مرآة الحقائق - ج ١

إسماعيل حقّي البرسوي

مرآة الحقائق - ج ١

المؤلف:

إسماعيل حقّي البرسوي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
977-344-218-7

الصفحات: ٤٣٦
الجزء ١ الجزء ٢

يحجب ذاته عن أهل الجنة ، وهم في الدنيا ؛ أهل القلوب.

فعليك بطريقتهم وسيرتهم في كل ما يأتون وما يذرون ، ومن لم يكن له أدب ؛ لا يصحّ الاقتداء به ، فيحترم إن كان من أهل الجذبة والحال ، فإذا كان تارك الأدب لا يصلح للاقتداء ؛ فما ظنك بتارك الأحكام ، وقد قال تعالى : (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) [البقرة : ١٨٩] ، وهي الشرائع الظاهرة أولا ، ثم الرياضات والمجاهدات ، فعندها ينفتح بيوت المعارف والحقائق على ما هو العادة الإلهية ، ومن الأسباب إحياء الليالي ؛ إذ فيه شهود مولى الموالي ، والوصول إلى أعلى الأعالي ، رزقنا الله وإياكم.

وقال الله سبحانه : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) [آل عمران : ١٧٨].

الآثم : اسم للفاعل المبطئة من الثواب ، وله حسن موقع مع الإملاء الذي هو الإمداد والإمهال والتأخير.

واعلم أن الله تعالى جعل لكل إنسان أجلا معلوما ؛ ليبلغ كماله الذي قدّر له ، فإن كان من السعداء ؛ فكماله في الدين ، والسير ، والسلوك ؛ يحصل في مدة أربعين سنة غالبا ، وإن كان له عمر آخر طويل بحسب الإرث المحمّدي ونحوه.

وإليه الإشارة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «طوبى لمن طال عمره ، وحسن عمله» (١).

يعني أن طول العمر ؛ إنما هو لكسب حسن العمل ، وهو للوصول إلى العلم الوهبي كما ورد : «من عمل بما علم ؛ ورّثه الله علم ما لم يعلم» (٢) : أي بما علم من الشرع لا بكل ما عمل آيّا كان.

فإن الفلاسفة ، والحكماء المتقدّمين ، وأمثالهم أنفوا عن الاقتداء بالأنبياء عليهم‌السلام ، والعمل بشرائعهم اعتمادا على عقولهم ، وعلومهم ، ورياضاتهم ، فحرموا عن علم المواهب والإرث ، إذ لم يتجاوزوا عن حدّ ذوق ؛ كأفلاطون ، وأين هو من أذواق أهل المقامات الخارجين عن طور الكون ، والحدوث الروحاني ، الداخلين في

__________________

(١) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (٧ / ٧٠) ، والديلمي في الفردوس (٢ / ٤٤٥).

(٢) تقدم تخريجه.

١٠١

مرتبة الوجوب والقدم الربّاني من حيث السير؟ (١).

__________________

(١) قال الشيخ ابن سبعين قدس‌سره ، وهو من أعجب ما قال : حكمة سابعة : ويقال : الفقر هو التجرد عن المواد والاتصال بالذوات المجردة المرسوم عليها في موضوعات الشرائع والمعبر عنها في اصطلاحهم : بالملائكة وعالم الأمر ، ثم التجرد عنها والاتصال بالحكيم العليم الذي أمر ، الحكيم العليم المبدع الأول الذي أمر الحكيم العليم الثاني ، ثم التجرد عن الجملة والاتصال بالحكمة والكلمة ، ثم التجرد عنها والاتصال بالحضرة السّنية التي يظهر فيها الحكيم العليم الأول المذكور أنه من عباد الله ، والله أعز من ذلك وهو عزيز ؛ لأنه اعتز على العلماء به قبل هذه التي ليست من جنس ما يعلمه الفيلسوف ولا يفهمه بعض الصوفية. وهو علم التحقيق الغريب الذي لم يخبر قط جميع من دون الدواوين كلها عنه ، ولا هو من قبيل السهو والعويص ولا في قوة البطيء مع الحريص. فاسمع ما أقوله لك ولا تلتفت إلى ما تخبط فيه شيعة أرسطو ، وكونهم يقولون : الحق عزوجل هو المحرك للجرم الأقصى بذاته.

والمتأخر منهم يقول : بل هو الذي فطر الأمر وهو الذي أمر بتحريكها ، وهو ثالث رتبة فوق محرك الأطلس.

ومنهم من قال : هو ثاني رتبة ، فانظر ذلك في آخر كتاب «المشكاة» للغزال.

وفي كلام ابن سينا والفارابي. وتحيّر ابن رشد في ذلك ثم اختار قول الحكيم ، وقال به وزال عن الغير.

وتخبط في ذلك ابن طفيل وانفصل عنه بهذيان لا فائدة فيه للحكيم النبيه. وكذلك مذهب أهل الرواق وشيعة فيثاغورس ومن قال بالمثل المعلقة والحياة السارية في الموجودات ، والذي قال بالانتقال وبالأشياء المؤلفة من الفاني والباقي.

وكذلك جميع ما تسمع من بعض الصوفية الذين يقولون : مقام الإسلام والإيمان والإحسان والحق والمطلع والأفعال والصفات والذات.

والذي يقول : الأسماء والتخلق والأسماء التي تتصف ويتصف بها والاسم الفعال والأسماء المتحابة والاسم الذي يتصف ، فذلك كله منه ما يصح بوجه ما ، ومنه ما لا يصح.

وكذلك قائل : «والحق وراء ذلك كله» فإنه أراد المعلوم المضاف.

وبالجملة : ما عرفوا الله حق معرفته ولا علموه على ما ينبغي له ، فعليك بالرجال.

واعلم أن العلم الإلهي منه ما يتعلم ، ومنه ما يورث ، ومنه ما يتلقى من صدور الرجال ، ومنه ما يوجد حالا وذوقا ، ومنه ما يظفر به في الجميع.

فقل : أعوذ بالمقصود المعلوم عند معلمي حيث معلمي : من توقف أرسطو وتشتيت مسائله الإلهية خاصة ، فإن غيرها من سائر العلوم أحكمها ولم يغلط فيها إلا في القليل ، ومن شكوك المشائين ،

١٠٢

__________________

ـ وحيرة أبي نصر ، وتمويه ابن سينا في بعض الأمور ، واضطراب الغزالي وضعفه ، وتردد ابن الصائغ ، وتنويع ابن رشد ، وتلويحات السهروردى مؤلف : «حكمة الإشراق» والتلقيحات بمذهب أفلاطون ، وتشويش ابن خطيب الرّي ، وتخليط الأقدمين ، ورموز جعفر المحتملة معرج التصوف مع الحكمة من حيث أتباعه ، ومن شطحات بعض الرجال في «الرسالة» الذين نطقوا من أحوالهم الأول ولم تحذقهم العلوم ولا الصنائع العلمية ولا حققوا المبادئ وجاوزوا المقدار بأقوالهم وأحوالهم بوجه ما يسلمه بعض الناس وينكره الأكثر ومن تصريف ابن مسرة الجبلي في الحروف والإطلاقات في النطق اللاحق للأشياء وإضافته الآيات وفهم أقسام بعض السور والإقدام على الأحكام واقتران بعض القرآن ببعض ، ومن تهذيب بعض الأسماء والصفات والكون والوجود والموجود والشفع والوتر والتوحيد على مذهب ابن قسيّ صاحب «خلع النعلين» ومن الأجناس الجامعة المتقدمة والتآليف والمذاهب والذهاب والاعتبار المقدر المصرف في جملة الأسماء ومدلولها وفي الصفات الدائرة التي تدور من مدلولها على صيغها ، وبالعكس على مذهب ابن برجان ، ومن الوصول المنسوب والوقوف عنده بحسب متعلق الأسماء والصفات والمقامات والأرواح والتلوين والتمكين والمحبة والوجود والواحد والوحدة والإضافة المحذوفة والمجردة والشائعة وغير الشائعة بحسب «المواقف» المنسوبة إلى النفرى المعلم الناقل عن المولد على زعمه وغيره.

