مرآة الحقائق - ج ١

إسماعيل حقّي البرسوي

مرآة الحقائق - ج ١

المؤلف:

إسماعيل حقّي البرسوي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
977-344-218-7

الصفحات: ٤٣٦
الجزء ١ الجزء ٢

أهل الفجور الثاني في نهاية الحال ، وقد رأينا في زماننا كلّا منهم.

فقد اشتهر بعض الناس بالتقوى ، والعمل بالشرع ، وقد صدر عنهم ما صدر عن أبي جهل ونحوه ؛ لكون قلوبهم قلوب الذباب ، ورأيناهم بعد الموت في البرزخ ، والورطة ، وكمال الحجاب ، واشتهر بعض الناس بخلاف ذلك ، ثم صاروا إلى مقام الرضا ؛ لكون قلوبهم خالية عن القصد بالسوء والأذى.

فالطائفة الأولى : لعنهم في الدنيا والآخرة ؛ لكونهم ممن أذى الله ورسوله ، وورثة رسوله.

والثانية : رحمهم‌الله في الدّارين ؛ لكونهم ممن أحب الله ورسوله ، وورثة رسوله.

كما قال تعالى : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة : ٥٤] ، وقد وصل بعض الناس إلى الله تعالى من طريق المحبة ، فإن الوصول طرقا مختلفة.

قوله تعالى : (لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ) [الأعراف : ٩٦].

: أي في مقابلة الإيمان ؛ لأن الفيض إنما ينزل من العلو ، والقلب علوي كما مرّ ؛ فكان المناسب للعلوي المتصف بالإيمان العلوي البركات السماوية العلوية ، فكما أن الأرض إنما تنمو بالماء السماوي ؛ فكذا القلب إنما ينمو بالفيض العلوي ، واستند الفتح على نون العظمة ؛ لأن الأسباب مهيّئة لا مؤثّرة ؛ فالفاتح هو الله تعالى من فضله.

قوله تعالى : (وَالْأَرْضِ) [الأعراف : ٩٦] : أي في مقابلة التقوى ؛ لأن التقوى من شأنه أن يوجد في الأرض كما سبق.

قال تعالى : (قالَ لَنْ تَرانِي) [الأعراف : ١٤٣].

: أي قال الله تعالى لموسى عليه‌السلام حين طلب الرؤية : لن تراني يا موسى وأنت موسى ؛ وإنما تراني إذا كنت محمدا ، ولم تكون محمدا أبدا ؛ لوجوب اختلاف التعينات بالحكمة ؛ فهو : أي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يراني ببصره وببصيرته ؛ لأنه لا حجاب له من كون لا جسما ولا روحا ؛ لأن اللطيف لطفه ، وجعل نورا محضا ، كما قال : «واجعلني نورا» (١) ، وأنت يا موسى تراني ببصيرتك في الدنيا ، وأنا رؤيتك ببصرك ، فلا تحصل

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٢٠١

لك إلا في الآخرة ، كما لسائر المؤمنين (١).

__________________

(١) قال الشيخ الشعراني : اعلم يا أخي رحمك الله أن رؤية الحق سبحانه وتعالى لا يعرف حقيقتها إلا من عرف حقيقة رؤية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو غيره من الأموات ، وأنه مثال ينتجه الله تعالى من تلك الذات المرئية في عالم الخيال ، فيرتسم في النفس بصورة المرئي ، فليس مراد الرائي الصادق برؤية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنام رؤية حقيقة شخصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الموقع في قبره الشريف بالمدينة ؛ فإن ذاته الشريفة منزّهة عن كلفة المجيء والرواح من البرزخ إلى مكان الرائي ، وربما رآه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألف واحد في ليلة واحدة في ألف موضع ، وهو في كل موضع على حالة لا تشبه الأخرى ، ومثل ذلك محال في العقل ، وإن كانت القدرة الإلهية أوسع من ذلك ، وهذا هو معنى حديث :

«من راني في المنام فقد رآني حقّا ؛ فإنّ الشيطان لا يتمثّل بي».

فليس معناه أنه رأى روح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومظهر ذاته ، وإنما معناه أنه رأى مثال روحه المقدّسة ، التي هي محلّ النبوة.

فإن روح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الباقية بعد موته منزهة عن الصورة والشكل ؛ فافهم.

بخلاف المثال ؛ فإنه لا يكون إلا مشتملا على الشكل واللون والصورة ، وهذا لا بدّ منه في طريق التعريف ، وإلا لم يكن يعرف.

وكذلك القول في رؤية ذات الله عزوجل ، فإنها منزّهة عن الشكل والصورة ، ولكن لا يتعقل عبد معرفتها إلا بواسطة تخيل مثال محسوس في الصورة الجميلة التي تصلح أن يمثّل بها ذلك الجمال الحقيقي المعنوي ، الذي لا صورة فيه ولا لون ولا شكل ، ثم يطلق على ذلك المثال أنه حقّ وصدق ؛ لكونه واسطة في التعريف.

ويقول النائم : (رأيت ربّي في المنام) ، وليس مراده أنه رأى ذات ربه حقيقة ، وإنما رأى مثال ذاته المتخيلة في وهمه.

فإن قيل : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم له مثل ، والله تعالى لا مثل له.

قلنا : هذا كلام من هو جاهل بالفرق بين المثل والمثال.

فإن المثل هو المساوي في جميع الصفات ، والمثال لا يشترط فيه المساواة.

وتأمّل العقل ؛ فإنه معنى لا يماثله غيره ، وكثيرا ما يمثل بالشمس وليس بينهما من المناسبة إلا شيء واحد.

وهو أن المحسوسات تنكشف بنور الشمس كما تنكشف المعقولات بالعقل.

وقد ضرب الله عزوجل المثل لنوره بقوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ) الآية.

٢٠٢

__________________

ـ وأيّ مماثلة بين نوره ونور الزجاج والمشكاة والشجرة والزيت.

وكذلك ضرب الله تعالى المثل للحياة الدنيا بالماء النازل من السماء.

وضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المثل للإسلام بالقبة.

وضرب المثل للعمل باللبن ، وضرب المثل للقرآن بالحبل.

فأيّ مناسبة بين هذه الأمور وبين الأشياء المضروب لها الأمثال ، ولكن لما كان الحبل مثلا يتمسّك به للنجاة والقرآن يتمسّك به للنجاة صحّ التمثيل به.

وقس عليه ، وكل ذلك من باب المثال لا من باب المثل.

فكما صحّ ضرب الأمثلة لما ذكر صحّ ضرب الأمثلة لكل عارف لذات الله التي لا مثل لها لمناسبة معقولة من صفات الله تعالى.

واعلم أننا لو أردنا أن نعرف مسترشدا سألنا : كيف يخلق الله الأشياء؟ وكيف يعلمها؟ وكيف يريدها؟

وكيف يتكلم؟ وكيف يقوم الكلام بنفسه؟.

لا نقدر نعرفه معنى ذلك إلا بما عنده من صفات نفسه ، ولو لا أنه عرف نظير هذه الصفات من نفسه لما فهم مثال ذلك في حق الله عزوجل.

قلت : إن المثال جائز ، والمثل باطل ؛ وذلك لأن المثال هو ما يوضّح الشيء ، والمثل ما يشابه الشيء من جميع الوجوه ، وليس شيء في الوجود يماثل الحق تعالى.

فالمثال هو المرئي في الدنيا والآخرة ، كما سيأتي بسطه في الفصول الآتية إن شاء الله تعالى ؛ لأنه لا يصحّ لعبد أن يرى الذات المقدسة ؛ لأنها تنفي بذاتها أن يكون في حضرتها سواها ،.

