إعراب القراءات السبع وعللها - ج ٢

الحسين بن أحمد بن خالويه الهمذاني النحوي الشافعي

إعراب القراءات السبع وعللها - ج ٢

المؤلف:

الحسين بن أحمد بن خالويه الهمذاني النحوي الشافعي


المحقق: الدكتور عبدالرحمن بن سليمان العثيمين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الخانجي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
977-5046-07-6

الصفحات: ٦٧٣
الجزء ١ الجزء ٢

وقرأ الباقون بالتاء لتأنيث : (الْخِيَرَةُ) ومن العرب من يسكن الياء ، فيقول : خيرة. فأمّا الخير فجمع خيرة ، والخير بتسكين الياء : الكرم ، والأصل [أن] يقال : فلان كريم الخير والخيم ، قال المنخّل (١) :

 إن كنت عاذلتى فسيرى

نحو العراق ولا تحورى

لا تسألى عن جلّ مالى

وانظرى حسبى وخيرى

فأمّا قوله (٢) : (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) فالواحدة خير بسكون الياء وفتح الخاء. وروى (٣) : فيهنّ خيِّرات حسان فالواحدة خيّرة ، والمذكّر خيّر مثل سيّد. فأمّا الخير فجمعه خيور مثل بحر وبحور. وأمّا قوله تعالى (٤) : (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) فجمع خير.

٦ ـ وقوله تعالى : (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) [٤٠].

قرأ عاصم وحده : (وَخاتَمَ) بفتح التاء ، واحتج بأن عليّا رضى الله عنه مرّ بأبى عبد الرّحمن السّلمىّ ، وهو يقرىء الحسن والحسين عليهما‌السلام ولكن رسول الله وخاتِم النّبيّين فقال عبد الله بن حبيب أقرئهما : (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) بفتح التاء.

__________________

(١) من قصيدة له فى الحماسة (رواية الجواليقى) : ١٤٩ وينظر شرحها للمرزوقى : ٢ / ٥٢٣.

(٢) سورة الرحمن : آية : ٧٠.

(٣) القراءة فى معانى القرآن للفراء : ٣ / ١٢٠ ، وتفسير القرطبى : ١٧ / ١٩١ ، والبحر المحيط : ٨ / ١٩٩.

(٤) سورة ص : آية : ٤٧.

٢٠١

وقرأ الباقون : وخاتِم بالكسر ، وهو الاختيار ؛ لأنّه فاعل من ختم / الأنبياء ، فهو خاتمهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل جمعهم فهو جامعهم. والحجّة فى ذلك : أن ابن مسعود قرأ (١) : ولكن [نّبيّا] ختم النّبيين إلا أن يصحّ الخبر عن علىّ رضى الله عنه ، وإنكاره على أبى عبد الرحمن فيصير الاختيار الفتحة كما قال علىّ رضى الله عنه. فأمّا الخاتم الذى يلبس فى الأصبع فيقال له : الخاتم ، والخاتم ، مثل الدّانق والدّانق والطّابق والطّابق وسمعت ابن حبّان يقول : فيه أربع لغات ، خاتم وخاتم ، وخاتام وخيتام ، وينشد (٢) :

يا خدل ذات الجورب المنشقّ

أخذت خاتامى بغير حقّ

ويقال : تختّم : إذا تعمم ، وجاء فلان متختما أى : متعمما ، ويقال لخاتم الملك خاصة : الحلق ، وينشد (٣) :

وأعطي منّا الحلق أبيض ماجد

ربيب ملوك ما تغبّ نوافله

فإن قيل : بما انتصب (رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ)؟

فقل : بإضمار «كان» إذ كان نسقا على «كان» والتقدير : ولكن كان رسول الله وخاتم النّبيين.

__________________

(١) إعراب القرآن للنحاس : ٢ / ٦٣٩ ، وتفسير القرطبى : ١٤ / ١٩٧.

(٢) المقتضب : ٢ / ٢٥٨ ، وشرح المفصل لابن يعيش : ٥ / ٥٣ ، واللسان (ختم) وشرح شواهد الشافية : ١٤١.

(٣) أنشده ابن سيده فى المحكم : ٣ / ٥ ، وعنه فى اللسان (حلق) ، ولم ينسباه.

