب من طعم ، ورائحة ، وخواص آخر ، ولا يقدح شيء منها في وحدته وبساطته.

وإذا عرفت هذا ، فاعلم أنه يتحصّل بين كيفيات المزاج الإنساني وبين ما يكون قلب الإنسان وذهنه مغمورا به من المقاصد والتوجهات وغيرهما كانت ما كانت ، وبين ما ارتسم أيضا في نفسه من العلوم ، والعقائد ، والأوصاف ، والأخلاق في كل وقت ؛ هيئة اجتماعية. تلك الهيئة مع ما ذكرناه أولا في القاعدة بالنسبة إلى جانب الحق من جهة عدم الوسائط ، وبالنسبة إلى سلسلة الحكمة والترتيب ، وما أودع سبحانه من القوى ، والخواص ، والأوامر ، والأسرار في السماوات العلا وما فيها من الكواكب والأملاك ، وما يتكيّف به من الأوصاف والتشكّلات ؛ كالمرآة يتعين فيها من تجلّى الحق ، وشأنه الذاتي ، وأمره الترتيبي الحكمي العلوي ، وما يتبعه جميع التصورات والتصرفات الإنسانية وما ينضاف إلى الحق من الأسماء والصفات والشئون والآثار.

فمنها : أي من الأمور المتعينة المشار إليها : ما هي دائمة الحكم ثابتة الأثر.

ومنها : ما يقبل الزوال ؛ لكن ببطء.

ومنها : سريعة الزوال والتبدّل من حال إلى حال.

ومنها : ما نسبته إلى الحق أقوى وأخلص.

ومنها : ما نسبته إلى الكون أو الإنسان جمعا وفرادى من حيث ظاهر المدارك غالبا أحق وأنسب.

٤٢

__________________

ـ ومنها : ما يفيد معرفة الاشتراك بين الحق وما سواه من إنسان وغيره.

ومنها : ما يقضي بالاشتراك بين الحقّ والإنسان فقط.

ولست أعني بالإنسان هنا نوع الإنسان ؛ بل يعنى به الإنسان الحقيقي الذي هو بالفعل إنسان كامل الذي من جملة مناضبه مقام النيابة عن الحقّ ، وكونه واسطة بين الحق وما سواه في وصول ما يصل من الحق إلى الخلق في عصره ، هكذا كل كامل في كل عصر.

وهذا المشهد لما أريته عرفت منه سرّ التجدّد بالأمثال ، وبالأضداد ، والمتخالفات ، وأعني بالتجدد تجدّد وجود الكون ، والخواطر ، والتصورات ونتائجها في كل زمان ، وظهور الخلق الجديد الذي الناس منه في لبس كما أخبر تعالى. وقوله الحق : (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ)[ق : ١٥]

ورأيت تعين الوجود المطلق بصور الأحوال ؛ وهي ذات وجهين ، فكلها إلهية من وجه ، وكونية من وجه ، وصادق على الجهتين باعتبار آخر.

ورأيت تعين الأسماء ، والصفات الإلهية والكونية بحسب تلك الأحوال.

ورأيت كيف ينتج بعض الأفعال ، والعقائد ، والأحوال الإنسانية سخط الحق ورضاه ، وأحكامه وتعدد أثره الوحداني مع عدم تغير أمر في ذلك الجناب الأقدس ؛ بل رأيت بعض الأفعال والتصورات العلمية والاعتقادية من الإنسان ، إذا اقترن بحال مخصوص من أحواله ؛ استجلب بحكم علم الله السابق فيه ، وتقديره اللاحق ؛ تعينا جديدا من مطلق غيب الحق يظهر بحسب تلك الهيئة الاجتماعية المتحصلة كما قلنا من التصورات العلمية الروحانية ، أو الاعتقادية الذهنية الظنية ، والكيفيات المزاجية ، والنقوش والتعشّقات النفسية ، والأوصاف والأخلاق الشريفة والدنيئة.

فإن كان أثر ذلك الأمر الظاهر التعين شيئا موافقا لما سبق به التعريف الإلهيّ بلسان الشريعة ، وما تدرك العقول ، والفطر السليمة وجه الملائمة والحسن فيه ؛ أضيف إلى الحق ؛ بمعنى أن ذلك أثر رضاه ورحمته ، وإن كان الأمر بالعكس أضيف إلى الحق بمعنى أنه أثر غضبه وقهره ، سلمنا الله منهما.

وإن كان الغالب على مزاج تلك الهيئة المتحصلة من اجتماع ما ذكرنا ؛ حكم حال الإنسان ؛ أعني : الحال الجزئي الحاكم عليه ؛ إذ ذاك كان ذلك السخط أو الرضاء أو الحكم الإلهي المتعين في الإنسان بحسب حاله الحاضرة ؛ قابلا لزوال بسرعة ، وكان قصير المدة.

وإن كان الغالب على الشخص ، والجالب ما ذكرنا حكم العقائد ، والعلوم الراسخة ، والأوصاف والأخلاق الذاتية الجبلية ، والمكتسبة الثابتة ؛ ثبت الأثر والحكم أو تماديا المدد الطويلة شرّا كان أو خيرا.

وكذلك إن كان الغالب فيما ذكرنا من الإنسان حكم صورة مزاجه ، وقواه البدنية الطبيعية ، والأوصاف والأحوال اللازمة للبدن وقواه ؛ انقضى الحكم بمفارقة هذه النشأة العنصرية.

وإن كانت الغلبة للأمور الباطنية النفسانية ، وما بعدت نسبته من عالم الشهادة ؛ بقي الأثر ، والحكم مصاحبين إلى حين ما يشاء الله.

وإن كان الغالب فيما ذكرنا الأمور الذهنية الخيالية الظنية ؛ تمادى الحكم في النشأة البرزخية أيضا حتى

٤٣

__________________

ـ يشاهد ما قدّر له أن يشاهده ممّا كان يتصوّره على خلاف ما كان عليه ، وإليه الإشارة بقول الله تبارك تعالى : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)[الزمر : ٤٧] وحتى تظهر غلبة أحكام الروح ، وعلمه ، وحكم صحبة الحق بالمعية الذاتية ، وسره على حكم المزاج ، وتخيلات صاحبه التخيلات الغير المطابقة لما عليه المتصور.

وإليه الإشارة بقوله تعالى : (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)[يونس : ٣٠].

ثم اعلم أن كل نشأة ينتقل الإنسان إليها بعد الموت ، فإنها متولدة عن هذه النشأة العنصرية ، وإن في ضمن هذه النشأة ما يدوم ويبقى ، وإن تتنوع ظهوره ، واختلفت كيفياته ، وتراكيبه ؛ وفيه ما يفنى بالموت ، وفيه ما يصحب الروح في البرزخ من الفاسدة والتصورات الرديئة ، والمقاصد القبيحة المستحضرة ، والباقي من لوازم ما ذكرنا من صور الأفعال ، والأقوال الإنسانية بموجب القصد والاستحضار المذكورين.

وأما النشأة الحشرية فإنها باطن هذا الظاهر فيبطن هناك ما ظهر الآن ، ويظهر ما بطن على وجه جامع بين جميع أحكام ما بطن الآن ، وظهر وما نتج من هذا البطون والظهور ، والجمع والتركيب.

