مرآة الحقائق - ج ١

إسماعيل حقّي البرسوي

مرآة الحقائق - ج ١

المؤلف:

إسماعيل حقّي البرسوي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
977-344-218-7

الصفحات: ٤٣٦
الجزء ١ الجزء ٢

لم يكتف بقوله : (فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ) بل ضم إليه قوله : ((وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ)(١) ؛ لأن الظالم لنفسه كما أنه هاتك لحرمة الله في شريعته ؛ فكذا هو هاتك لحرمة رسول الله في حقيقته إذ ليس موجود من الموجودات إلا وفيه شعاع من أشعة ذاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والظلم بظلمته يهين ذلك الشعاع ، ويصير سببا لاستتاره ، وانمحاقه ؛ فيصل أثر ذلك الظلم المظلم إلى الحبيب المنوّر بنور العظمة ، والجلال ، والجمال ، والكمال ؛ فيكون الظالم مسيئا في حق الله تعالى ، وفي حق الرسول.

فإذا تاب إلى الله تعالى ؛ لزم عليه أن يتوسل إلى القبول بشفاعة الرسول ؛ لأنه الواسطة بين الله تعالى وبين عباده ، وهذا التوسل باق الآن ، وإلى قيام الساعة لا يختصّ به زمان حياه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن كان يظنه بعض القاصرين ؛ لأن حيّ الآن بحياة لائقة بمقامه العالي ؛ ولذا ندب إلى زيارة روضته ، وعلى تقدير الفوت بحسب الموانع ، وفقدان الشرائط والأسباب ؛ لزم المراجعة إلى وارث من ورثته للتوبة والإنابة.

فإن الذين يبايعون الرسول ؛ فإنما يبايعون الله ، وإن الذين يبايعون وارث الرسول ؛ فإنما يبايعون الرسول بوساطة ذلك الوارث ، والله تعالى بوساطة الرسول ، فالمبايع في الحقيقة هو الله تعالى على أيدي الوسائط.

ويدلّ على ما ذكرنا : من أنه لا بد من استغفار الرسول إلى قيام الساعة ، ولا يختصّ به زمان دون زمان ما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«حياتي خير لكم ، ومماتي خير لكم ، قالوا : هذا خيرنا في حياتك ، فما خيرنا في مماتك؟ قال : تعرض عليّ أعمالكم كل عشية الإثنين والخميس ، فما كان من

__________________

(١) قلت : فكان في تسميته نبي التوبة من المعاني والأسرار ، والإشارة إلى مقامه عند مولاه في هذه الدار وفي تلك الدار ، ما شهدت به الآثار وصحيح الأخبار.

ووجه آخر : وذلك أن الأمم السالفة كانت إذا أذنبت لا يزول ذنبها إلا بأمور شاقة على النفوس ، وشرع فيه كلفة من الملك القدّوس ، فسهّل الله منّة منه سبحانه على هذه الأمة زوال ذنوبها بأمر خفيف على اللسان ، وسهل استعماله في جميع الأزمان ، فكان ذلك رحمة من الله بعباده ، رحم الخلائق بها ببعثته إليهم حبيب الرحمن.

ووجه آخر : إن الله سبحانه سمّاه نبي التوبة إشارة إلى أنه بعثه الله تعالى لأمة مرحومة ، غفر لها مولاها برحمة نبيّها قبل استغفارها لله ، فاستجاب لها وأعطاها ، وفضّلها على سائر الأمم وأكرم مثواها.

١٤١

خير ؛ حمدت الله تعالى ، وما كان من شر ؛ استغفرت الله» (١)(٢).

__________________

(١) رواه الديلمي في الفردوس (٢ / ١٣٨) ، وابن سعد في الطبقات (٢ / ١٩٤) بنحوه.

(٢) قلت : فهو نبي الرحمة : ألا ترى أن الله تعالى يقول : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧]. فكانت حياته رحمة ، ومماته رحمة. كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حياتي خير لكم ومماتي خير لكم». وكما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أراد الله سبحانه رحمة بأمة قبض نبيها قبلها ، فجعله لها فرطا وسلفا».

ورحمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عامة للجن ، والإنس ، ولجميع الخلق : مؤمنهم ، ومنافقهم ، وكافرهم ؛ رحمة للمؤمنين بالهداية ، ورحمة للمنافقين بالأمان من القتل ، ورحمة للكافرين بتأخير العذاب.

وقد علم الله سبحانه قوة شفقته على الخلائق ، ومحبّته في هداية عبيده ، وجلب الإحسان إليهم ، وأنه أنفعهم إلى خلق الله ، وأرأفهم بعباد الله ، وأوصلهم نفعا إلى فقراء الله ، وأشدّهم نصحا ، وجدا في إيصال الخيرات ، وتفريج الكربات ، وتسهيل المصعبات ، وفتح أقفال المضيقات.

فعلم العالم بما في الصدور : إن قلبه ، وجسده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجميع دمه ، ولحمه ، قد جرت الرحمة فيه ، وتركّبت بنيته منها ، وبني أساسه الكريم عليها ؛ فلذلك جعله نفس الرحمة : أي أن الرحمة تمكّنت من قلبه ، وجرت في لحمه وعظمه.

فذاته رحمة ، وحركاته رحمة ، وسكناته رحمة ، واجتماعه رحمة ، وافتراقه رحمة ؛ لأن ما من حركة ، أو سكون يصدر منه عليه‌السلام إلا وهو بالله ولله ومن الله ؛ لأنه قدوة ، وأسوة للعالمين ، ورحمة تعود على الخلائق أجمعين.

وقد نوّر الله سبحانه به السموات والأرضين ، فشفقته ، ورحمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسياسته مع خلق الله لا يحيط بها نقل ، ولا يحصرها عقل.

وتأمّلوا رحمكم الله ، وزاد في حبّي ، وحبّكم لهذا النبي الشريف ، وضاعف حبنا فيه الخبير اللطيف ، وتذكّروا قضية الأعرابي الذي جاءه يطلب شيئا.

ثم قال له : أحسنت إليك؟

قال : لا ولا أجملت!

فغضب المسلمون ، وقاموا إليه ، فأشار إليهم ؛ لشفقته ورحمته : أن كفّوا ، ثم قام ، ودخل منزله ، وأرسل إليه ، وزاده شيئا ، ثم قال له : أحسنت إليك؟ قال : نعم ، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا.

فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا أعرابي! إنك قلت ما قلت ، وفي نفس أصحابي من ذلك شيء ، فإن أحببت ، فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب ما في صدورهم عليك.

فقال : نعم.

فلمّا كان الغدو أو العشي جاء ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه ، فزعم أنه رضي ، أكذلك هو؟. قال : نعم ، جزاك اللهم خير وعشيرة نعمة. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : مثلي ومثل هذا ؛ كمثل رجل

١٤٢

وإنما خصّ عشية الإثنين ؛ لأن أبواب الجنة تفتح فيها بحرمة مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلك الليلة ، كما تفتح في شهر رمضان ؛ فكانت ليلة الرحمة المطلقة ، والمغفرة العامة ، وخصّ عشية الخميس أيضا ؛ لأن الأعمال الأسبوعية تعرض على الله تعالى يوم الخميس ، فأحب صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يستغفر لأمته قبل العرض على الله تعالى حتى لا يبقى لهم سيئة معروضة عليه موجبة للخجل ؛ ولذا كان لا يزال يصوم الإثنين والخميس ؛ فيبقى سنة لأهل العزيمة من أمته لا يزالون يصومونهما إلى قيام الساعة في السفر والحضر.