٢٠٢

وروى عبد الوارث عن أبى عمرو ولكنَّ رسول الله بتشديد النون. ف (رَسُولَ اللهِ) فى هذه القراءة ينتصب ب «لكنّ» المشددة.

وسمعت ابن مجاهد يقول : لو قرأ قارىء : ولكن رسولُ الله وخاتمُ النّبيّين بالرفع لكان صوابا ، على تقدير : ما كان محمدا أبا أحد من رجالكم ولكن هو رسول الله وخاتم النّبيّين.

٧ ـ وقوله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) [٤٩].

قرأ حمزة والكسائى : تماسّوهنّ بألف.

والباقون بغير ألف. وقد ذكرت / علته فى (البقرة).

٨ ـ وقوله تعالى : (تَعْتَدُّونَها) [٤٩].

روى ابن أبى بزة عن ابن كثير تعتدُونها خفيفا.

قال ابن مجاهد : وهو غلط.

وقرأ الباقون بالتّشديد ، وهو الصّواب ؛ لأنّ وزنه تفتعلونها فأدغمت التاء فى الدّال ، فالتّشديد من جلل ذلك.

٩ ـ وقوله تعالى : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ) [٥١].

قرأ نافع وحمزة والكسائىّ وحفص بترك الهمزة. ومعناه : تؤخّر.

وقرأ الباقون بالهمز ، وهما لغتان : أرجأت ، وأرجيت ويجوز لمن ترك الهمز أن يكون أراد الهمز فلين ، كما يقال : أقرأت الكتاب ، وأقريته ، فيحولون الهمزة ياء.

فإن سأل سائل عن قوله تعالى : (وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) فقال أبو عمرو : تلين الهمزة الساكنة نحو : (يُؤْتُونَ) و (يُؤْمِنُونَ) و (تُؤْثِرُونَ) فهل يجوز ترك الهمزة هاهنا؟

٢٠٣

فقل : إنّ أبا عمرو ترك الهمز فى (يُؤْمِنُونَ) و (يُؤْثِرُونَ) تخفيفا ، فإذا كان ترك الهمز أثقل من الهمز لم يدع الهمزة ألا ترى أنّك لو ليّنت (وَتُؤْوِي) لالتقى واوان قبلهما ضمة ، فثقلت. فترك الهمز فيه خطأ.

١٠ ـ وقوله تعالى : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) [٥٢].

قرأ أبو عمرو وحده بالتاء.

وقرأ الباقون بالياء. فمن ذكّره قال : شاهده : (وَقالَ نِسْوَةٌ)(١) ولم يقل : وقالت ، ومن أنّث قال : النّسوة جمع قليل والعرب تقول : قام الجوارى إذا كنّ قليلات ، وقامت ؛ إذا كنّ كثيرات. وهذا مذهب الكوفيين ، فقيل لثعلب : لم ذكّر إذا كان قليلا؟

فقال : لأنّ القليل قبل الكثير ، كما أنّ المذكّر قبل المؤنث فجعلوه الأول للأول. وهذا لطيف حسن ، قال الشاعر (٢) : /

فإن تكن النّساء مخبّآت

فحقّ لكلّ محصنة هداء

 ....................

 ............. (فداء)

وقال البصريّون : النّساء ، والنّسوة ، والرّجال فى الجمع سواء ، والتّذكير والتّأنيث سواء. فتقول العرب : قام الرّجال وقامت الرّجال ، وقال النّساء وقالت

__________________

(١) سورة يوسف : آية : ٣٠.

(٢) البيت لزهير بن أبي سلمى المزنى فى شرح ديوانه : ٧٤ من قصيدته التى أولها :

عفا من آل فاطمة الحواء

فيمن فالقوادم فالحساء

فذو هاش فميث عريتنات

عفتها الرّيح بعدك والسّماء

٢٠٤

النّساء ، إنما يريد قامت جماعة الرّجال ، وجماعة النّساء ، وتأنيث الجماعة غير حقيقىّ فتؤنث على اللّفظ تارة ، وتذكر على المعنى أخرى.

فيه جواب رابع : قال بعض المشيخة : الاختيار الياء فى : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ) لأنّه أراد : لا يحل لك شىء من النّساء كما قال (١) : (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها) وإنما التّقدير : لم ينال الله شيئا من لحومها.