ثم عند الصراط يفارق السعداء ما يبقى فيهم من خواص هذا المزاج ، والدار مما هو عنصريّ غير طبيعيّ ، وتبقى معهم أرواح قوى هذه النشأة وجواهرها الأصلية المتركّبة بالتركيب الأبدي الطبيعي الغير العنصري ، وصورة الجمع والتأليف الغيبي الأزلي.

وأهل الشقاء ينفصل عنهم ما قد كان يبقى فيهم من أرواح القوى الإنسانية والصفات الروحانية ، وتتوفّر في نشأتهم صور الأحوال المزاجية الانحرافية والصفات الرديئة والكيفيات المردئة الحاصلة في تصوّراتهم وأذهانهم ، والتي ترتبت عليها أفعالهم في الدار الدنيا وأقوالهم.

وينضم إلى صورهم ما تحلّل من أجزائهم البدنية في هذه النشأة ، فإن كل ما تحلّل من أبدانهم يعاد إليهم ، ويجمع لديهم بصورة ما فارقهم عقلا ، وعلما ، وحالا ، وعملا ، وما يقتضيه ذلك الجمع والتركيب الذي يغلب عليه حكم الصورة على الروحانية.

وأهل الجنة بالعكس ، فإن أكثر قواهم المزاجية ، والصفات الطبيعية ، وما تحلّل من أبدانهم ينقلب بوجه غريب شبيه بالاستحالة صورا روحانية مع بقاء حقيقة الجسم في باطن صورة السعداء ، فالباطن هنا مطلق ، والظاهر مقيّد ، والأمر هناك بالعكس ؛ حكم الإطلاق في ظاهر النشأة الجنانية ، وحكم التقييد في باطنها ؛ وغالب الحكم والأثر فيما ظهر هناك لما بطن هنا وبالعكس.

والنشآت المشار إليها هنا أربعة :

أولها : هذه «النشأة العنصرية» : وهي كالبذرة لباقي النشآت ؛ ولها الإدماج والجمع الأكبر.

وبعدها : «نشأة البرزخ» : وإنها منتشئة من بعض صور أحوال الخلق ، وبعض أعمالهم ، وظنونهم ، وتصوراتهم ، وأخلاقهم ، وصفاتهم ، فيجتمع مما ذكرنا أمور تحصل لها هيئة مخصوصة ؛ كالأمر في المزاج

٤٤

فحق النعيم إنما هو لذي الظل ، الا فذوقوا من هذا المذاق حتى لا تجدوا الحسرة يوم التلاقي ، والله الخلّاق والرزّاق.

وقال الله سبحانه : (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة : ٢٠٩].

اعلم أن الزّلل ؛ إمّا زلل في الشريعة ، وإمّا زلل في الطريقة.

__________________

ـ المتحصّل من اجتماع الأجزاء التي منها تركّب ذلك المزاج كان ما كان ، فتقتضي تلك الهيئة ظهور النفس في الصورة المتحصلة من تلك الهيئة ، وذلك الاجتماع ، وصفة الصورة بحسب نسبة الصفة الغالبة على الإنسان حين مفارقة هذه النشأة.

فيظهر بعضهم في البرزخ ؛ بل وبرهة من زمان الحشر في صورة أسد وذيخ وطير ؛ كما ورد في الشرّ ، وشهد بصحته الكشف والتعريف الإلهي ، وليس بالمسخ والتناسخ المستنكر ، فإن القائلين بذلك زاعمون أنه في الدنيا ، وهذا إنما هو في البرازخ بعد الموت ، فافهم.

ومن غلبت عليه الأحكام الروحانية وإفراط إعراضه عن هذه الدار وهذه النشأة ؛ كالشهداء المقبلين في سبيل الله للجهاد بطيب قلب ، وصحة إيمان ؛ تظهر نفوسهم في صور طيور روحانية ؛ كما أخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ أرواح الشّهداء في حواصل طير خضر تعلّق من ثمر الجنّة تأوي إلى قناديل تحت العرش».

وورد في المعنى في الحديث الصحيح :

إن في غزوة أحد قال بعض الصحابة لبعضهم معاتبا له : «أتقعد عن جنة عرضها السّماوات والأرض ، والله إني لأجد ريحها دون أحد».

وهذا من بكرة نور الإيمان ، وفرط استفراغ الهمّة حال التوجّه مع الإعراض التام عن هذه النشأة وهذه الدار ، واستشهد صاحب هذا القول يومه ذلك رضي الله عنه.

والمتوسطون من الأولياء المفرطين في الانقطاع عن الخلق والمجاهدات البدنية أيضا كذلك ، وأما الكمّل فإنهم لا ينحرفون إلى طرف من الوسائط ، بل يوفون كل مرتبة حقها ؛ فمنهم تامّون في عالم الطبيعة ، وتامّون في الحضرات الروحية ؛ كربّهم سبحانه الذي أعطى كلّ شيء خلقه ، فلا تغلب عليهم الطبيعة ولا الروحانية.

ومن سواهم ؛ إمّا : «مغلوب الروحانية ، مستهلك الطبيعة».

وإما : «مغلوب الطبيعة المستهلك قواه الروحانية في عرصة طبيعته» ؛ كما هو حال جمهور الناس.

و «الكمّل المقرّبون في حاق الوسط» ؛ برازخ بين الطبائع والأرواح ؛ بل بين المرتبة الإلهية والكونية ، فافهم. وأما الباقيان من النشآت : فأحدهما : «النشأة الحشرية».

وثانيهما : «النشأة الاستقرارية في إحدى الدارين».

وانظر : النفحات الإلهية (ص ٩٣) بتحقيقنا.

٤٥

وكذا البينات : أي الشواهد والحجج.

فزلل الشريعة : وجود المنكرات والمعاصي ، فإن وقع ذلك من بعد ما جاء الأوامر والنواهي ؛ فإن الله ينتقم منه بالعذاب الجسماني الصوري ، إمّا في الدنيا ، وإمّا في الآخرة ، وإمّا في كلتيهما ؛ لأن ما وقع في الدنيا فإنما هو في مقدمات ما سيقع في الآخرة ، ومبادئها لا نتائجه وحقائقه.

وزلل الطريقة : وجود الكسل ، والفتور ، وعدم الرياضات والمجاهدات ، فإن وقع ذلك من بعد ما جاء الإشارات ، والدّلالات ؛ فإن الله ينتقم منه بالعذاب الروحاني هو الحسرة والحرقة الباطنة التي تفوق الاحتراق بالنار الصورية ؛ لأن الروح لطيف ، والجسم كثيف ، فقد لا يتحمّل اللطيف ما يتحمّله الكثيف.

ولذا اشتدّ الموت الطبيعي على الأنبياء والأولياء على تقدير بقائهم بالبشرية في تلك الحال ، فلا بد من الامتثال للأمر الإلهي على ألسنة أولي الأمر من العلماء ، والمشايخ ؛ حذرا عن الوقوع في ورطة الانتقام على أن القيام بالشرائع يورّث المعارف ؛ لأن من عمل بما علم ؛ ورّثه الله علم ما لم يعلم ، فمن تركه ؛ عوقب بالحرمان عن المعارف الإلهية التي هي الجنة المعنوية.

وإن القيام بالطرائق يورّث الحقائق ؛ لأن المجاهدات تورّث المشاهدات ، فمن لا شريعة له ؛ لا معرفة له ، ومن لا طريقة له ؛ لا حقيقة له ، فلكل منزل طريق ، ولكل طريق سالك ، فمن مشى على طريقه ؛ وصل إلى مراده بإعانة الله تعالى وتوفيقه ، فظهر أن الآية خطاب إلى كلا الفريقين عبارة وإشارة ، وقد يحصل إلهام من الله في أمر من الأمور بدل فعله ، أو تركه ، ويحصل له شواهد أيضا.