فجميع ذلك كله لا خلاص فيه متمم ولا إخلاص مكمل ، وهو مما يدخله الغلط من الصنائع عند طائفة ، ومن الأحوال عند آخرين ، ومن الاصطلاح عند قوم ، ومن الفهم عند آخرين ، ومن الرياسة ومن اللذة ومن سوء الفهم عند الأكثر.

وهؤلاء منهم من تلذذ بالأنوار والأحوال ، وغفل عن الأصل ، وفرح بنفسه ولم يكمل ، ومنهم من علم المقصود ولم يتحرك إليه بالسلوك وغلبته الطبيعة والأمور الطبيعية والرياسة وحفظ الصيت عليه ، ومنهم من بهره حال الاتصال فغلط.

ومنهم : من شك في الأصل ودفع تارة وجذب أخرى.

ومنهم : من كان أوله ضد آخره وبالعكس.

ومنهم : من وصف المقصود ولم يتصف به.

ومنهم : من ضر بكلامه ونفع وتنوع أمره وانتقل.

ومنهم : من ينفع من جهة ما ويضر من جهات. ولو لا ما قصدت في هذا التقييد من الاختصار كنت أرسم لك مقاصدهم من حيث مواضعها والمسألة والجواب ونبين لك شأنهم كله وكيف الأمر فيهم على الإطلاق بالبرهان.

١٠٣

فقوله : «علم ما لم يعلم» : إشارة إلى هذا العلم الذي هو نتيجة التقوى المأخوذة من الشرع ، لا نتيجة الأمور الموضوعة من طريق العقل.

ومن هنا ذمّ الوضع مطلقا ؛ لأنه عقيم ، ومدح الشريعة ؛ لأنها ولود ، والولود وإن كانت سوداء ؛ فحسنة مع أن الشريعة بيضاء صورة ، ومعنى.

كما دلّ عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تركتكم على المحجة البيضاء» (١).

والعقيم إذا كانت حسنة بيضاء ؛ فقبيحة سوداء ؛ ولذا أمرنا بإكثار النكاح ؛ لتكثير الذّريّة ، وبثّ النسل ؛ ليظهر كمال الدين ، وحقيقة التوحيد ، وإمداد السواد الأعظم ؛ وهم هذه الأمة المرحومة القاصرة أعمارها في الظاهر ، الكاملة أنوارها في الباطن ، فإنهم جاءوا وقت الأصيل ، وظله هذا الوقت ممدود فأعرف ذلك.

وإن كان من الأشقياء ؛ فإنما يستكمل له أمره في مدة سبعين سنة غالبا ؛ لأن قعر جهنم إنما يبلغه في هذه المدة ، كما عرف في قصة الهدّة ، وكما أن القصب ينمو أبنوبا فأبنوبا فكذا الإنسان في باب الخير والشر.

فإن قلت : فقد يكون بحيث لا يبلغ الإنسان إلى المدة التي ذكرت؟.

قلت : إن الله تعالى إنما ذكر الإملاء في حق الذين وصفهم بالخبث الزائد ، فلكل من أهل السعادة والشقاوة مراتب مراتب ، فطيب وأطيب ، وخبيث وأخبث.

وقوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) إشارة إلى أن الإهانة إنما جاءت في الحقيقة من قبل الأسباب الخارجية ؛ كطول العمر ، والغنى ، والجاه ، ونحو ذلك.

وقد ثبت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خشى على أمته من المال ، وسعة الدنيا ، وجعل حب الجاه آخر ما يخرج من رؤوس الصدّيقين ، فأمثال ذلك قد تحصل للعبد ؛ لكن من

__________________

ـ وبالجملة : عليك بالحق وفريقه وأهله وطريقه ، فإن الرجال إذا تنوعوا دار الأمر بينهم وفيهم وعليهم.

لا زوال للحق ولا شك فيه ، ولا يأخذه النقص ولا يختلف ولا يتغير ، وهو الذي به هو الشيء وما هو ، وهو الشاهد المتفق من جميع جهاته ، وهو هو كما تقدم ، وكل حائر فمن أجله كانت حيرته وفيه وبه. فافهم. فإنه هو المطلوب وبه يطلب ، ومنه الطالب وله ومنه وعنه الكل. وقد خرج بنا الكلام إلى غير الذي قصدناه فنرجع له بحول الله تعالى.

(١) ذكره المناوي في فيض القدير (٤ / ٥٠٦) ، وابن القيم في شرح المختصر للمنذري (١ / ٨٧).

١٠٤

طريق المكر والاستدراك ، وقد قال تعالى : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ) [الشورى : ٢٧] الآية ، وقوله الحق والعمل به واجب ، والحذر من المكر لازم ، وتفويض الأمر إليه فرض ، وطلب الكمال الحقيقي قدم صدق.

في أواخر سورة آل عمران : قال الله سبحانه وتعالى حكاية عن بعض أدعية الأخيار : (وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) [آل عمران : ١٩٣].

اعلم أن المعيّة في الأصل بمعنى المعية الزمانية ، ومن الظاهر أن توفيهم إنما هو على سبيل التعاقب لا على سبيل المعية ، فحملها العلماء على المعية ، والمقارنة بأحوالهم الشريفة ، وصفاتهم اللطيفة ، فإن هذا التوفّي كالتوفّي معهم ، وبصحبتهم حكما في هذا المقام معنى أدق مما ذكر ؛ وهو إن جميع الأبرار كانوا في الصف الأول في عالم الأرواح لم يكن لأحدهم تقدم على الآخر ؛ فكأنهم الحلقة المفرغة ، ثم لمّا خرجوا إلى العين اقتضى الحكمة الإلهية التدريج في الظهور الخارجي ، فكان الزمان قد جرى على أشباحهم ، وصورهم الجسدانية لا على حقائقهم ، وصورهم الروحانية ؛ لأنه لم يكن في عالم الأرواح ليل ولا نهار (١).

__________________

(١) قال سيدي محمد وفا في العروش : واعلم أن الزمان الأول المنفصل بالوقت ، المتّصل بالدهر زمان آدم عليه‌السلام ، وآدم منار الحيطة الطبيعية ، ومحمول موضوعها ، وبما قام لتدبير هذه الكرة ، وتأسيس أحكامها وأقواتها وأوقاتها وأكنانها ووقايتها ، ثم تربّع زمانه في نفسه (١) ، فكان ما بين آدم إلى شيث تدبير المساحة والفلاحة ، نزل بأحكامها الروح الأمين في حجاب الباء المكين ، فحلّ إشكالها ، وفتح أغلاقها وأقفالها ، وسهّل نوالها ومنالها ، وأودع في حالها مآلها ، ثم الزمان الثاني ما بين شيث إلى إدريس بعث الله الروح القدس من حجاب الستر السرادقي العرشي ، فأحكم صنعة اللبوس والبناء ، وحجب العيون عن نظر العورة بحجاب القدرة ، وخلع خلع الجمال ، والزين على الأشخاص والأعيان ، والدمن.

ثم ما بين إدريس إلى نوح ، كان ارتفاع الهمم بالنظر إلى الأفق السماوي ، وإعمال الفكرة في حكم التأثير الهوائي والمائي والناري ، وما أودع الله في الكواكب والبروج من أحكام وتأثيرات وحركات وتقديرات ، فتوجّهت الهمة الطلبية على النّجب السببيّة إلى أن خرقت آفاقها ، وفتحت أغلاقها ، واستخرجت أسرارها وأعلاقها.

فبالأول : استنتاج أرواح النبات ، واستخراج ما فيها من أسرار الأقوات بما قال الله عزّ اسمه :

١٠٥

__________________

ـ (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ* أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ)[الواقعة : ٦٣ ، ٦٤].