وفيه إشارة إلى أنه ينبغي للمؤمن ألا يمر عليه ثلاث ساعات ؛ إلا ويجدد فيها التوبة لله تعالى ، فإن لم يرجع إلى الله فيها فليجتهد أن لا يمضي ست ساعات إلا وهو راجع فيها ؛ وذلك أن أيام الأسبوع وإن كانت سبعة ؛ لكن لمّا كان يوم الخميس يوم العرض ؛ فقد بقى لنا ستة أيام هي : أيام الأعمال ؛ وهو رمز لطيف لا ينتبه له إلا من كشف الله الحجاب عن بصيرته ، نسأل الله سبحانه أن لا يبقى لنا ذنبا إلا وغفر له ، ولا تلوينا إلا وبدّله التمكين بحرمة من جعله وسيلة لجنابه ، وشفيعا عند بابه.

قال الله سبحانه وتعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ) [النساء : ٦٩].

: أي في أوامره ونواهيه.

وقوله : (وَالرَّسُولَ) [الآية : ٦٩].

__________________

ـ له ناقة شردت عليه ، فأتّبعها الناس ، فلم يزيدوها إلا نفورا ، فناداهم صاحبها : خلوا بيني وبين ناقتي ، فإني أرفق بها منكم وأعلم. فتوجه إليها ، وأخذ لها من تمام الأرض ، ثم أتى بين أيديها ، فردّها حتى جاءت واستناخت ، وشدّ عليها رحلها وركبها ، وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه ، دخل النار».

فتأمّلوا رحمكم الله هذا الحديث العظيم ، وما اشتمل عليه من كمال حسن عشرته ، وسياسته مع خلق الله ، وشفقته عليهم ، ورحمته بهم ، ومعاشرته معهم ، وكمال الحرص والجد على نفعهم ، وتمام ملاطفته للجاهلين لحمله لأذاهم ، وتحمله عنهم ، فكان ذلك كله ناشئا عن تمام رحمته وكمال شفقته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا غرابة في أحواله وصفاته لأنه شكور لربه ، والشكور لله يكون في غاية الرفعة والكمال في جميع الأفعال ، وسائر الخصال.

١٤٣

: أي في سننه ومستحباته ، وقوله : (فَأُولئِكَ) [الآية : ٦٩] المطيعون.

وقوله : (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) [الآية : ٦٩].

بحسب استعداتهم ومراتبهم ، فإنعام بعضهم إنعام إطلاقي ، وإنعام بعضهم إنعام إضافي ، والكل شاكرون لأنعم الله ، مترقّبون للمزيدات دنيا وآخرة.

وقوله : (مِنَ النَّبِيِّينَ) [الآية : ٦٩].

قدّمهم ؛ لأنهم أعلى من أنعم عليهم ؛ لأنهم منعمون من وجه عام ، ومن خاص ، وغيرهم منعمون من وجه خاص فقط.

وقوله عزوجل : (وَالصِّدِّيقِينَ) [الآية : ٦٩].

هم الذين خلصت نفوسهم عن الصفات النفسانية ؛ بل عن شائبة الغيرية ، وهم مخبرون عن الله تعالى أيضا ؛ لأن الله تعالى أراهم ملكوت السموات والأرض ؛ لكن نبوءتهم نبوءة تحقيقية لا تشريعية كما للأنبياء ؛ فإن النبوة التشريعية منقطعة ، وما بقى ت إلا المبشّرات ؛ ولذا كانوا دون الأنبياء في الذكر والرتبة فاعرف.

وقوله عزوجل : (وَالشُّهَداءِ) [الآية : ٦٩].

هم الذين جاهدوا في سبيل الله بالجهاد الأصغر ؛ ولذا كانوا دون الصديقين الذين هم أهل الجهاد الأكبر ؛ لأن إصلاح الأعمال دون إصلاح الأحوال ؛ إذ الظواهر أبواب البواطن ، وللصدور رجال في الدور.

وقوله عزوجل : (وَالصَّالِحِينَ) [الآية : ٦٩].

هم أهل الاستقامة في الدين بحيث خلصت أعمالهم عن الخلل ؛ فسدوا طرق خلل العمل بالصلاح ، وهذا الصلاح عام في الحقيقة ؛ لكن صلاح النبيين أقوى من صلاح الصديقين كما أشار إليه قوله تعالى : (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) [البقرة : ١٣٠].

وقوله تعالى حكاية عن يوسف الصديق عليه‌السلام : (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف : ١٠١].

: أي بالأنبياء الذين صلحت أحوالهم أكمل الصلاح ؛ وصلاح الصديقين أقوى من صلاح الشهداء ؛ لأنهم ما بقيت لهم بقية من النفس بخلاف الشهداء ؛ إلا أن

١٤٤

الشهداء لمّا بذلوا مهجهم ، وأفنوا ظواهرهم ؛ التحقوا بالفانين في الله مطلقا ؛ ولذا حفظ الله تعالى أجسادهم عن البلى ، والتفسّخ ؛ كأجساد الصديقين ، وإن كان بين أجسادهم لطافة ونضارة فرق بحسب سريان بركات النفوس إليها ، وصلاح الشهداء أقوى من صلاح مطلق الصالحين ؛ لكونهم مباشرين للجهاد الأصغر الذي هو خصوص مرتبة من مراتب الأعمال الفاضلة.

ومعنى المعية المفهومة من الآية : إنهم أهل الحضور والقرب ، وإن كانت درجاتهم متفاوتة في العلم والعمل.

فهم : أي المطيعون من هذه الأمة :

إمّا صديقون : فهم مع إخوانهم الصديقين في درجاتهم.

وإمّا شهداء : فهم مع إخوانهم الشهداء في طبقاتهم.

وإمّا صالحون : فهم مع إخوانهم الصالحين في منازلهم ، إلا أنه يغيب بعضهم عن بعض ، وإن تفاوت درجاتهم ، كما لا يغيب خواص السلطان بعضهم عن بعض ، وإن اختلفت مقاماتهم ، وتقاربت أو تباعدت دورهم وبيوتهم ؛ فإن بعضهم ينزلون منازل بعض بالزيارة متى أرادوا ، فإذا كان لا حجاب بين الأصدقاء في هذا الموطن الكشيف ؛ فما ظنك بهم ، وهم في الموطن اللطيف.

ولذا قال تعالى : (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) [النساء : ٦٩].

: أي جوارا جعلنا الله وإياكم من أهل حسن الجوار بحرمة نبيه المختار.

وفي قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أحب قوما ؛ فهو منهم» (١).

اشارة إلى ما ذكرنا فإن المراد أنه منهم في الدنيا والآخرة.

امّا في الدنيا : فبالطاعة والأدب الشرعي.

وإمّا في الآخرة : فبالمعاناة والقرب المشهدي ، فإن المحبة رابطة قوية بين المحب والمحبوب ، وتلك الرابطة تقتضي الموافقة على كل حال.

فالإنسان لا يلحق الأبرار إلا بأعمالهم ، ولا يرتبط بالمقربين إلا بأحوالهم :

__________________

(١) رواه البخاري (٥ / ٢٢٨٣) ، ومسلم (٤ / ٢٠٣٤) بنحوه.

