مرآة الحقائق - ج ١

إسماعيل حقّي البرسوي

مرآة الحقائق - ج ١

المؤلف:

إسماعيل حقّي البرسوي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
977-344-218-7

الصفحات: ٤٣٦
الجزء ١ الجزء ٢

سورة الحجر

قال الله تعالى : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) [الحجر : ٢].

اعلم أن (ربّ) (١) مثقلة أو مخفّفة إذا دخلت على المضارع تكون للتقليل ، فقال المفسرون : معنى قلة ، وداوتهم أنهم كالسكارى من ورود الشدائد الكثيرة المتعاقبة ، فإذا صاروا إلى أنفسهم ، ورجعوا إلى عقولهم ، تمنوا ذلك ، وإلا كان من شأنهم أن يتمنوا ذلك في جميع أوقاتهم ، لا في بعض الأحيان.

ولي فيها وجهان آخران :

إن قلة الودادة راجعة إلى الزمان الأخروي ، وذلك بعض من مطلق الزمان ، فإن الدنيا يوم ، والآخرة يوم ، كما دلّ عليه قوله تعالى : (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) [الحشر : ١٨].

فهم إنما يتمنون ذلك في الآخرة ، وزمانها بعض من مطلق الزمان ، كما ذكرنا آنفا ، وكأنه تعالى يقول : إنهم لا يقصدون الإيمان في الدنيا ؛ لانغماسهم في الغفلة ، واستحبابهم الحياة الدنيا ، فإذا كانوا في الآخرة التي هي كالغد للدنيا تمنّوا ذلك ، فيكون (ربّ) للتقليل بالنسبة إلى اليوم الثاني.

فإن قلت : كيف يكون يوم الآخرة قليلا مع أنه أطول من يوم الدنيا؟

قلت : المراد البعض مطلقا ، أو هو راجع إلى معنى آخر يعرفه أرباب الحقائق.

والوجه الثاني : إن (ربّ) هاهنا بالتحقيق لا بالتقليل ، وإن دخلت على

__________________

(١) قال الأزهري : قرأ نافع وعاصم : ربما مخففة مفتوحة الباء ، وقال الأعشى عن أبي بكر عن عاصم : ربما بضم الباء مخففة ، وقرأ الباقون : رُبَما مفتوحة الباء مشددة ، وقال علي بن نصير : سمعت أبا عمرو يقرؤها على الوجهين جميعا : خفيفا وثقيلا.

قال أبو منصور : العرب تقول : ربّ رجل جاءني ، ويخففون فيقولون : رب رجل.

ويقولون : ربما وربّما ، مخففا ومثقلا ، ولغة أخرى لا تجوز القراءة بها : (ربّتما)

و (رُبَما) وربما يوصلان بالفعل ، و (رَبِّ) و (رَبِّ) ، يوصلان بالأسماء ، تقول : ربّ رجل أصبت ، وربما جاءني زيد ، وإنما زيدت (ما) مع (ربّ) ليليها الفعل ، وكل ذلك من كلام العرب أنه أخبر بذلك عن إخبار الله بالفعل عن نفسه ، ونصب الملائكة بتعدي الفعل إليهم. وانظر : معاني القراءات (ص ٢٣٩) بتحقيقنا.

٢٤١

المضارع ، وذلك أنها إذا دخلت على المضارع الذي يقتضي الزمان فحكمها حكم ما دخلت على الماضي.

كما في (قد) الواقعة في قوله تعالى : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ) [النور : ٦٣] ، [الأحزاب : ١٨] ، فإن الله تعالى لا يجري عليه زمان ، فعلمه ليس بمقيّد بواحد من الأزمنة ، بل هو عالم في جميع الأزمنة على سواء على التحقيق ، وكذا الآخرة لا يجرى عليها زمان ؛ لأنه لا ليل ولا نهار هناك إلا بالاعتبار ، فهما الليل والنهار حكما لا حقيقة.

ف (ربّ) هاهنا ك (قد) الداخلة على المضارع الذي لا يقتضي الزمان ، فيكون المراد تحقق وداوتهم لا تقليلها ، وفي إيرادها على المضارع نوع تهكم بهم ، كما يقتضيه الذوق الصحيح.

ودلّ على ما ذكرنا قوله تعالى : (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) [النور : ٦٤] ، فإنهم إذا كانوا مستمرين على ما هم عليه ، فعلمه تعالى به مستمرّا أيضا على أن العرب يقول في صورة الأطماع ربما يكون ، فإنه يوده في صورة الاحتمال ، والمراد القطع.

ويظهره قوله تعالى : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨] ، فإنه جعل العدل أقرب للتقوى من سائر الصفات مع أنه من نفس التقوى ؛ لأن في العدل حذرا وتوقيا عن الظلم ، وكذا في سائر الطاعات ، فإن فيها كلها احترازا عن المعاصي ، وقولهم يشبه أن يكون هذا من هذا الباب من ذلك القبيل ونحوه قول المعجم شادمان : إذ ليس المقصود التشبيه ، بل الإخبار عن الفرح والسرور ، وربما يكون المراد بالاحتمال الإشارة إلى عدم الوقوع إذا كان هناك قرينة ، كما إذا كان القائل غير معروف بالكرم وصدق الوعد ، وأما الوعيد فهو عند أهل التحقيق يجري فيه الخلف ، وإن كان بطريق القطع والتحقيق ؛ لأنه من باب الكرم عند العرب ، بخلاف الخلف في الوعد ، والفرق أن في خلف الوعد ضرر الجانب الموعود ، وأما في خلف الوعيد فنفع للمتوعد ، والله يفعل ما يشاء.

وقد قال تعالى : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) [الزمر : ٤٧] ، فربّ خصم يجد الخصم مصالحا يومئذ ، وربّ منكر عمله على الإقرار ما بدا له من خلاف عقيدة في الدنيا.

٢٤٢

قال الله تعالى : (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [الحجر : ٤٠].

اعلم أن الشيطان كاذب ؛ لأنه كافر ، والكافر لا يتحاشى عن الكذب غالبا إلا في هذا المحلّ ونحوه ، فإنه صدق فيه من جهة معرفته أنه لا بد له على المخلصين ؛ وهم عباده المضافون إلى الكاف في هذه الآية ، وإلى الياء في الآية التي بعدها ، وهي قوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) [الحجر : ٤٢].

وفي هذه الإضافة تشريف لهم جدا من حيث إنهم عباده تعالى لا عباد الشيطان والنفس ، والهوى ، والدنيا ، ففيه إشارة إلى أن من اتّبع خطوات الشيطان ؛ فإنه في حكم عبد الشيطان.

وكذا من آثر الحياة الدنيا ، فقد ورد : «تعس عبد الدرهم والدينار (١)» (٢) وكذا من اتّبع هواه كما دلّ عليه قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) [الجاثية : ٢٣] ، وقوله تعالى : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) [إبراهيم : ٣٥] : أي الهوى ، والدرهم والدينار ، وسائر متاع الدنيا المرغوب عند أهلها ؛ لأن في كل ذلك ميلا وانحرافا عن الظاهر إلى المظهر لا سيما المظهر الذي يضلّ الله به الظالمين ؛ ولذا قال تعالى : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) [الحجر : ٨٨] ، وإنما نهاه عن مدة العين إلى زهرة الحياة الدنيا ؛ لأن ذلك من الذرائع إلى دخول حبّ ما

__________________

(١) رواه البخاري (٣ / ١٠٥٧) ، والترمذي (٤ / ٥٨٧) ، ابن ماجة (٢ / ١٣٨٥).

