مرآة الحقائق - ج ٢

إسماعيل حقّي البرسوي

مرآة الحقائق - ج ٢

المؤلف:

إسماعيل حقّي البرسوي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
977-344-218-7

الصفحات: ٤٤٩
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

بسم الله الرّحمن الرحيم

شرح بعض الأحاديث

بطريق الحقائق

١ ـ في المتفق عليه : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما الأعمال بالنيات» (١) :

هذا بإطلاقه شامل لجميع الأعمال وسائل كانت ؛ كالوضوء ، والسّعي إلى الجمعة ونحوه ذلك ، أو مقاصد ، كالصلاة ، واستماع الذّكر يوم الجمعة وغير ذلك حتى أن التوحيد من حيث إنه ذكر لساني ، وعمل خارجي لا بد له من النية ، وقال العلماء : ما كان من قبيل الوسائل لا يحتاج إلى النية ، فلو لم ينو عند الوضوء لرفع الحدث ، وإقامة الصلاة ؛ صح وضوءه بخلاف ما كان من قبيل المقاصد ؛ كالصلاة فإنه لا بد من النية ؛ ليكون صحيحا مقبولا.

فصحة الصلاة المستصحبة بالنية مستلزمة لصحة الوضوء ، ونيتها سارة لنيته ؛ بمعنى أن نيته الشرط والمشروط نية واحدة.

وقال العرفاء : لا بد من استحضار الحق تعالى في مباشرة العمل المشروع فيه مطلقا ؛ فإنه روح ذلك العمل وسره ، فكما أن البدن لا يقوم إلا بالروح ، فكذا العمل لا يقوم إلا بالنية ، واستحضار الحق على أن قد يدخل الرياء في العمل ، فلا بد من النية ؛ ليخلص لله تعالى.

وللعارفين شأن عجيب في باب النية : فإن نيتهم دفعية كلية سارية في مراتب جميع الأعمال ، فليس لهم عمل بلا نية أصلا ، إذ هو ذهول عن الحق ، وكيف يذهل عن الحق من ودّوا حقه ، والذين هم في صلواتهم دائمين ، فدوام الشهود يغنيهم عن استصحاب النية الخاصة في كل خاص على أن الوضوء قد يكون قربة مشروعة مستقلة ، كما دلّ عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «دم على الطهارة ، يوسع عليك الرزق» (٢).

فقد يلزم الطهارة في وقت ، والصلاة غير مشروعة فيه ، فعليك بالقربات ، والدرجات ، والصعود إلى المراتب العالية بخلوص النيات.

__________________

(١) رواه البخاري (١٢ / ٦٥) ، وأبو داود (٢ / ٢٦٢).

(٢) ذكره المناوي في فيض القدير (٤ / ٢٧٣).

٣

واعلم أن متعلّق نية الخواص : هو الحق تعالى ؛ فهم محسنون متقون مقربون ، ولهم النور التام يوم القيامة.

وإن متعلّق نية العوام : هو فضل الله ورحمته ، فهم عاملون أبرار مقربون ، ولهم الأجر التام يوم القيامة ، ومقام الأولين : جنة عرضها السماوات والأرض ؛ لاتساعهم وانشراحهم قلبا وصدرا ، ومقر الآخرين : جنات تجري من تحتها الأنهار ؛ لمتابعتهم العلوم أو سالتهم الدموع ، فأين الأجير المحجوب من المحسن المحبوب؟ فعليك بإعراب المطلوب (١).

__________________

(١) قال الحكيم الترمذي : «باب في شأن النية» : حدّثنا صالح بن عبد الله ، حدّثنا يوسف بن عطية عن ثابت عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوما : «هل تدرون من المؤمن» قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : «المؤمن من لا يموت حتى يملأ الله مسامعه مما يحب ، ولو أن عبدا اتّقى الله في جوف بيت إلي سبعين بيتا ، علي كل بيت باب من حديد ، ألبسه الله رداء عمله ، حتى تتحدث الناس به ويزيدون» قالوا : وكيف يزيدون يا رسول الله؟ قال : «إن اتّقى ، لو استطاع أن يزيد في برّه لزاد ، وكذلك الكافر يتحدّث الناس بفجوره ويزيدون ، لو استطاع أن يزيد في فجوره لزاد».

وكان ثابت إذا حدّث بهذا الحديث يقول : فبلغني أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «نيّة المؤمن أبلغ من عمله».

حدّثنا عمر بن أبي عمر عن نعيم بن حماد عن عبد الوهاب بن همام الحميري قال : سمعت وهبا يحدّث عن ابن عباس أن رجلا قال : يا رسول الله ما أفضل الأعمال؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «النية الصادقة».

وحدّثنا عمر بن عمرو الربعي عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : لم نية المؤمن خير من عمله؟ قال : نية المؤمن لا يكون فيها رياء فيهدرها».

وحدّثنا عمر عن فهد بن مالك بن دينار قال : رأيت رجلا بمكة يقول : اللهم قبلت حجّاتي الأربع ، فاقبل هذه الحجة فتعجبت منه ، وقلت : كيف علمت أن الله قبلها منك؟ قال : أربع سنين كنت أنوي كل سنة أن أحج ، وعلم من نيتي ، وحججت من عامي هذا وأنا خائف أن لا يتقبّل منى ، فيؤمئذ علمت أن النية أفضل من العمل.

قال أبو عبد الله ـ رحمه‌الله ـ : وجدنا من طريق الاعتبار عند ما مثلنا بين النية والعمل أن العمل منقطع ، والنية دائمة.

وتصديقه في حديث ثابت عن أنس : «والعمل علانية والنية سرّ».

٤

٢ ـ في الحديث الصحيح : «حبب إليّ» (١) : أي بالتحبيب الإلهي ؛ ولذا لم يقل : أحببت ؛ لأنه شيء عن حب اختياري ، وذلك غير مقبول (٢).

ومن هذا المقام قالت امرأة العزيز : (فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) [يوسف : ٣٢] ؛ إذ العدل لا يجري في غير الاختياري ، والله يفعل ما يشاء

(من دنياكم) : أي الأمور الحاصلة في دنياكم ، فحصل الجواب عما قيل : من أن الثالثة ـ وهي الصلاة ـ ليست من الدنيا ، وسيتضح في محله ، وأضيف الدنيا إلى ضمير المخاطب ؛ إشارة إلى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس من الدنيا في الحقيقة ؛ بل تربة طاهرة مأخوذة من تراب الجنة.