١١ ـ وقوله تعالى : (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَ) [٥٢].

قرأ ابن كثير بالتّشديد برواية البزى.

والباقون بالتّخفيف.

١٢ ـ وقوله تعالى : (غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) [٥٣].

قرأ حمزة والكسائيّ وهشام : إنيه بالامالة ، لأنه من أنى يأنى : إذا انتهى نضجه ، وبلوغ غايته (٢). فالهاء كناية عن الطّعام ، وكان ابن كثير يلحق الهاء واوا على ما شرط. فيقول إناهو.

وقرأ الباقون بالتّفخيم ؛ لأنّ الياء قد انقلبت ألفا والأصل : أنية و (غَيْرَ ناظِرِينَ) نصب على الحال ، أى : غير منتظرين نضجه ، تقول العرب : أنى لك أن تفعل ذلك يأنى أى : حان وقرب من قوله (٣) : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا) وونى زيد ينى : ضعف من قوله (٤) : (وَلا تَنِيا) والأمر : ن يازيد ، بنون

__________________

(١) سورة الحج : آية : ٣٧.

(٢) تفسير الطبرى : ٢٢ / ٢٥ ، والقرطبى : ١٤ / ٢٢٦ ، والبحر المحيط : ٧ / ٢٤٦.

(٣) سورة الحديد : آية : ١٦.

(٤) سورة طه : آية : ٤٢.

٢٠٥

مكسورة فقط مثل ع كلامى ، وش ثوبك ، من وعى يعى ووشى يشى فإذا وقفت قلت فى هذا كله : نه وعه وشه. والأمر من أنى يأنى إئن يازيد مثل ايت ، لأن يأنى / مثل يأتى.

١٣ ـ وقوله تعالى : (إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا) [٦٧].

قرأ ابن عامر وحده : ساداتنا بالألف وكسر التاء ، كأنه جعله جمع الجمع ؛ لأن سادة جمع سيّد ، وسادات جمع الجمع ، فسادة جمع التكسير يجرى آخره ، بوجوه الإعراب ، ومن قال : سادات فهو جمع السّلامة نصبه كجرّه ، فالتاء مكسورة فى حال النصب ، كقولك : رأيت بناتك و : (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً)(١).

وحدّثنى أحمد عن علىّ عن أبى عبيد أنّ الحسين قرأ (٢) : أطعنا ساداتنا مثل ابن عامر.

١٤ ـ وقوله تعالى : (وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) [٦٨].

قرأ عاصم وابن عامر بالباء.

وقرأ الباقون : كثيرا بالثّاء ، وقد أنبأت عن علته فى (البقرة) عند قوله (٣) : (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) ومعنى اللّعن فى اللّغة : الطّرد.

__________________

(١) سورة الأنبياء : آية : ٣٠.

(٢) تفسير القرطبى : ١٤ / ٢٤٩ ، والبحر المحيط : ٧ / ٢٥٢.

(٣) سورة البقرة : آية : ٢١٩.

٢٠٦

قال الشّمّاخ (١) :

ذعرت به القطا ونفيت عنه

مقام الذّئب كالرّجل اللّعين

* * *

__________________

(١) ديوان الشماخ : ٣٢١ من قصيدته المتقدمة فى مدح عراية بن أوس رضي الله عنه. والشاهد فى مجاز القرآن : ١ / ٤٦ ، والمعانى الكبير : ١ / ١٩٤ ، ومجالس ثعلب : ٤٧٥ ، والمنصف : ١ / ١٠٩ ، والمحتسب : ١ / ٣٢٧ ، وشرح المفصل لابن يعيش : ٣ / ١٣ ، والخزانة : ٢ / ٢٢٢.

٢٠٧

(ومن سورة سبأ)

قوله تعالى : (عالِمِ الْغَيْبِ) [٣].