(٢) أي : محبهما ، فعبر عن المحبّة بالعبودية. فلا يكون عبدا خالصا صرفا ، ولا يخرج عن حسّه أحد من الآحاد إلا العبد الذي استخلصه الله ذلك العبد واختاره واصطفاه لنفسه ، فوجّهه بقلبه إلى نفسه ، وقطعه عن جميع التعلقات الكونية فوحدّ عزيمته ، وأدام جمعيته ، فهو فان عن حسّه ، ولا يرى لنفسه محسوسات ولا مدركات ولا معلومات ولا معقولات بإفناء الله تعالى إيّاه حيث تجلّى عليه بصفة من صفاته ، فبظهور صفة من صفاته تضمحل مكنوناته ؛ لأنه إذا قورن الحادث بالقديم تلاشى الحادث في القديم لغلبة سلطانه ، فالعبد إذا رأى قلبه منقطعا عمّا سواه مستقلا بالله ، مستغرقا في ذكر الله ومشاهدته ، فليعرف بأنه ممن أصطفاهم الله ، واختارهم لنفسه فهو موفق ، ومن أهل العنايات الإلهية ، فليجمد الله على ما هداه ، وليشكره على ما أعطاه.

٢٤٣

سوى الله في القلب ، وتمكّنه فيه ، فلا بد من سدّها بعض العين ، وعدم الالتفات إلى الدنيا وزخارفها.

وقد ابتلى أكثر الناس في هذا الزمان بعرض الزين ، وكذا بمدّ العين ، فضلّوا وأضلّوا ، وكانوا من أعوان الشيطان ، ونوّابه في إضلال من يستحب الحياة الدنيا على الآخرة بخلاف غيره ؛ وهو من يستحب الآخرة على الدنيا ؛ وهم أهل الآخرة الذين كانت الدنيا حراما عليهم ؛ أي منعوها عن أنفسهم منع الحرام ، وكذا من يستحب الله تعالى عن الدّارين ؛ وهم أهل الله الذين كانت الدنيا والآخرة حراما عليهم ؛ بمعنى انهم عملوا لله بأبدانهم ؛ لكن اشتغلوا بربهم عن الالتفات إلى أعمالهم ، فإن الشيطان لا يحوم حولهم.

والحاصل : إن عباد الله منهم المخلصون بكسر اللام ؛ وهم الصادقون ؛ بمعنى انهم تخلّصوا عن شوائب النفسانية في أعمالهم وأحوالهم ، وهم على خطر في الجملة لبقاء شيء من نفوسهم.

ومنهم المخلصون بالفتح ؛ وهم الصدّيقون ؛ بمعنى أنهم تخلّصوا عن شوائب الغيرية ، كما تخلّصوا عن شوائب النفسانية.

فهم فانون عن نفوسهم ، باقون بربهم لا يد للشيطان عليهم أصلا ؛ لأن الشيطان إنما يخدم النفس ؛ لأنها الأصل في الفساد ، فإذا كانت حركات عن صفاتها الرذيلة ؛ عزل الشيطان نفسه عن تلك النفس المطمئنة ؛ لأن النور والظلمة لا يجتمعان.

ولقد غلب عاصم على غيره من القرّاء في قراءة الفتح ، ولله درّه معرفة ، فإن المستثنى من العباد ؛ إنما هو هم لا غيرهم ، وإن كان غيرهم أيضا ممن يتذكّر ويبصر ؛ لكن أين المخلط من غيره ، فإنه ما دامت بقيّة من النفس ؛ فصاحبها غير محفوظ بالكلية ، وقد عرف بين الأولياء إن الكمّل محفوظون ؛ بل معصومون إلا أن العصمة تقال في الأنبياء ، والحفظ في الأولياء فرقا بين المقامين.

قال الله سبحانه : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) [الحجر : ٦٥].

يشير إلى لوط : الروح ، وأهله : قواه ، فإن المؤمن يستأنس بالمؤمن ، والجنس إلى الجنس يميل ، والليل إشارة إلى ليل الجلال المقتضي للفناء المنتهى إلى الجمال المستلزّم

٢٤٤

للبقاء ، وفيه إن الأرض تطوى في الليل ، كما ورد : «عليكم بالدلجة» (١) ؛ فإن الأرض تطوى في الليل.

والدلجة : السير في الليل ، ومن ذلك كان عبادات العباد في الليل أكثر ، وكانوا يستحلّونها لما يورثهم النسيم الرحماني في الأسحار ، والنفخ الروحاني في طلب الأوقات من اللّذات والنشاط.

وفيه أن الأهل : وهي المخدّرات ينبغي أن يكون خروجهنّ من البيت لحاجة ضرورية في وقت الظلمة ؛ لأنه أستر لهنّ ، وأهل الحرمين الشريفين يعملون بهذا إلى الآن ، فإن نساءهم المستورات لا يخرجن بالنهار ألبتّة ؛ بل بعد المغرب ، أو في وقت الشافعي حتى أن العروس تزفّ إلى بيت زوجها بعد المغرب حين ينقطع الأقدام من السكك ، والأسواق.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «واتبع أدبارهم» (٢) ؛ إشارة إلى حال رئيس القوم فإنه يسوقهم من ورائهم سوقا لطيفا ، أو لو خلّاهم وطبّعهم مالوا إلى بعض الأمور الطبيعية الشهوانية ، فينقطعون عن الطريق ، ويحلّ بهم غضب الله تعالى كما يحلّ بالمنقطعين ؛ لأن الوقت لا يقتضي إلا الإسراع ، كما قال تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [آل عمران : ١٣٣] أي : إلى أسبابها ، ومن ذلك السير المأمور في الليل.

وقوله عزوجل : (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) [الحجر : ٦٥].

أي : في سيره إلى ورائه ، كما كان حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فإنه كان لا يلتفت إلى يمينه وشماله ، ولا إلى جهة من جهاته ، ولو بدا له ، لم يلو عنقه ؛ بل التفت بكله ليكون التوجه أحديا ، وهذا إذا كان الالتفات مما لا يضرّ ، ولم يكن منهيّا.

وأمّا إذا كان مضرا منهيّا ؛ فلا التفات أصلا كما كان ليلة المعراج ، وفيه إشارة إلى حال السالكين ، فإنهم إذا كانوا محققين ، وفي سيرهم مجدين محفين ، فهم لا يلتفتون عن السمت أصلا ؛ بل أخرجوا ، كان خروجهم بالله.

__________________

(١) رواه أبو داود (٣ / ٢٨) ، والنسائي (٦ / ٢٣٦).

(٢) رواه الطبري في تفسيره (١٢ / ٩٣) ، (١٤ / ٤١ ، ٤٢).

٢٤٥

ومن ثمرة هذا الخروج أن الخارج ينقطع تعلّقه عن مخرجه بالكلية فلا يقصد إلا السمت ، فإذا حصل المقصد بالوصول إلى المنزل ؛ فالأمر بيد الله تعالى أيضا ، فإن هو ردّه إلى حيث جاء ؛ فقد انقطع عن ذلك المنزلة بالكلية ، وكان سيره إلى المخرج الأول ؛ كأنه سير أوّلي ابتدائي.