ومن لم يكن من الدنيا ؛ فلا تعلّق له بالدنيا إلا قدر ما أمر الله بالتعلّق به ؛ وهو تعلّق حقيقي لا يكون إلا بالله ، لا تعلق نفساني ، فظهر أن الدنيا صورة الآخرة لمن هو من أهل الآخرة ، فلا يضر التعلّق بها إذا كان معه تعالى.

(ثلاث) أنثها باعتبار أن أكثر المعدودات مؤنث ، أو باعتبار الدنيا ونحو ذلك.

وبما فسرنا قوله : من دنياكم خرج الجواب عمّا ذهب إليه الزركشي ونحوه : من أن لفظ ثلاث ليس من الحديث ، وزيادته مخلّة بالمعنى ؛ فإن الصلاة ليست من

__________________

ـ وتصديقه في حديث عطاء : «أعمال السر مضاعفة» ، والعمل سعي الأركان إلي الله ـ تعالى ـ والنية سعي القلوب إلي الله ، والقلب ملك ، والأركان جنوده ، ولا يستوي سعي الملك وسعي جنوده ، والعمل يوضع في الخزائن والنية عنده ؛ لأنه الذكر الخفي ، والعمل موقوف علي نهايته والنية لا تحصي نهايتها ، والعمل بتحقيق الإيمان ، والنية فرع الإيمان ، بمنزلة الشجرة فيه منصوبة ، فبظهور ورقها هي شجرة وليس للورق نمو ، وإنما هي زينة الشجرة ، والثمر من الفرع ، والفرع سقياه من الأصل.

وذلك قول الله ـ تبارك وتعالى ـ في كتابه : (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ)[إبراهيم : ٢٤] فالأصل هو الإيمان الذي في القلب ، والنية هي فرعها الذي في السماء والعمل هو للأكل. وانظر : منازل القربة (ص ١٧٨) بتحقيقنا.

(١) رواه النسائي (٥ / ٢٨٠) ، والطبراني في الكبير (٤ / ١٥٢).

(٢) فأشار إلى أن ذلك بتحبيب الله لأسرار وحكم ومصالح أرادها الله لا بحبه هو.

٥

الدنيا ؛ كالنساء والطيب ؛ هو ما له رائحة طيبة ، وإنما حبب الطيب إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن فيه ذوق الأنس والمفاخرة ؛ وهو حظ الروح ، وظهر منه أن غير الطيب حظ النفس ، والأنبياء والأولياء معصومون محفوظون عمّا لا يستطاب ؛ لأن نفوسهم طيبة طاهرة ؛ ولذا كانت الطيبات للطيبين ، والخبيثات للخبيثين ، فطوبى للطيبين ، والغبطة لأخلاقهم الطيبة ، وويل للخبيثين والنفرة عن أوصافهم الذميمة.

وجه التحبيب في النساء : إن فيهنّ ذوق القربة والوصلة ، وإن كنّ من حيث الظاهر حظ الجسم ، فما كل ما هو من حظ الجسم ساقطا عن درجة الاعتبار بالنسبة إلى الأرواح العالية ، فربما يكون للشيء وجهان يختلف باعتبارهما.

ألا ترى أن الله تعالى جعل النساء من الشهوات في قوله : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ) [آل عمران : ١٤] ، وقدمهنّ على ما عداهنّ ؛ لأنهنّ من شهوات نفسانية بالنسبة إلى النفوس الخبيثة ، وشهوات حقانية بالنسبة إلى النفوس الطيبة.

لأن يقال : نور المحبة ، ثم نار العشق ، ثم حرارة الشهوة ؛ فيه إشارة إلى أن حقيقة حرارة الشهوة الحقانية ؛ إنما تظهر بعد ظهور نار العشق الحقيقي ، فمن لم يكن عاشقا ؛ لم يكن أهل شهوة حقيقية.

ولا شك أن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رئيس المحبين ، وسلطان العاشقين ؛ ولذا أعطاه الله قوة أربعين نبيا ، ولذا كان لا يشبع من النساء على ما ورد في بعض الأحاديث.

ومن عجائب المقام : إن حروف النساء حروف الناس ، فزين أحدهما للآخر ؛ لأنه ليس هنا إلا ذكورة وأنوثة ونتيجة ، والأنوثة مستنبطة من الذكورة ، كما أن النتيجة مستفادة منهما ، والشيء يحنّ إلى جزئه وجنسه لا محالة ، فإذا كان التزيين من الله من حيث اسمه الجميل ؛ كانت الشهوة حقيقية ، وإذا كان منه من حيث الجليل ؛ كان نفسانية ؛ لأنه امتحان محض يجب التحرز عنه ، ولم يقل : (والمرأة) بدل (والنساء) ؛ لأن النسء بمعنى التأخير ، ووجود حواء متأخر عن وجود آدم تأخر القابلية عن الفاعلية.

ولفظ المرأة لا يدل على هذا ، وإن كان يقال في وجه التسمية بالمرأة : إن ذلك

٦

لكونها مأخوذة من المرء ؛ وهو شخص آدم ، إذ كل أخذ لا يدل على التأخر عن المأخوذ منه ؛ بل قد يكون مقارنا له ، فسبحان من صور وجعل الأشياء أزواجا ، وجعل بينهم المودة والرحمة ؛ ليسكن بعضهم إلى بعض مع رجوعهم إلى أصل واحد.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وقرة عيني في الصلاة» (١) : أي سرور قلبي ، وفرح روحي في حال الصلاة لا في إقامتها ؛ لأن مجرد الإقامة لا يستلزم السرور والراحة.

وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أرحنا بها يا بلال» (٢) أي : أذّن وأقم حتى ندخل في الصلاة المشروعة التي هي قرينة الزكاة فنستريح ؛ لأن الصلاة حظ القلب ، وفيها ذوق المكاشفة والمساهمة ؛ ولذا حرص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على مرتبة الإحسان ، ولو كان أدناه ؛ وهو شهود الخيال ، فمن لا شهود له في الصلاة ، ولو في الجملة ؛ كان ساقطا عن رتبة المناجين ، فظهر أن الصلاة من الأمور الأخروية ، وإن كانت حاصلة في الدنيا على أنها تحتاج في الظاهر إلى حركات الأعضاء ؛ وهي من الدنيا ، وعالم الشهادة ، وإن كانت باعتبار التوجه القلبي ونحوه من الأمور الدينية ، وعالم الملكوت (٣).