وبالزمن الثاني : استنتاج أرواح الستور ، وحجب نظر العيون ، وتأسيس أحكام الهندسة ، ومواد البناء من المفخّرة والمكلّسة.

وبما قال عزّ اسمه : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ)[لأعراف : ٢٦].

وبالزمن الثالث : كان استنتاج أرواح الأوقات ، وأحكام الحركات والسكنات والانفعالات ، ومعارف مجاري الكواكب ، والرصد ، والخط ، والكتب ، والعدد.

وبما قال عزّ اسمه : (وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ)[النحل : ١٦].

وبالزمن الربع : ما بين نوح إلى إبراهيم ، وقد تمّت الإشارة من علوم الفلاحة ، والهندسة والأرصاد والنجارة ، فلمّا تمت الحكمة الدنيا في الأرض والسماء ، وبلغ الزمان ، وانتهى إعلامه ، وتمّت أعوامه وأيامه ، وانتصبت أدلته وأعلامه ؛ ظهر في نوح عليه‌السلام بدؤه وختامه ، وبما كان نوح آدم الوقت ، حذر النقمة والمقت ، فتغالبت الحيوانية ، وحكمت القوى الترابية ، وأبت الأنفس إلا الإدبار ، وقويت عصابة الكفّار ، وكان ذلك بحكم الحجاب الواقع ، والسبب المانع لعدم تنزيل الخليفة الذي هو مالك عالم الخيال وربّ الأشباح والأشكال ، ولكل زمان دولة ورجال ؛ ولأنه ليس بزمان نزوله ولا وقت تجلّيه وحصوله ، وذلك من أصل التخليق في الرحم ، وتنزّل أصول الأرواح بالكلم.

ولذلك قال : (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً)[نوح : ٢٧] ومعنى قولنا التخليق في الرحم : إذا كمل استعداد المضغة ؛ يكون التنزيل ، والنفخ الروحاني بحكم صاحب الزمان من أي أفق كان ، وهذا من أسرار الحكم للوقت.

فعلم صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن النفخ الكائن بالكلم في الزمان المنصرم ؛ لا يصلح لاستعداد الزمن الثاني ولا هو محل للتقوّي الروحاني ، فانقضت حكمة التّمام ، حلّ ذلك العقد والنظام ، ولا بد من نقل الأصول من الحبّ والنوى ، ونقل الآباء والأبناء.

قال تعالى : (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ)[هود : ٤٠].

وبما كانت النشأة الآدمية من ماء وطين ، وكانت الحياة القائمة بالروح الحيواني هي بطانة الماء ، والروح بطانة النار ، والماء الذي هو ظاهر الحياة ماسك بزمام الرحمة ، فلك النار الذي هو بطانة الروح ، فلمّا استجيب الدعوة بسرّ الحكمة ؛ أعرضت الحياة التي هي باطن الرحمة ، فانحلّ الزمام الماسك ، ففعلت القوة النارية في الماء الذي تجرّد عن قوّته ، وخلا من مواسك حكمته فسجّره ، وفوّره ، وقطّره ، وفجّره.

١٠٦

فقد توفّاهم الله تعالى من حيث جسدانيتهم في أزمنة مختلفة ، وما توفّاهم من حيث روحانيتهم إلا في زمان واحد ؛ لأن الزمان لا يجري على الأرواح الغير المتحيزة ، فكما أنهم كانوا قبل وجود الزمان من حيث أرواحهم ؛ كحلقة مفرغة لا يدرى أين طرفاها؟ فكذا كانوا بعد وجود الزمان من حيث تعلّق أرواحهم بأبدانهم على هيئة واحدة في الحقيقة ، فكانوا كأنهم توفّوا على وجه المعية ، ثم إن قولهم : وآتنا ما وعدتنا على رسلك.

وأراد بمقتضى الوعد يعني : إذا كان لسان الربوبية قد أعطاهم الوعد ، فلسان العبودية قد أعطى السؤال ، وإلا فالله تعالى لا يخلف الميعاد ، ولا حاجة للسؤال عند حضور الكريم ؛ ولكن من أفراد يعطون جميع المراتب حقها.

سورة النساء

قال الله سبحانه وتعالى : (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) [النساء : ١](١).

__________________

ـ ومن هنا يفهم قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ)[هود : ٤٠] ؛ ولذلك قال تعالى : ( أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً ) [نوح : ٢٥].

وبما أخبر الله تعالى عنهم : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ)[هود : ٣٦] ؛ ولأنه دعاهم بالسنّة الأولى إلى الحكمة الثانية ، ولن يعد امرؤ قدره ، ولا يخالف موضوع سرّه.

وأمّا الذين آمنوا مع نوح ؛ كان لهم مدد من نبوّته ، وخاصية من حقيقته على حكم الندور ، ولما يكون به التأصيل إذا انختم الدور ، ثم يدور وإلا فقد هلكت أنعامهم ، وأنفسهم وأطفالهم ، وغير ذلك مما لا يجري عليه القلم ، وقد أمر نوح أن يحمل معه كل زوجين اثنين ، فما خصوصية هذا الإنعام من تلك الأنعام؟ وتمييز كل زوجين من نوعها وجنسها ؛ وإنما هي حكمة ربّانية وسريرة سريانيّة.

(١) قوله تعالى : (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) [النساء : ١] ؛ وهى حواء.

وقال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها)[الروم : ٢١].

وما أنشأ الله تعالى من كل شيء زوجين ؛ إلا ليعرّف الله العالم بفضل نشأة الإنسان الكامل ؛ ليعلم أن فضله ليس بالجعل الكامل ليعلم أن فضله ليس بالجعل.

فإن الذي هو الإنسان الكامل ظهر به ازدواج من لا يقبل لذاته الازدواج ما هو بالجعل ، فضمن الوجود الإنسان الكامل الظاهر بالصورة ، فصار الصورة بالصورة روحين فخلق آدم علي صورته فظهر في الوجود صورتان متماثلتان كصورة الناظر في المرآة ما هي عينه ولا هي غيره ولكن حقيقة الجسم

١٠٧

اعلم أن الله تعالى خلق آدم من الطين ؛ كإنشاء الفاخوري كوزا أو نحوه منه ،. وخلق حواء من آدم : أي من ضلع من أضلاعه اليسرى ؛ وهي القصيري أسفل الأضلاع ؛ كإنشاء النجّار شيئا من الخشب بنحته وإصلاحه ، ولمّا كانت حواء مخلوقة من ضلع منحية إنحاء الحاء المفردة في الرسم ؛ جعلت الحاء في اسمها ؛ لتدل على الوحدة الواحدية ، كما أن آدم خلق من الأرض البسيطة بساطة الألف ؛ جعلت الألف في اسمه ؛ لتدل على الوحدة الأحدية.

فآدم هي النفس الواحدة التي خلق منها فروعه ، كما أن الألف هو المبتدأ الأول الذي تفصّل منه سائر الحروف بتغيير الصورة ؛ لأن كل حرف من حروف التهجّي رجع إلى صورة الألف ؛ بل إلى صورة النقطة في الحقيقة ؛ لأن الألف مركب من نقاط ثلث ، أو خمس ، أو سبع عدد المعاني الثلاثة التي هي التعيّن الأول الذاتي ، والتعيّن الثاني الصفاتي ، والتعيّن الثالث الأفعالي ، أو عدد الحضرات الخمس ، أو عدد الصفات السبع ، فإذا غيرت صورة الألف المركبة من تلك النقاط ؛ صارت : (أ ب ج د) إلى آخر الحروف ، فالاختلاف في الصورة لم يقدح في الاتحاد في المعنى ؛ ولذا قالوا : أصل العام أمر واحد.