فذلك الإلهام يجب أن يعمل به ؛ لأنه إلهام ربّاني وإلقاء رحماني ، وإن لم يحصل له شواهد ؛ فذلك مما يترك ، ولا يعمل به ؛ لأنه خاطرة نفسانية ، ووسوسة شيطانية ، وعلى هذا أجرى أهل الله تعالى في كل عصر ، ومصر يعني : عملوا بما أمروا به ؛ إذ ليس للشيطان عليهم سبيل ، ولا للنفس الأمّارة عليهم استيلاء سواء كان المأمور به الهجرة من دار إلى دار ، أو غير ذلك من الأمور الشاقّة على غيرهم.

فإن غيرهم يلعبون بنفوسهم وطبائعهم ، فلهم الاستئناس بالأمور البشرية

٤٦

الحسّية ، ولهم التعلّق بالأشياء الفانية الصورية ، وذلك الاستئناس والتعلّق يمنعهم عن التجرّد والتبتّل ؛ فهو الذي يقال له : الحجاب.

ولعلماء الرسوم حظ وافر من ذلك ، فإنهم إذا تقلّدوا مدرسة في بلدة ، أو نالوا غيرها من الحظوظ العاجلة ورأوا أنهم مفحمون في عيون الناس ، ولهم أحباب وطلبة يتردّدون إليهم صباحا ومساء ؛ فهم أعلق بتلك البلدة من علاقة العلقة ببدن الإنسان أو الحيوان ، فلا طريق لهم إلى الحق إلا عند الموت ، وذلك من جهة الجبر لا من طريق الاختيار ، عصمنا الله وإياكم من التعلّقات الموجبة للانتقام ، وشرّفنا بالقيام بالحق في كل مقام.

وورد أيضا قوله : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [البقرة : ١٤٩].

يعنى : توجه بقلبك ، وقالبك إلى جهة القبلة ؛ وهي الشام ، فقمة رضاء الله تعالى ، ثم دفع الإذن الصريح من جهة الشيخ أيضا ، ولله الحمد على نعمه الجليلة ظاهرا وباطنا ، فالنعمة الظاهرة وقوع الاتفاق بين أرواح الكمّل للإذن بالهجرة ، والنعمة الباطنة صدور الإذن من الله تعالى بخصوصه.

ووقع ذلك في أواسط السنة التاسعة والعشرين بعد المائة وألف ، فوقوعه في الأواسط يدلّ على أن خير الأمور أوسطها ، وأن لا خير إلا في الوسط ، والتسع إشارة إلى الإذن جاء من فوق الأفلاك التسعة ، ورمز إلى قوله تعالى : (طه* ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) [طه : ١ ، ٢].

والعشرون : إشارة إلى العشرة المتوسطة ، فإنه تعالى ، وكذا حضرة الشيخ في عالم المعنى قال لي : عشر في الدنيا ، وفي الشام عيشا وسط فإنه خير لك ، وأمّا المائة والألف فتلويح إلى حصول الإمداد من الأسماء خصوصا وعموما ، فخصوصها : المائة فإن التسعة والتسعين مع الأحدية مائة ، وعمومها : الألف ، وليس فوقها إلا المكرر.

وفيه إشارة إلى أن في هذه السنة المباركة إذنا من الله تعالى ، ودعوة ، وفتحا من جانب جنابه ونصره ، فالوقت طيب ، والروح صاف ، والعلم باق ، والفيض جار ، والله معي ، وهو حاضري وشاهدي.

٤٧

قال الله تعالى : (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) [البقرة : ٢٤٥] ، قدّم القبض لأنه أكثر (١) ، كما في قوله تعالى : (فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) [التغابن : ٢] ، وهو قد يكون قبض المال كما في ظواهر العامة ، وقد يكون قبض الحال كما في بواطن الخاصة ، وقبض المال للحماية الإلهية ، كما قال تعالى : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) [الشورى : ٢٧] ، وقبض الحال لتشديد المحنة ، وتميز الممكور من غيره ، وتحقيق الشكر إذا ظهر المزيد ، وتهيئة الاستعداد البسط ، وقس على هذا البسط (٢).

ومنه يعلم أن كمال الإنسان تدريجي ، لا يحصل في الأوقات القليلة ، دلّ عليه أنه تعالى حمّر طينة آدم ، وكمّلها أربعين سنة ، كل يوم من السنة ألف سنة على ما

__________________

(١) القبض : اعلم أن الزمان في مقام القبض لا يصلح إلا للحال ، أو لا تعلق له بالماضي ، والمستقبل ، والنفس إنما تتعلق بالماضي تأسفا ، وبالمستقبل خوفا وحذرا.

قال قدس‌سره : «القبض في الحقيقة تجلي الحق لكل معتقد في صورة اعتقاد» فصار الحق كأنه محصور ، ومقبوض عليه بالاعتقادات ، وهي العلامة التي بين الله تعالى ، وبين عباده العامة ، ولا بد له في كونه إلها يتصف بهذه الصفة ، والعالم متباين الاستعداد ، ولا بد من الاستناد إليه ، فلا يزال يعبد كل جزء إلهه من حيث استعداده فلا بد أن يتجلى له كل شيء بحسب اقتصار استعداده ، ويقع منه القبول ، فما من شيء إلا وهو يسبح بحمده.

وقيل : «وارد يرد على القلب من الغيب توجيه إشارة إلى عتاب وزجر ، وتأديب ، حين يقع السالك في الهفوات الموجبة للتقاعد والفترة».

وقيل : «أخذ وارد الوقت بغشيان أثر الكون على القلب ، وانطباع صوره فيه».

(٢) البسط : هو عندنا من يسع الأشياء ، ولا يسعه شيء إن واسع المغفرة ما ستر عدمية ماهيات الأشياء ، وهو الوجود العام المسمى بالرحمة العامة المطلقة ، التي وسعت كل شيء ، فمن تحقق بها كان رحمة للعالمين ، أصالة كالحقيقة السيادة ، ووراثة ، كمن يكون قلبه على القلب السيادي فيسع الأشياء ، ولا يسعه شيء يختص بدقيقة منها ، والقلب على الجملة إذا انتهى بسر «وسعني قلب عبدي المؤمن» ، حاز مقام البسط ، وقيل : هو الرجاء في الوقت الحاضر يقابل كون القبض حال الخوف في الوقت الحاضر ، وقيل : «هو وارد في جهة إشارة إلى قبول ورحمة وأنس إما بمنة الحق ، أو بأدب وعمل موجب» ، والعارف مبسوط في قبضه ، مقبوض في بسطه.

وصاحب الحال إذا كان مقبوضا لا ينبسط ، وإذا كان مبسوطا لا ينقبض ، فشأن العارف أن يكون كالمعروف ، يجمع بين الضدين.

٤٨

رحمة للعالمين ، وصلّى عليه بصلاة لم يهتد بسرها العارفون ، وإن بلغوا غاية القصور في المعرفة.