فالسالك العارف لا بد له من هذه المعرفة ؛ وهي أن يجعل سيره سيرا أحديا لا يخطر بباله في سيره ذلك رجوعه إلى مخرجه أبدا ، ثم إذا رجع ؛ رجع بتلك الأحدية بحيث لا يشوّش خاطره بالتعلّق بذلك المنزل ، ويجعله عنده نسيا منسيا ؛ فهذا هو السير بالله ، وليس فيه حكم طبع ونفس أبدا.

وقوله عزوجل : (وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) [الحجر : ٦٥].

: أي مضيا مقطوعا ، فإنكم مأمورون ، والمأمور لا يفعل أمرا بطبعه ؛ بل بربه وهداه ، ومن هذا المقام نبّه داود النبي عليه‌السلام لمّا خرج إلى محاربة جالوت : ألا يخرج معه أحد من أهل التعلّق : أي تعلّق كان ، فإن ذلك يقطع طريقه ، وطريق من معه من حيث لا يحتسب ، ولم أجد في زماني هذا من أهل هذا الباب ، والله أعلم.

* * *

٢٤٦

وفي سورة النحل

قال الله سبحانه وتعالى : (لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) [النحل : ٧٠].

نكر العلم والشيء ؛ إشارة إلى أن العارف بالله إذا وصل إلى الله ، كان علمه علما واحدا ، هو علمه بالله تعالى ، فهو أجلّ العلوم ، كما أن الله تعالى أجلّ المعلومات يعني : إن أجلّ العلوم هو ما تعلّق بأجلّ المعلومات ، وأمّا ما عده مما تعلّق بغير الله تعالى ؛ فدونه.

فظهر أن علم التصوّف أجلّ العلوم ، ولأنه باحث عن ذات الله تعالى وصفاته ، وأفعاله من طريق الكشف لا من طريق العقل (١) كما عليه أهل الحكمة البحثية

__________________

(١) قال الشيخ القونوي في سر العلم الذاتي وأوليته : اعلم أن لأولية علم الحق الذاتي سرّين :

حكم أحدهما : علمه بنفسه باعتبار وحدته وإطلاقه معا ؛ وإنما قلت معا من أجل أنه ليس في محض الإطلاق علم ولا يتعلق به حكم ولا يتعين له اسم ، ويتعقّل تعين الوحدة له ؛ ينفتح باب مطلق العلم ؛ لكن من حيث ان العلم والعالم والمعلوم واحد. والسر الآخر من السرّين المشار إليهما : هو اعتبار علمه سبحانه بما في نفسه من نفسه ؛ فإنه متأخّر الرتبة عن اعتبار علمه نفسه بنفسه على نحو ما ذكر.

وله أي لهذا السر العلمي الذي قلنا أنه الثاني حكمان :

متعلق أحدهما : علمه سبحانه بما في نفسه من شئونها ، ولوازمها القاضية بظهور العالم من العلم إلى العين ؛ والمقتضية ظهوره أيضا متعددا متنوعا فيها ؛ وما يستلزم ظهوره في كل شان منها بحسبه مما لا ينضاف إليه دونه.

والحكم الآخر متعلقه : علمه سبحانه بما في نفسه من حيث تعقّل كل ظهور من ظهوراته في كل شأن من شئونه ؛ جمعا لا فرادى ، وهذا هو أصل علم الحق بالأعيان الممكنة.

والفرق بين هذين التصورين بين فإن حكم التعقّل الأول يقتضي علم كل شأن مفردا ، وعلم الظهور من حيث ما يخصّ الحق ويضاف إليه ، وهذا التعقّل الآخر متعلقه المجموع ؛ أعني تعقّل نفسه بنفسه في نفسه ، وتعقّل نفسه ظاهرا في كل شأن بحسب الشان ظهورا لم يكن من قبل ، فإن رؤية الشيء نفسه بنفسه في نفسه ليست كرؤية الشيء نفسه بنفسه وبغيره في أمر يكون له ؛ كالمرآة لما يظهر من حكم المرآة في الأمر الذي ينطبع فيها مما لم يمكن ظهوره على ذلك الوجه قبل ذلك الانطباع.

وإذا عرفت هذا فنقول : لمطلق العلم عموم الإدراك لنفس المدرك وما فيها ؛ فمتى أعتبر استجلاء العالم لما في نفسه من شئونه المتعددة القاضية بتعدّد ظهوراته في الأعيان ؛ فهو عبارة عن علم الحق بالعالم

٢٤٧

ونحوهم ، وكذا العلوم الكشفية إذا لم تكن سفلية متعلّقة بالأكوان ؛ بل كانت علوية

__________________

ـ وحقائقه ؛ متعينا وغير متعيّن ؛ أي متناهيا وممتازا عن غيره وغير متناه ولا ممتاز ؛ إذ أعيان الممكنات غير متناهية ؛ فلو استجلاها العلم متناهية متعينة محصورة في عدد معلوم ؛ لم يكن ذلك علما ، فإن المعلوم ليس كذلك ، واستجلاؤه لبعض شئونه على التعيين مع بعض ظهوراته في أمر جامع مستوعب ؛ هو حقيقة العقل الأول ؛ وأنه الذكر المشار إليه بقوله : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ)[الأنبياء : ١٠٥] فمرتبة العلم كما بيّنا أول ، ويليه الذكر الذي هو الحضور مع ما قصد العالم استجلاؤه على التعيين من بين معلوماته ليبرزها ، وإن شئت قلت : ليظهر متعينا فيها ، والزبور هنا هو اللوح المحفوظ ، فالتعقّل هو الاستجلاء ، والحضور مع ما يستجليه بعد حفظه وقصده ؛ لإفرازه من بين باقي المعلومات بالذات والاختيار جميعا ؛ هو ذكره لذلك ؛ وتصوره لتلك الجملة في أمر جامع لمراتب تعين كل ذلك هو الكتابة المتعلقة السابقة على الكتابة الظاهرة المرموقة في ذلك الأمر الجامع ، والمادة الجامعة لكل ما ذكرنا صورة من صور العماء ، والعلم الذاتي هو المحيط نحو ما ذكرنا ، فافهم.

وبعد تقديم هذه القاعدة الكلية ، فاعلم أن ارتسام المعلومات في ذات كل عالم كان من كان إنما يكون بحسب نفس العالم ، فإنه كالمحل لما يرتسم وينطبع فيها كما أشرت إليه في غير هذا الموضع من كتبي ؛ أن كينونة كل شيء في أمر ما وتعينه إنما يكون بحسب المحل ، وسواء كان المحل معنويا ، كما ذكرناه الآن في شأن المعلومات مع نفس العالم ، أو كان محسوسا ؛ كحال المرآة مع ما ينطبع فيها ، وهذا السر قد يتفطّن له أهل الفطر السلمية بأيسر تأمّل ؛ وإن لم يكونوا من أهل الذوق والاطلاع.

فإذا وضح لك هذا مع استحضارك ما وقع عليه الاتفاق من أن حقيقة الحق مجهولة ؛ وإن حقيقته من حيث محض ذاته ممتازة عن حقيقة كل ذات ، عرفت أن تعين حقائق العالم من حيث ارتسامها في علمه الذاتي مخالف لا تسامها وتعينها في علم كل عالم سواه ؛ ومن البين أيضا أن الحق لا يتجدد له علم بشيء ولا يقوم به الحوادث.