فحواء صورة آدم في المعنى ، وإن كانت مغايرة له في الخارج ببعض الكيفيات لأمر تقتضيه الحكمة الإلهية ، إذ لا ظهور للحقائق المختلفة مادامت الصور متفقة ، ولأمر ما خلق الله آدم أولا ، ثم خلق حواء منه ثانيا ؛ ليظهر الحقيقة الفاعلية والقابلية في أصل واحد ، ومن ثم ضلّ من المفسرين من جعل جزاء مخلوقة من بقى ة تراب آدم ؛ لأنهما إذا وإن كانا يرجعان إلى أصل واحد ؛ وهو الطين ، لكن حينئذ لا يظهر سر حنو أحدهما إلى الآخر ؛ لأن خلقتهما من الطين من القرابة البعيدة لا من القرابة القريبة ، كما في صورة الخلق من الضلع ؛ لأن انحناء الضلع دلّ على الحق ، وكون

__________________

ـ الصقيل أعطى ذلك ، فافهم.

فإنه لب المعارف ، فلمّا أراد سبحانه إيجاد التناسل والتوالد والنكاح الصوري في دار الدنيا للاستئناس ؛ فاستخرج من ضلع آدم عليه‌السلام من أقصره حواء عليهما‌السلام ، فقصرت بذلك عن درجة الرجل.

١٠٨

تلك الضلع ضلعا من أضلاع آدم ؛ دلّ على جزئية حواء لآدم ؛ ولذا مال إليها ميلا كليا ميل الكل إلى جزئه.

ومنه حبب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم النساء ، وظهرت المحبة في آدم دون حواء ؛ لأن آدم موطن حواء ، والمرء لا يتحد بموطنه اتحاد الكل بجزئه ، فاقتضت صفة الحياء المأخوذة من الحي ؛ وهو آدم إخفاء المحبة من جانب حواء.

ولمّا ذكرنا من سرّ الأحدية والواحدية ؛ أنزل الله تعالى حروف التهجّي على آدم ، فكما أن الألف كانت أول الحروف اللفظية ، ثم منها تركّب سائر الحروف على اختلاف هيئاتها. فكذا آدم كان أول حرف معنوي بدأ الله تعالى به سائر الحروف المعنوية ؛ فاشتمل على نقطة ، وحرف ، وكلمة ، وآية ، وسورة.

فكان في مرتبة الشئون الغيبية نقطة ، وفي مرتبة الأعيان الثانية حرفا ، وفي مرتبة الروحانية كلمة ، وفي مرتبة المثالية آية ، وفي مرتبة الحس والجسم سورة ، وكان أوله البسملة والفاتحة المبدوءة بالله ، وآخره الناس ، ففيه سر الألوهية والربوبية مع كونه في صورة الناس ، إذ لا اعتبار بالصورة ؛ بل بالحقائق ، فعليك بالوصول إلى أصلك البسيط ففيه سر اسم المحيط ، وعليك بصلة أمك الواحدية أكثر من صلة أبيك الأحدية ؛ لأنها الواسطة.

وقال الله سبحانه : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) [النساء : ٤] : أي أتوا أيها الأزواج مهور النساء اللآئي أردتم نكاحهن ، كما قال تعالى : (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ) [النساء : ٢٤] ؛ حال كون الصدقات عطية من جانب هذا.

أحد الوجوه في الآية : فإن قلت : لا شك أن المهور واجبة على الأزواج فكيف عبر عن إيتائها بالنحلة ، وجعلها من قبيل العطية؟ قلت : إن النحلة أخص من الهبة ؛ لأنها عطية على سبيل التبرّع من طيب نفس بلا توقع عوض ؛ فأشار بالنحلة إلى أن الإيتاء ينبغي أن يكون عن كمال الرضا ، وطيب الخاطر ؛ وذلك لا ينافي أن يكون المهور واجبة في نفسها ؛ فهي فرض نافلة فأفهم جدا.

وفيه إشارة إلى أن السنن في حكم الفرائض ، فمن اقتصر على الفرائض ، وترك السنن والنوافل ؛ فهو لم يأت بشيء تقتضيه الحكمة ، وذلك أن الفرائض في مقابلة

١٠٩

شكر وجود الواجب ، والنوافل في مقابلة شكر وجود الممكن ؛ لأن الممكن مرآة الواجب ، وللإنسان سرّ الحقيقة الفاعلية التي تبنى عن الوجوب ، وسرّ الحقيقة القابلية التي تفصح عن الإمكان.

فلمّا كانت نشأته جامعة لهذين السرين ؛ اقتضت الحكمة الإلهية أداء الفرائض لأمر الواجب ، وأداء الحق الوجود الواجبي ، وكذا أداء النوافل امتثالا لأمر الممكن اقتضاء لحق الوجود الإمكاني ؛ فكانت الفرائض فرائض صورة ومعنى ، والنوافل نوافل صورة وفرائض معنى ، وللصورة هنا حكم المعنى عند أهل التحقيق يعني : إن للنوافل حكم الفرائض ؛ ولذا كانوا يسارعون في نوافل الخيرات ، فمن لم يعرف سرّ الوجوب في صورة الجواز ؛ مال عن هيئته الروحانية ، وانحرف عمّا يقتضيه نشأته الإنسانية.

ثم إن النساء إشارة على النفوس ، كما أن الأزواج إشارة إلى الأرواح ، والأرواح مزدوجة بالنفوس تحصيلا لولد القلب الذي هو خليفة الله في أرض الوجود ، ولا بد كذلك الأزواج من المهر ؛ وهو إعطاؤها حق التزكية ، وإلا كان قربانها لها زنا وفحشا ؛ لأنه بغير أمر الشرع لبقاء الرياء والمجازية ، وبغير أمر الحقيقة لبقاء الميل إلى الأجانب والأغيار.

ولهذا السرّ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ولدت من نكاح لا من سفاح» (١) : أي من نكاح صحيح في تشريفه وتحقيقه ؛ ولذا كان كل تولّد منه من الأقوال ، والأفعال ، والأحوال ، نتائج حقيقية ينبغي التلقي بقبولها ، والعمل بها في جميع المراتب ، وهكذا حكم الكمّل.

وأمّا من له نكاح شرعي دون حقيقي ؛ فحاله الموافقة للشرع ، ولا ينبغي الاقتداء في كل ما صدر عنه إلا بحسب الصورة الشرعية ؛ لأنه صادر عن نفس وشهادة ، لا عن قلب وغيب ، ومنه يعلم أن التزكية واجبة لكل مكلّف ، كما أن المهر واجب لكل ناكح ، فكما أن النكاح بلا مهر زنا ، فكذا مقاربة النفوس بلا تزكية فحشا حقا ؛ فعليك بالتزكية ، وإياك والبقاء بتعينات النفس ؛ فإنها تعينات

__________________

(١) رواه الطبري في تفسيره (١١ / ٧٦) ، وابن سعد في الطبقات (١ / ٦١).

١١٠

فاسدة يجب إصلاحها ؛ بل إزالتها ، فإنه إذا زالت تعيناتها الفاسدة ؛ بدّلها الله تعالى بالتعينات الصالحة ؛ وهي التعينات التي يتجلّى فيها بحقائق أسمائه وصفاته ؛ فتكون حقه ، والحق لا يصدر عنه إلا الحق ، كما أن الباطل لا يصدر عنه إلا الباطن ، ومن هنا ظهر الحقيقة والمجاز ، والوجوب والجواز ، والحق والباطل ، والله المفضل العادل.

قال في سورة النساء : (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ) [النساء : ٢٤].

وقال تعالى في سورة الأحزاب : (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ) [الأحزاب : ٥٠].

فالمال المفروض في حقّ الأزواج ؛ هو المهر ، وكان الإيجاب من الله تعالى ، والبذل من الناس ، وسمّي المبذول مالا لأن الإنسان يميل إلى المال بالطبع ، ويدّخره لوقت الحاجة ، فإنه فقير بالذات ، محتاج إلى قضاء الحاجات ، وما هو بالطبع لا ينفعك عنه ؛ ولذا مال إليه الخواص أيضا ؛ بمعنى أنهم جعلوه من قبيل الوسائل ، والخدّام ، لا من قبيل المقاصد والمخاديم كما دلّ عليه العوام ؛ ولذا ادّخروه (١).

