مرآة الحقائق - ج ١

إسماعيل حقّي البرسوي

مرآة الحقائق - ج ١

المؤلف:

إسماعيل حقّي البرسوي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
977-344-218-7

الصفحات: ٤٣٦
الجزء ١ الجزء ٢

النساء ، فأعرضت عنه ، وخطر ببالي قوله تعالى : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) [الإسراء : ٧٢] ؛ يعني أن من كان مجبولا على العمى ؛ فلا يفيده العلاج.

وأمّا العمى العارض : فقد يزول بسبب من الأسباب ، وكذلك حال الذي سلك طريق الحق ، وكان مطمح نظره ما انتهى إليه نظر الأخصّاء ، فإنه يكشف الله عماه ، إما في الدنيا ، وإمّا في الآخرة.

وأمّا غير السالك : فيبقى على حاله ، ونظيره القاعد عن الحج ، والخارج له ، فإن الخارج الغير الواصل إلى المقصد ؛ كان أجره على الله بخلاف القاعد فظهر أن في الحركات مطلقا بركات كثيرة.

* * *

٣٤١

وفي سورة فصلت

ورد صباح الثلاثاء الرابع عشر من شهر المولد النبوي سنة ثلاثين ومائة وألف قوله تعالى : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) [فصلت : ٤٤].

الضمير للقرآن ؛ يعنى أن الله تعالى هدى من استعد للإيمان إلى الإيمان بسبب القران ، كما دلّ عليه قوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء : ٩] ؛ والمقصد هداية الله تعالى بسببه ، فوصفه بصفته ؛ لقوته في السببية.

وكذا قوله سبحانه : (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) [يس : ٢] ، و (الذِّكْرِ الْحَكِيمِ) [آل عمران : ٥٨] ؛ فإن الحكيم في الحقيقة ؛ هو الله تعالى لكن لمّا اشتمل القرآن والذكر على حكم الله وحكمه ، وحقائق ذاته وصفاته ؛ وصف به.

ثم إن كون القرآن هداية إنما هو في مقابلة الضلالة ؛ وهو الخروج عن الطريق المستقيم.

كما أن الهداية هو الدخول فيه ، وكونه شفاء ؛ إنما هو بالنسبة إلى الأمراض الباطنة ؛ كالكفر ، والنفاق ، والجهل ، ونحو ذلك.

فإن المؤمن في أول دخوله في دائرة الإيمان يهتدي إلى الحق ، ويتخلّص عن الأمراض المذكورة العائقة له عن الحق ، ثم إنه يزداد هداية وشفاء بأن يترقّى إلى مرتبة الإيقان والإحسان والولاية الخاصة الأكملية ، ويتخلّص عن التلوينات والحجب الحاصلة في مرتبة الروحانية ؛ وهي الحجب الكونية اللطيفة الرقيقة النورانية (١).

__________________

(١) قال سيدي محمد وفا في المعاريج : واعلم أن الحجب النفسانية والروحانية النورانية والظلمانية ما كثف منها وما لطف راجع إلى أوصاف تلبسها النفوس والأرواح من الأقوال والأعمال ، والأحوال ، والأفعال ، والنيات ، والضمائر ، والاعتقادات ، وهواجس النفوس ، وخطرات الأرواح والضمائر ، والفكر ، والتعقّل ، والتصوّر ، والتذكّر ، والتدبّر ، والعقد ، والإصرار ، والندم ، والأسف ، والإنابة ، والزّهد ، والصبر ، والرّضا ، والحمد ، والنظر ، والاعتبار ، والخشوع ، والخضوع ، والإسلام ، والاستسلام ، وحقيقة الإيمان ، والإحسان ، وتحقيق العرفان ، وما يجري مجرى هذه الأوصاف المعنوية ، وأن جميع ذلك وصف من اللبس والتجلّي والمساكن والمطالب والمراغب والقصور والحور والولدان ، والمقامات الحسان ، وعجائب غرائب العطايا الحسان من أنواع النعيم ، وأفضال الكريم ،

٣٤٢

__________________

ـ الملك الديان ، فالروح له العروج والارتقاء وقبول إفاضات الأنوار الرحموتية الكشفية ، وتلقيات العلوم اللدنية ، وتنزلات الروحانية ، والفتوحات الربّانية ، وخرق الحجب النورانية ، واتّباع الأقدام المحمدية للوصول للدخول والحضور بين يدي الحضرة الإلهية ، وتحقيق القرب والمشاهد لجمال الوجهة الربّانية الصمدانية ، والتجريد ، والتفريد ، والتخلّق ، والتشبّث ، والتعلّق بأذيال المحمدية ؛ لبلوغ المقصود من الإفاضات الرحموتية ، والإضاءات النورية لشهود رب البرية لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.

وأما حجابيات النفوس فبالعكس مما ذكرناه من المهابط الدركية ، والمسالك الظلمية ، والمهالك النارية ، والمساكن الدنية ، والمنازل الحصرية ، والمطاعم الزقومية ، والمثاوب الحميمية ، والملابس النيرانية ، والسرابيل القطرانية ، جزاء الأعمال الكفرانية ، والأعمال الخسرانية ، فجزاء الحسنات أنوار روحانية ، ولطائف ضيائية ، وجزاء السيئات ظلم حجابية ، ولبس جسمانية نفسانية نارية كثائف أرضية.

قال الله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ* ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ* ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ)[المطففين : ١٥ ـ ١٧].

فأشد عذاب أهل الحجاب الطرد والإقصاء والإبعاد عن باب كرم الله ، والإياس من رحمة الله ، والوقوع في عين غضب الله ، وأدناه الوقوع في عين الجهل بالله ، والشرك في العمل لغير الله ، والغفلة عن القيام بحقوق الله ، والالتفات لمطامع النفوس بالتوجّه لغير الله ، وطلب الرزق من غير الله ، وجلب قلوب الآدميين إليه بما لا يرضى الله ، والغفلة عن الإنابة بالرجوع إلى الله ، والانهماك في طلب الدنيا حرصا عليها ، وجمعها لغير الله ، وإكثار ما تدخره النفس لضعفها عن الثقة بالله ، فالمتصفون بهذه الصفات محجوبون حجبا نفسانية دون الحجاب الأول ، ولكل وصف منهم عذاب يناسبه كثيف لكثيف ، ولطيف للطيف ، فحجب النفوس يعذّب به الأخسرين الظالمين ، والفاسقين الكافرين ، وحجب الأرواح ينعهم فيها الصالحون ، والشهداء ، والصديقون ، والأولياء.

فأما الأنبياء والمرسلون فلما كانوا معصومين من الكبائر برءوا من حجابيات النفوس ، وأما الصغائر فمن ناله بارق منه ، أو لحظة خاطر ، أو يسمع له لامع ، أو سنح له خاطر ، أو خطر له وهم ، أو عدل به فهم ، أو وقف عند دعوى ، أو شكى نزول بلوى ، أو لفت لغير ربه ، أو ذهل عن استغفار ذنبه ، فإن كل ذلك لطائف حجابيات ، تنعم فيها الأرواح في رياض الجنات ، مع أنها مشتغلة عن الغرق في لجج بحر التوحيد ، ومقام التفريد ، وحسناتهم لا تحصر عددا ، ولا تبلغ مددا ، وسيئاتهم حسنات

٣٤٣

__________________

ـ الأبرار أهل اليمين ؛ فإنهم المقرّبون بحضرة رب العالمين.