وهذا المثال هو المراد بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رأيت ربّي في أحسن صورة».

وفي رواية : «في صورة شابّ».

وهو المراد أيضا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خلق الله آدم على صورته».

وفي رواية صححها ابن النجار وأيّدها الكشف : «على صورة الرحمن».

فإنه لا يصحّ أن يكون المراد بذلك صورة الذات ؛ لأن الذات المقدّسة لا صورة لها إلا من حيث التجلي بالمثال ، كما يشهد لذلك خبر مسلم في التجلي يوم القيامة.

وكما تجلى جبريل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صورة دحية الكلبي.

ومعلوم أن تمثّل جبريل في دحية ليس معناه أن ذات جبريل انقلبت صورة دحية ، وإنما ظهرت تلك الصورة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثالا مؤدّيا عن جبريل ما أوحى به إليه.

ونظير ذلك قوله تعالى : (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا)

٢٠٣

__________________

ـ [مريم : ١٠] ، فإذا لم يستحيل ذلك في حق الملك وأن جبريل كان باق على حقيقته وصفته في حال ظهوره في صورة دحية فلا يستحيل ذلك في حق الله تعالى في يقظة ولا منام ؛ لاتفاق جميع المحققين أن المرئي مثال الذات لا عين الذات ، كما تقدّم وكما سيأتي.

ومن فهم الفرق بين المثل والمثال لم يقف في مثل ذلك ، وقد أشار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن الله تعالى مثالا يقع التجلي فيه حتى يعرف بقوله : «إنّ الله خلق آدم على صورته».

وذلك أنه تعالى لما كان موصوفا بالوجود قائما بنفسه حيّا عالما مريدا قادرا سميعا بصيرا متكلما كذلك ولو لم يكن الإنسان موصوفا بهذه الصفات ما صحّ له معرفة هذه الصفات في جانب الحق تبارك وتعالى ، ولا تعقّلها.

ولهذا ورد في بعض الكتب الإلهية : «من عرف نفسه فقد عرف ربّه».

ذلك لأن كل ما لم يجد الإنسان له مثالا في نفسه يعسر عليه التصديق والإقرار به ، ومن شكّ فيما قررناه فليتعقّل لنا شيئا لم يخلقه الله تعالى ؛ فإنه لا يقدر قطّ على ذلك ، وهذا يصلح دليلا لمن منع رؤية ذات الله تعالى لو لا ما ورد.

ثم اعلم أن الفرق بين الحق تعالى والإنسان أن الحق تعالى يتقلّب في الأحوال ، والإنسان تتقلّب عليه الأحوال ؛ إذ يستحيل أن يكون للحال على الحق تعالى حكم.

قال تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)[الرحمن : ٢٩].

فوقعت المشاركة في الأحوال كما وقعت في الأسماء ، فافهم هذا الفرق ؛ فإنه من أوضح الفروق وأجلاها ، فعلم أنه ليس المراد بالصورة المخلوق عليها آدم أنها ذات سبع فقط ؛ لأن الحيوان كذلك له ذات ، وهو حيّ عالم مريد قادر متكلم سميع بصير ، ولو كان المراد ذلك لكان يبطل وجه الخصوصية للإنسان ، فإن هذه الصفة إنما جاءت له على جهة التشريف له.

فإن قيل : فما هذا التغيير الواقع للإنسان في نفسه وصورة الحق تعالى لا تقبل التغيير؟

قلنا : الله تعالى يقول : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ)[الرحمن : ٣١].

ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «فرغ ربّك من ثلاث».

وفي حديث التجلي الأخروي يتجلى لهم الرب في أدنى صورة ، ثم يتحوّل عند إنكارهم إلى الصورة التي عرفوه فيها بالعلامة.

فهو تعالى هو الذي أضاف إلى نفسه هذا المقام ، وهو عريّ عن مقام التغيير بذاته والتبديل ، ولكن التجلي في المظاهر الإلهية على قدر العقائد التي تحدث للمخلوقات مع الأنات ، وإذا كان الأمر على ما ذكرنا وكذلك هو ارتفع الاعتراض الوهميّ ، تعالى الله عن ذلك.

٢٠٤

__________________

ـ وقد قررنا غير ما مرة أنه ينبغي للإنسان أن يعلم ميزانه من الحضرة الإلهية ، فإن الجود الإلهي قد أدخله في الميزان ، فيوازن العبد بصورته حضرة موجده ذاتا وصفة وفعلا ، ثم لا يلزم من الوزن الاشتراك في حقيقة الموزونين.

فإن الذي يوزن به الذهب أو المسك هو صبخة حديد ، فليس يشبه في ذاته ولا صفته ولا عدده ، فلا يوزن بالصورة الإنسانية إلا ما تطلبه الصورة الإنسانية بجميع ما تحتوي عليه بالأسماء الإلهية التي توجهت على إيجاده ، وأظهرت آثارها فيه.

وكما لم تكن صبخة الحديد توازن الذهب في حدّ ولا في حقيقة ولا صورة ولا عين كذلك العبد وإن خلقه الله تعالى على صورته فلا يجتمع معه في حدّ ولا حقيقة ؛ إذ لا حدّ لذاته تعالى ، والإنسان محدود بحدّ ذاتيّ ، لا رسميّ ، ولا لفظيّ.

فالإنسان أكمل المخلوقات وأجمعها من حيث نشأته ومرتبته.

فإذا وقفت يا أخي على هذا الميزان زال عنك ما تتوهمه في الصورة من المشاركة للحق في الحقيقة ؛ فإن الله تعالى هو الخالق ، وأنت العبد المخلوق ، وكيف للصنعة أن تعلم صانعها! إنما تطلب الصنعة من الصانع صورة علمه بها لا صورة ذاته ، وأنت صنعة خالقك ، فصورتك مطابقة لصورة علمه بك ، هكذا كل مخلوق ولو لم يكن الأمر كذلك وكان يجمعكما حدّ واحد وحقيقة واحدة كما يجمع زيدا وعمرا لكنت أنت إلها ، والأمر كذلك على خلاف ذلك.

فاعلم بأيّ ميزان تزن نفسك ، فإنك صبخة حديد يوزن بها ما لا ثمن له ، وإن اجتمعت مع الموزون في المقدار فما اجتمعت معه في القدر ولا في الذات.

تعالى الله عن ذلك ، وإنما قال فيما تقدّم : «من عرف نفسه فقد عرف ربّه» ، ولم يقل : (فقد عرف ذات ربه) ؛ لأن الذات لها الغنى على الإطلاق ، وأنّى للمقيّد معرفة المطلق الذي هو الله ، بخلاف الاسم الرب؟! فإنه يطلب المربوب بلا شكّ ، ففيه رائحة التقييد.

ولذلك أمر الله تعالى العبد أن يعلم : (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ)[الأنعام : ١٩] ؛ لأن الإله يطلب المألوه ، بخلاف اسم الذات الخصيص ، فإنه غنيّ عن الإضافة.

وهنا أمر ينبغي التفطّن له ، وهو أن معرفتنا بالربّ لا تكون إلا فرعا عن معرفتنا بالنفس ؛ إذ هي الدليل.

وإن كان وجود الربّ هو الأصل ففي مرتبة يتقدّم فيكون له الاسم الأول ، وفي مرتبة يتأخر ، فيكون له الاسم الآخر ، فيحكم له بالأصل من نسبة خاصّة ، ويحكم له بالفرع من نسبة أخرى ، كما قال تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)[البقرة : ١٥٢] هذا يعطيه النظر العقلي.