وأمّا الخواص فقد بذلوه ، وأنفقوه لما أن الله تعالى جعلهم مستخلفين فيه ، ففي

__________________

(١) قال العلواني : فأرواح الصدقات من أرواح الإيمان. وهي أرواح من الإحسان وأرواح من الشكر وأرواح من قصر الأمل وأرواح من مراقبة الرب وأرواح من الرحمة ، فإن الذي يرى روح المسكين في روح المسكنة فيحن له ويواسيه فهو راحم برحمة الله التي عمته وكتبها عليه لكونه على بساط منه.

فويل لروح الغافل عن أرواح التقرب بأرواح الرحمة في أرواح المعروف مع أرواح الحاجات. وأرواح المسكنة وأرواح الفقر إذا كان فيها روح من الطاعة ولو بروح الإيمان المدلول عليه بروح لا إله إلا الله ، وبروح الصلاة وبروح الصدقة.

والصدقة روح فيها روح برهان على روح إيمان المتصدق بالمفروض.

وعلى روح يقين المتصدق بالأرواح النقلية والأرواح بالنية روح بيان في روح إحسان ينبغي للمحسن أن يكون في إحسانه روح نية بأن يكون ذلك الروح المحسن به واصلا إلى أرواح والديه الذين ارتحلوا من هذه الدار وصاروا إلى روح البرزخ فهم على أرواح الانتظار إلى أرواح الأحياء ، فإنهم على أرواح من الأرواح الصالحة.

والأذن واقعة بإفاضة الجودات على أهل الحاجات من الأحياء والأموات ، والله لا يضيع أجر المحسنين. والأرواح كلها لله ولا تقرب إلا على روح من الله. وانظر : الأرواح (ص ٥٨) بتحقيقنا.

١١١

بذله ، وإنفاقه انقطاع عن العلاقة العائقة عن الحق تعالى ، ولمّا كان الاعتدال مما يغتبط به عند أهل الله تعالى أشار إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «أجوع يوما وأشبع يوما» (١).

فالجوع يومين تفريط ، والشبع يومين إفراط ، والميزان الاعتدال ؛ وهو مساواة الكتفين ؛ ولذا كان أكثر أهل الله يفطرون كل ليلة لكن على الاعتدال ، ولا يعملون بالوصال إلا أن يقتضيه الحال.

ثم إن البذل وإن كان له متعلّقات كثيرة شرعية فرضا ونفلا ؛ لكن لمّا كان النكاح أفضل النوافل عند الإمام أبي حنيفة رحمه‌الله ، وكذا عند أهل الله ؛ كان بذل المال له أحبّ وأولى ، وإنما احتاج النكاح إلى البذل ؛ لبيان الحرمة ، وصيانة المرأة عن الابتذال ؛ لأنها مطلوبة ، والمطلوب مطلقا احترام لا يتحقق إلا بالبذل غالبا ، فكان أشرف من المال حتى بذل له.

ولمّا كانت المرأة إشارة إلى سرّه المكنون ، وكان حصوله مما يتوقّف على بذل الوجود ، وما يتعلّق به الذي يميل إليه الإنسان ، ويبخل في بذله ؛ فرض الله على طالب الحق أن يطلب ذلك السرّ المصون ببذل الوجود الذي كان يميل إليه ، وهو له علاقة قوية ، وحجاب كثيف ؛ ولذا قال من قال من الأكابر : كل من خاف على هيكله ؛ لم ير الله جهارا علنا (٢).

__________________

(١) رواه البيهقي في الشعب (٧ / ٣١٠) ، وأبو نعيم في الحلية (٨ / ١٣٣).

(٢) فائدة جليلة : قال العلواني : فصل في روح وصل في أرواح النكاح فإن روح الإرشاد يدخل في كل روح دل لذلك الأرواح الفرقانية ففي روح الإباحة (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) [النساء : ٣]

والأرواح على أقسام فأرواح الصالحين الكمل على أرواح النكاح ولهم من ذلك الذرية الطيبة وهي مطلوب أرواح النبوة لما تحرك في أرواحهم من أرواح الذرات المخزونة بروح الأمر إلى أرواح الأجل فإذا جاءت أرواح الآجال جرت أرواح الأسباب وتواصل الأرواح بأرواح المحبة والمودة حتى يكون وروح العقد فيجري أمر النكاح.

وفي الأرواح المحمدية «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» ليقع روح الفصل بين النكاح وبين السفاح فالسفاح ما كان بلا ولي ولا شاهدي عدل فالشهادة إنما شرعت للوثوق والروح الفاسق لا وثوق بروح شهادته فلهذا الروح قال : الروح المحمدي «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» وفي روح الشاهد حفظ روح النسب فالشاهد على روح النكاح شاهد ينسب من ولد على فراش الرجل

١١٢

__________________

ـ من روح تلك المرأة ويكون روح الشهادة على روح النكاح حفظ حقوق الزوجة وحفظ حقوق الولد وحفظ المواريث بين الزوجين وما ولد لهما.

وكل ذلك يحتاج إلى شاهد تثق به روح الأرواح ولا يكون ذلك إلا بروح العدل والعدل روح من أرواح الحق في بلاده بين أرواح عباده فلا قسم لأرواح الوجود إلا بأرواح العدول فحده أن لا يكون قد ارتكب كبيرة عمدا مع وجود العلم بالحرمة وأن لا يصر على صغيرة ولا يكون هذا الروح إلا في روح آمن بالله وكان بروح الإيمان له خوف من الله فلو قدم غريب إلى روح بلد ومعه حرمة وقال إنها زوجته صدقناه وقلت حكم الزوجية بعد ذلك إذا قالت الزوجة مثل ذلك ولا يجوز روح التجسس عليهما بل يتركان فإن ظهر ما هو خلاف الواقع فله حكمه وقد وقع مثل ذلك لروح الإمام عمر فإنه رأى رجلا في طريق يتكلم مع امرأة فقال مالك تكلم هذا المرأة في طريق الناس وضربه بالدرة على روح الظن أنها أجنبية فقال الرجل هي زوجتي يا أمير المؤمنين. فرمى الإمام إليه الدرة وقال اضربني على روح ما ضربتك أو تعفو فقال : عفوت يا أمير المؤمنين.

ولا يكون روح الفصل بين البهائم وبين الأرواح البشرية إلا بعقد النكاح بالولي وشاهدي العدل وبالمهر الذي هو الصداق حتى لو أسقطته البالغة العاقلة قبل العقد بأن قالت للولي اعقد علي لفلان بدون شيء فعقد صح العقد.

فإن دخل بها لزمه مهر المثل فإن أسقطته بعد ذلك كان أبرأ من حق مقدر لها شرعا فمهر المثل يدخل في ملك المستحقة له فهو كالإرث فإنه مقدار شرعا وكل حق ترتب بوجه الشخص على شخص علم ذلك الروح من البشر أم جهل كان ذلك الروح من الأمر من جملة حقوقه فيكون له المطالبة في روح الآخرة بحقه أو يكون من العفو وهيهات في تلك الدار مع وجود الحاجات ومقاسات الشدائد روح من الأمثلة في روح ما ذكرناه.

وذلك مثلان يذكر شخص بين يديك وهو غائب فتقع في عرضه في عرض زوجته في عرض ولده في عرض جده في عرض جيرانه دخلت كرما بستانا طاحونا بغير عرض دار إذا كان بغير إذن ولا علم من المالك ترتب عليك في ذلك حق بعد حق بعد حق فيكون أنت قد أفقرت نفسك وضيعت راحتك وصرت رهين أرباب فملك الحقوق حتى يكون الأخذ من حسناتك إلى روح فراغها ثم يكون الطرح عليك من أرباب المظالم حتى لا يبقى لك روح من الطاعة وتلقى في النار مع أرواح الفجار (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)[ق : ٣٠].