قال الله تبارك وتعالى : (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ* فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ* وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ* فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ* وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ* فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ* وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ* إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ* فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)[الواقعة : ٨٨ ـ ٩٦].

فالأنبياء المرسلون هم خواص المقرّبين ، والأنبياء غير المرسلين مفضولون بالمرسلين ، وكل متفاوتون في درج القرب والتكريم ، فقريب وأقرب.

قال الله تبارك وتعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ)[البقرة : ٢٥٣].

فالمقرّبون من المرسلين والأنبياء والمصطفين والأولياء المجتبين أصحاب قدم صدق وتمكين ، ونفوس تشرف على نفوس الخلق أجمعين ، فهي تقية نقية ، زكية ، بهية ، شريفة ، علية ، سنية ، قدسية ، خالصة عن الشرك ، بريئة من الشك ، فهي تتصرّف من الحجابيات ، ولا تحجب بالحجابات ، فإن الحجب النورانية مقامات عليّات ، ومنازل درجات ، ومساكن طيبات ، ومقاعد صدقيات ، فالمقرّبون حاكمون عليها ، وهي حاكمة على من دونهم في المراتب من الأبرار وأهل اليمين ، فالأولياء الأبرار تحكم عليهم المقامات ، وتتصرّف فيهم الواردات ؛ لضعفهم عن حمل أثقال النبوات ، وأعباء الرسالات ، وتظلهم أنوار المقامات ، وتسلبهم الأحوال بأسرار أثقال الأقوال المنزلات.

قال الله تبارك وتعالى لنبيه عليه‌السلام : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً)[المزمل : ٥].

فمن كان ضعيفا عن حمل ما يتنزل ، لابسا صفته البشرية ، فهو في حصر المقامات وأحكام الحجابيات ، فالجسم لا يطيق حمل تنزل اللطائف الجبروتية إلا بواسطة حمل النفس ، والنفس لا تستطيع حمل واردات القلب إلا بواسطة شرح الصدر ، والصدر لا يطيق حمل واردات الروح إلا بواسطة القلب ، والقلب لا يستطيع حمل واردات السر إلا بواسطة الروح ، والفؤاد لا يطيق حمل واردات الفيض الإلهي إلا بواسطة قبول السر ، والسر لا يقبل مشاهدة الحضرة الإلهية وسماع الكلام الربّاني إلا بواسطة الرحمة ، فالرحمة تنزلت بسر الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام ، فالأسماء حجب الذات ، والصفات حجب الأسماء ، والأفعال حجب الصفات ، فالحجب تحجب بعضها بعضا ، فحجب الأجسام من نسبتها ، وحجب الأرواح من نسبتها ، فالنفوس الطبيعية مخلوقة عن لطائف طبيعية عنصرية ، فالهياكل الجسمانية واللطائف الإنسانية

٣٤٤

__________________

ـ حجابيات لها ، ومظاهر تظهر فيها بتصريفها من حركاتها وقيامها وقعودها وصلاتها وسعيها ودوائها ودائها ، والأجسام اللطيفة حجابيات لا لطف منها ، فالنفوس حجابيات الصدور الجبروتية ، والصدور حجابيات القلوب الملكوتية ، والقلوب حجابيات الأرواح الروحانية ، والأرواح حجابيات الأسرار العقلية ، والأسرار حجابيات الأفئدة النورية ، والأنوار حجابيات الصفات الرحموتية ، والصفات الرحموتية حجب أسماء الربوبية ، وأسماء الربوبية مظاهر صفة الألوهية ، وأسماء الألوهية سماء ذات الصمدانية الأحدية الفردانية ، جلّ ربنا وتقدّس عن تشبيه المشبهين ، وزيغ الزائغين ، ووهم قلوب القوم العمين ، وتبارك الله رب العالمين ، فتنزلات أسماء الألوهية لظهور الربوبية ، وتنزلات الربوبية لظهور الرحموتية ، وتنزل الرحموتية لظهور النورية الروحية ، وتنزل الروحية النورية لظهور الروحانية ، وتنزل الروحانية لظهور الملكوتية ، وتنزل الملكوتية لظهور الجبروتية ، وتنزل الجبروتية لظهور النفسانية ، وتنزل النفسانية لظهور الجسمانية ، وظهور كل حقيقة من سمائها إلى أرضها لظهور تصريفها في عوالمها ، فلا يظهر تصريف النفس إلا بواسطة الجسم ، ولا يظهر تصريف الصدر إلا بواسطة النفس ، ولا يظهر تصريف القلب إلا بواسطة الصدر ، ولا يظهر تصريف الروح إلا بواسطة القلب ، ولا يظهر تصريف السر إلا بواسطة الروح ، ولا يظهر تصريف الفؤاد إلا بواسطة السر ، وكل حجب نورانية ونارية ، فالحجب السمائية نورانية ، والحجب النارية ظلمانية ، فالنورانية حجب الأرواح ، والنارية حجب النفوس ، فالحجب بأسرها ترجع إلى حجابين :

نوريّا ، وناريّا ، والعالم بأسره علويه وسفليه ، أرضيه وسمائيه في ضمن هذين الحجابين ؛ إذ العالم السفلي بأسره جسمانيّا ظلمانيّا.

والعلوي بأسره روحانيّا نورانيّا ، والإنسان جمع فيه خلاصة العالمين ، وحقيقة الكونين ، فهو كثيف جسمانيّ ، ولطيف روحانيّ ، فلطيفه روحا لكثيفه ، وكثيفه جسما للطيفه ، فبفضل كثيفه للطيفه تظهر روحانيته ، وبظهور روحانيته تبطن جسمانيته ، وذلك في يوم قيامته ، وتبديل أرضه غير أرضه ، وسمائه غير سمائه ، وظهور روحانيته وبطون جسمانيته ، وفي دار دنياه تظهر جسمانيته وتبطن روحانيته ، ولذلك لما كان الإنسان في دار دنياه محجوبا بحجب شتى نارية ونورانية حجب عن سماع كلام الله ، وعن مشاهدة جمال الله ، فإن صفة البشرية حجاب مانع ، وحسام للطريق قاطع.

قال الله تبارك وتعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ)[الشورى : ٥١].