فثبت أن الأعيان الثابتة المسماة عند الحكماء بالماهيات باعتبار تعينها في علم الحق غير مجعولة كما مر بيانه ، وهي بعينها من حيث تعينها وارتسامها في علم من سواه مجعولة ؛ لأن علم من سواه علم حادث انفعالي عارض بتبعية الوجود المستفاد من فيض الحق ، وعلم الحق علم ذاتي أزلي فعلى غير عارض ولا مستفاد ، فتعقلاته سبحانه للأشياء تعقلات أزلية أبدية على وتيرة واحدة لا يقبل التبدل والتغير أصلا لما مر بيانه.

فمتى أمعنت النظر في هذا الأصل ؛ عرفت سبب غلط الناس في هذه المسألة ؛ القائلين منهم بأن الأعيان الثابتة غير مجعولة مطلقا والقائلين يجعلها ؛ وتحققت أنها باعتبار تعينها في علم الحق غير مجعولة باعتبار تعينها في علم من سواه مجعولة ، فافهم والله المرشد. وانظر : النفحات (ص ١٢٨) بتحقيقنا.

٢٤٨

متعلّقة بما ذكر من ذات الله ، وأسمائه ، وصفاته ، وأفعاله ؛ وهي عين العلوم التي تذكر في كتب التصوّف ؛ لكنها من قبيل العين والأذواق ، وما في كتب التصوّف فرموز ، وإشارات ، ورسوم (١).

وإنما نكّر الشيء ؛ لأن الأشياء أيضا في الحقيقة شيء واحد ، والوجود والعالم من جوهر واحد ، فإذا اتّحد العلم ؛ اتّحد الأشياء ، ولمّا لم يكن الأشياء ذاتية أصلية باقية على حالها ، وإنما خلقت كتلوّن زوال ، وشواهد اضمحلّت عند حصول الفناء ، فكان علم الفاني في الله العلم بالله لا العلم بالأشياء والأشياء (٢).

__________________

(١) فائدة خاصة : قال الشيخ ابن سبعين : واعلم أن جميع ما دون في التصوف والحكمة وغير ذلك مما يجر إلى هذا الشان وجميع ما سمعت من العلوم المضنون بها والحكمة الإشراقية وسر الخلافة ونتيجة النتائج كل ذلك في الوجه الأول من وجوه التصوف.

والتصوف تسعة أوجه ، وبعدها حبل التحقيق. وبعد الحبل نبدأ بعالم السفر ، وبعد السفر تقرع باب التحقيق والنور المبين ، والهرامسة خاصة علموه ، والكتب المنزلة أفادتهم وأما الفلاسفة بأجمعهم ورؤسائهم من المشائين ورئيس المشائين أرسطو وأتباعه من غير ملة الإسلام : ثامسطيوس والإسكندر الأفرودسى وفرفريوس القبرسى وأرسطاليس الصقلي وأتباعه من ملة الإسلام مثل الفارابي وابن سينا وابن باجه المذكور في آخر «القلائد» والقاضي ابن رشد في بعض أمره ، والسهروردى مؤلف «حكمة الإشراق» والتلقيحات والنبذ في أكثره ، والغزالي بوجه ما ، وابن خطيب الرّي في بعض صنائعه ، وجميع النبهاء فإنهم لم يصلوا إليه لقصورهم عنه ، ولأن علومهم وصنائعهم دون ذلك كله والله على ما نقول وكيل. والصوفية كذلك ، إلا السلف الصالح أعني صحابة سيد السادات محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنهم علموه ، ومعلمهم هو العظيم الذي إذا نظر العارف في شأنه وتتبعه وتصفحه وتأمله على ما ينبغي ويجمل به ويصح في حقه علم أن أهل الحق كلهم نقطة من ذكره وذرة من قفره. وانظر : الرسائل (ص ٦٧) بتحقيقنا.

(٢) قال سيدي علي وفا : العلم مبدأ التجرّد وصبغته ، والإدراك مبدأ التحدّد وصبغته ، الأول : صفة نفس الواجب الوجود ، والثاني : صفة نفس الممكن الوجود ، أو لازمه ، والإدراك في العلم من جملة متعلقاته المجردة ، والعلم في الإدراك من جملة متعلقاته المحددة ، فلا معلوم إلا مجرد بما هو معلوم ، ولا مدرك إلا مشخص بما هو مدرك ، وكل مجرد واجب ، وكل مشخص متحدد من حيث أنه مشخص ، والوجود الذات واحد يجرد من نفسه لنفسه بنفسه أمورا يحققها ويتعيّن بها ، فهي موجوداته ، وثم يرتبها فتدور دوائر وجوباته ودوائر إمكاناته واستحالاته في مشاهد نفيه وإثباته ،

٢٤٩

وفي سورة الإسراء

قوله عزوجل : (فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) [الإسراء : ١٦] ؛ المراد من تدمير القرية : تدميرها ، وتدمير أهلها ؛ لأن تدميرهم تابع لتدميرها.

ألا ترى أن الله أمر جبريل بقلب قرى قوم لوط ، فقلّبها ، وهم فيها ؛ فهلك ، وهلكوا جميعا ، وكذا أصحاب القرية المذكورة في سورة يس.

وأطلق التدمير ؛ لكون كل منها مدمّرة مخصوصة حسبما اقتضتها أعمال أهلها ؛ كالطوفان بالنسبة إلى قوم نوح ، وكالقلب بالنسبة إلى قوم لوط ، وكالريح بالنسبة إلى قوم هود ، وخصّ المترفين : أي المنعّمين ؛ لأن الفقراء تبع لهم ، والناس على دين ملوكهم.

والسمك يتغيّر من الرأس كما هو المشهور ، فإذا عصى رؤساء القوم ؛ لا يبقى لهم ، ولأتباعهم حرمة أصلا على أن الأتباع إن كانوا عصاة أيضا ؛ فهم أسوة لهم في الهلاك ، والأسرى الهلاك إليهم بحكم الجوار ، وبحكم المداهنة ، أو السكوت عن الحق.

وفيه إشارة إلى قرية القالب ومترفوها هي : أشراف الأعضاء ، والقوى ؛ كالسمع والبصر ، والقلب ، فإن الجسد تابع لها ، فإن صلحت ؛ صلح الجسد ، وإن هلكت ؛ هلك ؛ وهذا هو الهلاك المعنوي ، والفساد الحقيقي.

وقد قال تعالى : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) [الأعراف : ٥٦] ، وقال : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد : ١١].

فالفاسد المفسد ، الهالك المهلك لا يلحقه إلا الفساد والهلاك ؛ لأنه جزاؤه ، وصورة عمله ، والله تعالى نسأل أن لا يهلكنا بسوء الأعمال ، ونتوب إليه من رديئات الأحوال.

__________________

ـ ودوائر إمكانه أصل شهودي لدوائر وجوباته في دائرته النظرية والخبرية ، وهما إدراكيان ، ودوائر وجوبه أصل وجودي لدوائر إمكاناته في الإدراك والعلم ، فالواجبات تتعلّق بالممكنات تعلّق اليقين ، والممكنات لا تتعلّق بها إلا تعلّق الظن ؛ لأن الأولى عالمة بذاتها ، ومدركة بإدراك مجرّد ، والثانية مدركة بنفسها ، وعالمة بعلم مشخص يحتمل النقيض بالتجرّد عن ذلك التشخص ؛ إذ التشخص بقاؤه في حفظ تشخصه ، وإمداده بذلك إبقاؤه ، والمجرد مستغن عن ذلك.