هل عندكم من زيادة (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ)[ق : ٣١] أي ذلك الموعود غير بعيد فهو قريب (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً)[المعارج : ٦ ـ ٧] بروح الإلزام لأرواح الاحترام.

فمن كان له روح احترام لمحارم الله تعالى كان له روح إكرام منه على ممر أرواح الدهور والجمع والأيام والسنين والشهور فما هي إلا روح صبر ساعة وراحة أرواح الأمد فما روح التقوى إلا روح الصبر على أرواح مسمى المأمورات وروح الصبر عن ارتكاب ظلمات المنهيات وروح الأمر

١١٣

__________________

ـ سهل على من سهله الله عليه ومن كان له روح تجريد بروح من أرواح الخيال وصور سراب المحال لا يكون عليه كلفة في أرواح المأمورات ولا في ترك أرواح المنهيات المحال لا لسلامة روحه بروح التجريد من أرواح العقابات وأرواح النفوس المقيمة على سواحل الطبع البشري.

والأصل الطبيعي العنصري فلم يكن في وجوده فلم تصله سر من أسرار التحويل فهو على روح الجهل واقف وعلى سراب القطيعة عاكف وارد من الأسرار بروح من الاعتبار إذا وردت على الروح الإنساني روح الحياة بروح الولي الحميد وهو الرحمة المنشورة وأصل روحه تبرز من روح القلب وتنتشر في روح العالم على روح الإطلاق في سائر الأرواح وأرواحها العنصرية.

وما كان من كل روح ما كان فتكون كل أرواح الوجود تكوينا على روح التجديد بروح الحياة التي هي الرحمة المنشورة في أرواح العالم من روح قلب سر صاحب السر وهو الإنسان الكامل بروح لولي الولي الحميد فروح الولي الحميد لا ينشر الرحمة في أرواح الوجود إلا من روح قلب الإنسان الكامل صاحب سر الحياة.

وهذه هي عين الحضرة المطلوبة لأكابر ولا يعرضها إلا من شهدها وكل ما لم يكن مشهودا فهو في روح الجحود خصوصا إذا لم يقم عليه دليل كالجليل فروح هذا المشهد في الروح الإنساني روح قابض بأرواح التعمير لأرواح الوجود بأرواح الحياة التجديدية وفي الأرواح المحمدية أنه «ما قرن إلا ويرسل على رأسه من يجدد لهذه الأمة أمر دينها» وما هو إلا هذا التجديد بروح الحياة.

والمجدد هو الإنسان الكامل الذي أفاض الله من قلبه أرواح الحياة فانتشرت في أرواح الوجود من روح سره الممد من روح الولي الحميد فيكون التجديد في أرواح الوجود من هذا الكامل والإنسان الواصل فما يكون من السحاب والزروع والفروع ودوران الأفلاك إلا بروح الحياة الفائضة المنشورة في أرواح الوجود من روح المجدد المرسل على كل قرن قد درست أرواح حياته وبقي على أرواح من الإنارة من ذلك روح الجهل وأرواح الطغيان.

ومن هذا الروح المنصوب تمد أرواح الدين وأرواح الدنيا فيدوم روح الإسلام بمواصلات أرواح التجديد بالروح الجديد إلا أن روح التجديد الفائض من روح المجدد يكون على أرواح من الزيادة وأرواح من النقص وأرواح من الفترة كما كان يفتر الوحي عن الروح المحمدي.

وكذلك أرواح الولاية لها أرواح من الفترة ومن علامات تلك الفترة وقوع الخلل في أرواح الوجود عند روح الفترة فأول روح يقع من أرواح الخصب وأرواح الحياة إنما يقع في روح الإنسان الكامل ثم منه تنتشر الرحمة في أرواح الوجود وأول روح يقع من أرواح القحط إنما يقع في روح الإنسان الكامل ثم ينتشر في أرواح الوجود وذلك الولي عارف بأرواح هذه التصاريف لا يفوته دقيقة ولا رقيقة من أرواح الرضوان ولا من أرواح السخط ولا من أرواح الفتح ولا من أرواح الغلق فكل روح مسرة في الوجود فضلته فسائر ما يكون في أرواح الوجود على أرواح التفصيل وعلى أرواح الإجمال من كل روح موافق ومن كل روح مخالفة من أرواح فضلاته التي أمده بها

١١٤

__________________

ـ الولي الحميد فالسر عند هذا الروح الكامل على روح العارية.

وإنما هو روح الحق على روح الصدق ولكن بذلك جرت الأسرار ووقع الإكرام لهذه الأرواح الطاهرة بأرواح هذه الحياة الفائضة في أرواح الوجود على روح الإكرام والولاية لا على أرواح القدرة بروح الأصالة (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ)[البقرة : ١٥٠] ، (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ)[العنكبوت : ٤٣] ، فما ذكرناه إنما ذكرناه إنما هو روح من التعمير لأرواح الوجود بأرواح الحال الفائضة من أرواح الجمال على روح الإكرام فلا يكن منك روح من الغلط فإن أرواح الحق واسعة.

وطبقات أرواحه شاسعة ولسعة أرواح الحق شرعت أرواح النكاح لسعة أرواح التصريف في أرواح ـ أرواح مختلفة على أرواح مؤتلفة فروح النكاح يشرع فيه روح النظر فهي إلى الوجه وإلى روح الكفير.

وطار طائر الحب فوقع على روح القلب من روح تلك الروح المرئية.

وفصل بروح الوجه وروح القبول وبروح (٢) أرواح الوصول كان ذلك كروح الأساس للحبر المدارس العارف بقواعد التورية وما فيها من أرواح الآيات وأرواح الأنات إنما كانت من الأحرف مركبات فظهرت منها أرواح المعاني بالنظر في أرواح تلك المباني.

وكذلك الناظر في أرواح الوجه والكفين من روح امرأة على روح أن يتخذها زوجة وذلك بروح محمدي على روح من الندب لا على روح الوجوب ولا على روح الإباحة ولا على روح حرمة.

وذلك مثل روح النظر في روح المتاع لروح المشتري حتى يقع روح الشراء على روح الرضا وكل ما كان على روح الرضا كانت عاقبته العيشة الراضية ، وما كان على روح الكراهة في البداية كان على روح الكراهة ، فلا يصح البيع بدون أن ترى ويصح النكاح بدون أن ترى إلا أنه يكون على روح من الكراهة فلا يقع بعد ذلك أو روح من الموافقة لمخالفة الحكمة.

والأرواح المحمدية التي فصلت عندها أرواح الطبائع وكل أرض يليق بها من أرواح النبات ما يليق وليس السر في روح الأرواح الذاتية إلا لأن تتناهى أرواح النظر في أرواح المحاسن ، وأرواح الجمال الظاهر في روح هذا العالم الظاهر فإذا تمت أرواح الأذواق من أرواح طعوم حلاوات كمالات أرواح المحاسن على سائر أرواح تفانينها ظهرت أرواح الذات بأرواح من الإطلاق في أرواح من التجلي لا يبقي معها صورة كمال ولا روح من أرواح الجمال.

فكذلك يكون في أرواح الآخرة للأرواح الإنسانية أرواح من السكر (٢) وأرواح من الغيبة ثم يكون لهم صحو وسكر وشرب وكمال في درجات أرواح شهودهم لإتيانها في روح ظاهر ذلك العالم الذي هو روح باطن هذا العالم فعلى مقدار ما تسلك وتذوق وتشهد في روح السر بغير روح من النهاية.

فكذلك في أرواح الآخرة يكون الأمر على روح الظاهر على غير حد ولا روح من أرواح النهاية

١١٥

__________________

ـ أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وذلك من روح الإجلال لأرواح الكمل بأرواح المواهب على حسب روح أرواح إجلالهم إياه في أرواح عوالم المكاسب فقدموا ما في أيديكم لما بين يديكم (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً)[المزمل : ٢٠] فأرواح النكاح أرواح تقديم لما بين يدي أرواح الآخرة فإن من ذلك روح الولد الصالح والأخ الصالح والأخت الصالحة.