٣٤٥

__________________

ـ فالأجسام والنفوس والصدور والقلوب والأرواح والأسرار والأفئدة النورانية كل حجب لله على عباد الله ، فالعباد محجوبون بأنفسهم عن مشاهدة ذات الله عزوجل ، ويفترقا الحجابان إلى سبع حجب ، ثم إلى سبعين ، ثم إلى سبعين ألف حجاب من نور وظلمة ، وأصلهن حجاب واحد ناري أو نوري ، فمن دخل في ميم المحمدية ، وحاء الحقيقة الحنيفية ، وميم الملكية ، ودال الديمومية ، وألف الإحاطية ، وحاء الأحمدية ، وميم الملكية العبدانية ، ودال العبودية ، زج زجة تبعية محمدية أحمدية ، فخرق الحجب النارية الجسمانية والنورية الروحانية ، ولحق بالإمامة المحمدية ، والسيادة العبدانية ، وتحقق بالخصوصية لسيد البرية إمام الملكية في الروحانية والآدمية في الإنسانية ، فكثرة الأعداد في الحجب بكثرة التباس الأوصاف ، والوقوف عند أحكام الصفات ، فكل وصف توصف به النفس حجاب كل صفة تتصف بها الروح حجاب ، فالحجب النورانية تجذب الروح للتنعّم بها ، والحجب النارية تجذب النفس لتتنعم بها ، في نعيم الروح دون النفس عذاب النفس ، وفي نعيم النفس دون الروح حجاب الروح ، فنعيم الأرواح رفع الحجب الملكوتية ، وكشف الأغطية الروحانية ، وإيضاح الدرجات النورانية ، وكشف أسرار الآيات الفرقانية ، وتبيان العلوم الغيبية ، وإيضاح اللطائف الفردوسية ، وارتقاء المقامات العلية ، وتلقيات العلوم اللدنية ، وقبول الإفاضات الرحموتية ، والإضاءات العرشية ، وكشف الأغطية الحجابية عن البواطن النورية ، ومعرفة الأرواح القدسية في العوالم البهائية قبل التنزل لمشابكة الجثمانية والبطون عن العوالم الروحانية ، والظهور تحت أحكام الصفات البشرية والآدمية الإنسانية ، ونعيم النفس دون الروح ببلوغ أغراضها الدنيوية الدنية ، ومطالباتها الشهوانية ، ولمحاتها الدركية ، وآمالها البعدية ، وأخلاقها الرذيلية ، وأعرافها الأخسرية ، ومطامعها الأقسامية ، وتشوفاتها البهيمية ، وكل ذلك بعد عن مقامات الروحانية النورانية ، واستغراق في الحجابيات الظلمية ، والمؤمنون تحرق أنوار إيمانهم كثائف حجابياتهم ، وتخرق سهام أنوارهم حجابيات نفوسهم ، فيمرقون من حجابياتهم كما يمرق السهم الثاقب ، فتنعم نفوسهم وأجسامهم بتنعم أرواحهم ، فتنعم جملتهم نفوسهم وأجسامهم وصدورهم وقلوبهم وأرواحهم وأسرارهم وأفئدتهم ظواهرهم وبواطنهم ، كثائفهم ولطائفهم ، دقائقهم ورقائقهم وحقائقهم ، فينال كل جزء وفرد من ذرات أجزائهم الظهارية والبطانية الجسمانية والروحانية أوفى نصيب ، وأزكى حظ من أنواع النعيم ، فكل رقيقة لحقيقة ودقيقة لرقيقة تشهد في ذاتها من نعم الناعمين ما لم يبلغه أحد من رقائق ذاتها لأحد من العالمين ، فتشهد الرقائق في ذواتها ترادف ازدياد النعم في كل زمن فرد متجدد ، فترى أن الجنة بأسرها لها ، وأن المزيد وارد عليها دون من عداها ، وأنه لم يبلغ أحد

٣٤٦

فإن قلت : فإذا كانت روحانية نورانية ؛ فما معنى التخلّص عنها؟.

قلت : أمّا الروح فلا كلام في كونه مخلوقا كما دلّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«أول ما خلق الله روحي» (١).

والخلق حجاب على وجه الحق بالنسبة إلى الخلق ، فإن الله تعالى لا يحتجب إلا بصفاته ، فلا حجاب له.

__________________

ـ في نعيم الجنة ما بلغت ، ولم يعط أحد ما أعطيت ، فتفوّه بالحمد لله رب العالمين ، والثناء والشكر لأكرم الأكرمين. قال الله تبارك وتعالى : (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)[يونس : ١٠].

وقال تعالى : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ)[الزمر : ٧٤].

وقال : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ* الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ)[فاطر : ٣٤ ، ٣٥].

فالأبرار أهل اليمين ، أدنى نعيمهم اشتغالهم بالتنعّم في دار النعيم ، وأعلاها كشف حجب التنعيم لمشاهدة البر الرحيم ، وأما المقرّبون فدائمون بمحاضرة الوجهة الجمالية ، والحقيقة الرحمانية ، والذات الصمدانية ، والصفة الألوهية ، فهم بين حجاب رحماني وكشف لاهوتي رباني ، فبكشف الحجاب اللاهوتي يغرقون في بحر الوحدانية ، ويفنون عن الأنانية ، ويمحون من بين الملكية والإنسانية ، فتمحى آثارهم ، وتطمس أخبارهم ، فتحرقهم أنوار اللاهوتية ، وتصطلمهم سبحات الربوبية ، فيفنون من بين الأكوان ، وتستغرقهم حقيقة كان ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان».

وكتب في الذّكر كل شيء حتى الكيس والعجز فمن أحرقته سبحات الوجهة الإلهية ، ومحقته أنوار الحقيقة الصمدانية ، تحقق بالدخول تحت ظل ميم المحمدية ، وشهدت له الحقيقة الربّانية بخصوصية العبدانية.

قال الله تبارك وتعالى : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى)[النمل : ٥٩].

وقال تعالى : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)[الحج : ٧٥].

وهو تعالى يختص برحمته من يشاء ، ويؤتي ملكه من يشاء ، ويؤتي الحكمة من يشاء ، وما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها ، وهو تعالى الفتّاح العليم ، ذو الفضل العظيم ، لا إله إلا هو رب العرش الكريم.

(١) لم أقف عليه.

٣٤٧

ومعنى الحق : اقتران الوجود بالماهية ، فالوجود ؛ هو الوجود الأول الذي هو وجود الحق ، ولا يعتريه الخلقية ؛ وإنما المخلوق هو الماهية ؛ وهي تعيّن خاص بالنسبة إلى ما في علم الله تعالى من الثبوت.

ومن هذا السرّ قال تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] ، فجعل الوجه الذي يلي وجه الحق غير هالك ؛ بل الحقيقة الإنسانية جامعة لوجهي الإطلاق والتقييد ، فوجه الإطلاق ؛ هو وجه عين وجه الحق في الحقيقة ، ولو لا هذا الوجه ؛ ما عرف الحق ؛ إذ لا مناسبة بين الحق والخلق أبدا (١).

ومن هنا ورد : «لا يعرف الله إلا الله» (٢).

وقالوا : إن البسيط لا يدركه إلا البسيط ؛ إذ لا مناسبة بينه ، وبين المركب ، وعلى هذه فابحث جميع الموجودات ، فما من كثيف إلا وله جهة لطافه بها يدركه اللطيف ، ومن هنا يدخل الروحاني من الجدار الغير النافذ.

وأمّا النور فمعنى حجابيته : كونه في مقابلة الظلمة ، ولا شك أن ما كان في مقابلة الظلمة ؛ فهو في حكم الظلمة ، كما أن الوحدة المقابلة لكثرة في حكم الكثرة ؛ ولذا لا يوصف الله تعالى ؛ وإنما يوصف بالوحدة الحقيقية التي هي مبدأ الوحدة الاعتبارية ، وكذا لا يوصف إلا بالنور الذي هو مبدأ النور المقابل للظلمة ؛ وهو النور الذاتي الأصلي الحقيقي الذي أشير إليه بلا ليل ولا نهار ؛ لأن النهار المقابل الليل ؛ هو النهار العارض ، والنور الطارئ.