٢٥٠

قال تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء : ٨٢].

قدّم الشفاء ؛ لأنه إشارة إلى سورة الفاتحة ، والآيات المتعلّقة بالأدعية.

لطيفة وفائدة : قد صحّ أن الفاتحة شفاء من كل داء ، إذا قرئت ونفخت بحضور القلب ، وكذا إذا كتبت في إناء ، وغسّل الرسم بماء مطلق ، أو بماء الورد ، وشربه المريض ، أو من في حكمه ، وكذا إذا كتبت ، وعلّقت على الأعناق والصدور ، فكما لا بد من حضور القلب في جانب القارئ والكاتب ؛ فكذا لا بد من حسن الاعتقاد ، وحسن الظنّ بالله في جانب المقروء عليه ، والمكتوب له إذا كان من شأنه ذلك.

ولذا قيّد بكونه شفاء للمؤمن ؛ فإن غير المؤمن لا يجده شفاء بحسب اعتقاده ، وإن كان هو في نفس الأمر شفاء ، كما أن التوحيد حاصل في نفس الأمر سواء عرفوه أم لا ، وإنما الكلام في كلمته ، والاعتقاد له ، فمن لم يتكلّم بكلمته ، ولم يعتقده ؛ لم يكن التوحيد حاصلا بالنسبة إليه : أي بالفعل كمن عنده عسل ، وهو ينكر حلاوته ؛ لغلبة الإصفرار على مزاجه ، أو كان الضرير ينكر نور الشمس ، وهو ظاهر.

والحاصل : إن القصور ، والهمم ، والنيّات مؤثّرة جدا غالبا ، وإنما قلنا : غالبا ؛ لأنه قد يتخلّف التأثير بحسب بعض العوارض ، والموانع.

ألا ترى أن بعض الأنبياء تجيء يوم القيامة ، وليس معه أحد ؛ لغلبة الظلمات على نفوس أمته ، فكانوا بحيث لا يتأثّرون من كلامه ، وإن كان كلامه جد مقرونا بالهمة القوية ، وقد جدّ نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إيمان عمه أبي طالب ، واهتم بذلك ؛ لكن لم يعقبه التأثير ، والله يفعل ما يشاء.

والرحمة ؛ إشارة إلى ما في القرآن من الوعد والبشرى نحو قوله تعالى :

(كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام : ٥٤].

وقوله : (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) [الزمر : ٥٣].

وقوله : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [الأعراف : ١٥٦] ، ونحو ذلك ؛ فهي رحمة خاصة تحصل للمؤمن في الدّارين.

٢٥١

فإن قلت : فهذه الرحمة لكونها مقيدة بكونها للمؤمنين ليس للشيطان نصيب منها.

وأمّا قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧] فيقتضي خلافه لعمومه.

قلت : هذه الرحمة أيضا خاصة ليس للشيطان نصيب منها ؛ لأنه كافر ، فصار كالممرور المذكور الذي لا يجد حلاوة العسل ، فينكره ، فالمانع ليس من جانب المرسل ؛ بل من جانب المرسل إليه.

ألا ترى أن نور الشمس إنما يدخل في البيت إذا كان له كوة ، وأمّا المطبق الغير النافذ فليس له نور ، وإن كان النور حاصلا في نفس الأمر ، فانظر إلى تفاوت الناس في استعداداتهم ؛ فأعلى ، وأوسط ، وأدنى.

فالأعلى : هو المؤمن الكامل المنوّر بنور الحق تعالى بالفعل من جميع جهاته.

والأوسط : هو المؤمن الناقص المنوّر بالفعل من بعض جهاته.

والأدنى : هو المسدود عليه باب ذلك النور.

فالأعلى المقرّبون ، والأوسط الأبرار ، والأدنى الأشرار.

ثم إن المنزّل عليه ، هو قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ) [الشعراء : ١٩٣ ، ١٩٤] ، وذلك من طريق الأصالة (١).

وقد ينزل على قلب الوارث ؛ لأن القلب واحد في الحقيقة ؛ وإنما ظهر له

__________________

(١) اعلم أن الله عزوجل لما أبدى خلقه وأمره بين نهايتين : نهاية علوّ فيما تعرف به وطرف دنوّ ممن تعرف إليه من خلقه جعل بين ذلك العلوّ العلا وبين ذلك الدنوّ وصلة منه وإيحاء من لدنه ، فكان خافية وصلته تنزيلا إلى الطرف الأدنى المالكة الروحية التي نزّلها إلى الروح القدسيّ والروح الأمين والملائكة والمرسلين ، ونزّلهم بما نزل إليهم ، وكان ظاهر وصلته الرسالة البشريّة الآدميّة بما نزل به ملائكته المرسلين والروح الأمين وروح القدس إلى ما وراء ذلك من اصطفاء التكليم إلى تفضّل الرؤية ، فكان موقع الاختصاص في الرسول لبشرى فيما بينه وبين ربّه نبوّة ، وبلاغ المرسل من ذلك الاختصاص حظّا عامّا لمن دون النبيّ في ذات اختصاصه رسالة ، ولما جبل الخلق عليه من إباء عن قبول ما ينزل عليهم ساق النبوّة والرسالة تسلط من المرسل عليهم على المرسلين في ابتداء أو إلى انتهاء ، وإقامة قسطاس ، وإظهار سلطان ، وموافاة نقمات على الآبين نجاة للمرسلين.

٢٥٢

شعب بالنسبة إلى اختلاف أرباب القلوب ، وذلك من طريق المتابعة ، ولا يزيد على المنزل الأول من حيث الأحكام ، وإلا كان وسواسا ، أو خيالا ، وكذا من حيث النظم ، والمعنى ، والحقائق ، إنما التفاوت بالنسبة إلى المنزّل عليه ، فقد يحصل لبعضهم من المزايا لم يحصل لغيرهم فلا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ، فخفى على قوم ، وبدا لآخرين ، وبذلك جعلت الطبقات مختلفة ، فأين علوم المؤمنين عامة من علوم الأولياء؟ وأين علوم الأولياء من علوم الأنبياء ، والمرسلين ، وأولي العزم؟ فاعرف ذلك.

وقال المصنف في موضع آخر : قال تعالى في سورة الإسراء :

(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً) [الإسراء : ١٦].

من القرى ، وبلدة من البلاد ، وموضعا من المواضع ، والإرادة تخصيص أحد الجانبين من الوجود ، والعدم بالوقوع ؛ والقدرة هي القوة على الإيقاع ، ولا تعلّق بالإهلاك والإعدام في الحقيقة ؛ بل بالإنشاء والإيجاد ، فإن إهلاك الشيء بحسب موطنه إيجاد له في موطن آخر ، ونظائر الآية كثيرة نحو : ان يشأ يذهبكم ، أيها الناس : أي يذهب صوركم من هذا الموطن ، ويظهركم في صورة أخرى في غير هذا الموطن ، فإذا الأمر إعدام ، وإيجاد ؛ والوجود هو متعلّق الإرادة ، والقدرة لا العدم ، وإن كان المقدور معدوما لا موجودا.