٢٠٥

__________________

ـ وأما الذي تعطيه المعرفة الذوقية فهو تعالى ظاهر من حيث ما هو باطن ، وباطن من حيث ما هو ظاهر ، وأوّل من عيّن ما هو آخر ، وآخر من عيّن ما هو أول ، وإزار من نفس ما هو رداء ، ورداء من نفس ما هو إزار ، ولا يتّصف بنسبتين مختلفتين أبدا كما يقرره ويعقله العقل ، من حيث ما هو ذو فكر.

فافهم تعلم أنه لا يكلف الإنسان بمعرفة أخصّ وصف لله تعالى ؛ لأنه ليس لذلك الوصف الأخص في المبتدعات والمخلوقات مثال ، وكل ما لا مثال له فلا علم للإنسان به ولا اسم له عنده ولا علامة.

ومن هنا قال من قال : (لا يعرف الله إلا الله) ، أعني أخصّ وصفه وكنه معرفته ، كما سيأتي بسط ذلك في الميزان إن شاء الله تعالى.

وعلم أيضا أن مشاركتنا للحق في مطلق الصفات لا تشبيه فيه ؛ لأن شرط التشبيه إثبات المشاركة في الوصف الأخصّ ، وهدا لا يصحّ.

كما أن من قال : (إن السواد عرض موجود ، وهو لون ، والبياض عرض موجود وهو لون) لا يكون مشبّها السواد بالبياض ، فتأمّل ذلك ؛ فإنه نفيس.

ورؤية الحق تبارك بعين البصر في هذا الدار ممنوعة لغير سيّدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما بقي لغيره إلا الشهود بالقلب دون الرؤية بالعين ، ومن لازم ذلك الحجاب.

وإن تفاوت فيه الناس ، ويسمّى حجاب العظمة ، الذي لا يرفع عن وجه الذات أبد الآبدين ودهر الداهرين.

كما أشار إليه : «وليس بين العباد وبين أن يروا ربّهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنّة عدن».

فجميع التجليات الواقعة للعباد في الدنيا والآخرة لا تخرج أبدا عن رتبة التقييد ؛ إذ التجلي الذاتي في غير مظهر ممنوع بين أهل الحقائق ، كما سيأتي بسطه في الميزان.

وأنشدوا :

لم يبد من شمس الوجود ونورها

على عالم الأرواح شيء سوى القرص

وليس تنال الذّات في غير مظهر

ولو هلك الإنسان من شدّة الحرص

وإيضاح ذلك : هو أن رؤية الباري جلّ وعلا من أكبر النعيم ، والحجاب عنه من أكبر الجحيم ، ولا يصحّ لنا نعيم قطّ ولا عذاب في غير مظهر ؛ لأن غير المظهر كحالة الفناء لا لذة فيه ولا ألم ، فإذا وقع التجلي في المظاهر وقعت اللذات والآلام ، وسرت في العالم ، فلا حكم للنعيم والعذاب (في) البسيط في الوجود أبدا ، وإنما يوجد في المركب.

ومن هنا كان أبو يزيد البسطامي رحمه‌الله يقول : أهل أحدية الذات لا نعيم عندهم ، ولا عذاب.

٢٠٦

__________________

ـ وكان يقول : ضحكت زمانا ، وبكيت زمانا ، وأنا اليوم لا أضحك ، ولا أبكي.

ثم اعلم أن التجلي الإلهي لا يكون إلا للاسم (الرب) وللاسم (الإله) ، فلا يكون للاسم (الله) ولا للاسم (الأحد) أبدا.

ولذلك قال السامري : (هذا إلهكم وإله موسى) ، ولم يقل : (هذا الله الذي يدعو إليه موسى) ، فإن كل مشار إليه ذو جهة ، والله والأحد لا جهة لهما ، وهما عينان لا يطلبان أحدا ، فمن تعبّد وتذلل للاسم (الأحد) فقد تعبّد نفسه في غير [معبود] ، وطمع في غير مطمع ، وعلم في غير معمل ؛ لأن الأحدية لا تقبله ، ولا يصحّ له معرفتها ؛ لمنافاتها وجود العابد ، بخلاف الربّ ؛ فإنه أوجد العبد ، فهو يتعبّد له ويتذلّل.

وكذلك الإله يطلب مألوها ، كما سيأتي إيضاحه في فصل ارتباط العالم بالحق من بعض الوجوه.

ثم لا يخفى أن التجلي في المظاهر الإلهية لا يكون أبدا إلا بصورة استعداد العبد ، وغير ذلك لا يكون ، كما أشار إليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المؤمن مرآة المؤمن» ، الذي هو [الحق] (مرآة المؤمن) الذي هو [الخلق] ، فافهم.

فإذن العبد ما رأى في المرآة [الإلهية] إلا صورة نفسه ، وما رأى الحق ولا يمكن أن يراه مع علمه أنه ما رأى صورته إلا فيه ، كالمرآة في الشاهد إذا رأيت المنطبع فيها لا تراها إلا مع علمك أنك ما رأيت الصور أو صورتك إلا فيها ، فأبرز الله تعالى ذلك مثلا نصّبه لتجليه المظهري ؛ ليعلم المتجلى له من الخلق أنه ما رآه.

وأنشدوا :

جميل ولا يهوى جليّ ولا يرى

وتشهده الألباب من حيث لا تدري

وما ثمّ محبوب سواه وإنما

وإنّما سلمى وليلى والربائب للستر

وما ثمّ مثال أقرب ولا أشبه بالرؤية من هذا الذي ذكرناه.

واجهد في نفسك عند ما ترى الصورة في المرآة أن ترى جرم المرآة ، لا تراه أبدا ألبتة.

ولكن إن قلت : إن المنطبع في المرآة صورتك صدقت ؛ لأنها نشأت من مقابلتك ، وإن قلت : إنها غير صورتك صدقت ؛ لأن صورتك لم تنتقل ، فافهم هذا ؛ فإنه من أعظم ما قدرنا عليه في العلم.

ومن ذاقه فقد ذاق الغاية التي ليس فوقها غاية في حقّ المخلوق بالنظر للمرئي لا للرائي ، فإن الناس متفاوتون في كثافة الحجب وصقالة المرائي ، فلا تطمع يا أخي ولا تتعب نفسك في أن ترقى إلى أعلى من هذا المرقى ، فما هو ثمّ أصلا ، وما بعده إلا العدم المحض ، فهو تعالى [مرآتك] في رؤيتك نفسك ، وأنت [مرآته] في رؤيته أسمائه ، ثم لا يخفى أن من المحال أن يكون لعبد [الرب] كله.

٢٠٧

__________________

ـ كما أن من المحال أن يكون لعبد القرآن كله ، فلكل مخلوق [ربّ] ؛ فافهم.

وذلك هو الجزء والمدبر فيه لا غير ، ولو اجتهدت أن تأخذ لنفسك من المرآة فوق ما يخصّ صورتك لم تقدر ؛ وذلك لأن الله تعالى واسع عليم ، وتأمّل المرآة إذا كانت كرة وقوبلت بالعالم العلوي والسفلي وسعته ، وارتسم كله فيها ، فلذلك قررنا غير ما مرة أن الحق تعالى قد تعرّف إلى كل مخلوق بوجه لا يشاركه فيه غيره ، فما أحاط به أحد من كل وجه ، ولا جهله أحد من كل وجه.

حتى المعطل فإنه لا بدّ أن يستند في وهمه إلى موجد يلجأ إليه في الشدائد.