ومنه يعلم أن بعض الأسرار مخصوص بأهله ، لا يتجاوز إلى غيره ، فهو على حالة مجهولة ، ينتقل من الدنيا ، وفي ذلك حكمة خفية ، وغيرة من الله تعالى ؛ لأنه قد تجلّى بكل مستعد بما يناسب حاله ، فلا يجعل طعمة العنقاء للعصفور ، وذلك راجع إلى أحوال الشأن الأزلي الذاتي ، فمن وجد خلوّا فليحمد الله ، ومن وجد خلاف ذلك ، فلا يلومنّ إلا نفسه ، وليصبر وليقف في مقامه المعلوم ، كالملائكة وكجبريل ، فإنه لا يجاوز السدرة قدر أنملة ، فاعرف.

وقال الله تعالى : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) [البقرة : ٢٥٦].

رأيت في المنام : كأن العلماء اختلفوا في أن الفعل أولى أم الترك ، ثم لقيت في الطريق بعض من يعدّ نفسه من الأولياء ، فقلت له : الفعل أولى أم الترك؟ فقال : الفعل ؛ فأعرضت عنه ؛ لأن هذا الجواب مخالف للواقع.

ألا ترى أن الله تعالى قدّم الكفر بالطاغوت ؛ وهو من باب الترك الذي يقال التخلية بالمهملة ؛ فكان الترك أقدم وأولى من الفعل ، ومن ثم قال بعض الكبار : ما لم يكن كافرا ؛ لم يكن مؤمنا ، وما لم يكن مؤمنا ؛ لم يكن كافرا ، فعليك بالأول ، وإياك والثاني انتهى كلامه.

ومن ثّم أيضا قدّم التسبيح على التحميد في قوله تعالى : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) [طه : ١٣٠] ، فإن التسبيح الذي هو التنزيه من باب التخلية بالمعجمة ، والنفي والتحميد من باب التخلية بالمهملة والإثبات.

ولا شك أن النفي مقدّم على الإثبات في كلمة التوحيد.

وكذا قوله تعالى : (قُمْ فَأَنْذِرْ) [المدثر : ٢] ، فإنه اكتفى بالإنذار في أول الأمر ؛ لكونه أقدم ، ثم قال : (بَشِيراً وَنَذِيراً) [البقرة : ١١٩] ، فقدّم البشارة لشرفها لوجود الإيمان بالفعل ، والتنزيل أيضا ، فمنكم كافر ، ومنكم مؤمن ، فقدّم الكافر ؛ لكثرة أهل الطاغوت ، فهذه الآيات متقاربة في المعنى.

٤٩

لكونه أقدم ، ثم قال : (بَشِيراً وَنَذِيراً) [البقرة : ١١٩] ، فقدّم البشارة لشرفها لوجود الإيمان بالفعل ، والتنزيل أيضا ، فمنكم كافر ، ومنكم مؤمن ، فقدّم الكافر ؛ لكثرة أهل الطاغوت ، فهذه الآيات متقاربة في المعنى.

وهذا المعنى الذي ذكرناه ، عناه من قال : وجنة الفردوس للكافر ، فخصّ بالذكر جنة الفردوس التي هي أعلى الجنّات ، ومقام المقرّبين ؛ لأنه لا ينالها إلا أهل الكفر بالطاغوت ؛ وهم أقل القليل ؛ لأنهم الذين أشير إليهم بقوله : (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) [الأنعام : ٩١].

وبقوله : (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) [المزمل : ٨] ، وبقول من قال : خطوتان ، وقد وصلت ؛ حيث أراد بالخطوة الأولى : الإعراض الكلي عمّا سوى الله تعالى الذي هو من باب الترك ، بالثانية : الإقبال على الله تعالى الذي هو من باب الفعل.

فهاتان الخطوتان نوران بينهما نار هي نار العشق ، فإنه لا يتم الإعراض والإقبال إلا بهذه النار ، فمن لم يذق من العشق والمحبة شيئا ؛ فهو لم يذق شيئا من الحلوى ، ولم يدر ما هي ، فإن من لم يذق ؛ لم يعرف ، فبعض أهل الرسوم تتبّعوا كتب أهل الأذواق (١) ، وضبطوا المقامات بقدر وسعة عقلوهم ، كما رأينا بعضهم في الشام وفي غيرها ، فشرعوا في التكلّم من اصطلاحاتهم ، ووقعوا في الدعوى العريضة ، وهم كما هم على حالهم الأولى لم يذوقوا شيئا من الحالات أصلا.

__________________

(١) قال سيدي محمد وفا رضي الله عنه وعنّا به : الذوق هو إدراك في القلب ، يميز به بين أشخاص أصناف المعاني ، هذا إذا صح من علة داء الشرك الخفي ، وحقيقته : وجدان حلاوة من التمنّى في رياض تروض الرضا ، وغايته : الاستغناء في تصور معاني الحقائق عن نصب الأدلة والبراهين السمعية والعقلية اه.

وقال البغدادي في شرح الصلاة : هو نور عرفاني يقذفه الحق بتجلّيه في قلوب أوليائه يفرّقون به بين الحق والباطل من غير أن ينقلوا ذلك من كتاب وغيره.

وقد عرّفه الشيخ الأكبر بأنه : أول مبادئ التجلّي المؤدي إلى الشرب ؛ لأنه إذا كان نفسين فهو الشرب ، والوجدان ما يحس به بالباطن كالجوع مثلا.

واصطلاحا : ما يجده العارف في قلبه من التجليّات الإلهية ، فكما أنّ من أحسّ بالجوع باطنا لا يتردد فيه ، ولا يكون لأحد معه ، دخل في هذا الإحساس الباطني الخاص ، كذلك من وجد الحق تعالى يكون بهذه الكيفية.

٥٠

فكانوا علومهم بمنزلة الجهل ؛ لأنه لا يفيد العلم بلا عمل ، والعمل إذا صحّ على وجه السّنة ، وانضم إليه السلوك ؛ أدّى إلى العلم بالله الذي ذاقه أهل تلك الاصطلامات ، وإنما قلنا بانضمام السلوك ؛ لأنه لا يصحّ الكفر بالطاغوت إلا بتسليك المسلك ، وبعزّ من ناله بلا واسطة من الوسائط ؛ وهم المجذوبون على أن المجذوبين محتاجون إلى السلوك أيضا ، نعم إذا كان المجذوب أويسيا ؛ فرب العالمين مربيه ومعلمه إلى أن يحصل له التمكين والرسوخ في الطريقة ، فعليك بالاعتقاد ، ثم بالعمل ، كما ذكرنا حتى تنال إلى ما آل إليه الخوص ، ومن الله الرشيد التوفيق والاختصاص.

وقال تعالى : (كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) [البقرة : ٢٦٩].

اعلم أن التذكّر : إنما هو لأولي الألباب ، والتفكّر لذوي العقول ، فإن العقل محجوب ، محاط بالأفكار ، فلا يحصل المطلوب له إلا بعد التفكّر ، وإحضار الدلائل الكثيرة.

وأمّا اللبّ : فلكونه خالصا عن شوائب الأوهام ، والخيالات ، مجرّدا عن القشور ، والتعلّقات ؛ كان المطلوب حاصلا له بأدنى التذكّر ، والإشارات ؛ وهو صفة الراسخين في العلم المذبذبين فيه.