١٤٥

أي بعد المحبة التي هي أساس الالتحاق ، فمن ظن كفاية المحبة المطلقة بدون موافقة الأعمال ؛ فقد ألحق اليهود بموسى ، والنصارى بعيسى ، والروافض بالمرتضى ، فحاشا عن أن يلتحق الملوّث بالمطهّر فلا فائدة للأطماع الفارغة ، ولو شاء الله لجمع الناس على الهدى ؛ ولكن قال : ذلك الفضل من الله يتفضل به على من يشاء وكفى بالله عليما بمن يستحق الفضل بحسب استعداده.

كما قال : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤].

وفيه إشارة إلى أن الكسب إنما هو من الأدب ، وإلا فكل كمال إنما هو اختصاص إلهي ناظر إلى الشئونات الذاتية الأزلية التي لا مدخل فيها للجعل ، فربّ صالح يلحقه الله بمن فوقه من الأصلح ؛ فيكون أصلح ، وربّ صادق يرقيه الله إلى الأعلى ؛ فيكون أصدق ، وإذا كان أصدق ؛ كملت مقاماته.

وإن كان السير في الله لا نهاية له أبد الآباد ؛ هو الذي قرب من درجة النبوة ، كما قال تعالى : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) [يوسف : ١٠٨] : أي أنا على بصيرة في أمر الدعوة ، وكذا من اتبعني قولا وفعلا وحالا.

أمّا القول : فهو صدق القول.

وأمّا الفعل : فهو صدق الفعل.

وأمّا الحال : فهو صدق الحال.

فمن لم يصدق في هذه المراتب ؛ لم يكن من أهل الدعوة إلى الله ؛ لأن الكاذب لا يدخل على الله ، ولا يدلّ على الله ؛ ولذا قالوا : عين اليقين ، فمن ادّعى العين ؛ فلا عين له فقد ارتكب المين ، فكيف يجوز أن يقول الرجل أبصرت ولا بصر له؟ أو علمت ولا بصيرة له؟

فأهل الرسوم إرشادهم إنما هو من الأحكام ، وأهل الحقائق دعوتهم إنما هي إلى مرسل الأحكام ، فكما أن الأحكام لإصلاح الظواهر ، فكذا الحقائق لإصلاح البواطن ، والظواهر ظروف البواطن فليست البواطن بعيدة من الظواهر ؛ لكن العيون الظاهرة لا تبصرها ، فيجب أن يكون المرء ؛ كالهدهد ، فإنه يرى الماء تحت الأرض ،

١٤٦

ولا تكون الأرض حائلة له ؛ بل هي كالمرآة لما يراه فيها.

فكما أن الأرواح مع الأجساد ورؤيتها رويتها ، فكذا الصور مشاهد المعاني وشهودها شهودها ، فظهر أن الباصرة إنما هي لرؤية الآثار ، والبصيرة لإدراك الحقائق من تلك الآثار ؛ ولذا جعل الله لكل رجل قلبا ليتقلّب به في درك الأسرار ؛ فيترقى إلى عالم الأرواح ، ثم إلى عالم المعاني ، ثم إلى غيب الذات ؛ وهي سدرة المتهى التي هي آخر السدر ؛ لأن لكل عمل وسير سدرة مخصوصة.

والرب تعالى هو المنتهى كما قال تعالى : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) [النجم : ٤٢] : أي إلى ربك المخصوص المعروف الموصوف المرسوم فافهم جدا ، أو لا تكن كالسمك يسكن في الماء ، ويجري فيه ، ويسأل أين؟ فهذا هو الماء قد أفاض الله عليك ، وبالاستفاضة أشار إليك.

وقال الله سبحانه : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ) [النساء : ١٠٠] : أي من بيت بشريته وطبيعته ، وفيه إشارة إلى أن السالك الخارج الأجر الآتي ، وإن لم يخرج من بلد وجوده المجازي بالكلية ، فإن الخروج من بلد الوجود بالكلية ، والدخول في بلد الوجود الحقيقي إنما يحصل في الدنيا لواحد بعد واحد.

والله تعالى يمنّ على عباده السالكين ؛ فيوصلهم إلى مقاصدهم ، إمّا في الدنيا ، وإمّا في البرزخ ، وإمّا في الحشر ؛ وهو المراد بقولة من قال : من لم يصل إلى مراده ؛ فمراده يجئ إليه ، وهذا الإيتاء في قول من قال : إن كل كمال لم يحصل في الدنيا ؛ فهو لا يحصل في الآخرة.

وذلك فإن عدم الحصول إنما هو لغير السالك ، وأمّا السالك فتدارك بفضل الله سبحانه ، كما قلنا آنفا ، وإلى حال غير السالك دلّ قوله تعالى : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ) (١).

وإلى حال السالك أشار قوله تعالى : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ) [النساء : ١٠٠] ، وهذا المبحث قد حققناه في كتابنا المسمّى : «بتمام الفيض» بما لا مزيد عليه ، والله الموفّق.

__________________

(١) رواه الحكيم الترمذي في النوادر (٤ / ١٨٦) ، وذكره المناوي في فيض القدير (٣ / ٦٨).

١٤٧

قوله تعالى : (مُهاجِراً إِلَى اللهِ) [الآية : ١٠٠] في الحقيقة ، وقوله تعالى : (وَرَسُولِهِ) [الآية : ١٠٠] في الظاهر.

ودخل فيه وارث الرسول ؛ لأن مسكنه المدينة الثانية ، وهو نفسه وحسنه من حسنات الرسول ؛ فهو الرسول المرسل بالرسالة التحقيقية لا النبي المبعوث بالنبوة التشريعية ، فإنه منقطع أبدا ، ولم يبق إلا المبشرات ، وإنما قال : إلى الله ؛ لأن نهاية المعجزة ، إنما هي مقام الألوهية ، وهي منتهى العلم أيضا.

كما قال تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) [محمد : ١٩] ، وعند هذا المقام يخلص السالك من الحجب الجسمانية الظلمانية ، والحجب الروحانية النورانية ؛ لأن الألوهية ليست مأخوذة من حيث كونها صفة من صفات الله تعالى ؛ بل من حيث هويتها أيضا.

ولا شك أن الهويّة (١) غاية الغايات لا غاية ورائها ، ولا مرما غير الحق تعالى عن الهويّة بالألوهية ؛ إذ مقام البقاء بالله يقتضي الارتباط بالحق ، فالحق إله واحد ، والعبد مألوه أبدا على اصطلاح القوم دلّ على هذا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا دخل على الله

__________________

(١) والهوية بضم الهاء : يراد بها عند الحكماء : الحقيقة الجزئية ؛ لأن ما به الشيء هو هو ، إن كان جزئيّا تسمّى بذلك. وإن كان كليّا يسمّى بالماهية ، وإن لم يعتبر فيه كلية ولا جزئية كان حقيقة ، فهي أعم منها. وهذا المعنى وإن كان صحيحا في نفسه عند السادة حيث أن الوجود الحق عندهم جزئي لا كلي : أي هو شىء واحد ظهر بكثرة إلا إنهم : أي السادة اصطلحوا على الهوية بأنها الوجود الحق الذي لم يؤخذ بشرط شيء ، ولا بشرط لا شىء ، فإن الوجود كما قدمنا إما أن يؤخذ لا بشرط شيء ، وهو الذات البحت.