ثم أشار إلى سبب الإهلاك فقال الله : (أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها) [الإسراء : ١٦] ؛ هو الأمر الإرادي لا الأمر التكليفي ، فإن الله لا يأمر بالفحشاء ، ولا يرضى لعباده الكفر والفسوق والعصيان ، وإن كان ذلك مما يشاء ؛ كأنه قال : يتعلّق أمرنا وإرادتنا بفسقهم الذي جبلوا عليه على ما علمنا من استعداداتهم الغير المجعولة.

فالعلم تابع للمعلوم ، والمعلوم لا يتعيّن في العين الخارجي إلا في وقت معلوم ، والله تعالى هو الخلّاق المظهر لكل شيء في وقته المعيّن بحسب ما يقتضيه استعداده الأزلي ، وقابليته القديمة حين كونه شأنا ذاتيا فعلى ما كان ذاتيا على ما يقتضيه استعداده أن يريده ويخلقه ، فهذا ودع القيل والقال.

فإن أهل التفسير ذهب كل منهم في هذه الآية إلى نوع من المقال ، والذي

٢٥٣

ذكرناه هو حقيقة الحال ، والحق الذي لا محيد عنه بحال من الأحوال ، وما ذا بعد الحق إلا الضلال!.

وقال الله سبحانه : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) [الإسراء : ٤٤].

عطف قوله : ومن فيهن على نفس السماوات والأرض ، ويدلّ على أن التسبيح ليس بمخصوص بمن فيهن من ذوي العقول ؛ بل هو عام لمن فيهن لأجزائهنّ ؛ كأنهنّ وإن كنّ في صورة الجمادات ؛ لكن الله تعالى خلق الأشياء كلها بحيث يصحّ منها التوحيد والتسبيح لما أنها من ذوي العلم والحياة في الحقيقة ؛ ولذا قالوا : العالم كله سماع : أي يسمع منه التسبيح بالنسبة إلى المكاشف.

وأمّا المحجوب : فلا يرى التسبيح إلا من ذوي العلم ، والحياة الظاهرة الحسية ؛ فيحمل تسبيح ما عداهم على معنى الدلالة على ما عليه أهل الظاهر ، ويكذّبهم الآية ؛ ولأجل تأكيد ذلك المعنى قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الإسراء : ٤٤] ؛ يعني : كل موجود وقع له التجلّي الروحاني والجسماني ؛ فهو مسبّح لربه وحامد.

فإن كل مخلوق خاضع لخالقه ، فإن قلت : قد نرى الكفار ، انهم لا يسبّحون ؛ قلت : امّا إنهم من حيث ذواتهم فدائمون على التسبيح ؛ بل كل نفس من الأنفاس الإنسانية يخرج من الفمّ على صورة ؛ هو رمز إلى الهويّة الذاتية ، وأمّا من حيث صفاتهم ؛ فغافلون عنه.

ومن ثم بعث الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ لأنهم يدعون الخلق إلى كلمة التوحيد ، والتنزيه لا إلى نفس التوحيد والتنزيه ، فإنه متحقّق في العالم بأسره سواء قال بكلمته أهله أو لا.

ومن هنا يعرف أن الله تعالى ليس بمحجوب عن الخلق ؛ لأنه متجلّ فيهم بأسرار ذاته ، وأنوار صفاته بخلاف الخلق ؛ فإنهم محجوبون عنه تعالى إلا المؤمن الكامل ، ومن ثم وقع الجحود ، والكفر ، والشرك ، فلو كشف الغطاء ؛ وهو غطاء البشرية ، وما يتبعه لم يظهر إلا التسبيح ؛ وهو التسبيح الصفاتي الموافق للتسبيح الذاتي ، فانظر إن الإنسان في صورة الموافقة في عين المخالفة.

٢٥٤

قوله عزوجل : (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء : ٤٤] ، لم يقل : ولكن لا تسمعون تسبيحهم مع ظهوره ؛ لأن المقصود الأصلي من سماع التسبيح هو : فقه معناه ، والوصول إلى معرفة الحقائق ، وإذ لا فائدة في مجرّد السمع والبصر بدون الإدراك الحقيقي خص الفقه بالذكر ، ومن هذا القبيل ما قال تعالى : (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) [الأعراف : ١٩٨] ؛ يعني : إن صورة النظر لا تقتضي حقيقة الإبصار.

فالنبي وغيره مشتركان في صورة الإبصار والإحساس ؛ لأن الكل من حيث صورته ، ومن ناظر إليه من حيث حقيقته ، فالناظر بالنظر الأول ؛ أهل الحجاب ، والناظر بالنظر الثاني ؛ أهل الكشف ، وقد فرّق الله تعالى بين صورة النبي ومعناه بقوله : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ) [الكهف : ١١٠].

فإن البشرية مما يلي جانب الخلق ، والوحي مما يلي جانب الحق ، فالخلق ظاهر ، والحق مستور عند المحجوب ، والأمر بالعكس عند المكاشف.

ولذا قال في كل حال : لا إله إلا هو ، اللهم اجعلنا من الواصلين إلى العين دون السامعين للأثر ، والمبصرين للصورة.

وقال تعالى : (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً) [الإسراء : ٥٨].

أشار بالقرية إلى قرية القالب الإنساني التي يسكنها القلب ؛ فإنها تخرّب بالموت الطبيعي الذي هو القيامة الصغرى قبل أن تقوم القيامة الكبرى ، كما تخرّب القرية بما هو في حكم الموت من الآفات ، وهذا الخراب لا يقبل العمارة أصلا ؛ لأنه لا حياة بعد الموت.

وبالنسبة إلى العادة الإلهية كما قال حكاية عن عزير عليه‌السلام : (قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) [البقرة : ٢٥٩] ؛ ومعنى العذاب إصابة الشدائد ، ومسّ المحن والمكاره ، فإن ذلك في حكم العذاب الأخروي ، فكما أن العذاب الأخروي لتخليص الجوهر عن الكدورات ؛ فكذا الابتلاء الدنيوي ، كما قال تعالى : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [السجدة : ٢١].

٢٥٥

فالعذاب الأدنى هو : العذاب الدنيوي ، كما أن العذاب الأكبر هو : العذاب الأخروي دلّ عليه قوله تعالى : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) [الغاشية : ٢٥] بعد قوله : (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ* فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) [الغاشية : ٢٣ ، ٢٤].

فلا رجوع عن الكفر والمعاصي بعد الوقوع في العذاب الأكبر ؛ بل إنما يتحقق ذلك في العذاب الأدنى ، فإن تحقق ؛ فذلك رحمة في صورة العذاب ، وإلا فذلك رجز وغضب من الله ؛ كالطاعون حيث كان رحمة وشهادة للمؤمن ، وغضبا وإهانة للكافر ، فهذا العذاب ليس في حكم الخراب بالكلية ، فقد يرفعه الله بعد تمام الابتلاء ؛ فيكون القالب والقلب معمورين على حالهما.

وفي الآية إشارة أخرى ، وهي : إن خراب القالب عبارة عن خراب القلب بالفناء الكلي ؛ لأن المراد بالفناء هو زوال التعلّق بالتعينات ، وتعيّن القالب أظهر من تعيّن القلب بالمعقولات ؛ وهذا حال الكمّل فإنهم بعد إصلاح الطبيعة بالشريعة ، وإصلاح النفس بالطريقة ؛ عرجوا إلى درجة المعرفة ، والحقيقة بإصلاح الروح ، والسرّ بقطع العلائق عن الكون.