والحاصل : إن العقول الصافية القدسية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ، فكيف إذا مسّه شرر من ذلك؟ وفيه إشارة إلى قربهم بقبول الدعوة من غيرهم ؛ كحال الصديق رضي الله عنه ، وغيره هذا ، وقد ختمنا الكلام في هذه المجموعة بهذه الآية الكريمة لما أن الله تعالى ألقاها على هذا الفقير الشيخ إسماعيل حقّي شرّفه الله تعالى بمزيد الترقّي صباح يوم الثلاثاء الحادي والعشرون من شهر المولد النبوي من سنة ثلاثين بعد المائة والألف ، إشارة إلى الختم بها ، فكان الأمر على السمع ، والطاعة ، والحمد لله على الإتمام ، ولرسوله أفضل التحية والإكرام ، وآله وصحبه ذوي الاحترام.

هذه المجموعة تمّت في ست سنين ، لما أن الأسفار رمتني من أرض إلى أرض ، والأقدار ألقتني إلى طول بعد عرض ، فجالت العوائق بيني وبينها ، فالله يفعل ما يشاء لا أن كلمات الله نفدت حاشا ، والله عليم بذات الصدور.

٥١

تتمة :

وجود الإنسان الكامل بظاهره وباطنه ؛ كشجرة السرّ وبأصلها وفرعها ، وظاهرها باق لا يتغيّر بالموت ، فإن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء ، والصدّيقين ، والشهداء ، وذلك كفرع «السرو» فإنه لا يتغيّر بعصوف الرياح ؛ بل يبقى على حاله في الربيع والخريف ؛ ولذا باقي الفصول ، وكذا أصلها ثابت لا ينقعر ؛ كسائر الأشجار الضعيفة (١).

ومثله في المتانة والتمكين ؛ اعتقاد الإنسان الكامل ، ويقينه ، فإن اليقين هو الاستقرار ؛ ولذا يقال : علم اليقين إذا استقر العلم في القلب ، وعين اليقين إذا استقر المعيّن في الفؤاد ، وحق اليقين إذا استقر الحق في الروح والسر ، وليس حال غيره مثله في ذلك.

ألا ترى إلى علماء الرسوم ، فإنهم لا يقفون عند حدّ ، وإن كانوا أعلم أهل زمانهم ؛ تكون علومهم مشوّبة بالشكوك ، وإدراكاتهم مخلوطة بالأوهام ، فيناقضون أنفسهم في معلوماتهم ، وينتقلون من طور إلى طور ، ولو كانوا على علم صحيح لما تغير حالهم ، وإن عاشوا ألف سنة.

وكذا حال أهل الكشف ، فإن الكشف ما لم يكن صريحا ؛ لم يأمن صاحبه عن الغوائل ، وكم رأينا في عصرنا من أهل الدعاوى حاروا في أمورهم ، ورجعوا إلى القدح في الله تعالى حتى خرقوا المصاحف ، وتركوا الفرائض ظنّا أن الله تعالى ما

__________________

(١) فالإنسان الكامل موجود الوجود الحق في إحاطته ، هو شخص حقيقة الدائرة الرحمانية الرحيمية ، الظاهر ظله في مرآة كل استعداد زماني بحسبها ، فيكون صاحب ذلك الزمان.

وقال رضي الله عنه في الباب السادس والأربعين وثلاثمائة : إن الإنسان الكل الكامل الكلي لم يزل مع الله ، فلا يزال مع الله ، فهو باق ببقاء الله ، وما عدا الإنسان الكامل ، فهو باق بإبقاء الله تعالى.

وهنا مسألة أخرى أذكرها لتعريف الفرق بين الأزلين وهي : إن الموصوفين بالأزل نفيا ، أو إثباتا لا بتقدم أحدهما على الآخر ؛ لأن الأزل لا يصح فيه التقدّم والتأخّر ، ولكن الفرق بينهما أن أزلية الأعيان هي دوام وجودها بدوام الحق مع افتتاح الوجود عن العدم بكونها من غيرها ، وأزلية المبدع نعت سيي ينفي الأوليّة بمعنى افتتاح الوجود عن العين ؛ لأنه عين الوجود ، فافهم.

٥٢

صدق فيما أخبرهم به ، ولو كان كشفهم عن عين اليقين ، وحق اليقين (١) لما انقلب الحال ، وإنما كوشفوا في عالم الخيار ، أو أخبرهم الوسواس ؛ فظنّوا ما ظنّوا.

والله تعالى يقول الحق ، ويهدي السبيل ، ومن أصدق من الله قيلا ، فمن وجد خيرا ؛ فليحمد الله ، ومن وجد خلافه ؛ فلا يلومنّ إلا نفسه ، جعلنا الله وإياكم من الراسخين في العلم ، والمتمكنين في الكشف ، وعصمنا من الغوائل النفس ، والشيطان ، والتغيّر في العلم والعرفان ، إنه هو الهادي إلى منزل اليقين ، والسائق على منهل التمكين ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

لطيفة : قيل لي ليلة الجمة السابع عشر من شهر مولد النبي من سنة ١١٣٠ من الهجرة : الإنسان أصل المبنى : أي الأصل الذي هو المبنى ، فإن الأصل هو الذي يبنى عليه الفرع ، كالمبنى الذي يبنى عليه البناء ، وكاللفظ يبنى عليه المعنى ، ونحو ذلك ، أو المعنى أن الإنسان هو أصل البناء ، فالمبنى مصدر بمعنى البناء ، وذلك أن أول الأرواح ؛ هو العقل ، والروح المحمّدي ، كما أن أول الأجسام ؛ العرش ، وما يليه إلى أن ينتهي الأمر إلى المولّدات ، وإلى عالم الإنسان.

ففي الكلام معنيان :

الأول : إن أس الكائنات ؛ هو العقل الذي ظهر في صورة الروح أولا ، ثم في صورة النفس ، ثم في صورة الجسم ، ثم في صورة تعيّنه المخصوص ، ودار في العوالم

__________________

(١) قال الشيخ القاشاني في «لطائف الأعلام» : اليقين هو السكون والاطمئنان لما غاب ، بناء على ما حصل به الإيمان ، وارتفع الريب عنه ، فإذا حصل السكون والاطمئنان بما غاب بناء على قوة الدليل بحيث يستغني بالدليل عن الجلاء فذلك علم اليقين ، وإذا حصل السكون بالاستغناء عن الدليل لاستجلاء العين بشهود الفعل الوحداني الساري في كل شيء فذلك هو عين اليقين ، والإشارة بالمظهر الكوني في قوله تعالى : (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) [التكاثر : ٧] ، والرؤية لا تكون إلا في المظهر ، فإذا استقرّ فجر التجليات أولا ثم طلع شمس التجلي الذاتي ثانيا فذلك هو حق اليقين.

وقال سيدي محمد وفا رضي الله عنه وعنّا به : اليقين هو تمييز العلم الذي لا يحتمل النقيض ، وحقيقته : تصور ينزل المسموع منزلة المشهود ، وغايته : استغناء النفس عن كل مسموع بما حصل به في داخل الذهن ؛ لأن عين الجمع لا يعتبر الخارج ؛ لاستغنائه عنه ، فلا يفتقر إلى المطابقة ، الأول علمه ، والثاني عينه ، والثالث حقه اه.

٥٣

دورا كليا وجزئيا ؛ ليحرز كمال كل موطن من المواطن ، ويتجلّى بجمال كل عالم من العوالم.