وغاية تعطيله أنه نفى صفة أثبتها غيره لا غير ؛ لقصور مطمح بصره وضعفه ، فلم يحط بصفات الحق كلها ، فما ثمّ لنا من يعتقد تعطيلا على الإطلاق أبدا.

فوجوه المعارف على عدد الخلق ، والسّلام.

وجميع من تكلّم في العقائد إنما تكلّم في عقيدة نفسه الناشئة من التجليات ، لا يتعداها أبدا ، ولا يصحّ له أن يوصل حقيقتها إلى غيره.

فعلم مما قررناه أن الحق تعالى لم يزل مجهولا من حيث الوجوه التي لم يقع للخلق التجلي فيها أبد الآبدين ودهر الداهرين ، ومن يراه منّا في الآخرة لا يرى عين ذاته الحقيقي.

وإنما هو كشف صحيح خياليّ مثاليّ ، صرحت به الأخبار الصحيحة ، وإلا فجلّت ذات الله أن يحاط بها.

وكان شيخنا الشيخ عليّ الخوّاص رضي الله عنه يقول كثيرا : ما عرف الحق تعالى أحد من حيث ما يعرف الحق تعالى نفسه أبدا ؛ لأن الأرواح المدبرة إنما ظهرت بصورة مزاج القوابل ، فلا تتعدى في التدبير ما تقتضيه الهياكل ، ولا يمكن أن يظهر الحق تعالى فيها إلا بصورة ما تقبله ، وما هي على صورة الحق في الحقيقة ، وإنما المدبر على صورة المدبر ؛ إذ لا يظهر فيه منه إلا على قدر قبوله لا غير ، «خلق الله آدم على صورته».

فلا يعلم من الحق ولا يرى منه إلا ما هو عليه الخلق ، فمن اعتمد على العالم من هذا الوجه فقد اعتمد على أمر محقق لا يتغير دنيا ولا أخرى ، فليس الحق إلا ما هو عليه الخلق من العلم به ، وهو تعالى في نفسه على ما علم ، وله في نفسه ما لا يصحّ أن يعلم أصلا ، وهو المشار إليه بقوله تعالى : (اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ)[آل عمران : ٩٧].

فالقدر الذي حصل تدبيره فيك هو [ربك الذي عبدته] ، ولا تعرف إلا هو ، وهو العلامة التي يعرف الحق تعالى بها في الآخرة ، وهي في الدنيا في العموم على الغيب ، وفي الآخرة على الكشف ، فالعامة في الدنيا يعلمونها من أنفسهم ، ولا يعلمون أنها المعلومة لهم.

٢٠٨

__________________

ـ ويقول فيها أحدهم : (ما عوّدني الله إلا كذا وكذا) ، وهذا العلم الذي نبّهتك عليه من العلم بالله ما أظهرته باختياري ، ولكن حكم الجبر حكم به عليّ ، فتحفّظ به ، ولا تغفل عنه ؛ فإنه يعلّمك الأدب مع الله تعالى.

وإذا فهمت هذا علمت أن الحق تعالى إنما هو معك بحسب ما أنت عليه وما أنت معه.

قال تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ)[الحديد : ٤].

ولم يقل قط : (وأنتم معه) ؛ إذ لا يصحّ أن يكون أحد مع الله ، فالله مع كل أحد بما هو عليه ذلك الواحد ، ولا يصحّ التجريد عن التدبير أبدا ؛ لأنه لو صحّ لبطلت الربوبية ، وهي لا تبطل ؛ فالتجريد محال ، فلا تعقل إلهك إلا مدبّرا فيك ، ولا تعرفه إلا من نفسك ، فنفسك عرفت ، والسّلام.

وقد قال أبو بكر الشبليّ رضي الله عنه : إني لا أشتهي رؤية الله تعالى. فقيل له : لم؟ فقال : أنزّهه عن رؤية مثلي.

فقال له بعض العارفين رضي الله عنه : نفس شهودك أنك أنت الناظر أقبح من عدم تنزيهك ، ويا ليت شعري! أيّ نظر لك من ذاتك حتى تنظر به ، وهل ينظره تعالى إلا هو!.

وذكر الشيخ الشعراني بعض الهواتف الربانية :

(جهلني عبادي فلم يعرفوني ، وكيف يدّعون معرفتي وأنا لا جسم ولا معنى؟! ولو عرفوني في الدنيا ما أنكروني حين أتجلى لهم في القيامة ، فهم لعلامتهم عابدون لا لي ، ولعين ما أنكروه مقرّون ، فمن قال منهم أنه عبدني فقد كذب) انتهى.

ولا يخفى أن ذلك في حق الضعفاء من المؤمنين ، أما العارفون فلا ينكرون الحق تعالى في تجلّ من تجلياته ؛ لاطلاعهم في دار الدنيا على المرآة الكبرى الجامعة لسائر الصور ، المتفرع منها كل معرفة في العالم ، فهم يوم القيامة واقفون لا يتكلّمون ، ولا يستعيذون منه كما استعاذ غيرهم ، حتى تنقضي جميع التجليات.

وقد علموا من الله تعالى أنه لا يريد منهم أن يعرّفوه لأحد من المنكرين في ذلك اليوم العظيم ؛ ليجنوا كلهم ثمرة اعتقادهم في دار الدنيا.

وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّكم سترون ربّكم كما ترون القمر ليلة البدر».

وفي رواية : «كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب».

اعلم أن النور الذي يتجلى الحق تعالى فيه في الآخرة إنما هو نور لا شعاع له ، فلا يتعدى ضوؤه نفسه ، ويدركه البصر في غاية التجلي والوضوح.

فمعنى قوله : «كما ترون القمر ليلة البدر» : يعني إذا كثف ليلة بدره ؛ لأن عند ذلك يدرك البصر المثال المشبّه بالقمر إدراكا محققا.

٢٠٩

__________________

ـ ويؤيده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قيل له : كيف رأيت ربّك يا رسول الله؟ قال :

«نور أنّى أراه» ، فما رأى ذلك النور ، وهو نور شعشعانيّ ، والأشعة تذهب بالأبصار ، وتمنع من إدراك من تنشقّ عنه عند تلك الأشعة.

واعلم يا أخي أنه لم يبلغنا أن أحدا رأى ربّ العزة بعين رأسه في الدنيا غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأما رؤيته تعالى في المنام فوقعت لكثير من الأمة ولرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فروى الطبراني وصححه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «رأيت ربّي عزوجل اللّيلة في صورة شابّ له وفرة ، وفي رجليه نعلان من ذهب ، وعلى وجهه فراش من ذهب ، وعلى رأسه تاج يلتمع البصر» انتهى.

وقد استنكر بعض العلماء هذا الحديث ، وما كان ينبغي له الاستنكار ، وذلك لأن للحق تعالى تجليا في خزانة الخيال في صورة طبيعية ، بصفات طبيعية ، فيرى النائم في نومه تجسد المعاني في صور المحسوسات ، هذه حقيقة الخيال ، فيجسد ما ليس من شأنه أن يكون جسدا ، لا تعطي حضرته إلا ذلك ، فحضرة الخيال هي أوسع الحضرات ؛ لأن فيها يظهر وجود المحال ، فإن الله تعالى لا يقبل الصور ، وقد ظهر بالصورة في هذه الحضرة ، كما قبلها في تجلّيه يوم القيامة في صور المعتقدات ، فقد قبل محال الوجود الوجود في هذه الحضرة ، وفي هذه الحضرة أيضا يرى الإنسان الجسم الواحد في مكانين في آن واحد ، كما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم موسى عليه الصلاة والسّلام ليلة الإسراء في السماء في حال كونه في الأرض ، وقال : «رأيت موسى».