قرأ حمزة والكسائىّ : علّام الغيب بالخفض نعت للرب تعالى فى قوله : قل بلى وربّى علّام الغيب لأنّ «بلى» صلة للقسم ، و «ربّى» جرّ بواو القسم. و «علّام» أبلغ فى المدح من «عليم» و «عالم» لأنّ فعّالا لفعل وضع للتّكثير والدّوام ، والمبالغة فى الصّفة كقوله : [جزّار] وحلّاق ، وفلان سبّاق بالخيرات ، واحتجا بما حدّثنى ابن مجاهد عن محمّد بن هرون عن يحيى بن زياد قال : فى حرف ابن مسعود علّامُ الغيب واحتجّا أيضا بما فى / آخر السّورة (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [٤٨].

وقال الباقون أعنى من قرأ : (عالِمِ الْغَيْبِ) وهم ابن كثير وأبو عمرو وعاصم (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) فى آخر السّورة مضاف إلى الجمع فشدّدت للتّكثر والتّرديد. كما تقول العرب : أغلقت الباب مخفّفا فإن جمعوا قالوا غلّقت الأبواب ، وذبّحت الشّاء قالوا : والاختيار (عالِمِ الْغَيْبِ) كما قال تعالى فى : (قد أفلح) (١)(عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

وقرأ نافع وابن عامر : عالمُ الغيب بالرّفع على الابتداء والخبر : هو عالم الغيب. والعرب تقول : رجل عالم فإذا زادوا فى المدح قالوا : عليم ، فإذا بالغوا فى الوصف قالوا : علّام ، وعلّامة.

__________________

(١) الآية : ٩٢.

٢٠٨

٢ ـ وقوله تعالى : (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ) [٣].

قرأ الكسائىّ وحده : لا يعزِب عنه بكسر الزاى.

وقرأ الباقون بالضمّ. وهما لغتان : يعزب ، ويعزب مثل يعكف ، ويعكف ، ويعرش ، ويعرش ، وقد ذكرت علّة ذلك فى سورة (يونس).

٣ ـ وقوله تعالى : (لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) [٥].

قرأ ابن كثير وحفص عن عاصم : (مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) بالرفع فجعله نعتا للعذاب أى : لهم عذاب أليم من رجز ، والأليم : المؤلم الموجع ، يقال : آلمت الشّىء آلم. قال الله تعالى (١) : (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ) وقال : أليم بمعنى مؤلم ، مثل سميع بمعنى مسمع. كما قال (٢) :

أم ريحانة الدّاعى السّميع

يؤرّقنى وأصحابى هجوع

أراد : المسمع.

وقرأ الباقون / : من رجز أليمٍ جعلوه نعتا للرجز ، والرّجز يختلف النّاس فيه فقالوا : هو بمعنى الرّجس ، وقالوا : كل ما فى القرآن الرّجس فهو النتن ، وما كان الرّجز فهو العذاب إلا قوله (٣) : (الرُّجْزَ فَاهْجُرْ) فإنّ معناه : وعبدة الأوثان فاجتنبهم لأنّ الرّجز ـ هاهنا ـ الصنم بالضّم.

__________________

(١) سورة النساء : آية : ١٠٤

(٢) هو عمرو بن معديكرب الزّبيدى ، ديوانه : ١٢٨ وهو أول القصيدة. وينظر : الخزانة : ٢ / ٩٥. وقد تقدّم ذكره بهذه الرّواية وبرواية : (هجود)

(٣) سورة المدثر : آية : ٥.

٢٠٩

٤ ـ وقوله تعالى : إن يشأ يخسف بهم الأرض أو نسقط [٩].

قرأ حمزة والكسائىّ بالياء اختبارا عن الله إن يشأ يخسف بهم.

وقرأ الباقون بالنّون. الله تعالى يخبر عن نفسه. واتفق القراء على إظهار الفاء عند الباء ؛ لأنّ الباء يخرج من بين الشّفتين ، والفاء تخرج من باطن الشّفة السّفلى والثّنايا العليا وفيه نفس فبطل الإدغام لذلك إلا الكسائىّ وحده. فإنه قرأ بالإدغام (نخسفْ بِّهم) فأمّا إدغام الباء فى الفاء فصواب كقراءة أبى عمرو (١) : (وإن تعجبْ فَّعجب قولهم) وقد ذكرنا علة ذلك فيما سلف.

٥ ـ وقوله تعالى : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) [١٢].