__________________

(١) رواه النسائي (٥ / ٢٨٠) ، وأحمد (٣ / ٢٨٥).

(٢) رواه أبو داود (٤ / ٢٩٦) ، والطبراني في الكبير (٦ / ٢٧٧).

(٣) قال الحكيم الترمذي : وأمّا علة الصلاة : فإن القيام تسليم النفس إلى الله تعالى لأنه لمّا أغفل جواره انتشرت في شهواتها ومناها بما لم يؤذن لها فيه ، فجاء بها ليجدّد تسليما ؛ لأن الإسلام هو قبول العبد من ربه ـ تعالى ـ العبودية ، وتسليم النفس إليه طواعية له فيما أمر به حفظ العبودية.

وهي ميثاقه الذي واثقه به ، وواثق به جوارحه السبع وهي : السمع ، والبصر ، واللسان ، والبطن ، والفرج ، واليد ، والرّجل ؛ ولذلك سمي نبذة بالأعجمي ؛ لأنه أوثقه عمّا حرّم عليه ، وأمره مع ذلك بأداء الفرائض.

فلما قبل العقد هذا من ربه ، كان قد سلم نفسه إليه : فهو الإسلام ، ثم اقتصاه الوفاء بذلك إلى انقضاء أجله ، فلمّا مرّ في شهواته فيما لا يحل له ؛ احتاج إلى أن يجدّد التسليم ، كما أنه لو نقض الأصل فارتد إلى شهوة عبادة الأوثان ؛ احتاج إلى أن يجدّد الإسلام ، فكذلك لّما ارتدّ إلى شهوة المعاصي ؛ احتاج إلى أن يجدّد تسليم النفس طواعية له ، فجاء مصليا ، والتصلية تذل النفس.

٧

__________________

ـ وانتصاب العبد بين يديه ، فجاء فوقف بين يديه ممسكا عن جميع الشهوات جامعا لهذه الجوارح بين يديه ؛ كهيئة العبد الذي يريد أن يفي بما ضمن من التسليم ، وأن يتدارك ما فرط منه فلمّا فرط منه ما فرط مضى على تسلميه قلبا وفعلا ؛ ولكنه لّما فرّط في الوفاء ؛ احتاج إلى أن يقف بين يديه معتذرا ممّا فرّط مسلّما نفسه إليه.

ألا ترى إلى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جدّدوا إيمانكم قالوا : بماذا يا رسول الله؟ قال : بلا إله إلا الله».

وعنه قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قال ربكم الأعلى : لو أن عبادي أطاعوني لأمطرت عليهم بالليل ولأطلعت عليهم الشمس بالنهار ولم أسمعهم صوت الرعد».

فإنما احتاجوا إلى تجديد الإيمان ؛ لأنه قد خلق بوله القلوب إلى الأسباب ؛ لأن من صدق الإيمان أن يكون وله القلوب إلى الله ـ تعالى ـ الذي أوله الخلق إليه ، فإذا ولهت إلى شيء دونه ذهبت قوة الإيمان وطراوته فاحتيج إلى تجديده.

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الإيمان حلو نزه فنزهوه».

وكذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسلمان رضي الله عنه : «قل اللهمّ إني أسألك صحة في إيمان ، وإيمانا في حسن خلق ، ونجاحا يتبعه فلاح ، ومغفرة منك ورضوانا».

فلا يسأل الصحة في الإيمان إلا من سقم ، فإذا تعلق القلب بأسباب دونه افتتن وتعلق بغير معلقه ، وكان ولهه إلى غير من هو إليه صائر.

فإن قوله : لا إله إلا الله ، هذه مقالة من قلب خلق وإيمان سقيم ؛ فلذلك قال : «جدّودا إيمانكم» ، وكذلك الإسلام.

كما أمر هاهنا بتجديد الإيمان قلبا ، كذلك أمر بتجديد الإسلام نفسا في أن يقوم إليه معتذرا ، وقد جمعت له جوارحك المنتشرة في شهواتك التي لم يؤذن لك فيها فتجدّد تسليما ، ولم يكن انتشارك هذا نقضا للعقدة : عقدة التسليم ؛ ولكن كان نقضا للوفاء : وفاء التسليم.

فإن هذه الجوارح السبع كانت عندك بأمانة وأمرت بحفظهنّ ، فتوكلّت برعايتهنّ ، والراعي إذا أهمل غنمه ؛ حوسب وعوقب وغرم ، فإذا أصبحت انتشرت كلّ جارحة منك ترعى في واديها ، فالسمع في وادي الاستماع للأصوات ، والبصر في وادي النظر إلى الألوان ، واللسان في وادي المنطق ، وكذلك كلّ جارحة.

وفي هذه الأودية سموم قاتلة من المراعي ، وذئاب ضارية ، وأجراف هاوية فعلى الراعي أن يحفظ

٨

وبطل ما ادّعاه أكثر العلماء من أن الحديث من قبيل الطي ، وإن الثالثة ليست معطوفة على ما قبلها ؛ بل هي كلام مبتدأ ، وقوله : إنه من قبيل الطي ؛ معناه : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لّما ذكر الأولين ؛ سقط في يده ، وأعرض عن الالتفات إلى أمر دنياه ، فطوى ذكر الثالثة فابتدأ بأمر هو من الأمور الدينية والأخروية هذا كلامهم ؛ وهو كلام قطعي جدا خارج عن الأدب قطعا.

بل لفظ الثلاث من الحديث نفسه وزيادته ليست بمخلّة بالمعنى ؛ لأن الصلاة من الأمور الحاصلة الواقعة في الدنيا ، وقوله : «وقرة عيني في الصلاة» (١) معطوف على ما قبله ، وبه يتم الثلاث لا منقطع عنه.