وإما أن يؤخذ بشرط شيء ولو كثرة ، وهو مقام الجمع المعبر عنه بالواحدية ، وإما أن يؤخذ لا بشرط شيء ولا بشرط لا شيء ، وهو هذه الهوية السارية بكل شيء ، أي شيء كان ، وهي الوجود الحق المذكور ، والمراد بالسريان الظهور في المظاهر : أي ظهور هذه الهوية في كل شيء ، كما يشاهده العارفون فإنهم صرّحوا به ، لا يكون الكامل كاملا حتى يرى هوية الحق سارية في كل شيء ، بل وهويته كذلك ؛ إذ هي هي ، ولا يظن الحلول بقسميه ، بل ولا يتوهم أن لا إثنينية أصلا ، بل شيء واحد تعين بتعينات حسية وغيرها رجعت إلى عدم محض. وانظر : كشف الأسرار لصلاة سيد الأبرار للعطار (ص ١٢٥) بتحقيقنا.

١٤٨

تعالى ليلة المعراج قال : «لا إله إلا الله أنا العبد» (١) ، مع أن ذلك المقام الخطير يقتضي الفناء بالكلية فافهم جدا.

وقال تعالى : ورسوله ، فعبّر عنه بالرسول ؛ لأن ارتباط الأمة بالنبي إنما هو من حيث رسالته ، وإلا فهو القائل : «لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرّب ولا نبي مرسل» (٢) : أي لا يدخل فيه غيره ، فكل تابع منقطع عنه هناك (٣).

والحاصل أن لكل عبد وجها إلى الله تعالى بخصوصه ، فهو من هذه الخصوصية لا ارتباط له بغيره أصلا ؛ ولذا يقال : أخبرني ربي ، ومن هذا الباب أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يعين الخليفة بعده لمّا علم ان من أصحابه وأمته من يأخذ عن الله بلا واسطة ، ففوض الأمر إلى أهله من كل الوجوه ، وهو أكمل الناس وأعلمهم.

قوله عزوجل : (ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ) [الآية : ١٠٠] : أي الموت الطبيعي قبل الفناء الكلي المعنوي : بأن يخرج من أرض بلد الوجود بالكلية ؛ كما خرج من أرض بيته البشري الطبيعي.

قوله عزوجل : (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) [الآية : ١٠٠] : أي عدت هجرته هجرة كاملة أذلا هنالك ، فإنه عبد في سلوكه ، وخذ منه لا أجير ؛ لكن الله سبحانه من حيث فضله الواسع يعامل معه معاملة الأجير في الظاهر ؛ فيعطيه وجوده الباقي بدل وجود العبد الفاني ؛ فهو ثمرة علمه ، وما وعده الله في مقابلة فنائه عن نفسه ، فإذا هو عند الفناء ساقط على الله ؛ ولذا قال : على الله.

__________________

(١) لم أقف عليه.

(٢) ذكره المناوي في فيض القدير (٤ / ٦) ، والعجلوني في كشف الخفا (٢ / ٢٢٦).

(٣) قال سيدي عبد الكريم الجيلي : فالأنبياء والأولياء والملائكة وسائر المقربين من سائر الموجودات ليس عندهم من المعرفة الذاتية ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي هو قلب الوجود هو الذي عنده الوسع الذاتي للمعرفة الذاتية ، وإلى ذلك أشار صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «لي وقت مع ربّي لا يسعني فيه ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل) اه.

وذكر الشيخ في هذا المؤلف العظيم اتصاف سيدنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجميع الأسماء الحسنى ، وجعل يذكر الأدلة على ذلك الكمالات (ص ١١٥ ، ١١٦) ، وانظر : محاسن الأخبار في فضل الصلاة على النبي المختار للأبشيهي (ص ٣٦٥) بتحقيقنا.

١٤٩

وفي الحديث : «لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى ؛ لهبط على الله» (١) ، فاعرف الإشارة.

وقوله عزوجل : (وَكانَ اللهُ) [النساء : ١٠٠] بوجوده الحقيقي الباقي.

وقوله عزوجل : (غَفُوراً) [الآية : ١٠٠] ؛ ساترا لوجود عبده المجازي الفاني ، وقوله عزوجل : (رَحِيماً) [الآية : ١٠٠] بما يفيض عليه من أنواع فيوض أسمائه وصفاته غير وجوب الوجود ، فإن الماهية الإمكانية لا تقتضيه ، ولا يجتمع الوجوب والإمكان في صورة واحدة ؛ فهو تعالى هو والأشياء أشياء ، وليست إلا عكوس الأسماء والصفات.

فمن حيث إن الظل صورة ذي الظل قال من قال : أنا الحق ، وبينه وبين الحق بون بعيد ، فالمتجلّى هو الحق بصور أسمائه وصفاته ، والعبد عبد أبدا ليست له شائبة الربوبية أصلا ، ومن فهم هذا المقام وتحقق به ؛ نجا من ظلمات أهل الإلحاد ، والله ولي الإرشاد.

ومنه : نور التئام في المبدأ والمعاد ، ولو قال : هو الحق ، وأخرج نفسه عن البين ؛ لكان أليق بمقام المعرفة والشهود الكامل ، ثم إنه ولي الفقر والستر على أن هناك مغفورا ومستورا ؛ وهو الوجود الإمكاني الاعتباري الظلّي ، فهو وجود في الجملة ؛ ولذا تعلّق به الستر بخلاف الشرك ، فإنه لا وجود له إلا في الوهم.

ولذا قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) [النساء : ٤٨] ؛ إذ الموهوم لا يتعلّق به الستر ؛ لكونه لا وجود له أصلا ، ومن هنا قال تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) [محمد : ١٩].

فلو ارتفع الوهم ؛ انتفى النفي والإثبات ، وبقى الله الواحد بالذات ، وحسبك للإرشاد ، وقوله تعالى : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم : ٦٥] يعني : ليس له سميّ وشريك في الاسم لما ليس له شريك في الذات ، ووجوب الوجود فظهر أن الشريك باطل صورة ومعنى ، والحق حق واحد صورة أولا وآخرا ، ظاهرا وباطنا ، قل الله ثم ذرهم فمن لم يقل : الله ؛ بل أضاف إليه ما سواه ، فهو في خوض يلعب.

__________________

(١) رواه الترمذي (٥ / ٤٠٣) ، وأبو الشيخ في العظمة (٢ / ٥٦٢).

١٥٠

ومن معه أيضا في خوض يلعبون ، والله الهادي.

وقال تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [الأعراف : ١٨٠].

فقد أضاف الأسماء إلى الجلالة ، فكما أنه ليس له شريك في الألوهية ، فكذا ليس له شريك في الأسماء المضافة إلى الألوهية ، فله ألف اسم وواحد ؛ كلها أسماء حسنة إلهية ، وله أيضا ألف اسم وواحد ؛ كلها أسماء حسنة كونية ؛ لكن الأسماء الحسنة الكونية إنما تضاف إلى المظهر الكوني تأدّبا معه تعالى ، وإعطاء لكل حقه.

وهذا المظهر الكوني واحد أيضا ، وإن كان له أسماء وصفات كثيرة ؛ لأن الواحد لا يقابله إلا الواحد ، وفيه قد تحيّرت العقول ، وزلت أقدام أهل النقول ولكن الله تعالى له أفعال وصفات (١).