وما يقال : إن الله تعالى يتجلّى في ليلة القدر ؛ فالمراد به النور الذاتي الذي ليس

__________________

(١) فكل شيء موجود نشاهده حسيّا ، ونعلمه عقلا ، وليس بهالك ، فكل شيء بوجهه ووجه الشيء حقيقته ، فما في الوجود إلا الله ، وإن تنوعت الصور ، وذلك أحكام التجلي لا المتجلّي ؛ فإنّه ورد في الحديث أنه يتنوع فيعرف وينكر ؛ لأنه كل يوم هو في شأن ، فنكر للعموم والشمول ، فذلك قال (له الحكم وإليه ترجعون) : أي من يعتقد أنّ كل شيء جعلناه هالكا ، وما عرف ما قصدناه من الآية إذا رآه ما يهلك منه ، ويرى بقاء عينه بالهلاك ، فهو وجهي ، فعلم أن الأشياء ليست غير وجهي ، فإنها لا تهلك ، فردها إلىّ حكما.

(٢) ذكره القرطبي في تفسيره (١ / ٢٦٤).

٣٤٨

في مقابلة الظلمة ، فنور ليلة القدر ؛ نور ذاتي أصلي حقيقي لا يقاس عليه إلا نور الصفاتية ، ومن نور القمر والكوكب ونحو ذلك ، فإذا عرفت هذا ؛ فاجتهد ألا يكون نورك نورا آفلا حاصلا من بعض التجليّات الصفاتية ؛ بل نورا ثابتا باقيا دائما حاصلا من التجليّات الذاتية ، والله الهادي إلى نوره.

قولهم :

تعلّم يا فتى ، فالجهل عار

صرح بالفتوة ؛ لأن المتعلّم أيّاما كان شابا أو شيخا ، إذا كان من أهل الفتوة ؛ فهو لا يستحيي أن يأخذ العلم ممن هو أعلى منه وأدنى.

دلّ عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها» (١) ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يشترط أينا واحدا متعيّنا للأخذ إذا كانت مشتملة على الحكمة ؛ وهو العلم ، وأكثر ما يطلق على باطن العلم ؛ وهو الوقوف على حقائق الأشياء كما هي (٢).

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) قال تعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) [البقرة : ٢٦٩] ، وما كثره الله تعالى لا يدخله قلة وامتن على نبيّه وخليفته داود عليه‌السلام ، وعلى نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن أتاه الحكمة وفصل الخطاب ، وهو من ثمرة الحكمة أو الحكمة نفسها ، وهو إيجاز البيان في موطن الإطناب والإسهاب في الآخر على ما يقتضيه المقام والحال ، وأوتي صاحب جمع الجمع صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لم يؤتوا وهو صدق قوله : «أوتيت جوامع الكلم» وهو من أكبر فصول الخطاب جزء من أجزاء هذا الكتاب.

وعلى لسان رتبته صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال وليّ من أوليائه : «يا معشر الأنبياء أوتيتم اللقب ، وأوتينا ما لم تؤتوا».

ذكره رضي الله عنه في «الفتوحات» عن قطب وقته وفرد عصره عبد القادر الجيلاني قدس‌سره.

والحكمة علم خاص والفرق بين الحكمة والعلم المطلق أن لها الجعل والتحكم بخلاف العلم فإنه تابع المعلوم ، فالحكيم من قامت به الحكمة فكان الحكم لها.

قال تعالى إشارة إلى هذا المقام : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)[الأنعام : ١٢] ؛ لأنها مقتضى الحكمة.

قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه في الاسم الحكيم : إنّ العارف يقدم الحكيم على العليم ، فالحكيم خصوص والعليم عموم ، ولذلك ما كل عليم انتهى كلامه رضي الله عنه.

وذلك لأنه ثبت عند أهل الكشف الأتم والتحقيق الأوسع الأعم أن الترتيب ثابت في الأعيان الثابتة في الحال بثبوتها في معدتها ، وتعلق العلم الإلهي بحسب ما هي مرتبته ، وما ترتبت إلا بالحكمة ؛ لأنه ما

٣٤٩

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) [لقمان : ١٢].

يشتمل على كل من الحكمة الطيبة ، والحكمة الإلهية الذوقية ، فالإعراض عن ملك سليمان عزوجل كما يفهم من كلمات المشايخ ؛ ليس كالإعراض عن حكمة لقمان عليه‌السلام ، فإن الملك من قبيل ما سوى الله ، وكل ما سوى الله ؛ فهو مخلوق ، فلا يصحّ للتعلّق به إلا بتحميل الله تعالى ؛ كالتحبيب في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«حبّب إليّ من ديناكم ثلاث ... إلخ» (١).

وأمّا العلم مطلقا ؛ فهو صفة شريفة إلهية ، فلا معنى للإعراض عنه حتى قيل في قولهم : العلم حجاب ، إن معناه إن العلم حجاب عن الجهل ، فليتنافس فيه المتنافسون ، فالقائل بخلافه جاهل عار عن الكلية الإنسانية الكمالية.

ثم إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما حرّض على أخذ العلم من جميع الأينيّات ؛ لأن العلم والتجلّي الأحدي والنفس الرحماني واحد عند علماء الحقيقة ، فالكل من شأنه العلم ؛ كما أنه من شأنه نفخ الروح.

__________________

ـ من ممكن مضاف إلى ممكن أخوالا ويمكن إضافته إلى ممكن آخر لنفسه مع قطع النظر عن أمر آخر ، لكن الحكمة اقتضت هكذا وهو ذاتيّ لها ، والظاهر في العالم الشهادي ظلّ ذلك العالم المعنوي على ترتيبه.

وقال الشيخ رضي الله عنه : هذا هو العلم الذي انفرد به الحق ، وجهل منه فافهم ، فظهرت به الحكم في الوجود بالوجود على ترتيب أعيان الممكنات في حال ثبوتها قبل وجودها روحا وصورة ، فبان لك الفرقان بين العلمين العلم والحكمة.

قال الحكيم العليم : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ)[ق : ٢٩] ؛ لأنه مخالف الحكمة وهي تأبى التبدّل الخارج بخلاف النسخ فإنه من الحكمة البالغة.

قال تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها)[البقرة : ١٠٦] فافهم.

فالعلم بالحكمة المنزلة تخفيفا أو تثقيلا إمّا بكشف سبحات الوجه حتى يرى ما في العين الثابتة ، فإنها حكم مرتبة من حكيم عليم ، هذا الإنسان عين صفاء خلاصة الخاصة ، وامّا ما يكشف الغطاء عن البصر والبصيرة ، أو بتعريف إلهي حتى يرى أو يعلم ما في الوجود من الحكم المرتبة ترتيب عليم حكيم.

(١) تقدم نخريجه.

٣٥٠

فإن قلت : إذا كان أهل العلم مطلقا ممن يليق أن يؤخذ منه ؛ فلم لا يقتدي إلا بأهل العمل ، ومن يرعى أدب الشريعة ، قلت : عموم التجلّي بالعلم اقتضى الأخذ الكل ؛ لشرفه وفضله ، وهو لا يقتضي الزيغ والانحراف عن الصراط السوي بخلاف العمل ، فإنه حجر عن متابعة من لم يعمل بعلمه رسميا أو حقيقيا حتى أنه المجذوب ، إذا لم يكن له أدب الشريعة لا يقتدى به ، وإن كان من أهل الحال ؛ فإذا حجر عن اتّباع مثل هذا.

فكيف الحال في الذي لا علم له ، ولا أدب له ، ولا حال ، وقد امتلأت الدنيا في عصرنا هذا بأهل الجهل والمكر والاستدراج ؛ فهذا مرض لا يقبل المداواة والعلاج ؛ لأن النهاية عادت إلى البداية ، وكاد يقرب التجلّي أن يردّ إلى أصله.