والكلام ليس من قبيل الطي ؛ لأنه وصف للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالذهول والغفلة والندم

__________________

ـ غنمه حتى يخلصها من هذه الآفات ، فاحتال لها بما يحتال بمثلها حتى يخلصها ، وكذلك هذا الموكّل بجوارحه يجنبها الآفات ، فإن أصابته آفة عمل في تخليصها بالتوبة والاستغفار ؛ كما عمل الراعي بأغنامه السبعة ، فإن أصابها كسر جبّر الكسر ، وإن رعت في مراعي السموم سقاها البادزهر والترياق ، وإن وقع الذئب بها أرسل الكلاب في استلابها منه ، وميّز شربها من مرعاها ؛ كيلا تعطش فتهلك.

فالمواعظ للنفوس كالشراب للأغنام ؛ لأن العلم حياة القلب والنفس ، كما أن الماء حياة البدن والروح ، فإذا عطشت النفس عن التذكرة هلكت الجوارح ، والصلوات الخمس تكفّر السيئات.

ألا ترى إلى قوله ـ تعالى ـ : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ* وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)[هود : ١١٤ ، ١١٥].

وقوله ـ سبحانه وتعالى ـ : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ)[النساء : ٣١].

قيل : بالصلوات الخمس : (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً)[النساء : ٣١].

قيل : الجنة ، فهذه علتها. وانظر : إثبات علل العبودية (ص ٣٣) بتحقيقنا.

(١) تقدم تخريجه.

٩

على ما قال حاشا عمّن هو في أعلى منصب النبوة أن يتكلم بغير رؤية ؛ بل عن اتفاق على ما عليه أكثر العامة ، وأن يندم على ما قاله ، وهو في مقام الحضور مع الله بحيث لا ينطق عن الهوى ، وإنما كل كلامه حكمة محضة ، ومعرفة حقة ، وحقيقة مطلقة ، وكيف ذهلوا عن صبغة التفضيل في قوله : «حبب» حتى تفوهوا ما تفوهوا ، فإن الشيء إذا كان محبوبا بالتحبيب الإلهي ؛ كيف يكون من الدنيا حتى يندم عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟

فإذا يكون النادم ؛ هو الله تعالى فحاشا عنه ؛ لأنه حبب إليه تلك الثلاث ، ثم خذله عن ذكر بعضها لّما بدا له ، فنحن نستعيذ بالله تعالى عن مثل هذا الاعتقاد في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن شهواته كلها كانت من قبيل التشريع ، وفي حال انجذابه القوي إلى عالم القدس ، فإذا كانت شهواته بهذه المثابة فما ظنك بما صد عنه في مقام محوه وتمكينه ؛ وهذا هو الحق الصريح ، ولا يحيد عنه إلا أهل الباطل القبيح ، فطوبى لمن نبّهه الله على خطئه ، وسامح الله من مضى عليه ، ولم يبلغ قولي إليه ، ومن الله الإرشاد والتوفيق بسم الله علينا الإحسان.

٣ ـ في الحديث الصحيح : «من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه» (١) :

العمل إشارة إلى الصفات ، كما أن النسب إشارة إلى الذات.

والأول : إنما يشاء من الأسماء الحسنى الدالة على الصفات العليا.

والثاني : من نسبة قوله : «ونفخت فيه من رّوحي».

ولا شك أن نفخ الروح مشترك بين الكل ؛ ولذا لم يتميز العارف من غيره إلا بما فوق الروح من الكمال الخصيص بالسر بخلاف الصفات الإلهية ؛ فإنها مختصة بالمؤمن المطيع المتقي حق الاتقاء ، فمن لم يستكمل من حيث الصفات الإلهية ؛ لم ينفعه مجرّد كونه منفوخ الروح ؛ لأن المعتبر في الكمال أن يكون بالفعل لا بالقوة ، فكان هذا نظير الشخص الحسن من حيث هيئات وجوده ، مع اللباس القبيح ، والصفة إذا كانت غالبة : يستحيل الذات إلى صورة الصفة ، فيكون الذات والصفة قبيحين.

__________________

(١) رواه مسلم (١ / ٨) ، وأبو داود (٣ / ٣١٧).

١٠

أمّا الذات فبحكم الجوار ، وأمّا الصفة فظاهرة ، والأول نظير الشخص الحسن من تلك الحيثية مع اللباس الحسن ، فإن للحسن مع الحسن شرفا زائدا على الحسن مع القبيح فاعرف.

ألا ترى أن غير الهاشمي ألحق بالهاشمي من حيث صفاته الحسنة التي عمدتها طهارة الباطن ، فكان من أهل البيت تحقيقا ، والهاشمي ألحق بغير الهاشمي من حيث صفاته القبيحة التي أعظمها خبث الباطن فخرج من عداد أهل البيت.

ومن هذا ظهر أن الصبيان ساقطوا عن درجة الكمال ؛ لأن نسبتهم إلى الذات أقوى من نستهم إلى الصفات ، ومن ثم كثر فيهم الأمراض والهلاك ؛ إذ ليس لذواتهم قوة صفاتية ، فهم كفرع ينجذب إلى الأصل بأهون شيء من الأسباب ، وهو الاستحالة الناشئة عن قوة الانفعال وعدم الاستمساك ، وتبين أيضا أن حكمة الخروج من العدم إلى الوجود ؛ إنما هي تكميل مرتبة الصفات ، فمن كان محروما عن هذه المرتبة ؛ لم يكن على شيء.

ومن هنا نفع طول العمر إذ الكمال الإنساني تدريجي ؛ وإنما جعل عمر هذه الأمة بين الستين والسبعين ؛ لأن حقيقة التوبة والإنابة إنما تظهر في هذه المدة ، كما يشير إليه كون ما بين مصراعي باب التوبة مسافة سبعين سنة ؛ وهذا من كمال استعداد هذه الأمة ؛ ولذا جعل مدة بقائهم ألف سنة ، وأمّا الأمم السالفة فقد دل طول أعمارهم ، وامتداد مددهم على أنهم من أهل الإبطاء لا من أهل الإسراع.

٤ ـ في الحديث الصحيح : «من أخذ شبرا من الأرض ظلما ؛ طوقه إلى سبع أرضين» (١)

وفي بعض الأحاديث : «خسف به» (٢).

اعلم : أن الأرض لله تعالى يورثها من يشاء ؛ لأن نماء الأرض إنما هو بالماء ، والله الذي أنزل من السماء ماء فسالت أودية ، فملك الأرض إنما هو لصاحب الماء

__________________

(١) رواه مسلم (٣ / ١٢٣١) ، وأحمد (١ / ١٨٨).