وما قال : (رأيت روح موسى) ، ولا (جسد موسى) ، ونظير ذلك رؤية الإنسان في منامه جسمه في مدينة أخرى ، وعلى حالة أخرى ، يخالف حاله الذي هو عليه في بيته ، وهو عينه لا غيره لمن عرف الوجود على ما هو عليه ، ونظير ذلك أيضا مشاهدة المقتول في المعركة في سبيل الله ، وهو في حال رؤيتك عند ربّه حيّ يرزق ويأكل.

وقد رأيت في واقعة وقعت لي طيرا أبيض طويل العنق ، أقبل ، فابتلع الوجود العلوي والسفلي ، وابتلعني من جملة العالم ، فصرت أراه من خارجه ، وأنا في جوفه ، وما بقي له قرار ينزل إليه ليستقرّ ، ولا سقف يصعد إليه ، ثم جاءت بعوضة ، فابتلعت ذلك الطائر بما حواه ، ثم غابت عن العين.

وهذا نظير رؤية آدم في حديث القبضتين ، حين قيل له :

«يا آدم ، اختر أيّهما شئت ، فقال : اخترت يمين ربّي ، وكلتا يديه يمين مباركة ، فلما بسط الحق تعالى يده فإذا فيها آدم وذريته» الحديث.

فآدم في هذه القصة في القبضة ، وهو عينه خارج عنها ، فانسخ يا أخي حكم عقلك ، حتى تجمع بين الضدين ، وتصدق رسولك صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخبرك به مما أحاله عقلك ؛ لأنك لا تتعقل شيئا قطّ من ذلك ، وميزان العقل موجود معك ، ولو لا أن حضرة الخيال تقبل المحال ما قدر العقلاء على فرض المحال ؛ لأن العاقل لو لا صوّره في نفسه ما قدر على فرضه ، وإنما صحّ لنا رؤية الحق تعالى في المنام مع

٢١٠

ولذا قال : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (١) : أي بوقوع الرؤية في الآخرة لا في الدنيا ، وبالبصيرة لا بالبصر.

فإن البصر قيد ؛ والقيد لا يزول ، لقوة العناصر والأركان ، وأنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبصره ليس بقيد له ؛ ولذا كان يرى من جميع الجهات ، وهو في الصلاة ؛ للمجازاة

__________________

ـ الضدين ، وتصدق رسولك صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخبرك به مما أحاله عقلك ؛ لأنك لا تتعقل شيئا قطّ من ذلك ، وميزان العقل موجود معك ، ولو لا أن حضرة الخيال تقبل المحال ما قدر العقلاء على فرض المحال ؛ لأن العاقل لو لا صوّره في نفسه ما قدر على فرضه ، وإنما صحّ لنا رؤية الحق تعالى في المنام مع حديث : «إنّكم لن تروا ربّكم حتّى تموتوا».

لأن النوم أخو الموت ، فلما كان الموت يطلق على النوم بضرب من التشبيه قلنا بصحة رؤية الحق تعالى فيه ، وكذلك لما تجلى الحق تعالى للجبل خرّ موسى صعقا ، وصار الجبل دكّا ، فما أطاق موسى الكلام حتى صعق ، وتحلل التركيب منه.

وكان الدكّ للجبل بمنزلة الموت له ، حتى أطاق سماع الخطاب ؛ إذ السماع (٢) لمن لا مثل له كالرؤية لمن لا مثل له سواء. فهذا هو السبب المجوّز لرؤية الحق تعالى في الحياة الدنيا في المنام.

وكان أبو يزيد رضي الله عنه يقول : الحقيقة تأبى أن يكلم الحق تعالى غير نفسه ، أو يسمعه غير نفسه ؛ فإنه تعالى إذا أراد أن يكلّم عبدا لا بدّ أن يحبّه ، وإذا أحبّه كان سمعه وجميع قواه ، فما سمعه تعالى حقيقة إلا هو. ومن المحال أن يطيق حادث سماع كلام القدير أو يتعقّله ، ولم يكن الحق تعالى لسانه عند النحوي ، ولذلك كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع كماله يغيب عن نفسه وإحساسه عند الوحي.

واعلم أن حقيقة النوم أنه برزخ بين الموت والحياة ، فالنائم لا حيّ ولا ميت ، فله وجه للموت ووجه للحياة ، فهو أخو الموت من وجه واحد ، لا من الوجهين.

قال الله تعالى : (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً)[النبأ : ٩] : يعني راحة لكم ، ولتألفوا حالكم في البرزخ بعد الموت ، فإن حالكم فيه كالنوم في الصورة.

قال شيخنا رضي الله عنه : ومحل النوم ما تحت الكواكب ، ومقعر فلك القمر خاصّة ، فالملك لا رؤيا له ؛ لأن نشأته غير عنصرية ، هذا حكم الدنيا ، وأما في الآخرة فمكان الرؤيا ما تحت مقعر فلك الكواكب الثابتة ، ولذلك كان أهل النار ينامون في بعض الأوقات ، نسأل الله العافية.

(١) رواه البخاري (٤ / ١٧٠٠) ، والحاكم في المستدرك (٢ / ٦٣٠).

٢١١

الإلهية ، والله تعالى وجه كل لا قفا فيه ، فكذا محمد ؛ لأنه مظهره التام ، ومجلاه الكامل ؛ وهو القمر ليلة البدر إن عكس إليه نور الشمس الذات ؛ فامتلأ به.

وأمّا النجوم ؛ فقد أخذت أنوارها من القمر بقدر استعداداتها وصفائها في جرمها ، ودلّ على هذا الكمال قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم القيامة : «أمتي أمتي» (١) ؛ لأنه لا حجاب له أصلا ، وأمّا غيره فيقولون : نفسي نفسي.

ولمّا كان كمال المتبوع ساريا في التابع ؛ كان أكامل الأمة أيضا كذلك ؛ لأنهم أيضا أهل التجلّي الذاتي ، ولا يلزم منه فضلهم على الأنبياء ؛ لأن مرتبة النبوة أعلى من مرتبة الأولياء والحال لا توصف ، ولسان الشرع لا يدور إلا بهذه القدر ، ولا يجري إلا على مقتضى استعداد أهل العصر.

فظهر أن الله تعالى مشهود أبدا ؛ لكن من مرآة رداء الكبرياء الذي هو وجود العبد ، وبعد شهوه ، فالمشاهدون على تفاوت الدرجات في ذلك حسب تفاوت درجات البصر في الظاهر ، فشهود بعضهم أقوى من شهود البعض ؛ لكونه بالبصر وبالبصيرة جميعا ، كما لحضرة النبوة.

ولمّا كان كل من الحجاب والكشف يورّث الحيرة ؛ كان المحجوب في حيرة ؛ هي حيرة ممدوحة ؛ لكونها حيرة تلوين بعد الكشف والتمكين ، فبين الحيرتين تفاوت عظيم ، كما بين التلوينين.

ومنه يعلم سرّ قوله تعالى : (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) [الأعراف : ١٩٨].

حيث عبّر عن شهوده صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرؤية ؛ فإنه أهل الرؤية سواء نظر إلى الأحباب ، أو إلى الأعداء ، وأمّا هم ؛ فهم أهل النظر الحسّي لا من أهل الإبصار الحقيقي ، ولو كانوا من أهل الإبصار الحقيقي ؛ لما جعلهم الله في حكم العمي ؛ فهم رأوا محمدا بصورته لا بمعنا هو ويقرأ في الحيرة المذمومة حيث استبعدوا النبوة في البشر والحق في صورة

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٢١٢

بني آدم ، وقد قال : «إن الله خلق آدم ؛ فتجلّى فيه» (١) : أي بذاته وأسمائه وصفاته.