__________________

(١) قال رضي الله عنه في الباب الثامن والثلاثين وثلاثمائة من «الفتوحات» : أعلم الخلق بالله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هذا المقام قال : «لا أحصي ثناء عليك» الحديث ؛ لأن الثناء بالأسماء وأسماؤه الحسنى لا تحصى ، فالثناء عليه لا يحصى ، والألسنة تكلّ فيها وتعيي.

وأمّا الثناء من حيث التسبيح تنحصر ، وتحصى ، ولا تكلّ به الألسنة ولا تعني ؛ لأنه نفي عن كل وصف لا إثبات فيه.

(وصفة) وهي من النسب التي لا يجوز أن ينسب إليه تعالى في أول الأمر ، بل تنسب إليه بعد نسبة ذلك إلينا.

قال الله تعالى : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ)[الصافات : ١٨٠] أطلق ولم يقيّد بصفة دون صفة ، والعزّة المنع من الوصول إليه شيء من الثناء عليه.

قال الإمام الغزالي رحمه‌الله في بعض تصانيفه إشارة إلى هذا المقام.

والمعنى : إن الناس ينزّهونه عن نقائض الصفات ، وأنا أنزّهه عن كمالها.

أما ترى أن بعض العلماء تنبّهوا لهذا المعنى ، وإن لم يلم مرضى علماء الرسوم ولكن هو حق من وجه ، وذلك أنهم لمّا رأوا أن المشاركة بين الحق والخلق ما يصح حتى في إطلاق الألفاظ عليه.

فإذا قيل لهم : إنه موجود ، قالوا : ليس بمعدوم ، وإذا قيل : إنه عالم ، قالوا : ليس بجاهل.

وهكذا جمع الصفات الثبوتيّة ، فإن الحادث موصوف به ولا مشاركة ، فافهم.

قال رضي الله عنه في حضرة الحضرات من «الفتوحات» فإن الأصل التعرّي والتنزيه والتبرّي عن الصفات مطلقا ولا سيّما في الله.

إذا كان أبو يزيد رضي الله عنه يقول : لا صفة لي فالحق أولى أن يطلق عن التقييد بالصفات لغنائه عن العالم ؛ لأن

١٥١

فأفعاله مستندة إلى صفاته ، وصفاته مستندة إلى أسمائه ، وأسماؤه مستندة إلى ذاته ، فليس إلا ذات واحدة متجلّية في صفة كلية قد تجلّت هي أيضا في فعل كلي ظهرت منه الآثار والشواهد ظهورا وحدانيا في صورة كثيرة.

ألا ترى أن الكلام صفة المتكلم في ذاته ، فإذا ظهر ؛ كان قولا من حيث إنه مقول ، وكتابا من حيث إنه مكتوب ، وعلى هذا فقس ، فلكل ظهور ثلاث مراتب ؛ ولذا قال تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢] ؛ فالكون الحادث أثره المستند إلى الفعل القولي ؛ فإنه اللقاء في الحقيقة فافهم جدا.

__________________

ـ الصفات إنما تطلب الأكوان ، فلو كان في الحق ما يطلب العالم لم يصح كونه غنيّا عمّا هو طالب ، فافهم.

وذكر رضي الله عنه في الباب الثامن والثلاثين وثلاثمائة من «الفتوحات» : فانظر حكمة الله تعالى في كونه لم يحصل له صفة في كتبه ، بل نزّه نفسه عن الوصف.

فقال : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى)[الأعراف : ١٨٠] فجعلها اسما ، ولم يجعلها نعوتا وصفاتا ولكن هي لنا نعوت وصفات يثني علينا بها.

قال تعالى : (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)[التوبة : ١٢٨] وأذن لنا بالتخلّق في الأسماء الحسنى وهو عين ما قلنا ، ثم أثنينا به عليه ؛ لأنه حميد وله عواقب الثناء ، فأثنى الله على نفسه بها.

وقال : «إن الكبرياء ردائي» وهي صفة عبده وهو رداؤه ، فإنه من منزل ثناء الحق على نفسه بغناه عن خلقه بخلقه ، فافهم.

إن هذا عين ما سيقوله رضي الله عنه في المتن بعد سطرين وهو قوله : فما وصفناه بوصف إلا كنّا نحن ذلك الوصف ، وهكذا الأمر لما كان استناد المستند إلى المستند لذاته ، اقتضى أن يكون على صورته فيما ينسب إليه من الأسماء ، وهو التخلّق بأخلاق الله تعالى وإحصاء الأسماء الحسنى ، وفيما لا ينسب إليه كالصفات ؛ لأنه تعالى جمع له التقييد والإطلاق ، كما جمع لنفسه بين التنزيه والتشبيه ، فقال تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)[الشورى : ١٢].

ومن هذا المقام قال أبو يزيد قدس‌سره لما قيل له كيف أصبحت؟ فقال : لا صباح لي ولا مساء ، إنما الصباح والمساء لمن تقيّد بالصفة وأنا لا صفة لي ، فوصف نفسه بعدم التقيّد بالصفات ، فإذا كانت الصفة قيدا لا يقبله العبد المقيّد ، فكيف تطلق على المطلق الحقيقي ، وهو رضي الله عنه أشار بهذا إلى التجرّد الحقيقي ، فافهم. وانظر : مجمع البحرين شرح الفصين (ص ٣٠٤) بتحقيقنا.

١٥٢

وذلك القول مستند إلى صفة الإرادة المضافة إلى الهويّة المضاف إليها الأمر ، وإنما قال : أمره ؛ لأن الخلق يلي الأمر ، كما أن القدر يلي القضاء ، ومن هنا إن النتيجة في القياس ثالث ثلاثة ، فهذا أمر الوجود أبدا ؛ بل وكل فكر رسم في القلب ؛ فهو من شيئين ؛ لأن له وجودا في الذهن ، وعليك بالتأمّل في الزوجين ، وما تبنّى عليهما من الآثار في الكونين.

وقال الله سبحانه : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) [النساء : ١٢٣] ، ومثله قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) [الزلزلة : ٧].

: أي يستحق أن يجزى به ، ويرى جزاءه.

وأمّا المؤمن : فالله تعالى يعفو عن كثير من ذنوبه ، ويكفّر ما بقى بما يرد عليه في الدنيا من الشدائد والمحن على ما ورد في الحديث.

ولا يبقي عليه إلا وزر الكبائر ، فإن تاب عنها ؛ فقد سقطت في الدنيا أيضا ، وإلا فيستحق أن يجازى عنها في الآخرة ، فقد يدرك العناية والشفاعة ؛ فينجو منها أيضا ، وقد يكون معذّبا بمقدار ؛ وهو ما دون الخلود.

وأمّا الكافر : فلا بد أن يجازى على كفره ، وعلى سائر أعماله السيئة في الآخرة ، وأمّا في الدنيا فقد يخفّف الله تعالى عنه أيضا بما صدر عنه من صور الأعمال الحسنة ، فإنه تعالى رحمن الدنيا ؛ فيصل رحمته إلى المؤمن والكافر في الدنيا من غير نكير ؛ ولذا جاز أن يدعي له بما يصلح حاله في الدنيا كالغنى ونحوه.

وأمّا الصبي : فهو كالبالغ إن بلغ حدّه التمييز ، وصدر عنه بعض الأذى ، فإن الله تعالى يؤاخذه بعض الشدائد بمقتضى الاسم العدل ، وإن لم يبلغ ذلك الحد فما ابتلى به من الشدائد ابتلاء لأبويه ونحوهما ، فله كالبالغ قرين من الملك ، وقرين من الجن ، فالملك يحرّكه على ما يسر أبويه من الأمور الملائمة ، فيقول كل منهما خيرا ، ويحمد الله ؛ فيحصل به رغم الشيطان ومساوءته.