ومن علاماته ؛ نزول عيسى ؛ فإنه الفجر الأول ليوم القيامة ، وطلوع الشمس من مغربها ؛ فإنه الفجر الثاني له.

أعاذنا الله وإياكم من الشرور ، والفتن ، وخفف عنا أحمال البلايا والمحن.

فإن قلت : ما معنى التكليف؟ قلت : إزالة الإطلاق.

فإن قلت : ما معنى إزالة الإطلاق؟ وقد قال تعالى عن لسان هود عليه‌السلام :

(ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) [هود : ٥٦].

قلت : ذلك لسان الإطلاق العام من حيث العلم الشامل ، وذلك لا يوجب العمل.

ألا ترى أن اليد اليمنى أقوى من اليد اليسرى مع اجتماعهما في محلّ واحد ؛ وهو الكتف ، والعنق ، والوجه أفضل منهما مع اتصاله بالعنق ، فهذا التفاوت في الأعضاء الأنفسية يشعر بالتفاوت في القوى الآفاقية ، فإذا حجرك الله عن شيء ؛ فاجتنب عنه ، فإنه وإن كان من قبيل التضييق في الصورة لكنه من قبيل توسعة التجلّي في المعنى ؛ لأن القائم مع أمر الله قائم مع الله ، والقائم مع الله ؛ هو المتجلّي بكل اسم من الأسماء الداخلة تحته بخلاف القائم مع غير الله ، فاعلم ذلك وأيضا.

فاعلم أن العلم المرغب في تحصيله وأخذه ، إنما هو العلم الموافق للحق ، والحق أحق أن يتبع به ، وأمّا غيره فمهجور جدا ، ونحوه من العلوم التي ليست نتيجة التقوى ، والعمل الصالح ، فتنبّه ذلك.

٣٥١

قولهم : من تعطّل أيام التحصيل ؛ تحصّل أيام التعطيل ، هذا بالنسبة إلى حالة الدنيا ، فإنه ما دام البقاء فيها ؛ فإنه يرجى للطالب تلافي ما فات ، إلا أن يكون بالفاء إلى أرذل العمر ، وزمان العنه والفند ، فإنه إذا لم يساعد الأسباب والآلات ؛ فكيف يتحصّل الملكات.

ألا ترى إلى قولهم : من فقد حسّا ؛ فقد فقد علما فقدان حسّ من الحواس إذا كان سببا لفقدان علم من العلوم ، جميع الحواس يوجب فقدان جميع العلوم ، نعم إن شباب الزمان أعون على تحصيل المرام من زمان الكهولة والشيخوخة.

ومن هنا ورد : «العلم في الصغر ؛ كالنقش في الحجر» (١) ؛ وذلك لاجتماع الحواس والقوى إذ ذاك.

وقد صحّ إن بعضهم تحصّل في أيام الشيخوخة أيضا ؛ لاعتدال مزاجهم ، واجتماع قواهم سواء كان المتحصّل من قبيل الرسوم كما وقع للإمام القدروي ، وأبي بكر الفضل الشاشي ، أو من قبيل الحقائق كما وقع للجارية البصرية وغيرها.

وإمّا بالنظر إلى حال الآخرة ؛ فكل كمال لم يحصل في الدنيا ؛ لم يحصل في الآخرة ؛ لمضي زمان التكليف والكسب ، إلا أن يكون الكمال الغير الحاصل لمن سلك ، ولم يكمل له الأمر بعد ؛ فإنه من أهل الترقّي في جميع المواطن ، فالابتداء إذا كان على السلوك والخروج من بيت الطبيعة ؛ فالانتهاء على الترقّي ، فإن الأجر واقع على الله ، والله لا يضيع أجر المحسنين ، والرحمن ما عنده حرمان ، جعلنا الله وإياكم من الواصلين.

__________________

(١) رواه البيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى (١ / ٣٧٥) ، وذكره العجلوني في الخفا (٢ / ٨٥).

٣٥٢

وفي سورة الشورى

قال الله سبحانه : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١].

اعلم أن أمر الوجود دائرة واحدة ؛ لكن جعلت نصفين باعتبار الوجوب والإمكان ، فقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) إشارة إلى النصف الوجوبي (١).

وقوله : (السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) إشارة إلى النصف الإمكاني.

والنصف الأول : كتاب الوجود الحقيقي الذي آياته محكمات بلا متشابهات ؛ لأنه كتاب الغيب ، واللا تعيّن ، والإطلاق.

والنصف الثاني : كتاب الوجود الظلّي الذي آياته متشابهات بلا محكمات ؛ لأنه كتاب التجلّي ، والتعيّن ، والتقيّد ؛ فهما بحران بينهما برزخ لا يبغيان ، فلا يبقى بحر الوجوب والمحكمات على بحر الإمكان والمتشابهات برفع حكمه ، واعتباره ، وإلا لبطلت الحقائق ومراتب الأسماء والصفات ، وكذا لا يبقى بحر الإمكان والمتشابهات على بحر الوجوب والمحكمات برفع تأثيره ، وفعله ، وإلا انقلبت الحقائق والأعيان.

فالربّ لا يكون عبدا ، كما أن العبد لا يكون الربّ أبدا ، وإنما يظهر سرّ

__________________

(١) قال سيدي علي وفا : اسمع : إن قيل لك المثل بكسر الميم وسكون الثاء وبفتح الميم والثاء واحد ، فكيف الجمع بين قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] وبين قوله : (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) [النحل : ٦٠] وبين قوله : (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ) [النور : ٣٥]؟.

فقل : وما توفيق العبد إلا بالله سيده ومولاه : إن كانا واحدا لغة فالمثل قد أثبت للحقيقة التي هي الهوية بقوله : (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى)[الروم : ٢٧] ، ولاسم الجلالة بقوله : (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى)[النحل : ٦٠] ، ولنور الله بقوله : (مَثَلُ نُورِهِ)[النور : ٣٥].

ونفي عن مثل الهوية بقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)[الشورى : ١١].

وأثبت المثل للنور بقوله : (مَثَلُ نُورِهِ) هذا المشكاة أمر وهميّ ليس غير ؛ لأنه في الحس فراغ متوهم وخلاء ، والخلاء ثابت وهما فقط ، فهو في الحس والكون لا شيء ، فلا يلزم من كونه كائنا أن يكون ذلك الأمر شيئا. وإنما قال : (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ)[النور : ٣٥] ؛ ليثبت أنه ليس له مثل حقيقي ؛ إذ الظاهر منه في المظاهر هو بالحقيقة ، ومثاله بالوهم ليس إلا كالذي تراه منك بواسطة المرايا الصقيلة ، (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ)[النور : ٣٥] : أي يبين الله الأمثال للناس ، فافهم.

٣٥٣

الوجوب في مرآة الإمكان ؛ ليحصل كمال الاستجلاء ، فكون الإمكان مرآة الوجود ، وكذا كون الوجود مرآة أحوال الأعيان ؛ لا يوجب الانقلاب والاستحالة ؛ لأن العين واحدة ، والنسب مختلفة ، فإذا غلب الفناء ؛ ظهر سرّ الوجود الباطني ، وإذا غلب البقاء ؛ ظهر سرّ الوجود الظاهري ؛ لأنه هو الأول ، والآخر ، والظاهر ، والباطن ، وأول بحر الإمكان من حيث اعتبار الكون ؛ وهو الوجود العيني القلم الأعلى ، والعقل الأول ؛ وهو بحر العماء الكوني الذي هو مبدأ الكثرة بالفعل ؛ ولذا يقال له : بحر العماء الصفاتي التفصيلي ، كما أن ما قبله ؛ هو بحر العماء الذاتي الإجمالي الذي هو مبدأ الكثرة بالقوة.