والثاني : إن الغرض الأصلي من الخلق : أي ما يدور عليه الحكمة والمصلحة ؛ هو الإنسان ؛ لأن به يحصل الجلاء والاستجلاء التام لظهوره بحقائق اسم الله الأعظم ، فكان نتيجة الظهورات ، وثمرة شجرة الكائنات ؛ والمراد من إخبار هذا المعنى مع ظهوره ؛ تذكير النعمة الإلهية في ذلك ، والحمل على الشكر ، والترغيب فيما يحصل به الكمال الإنساني من الوسائل ، والأسباب ، والتنفير عن البطالة ، والفتور ، والاحتجاب ، أيقظنا الله تعالى وإياكم يا أولي الأبصار ، وجعلنا من الأنوار ، وأهل الأسرار.

لطيفة : وقيل لي ليلة الجمعة السابع عشر من شهر مولد النبي من سنة ١١٣٠ من الهجرة : بالبرّ يستعبد المعاني ، البرّ هو التوسّع في فعل الخير ؛ لكن أطلق على الاعتقاد ، وأكمل فرضا كان أو نفلا ، وعلى الإحسان إلى الوالدين ، ونحو ذلك.

وأريد به هاهنا نوافل العبادات أينما كانت ، فإن بالنوافل يحصل القرب الإلهي : «ومن تقرّب إليه تعالى شبرا ؛ تقرّب الله إليه ذراعا» (١) ، كما ورد في الحديث القدسي.

وذلك القرب (٢) عبارة عن الفيض الكثير ، وإليه الإشارة بالمعاني في هذا المقام ؛

__________________

(١) رواه البخاري (٦ / ٢٧٤١) ، ومسلم (٤ / ٢٠٦٧).

(٢) قال الشيخ القاشاني في القرب : هو القيام بالطاعة ، والقرب : هو دنو العبد من الله تعالى بكل ما يعطيه من السعادة ، لأقرب الحق العبد ، فإنه من حيث دلالة : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [الحديد : ٤] ، عليه قرب عام سواء كان سعيدا ، أو شقيا ، فكل عبد ، في كل وقت ، تحت حكومة الأسماء الإلهية قرب ، من حيث تجلي اسم إلهي وبعد من حيثية اسم آخر ، فالقريب من المضل فلا بعيد من الهادي ، والعكس ، فكل اسم يعطي قربا ، فالسعادة ترجع إلى هذا القرب المصطلح عليه ، وقد يكون للحق قرب خاص من العبد زائد على قربه العام.

كما قال تعالى لموسى وأخيه عليهما‌السلام : (قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) ، فإن هذه المعية ، معية العناية بالحفظ والكلاءة ، لا المعية العامة ، فقرب العبد من الحق بكل ما يعطي من

٥٤

فمعناه : إن الإنسان إذا توسّع في نوافل العبادات ؛ استعبد المعاني ، والحكم ، وقيد الرقائق ، واللطائف ، وحكم على عالم الملكوت حسبما يساعد حاله في نوافله.

كما أنه بالبر والإحسان يستعيد الحر : أي يصير الحر بسبب الإحسان ؛ كأنه عبد المحسن ، والمحسن في الحقيقة ؛ هو الله تعالى ، فالكل من المحسن ، والمحسن إليه من عبيد الله تعالى ، جعلنا الله وإياكم من المشغولين بالنوافل ، والفرائض ، وجعلنا من المقبولين عنده ، والفائزين بأسرار ذاته ، وصفاته ، وأفعاله ، والمنوّرين بأنوار جماله.

اعلم أن كلّا من الغيبة ، والخطاب ، والتكلّم في هو وأنت وأنا ، نسبة من نسب الكلام والكل بمعنى واحد ، وإنما التفاوت بحسب المقام الذي يقتضي التخصيص ، فقولهم : أنا الحق ، وهو الحق ، وأنت الحق على نسق واحد في المعنى (١).

__________________

ـ السعادة يتبع له قربا خاصا من الحضرات بالحقية ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ربه تعالى : «من تقرب إليّ شبرا تقربت إليه ذراعا ، ومن تقرب إلى ذراعا تقربت إليه باعا ، ومن أتاني يسعى أتيته هرولة».

والقرب على قسمين : علمي ، وعملي.

فالعلمي : أعلاه العالم بتوحيد الألوهية ، وهو على نوعين نظرى ، وشهودي. والعملي : على نحوين :

قرب بأداء الواجبات : وهو القرب الفرضي كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ربه تعالى : «ما تقرب المقربون بأحب إليّ من أداء ما فرضته عليهم».

وقرب نفلى : كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ربه تعالى : «لا يزال العبد يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته ، كنت له سمعا وبصرا». ومداد العمل المقرب :

إما من الباطن إلى الظاهر ، فأعمه وأتمه الإيمان.

وإما من الظاهر إلى الباطن ، فأعمه وأتمه الإسلام.

وإما من القلب الجامع بين الظاهر والباطن ، فأعلمه وأتمه الإحسان.

فمقتضى القرب النفلى : تجلى الحق للعبد متلبسا القابلية المحدودة.

ومقتضى القرب الفرضي : تجلي الحق له ، وظهور العبد بحسب الحق ، غير محدود ، ولا متناه.

فالتمييز بين قوسي الحقانية والعبدانية في القرب المفرط إن كان خفيا يعبر ب «قاب قوسين».

وإن كان أخفى يعبر عنه ب «أو أدنى».

ومن هنا قال قدس‌سره : وقد يطلق على حقيقة : «قاب قوسين» ، فالتجلي بحكم هذا القرب ، إن كان في مادة وصورة ، تتبعها القرب في النسبة المكانية ، في مجلس الشهود ، وإن كان في مجلس الشهود ، وإن كان في غير مادة ، كان قرب المنزلة والمكانة ، كقرب الوزير من الملك .. فافهم.

(١) والحاصل أن أهل طريق الله المحققين قد أجمعوا على تعظيم نواميس الشريعة المحمّدية وردع من

٥٥

__________________

ـ خالفها من الفرق الضّالة العنادية ، وكلما قدمنا من عباراتهم فهو يسير من كثير ، وغالب من يقع في الشطح من المحققين ؛ لكونه أسكره شهود مقام الجمع ، وهو عبارة عن شهود حق من غير خلق ، فهو سكر وصاحبه سكران ، لا يعتد بكلامه ؛ لأنه مغلوب مقهور تحت سلطان حاله ، فإن الصاحي يعذره ولا يقبل منه ، فإنه ربما غلبه شهود الحق ، فصار يقول : ما في الكون إلا الله وما في الجبة إلا الله.

ويقول : أنا الحق ولا يرى كثرة ولا تعددا ، ولا يدرك أن ثمّ خلقا ؛ لنفوذ بصر بصيرته من شهود الخلقيّة إلى شهود الحقيّة ، ولشدة فرط ظهور هذا المشهد لعينه القلبية ظن اتحادا ووصلا ، فنفى وجوده ووجود الخليقة.

فهذا إذا صحى من سكره رجع مقهقرا لمقام العبودية ، وأقرّ واعترف بوجود الخلقيّة وإذا سئل عن مقالته أنكرها ، فإن نفى الخلقيّة وعدم إثباتها كفر لمخالفة المنكر لنص الكتاب.

فهذا حال المحق ، وأمّا حال المبطل الذي يتشبّه بمن هذا حاله ، وما ذاق منه قطرة وما نظر من نظراته نظرة ؛ فهو كلابس ثوبي زور ، وقاتله ورادعه ومؤدّبه مأجور ، مع حق أن الأول ولو كان محقّا فكذلك ، فكيف من يدّعي ملك ما ليس له بمالك ، نسأل الله تعالى العافية من ذلك ، فإن الشرع الشريف ليس له إلا الظاهر ، والله يتولى السرائر والغالب على هؤلاء الزنادقة أنهم يدّعون أنهم لا يشهدون إلا الله ولا يثبتون كثرة أصلا.