والمراد منه : آدم الحقيقي الذي هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن الغاية القصوى من الكون من إيجاد أبو البشر داخل في محمد لا بالعكس ، فإن الله لمّا كان النور المحمّدي من نوره ؛ جعل نور أبي البشر في نوره ، فما ظهر إلا بنور محمد كما أن محمدا ما ظهر إلا بصورة أبي البشر ، فكان روح آدم تابعا لروحه ، وجسمه متبوعا لجسمه ، ولمّا كان الشرف الحقيقي ، والكمال الإنساني للروح في الحقيقة ؛ ما نقص متابعة محمد لجم آدم من كماله شيئا.

ومنه : قال : «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم» : أي إلى ظواهركم ؛ «وإنما ينظر إلى قلوبكم ونياتكم» (٢) : أي إلى بواطنكم ، فانظر واشهد لعلّ الله يعطيك رؤيته بالمنّة لا بالجهل.

قال الله سبحانه في أواخر سورة الأعراف : (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ) [الأعراف : ١٧٦].

معنى هذه الشرطية أن إخلاده إلى الأرض كان سببا لعدم مشيئة الله رفعه ، فلو لم يكن الإخلاد الاختياري ؛ لشاءه ، فلو شاءه مع الإخلاد ؛ لكان ذلك من قبيل الجبر ، والله تعالى لا يجبر أحد على ما لا يقتضيه استعداده ؛ ولكنه يجبر على حكم قابليته ، ومن ذلك الاسم الجبّار.

وعلى هذا نحو قوله : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) [البقرة : ٢٦٤] : أي لأنه لو هداهم مع اختيارهم الكفر ؛ لكان جبّارا بما لا يقتضيه عالم العلم ، والحكمة ، فإن قلت : قوله تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الإنسان : ٣٠] ؛ يدلّ إن مشيئتهم تابعة لمشيئته تعالى ؛ فيكون جبرا ، قلت : هذا راجع إلى ما هم عليه في عالم العلم ، فإن الله تعالى إنما شاء في العين الخارجي ما شاء لكون ذلك مما يقتضيه حال المعلوم في العلم ؛ فهو عليم حكيم ؛ يعني : إن حكمته تابعة لعلمه.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) رواه مسلم (٤ / ١٩٨٧) ، وابن ماجه (٢ / ١٣٨٨).

٢١٣

وحاصله : إنهم ما يشاءون في العين إلا أن يشاء الله في العلم ، وما شاء الله في العلم إلا ما شاءه المعلوم ، فارتفع الجبر ، وجاء إلزام الحجة ؛ لأن الله تعالى خلّاق جوّاد فما يعطي إلا ما شاء له ألسنة الحقائق والماهيات ؛ فهو مجيب لسؤال كل سائل ، فليس للسائل إنكار سؤاله ، وإن المعطي له ليس عين السؤال.

ألا ترى أن من أمر غيره بأن يخرج له من كيسه دينارا فلسا ؛ فليس له أن يعارضه في ذلك بأن يقول له : قد أمرتك بإخراج الدينار لا بإخراج الفلس ، فإن للمأمور إن ما وجدت في الكيس إلا الفلس ؛ فهو عين ما طلبت في الحقيقة في صورة طلب الدينار ؛ إذ الإخراج والإعطاء إنما هو من الموجود لا من المفقود.

ولله الحجة البالغة ، فأين تذهبون؟ والكل على صراط مستقيم لا يخطئه ، ولا ينحرف عنه ؛ لأن الله أخذ بناصيته ، فطوبى لمن سلك على طريق الهدى ، وويل لمن سلك على طريق الهوى ؛ ولذا ذمّ الله من اتّبع هواه في هذا الموضع ، وفي غيره إذا لم يقبل الهدى ، وكان أمره فرطا ، فأنّى يفلح الإنسان إذا لم يقبل الإرشاد ، وكيف يقبل الإرشاد ، وقد طبّع على الضلال ، ولم يطبع عليه إلا بأمر غير مجعول ، فليلم نفسه ، أو ليسكت غريقا في بحر الحيرة.

فهذا عالم القضاء والقدر ، ولا يبحث عنه فوق ذلك ، وسرّه ظاهر ؛ وهو الأحوال الواقعة في العالم خيرا وشرا ، والكل ميسر لما خلق له ، إمّا ابتداء ، وإمّا انتهاء ، فإنه الاعتداد بالسعادة العارضة ، ولا بالشقاوة العارضة.

ودعوة الأنبياء من جملة القضاء ، فلا تترك ؛ لعدم إيمان المدعو ، وبهذا وقعوا في الحيرة ، وأشار بالرفع إلى أن من قبل الآيات ؛ فكأنما رفع إلى السماء ، ومن ردّها ؛ فكأنما وضع في سجّين ، فكلّ رفع ووضع ، فهو إنما يكون في الدنيا معنى ، وفي الآخرة صورة ، فترى أهل الملكوت السماوية في علّيين ، وأهل الشهوات الأرضية في سجّين.

فمن كان من أهل الأرض ؛ فليجتهد في الارتفاع إلى السماء ؛ فإن السماء محل التنزّه والإطلاق ، كما أن الأرض محلّ الانقباض والانحباس ؛ فإنها سجن ، كما ورد :

٢١٤

«إن الدنيا سجن المؤمن» (١) ، نسأل الله تعالى أن يخلّصنا من هذا السجن بالسير في الملكوت ، ثم يرفع منزلتنا إلى عالم الجبروت واللاهوت.

قال الله سبحانه في سورة الأعراف : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا) [الأعراف : ٩٦].

: أي بالله الذي على العرش رحمانيته ، وبملائكته الذين أسكنوا في ملكوت سماواته ، وبالرسل الذين أجسامهم في الأرض ، وعقولهم ، وقلوبهم ، وأرواحهم في علّيين ، وبالكتب التي أنزلت في خزائن العرش من المحلّ المكين الأمين ؛ وهو : أي الإيمان أصل السعادات ، ويحرّم دخول الجنات العالية إلا به ، ومحلّ القلب العلوي الذي كان تعيّنه في عالم الأرواح ؛ وهو فوق العرش عند أهل الحقائق خلافا للحكماء ؛ فإنهم ذهبوا إلى أن فوق العرش لا خلاء ، ولا ملأ إلا أن يقال : إنهم أرادوا بذلك سلب التحيّز وهو كذلك ، فإن الأرواح ليست بمتحيّزة ؛ لتجرّد جواهرها بخلاف الأجسام ؛ ولذا جعل العرش محيطا بالعالم ، ومدارا له فهو الخير كله.

قوله عزوجل : (وَاتَّقَوْا) [الأعراف : ٩٦] : أي عن الكفر والمعاصي التي لا وجود لها إلا في الأرض السفلية ؛ لأن الملائكة في السماء لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون.

وأمّا الذين في الأرض ، فإنهم وإن كانوا مكلّفين ببعض التكاليف لكنهم في ذلك تابعون للإنس من حيث مشاركتهم في المكان ، فهم في عدم العصيان ؛ كالملائكة السماوية.