(٢) رواه البخاري (٢ / ٨٦٦) ، وأحمد (٢ / ٩٩).

١١

في الحقيقة ؛ ولذا لا تنكح الحاملة ؛ لأن فيه سقي زرع الغير بماء الغير ، فمن غصب أرض الغير ؛ فقد غصبها بمائها ، والماء لا يكون مغصوبا ؛ لأنه سيال غير قار فلا يجوز على أنه جار مرة ومنقطع أخرى.

وكذا الروح ممد الحياة ، وبه ينموا الجسد ويبقى وهو منفوخ من الله تعالى ، وأرضه هو الجسد ، وآثاره ، فالقبض الذي يحصل من جانب الروح إنما لصاحب ذلك الروح ؛ فالغير إذا ادعاه لنفسه ؛ فكأنه أضاف الزرع المتبقى بماء غيره إلى نفسه ؛ وذلك ظاهر البطلان ، فالأرض لا تملك إلا بمائها ؛ ولذا كان بيع الحر من أكبر الكبائر ؛ إذ لا يجري فيه الملك إلا لله تعالى ، فكل من التطويق ، والخسف جزاء وفاق ، فالتطويق باعتبار استعلاء الطبيعة عليه ، والخسف باعتبار توغّله في الأمور الطبيعة.

ولّما كان الظلم وضع الشيء في غير موضعه ؛ كان جزاؤه من جنسه ، فوضع الأرض على عنق الظالم ؛ وهي ليست محلها الموضوع لها ، وخسف بالأرض ، وقد كان مقرّه وجه الأرض وظاهرها ، فالقلب من الظاهر إلى الباطن إلى عدم علمه بظاهر الأمر في تلك الغير.

(وسبع أرضين) :

إشارة إلى طبقات الوجود ، وقاراته السبع مع أنه منطو على أعضاء سبع هي مفتاح الأبواب السبعة للنار التي تحت الأرضين ؛ وهي : السمع ، والبصر ، واللسان ، واليدان والرجلان ، والبطن ، والفرج.

وأمّا القلب : فمن سماء الروح لا من أرض القلب ، وكذا هو مشتمل على عناصر الأربعة ، الجسد ، والنفس النامية ، والنفس الحيوانية.

وكل ذلك مما يلى ظاهر الوجود ، فلمّا اشترك هذه السبعة في المعصية ؛ جوزيت بالسبع فكان المنتهى هو السجين ؛ وهي الطبيعة الشاغلة ، وفي الحديث نهي عن التعرض إلى الغير إلا بحقه ؛ كالقصاص وسائر الحدود.

* * *

١٢

٥ ـ في الحديث الصحيح : «من أدرك ماله بعينه عند رجل أفلس ، أو إنسان قد أفلس ؛ فهو أحق به من غيره» (١) :

فيه إشارة إلى أن «الحكمة ضالة المؤمن إينما وجدها أخذها» (٢) ، إذ بتلك الحكمة يتموّل ويستغنى.

كما قال الله سبحانه وتعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) [البقرة : ٢٦٩](٣).

وفي قوله : (عند رجل أفلس) : إشارة إلى قوله : «خذوا العلم من أفواه

__________________

(١) رواه البخاري (٢ / ٨٤٦) ، ومسلم (٣ / ١١٩٣).

(٢) رواه الترمذي (٥ / ٥١) ، وابن ماجه (٢ / ١٣٩٥) بنحوه.

(٣) تفسير الحكمة على خمسة وجوه :

فوجه منها : الحكمة : يعني المواعظ التي في القرآن من الأمر والنهي ، فذلك قوله في البقرة (وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ)[يونس : ٢٦] ، يعني القرآن ، (وَالْحِكْمَةِ) يعني المواعظ التي في القرآن من الأمر والنهي والحلال والحرام ، كقوله في النساء : (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ)[النساء : ١١٣] ، يعني القرآن ، (وَالْحِكْمَةَ ،) يعني الحلال والحرام الذي في البقرة ، نظيرها في آل عمران : (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ)[آل عمران : ٤٨] ، يعني المواعظ التي في القرآن من الحلال والحرام مثلها في آل عمران ، كقوله عن يحيى في سورة مريم : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)[مريم : ١٢] ، يعني الفهم والعلم.

والوجه الثاني : الحكمة : يعني الفهم والعلم ، كقوله عن لقمان : (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ)[لقمان : ١٢] ، يعني الفهم والعلم ، وقال في الأنبياء : (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً)[الأنبياء : ٧٩] ، يعني الفهم والعلم ، وقال في الأنعام : (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ)[الأنعام : ٨٩] ، يعني الفهم والعلم.

والوجه الثالث : الحكمة : يعني النبوة ، فذلك قوله في النساء : (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ)[النساء : ٥٤] ، يعني النبوة ، وقال في ص : (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ)[ص : ٢٠] ، يعني النبوة (وَفَصْلَ الْخِطابِ ،) وقال لداود في البقرة : (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) (٣) [البقرة : ٢٥١] ، يعني النبوة.

والوجه الرابع : الحكمة : يعني تفسير القرآن ، فذلك قوله في البقرة : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)[البقرة : ٢٦٩].

والوجه الخامس : الحكمة : يعني القرآن ، فذلك قوله في النحل : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ)[النحل : ١٢٥] ، يعني القرآن. وانظر : الوجوه والنظائر لمقاتل (ص ٢٦) بتحقيقنا.

١٣

الرجال» (١) ؛ وهم الرجال الذين أفلسوا عن نفوسهم ، ومالها ؛ فأغناهم الله تعالى بذاته ، ومالها.

كما قال : (وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) [الضحى : ٨].

: أي وجدك خاليا عنك فملئك به نفسه ، والمال العين ؛ إشارة إلى العلوم الحقيقة التي لا اختلاف فيها ، بخلاف غيره من المال ؛ فإنه علوم غير حقيقية متغيرة بحسب مشارب أهاليها ، فالمطلوب بالذات ؛ هو العلوم الإلهية اللدنية ، وبالتبعية وهو العلوم النظرية الاستدلالية.

وأمّا العلوم الشيطانية ، والمعارف النفسانية فليست بمال أصلا فلا تطلب قطعا ؛ بل (تحرهما) وأصحابها فضلا عن الطلب ، وأمّا قولهم : مال أهل الحرب في المسلمين ؛ فإنما هو في الرابح ، فخذ ما صفا ، ودع ما كدر فأنت المصيب.