قرأ عاصم وحده فى رواية أبى بكر : الرّيحُ بالرفع جعله ابتداء ، و «له» الخبر ولم يظهر العامل ، والأصل بالنصب على ما قرأ الباقون : ولُسليمان الرّيح أى : سخّرنا لسليمان الرّيح (غُدُوُّها شَهْرٌ ، وَرَواحُها شَهْرٌ) بالرّفع ، ولو قيل : ـ غدوها شهرا ، وروحها شهرا بالنصب لكان جائزا فى غير القرآن ، جعله نصبا على الظرف أى : غدوها فى شهر ، غير أن الاختيار فى الكلام وفى القرآن الرّفع ، إذا كان بالابتداء مصدرا. كقولك صيامى شهر ، وصلاتى خمس وغدوّها / شهر ، قال الشاعر (٢) :

وإنّ سلوّى عن جميل لساعة

من الدّهر ما حانت ولا حان حينها

__________________

(١) سورة الرعد : آية : ٥.

(٢) جاء فى الصّحاح للجوهرىّ ـ رحمه‌الله ـ (حين) : «وحان حينه» أى : قرب وقته ، قالت بثينة : ـ ولم يعرف لها غيره ـ وأنشد البيت. وفى اللسان (حين) عن ابن برى رحمه‌الله «ومثله لمدرك بن حصن» :

وليس ابن أنثى مائتا دون يومه

ولا مفلتا من ميتة حان حينها

٢١٠

فرفع «لساعة» لأنّ السلوّ مصدر ، والخبر نكرة ، فإن جعلت الخبر معرفة فاختيار العرب النّصب.

وحدّثنى ابن مجاهد عن السّمّرىّ عن الفرّاء ، قال : تقول العرب : ما ترك فلان عن أبيه غدوّا ، ولا رواحا ، ولا مغدى ولا مراحا ، بمعنى واحد : إذا نزع فى الشّبه إليه.

٦ ـ وقوله تعالى : (وَجِفانٍ كَالْجَوابِ) [١٣].

قرأ ابن كثير : كالجوابى بالياء ، وصل أو وقف على الأصل ، لأنّ الأصل جابية والجمع جواب ، قال الشاعر ـ هو الأعشى ـ (١) :

* كجابية الشّيخ العراقىّ تفهق*

والجوابى : الحياض ، والجفان : القصاع الكبار ، والقدور الراسيات الثابتة التى لا تزلّ لعظمها ، واستعمالهم إياها دائمة.

وقرأ أبو عمرو بإثبات الياء فى الأصل ، وبحذفها فى الوقف ، فتبع الأصل فى الدّرج وتبع المصحف فى الوقف.

والباقون يحذفونها وصلا ، ووقفا اجتزاء بالكسرة واتباعا للكتاب.

وكذلك قرأ نافع برواية ورش الجوابى بالصلة فى الوصل.

وكان بعض الزّنادقة يقول : إن فى القرآن ما يوافق الشّعر كقوله (٢) : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها)(٣) وجفان

__________________

(١) ديوانه (الصّبح المنير) : ١٥٠ ، وصدره :

* نفى الذمّ عن آل المحلّق جفنة*

من قصيدة يمدح بها عبد العزيز بن خنثم بن شداد بن ربيعة المعروف ب «الملحق» فى قصة مشهورة أنشدها الأعشى بسوق عكاظ.

(٢) سورة آل عمران : آية : ٩٢.

(٣) سورة (الدهر) الإنسان : آية : ١٤.

٢١١

كالجوابى وقدور راسيات وهذا الزّنديق مع كفره جاهل بمذهب العرب وافتنانها بالمنظوم / والمنثور. وذلك أنّ الشّاعر لا يقول بيتا وفى آخره حرف نسق لم يتقدّمه بيت قبله ، ولا يكون الكلام شعرا حتّى يقول صاحبه إنى نظمت هذا الكلام وجعلته شعرا ، فأمّا إذا تكلّم المتكلم بكلام موزون لم يسمّ شعرا ، وأنت تجد ذلك فى كلام العجم ، والعامىّ لا يعرف الشعر ربما يتكلم بكلام لو حمل على بحور الشعر وعروضه لا تّزن ، وهذا بيّن والحمد لله.