وأمّا ما روي عن ابن عباس : من أن طائفة من الملائكة لم يسجدوا لآدم ، فأرسل الله إليهم نارا ؛ فأحرقهم ، فإنما أراد بالملائكة الجن ؛ لأن كلّا منهم مستورون عن أعين الناس ؛ لكونهم داخلين تحت الاسم اللطيف ، وأيضا إن الملك من أرسل في أمر من الأمور ، وأمر بشيء من الأوامر ؛ كالجن ، فكل ملك روح وجن ، وكذا كل جنّي روح وملك ، وأمّا كل روح فليس بملك ، وهو الذي ليس له جسم أصلا ؛ كالأرواح المهيمة ، فهو لا يقتضي الإرسال والأمر ؛ لكونه مشغولا بربه ، ومستغفرة في بحر شهوة لا شعور له بالعالم ، وبما يتعلّق به من المصالح.

__________________

(١) رواه مسلم (٤ / ٢٢٧٢) ، والترمذي (٤ / ٥٦٢).

٢١٥

سورة الأنفال

قال الله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال : ٣٣].

المراد بالتعذيب الأول هو : التعذيب الدنيوي ؛ لأن وجود النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمان للمذنبين ، وعبارة الخطاب له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإشارة لاصطفاء أمته ؛ فيكون كقوله : «لولاك لولاك لما خلقت الأفلاك» (١) ؛ فإن المراد به : لولاك ولو لا ما هو شعبة من شعب أنوارك لما خلقت العالم من العرش ، والكرسي وغيرهما (٢).

__________________

(١) ذكره العجلوني في كشف الخفا (٢ / ٢١٤).

(٢) قال الشيخ جعفر الكتاني : وفي «شفاء الصدور» لابن سبع قال الله تعالى : «يا محمد وعزتي وجلالي لولاك ما خلقت أرضي ولا سمائي ولا رفعت هذه الخضراء ولا بسطت هذه الغبراء».

وفي خبر قدسي ذكره فيما تقدم «شارح المشارق» وعلي القاري في «شرح الشفا» والقاشاني في «لطائفه» والجيلي في «كمالاته» كما ذكره غيرهم وهو «أن الله تعالى قال لسيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

لولاك لولاك لما خلقت الأفلاك» قال بعضهم : والمراد من الأفلاك فيه جميع العالم إطلاقا للبعض وإرادة الكل ، وهذا الخبر وإن طعن فيه بعضهم ونفى عنه الثبوت فالأحاديث قبله تشهد له وتؤيده معناه وبها كلها تعلم صحة قول البوصيري في بردة المديح :

وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من

لولاه لم تخرج الدنيا من العدم

وقول ابن الفارض :

لولاك يا أحمد المحمود ما طلعت

شمس ولم تخرج الدنيا من العدم

وقوله أيضا في تائيته الكبرى على لسان الحضرة النبوية :

ولا تحسبن الأمر عني خارجا

فما ساد إلا داخل في عبوديتي

فلولاي لم يوجد وجود ولم يكن

شهود ولم تعقد عهود بذمتي

فلا حي إلا عن حياتي حياته

وطوعي مرادي كل نفس مريدة

ولا قائل إلا بلفظي محدث

ولا ناظر إلا بناظر مقلتي

ولا منصت إلا بسمعي سامع

ولا باطش إلا بأزلي وشدة

ولا ناطق غيري ولا ناظر ولا

سميع سواي من جميع الخليقة

٢١٦

__________________ـ

وفي عالم التركيب في كل صورة

ظهرت بمعنى عنه بالحسن زينتي

وفي كل معنى لم تبنه فظاهري

تصورت لا في هيئة هيكلية

إلى آخر ما قال رضي الله عنه.

قال القاشاني في شرحها : وإنما لم يوجد وجود إلا به لأنه صورة الروح الأعظم وهو رابطة الإيجاد ، انتهى.

وقول القطب سيدي علي بن وفا في داليته المشهورة :

روح الوجود حياة من هو واجد

لولاه ما تم الوجود لمن وجد

وقول الآخر :

لولاك ما خلقت شمس ولا قمر

ولا نجوم ولا لوح ولا قلم

والآخر

لولاه ما كان لا ملك ولا ملك

 ...

إلى غيرها مما يطول ذكره من كلام المادحين وتعلم أيضا أن هذا المعنى وارد في السنة في عدة أحاديث ، وإن قال بعضهم معترضا على قول القائل :

لولاه ما كان لا ملك ولا ملك

 ...

مثل هذا يحتاج إلى دليل ولم يرد في الكتاب ولا في السنة ما يدل عليه انتهى.

فإنه قصور عظيم وإن توقف فيه أيضا جماعة من الشارحين كالشيخ أبي عبد الله محمد الأليورى الأندلسي في «شرحه لبردة المديح» قائلا ما نصه : وبيت الناظم ـ يعني السابق ـ يعطى أن الدنيا خلقت من أجل نبينا صلوات الله عليه وسلامه وقد أكثر الناس في هذا المعنى وأطالوا وأطنبوا وصرحوا بأن الله عزوجل إنما أخرج الدنيا وأبرزها من العدم إلى الوجود من أجل هذا النبي وبسببه كرامة له وعناية به وتعظيما لأمره وتفخيما لمنصبه الرفيع وقدره ، إلا أني لم أقف على صحة ما أرتهن فيه الناظم ولا رأيت فيه توقيفا استند إليه ولا نقلا أعتمد عليه إلا ما وقفت عليه في كتاب «انتقال النور» وغيره من الكتب التي لا أصل لها في الصحة ، ثم قال : ولو صح أن الدنيا خلقت من أجل هذا النبي الشريف ، لم يكن فيه مقال لقائل إذ ليس في ذلك ما تحيله العقول ولا ما يرده حديث منقول فلا يستعظم في ذلك الجناب العلي النبوي ذلك كله لا سيما ، وليس في الشرع ما يعارضه ولا عثر في السنة على ما يقدح في صحته وينازعه ولا هو مستحيل في العقل انتهى منه بلفظه.

٢١٧

__________________ـ

ـ وقال : غيره من بعض شراحها إن هذا المعنى غير صحيح والأخبار به مطعون فيها وقد علمت أنها بانضمامها يتقوى ولا يقصر معناها هذا عن درجة الحسن إن لم تقل أنه يبلغ درجة الصحة ومما يشهد له زيادة على ما سبق حديث جابر عند عبد الرزاق في مصنفه وعمر عند أبي مروان الطيي في فوائده وقد تقدم وأيضا فإن العلماء العاملين والصوفية المخلصين وأولياء الله المفلحين كلهم أو جلهم شرقا وغربا قد تلقوا معناها بالقبول والتسليم وتداولوه في مصنفاتهم وأشعارهم وكتاباتهم جازمين به من غير تردد ولا بحث والمعنى ، إذا تلقى بالقبول حكم بصحته وإن لم يكن له إسناد ولا دليل ظاهر لأنهم يحملون على أنهم وقفوا له على شواهد تثبته وإن لم تصل إلينا ولم نعلمها.

وقد ذكر الشيخ الأكبر في أول الفتوحات من خطبة خطبها بين يديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حضرة الجلال ومعه جميع الإرسال ، إن أول اسم كتبه القلم في اللوح المحفوظ أني أريد أن أخلق من أجلك يا محمد العالم الذي هو ملكك.

وفي حاشية العارف بالله القطب أبي زيد عبد الرحمن الفاسي على «دلائل الخيرات» لدى قوله فيه : والسبب في كل موجود ما نصه : قال في شرح الشفا على قوله لولاه ما خلقتك والخطاب لآدم ما نصه : هذا أدل دليل على ما هو المعهود الصحيح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبب الوجود وأنه لولاه لم تكن الأكوان والعجب ممن يتكلم في مثل هذا وأخذه في الكلام فيه ويبحث عن الأدلة في ذلك ومن أين يؤخذ وهل وجد في الحديث ما يدل عليه وكان يتوقف عليه قول البوصيري في قصيدته البردة :

لولاه لا تخرج الدنيا من العدم

 ...