٦ ـ في الحديث الصحيح : «من اقتنى كلبا لا يغني عنه زرعا ولا ضرعا ؛ نقص من عمله كل يوم قيراط» (٢) :

أشار بالكلب إلى النفس ، وبالزرع إلى حرث الآخرة ؛ وهي الأعمال الصالحة الظاهرة.

كما يقال : الدنيا مزرعة الآخرة ، وبالضرع إلى الفيض الإلهي الجاري من ضرع القلب والروح ، وبالنقص إلى قوله : «من استوى يوماه ؛ فهو مغبون» (٣).

فالفائدة في النفس الإنسانية التي النفس الأمّارة الكلبية قوة من قواها أعمالها في تحصيل الكمالات الظاهرة والباطنة.

كما قال تعالى : (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) [المائدة : ٦٦] أي : من طريق الكسب والوهب ، فإذا عطلت جاء الغبن والخسارة.

كما قال تعالى : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [الأنعام : ١٨].

فالنفس : هي البضاعة وبها التجارة والربح ، فمن أعلمها ، ربح ، ومن أهملها ؛ خسر.

__________________

(١) رواه الخطيب البغدادي في الكفاية (١ / ١٦١) ، وذكره المزي في تهذيب الكمال (١٠ / ٣٣٦).

(٢) رواه البخاري (٣ / ١٢٠٧) بنحوه ، ومسلم (٣ / ١٢٠٣).

(٣) رواه أبو نعيم في الحلية (٨ / ٣٥) ، والديلمي في الفردوس (٣ / ٦١٨).

١٤

وأول الخسران : عدم الإيمان ، والاعتقاد ، ثم العمل ، ثم الحال ، ثم المقام ؛ وفيه إشارة إلى أن الكلب إذا كان نافعا ؛ خرج عن الكلبية ، وإن كان صورة الكلب الضار ، كما أن الإنسان إذا كان ضار ؛ أخرج عن الإنسانية ، وإن كان في صورة النافع ، فالاعتبار بالمعنى لا بالصورة.

٧ ـ في الحديث الصحيح : «من أكل البصل والثوم والكرات» (١) :

(والكرات) : كرتان على ما في القاموس بقل من البقول يقال له بالفارسية : كندان الرائحة الكريهة ، ودخل في هذه الثلاثة كل ما يشاركها في الرائحة ، وذلك بطريق الدلالة والإشارة ، وإن لم يساعدها اللفظ والعبارة ؛ فلا ينفى التخصيص بالثلاثة ما عداها ، ونظائره غير واحدة.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فلا يقربن مسجدنا» (٢) : أي مواضع العبادات في وقت حضور الجماعات : أي موضع كان من حرم مكي ، أو مدني ، أو سليماني أو غيرها ، فلو حضر مواضع العبادات في وقت غير العبادات وحضور الجماعات ؛ كان خارجا عن النهي كما يقتضيه قوله : «فإن الملائكة تتأذّى مما يتأذّى منه بنوا آدم» (٣).

لم يقل : فإن الملائكة تتأذّى منها إشارة إلى أصل العلة ؛ هي تأذّي لكامل بني آدم وخواصهم من كل ما له رائحة كريهة ، فإنهم إذا تأذّوا منه ، وهم في الصورة أجسام كثيفة ؛ كانت الملائكة أولى به ؛ وهم أجسام لطيفة على أن التأذّي من مثل ما ذكر صفة الروح والأرواح العالية مشاركون لخواص البشر في تلك الصفة وخواصها ، وقد ثبت إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حبب إليه الطيب كما حبب إلى الملائكة ، ومن ذلك سن تبخير المساجد يوم الجمعة ؛ لحضور ملائكة الرحمة فيه.

فظهر أن المراد بالملائكة هم الملائكة الحاضرون في أوقات مخصوصة في مواضع مخصوصة ، وأمّا الملائكة الملازمون في الأوقات كلها ؛ كالكاتبين ونحوهم ؛ فإنهم وإن كانوا يتأذّون مما ذكر أيضا ؛ لكن أمرهم أهون ؛ لقلتهم بالنسبة إلى الحاضرين في

__________________

(١) رواه مسلم (١ / ٣٩٥).

(٢) تقدم تخريجه.

(٣) تقدم تخريجه.

١٥

الأوقات المخصوصة في المعابد.

إذ لا بد لابن آدم من أكل ما هو مباح الأصل ، وإن كان في بعض الأقات على أن العزيمة الترك مطلقا ؛ ولذلك كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يأكل البصل ونحوه بتا ، وإن لم يقرب من المسجد ؛ لكثرة نزول الملائكة عليه وحضورهم لديه.

فإنه إذا كان ظاهر المسجد لا يحتمل ما ذكر ، فكيف باطنه ؛ وهو القلب المطهّر المبخّر بالروائح الأنسية الغيبية ، ومن هنا يعرف حال الضّب ونحوه ، فإنه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ لم يمنع العامة عن أكله مع أنه لم يأكله ، ففرق بين الرجال الحاضرين محاضر الأنس والقرب ، وبين الغائبين عنها.

ولّما أهبط أبو البشر آدم عليه‌السلام إلى الأرض ؛ أغشي عليه من رائحة الدنيا المنتنة ؛ لاعتياده بروائح الجنة العطرة ، فإذا كان حال ما هو مباح الأصل هذا ، فما ظنك بغيره؟

وإن كان يستطيبه أكثر العوام فإنه ليس الكلام معهم ؛ بل مع الخواص ؛ فإنهم هم الذين يعتبر استطابتهم واستخباثهم ؛ ولذا عدّوا من استعمله ممن هو في ذي المتصوّفة شيطانيا نفسانيا ؛ لأن الإسراف يوجب الحرمان من المناجاة ، فكيف الإسراف في المحرمات والمشتبهات؟! وكل ما هو حجاب عن الله تعالى فهو حرام.

فإن قلت : أليس الله تعالى هو القائل : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) [البقرة : ٢٩]. واللام للمنفعة.