فالأول ؛ كبدن الشجرة ، والثاني ؛ كالنواة ، فوحدة بدن الشجرة وحدة اعتبارية إضافية ، ووحدة النواة وحدة حقيقية أصلية.

ولمّا كان أمر الوجود دوريا لا خطيا ؛ ظهر النواة في صورة الشجرة ، والأغصان والأوراق ، والثمرة ، وكان الانتهاء إلى النواة ، فعاد الأخر على الأول مع كمال الظهور في المراتب ، فكما أن النواة ؛ وهي الغيب والمحكم لا تأويل فيها أصلا ؛ فكذا الشجرة بجميع ما تشمل عليه لا تأويل فيها أصلا ؛ لأنها شهادة ومتشابه معتبرة في مقامها على حدّها ، وعلى هذا فجميع المراتب من القلم الأعلى إلى آخر المولّدات ، ومرتبة الإنسان لا تحتاج إلى التأويل ؛ لأنها حقائق لا مجازات ، وإنما يقال لها : مجازات باعتبار إنها محلّ الجواز ، والعبور إلى الأسماء ، والصفات ، والذات.

فكما أن القرآن الفعلي برئ عن ذلك التأويل ؛ فكذا القرآن القولي.

وقوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) [آل عمران : ٧] ؛ معناه (١) :

__________________

(١) قال الشريف الرضي : فبين العلماء فيه اختلاف : فمنهم من جعل الوقف عند اسم الله تعالى واستأنف قوله سبحانه : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) ، فمن ذهب إلى هذا المذهب منهم يخرج العلماء عن أن يعلموا كنه التأويل وحقيقته ، ويطّلعوا طلعه ويستنبطوا غوامضه ، ويستخرجوا كوامنه ، وحطّهم بذلك عن رتبة قد استحقوا الإيفاء عليها واطّلاع شرفها ، لأنّ الله سبحانه قد أعطاهم من نهج السبيل وضياء الدليل ما يفتتحون به المبهم ويصدعون المظلم ، وكل ذلك بتوفيق الله إيّاهم ونصب منار الأدلة لهم ، فعلمهم بذلك مستمد من علم الله سبحانه ، فلا

٣٥٤

__________________

ـ معنى للوقوف بهم دون هذه المنزلة ، والإحجام عن إيصالهم إلى أقصى هذه الرتبة.

وأمّا الذين يجعلون الوقف عند قوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) فيوفّون الاستثناء حقّه بإدخال العلماء فيه ، ويجعلون لهم مزية العلم بتأويل القرآن ، ومعرفة مداخله ومخارجه ، وسلوك محاجّه ومناهجه ، وهذا القول مرويّ عن ابن عباس ومجاهد والربيع.

فأمّا المحققون من العلماء فيقفون في ذلك على منزلة وسطى وطريقة مثلى ، فلا يخرجون العلماء هاهنا عن أن يعلموا شيئا من تأويل القرآن جملة ، ولا يعطونهم منزلة العلم بجميعه ، والاستيلاء على قليله وكثيره ، بل يقولون : إنّ في التأويل ما يعلمه العلماء ، وفيه ما لا يعلمه إلّا الله تعالى ، من نحو تعيين الصغيرة ووقت الساعة ، وما بيننا وبينها من المدة ، ومقادير الجزاء على الأعمال ، وما أشبه ذلك.

وهذا قول جماعة من متقدمي العلماء : منهم الحسن البصري وغيره ، وإليه ذهب أبو عليّ الجبّائيّ ؛ لأنّه يجعل المراد بالتأويل في هذه الآية مصائر الأمور وعواقبها ، كقوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ)[الأعراف : ٥٣] : أي مصيره وعاقبته ؛ لأنّ أصل التأويل من قولهم : آل يئول ، إذا رجع ، وممّا يؤكّد ذلك أن مجاهدا قال في قوله تعالى : (ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)[النساء : ٥٩] : إنّه سبحانه أراد بالتأويل هاهنا الجزاء على الأعمال ، فهذا المعنى يلامح ما نحن في ذكره ؛ لأنّ الجزاء إنّما هو الشيء الذي آلوا إليه وحصلوا عليه.

وقد قيل أيضا : إنّ المراد : وما يعلم تأويله على التفصيل إلا الله تعالى ، أو لا يعلم تأويله بعينه إلا الله ؛ لأن كثيرا من المتشابه يحتمل الوجوه الكثيرة ، وكلّها غير خارج عن أدلة العقول ، فيذكر المتأولون جميعها ، ولا يقع القطع منهم على مراد الله تعالى بعينه منها ، ولا يعلم ذلك إلا الله ؛ لأن الذي يلزم المكلف من ذلك أن يعلم في الجملة أنّه سبحانه لم يرد ما يخالف أدلة العقول ، ولأنّه ليس من تكليفنا أن نعلم أنّ المراد من ذلك بعينه ، وإن كان العلماء يعلمونه على الجملة وعلى الوجه الذي يمكن أن يعلم عليه.

وفي قول الراسخين في العلم : (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا)[آل عمران : ٧] دلالة على استسلامهم فيما لم يعلموا من تأويل المتشابه ، وما استبدّ الله بعلمه من قبيل ما ذكرنا : كوقت القيامة وتميز الصّغائر من الكبائر ، إلى ما أشبه ذلك ، فقد بان أنّ في تأويل المتشابه ما لا يعلمونه ، وإن كانوا يعلمون كثيرا منه ، وقال قاضي القضاة أبو الحسن بعد ذكره طرفا من الخلاف في هذه الآية : " وما يقوله من حمل العطف على حقيقته وجعل للعلماء نصيبا من علم التأويل على تفصيله أو جملته إمّا

٣٥٥

__________________

ـ أن يكون المراد بذلك عنده : وما يعلم تأويله إلا الله وإلا الراسخون في العلم ، ومع علمهم بتأويله (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ،) أو يكون المراد أنّهم يعلمون تأويله في حال قولهم : (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ،) ومن قال بذلك استدلّ بظاهر العطف ، وأنّه يقتضي مشاركة الثاني للأول فيما وصف به الأول وأخبر به عنّه ، وقال : إذا أمكن ذلك وأمكن حمل قوله تعالى : (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) على الحال أو على خبر ثان وجب القول بذلك ، ولكلا الوجهين مسرح في طريق اللغة ، وإنّما ينبغي أن ننظر من جهة المعنى ، فإن ثبت بالدليل صحة أحد المعنيين قضي به ، وإلّا لم يمتنع أن يرادا جميعا إذا لم يقع بينهما تناف".

قلت أنا : وهذه طريقة لأبي علي فيما ورد من القراءات متغايرا فإنّه يقول : " إذا كان يمكن حمل الكلام على القراءتين المختلفتين فإنّهما جميعا مرادتان ، إذا صحّت القراءة بهما جميعا ، نظير ذلك قوله سبحانه : (وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ)[الكهف : ٨٦] ، وقد قرئ (حامية) ، فيقول : إنّه يجب أن تكون العين على الصفتين معا ، فتكون حمئة من الحمأة ، وحامية من الحمي ، فتكون هناك حرارة وحمأة ، وإلّا كان يجب ألّا تجوز إحدى القراءتين ؛ لأنّ من أصله أنّ كل كلام احتمل حقيقتين ولم يكن هناك دلالة على أنّ المراد به إحدى الحقيقتين دون الأخرى فواجب حمل الكلام عليهما جميعا حتى يكونا مرادين بذلك ، ومتى لم يكن حمل الكلام عليهما جميعا فلا بد من أن يبيّن الله تعالى مراده منهما بدلالة ، وإلا خرج من أن يكون فيه فائدة.