٧ ـ وقوله تعالى : (إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) [١٤].

قرأ أبو عمرو ونافع بترك الهمز تخفيفا. والأصل الهمز من (مِنْسَأَتَهُ). كما قرأ الباقون.

وقرأ ابن ذكوان عن ابن عامر منسأْته بسكون الهمزة.

والمنسأة : العصا.

وحدّثنى ابن مجاهد عن السّمّرىّ عن الفرّاء : قال (١) : حدّثنى حبّان عن الكلبىّ عن أبى صالح عن ابن عبّاس فى قوله : (تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) قال : عصاه. قال الشّاعر ـ فى ترك الهمز ـ (٢) :

__________________

(١) معانى القرآن للفراء : ٢ / ٣٥٧.

(٢) البيت فى مجاز القرآن : ٢ / ١٤٥ ، وتفسير الطبرى : ٢٢ / ٤٤ وتفسير القرطبى : ١٤ / ٢٧٩ واللّسان والصحاح والتاج (نسأ) ولم ينسبوه ، وأنشده نجم الدّين النّيسابورىّ فى وضح البرهان ورقة : ١٥١ نسخة جستر بيتى رقم ٣٨٨٣ وقال : قال الهذليّ ولم أجده فى شرح أشعار الهذليين ولعلّى لم أهتد إليه فيه والله أعلم.

قال القرطبى ـ رحمه‌الله ـ : وقال آخر ـ فهمز وفتح :

ضربنا بمنسأة وجهه

فصار بذاك مهينا ذليلا

وقال آخر :

أمن أجل حبل لا أباك ضربته

بمنسأة قد جرّ حبلك أحبلا

٢١٢

إذا دببت على المنساة من كبر

فقد تباعد عنك اللهو والغزل

وقال بعضهم : لا تسمى العصا المنسأة إلا عصا الرّاعى الكبيرة ، وإنما قيل لها المنسأة ؛ لأنّه ينسى بها أى : يؤخر بها الدّواب يقال : أنسأ الله أجلك ، ونسأ الله فى أجلك أى : أخّر فى عمرك وزاد فيه ، ويقال للّبن إذا مزج بالماء ومذقته : النّسىء أنشدنى بن دريد (١) :

سقونى النّسىء ثمّ تكنّفونى

عداة الله من كذب وزور

ويقال : نسيت المرأة تنسا وهى نسئ كما ترى ، والجمع نسو / ونسؤ كما ترى : إذا حبلت. فالمنسأة : كلمة واحدة. قال النحويون : ولو قرئ : من سئته لكان صوابا ، يجعله كلمتين مأخوذ من سئة القوس ، وهما طرفاها ، غير أنّ القرآن سنة ، ولا يقرأ كل ما يجوز فى النّحو ، إنما يتبع فيه الأئمة.

٨ ـ وقوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ) [١٥].

فقد ذكرته فى سورة (النمل) وإنما أعدت ذكره ، لأنّ بعض النّحويين اختار الصّرف ؛ لأنّه صحّ عندنا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن (سبأ) رجل وله عشرة من البنين ، وله حديث.

حدّثنى أبو عبد الله الحكيمىّ (٢) ، حدثنى حمّاد بن عبّاد قال : حدّثنا

__________________

ـ وقال آخر فسكن همزتها :

وقائم قد قام من تكأته

كقومة الشّيخ إلى منسأته

(١) تقدم ذكره.

(٢) ينظر مبحث شيوخ ابن خالويه فى المقدمة.

٢١٣

يزيد بن هرون ، قال : أخبرنا أبو جناب عن يحيى بن هشام عن فروة بن مسيكة (١) قال : «أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت يا رسول الله أرأيت سبأ ، أواد هو أم جبل؟ قال : لا ، بل هو رجل من العرب ، ولد عشرة ، فتيامن ستة وتشاءم أربعة ، فتيا من الأزد ، والأشعرون ، وحمير ، وكندة ، ومذحج ، وأنمار الذين يقال لهم : بجيلة ، وخثعم. وتشاءم أربعة لخم ، وجذام ، وعاملة وغسّان.

٩ ـ وقوله تعالى : (فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ) [١٥].