قلت : بل اللام للعلة في الحقيقة : أي هو الذي خلق لامتحانكم كما قال : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الكهف : ٧] ، مع قوله : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ) [الأعراف : ٣٢] ، على أن قولهم : إن الأصل في الأشياء الإباحة ؛ معناه في الأشياء النافعة لا في الضارة ، ومن الضارة شرب الدخان ؛ كأكل التراب ، والفحم المحروق ونحوها مما فيه ضرر بيّن للبدن الذي يقوم أمر الطاعة ، وخدمة العبادة.

وأقوى أدلة حرمة الدخان قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] ، وذلك أنه لا شك عند أهل العقول السليمة أن المعتاد

١٦

لشربه لا يزال يستثقل الصوم والصلاة ونحوهما من العبادات ، واستثقال العبادات المشروعة كفر ، فالمؤدي إليه الدخان ونحوه حرام لا محالة وخبيث لا شبهة.

وقد جعل الله الطبيبات للطيبين ، والخبيثات للخبيثين ، فليختر الخبيثون لنفوسهم بنفوسهم ما شاءت نفوسهم ، كما أنه ليختر الطيبون لنفوسهم بربهم ما شاء ربهم ، فمن لم يعرف القمح من الزّمن الزّوان ؛ وقع في العناد والحرمان ، وترك العمل بالآية والحديث ؛ أذية لله ورسوله.

وقد قال : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) [الأحزاب : ٥٧].

والنفس السليمة تفرق بين الطيب والخبيث فلا تقرب من الخبيث ، فكيف إذا أيّدها النصوص والشواهد والبينات؟! فإن من فقد شمه ؛ استوى عنده الخبيث والطيب ، ولأمر ما أمر الشارع بالسواك ، فإن كنت من أهل الفهم ؛ طهّرت الفم والفؤاد ؛ فإنه لا يمس المراد إلا المطهّرون من الأدناس والأوضار ، ولا يليق بالمعاني إلا أهل الحقائق الأخيار.

٨ ـ في الحديث الصحيح : «من أنظر معسرا» (١) :

أي أخّر مطالبته ذي عسرة ؛ وهو المديون الفقير.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أو وضع له» (٢) : أي حطّ عن دينه بعضه أو كله.

ولّما كان في هذا إزاحة الغم عن القلب ، وإراحة الروح عن الهم ؛ جعل جزاءه الاستراحة الأخروية ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أظله الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله» (٣).

فإن الإظلال في الحقيقة (٤) : عبارة عن الإراحة سواء كان هناك ظل حقيقة أو

__________________

(١) رواه البخاري (٢ / ٧٣١) ، ومسلم (٤ / ٢٣٠٢).

(٢) رواه الحاكم في المستدرك (٢ / ٣٣) ، وابن حبان في صحيحه (١١ / ٤٢٤).

(٣) رواه البخاري (٢ / ٥١٧) ، ومسلم (٢ / ٧١٥).

(٤) قلت : (يظلهم الله تعالى في ظلّه) إضافة الظل إليه سبحانه وتعالى إضافة تشريف ، (كناقة الله) ، والله تعالى منزّه عن الظل ؛ إذ هو من خواص الأجسام.

١٧

لا ، كما قال عزوجل : (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً) [النساء آية : (٥٧)] ، وإنها رغبة في إمهال المديون في باب الأموال عملا بإمهال المديون في باب الأعمال ، كما قال تعالى : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) [فاطر : ٣٧].

فالفقير إذا فتح له في مدته ؛ يجب عليه أن يقتضى دينه حتى يستريح ، وإلا كان مسجونا ، وسجن الله تعالى هو جهنم في الآخرة ، والطبيعة في الدنيا.

فالعاصي مسجون في الدنيا والآخرة ، وهو لا يشعر بحاله في الدنيا ؛ لأنه نائم فكما أن النائم لا يستيقظ إلا عند الصباح ، فكذا الغافل لا ينتبه إلا عند الموت ؛ والموت طبيعي واختياري ، والثاني هو المقبول المشار إليه بقوله عزوجل : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة : ٢٤٥] على قراءة الفتح من الرجوع ، لا على قراءة الضم من الرجع.

٩ ـ في الحديث الصحيح : «من أنفق زوجين في سبيل الله ؛ دعاه خزنة الجنة كل خزنة باب» (١) :

أي كلهم ، المراد بالتشبيه كثرة الأزواج لما دلّ عليه عموم الدعوة من جانب الخزنة ؛ إذ لكل عمل من الأعمال الصالحة خصوصية في دخول باب من أبواب الجنة على ما تقتضيه الحكمة ، فمن له مع التوحيد كل عمل ، وكل خلق ؛ فهو يدخل الجنة من كل باب من أبوابها دفعة واحدة ، فيكون له شرف زائد على غيره ، ممن يدخلها من بعض أبوابها ؛ لأن المطلق أعظم من المقيد.

فإن قلت : كيف يتصور الدخول الدفعي ، ولا إمكان له في عالم الدنيا؟

قلت : لا يقاس النشأة الأخروية للطافتها ، على النشأة الدنيوية لكثافتها ، على أن الدنيا عين الآخرة للمتروحنين المطورين ؛ ولذا تراهم يحضرون في وقت واحد في

__________________

ـ فالمراد ظل عرشه ، كما في حديث سلمان عند سعيد بن منصور بإسناد حسن.

وقيل : ظل طوبى أو ظل الجنة ، وهذا يرده قوله : (يوم لا ظل إلا ظله) ؛ فإنه المراد يوم القيامة ، وظل طوبى أو الجنة إنما يكون بعد الاستقرار فيها وهذا عامّ.

والحديث يدل على امتياز هؤلاء على غيرهم ، وذلك لا يكون في غير القيامة ؛ حين تدنو الشمس من الخلق ، ويأخذهم العرق ، ولا ظل ثم إلا للعرش.

(١) رواه البخاري (٣ / ١٠٤٥) ، ومسلم (٢ / ٧١٢).

١٨

مجالس متعددة من غير تكثر في ذواتهم ، ويدخلون البيت من غير الباب والكوة ، ولا يدرك حقيقة هذا الأمر إلا من ولج ملكوت السموات ، والله الهادي.