وفي ذلك من أرواح التعارف وأرواح القرابة وأرواح الأمومة وأرواح الأبوة وأرواح العمومة وأرواح الأخوال وأرواح الخالات ، وأرواح الجدات وكم في ذلك من أرواح المواصلات بأرواح الرحمة بأرواح الدعوات بأرواح الصدقات بأرواح التربية بأرواح الحزن بأرواح البكاء على أرواح الأولاد وليس في ذلك من النقص.

وفي الأرواح المحمدية «إن العين لتدمع وإن القلب ليخشع وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون» فالحزن والبكاء المضحك والسرور من كمال الروح الإنساني وبذلك تميز على الروح الحيواني وله خواص تميز بها عن أرواح الملائكة وهي أرواح النكاح المتميز بأرواح عن أرواح نكاح الحيوانات على أرواح من الستر.

وذلك روح من الكمال في الروح الإنساني ، وما كان مختصا بروح؟ خمن العلم على روح من الذوق كان أكثر عرفانا بأرواح الحقائق فكمال الرحمة في الأرواح البشرية بأرواح النكاح فالفخر في الآخرة لأرواح الذرية الطيبة ولو بأرواح الإفراط ، فالأرواح الطيبة يشفع بعضها لبعض ويرحم بعضها ويكرم البعض منهم من أجل روح البعض فسر التوالد روح مفصل في أرواح الرحمة ولا يفتر عن أرواح التفصيل في أرواح المواصلات في الأنفس الطيبة وغيرها والكل على ساحل الفقر في ساحة الكرم عند الملك الأكبر فما أرواح الذل في أرواح العز وما أرواح الفقر في أرواح الغنى وما أرواح العجز في أرواح القدرة فما وعزته شرع التوالد إلا لأرواح الرحمة بأرواح العطف وأرواح اللطف.

فيا أيها الروح الغافل تقرب إلى هذا السيد ولو بصلاة ركعتين في روح من ليل أو في روح من النهار فإنه سيدك وإليه مردك فلا تغتر ولو باليسير فإنه الغني يرضى منك ولو بالسير فيقول عبدي ذكرني على أرواح ضعفه عبدي ذكرني على أرواح شغله عبدي ذكرني على أرواح فقره عبدي ذكرني على أرواح حاجاته وعزتي وجلالي إنه العزيز عندي وإن أهنته وإن أذقته من مرارات الفقر ومن مرارات عسر الدنيا فله عندي ما يحب ويرضى فهو عبدي وأنا سيده.

فيأيها العبد لو سمعت صريح الخطاب لتفطرت منك أرواح الألباب لو رأيت المولود وقد قال له الملك الودود : اذهب وخد بيد أبيك وادخل به الجنة لاشتهيت الولد فذلك من رحمة الله بأرواح الوالدين وعزته وجلاله إنه بعباده رءوف رحيم لا يزال يسيرهم على أرواح الجود وعلى أرواح الكرم وعلى أرواح الفضل وعلى أرواح العفو ويا ليت شعري ما الروح الضعيف في أرواح العقوبات.

فيا رحمن أنت صاحب الرحمة الواسعة لا تكل البعض إلى البعض فيشقوا وكن أنت لهم ليبقوا.

١١٦

ولمّا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم درجة زائدة على أمته ؛ أحلّ الله تعالى له المرأة التي وهبت نفسها له : أي ملّكته بضعها بلا مهر ، فكان ذلك خاصا له من دون المؤمنين من

__________________

ـ فروح النكاح روح ستر وأرواح أجر وروح تعارف على أرواح البر والتقوى وروح السلامة في أرواح المتابعة فمن رغب عن السنة فهو الناقص بلا منة والتارك عجزا أو لعذر ليس براغب عن أرواح السنة ، ومما يكون من أرواح المعونة خفة أرواح الموعدة.

فلا يتزوج الروح الإنساني بروح شيطاني وهو الروح الكثير المؤنة وقد كانت أرواح جهاز فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين بعد مريم معلومة لأرواح الناس فلم يكن هناك مزركشا ولا مصاغا ولا فرشا وطية ولا شيء من أحوال المترفين.

وفي روح يوم حابسي فطلبت منه فاطمة جارية للخدمة فلم يسمح لها بذلك رسول الله ثم جاءها من الليل فقال لها ولعلي ألا أعلمكما ما هو خير لكما من خادم فعلمهما أن يسبحا ثلاثا وثلاثين ويحمدا ثلاثا وثلاثين ويكبرا ثلاثا وثلاثين ثم يكون الختام لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير.

فقد كان روح نظره الكريم إلى أرواح الآخرة لا إلى أرواح الدنيا فإن النازل فيها على حد الترحل عنها لا على حد الإقامة روح إشارة فيها كفاية عن أرواح العبارة في روح قوله (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ)[النساء : ٣] لا تقربوا غير النساء فإن ذلك عليكم محرما كحرمة أن تقربوا النساء بغير حق ولا عقد بشرطه.

وفي الأرواح المحمدية «يا معشر الشبان تزوجوا فمن لم يستطع فعليه بالصوم». كل ذلك حرص من روحه الكريمة على هذه الأمة المرحومة حتى لا تكون على روح من أرواح النقص فتكون كاملة الاعتبار في الأسماع والأبصار بأرواح المشاهدة وأرواح الأخبار ووليمة العرس سنة وتجوز قبل الدخول وبعد الدخول على خلاف ما اعتاد الناس ، ولا تفوت بمال فإن وقتها العمر كالعقيقة ففي أي وقت يمكن فعلها والذي يظهر أنها روح من الشكر على روح نعمة التأهل.

فإن التأهل من أرواح النعم الكبار ولذلك شرع أن يكون شكر هذه النعمة وليمة ولو بشاة وإن خير الولائم وليمة العرس التي يدعى إليها الفقراء ولذلك قال أرواح من أهل العلم يستحب أن يطعم الفقراء أولا ثم يشرع في بقايا الناس على أرواح طبقاتهم ، وإذا كان النكاح نعمة فلا يكون لها مقابلة إلا بروح الشكر فكيف يصح أن يشكر النعم بالمحارم فلا ينبغي أن تفرش البيوت والحرير إلا أن يكون من فرش المرأة ولا يحل نصب صور الحيوان على أرواح الجدران ومن ترك شيئا لله عوضه خيرا منه وشر الطعام طعام الولائم الذين تأكل منه الأغنياء دون الفقراء فزن واحفظ على نفسك كما تحفظ لها ، فإنك ملاق ما أنت له صانع.

١١٧

أمته الحقيقة والحكمية (١).

__________________

(١) قال ابن طولون : واختص صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإباحة النكاح له من غير إيجاب مهر عليه لا في الابتداء ولا في الانتهاء. عند أبي حنيفة وجمهور الشافعية ، وحكى الحناطي منهم وجها غريبا : وجوب المهر ، واستدلوا للأول بقوله تعالى : (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ) [الأحزاب : ٥٠] ؛ إذ الهبة تغني عن البدل ، ولأن المقصود منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم التوصل إلى ثواب الله تعالى ، فوسع عليه الأمر حتى لا يتعذر عليه ذلك.

واختلف العلماء هل كانت عنده امرأة موهوبة أم لا؟ ومبنى ذلك على القراءة في قوله تعالى : (إن وهبت نفسها للنبي) هل هي بكسر إن أو بفتحها؟ فقراء الجمهور : وامرأة مؤمنة : (بالنصب) إن وهبت (بكسر الهمزة) : أي أحللناها لك إن وهبت نفسها إن أرادت استنكاحها ، فهما شرطان : الثاني منهما في معنى الحال ، وهو شرط في إحلال هبتها نفسها ، وفي الهبة إرادة استنكاح النبي كأنه قال : أحللناها لك إن وهبت لك نفسها ، وأنها تريد أن تستنكحها ؛ لأن إرادته هي قبول الهبة وما به تتم ، وهذان الشرطان نظير الشرطين في قوله : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ)[هود : ٣٤] ، وإذا اجتمع الشرطان فالثاني شرط في الأول متأخر في اللفظ متقدم في الوقوع ما لم تدل قرينة على الترتيب نحو إن تزوجتك إن طلقتك فعبدي حر.