وأمّا قرينه الجنّي فقد يحركه على ما يسوء أبويه ، ويغضبهما من الأمور الغير الملائمة فيقول كل منهما شرا ، وينسى الله تعالى ؛ فيحصل به مساءة الملك ، فقد يظهر فضل الله تعالى ، وقد يظهر مدله بحسب كونه رب العالمين ، فحال الصبي قبل البلوغ

١٥٣

في المجازاة ؛ كحال الحيوانات في القصاص يوم القيامة ، وكل ذلك من باب العدل ، ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك على ظهر الأرض من دابة ؛ لشؤم المعاصي ، وسريان بعض آثارها في الغير بحكم الجوار ولكن الله تعالى يمنّ على عباده فلا يؤاخذهم في الدنيا إلا بأقل قليل من شرورهم ، ويعفو عن كثير ، وما كان يعفوه في الدنيا فلا يعود إليه بالأخذ في الآخرة.

وأمّا من أسلم وجهه لله : بأن جعل نفسه خالصة له تعالى اعتقادا وعملا ، وهو منتهى ما تبلغه القوة البشرية ، فليس له حساب ، ولا ميزان ، ولا غيرهما مما أعد للعصاة ؛ بل له السلامة ، والنجاة ، وتضعيف الحسنات ؛ فللمطيع وعد ، وللعاصي وعيد.

فأمّا الوعد :

فالله تعالى لا يخلف الميعاد ؛ لكمال وجوده ، وسعة غناه ، وعظيم قدرته.

وأمّا الوعيد :

فهو من باب التخويف والتهديد ، وليس كل ما يهدّد به العبد العاصي يفعل به ، فقد يعفو عنه السيد ؛ لكن ينبغي أن لا يغتر العبد بكرم الله تعالى ؛ فإنه بكرمه وجوده خلقه ، ثم بحكمته أمره ونهاه.

فالإحسان لا يقابل بالعصيان ، والإكرام لا يجازى بالإهانة ، فعل العبد العبادة ، ثم العبودية ، ثم العبودة بحسب إلاهية ، وألوهية ، وألوهته ، فإذا وصل إلى غاية هذه المراتب ؛ سقطت عنه كلفة التكليف ، فكان حاله في التعبّد في الدنيا ؛ كحال أهل الجنة في الآخرة : أي كان حاله لذّة صرفة ، وحلاوة محضة ، ومن سرت اللذّة في باطنه ؛ لم يتألم من العبادة في ظاهره ، فيبقى إلى اخر عمره وله حياة طيبة من إحياء حقوق الله ، وحقوق عبيده ، ومن ذلك حقوق أعضائه وقواه.

إذ كل ذلك محلّ التكليف ، وموضع أحد الميثاق ، ومواطن المراعات ، والمحافظة ، ومن حافظ على أنفاسه ؛ فقد حافظ على جميع عمره ، والله معه ، ومنه يصدر كمالاته ، وإليه يصعد كلماته ، هذا إذا اعتبر الحضور معه ، وأمّا إذا اعتبر الغيبوبة عنه ، وبقى الحق وحده ، فالحق يذكر على لسانه ، ويتعبد على جوارحه ، وليس هذه المرتبة إلا للمحققين الواجدين وجدانا لا فقدان معه.

١٥٤

قال الله سبحانه : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ) الآية : [النساء : ١٢٧].

بظاهرها تدلّ على أن الله تعالى هو المفتي ، وأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم خليفته في ذلك ، وكذا الورثة خلفاء الرسول ؛ ولذا كان الأصحاب رضي الله عنه يفتون ، وكذا التابعون حتى الصوفية المحققون ؛ كجنيد البغدادي قدس‌سره فإنه مع كونه سيد الطائفة (١) كان

__________________

(١) هو سيّد الطائفتين ، أصله من نهاوند ، ومنشؤه بالعراق ، وكان فقيها يفتي على مذهب الإمام أبي ثور صاحب الإمام الشافعي ، وراوى مذهبه القديم ، صحب خاله السقطي والحارث المحاسبي ، ومحمد بن علي القفار ، وكان من كبار أئمة القوم وساداتهم ، وكلامه مقبول على جميع الألسنة ، مات يوم السبت سنة سبع وتسعين ومائتين ببغداد ، ودفن بها وقبره ظاهر يزار.

كان يقول : الغفلة عن الله أشد من دخول النار.

وكان يقول : إذا رأيت الفقير فلا تبدأه بالعلم وابدأه بالرفق ؛ فإن العلم يوحشه ، والرفق يؤنسه.

وكان يقول : من أشار إلى الله وسكن إلى غيره ابتلاه الله بالمحن ، وحجب قلبه عن ذكره ، وأجراه على لسانه ، فإن انتبه وانقطع إلى الله كشف عنه المحن ، وإن دام على السكون إلى غيره نزع الله من قلوب الخلق الرحمة عليه ، وألبسه لباس الطمع فيهم ، فيزداد مطالبه منهم مع فقدانه الرحمة من قلوبهم ، فتصير حياته عجزا وموته كمالا وآخرته أسفا ، ونحن نعوذ بالله من الركون إلى غيره.

وكان يقول : يقول الله تعالى : «لو أن ابن آدم قصدني في أوّل المصائب لرأى مني العجائب ، ولو انقطع إليّ في أول النوائب لشاهد مني الغرائب ، ولكنه انصرف إلى إشكاله فرد في إشغاله».

وكان يقول : مكابدة العزلة أشد من مداراة الخلطة.

وكان يقول : من أراد أن يسلم له دينه ويستريح بدنه وقلبه فليلق الناس ، فإن هذا زمان وحشة ، فالعاقل من اختار الوحدة.

وجاءه مرة شخص بخمسمائة دينار فوضعها بين يديه ، وقال له : فرّقها على جماعتك ، فقال : ألك مال غير هذا؟ قال : نعم ، قال : أتطلب زيادة على ما عندك؟ قال : نعم ، فقال له الجنيد : خذها فإنك أحوج إليها منّا ، ولم يقبلها.

وكان يقول : إذا رأيت الصوفيّ يعبأ بظاهره فاعلم أن باطنه خراب.

وسئل عن الإنسان يكون هاديا فإذا سمع السماع اضطرب ، فقال : إن الله تعالى لما خاطب الذرية في الميثاق الأوّل بقوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)[الأعراف : ١٧٢] استغرقت عذوبة الكلام الأرواح ، فإذا سمعوا السماع حركهم ذكر ذلك.

١٥٥

__________________

ـ وكان يقول : تنزل الرحمة على الفقراء في ثلاثة مواطن : عند السماع ؛ فإنهم لا يسمعون إلّا عن حقّ ، ولا يقولون إلا عن وجد ، وعند أكل الطعام فإنهم لا يأكلون إلا عن فاقة ، وعند مجازاة العلم فإنهم لا يذكرون إلا أحوال الأولياء.

وكان يقول : دخلت يوما على السري فوجدت عنده رجلا مغشيا عليه ، فقلت له : ما له؟ فقال : سمع آية من كتاب الله ، فقلت : تقرأ عليه الآية مرة أخرى ، فقرأت ، فأفاق الرجل فقال السري : من أين علمت هذا؟ قلت له : إن قميص يوسف ذهب بسببه عينا يعقوب ، ثم عاد بصره به ، فاستحسن ذلك مني.