١٠ ـ في الحديث الصحيح : «من بنى لله مسجدا» (١) :

أفاد الكلام الإخلاص ، وأخرج ما بني رياء وسمعة ، وأخرج المسجد معابد الكفار ، ثم أكدّ معنى الكلام بقوله :

«يبتغى به وجه الله» (٢) ؛ فإنه يراد به الإخلاص ؛ إذ وجه الله ذاته ورضاؤه عبر به عن الذات ؛ لأنها أشرف الأعضاء ، وعن الرضا ؛ لأن أثر الرضا ؛ إنما يظهر في الوجه ، وفيه إشارة إلى أن ما بني بطريق الرياء ، ولأهل البدع والأهواء في حكم الكنائس ؛ إذ هو عمل محبوط رأسا ؛ كعمل الكفار.

«بنى الله له مثله في الجنة» أي في الجنة الصورية الحسية في الآخرة ، وأعاد له إشارة إلى المكافآت ، والجزاء الوفاق إذ لا معنا لبناء المسجد في الجنة ، ودلّ المثلية على مراتب الإخلاص (٣) ، فإن كان الإخلاص في مرتبة القلب التي هي مرتبة العشرات ؛

__________________

(١) رواه الترمذي (٢ / ١٣٤) ، وابن ماجه (١ / ٢٤٣).

(٢) ذكره القرطبي في تفسيره (٢ / ٨٤) ، وابن كثير في تفسيره (٣ / ٢٩٣).

(٣) قال الشرقاوي : قيل لسهل بن عبد الله رضي الله عنه : أي شيء أشد على النفس؟ فقال : الإخلاص ، وكم أجهد في إسقاط الرياء عن قلبي ، فكأنه ينبت فيه على لون آخر.

قال أبو طالب رضي الله عنه : والإخلاص عند المخلصين : إخراج الخلق من معاملة الخالق ، وأول الخلق النفس.

وعند المحبّين : ألا يعمل عملا لأجل النفس ، وإلا يدخل عليه مطالعة العوض ، أو تشوف إلى حظ طبع.

وعند الموحدين : خروج الخلق من النظر إليهم في الأفعال ، وترك السكون والاستراحة بهم في الأحوال انتهى.

فإذا حمل العبد في نفسه وألزمها التواضع والمذلّة ، واستمرّ على ذلك حتى صار له خلقا وحيلة بحيث لا يجد لضعته ألما ولا لمذلته طعما زكت نفسه واستنار بنور الإخلاص قلبه ؛ ونال من ربه أعلا درجات الخصوصية ، وحصل أوفى حظ ونصيب من المحبة الحقيقية ، فهذا لا يكره الذم من الخلق ؛ لوجود النقص في نفسه ولا يحب المدح منهم ؛ لفقد القدر والمنزلة في نفسه ، فصارت الذلة والضعة صفة لازمة له ، لزوم العرض للجوهر ، فإن كان مع الله تعالى بالذل طلبه واستحلاه ، كما يطلب المتكبر العز ويستحليه إذا وجده ، فإن فارق ذلك الذل ساعة لغيّر قلبه لفراق حاله ، كما أن

١٩

فله بمقابلة مسجد واحد عشرة بيوت جنانية لا يقادر قدرها ؛ لأنها من الجواهر ، وبيوت الدنيا من الأحجار ونحوها.

وإن كان في مرتبة الروح التي هي مرتبة المئات ؛ فله بمقابلة مسجد واحد مائة بيت من البيوت الفردوسية لا يكننه كنهها ؛ لأنها من الدرر واللآلئ الصافية ، وإن كان في مرتبة السرّ التي هي مرتبة الألوف ؛ فله بمقابلة مسجد واحد ألف بيت من البيوت العدنية المبنية على الأنوار ، وإن كان فوق ما ذكر ؛ فله أجر بغير حساب على أن من بنى مسجدا في الدنيا فإنما يبنيه لإقامة الصلاة ، التي هي محلّ المناجاة والمكاشفة

__________________

ـ المتعزز إن فارق العز ساعة تكدر عليه عيشه ؛ لأن ذلك عيش ، فإذا لا بدّ للمريد إسقاط جاهه وإخمال ذكره ، وفراره عن موضع اشتهاره وتعاطيه أمورا مباحة تسقطه من أعين الناس ، كقصة السائح الذي سمع به ملك زمانه فجاء إليه ، فلما علم بذلك السائح استدعى بقلا وجعل يأكله أكلا عنيفا بمرأى من الملك ، فلما رآه على تلك الحالة استحقره واستصغره فانصرف عنه ذا ماله.

وقد بالغ بعضهم في مداواة علة الجاه الذي علق في القلوب ، حتى استعملوا في ذلك أشياء منكرة في ظاهر الشرع ، ورأوا فعل ذلك جائزا لهم ولغيرهم ، وذلك مثل قصة الرجل الذي دخل الحمام ولبس من فاخر ثياب الناس ، بحيث تظهر ومشي بذلك متمهلا بحيث يرى ويظن بذلك السرقة ، فلما رآه الناس أخذوه وصفعوه ، ورموا الثياب عنه واشتهر عندهم بالسرقة ، حتى كان يعرف عندهم بلص الحمام ، فحينئذ وجد قلبه.

ومثل ما يروى عن أبي يزيد رضي الله عنه في قصة الشاهد ، الذي أمره بحلق رأسه ومخلاته مغلقة في عنقه أيضا ، وإعطائه من ذلك لمن يصفعه من الصبيان ، وطوافه على تلك الحال في المحافل والمحاضر ذكر ذلك أبو حامد الغزالي رضي الله عنه وغيره.

وإذا جاز لمن غصّ بلقمة حلال أن يسيغها بالجرعة من الخمر إذا لم يجد غيره ، مع أن تحريمه مقطوع به ولا يفوته بترك الجرعة إلا حياة فانية ، فلأن يجوز مثل هذا إذا تعين عليه أولى ؛ إذ يفوته بترك المنكر في ظاهر الشرع الحياة الباقية والقرب من الله تعالى ، فإذا التزم العبد هذه الطريقة من الرياضات ماتت نفسه ، وحيا قلبه وقرب من حضرة ربه ، واجتنى ثمرة غرسه على غاية الكمال والتمام.

وتلك الثمرة أخلاق الإيمان ، التي تكيفت بها نفسه وصارت كصفاته ذاتية له ، وهي نتيجة الحكمة التي أنبتها الله في قلوب عباده المتواضعين.

قال تعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)[البقرة : ٢٦٩].

٢٠