ويقول من أين أخذه وفي هذا الحديث أقوى دليل عليه والحمد لله ، انتهى.

قلت أي قال العارف : وبيت البوصيري وإن توقف فيه بعض شراحه وقد سبقه إلى مثله ابن الفارض في قصيدة له تشاكل صدر البردة في ما هو من نفس المحبة :

لولاك يا أحمد المحمود ما طلعت

شمس ولم تخرج الدنيا من العدم

هذا وقد وردت أحاديث تقتضى بصحة ما أشار إليه كقوله عليه‌السلام «أول ما خلق الله نورى ومن نورى خلق كل شيء» وكقوله : «أنا يعسوب الأرواح» يعني أصلها ورئيسها الكبير ومنه يعسوب النحل لأميرها وكقوله : «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين أو الروح والجسد» يعني قبل أن يكون وأحدا منهما وعلى ذلك نبه ابن الفارض بلسان الترجمانية عنه عليه‌السلام بقوله :

وأني وإن كنت ابن آدم صورة

فلي فيه معنى شاهد بأبوة

وأفصح بذلك سيدي عبد السّلام بن مشيش بقوله في صلاته : ولا شيء إلا هو به منوط إذ لولا الواسطة لذهب كما قيل الموسوط ، وقد تقدم لنا التنبيه على أن هذا ومثله قد تحققه الصوفي من

٢١٨

__________________ـ

ـ حيث كشفه وحظ غيره منه إنما هو التصديق لما ورد من الخبر في ذلك وقد تقدم ما فيه كفاية وغنية ، والله أعلم انتهى منه بلفظه.

وفي الوصية الصغرى للعارف بالله الشهير الغوث الكبير سيدي عبد السّلام بن سليم الأسمر الفيتوري ما نصه : ويجب عليكم أن تعتقدوا في حق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لا يفضل عليه شيء لا رسول ولا ملك ، ولا ولى ولا عالم ، ولا الجن ولا الإنس ، ولا غير ذلك بل هو أفضل مما خلق الله تعالى وكيف يفضل عليه شيء ولولاه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أوجد الله تعالى شيئا من جميع المخلوقات انتهى منه بلفظه.

وعند الصوفية الحق المخلوق به قال القاشاني في لطائفه : يعنون به الإنسان الكامل قال : بالمعنى أنه المخلوق بسببه المشار إلى ذلك بقوله : «لولاك ما خلقت الأفلاك».

قال تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ)[الجاثية : ١٣] فما يسخر الشيء إلا لأجله ، فإنه هو العلة الغائية من وجوده ولهذا جاء في الزبور وغيره من الكتب الإلهية ، يا ابن آدم خلقت الأشياء كلها من أجلك وخلقتك من أجلي ، فقالوا كل ما سوى الإنسان خلق للإنسان ، انتهى المراد منه بلفظه (٢).

وقال أيضا في الكلام على عين العالم ما نصه : وقال الشيخ في كتاب فصوص الحكم وإنما كان الإنسان هو عين الحق ، لأنه تعالى نظر به إلى العالم فرحمهم ، يعني بإفاضة الوجود عليهم من أجله إذ لو لا الإنسان الكامل ، لما وجد العالم المشار إلى ذلك بقوله : لولاك لما خلقت الأفلاك.

وقوله : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ)[الجاثية : ١٣] انتهى المراد منه بلفظه أيضا.

وقال الشيخ العارف أبو العباس أحمد التجاني : في «شرحه لجوهرة الكمال» لدى قوله فيها (عين الرحمة الربانية) ما نصه : لو لا هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما خلق شيء من الأكوان ولا رحم منها لا بالوجود ولا بإفاضة الرحمة والجود ولا يقال إن هذا تعجيز للحق سبحانه وتعالى ، بأنه لا يقدر أن يخلق شيئا إلا به صلى‌الله‌عليه‌وسلم فليس هذا الوهم هو المراد في هذا الكلام ، كما يظنه بعض من لا علم عنده ، بل تحقيق ما قلناه : إن الله سبحانه وتعالى لو سبق في علمه ونفوذ مشيئته أن لا يخلق محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسبق في علمه ونفوذه ومشيئته ، أن لا يخلق شيئا من المخلوقات ، فمن هذه الحيثية إن وجود كل موجود من الأكوان يتوقف على سبقية وجوده صلى‌الله‌عليه‌وسلم لذلك الوجود فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلية مراد الحق وغايته من الوجود فإنه ما خلق الكون إلا من أجله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا أفاض الرحمة على الوجود إلا بالتبعية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجود الأكوان كلها مناط بوجوده صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجودا وإفاضة انتهى المراد منه بلفظه.

قال بعضهم : وهذا يعني خلق الله العالم من أجله ليس لغيره من نبي ولا ملك :

وما عجب إكرام ألف لواحد

لعين تفدى ألف عين وتكرم

٢١٩

ومن ذهل عن هذه الدقيقة ؛ وهم الفقهاء المحجوبون ؛ منع صحة تلك المقالة ، وزعم أن فيها تحقيرا لسائر الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ.

وأمّا قول المرتضى كرّم الله وجهه : كان في الأرض أمانان ، فرفع أحدهما ، وبقى الآخر ، فأمّا الذي رفع ؛ فهو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمّا الذي بقى ؛ فالاستغفار.

وقرأ بعده هذه الآية.

فالمراد به : الأمان الكامل ، فإنه لا شك مرفوع عن هذه الأمة ، وبقى ما دونه من بعض الأمان ؛ وهو ما حصل بوجود الورثة في كل عصر حتى أنه قد يحصل لبعضهم التألّم من وجود بعض المصرّين ، فيقال له : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم.

وقد يرتفع الأمان حسبما اقتضته المشيئة الإلهية ، كما ارتفع من أهل بغداد حين استولى عليهم هولاكو الكافر الجنكيزي حتى استأصّلهم مع وجود كثير من الورثة فيهم على أنهم استشهدوا أيضا ، وكان أمر الله قدرا مقدورا ، فلهم في ذلك رفع الدرجات ، وتكميل مراتب المحبية ، والمحبوبية ، ولمن فعل بهم ذلك من الدركات ، وتنزيلهم في أسفلها ؛ لأنه اشتدّ غضب الله على من قتل نبيا ، أو قتله نبي.

وأولئك الأصفياء من حيث ورثتهم في حكم الأنبياء ؛ ولذا يغضب الله لهم كما يغضب الأسد لشبله ، فقد يكون الرحمة في صورة الغضب ، وقد يكون الأمر بالعكس ، نسأل الله لطفه وكرمه.

والمراد بالتعذيب الثاني هو : التعذيب الأخروي الذي دخل فيه التعذيب الروحاني ، وذلك ان الاستغفار طلب ستر النفس بالأنوار الروحانية حتى لا يلحقها عذاب من الظلمات الطبيعية ، فكل عذاب جسماني أو روحاني ؛ فإنما يلحق المعذّب به من جهة نفسه المظلمة المنكدرة ، فإذا استنارت النفس بالأنوار القلبية الروحانية ؛ خلصت من العذاب مطلقا.

__________________

ـ قال وهذا من باب الحكمة والمصلحة الراجعة إلى الخلق بإظهار عظمة هذا النبي الكريم وإشهار كرامته عند المولى العظيم ، فجعل وجوده سببا في وجود الموجودات ونيل جميع الكرامات انتهى وانظر : جلاء القلوب (بتحقيقنا).

٢٢٠