وكان يقول : ما رأيت أحد أعظم الدنيا فقرّت عينه فيها أبدا ، إنما تقر عين من حقرها وأعرض عنها.

وكان يقول : من فتح على نفسه نية حسنة فتح الله عليه سبعين بابا من التوفيق ، ومن فتح على نفسه نية سيئة فتح الله عليه سبعين بابا من الخذلان من حيث لا يشعر.

وكان يقول : ما احتشم صاحب من صاحبه أن يسأله حاجة إلا لنقص في أحدهما.

وكان يقول : إن للعلم ثمنا فلا تعطوه حتى تأخذوا ثمنه ، قيل له : وما ثمنه؟ قال : وضعه عند من يحسن حمله ولا يضيعه ، وقيل له : ما بال أصحابك يأكلون كثيرا؟! فقال : لأنهم يجوعون كثيرا ، قيل له : فما لهم لا تهمهم قوة شهوة؟! فقال : لأنهم لم يذوقوا طعم الزّنا ، ويأكلون الحلال ، قيل له : فما بالهم إذا سمعوا القرآن لا يطربون؟! قال : وأي شيء في القرآن يطرب في الدنيا ، القرآن حقّ نزل من عند حق ، لا يليق بصفات الخلق عند كل حرف منه واجب ، لا يخرجهم منه إلا الوفاء لله عزوجل به ، فإذا سمعن في الآخرة أطربهم ، قيل له : فما بالهم يسمعون القصائد والأشعار والأنغام والغناء فيطربون؟! فقال : لأنها مما عملت أيديهم ، ولأنه كلام المحبين ، قيل له : فما بالهم محرومون من أموال الناس؟ فقال : لأنه تعالى لا يرى لهم ما في أيدي الناس ؛ لئلا يميلوا إلى الخلق فيقطعوا ، فأفرد القصد منهم إليه اعتنائه بهم.

وسئل : من العارف؟ فأجاب : من نطق عن سرك وأنت ساكت.

وكان يقول : ما أخذنا التصوف عن القال والقيل لكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات.

وكان يقول : إن أمكنك ألّا تكون آلة بيتك إلّا من الخزف فافعل ، فكذلك كانت آلة بيته.

وكان يقول : الطرق كلها مسدودة على الخلق إلّا على من اقتفى أثر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واتّبع سنته ، ولزم طريقته ، فإن طرق الخير كلها مفتوحة عليه.

وكان يقول : لو أقبل صادق على الله ألف ألف سنة ثم أعرض عنه لحظة ، كان ما فاته أكثر مما ناله.

١٥٦

يفتي في بغداد على مذهب أبي ثور.

سواء قلت انه كان يستر حاله عن الناس ، أو لغير ذلك ، فإن الاعتبار بظاهر الحال.

ثم لمّا كان الفتوى ، والقضاء ، والتدريس ، ونحو ذلك من الولايات من المناصب العرفية المتنافسة بين أهل الدنيا ؛ امتنع الخواص عن التقلّد بها مع أنها من الأسماء الإلهية في الحقيقة ، فإن الله هو المفتي ، والقاضي ، ومعلم الناس ، وكل ذلك في القرآن ، والاعتبار بمذهب التوفيق عند أهل الله بعد مساعدة ظاهر النص ، إلا أن يكون هناك إيهام يوجب الشين ، فلا يطلق عليه تعالى ، وليس منه مثل قولنا : السبحان ، والسلطان ، ولفظ أفندي ، ونحو ذلك ، فإن أكثر علماء الظاهر ، وكذا أرباب الحقائق أطلقوها على الله تعالى لما فيها من التعظيم.

ثم إن الفتوى ونحوه مما دخل تحت الاسم الظاهر ، ولمظاهر الاسم الباطن تحقق بحقائق هذا الاسم حتى قيل في قوله : «آخر ما يخرج من رؤوس الصدّيقين حبّ الجاه» (١).

فإن الخروج هنا بمعنى الظهور ؛ يعني : يظهر لهم في آخر الأمر حبذا التحقق بحقائق الاسم الظاهر (٢) ليكمل لهم الأمر في باب الأسماء الإلهية لكن لهذا التحقق

__________________

ـ وكان يقول : أكثر الناس علما بالآفات أكثرهم آفات.

وقال رجل له : من أصحب؟ قال : من تقدر أن تطلعه على ما يعلمه الله منك.

وقيل مرة أخرى : من أصحب؟ قال : من يقدر أن ينسى ما له ، ويقضي ما عليه.

وكان يقول : من عرف الله لا يسرّ إلّا به.

وكان يقول : من نظر إلى وليّ من أولياء الله تعالى فقبله وأكرمه ، أكرمه الله على روؤس الأشهاد رضي الله عنه وأرضاه. وانظر : كتابنا الإمام الجنيد سيد الطائفتين.

(١) ذكره السيوطي في شرح سنن ابن ماجه (١ / ٢٢) بنحوه.

(٢) قال الحجة الغزالي : الظاهر الباطن : هذان الوصفان من المضافات ، فإن الظاهر يكون ظاهرا لشيء وباطنا لشيء ، ولا يكون من وجه واحد ظاهرا وباطنا ، بل يكون ظاهرا من وجه بالإضافة إلى

١٥٧

__________________

ـ إدراك ، وباطنا من وجه آخر ، فإن الظهور والبطون إنما يكون بالإضافة إلى الإدراكات ، والله سبحانه وتعالى باطن إن طلب من إدراك الحواس ، وخزانة الخيال ظاهر إن طلب من خزانة العقل بطريق الاستدلال ، فإن قلت أما كونه باطنا بالإضافة إلى إدراك الحواس فظاهر ، وأما كونه ظاهرا للعقل فغامض ؛ إذ الظاهر ما لا يتمارى فيه ، ولا يختلف الناس في إدراكه ، وهذا مما قد وقع فيه الريب الكثير للخلق ، فكيف يكون ظاهرا فاعلم أنه إنما خفي مع ظهوره ؛ لشدة ظهوره ، فظهوره سبب بطونه ونوره هو حجاب نوره ، وكل ما جاوز حده انعكس على ضده.

ولعلك تتعجب من هذا الكلام وتستبعده ولا تفهمه إلا بمثال فأقول : لو نظرت إلى كلمة واحدة كتبها كاتب لاستدللت بها على كون الكاتب عالما قادرا سميعا بصيرا ، واستفدت منه اليقين بوجود هذه الصفات ، بل لو رأيت كلمة مكتوبة لحصل لك يقين ، قاطع بوجود كاتب لها عالم قادر سميع بصير حي ولم يدل عليه إلا صورة كلمة واحدة ، وكما تشهد هذه الكلمة شهادة قاطعة بصفات الكاتب ، فما من ذرة في السموات والأرض من فلك وكوكب وشمس وقمر وحيوان ونبات وصفة وموصوف ، إلا وهي شاهدة على نفسها بالحاجة إلى مدبر دبرها وقدرها وخصصها بخصوص صفاتها ، بل لا ينظر الإنسان إلى عضو من أعضاء نفسه ، وجزء من أجزائه ظاهرا وباطنا ، بل إلى صفة من صفاته ، وحالة من حالاته التي تجري عليه قهرا بغير اختياره ، إلا ويراها ناطقة بالشهادة لخالقها وقاهرها ومدبرها ، وكذلك كل ما يدركه بجميع حواسه في ذاته وخارجا من ذاته.