وأمّا التعذيب فحال من دونهم من أهل السلوك الذين شدّدوا على أنفسهم بأنواع الرياضات والمجاهدات لكنهم لم يصلوا إلى الموصول إليه الكمّل من الفناء الكلي ؛ بل بقوا في بعض مواطن السلوك إلى أن انتقلوا بالموت الطبيعي من هذه النشأة ، فحصول مرادهم بيد الله تعالى ؛ لأنه تعالى قال : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) [النساء : ١٠٠].

فكما أن المتوفّى في طريق الحج المعنوي ؛ فإنه يلتحق بالكمّل من حيث قصده ، فإن الذّريّة الصالحة يلتحقون بآبائهم على ما نطق به الكتاب ، وهم أشرف الذّريّة ؛ لكون نسبهم نسب التقوى.

وقد ورد : «كل حسب ونسب ينقطع إلا حسبي ونسبي» (١).

__________________

(١) رواه الخطيب في التاريخ (٥ / ٢٦٦).

٢٥٦

فالنسب الذي لا ينقطع ، هو نسب التقوى وأهله ، وهو الهاشمي حقيقة (١) ،

__________________

(١) فائدة : اعلم أن إمام المتّقين : أي قائدهم إلى الصراط المستقيم ، ودالّهم على آثار الدين القويم ؛ لأن المتقين كلهم : أولهم وآخرهم لائذون بسنّته ، متمسكون بطريقته ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخشى الخلق إلى الله وأتقاهم ، وأشدّهم يقينا ، وعزما ، وأقواهم ، هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأصل الإمام : المتّبع ، والهادي لمن اتّبعه ، والمتقدّم بين يدي القوم ، والشافع لمن خلفه.

والمتّقي : هو الذي جعل وقاية بينه ، وبين النار ينجو بها في دار القرار.

قال عمر بن عبد العزيز رحمه‌الله : التقوى : ألا يراك مولاك حيث نهاك ، ولا يفقدك حيث أمرك.

فمن امتثل المأمورات ، واجتنب المنهيات ؛ فهو المتقي ؛ وهذه هي التقوى الخاصة ، ولا يصدق ذلك حقيقة إلا على من عصمه الله من أنبيائه أو حفظه الله من أوليائه ، فإنهم صلوات الله عليهم كلهم مطهّرون ، لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون.

فهم المتّقون حقا المطيعون لله ، وإمامهم ، وخاتمهم ، وواسطة عقدهم هو : نبينا ، ومولانا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فإنه أشدّ الخلق حفاظا على أوامر مولاه ، وأبعد الخلق عن الذي حذره الله عنه ونهاه.

قالت عائشة رضي الله عنه : ما خيّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما ، فإن كان إثما كان أبعد الناس عنه.

فكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم لشدة تقواه لله تعالى ، وإمامته للمتقين ، قد حاز منها ذروتها ، فانفرد بها عن الوجود مرتقيا في أعلى عليين.

فهو أشدّ الخلق خوفا من ربه ، وأقواهم معرفة ، وعلما به ، وأمكنهم طاعة لله ، وأجدّهم عبادة لمولاه مع قوة ، وأدب ، ووقار ، وحسن سمت ، وتؤدة ، وبلوغ مروءة ، وتمام هدى ، وزهد ، وتمكن خوف ، ونظر في عاقبة ، ومشاهدة للمغيبات ، وبكاء ، وخشوع في سائر الأوقات.

قائلا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ، ولبكيتم كثيرا».

وفي رواية : «ما تلذّذتم بالنساء على الفرش ، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله».

قالت عائشة رضي الله عنها : كان عمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ديمة ، وأيّكم يطيق ما كان يطيق؟

قالت : كان يصوم حتى تقول لا يفطر ، ويفطر حتى تقول لا يصوم ، وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصلّيا إلا رأيته مصليا ، ولا نائما إلا رأيته نائما.

قال ابن أبي هالة رضي الله عنه : كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم متواصل الأحزان ، دائم الفكرة ، ليست له راحة.

وقال علي رضي الله عنه سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن سنّته ، فقال : «المعرفة رأس مالي ، والعقل أصل ديني ، والحبّ أساسي ، والشوق مركبي ، وذكر الله أنيسي ، والثقة كنزي ، والحزن رفيقي ، والعلم سلاحي ، والصبر ردائي ، والرضا غنيمتي ، والفقر فخري ، والزهد حرفتي ، واليقين قوتي ، والصدق شفيعي ، والطاعة حسبي ، والجهاد خلقي ، وقرة عيني في الصلاة».

٢٥٧

__________________

ـ وفي رواية : «وثمرة فؤادي في ذكر الله ، وغمّي لأجل أمتي ، وشوقي إلى ربي».

وقد روى كعب الأحبار ، وعبد الله بن سلام رضي الله عنهما في صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التوراة ، فذكرا فيها صفات وصفه بها ربه جلّ جلاله.

ثم قال في آخرها مولاه ، وخالقه ، ومانحه : أسدده لكل جميل ، وأهب له كل خلق كريم ، ثم أجعل السكينة لباسه ، والبرّ شعاره ، والتقوى ، والحكمة معقوله ، والوفاء طبيعته ، والعفو ، والمعروف خلقه ، والعدل سيرته ، والحق شريعته ، والهدى هامته ، والإسلام ملّته ، وأحمد اسمه أهدى به بعد الضلالة ، وأعلم به بعد الجهالة ، وأرفع به بعد الخمالة ، وأسمي به بعد النكرة ، وأكثر به بعد القلة ، وأغني به بعد العيلة ، وأجمع به بعد الفرقة ، وأؤلف به بين قلوب مختلفة ، وأهواء متشتتة ، وأمور متفرقة ، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس.

فبتحقق هذه الصفات فيه كان نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إمام المتقين ، وبناء ضميره عليها ، استحقّ التّقدمة بين يدي الكاملين ، وبجدّه في طاعة مولاه ؛ سمّاه سيد المرسلين ، هذا مع كون الله تعالى شرح له صدره ، ويسّر له أمره ، ورفع ذكره ، وأخبره ، وبشّره أنه مغفور له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى آله وشرّف وكرّم.

وكان عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كمال الخوف المزعج ، واتّباع الطريق الأنهج ، وشدّة قواه لله تعالى ، وتحذيره من النار للمهج. قائلا في خطبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيّها الناس! اتقوا الله حق تقاته ، وسارعوا في مرضاته ، وأيقنوا من الدنيا بالفناء ، ومن الآخرة بالبقاء ، واعلموا لما بعد الموت ، فكأنكم بالدنيا لم تكن ، وبالآخرة لم تزل.

أيّها الناس! إن من في الدنيا ضيف ، وما في يده عارية ، وإن الضيف مرتحل ، والعارية مردودة ، ألا وإن الدنيا عرض حاضر ، يأكل منها البرّ والفاجر ، والآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك قادر ، فرحم الله امرأ نظر لنفسه ، ومهّد لرمسه ، ما دام رسنه مرخي ، وحبله على غاربه ملقى ، قبل أن ينفد أجله فينقطع عمله».

ومن آداب من علم أن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إمام المتقين : إن يكون ساعيا في حضور التقوى ، جادا في طاعة ربه قبل أن يندم في دار البلوى ؛ لأن من دخل حزب المتقين ، ووسم بسمات شعائر الصالحين ، كان المصطفى إماما له ، وقائده إلى ثواب رب العالمين.