ويقولون : إن الوجود واحد وما ثمّ إلا واحد ، ونحن لا نرى إلا الله مع أنهم يشاهدون الكثرة في أنفسهم والعجز والافتقار ، والله تعالى منزّه عن ذلكن ويزعمون أن وجودهم المقدّر المفروض المحدود ووجود هذه الأشياء من حيث هي أشياء مقدّرة مفروضة هي وجود الحق تعالى ، وتقدّس جناب الحق تعالى عن صفات الخلق فهذا كفر صريح.

وأمّا قول أهل الحق القائلين بوحدة الوجود على الوجه الأحق ، فإذا قالوا : ما في الوجود إلا الله مثلا فمرادهم من حيث القيومية فإن به تعالى قيام كل شيء وهو القائم على كل نفس بما كسبت ومن حيث تجلّيه وإمداده وتولّيه ، لا أن هذه الصور الحادثة الفانية المقيّدة المحدودة وجوده ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

وتختلف أذواق أهل هذه المشاهد ، فمنهم من يكون ذوقه صديقيّا ، فيقول : ما رأيت شيئا إلا رأيت الله قبله.

فأولا رأى قيوميّة الحق وتجلّيه على الشيء ، ثم رأى الشيء ولم ينفه ولو نفاه ؛ لكان سكرا ، فكان مشهده كاملا حيث جمع بين شهود الحق والخلق في آن ، لكنه غلب عليه شهود الحق ، فرآه أولا ثم رأى الخلق.

ومنهم : من يكون مشهده فاروقيّا ، فيقول : ما رأيت شيئا إلا رأيت الله فيه : أي متجلّيا بقيوميته عليه ، وهذا المشهد دون الأول من حيث الذوق.

٥٦

__________________

ـ ومنهم : من يكون مشهده مشهدا عثمانيا ، فيقول : ما رأيت شيئا إلا رأيت الله معه.

ومنهم : من يكون مشهده مشهدا علويّا ، فيقول : ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله بعده.

وثمّ فوق هذه الأذواق أذواق كثيرة لا حدّ لها ولا نهاية ، قد ذاقها الأصحاب والأحباب ، ساروا على منهج السنّة والكتاب.

ولقد سألت شيخنا الهمام سيدي الشيخ عبد الغني حفظ الله وجوده للأنام عن مقام المعرفة الخاصة ، هل يكون بدون جدّ واجتهاد.

فقال : لا ، فقلت : ولا بد فيه من الذوق والوجدان ، والقال لا يكفي دون الحال.

فقال : نعم ، فقلت : وكيف السبيل إلى طريق الذوق والوجدان.

فقال : (بملازمة الطاعات ونوافل الخيرات والاشتغال بالله والإقبال عليه ، كما نصّت عليه الأشياخ.

فبهذا يحصل الذوق لطالبه أو ما هذا معناه ، وسألته عن أهل مقام الجمع.

فقال : أولئك قوم سكارى ، فالسكران لا يعول على قوله فإنه يقول : أرى كذا وكذا والصاحي ينكر قوله ؛ لعلمه أن ما يدّعيه غير صحيح في نفس الأمر ، وإنما تخيّل لفرط سكره ، إن الأمر كما أخبر وليس كذلك ؛ بل الأمر كما هو عند الصاحي فإن السكر حال مدهش يذهب بعقل صاحبه فلا يعتد بكلامه) بما معناه.

فقول السكران : ما في الوجود إلا الله حق من وجه ؛ لأن الوجود الحادث قائم به تعالى ، فالوجود على الحقيقة له ؛ إذ قيام الكل به ، لكنه لما أنكر وجود الخلقيّة بالكليّة.

قلنا : بسكره ، ورددنا قوله : فإنها ثابتة حسّا وشرعا وعقلا ، وقد يقول الصاحي مثل قول السكران ، لكنه يعني من وجه دون وجه ، فمن حيث أن الكل هالك بالنظر لنفسه فإن الشيء لا يعطى لنفسه وجودا ، فإنه معدوم بالنظر لها أيضا ، وأمّا بالنظر ؛ لمفيض الوجود عليه فهو ثابت به باق بإبقائه.

فقول سيدي محي الدّين قدّس الله سرّه : (فلولاك ما كنّا) : أي من حيث أن وجودنا بك ، ولولاي لم تكن : أي آثار أسمائك الحسنى ، فإن الأسماء تطلب الآثار ، فإن المانع يطلب من يمنعه ، والمعطى كذلك ولا ظهور للآثار إلا بظهور المؤثرات.

ولهذا لم يكن ظهور الكون إلا عن الأسماء وطلبها ، كما ذكره الشيخ في «إنشاء الدوائر» ، وفي «عنقاء مغرب».

وأمّا بالنظر إلى الذات العليّة المتعزز درك كنهها بالكليّة ؛ فهي مطلقة غنيّة حتى عن الإطلاق والكل في قيد وفي وثاق ، فلا تعلّق لها بشىء إلا من حيث الإمداد ، ولا يتعلق بها شيء إلا من حيث الاستمداد ، والأسماء الحسنى هي الوسائط التي لولاها كنّا من البسائط.

ثم قال : «فكنت : أي كنزا مخفيّا» ولم تزل على ما كنت عليه إلى الأبد في الأزل وكنّا بك أعيان ثابتة في العلم ثم أبرزت صورة ما في علمك لا الذي في علمك ، فإنه قديم لا تحلّه الحوادث ، وهذا

٥٧

وقد قال تعالى من الشجرة أنا الله ، والإنسان أفضل منها ، فإذا قال أهل التجلّي : أنا الحق ؛ فهو في مقابلة أنا الباطل.

ولا شك أن الوجود كله حق ، ولا بطلان إلا بالإضافة ؛ كبطلان مظاهر اسم المضلّ بالنسبة على حقيّة مظاهر اسم الهادي دلّ على ما قلنا قوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) [الحجر : ٨٥].

فالكل ؛ هو الحق المخلوق به ، وهذا الحق لا يفنى ولا يزول أبدا ؛ لأنه تجلى إلهي أحدي سار في جميع الكائنات كما دلّ عليه قوله تعالى :

(كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] : أي كل شيء من الأشياء

__________________

ـ معنى قول الشيخ الأعيان الثابتة : أي في العلم ما شمت رائحة الوجود : أي في العين.

ثم قال : والحقيقة لا تدري إلا بمنحة منك وكشف عنها ، فهناك يكون الإدراك بك وإذا كان بك فلا إدراك ، أو يكون أراد بالحقيقة الحقيقة الإلهية.

وهي كما قال رضي الله عنه : فالأنبياء والمرسلون لا يدركون كنه الذات العلية ؛ بل عمّ بالنظر إلى الكنه في حيرة جليّة ، وأمّا التجليات الواقعة في الدنيا والآخرة فلا تخرج عن رتبة التقييد والتجليات المطلقة ، فلا حظّ للعبد فيها إلا أن رتبة التقييد وإدراك التجلّي المطلق لا يتخلص للعبد على ما حققه الشعراني رضي الله عنه في «ميزان الذرية» إلا عند فنائه لا في حال بقائه مع الحق ، وحينئذ فما رأى إطلاق الحق إلا الحق فافهم.