فأمّا من قرأ حمئة من الحمأة ، فإني قرأت بذلك على شيوخ القراءة لابن كثير ونافع وأبي عمرو وحفص عن عاصم ، وأمّا من قرأ حامية من الحمي فإني قرأت به لحمزة والكسائي وأبي بكر بن عياش عن عاصم وعبد الله بن عامر ، وقد ظن بعض الناس أنه لا يجوز إلّا أن يكون تمام الكلام ومقطعه عند قوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ)[آل عمران : ٧] ، وأن الواو للاستقبال دون الجمع ، قال : " لأنّها لو كانت للجمع لقال : ويقولون آمنا به فيستأنف الواو كما استأنف الخبر" ، واحتج على هذا القول من قال بالقول الأول ، بأن قال : " هذا جائز ، وقد وجد مثله في القرآن وهو قوله تعالى في معنى قسم الفيء : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)[الحشر : ٧] ، ثم أعقب ذلك بالتفصيل وتسمية من يستحق هذا الفيء ، فقال : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ

٣٥٦

__________________

ـ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ)[الحشر : ١٠ ، ٩ ، ٨] ، وهؤلاء لا شك داخلون في مستحقي الفيء كالأولين ، والواو هاهنا للجمع ، ثم قال سبحانه : (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ)[الحشر : ١٠] ، ومعناه قائلين : ربنا اغفر لنا ولإخواننا ، فكذلك قوله سبحانه : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) يكون معناه : والراسخون في العلم يعلمون تأويل ما نصبت لهم عليه الدلائل ، ونحيت لهم إليه المذاهب من المتشابه قائلين : آمنا به ، ومن الشاهد على ذلك قول يزيد بن مفرّغ الحميري لما سامه عبّاد بن زياد أن يبيع عبده بردا في دين لزمه ، وحديثه في هذه القصة طويل ، وهو بعد مستفيض :

وشريت بردا ليتني

من بعد برد كنت هامه

فالرّبح تبكي شجوها

والبرق يلمع في الغمامه

وقوله : " وشريت" يريد : وبعت ، وهو من الأضداد ، وقوله : " والبرق يلمع" يريد والبرق أيضا يبكي شجوه لا معا في الغمامة : أي في حال لمعانه ، ولو لا أن المراد هذا لما كان لقوله : " والبرق يلمع في الغمامة اتصال بقوله : فالريح تبكي شجوها ، بل كان بعيدا منه قصيّا وغريبا أجنبيّا.

واذا كان ذلك سائغا في اللغة وجب حمله على موافقة دلالة الآية في وجوب ردّ المتشابه إلى المحكم ، فيعلم الراسخون في العلم تأويله إذا استدلوا بالمحكم على معناه ، ولو كان العلماء لا يعلمون شيئا من تأويل المتشابه ألبتّة ما كان لما روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علّم أمير المؤمنين عليه‌السلام التفسير معنى ، لأن معنى التفسير والتأويل إنما يكون لما غمض ودقّ ولم يعلم بظاهره ، وهذه صفة المتشابه ، وأمّا المحكم الذي يعلم بظاهره فلا حاجة بأحد إلى تعليمه ؛ لأن أهل اللسان فيه سواء ، ولو لا أن الأمر على ذلك لما كان لدعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن عباس بأن يعلمه الله التأويل معنى ؛ لأنا نعلم أنه لم يرد عليه‌السلام تعليمه الظاهر الواضح ، فلم يبق إلا الغامض الباطن.

ومن وجه آخر : أن حقيقة الواو الجمع ، فوجب حملها على سنن حقيقتها ومقتضاها ، ولا يجوز حملها على الابتداء إلا بدلالة ، ولا دلالة هاهنا توجب صرفها عن الحقيقة ، فوجب حملها على الجمع ، حتى تقوم الدلالة ، وكان أبو حاتم السجستاني يقول : " إن الوقف على قوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ)[آل عمران : ٧] ؛ لأنه قد حذف من الكلام أمّا ، وكأنه تعالى قال : وأما الراسخون في العلم فيقولون آمنا به ، وزعم أنه إنما جاز حذفها ؛ لأنه قد جرى ذكرها وهو قوله تعالى :

٣٥٧

ما يؤل إليه من الحقائق ، فإن ذلك محتاج إلى الكشف الصحيح ، ومن ذلك يعلم أن علماء الرسوم أساءوا الأدب فيما حاولوا من التأويلات الزائغة ؛ وإنما عليهم أن يضيفوا الأمر إلى الله ، فإنه يعلم تأويله ، وكذا الراسخون في العلم بقدر ما علمهم الله تعالى ، فالله تعالى هو السميع باعتبار كونه رب العالمين ، وكذا سائر النعوت الكونية ؛ فإن الله تعالى يتّصف بها كلّها في بحر العماء الكوني ، وهو : ليس كمثله شيء باعتبار غناه الذاتي ، وقدسه ، ونزاهته ؛ فهو تعالى مرئي ، ومشهود بالاعتبار الأول ، وغير مرئي مشهود بالاعتبار الثاني ، إذ لا بد للشهود من مثالي ، ولا مثال فوق التجلّي العيني.

نعم! إن الله تعالى يدرك في مرتبة تجريد التوحيد والتفريد ؛ لكن بوساطة الإطلاق الذي هو أحد وجهي الحقيقة الإنسانية ؛ لأنه هو الجهة الجامعة بينهما ؛ إذ الواحد المطلق بالإطلاق الحقيقي لا يراه إلا الواحد ، كذلك فإن عين الكثرة لا تنظر إلى الوحدة ، وكذا عين التقييد لا تدرك المطلق ، ومن ثم يقال : إن المانع لإدراك العين في الدنيا ؛ هو قيدها حتى أن الله تعالى لو رفع قيدها ؛ لأمكن الإدراك.

__________________

ـ (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ)[آل عمران : ٧] ، قال : و (أما) لا تكاد تجيء في القرآن مفردة حتى تثنى أو تثلث أو تزاد على ذلك ، كقوله سبحانه : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ)[الضحى : ٩] ، (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ)[الضحى : ١٠] ، وكقوله تعالى : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ)[الكهف : ٧٩] ، (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ)[الكهف : ٨٠] ، (وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ)[الكهف : ٨٢] ، فلما قال سبحانه : (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ)[آل عمران : ٧] ، قدّرنا أنّ" أمّا" مرادة مع (الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ، فكأنه تعالى قال : وأما الراسخون في العلم.

وكلام أبي حاتم في ذلك غير سديد ولا مطرد ؛ لأنه قدّر في الكلام حذف (أمّا) ، وذكر أنها تقع في القرآن كثيرا مكررة ، ولعمرى إن الأمر كما قال من وقوعها مكررة في القرآن ، وما علمناها جاءت فيه مرادة محذوفة ، وكان ينبغي أن يرينا من القرآن موضعا هي فيه مرادة وقد حذفت ليكون شاهدا على ما ذكره ، فأما أن يستشهد بتكريرها على حذفها فذلك غير مستقيم ، ولو كان الأمر على ما قال لكان وجه الكلام أن يقول تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ)[آل عمران : ٧]. وانظر : حقائق التأويل (ص ١٦٦) بتحقيقنا.