والتقوى الخاصة إذا حصلت للمؤمن كان وليّا ، وصدق في تقواه صدقا مرضيا ، وكان من المتقين هم الصادقون.

قال الله في كتابه العظيم : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)[البقرة : ١٧٧].

٢٥٨

__________________

ـ فانظروا رحمكم الله هذه الآية الكريمة ، كيف فسّرت الصادقين في أعمالهم ، والمتقين في أحوالهم ، وهم الذين يؤمنون بالله ، واليوم الآخر ، ويقيمون الصلاة ، ويؤتون الزكاة ، ويوفون بعهدهم ، ويصبرون على ضررهم.

وبالجملة : بالتقوى تجمع امتثال كل مأمور به ، والمحافظة عليه ، واجتناب كل منهى عنه من التلبّس به ، والقرب إليه ، فلا تطمع أن تكون متقيا حتى تكون حسن المعاشرة ، كريم الصنيع ، ليّن الجانب ، باذلا للمعروف ، مطعما للطعام ، مفشيا للسلام ، عائدا للمرضى ، مشيّعا للجنائز ، محسنا للجوار ، موقرا للكبار ، راحما للصغار ، عفوّا عن الزلّات ، مصلحا بين الناس ، كريما سمحا ، مبتدئا بالسلام ، كاظما للغيظ ، جامعا لخصال الخير ، تاركا لخصال الشر ، معرضا عن الباطل ، والغناء ، والأوتار ؛ تاركا للكذب ، والغيبة ، والغش ، والخديعة ، والشحّ ، والجفاء ، والنميمة ، وسوء الظن ، وقطيعة الأرحام ، وسوء الخلق ، والتكبّر ، والفخر ، والعجب ، والاختيال ، والمزاح ، والفحش ، والحقد ، والحسد ، والطيرة ، والبغي ، والعدوان والظلم ، والرياء ، والسمعة.

فإذا علمت هذه المأمورات وفعلتها ، وعرفت هذه المنبهات واجتنبتها ، رجوت من مولاك أن تكون عنده متقيا ، ومن عقابه في الدار الآخرة ناجيا.

ولقد حذّرنا نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هذه المنهيات ، وحثّنا على فعل هذه المأمورات.

قال أنس بن مالك رضي الله عنه : فلم يدع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نصيحة جميلة إلا وقد دعانا إليها ، وأمرنا بها ، ولم يدع غشا ، ولا عيبا إلا وحذّرنا منه ، ونهانا عنه.

وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه : أوصاني رسول الله.

قال لي : «يا معاذ ، أوصيك : بتقوى الله ، وصدق الحديث ، والوفاء بالعهد ، وأداء الأمانة ، وترك الخيانة ، وحفظ الجار ، ورحمة اليتيم ، ولين الكلام ، وبذل السّلام ، وحسن العمل ، وقصر الأمل ، ولزوم الإيمان ، والتفقّه في القرآن ، وحب الآخرة ، والجزع من الحساب ، وخفض الجناح.

وأنهاك : ان تشتم حليما ، أو تكذّب صادقا ، أو تطيع آثما ، أو تعصي إماما عادلا ، أو تفسد أرضا.

أوصيك : بتقوى الله عند كل حجر ، ومدر ، وشجر ، وأن تحدث عند كل ذنب توبة ، السر بالسر ، والعلانية بالعلانية».

هذه صفات المتقين ، وشعار الصالحين ، وطريقة أولياء الله المتقين ، وسلوك القوم الناجين.

فمع تحقق هذه الصفات في النفوس تحقق الكرامة ، ومع ثبوتها ، ودوامها تظهر الاستقامة ، ونحن فينا من التقوى طريق به يقتدى ، ولا ما نرجو به النجاة إلا حب النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقد وعد مولانا جلّ جلاله على من حصل منّا التقوى أن يصلح لنا أعمالنا ، ويغفر لنا ذنوبنا.

فقال عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب : ٧١].

٢٥٩

وأهل البيت حقّا كما أشار إليه قوله : «سلمان منّا أهل البيت» (١).

ولن يتشرف بهذا المقام على حقيقته إلا من أذهب الله عنه الرجس ، وطهّره تطهيرا ، فلا يطمع فيه الطامعون إلا من طريقه ، فإنه طمع فارغ ، ولشرف هذا المقام ؛ قدّم الله القرية الهالكة على القرية المعذّبة ؛ لأن المقصد من التعذيب هو التخريب.

وقد قال بعض الكبار : كل من خاف على هيكله ؛ لم ير الله جهارا علنا ؛ يعني :

__________________

ـ ورتّب سبحانه على حصول التقوى في عبيده أن يجعل لهم من أمرهم مخرجا ، ويدر عليهم رزقه ، ويدخل عليهم من حيث لم يحتسبوا فرجا.

فقال جلّ جلاله : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)[الطلاق : ٢ ، ٣].

وإذا صدق العبد من تقواه ؛ نجّاه الله مولاه من بلواه.

وتذكّر قضية الثلاثة الذين أووا إلى غار فانطبقت عليهم الصخرة على باب الغار ، فلم يجدوا مسلكا للخروج ، ويئسوا من زوالها ، وانقطعت العلائق ، وذهبت عنهم حيلها ، فما بقي لهم إلا الوثوق بمفرّج الكربات ، وقاضي الحاجات عند الشدائد والأزمات ، فألهمهم مولاهم بجوده وكرمه ، فتذكّروا أحسن الأعمال التي أخلصوها ، وتدبّروا في الفضائل من التقوى التي عند الله ادخروها ، فقالوا : تعالوا نتوسل إلى الله سبحانه بأرجى أعمالنا ، ونتعلق بباب الكريم ، ونسأله في خلاصنا.

فقال أحدهم : اللهم إنه كان لي أبوان نائمان ، وحضر طعام ، فكرهت أن أنال منه قبل أبويّ ، وكرهت أن أوقظهما من نومهما ، والصبيان يتضاغون ، وكرهت أن أقدمهم عليهما.

اللهم إن كنت فعلت هذا لأجلك ، فافرج عنا فرجة نرى منها السماء ، فقبل الله تعالى دعوته ، وتحركت الصخرة عن فم الباب بمقدار يسير.

ثم دعا الآخر المولى جلّ جلاله وذكر أن أجيرا كان عنده ، وأمسك أجره ، ونمّاه له بقرا وغنما ، فطلبه الأجير فقال له : كل ما رأيت من البقر ، والغنم فهو لك.

ثم قال : اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ، فانزاحت الصخرة أيضا شيئا يسيرا.

فقال الثالث : اللهم إنه كانت لي ابنة عم كنت أحبها ، فخلوت بها ، وتمكنت منها.

فقالت لي : اتّق الله يا عبد الله ، ولا تفض الخاتم إلا بحقه فتركتها.

اللهم إن كنت فعلت هذا ابتغاء وجهك فافرج عنا ، ففرّج الله تعالى عنهم ، وزالت الصخرة عن فم الغار حتى خرجوا.

فتدبّروا رحمكم الله كيف جعل الله تعالى التقوى سببا في خرق العوائد ، وفرجا ، وفتوحا لباب الفوائد ، وكذلك هي كرامات أولياء الله نشأت عن أعمال ، وفضائل وخصال.

(١) رواه الديلمي في الفردوس (٢ / ٣٣٧) ، والطبراني في الكبير (٦ / ٢١٢).

٢٦٠