قال : وإيّاك والغلط ، فإنه لا حلول ولا اتحاد ولا يلحق عبد رتبة الحق أبدا ولو صار الحق سمعه وبصره وجميع قواه ، فإن الحق تعالى قد أثبت عين العبد معه بالضمير في قوله في الحديث القدسي : «كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به» ، إلى آخر النسق ، فإن قيل أن كلام الحق تعالى قديم.

وقد قال : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ)[الحديد : ٤].

وهذا يشعر بأنّا معه في الأزل ، كما يقول بذلك الفلاسفة.

قلنا : التحقيق أن العالم قديم في العلم الإلهي ، حادث في الظهور.

فشهود الحق في رتبة التقييد ، يخص الحق تعالى به أفراد العبيد ، ولشهود الحق علامة فمن شهدها في نفسه كان في قوله صادقا ، وإلا كان مبطلا لدعاويه الكاذبة موافقا.

قال سيدي محيي الدين رضي الله عنه في باب «الوصايا» : «اعلم أن علامة من يدّعي أنه يشاهد الحق تعالى إذا عكس مرآة قلبه إلى الكون ؛ يعرف ما في ضمائر جميع الخلق ويصدق الناس على ذلك الكشف».

٥٨

الموجودة في العين هالك من حيث تعيّنه الخاص إلا الوجه الذي يلي الحق ؛ وهو أحد وجهي الحقيقة الكونية التي هو الإطلاق على ما ذهب إليه أهل التفسير والتأويل ، وعلى هذا يدور سرّ قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥].

وكل من العرش والشرع مقلوب الآخر ، فكما أن الرحمة العامة مستوية على العرش المجيد العظيم ؛ فكذا الأمر التكليفي الشامل مستوية على الشرع الشريف ، ومحلّه في الحقيقة هو الإنسان الذي هو الكرسي ؛ لأن كلّا من الأمر والنهي إنما ظهر في العرش إجمالا ، ثم في الكرسي تفصيلا ، والروح (١).

فلك الرحمة والقلب ، فلك الحياة ، فكل منهما استوى على عرشه ، فكان الإنسان صورة العالم من كل وجه ، ومن نازع في الذي ذكرناه ؛ فعليه كلامه ؛ لأن الإنكار من سوء الفهم ؛ وهو حال العقل القاصر ، والقلب السقيم ، رحمنا الله وإياكم برحمته مطلقا ، وجعل إيماننا وتصديقنا يقينا حقا.

قال الله تعالى : (قالُوا بَلى) [الأنعام : ٣٠].

هذه المقولة إمّا روحانية ؛ فتكون بلسان الروح كما في البرزخ بعد الممات ، فإن الأرواح تتكلّم في عالم البرزخ باللسان المناسب لها كما في عالم الخيال في الدنيا

__________________

(١) قال سيدي علي وفا : والاستواء هو التجلّي التام ، ومنزلة الناطقة من هذا الجوهر الروح منزلة قواه من الجوهر الجسم ، فإذا نفخ الروح الحيوان في الجسم ، ونفخ الحق الناطق في الروح الحيوان ، استوى الرحمن على العرش ، وتعلّق كل منفوخ بمحله كما تقدم ، لا يتصل بذلك المنفوخ فيه أمر إلا اتصل بالمنفوخ ، فلا يحس الجسم محسوسا إلا أدركه الروح الحيوان تعقّلا وتخيلا وتوهما ، وأدركه الروح الناطق عقلا وخيالا ، واتصل بالرحمن كشفا وتمييزا ، وهذا عروج إلى الرحمن على المدرجة التي نزل من عنده عليها ، فلا يظهر محسوس إلا عن تجلّي الرحمن في الناطق ، وبالناطق في العرش ، وظهور ذلك المتجلى به في القوى.

فما من جسم إلا وللروح به تعلق بحسبه ، وللناطق بالروح تعلق مناسب لذلك ، وللرحمن في الناطق ظهور مناسب لذلك ، وما كان كل محسوس إلا بأن ظهر الرحمن به في الناطق ، فظهر به الناطق في العرش ، فظهر به العرش في القوى الجسماني ، فظهر في الحس الذي هو مرآته ، هذا حكم هذا النظام في هذا المقام.

٥٩

معنوية ؛ فتكون تصويرا لما يدلّ عليه مقامهم من الإقرار والتصديق.

وإمّا حسّية على تقدير التمثيل في صورة الذّر ، فإن الشيء إذا تمثّل في صورة أخذ حكم تلك الصورة ؛ كجبريل عليه‌السلام كان يتمثّل على صورة دحيه ، فإنه وإن لم يخرج عن حقيقته الملكية حينئذ إلا أنه كان يأخذ حكم البشر في التكلّم ونحوه.

فالمتروحن يتكلّم بلسان باد ، ضلّ فيه من الصورة ، وقول الملائكة : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) [البقرة : ٣٠] الآية (١) ، محمول على واحد من المعاني المذكورة الثلاثة ، وأيّا ما كان فقولهم ثابت محقق لا ريب فيه ، فيكون عدوا لهم في الدين عن مقتضاه من غلبة الحجب الكونية ، وخروج الطبع عن الاعتدال ، وذلك الانحراف أيقن مقتضيا بمفهومهم الذاتية ، وما كلمهم الله فإنه الخلاف.

لما سألوا عنه بلسان الاستعداد ، ثم إن السؤال الإلهي كان مبدوء بالهمزة حيث

__________________

(١) قال سيدي علي وفا : (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) [البقرة : ٣٠] ، فإن شئت ذلك فلك الأمر كله ، (وَنَحْنُ عبادك نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) [البقرة : ٣٠] ، مع جعلك فيها ذلك ، فكيف وأنت لا تجعل فيها خليفة ، إما منك فيما تفعله من خلف حجاب سببيته ، وإما منا ونحن عبادك الذين فطرتهم على طاعتك ، وليس بخليفة إلا من قام بحكم مستخلفه.

فكلامهم هذا تفويض وتبرؤ من الاعتراض الذي أشعر به إخبارهم ، قبل إظهار المخبر به ، كما يفعل بمن توطّن على حصول ما لا يختاره ، فمن فهم من هذا الخطاب اعتراضا أو تعجّبا أو نحو هذا ، فليرجع عنه لما ذكرنا ، فهو أولى بحفظ حرمة المكرمين ، ويمكن أن يكونوا تعرضوا بذلك ؛ لأن يجعلوا جنود هذا الخليفة المنوّه بذكره ، ويؤذن لهم في النزول معه عن مصافهم السمائية إلى محل خلافته ، تعظيما لمن عظمه ربهم ، فكأنهم قالوا : ما ثمّ من يكون جندا له موجودا إلا الجن الشياطين ، وهم مفسدون سفّاك للدماء ، (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ)[البقرة : ٣٠].

فتجعل أولئك جنده ، أو تجعلنا نحن جنده ، (قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ)[البقرة : ٣٠] ، فخلق له جنودا مضافة للفريقين.

وعلى كل تقدير فهم لم يصفوا خليفة ربهم بالإفساد وسفك الدماء ، وإنما وصفوا به من يتأتى ذلك منه ، وفي الخلافة كف إفساده ، وقطع الخصومة الحاصلة بسبب فعله ، وكيف يذموا من وقعوا له بأمر الله لهم (ساجِدِينَ  ) ، وأنبأهم بأسمائهم التي بها صار لكلّ منهم مقام معلوم.

٦٠