والقراءة الثانية : بفتح الهمزة قرأ بها أبي والحسن والشعبي وغيرهم وتقديرها : لأن وهبت نفسها ، وهو فعل ماض في أمر قد وقع ، وقراءة الكسر : استقبال في كل امرأة كانت تهب نفسها دون واحدة بعينها ، وقرأ زيد بن علي : (إذ وهبت) وإذ ظرف لما مضى فهو في امرأة بعينها ، وقرأ أبو حيوة : (وامرأة مؤمنة) بالرفع على الابتداء ، والخبر محذوف : أي أحللناها لك ، وقرأ الجمهور : (خالصة) بالنصب ، وهو مصدر مؤكد بمعنى خلوصا منصوب على أنه مفعول مطلق ، وقرئ : (خالصة لك) بالرفع.

قال أبو حيان : الظاهر أن قوله : (خالصة لك) من صفة الواهبة نفسها لك ، فقراءة النصب على ما قاله الزجاج : أي أحللناها خالصة لك ، والرفع : خبر مبتدأ محذوف : أي خالصة لك : أي هبة النساء أنفسهن مختص بك ، لا يجوز أن تهب المرأة نفسها لغيرك ، فأجمعوا على أن ذلك غير جائز لغيره إذا علمت هذا فمن قرأ بالكسر وجعله شرطا مستقبلا قال : لم يكن عنده امرأة موهوبة ، وبه قال مجاهد ، ومن قرأها بالفتح وجعله خبرا عن ماض قال : كانت عنده امرأة وهبت له نفسها ، وقد اختلف في تعيينها ، فقيل هي أم شريك بنت جابر بن ضباب ، وهو قول عروة بن الزبير ومقاتل والضحاك وعلي بن الحسين وغيرهم ، أخرج النسائي حديثها عن هشام بن عروة عن أبيه عن أم شريك أنها كانت فيمن وهبت نفسها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد اختلف في اسمها ونسبها ، فقيل اسمها غزية وقيل غزيلة بضم الغين المعجمة وزاي فيها ، وأما نسبها فقيل فيها قرشية عامرية ، وقيل أنصارية ، وقيل الواهبة : ميمونة بنت الحارث ، قاله ابن عباس. وقال الشعبي : هي زينب بنت خزيمة الأنصارية أم المساكين ، وقيل : هي فاطمة بنت شريح ، وقيل : خولة بنت حكيم ، ففي الصحيحين عن عائشة قالت : كانت خولة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت عائشة : أما

١١٨

وأعنى بالحكمية : الأمم المتقدّمة ، والقرون الماضية ، حتى يروى أن الله تعالى جعل مهر حواء ـ عليهاالسّلام ـ عشر صلوات على نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فإن قلت : فما فضل الله تعالى وإنعامه على عباده في ذلك إذا كان الكل مطلوبا بالمال مع أنه ذو الوجود والمنّة؟.

قلت : لا شك ان المرأة المنكوحة تبتغى بالمال ، وأمّا الملك فقد يكون بغير المال ، كما إذا كانت الجارية موروثة أو موهوبة ، فالله تعالى يهب لمن يشاء ما يشاء من العلوم الفاضلة ، والحقائق الزائدة التي من حور مقصورات في الخيام ، فللعبد ما يملكه ، ويبتغيه بالمال.

وإليه الإشارة بقوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم : ٣٩].

وهو في مرتبة الشريعة ، والطريقة الحاصلة بالنفس ، والقالب وسعيهما ، وله أيضا ما ينال إليه بدونه.

وإليه الإشارة بقوله تعالى : (لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) [الحديد : ١٩].

فإن النور إشارة إلى ما ذكرنا ، والله يختص برحمته من يشاء.

وقال الله سبحانه : (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [النساء : ٢٦] ؛ فيه إشارة إلى الهداية الخاصة الذي اختص بها المقربون ؛ لأن قوله : (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أريد به الأفراد الكاملون ، وسنن الخواص خاصة اختصاصية من قبل الله تعالى ، فكانت الهداية إليها هداية خاصة.

ونظيره قوله تعالى : (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠] : أي اقتد بأقوالهم الحسنة ، وأفعالهم المرضية ، وأحوالهم الشريفة ، فإن الأنبياء كانوا صادقين في أقوالهم ؛

__________________

ـ تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل فلما نزلت (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ)[الأحزاب : ٥١] قلت : يا رسول الله ، ما أرى ربك إلا يسارع في هواك ،.

وهذا يدل على أن قوله : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ) : أي تؤخر من تشاء من الواهبات فلا تقبل هبتها (وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ)[الأحزاب : ٥١] : أي بقبول هبتها ، وقيل غير ذلك ، والله أعلم.

وانظر : مرشد المحتار (ص ١٧٥) بتحقيقنا.

١١٩

ولذا لم يكذّبهم أحد إلا هلك ، وعلى هديّ في أفعالهم ؛ ولذا من اقتدى بهم في ذلك ؛ اهتدى إلى الدرجات العالية ، وارتقى إلى المراقي الصاعدة ، وعلى حقيقة في أفعالهم الباطنة.

ولذا من اتبعهم على بصيرة في رياضاتهم ومجاهداتهم ؛ تشرّف بأنواع المكاشفات والمشاهدات والمعاينات التي هي نتائج التجلّي الأفعالي ، والصفاتي ، والذاتي ، ومنه التجلّيات كلها حاصلة لجميع الأنبياء ، والمرسلين ، ومن تبعهم من الكمّل.

وأمّا أمم الأنبياء فمتفاوتون في الدرجات ، وهذه الأمة المرحومة أعلى طبقة منهم أجمعين ؛ لأن منهم من وصل إلى التجلّي الذاتي بالفعل والتفضيل بخلاف خواص سائر الأمم ، فإن الواصل منهم إلى تلك المرتبة الجليلة إنما وصل من مقام الإجمال والقوة ، فأين هم من هذه الأمة؟.

ولذلك لا يقتضي نقصانا لأنبيائهم ، فإن الدعوة حاصلة في جميع المراتب ؛ لكن لمّا كانت الاستعدادات متفاوتة وناقصة ؛ لم يحصل من الدعوة إلا بعض آثارها ، فذلك يرجع إلى نقصان في استعدادهم لا إلى نقصان غيرهم.

إذ ليس للداعين نقصان في ذلك أصلا ؛ إذ الدعوة إنما هي بعد الوصول إلى الله تعالى في جميع المراتب ، نعم فرق نبي ونبي ، وكذا نبي ورسول ، وكذا بين رسول وبين واحد من أولي العزم ، وكذا بين نبينا وبين سائر الأنبياء عليهم‌السلام ، كما يدلّ عليه قوله تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) [البقرة : ٢٥٣].

ثم إن هدى الأولين إنما يتبع من حيث إنه هدى مأمور به في هذه الشريعة المحمّدية ، قد يكون الخطاب في الآية لمن جاء بعد الصدر الأول من هذه الأمة إلى يوم القيامة ، وذلك من طريق الإشارة والوارد ، فيكون أكامل هذه الأمة الجاثية عصرا بعد عصر مهتدين إلى سنن الصدر الأول ، وهو أتم من الهداية إلى سنن الأولين ؛ لأن الأولين كما عرفت لم يبلغ درجتهم درجة هذه الأمة.

والحاصل : إن هذه الأمة مهدية إلى سنن الأولين ، ومع هذا أعطاهم الله تعالى سننا أخرى من حيث اتباعهم نبيهم الأفضل بما أحرزوا جميع السنن المرضية فعلا

١٢٠