ولو كانت الأشياء مختلفة في الشهادة يشهد بعضها ، ولا يشهد بعضها لكان اليقين حاصلا للجميع ، ولكن لما كثرت الشهادات حتى اتفقت خفيت وغمضت لشدة الظهور ، ومثاله أن أظهر الأشياء ما يدرك بالحواس ، وأظهرها ما يدرك بحاسة البصر ، وأظهر ما يدرك بحاسة البصر نور الشمس المشرق على الأجسام الذي به يظهر كل شيء ، فما به يظهر كل شيء كيف لا يكون ظاهرا.

وقد أشكل ذلك على خلق كثير حتى قالوا : الأشياء الملونة ليس فيها إلا ألوانها فقط من سواد وحمرة ، فإما أن يكون فيها مع اللون ضوء ونور مقارن للون فلا ، وهؤلاء إنما نبهوا على قيام النور بالمتلونات بالتفرقة التي يدركونها بين الظل وموضع النور وبين الليل والنهار ، فإن الشمس لما تصور غيبتها بالليل ، واحتجابها بالأجسام المظلمة بالنهار انقطع أثرها عن المتلونات ، فأدركت التفرقة بين المتأثر المستضيء بها وبين المظلم المحجوب عنها ، فعرف وجود النور بعدم النور إذا أضيف حالة العدم إلى حالة الوجود ، فأدركت التفرقة مع بقاء الألوان في الحالتين ، ولو أطبق نور الشمس كل

١٥٨

وجهان : الأول : أن يكون لهم قبول عند الناس حتى يحصل لهم ما أرادوا من المصالح من غير تقلّد بشيء من الأمور العرفية ؛ كالشيخ محي الدين العربي قدس‌سره ؛ حيث كان له قبول عند سلطان حلب في وقته ، حتى شفع في يوم واحد في الأمور الكثيرة المتجاوزة عن المائة ، وجملة الشفاعات كانت مقبولة عند السلطان ، فكان في الكل على مراد الشيخ ، وكان مراد الشيخ من ذلك إسعاف الحاجات ، وجلب المنفعة لبعض ، ودفع المضرّة عن بعض لا أمرا آخر يتعلّق بنفسه ، فإنه ونحوه مطهر عن مثل ذلك الدّنس.

والوجه الثاني : أن يكون لهم تقلّد بمثل ما ذكر.

فهذا هو الذي يفرّ منه الخواص في هذا الزمان الأول ، وإلا أن يقضي الله أمرا كان مفعولا ، وكان أمر الله مفعولا.

فالشيخ لا يكون مفتيا أبدا لما في الفتوى من الغوائل التي تنافي مقام المشيخة

__________________

ـ الأجسام الظاهرة لشخص ، ولم تغب الشمس حتى يدرك التفرقة لتعذر عليه معرفة كون النور شيئا موجودا زائدا على الألوان مع أنه أظهر الأشياء ، بل هو الذي به يظهر جميع الأشياء.

ولو تصور لله تعالى وتقدس عدم أو غيبة عن بعض الأمور لانهدت السموات والأرض ، وكل ما انقطع نوره عنه ، ولأدركت التفرقة بين الحالتين ، وعلم وجوده قطعا ، ولكن لما كانت الأشياء كلها متفقة في الشهادة والأحوال كلها مطردة على نسق واحد كان ذلك سببا لخفائه ، فسبحان من احتجب عن الخلق بنوره ، وخفي عليهم بشدة ظهوره ، فهو الظاهر الذي لا أظهر منه ، وهو الباطن الذي لا أبطن منه.

تنبيه : لا تتعجبن من هذا في صفات الله تعالى وتقدس ، فإن المعنى الذي به الإنسان إنسان ظاهر باطن ، فإنه ظاهر إن استدلّ عليه بأفعاله المرتبة المحكمة باطن إن طلب من إدراك الحس ، فإن الحس إنما يتعلق بظاهر بشرته ، وليس الإنسان إنسانا بالبشرة المرئية منه ، بل لو تبدلت تلك البشرة بل سائر أجزائه ، فهو هو والأجزاء متبدلة ، ولعل أجزاء كل إنسان بعد كبره غير الأجزاء التي كانت فيه عند صغره ، فإنها تحللت بطول الزمان وتبدلت بأمثالها بطريق الاغتذاء وهويته لم تتبدل ، فتلك الهوية باطنة عن الحواس ظاهرة للعقل بطريق الاستدلال عليها بآثارها وأفعالها. انظر : المقصد الأسنى للغزالي (١ / ١٣٧).

١٥٩

دون العكس ؛ يعني : يكون المفتي شيخا ، وذلك بالتجرّد والسلوك ، فالشيخ إذا كان مفتيا ؛ استبدل ما هو خير بالذي هو أدنى ، وخرج من العباء ، ودخل في القباء ، وذلك مما يورث التنزّل لغير الكمّل ، وأهل التمكين ، والمفتي إذا كان شيخا ؛ استبدل ما هو أدنى بالذي هو خير ، وخرج من القباء ، ودخل في العباء ، وذلك مما يورّث الترقّي لطلبه الحق ؛ ولذلك كان ابن أدهم قدس‌سره من أهل التجرّد والترك ، هذا ولا تكن لغير الله حتى يكون الله لك.

قال الله سبحانه : (مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) [النساء : ١٣٤].

يعني : من كان يريد بإرادة المنبعثة عن نفسه الظلمانية الشهوانية ثواب الدنيا ومتاعها وأعراضها ؛ فعند الله ثواب الدنيا : أي لا عجز عنده ، فيعطيه له ؛ لكن ليس له في الآخرة من نصيب : أي ثواب الآخرة ؛ لأن الدنيا والآخرة لا يجتمعان بالذات ، ولا بالأصالة ، وكذا ليس له من الله ذاته أيضا خلاق ؛ لأنه من بعد عن الآخرة.

فبعده عن الله تعالى بطريق الأولى ، ومن كان يريد بإرادته المنبعثة عن قلبه النوراني الرحماني ثواب الآخرة ونعيمها ودرجاتها ؛ فعند الله ثواب الآخرة أيضا ؛ لأنه كما خلق الدنيا لأهل الدنيا من غير تحجير ، فكذا خلق الآخرة لأهل الآخرة من غير منع وإمساك ، فيعطي كلا منهم ما يريده لكنهم محجوبون بدنياهم وآخرتهم عن الله تعالى.

ومن كان يريد ثواب الدنيا والآخرة جميعا لكن يريد ثواب الدنيا بالعرض وقدرا ؛ لبلغه ، وثواب الآخرة بالذات وبغير حساب ، بأن يجمع بين إرادتي النفس والقلب ، وحكمي الروح والجسد ، فعند الله ثواب الدنيا والآخرة جميعا ، فيعطي ذلك المريد ما شاء نفسه بنفسه ، وما شاء قلبه بقلبه ، وليس له من الله نفسه من خلاق أيضا.

ومن يريد الله من الله بإرادته سره الساري في جميع أعضائه وقواه ؛ يجد الله ، ويجد الدنيا والآخرة أيضا ؛ لأن وجدانهما تابع لوجدان الله تعالى ، فمن وجد الله ؛ وجد الكل بخلاف ، فإنه قد لا يجد الله ، ومن لم يجد الله فوجدان الكل له فقدان ،

١٦٠