٣٥٨

كما يعلم ذلك : من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يرى في الصلاة من خلفه (١) لوقوع المحاذاة

__________________

(١) قلت : كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبصر من خلفه كما كان يبصر من أمامه.

وأخرج مالك في الموطأ في العمل في جامع الصلاة وأحمد والشيخان عن أبي هريرة مرفوعا : «أترون» ، وفي رواية قال : «هل ترون قبلتي ها هنا ـ : أي مقابلتي ومواجهتي في جهة القبلة فقط ـ فو الله ما يخفى عليّ خشوعكم ولا ركوعكم ، إنّي لأراكم من وراء ظهري».

وأخرج مسلم واللفظة له النسائي وابن خزيمة في صحيحه عنه أيضا قال : «صلّى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما ثم انصرف فقال : يا فلان ألا تحسن صلاتك ، ألا ينظر المصلي إذا صلى كيف يصلي ، فإنما يصلي لنفسه ، إني والله لأبصر من وراء كما أبصر من بين يدي ، ولفظ ابن خزيمة في آخره : «إنكم ترون أني لا أراكم : أي والله لأرى من خلف ظهري كما أرى من بين يدى».

وأخرج عبد الرزاق في جامعه والحاكم في المستدرك ، وأبو نعيم من حديثه أيضا مرفوعا : «إني لأنظر إلى ما ورائي كما أنظر إلى ما بين يدي».

وأخرج أحمد وعبد الرزاق بسند صحيح من حديثه أيضا : «والذي نفسي بيده إني لأنظر ـ زاد في رواية في الصلاة ـ إلى من ورائي ، كما أنظر إلى من بين يدي فسوا صفوفكم ، وأحسنوا ركوعكم وسجودكم». وفي رواية لأحمد : «إني أنظر ـ أو قال : إني لأنظر ـ ما ورائي كما أنظر ما بين يدي ..» الحديث.

وأخرج أبو نعيم عن أبي سعيد الخدري مرفوعا : «إني أراكم من وراء ظهري».

وأخرج أحمد والشيخان والنسائي عن أنس مرفوعا : «أتمّوا الرّكوع والسّجود ، فو الّذي نفسي بيده إنّي لأراكم من بعد ظهري إذا ما ركعتم وإذا ما سجدتم» هكذا ذكره السيوطي في الجامع عازيا له لمن ذكر.

وقد أخرجه البخاري في مواضع منها في باب الخشوع في الصلاة ولفظه فيه وهو لمسلم أيضا : «أقيموا الركوع والسجود فو الله إني لأراكم من بعدي» ، وربما قال : «من بعد ظهري إذا ركعتم وإذا سجدتم».

ومنها في باب عظة الإمام الناس في إتمام الصلاة ، وذكر القبلة ، ولفظه فيه عن أنس بن مالك قال : صلّى بنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة ثم رقى المنبر فقال في الصلاة وفي الركوع : «إني لأراكم من ورائي كما أراكم يعني من أمامي».

ومنها في باب إقبال الإمام على الناس عند تسوية الصفوف ولفظه فيه حدّثنا أنس قال : أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوجهه فقال : «أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري».

وقد عزى في الجمع هذا اللفظ للبخاري والنسائي ، وابن حبان في صحيحه عن أنس.

ومنها في الترجمة قبل هذه ولفظه فيها : «أقيموا الصفوف فإني أراكم خلف ظهرى».

٣٥٩

__________________

ـ وأخرجه أيضا مسلم في الصلاة بألفاظ منها قوله عن أنس أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أتموا الركوع والسجود ، فو الله إني لأراكم من بعد ظهري إذا ما ركعتم وإذا ما سجدتم». قال : وفي حديث سعيد : «إذا ركعتم وسجدتم».

ومنها قوله عن أنس قال : صلّى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم ، فلما قضى الصلاة أقبل علينا بوجهه فقال :

«أيها الناس إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ، ولا بالسجود ، ولا بالقيام ، ولا بالانصراف ، فإني أراكم أمامي ومن خلفى. ثم قال : والذي نفس محمد بيده لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلا ، ولبكيتم كثيرا ، قالوا : وما رأيت يا رسول الله ، قال : رأيت الجنة والنار».

رؤيته عليه‌السلام لأصحابه من وراء ظهره رؤية حقيقية ، ثم الرؤية المذكورة في هذه الأحاديث مذهب الجمهور ، وهو الصواب المختار أنها على ظاهرها ، وأنها رؤية حقيقية ، وإدراك حقيقيّ ، اختص به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، انخرقت له فيه العادة ، وعلى هذا عمل البخاري ، فإنه أخرج هذا الحديث في علامات النبوة ، وكذا نقل عن أحمد وغيره خلافا لمن حمل الرؤية فيه على الرؤية القلبية ، وهي رؤية البصيرة ، وإن صح أو على العلم إما بوحي بأن يوحى إليه كيفية فعلهم ، وإما بإلهام بأن يلهمه الله تعالى حالتهم وهيأتهم ، فإن ذلك بخلاف ما تظاهرت عليه الظواهر التي لا يحيلها عقل ، ولا يعارضها شرع ، ولو كان المراد العلم لم يقيد بقوله : (من وراء ظهري).

ومنهم من حملها على أنه كان يلتفت يمينا وشمالا التفاتا يسيرا ، لا يلوي فيه عنقه ، يدرك به حال من وراءه ، ولا يخفى ما فيه من التكلف والعدول عن الظاهر بلا موجب مع ما فيه من ارتكاب ما لا يليق بالمقام ، وقد أنكره أحمد على قائله ، والظاهر أنها كانت من غير عضو ولا مقابلة ، ولا شيء مما جرت به العادة بناء على مذهب أهل الحق ، وهم أهل السّنة من أن الرؤية لا يشترط لها عقلا عضو مخصوص ، ولا مقابلة ، ولا شعاع ، ولا تتوقف على ضوء ، ولا على قرب ، كما لا تتوقف على الآلة المخصوصة التي هي العين ، وإنما هذه أمور عادية يجوز عقلا حصول الإدراك مع عدمها ، ولذا حكموا بجواز رؤية الله تعالى في الدار الآخرة ، خلافا لأهل البدع بوقوفهم مع العادة.

وجوز بعضهم كونها برؤية عينية ، وإنه انخرقت له فيهما العادة أيضا ، وصحّح آخرون كونها بعين خلف ظهره يرى بها من ورائه ، لا يحجبها الثياب ولا غيرها ، وبعض المتكلمين أن تكون بإدراك خلق له في القفا أعم من كونه في بنية أم لا أخذا من قوله في بعض الروايات : «إني لأبصر من قفايا كما أبصر من بين يدي».

وقيل : كان بين كتفيه عينان مثل سم الخياط يبصر بهما ، لا يحجبهما أيضا ثوب ولا غيره ، قاله مختار بن محمود الحنفي الزاهدي شارح القدوري من الحنفية.

ورده أبو الفضل قاسم بن سعيد العقباني قائلا هذا مع ما وصف به من كمال الخلقة يشين ، ولو أن إنسانا كانت له عينان في قفاه لكان أقبح شيء ، وخيال غيره هو قول مرغوب عنه بل ساقط ،

٣٦٠