قرأ الكسائىّ : فى مسكِنهم بكسر الكاف جعله اسم الموضع الذى يسكنون فيه ، كما قرأ (٢) : حتّى مطلِع الفجر أى : فى موضع الطّلوع ، ومثله المسجد : موضع السّجود.

وقرأ حمزة وحفص عن عاصم : (مَسْكَنِهِمْ) بفتح الكاف جعلوه لغتين / المسكن والمسكن ، مثل المنسك والمنسك ، والمهلك والمهلك.

__________________

(١) فروة بن مسيك المرادى. صحابىّ أسلم عام الفتح واستعمله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على مراد وزبيد ومذحج ... ثم سكن الكوفة ... ويقال فى اسمه : ابن مسيك ومسيكة له أخبار وأشعار. يراجع : الاستيعاب : ٣ / ١٢٦١ ، وأسد الغابة : ٤ / ٣٦١ ، والإصابة : ٥ / ٣٦٨ ، والخزانة : ٢ / ١٢٣. وله أخبار متفرقة فى كتاب الإكليل وغيره. وذكر الحافظ ابن حجر عن ابن سعد أنه أوصاه بالدّعاء إلى الإسلام وسأله عن سبأ قال : «أخرجه ابن سعد وأبو داود والترمذى وابن السّكن مطولا ومختصرا». وأورده ابن الكلبى فى نسب معدّ واليمن الكبير : ١ / ١٣٢ قال : «قال هشام بن محمد الكلبى : حدثنا أبو جناب الكلبى عن يحيى بن عروة بن هانئ المرادى عن أبيه عن فروة بن مسيك المرادى : قدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت يا رسول الله أخبرنى عن سبأ أرجل ...». وينظر : جمهرة ابن حزم : ٤٠٦.

(٢) سورة القدر : آية : ٥ ، والقراءة سيذكرها المؤلف.

٢١٤

وقال آخرون : الاختيار لمن فتح أن يجعله مصدرا (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ) أى : سكناهم وفى مسكِنهم بمعنى ، ومهلكهم وهلاكهم بمعنى ، وحتى مطلع الفجر ، وحتى طلوع الفجر ، وهذا باب قد أحكمناه فى سورة (الكهف).

وقرأ الباقون : فى مساكنهم بالجماع بألف مثل المساجد ، والسّكن : أهل الدار ، والسّكن : الدّار ، والسّكينة : الوقار.

وحدّثنى أبو عمر (١) عن ثعلب عن سلمة عن الفرّاء. قال من العرب من يقول : فيه سكّينة من ربّكم بالتّشديد ، يريد : سكينة.

١٠ ـ وقوله تعالى : (ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ) [١٦].

قرأ أبو عمرو وحده مضافا : أكلِ خمط.

وقرأ الباقون : (أُكُلٍ خَمْطٍ) منّونا. قال النّحويّون : وهو الاختيار ؛ لأنّ الخمط نعت للأكل والشىء لا يضاف إلى نعته. ومن أضاف قال : الخمط : جنس من المأكولات ، والأكل أشياء مختلفة فأضفته إلى الخمط ، كما يضاف الأنواع إلى الأجناس ، والخميط : ثمر الأراك (٢) ، وهو البرير أيضا ، واحدها بريرة. وبريرة : جارية عائشة (٣) ، والبرير : شجر السّواك ، والأثل : شجر ،

__________________

(١) فى الأصل : «عمرو».

(٢) معانى القرآن للفراء : ٢ / ٣٥٩. وفي تفسير غريب القرآن : لابن قتيبة : ٣٥٦ «شجر العضاه ، وهى : كل شجر ذات شوك ، وقال قتادة الخمط : الأراك وبريره أكله». وينظر : تفسير الطبري : ٢٢ / ٥٦ ، وتهذيب اللغة : ٧ / ٢٦٠ وتفسير القرطبى : ١٤ / ٢٨٦.

(٣) أخبارها فى الاستيعاب : ١٧٩٥ ، والإصابة : ٧ / ٥٣٥.

٢١٥

واحدها أثلة وتجمع أثلاث فى العدد القليل ، قال الشاعر (١) :

أيا أثلاث القاع من بطن توضح

حنينى إلى أوطانكنّ طويل

ويروى : أطلالكن /.

__________________

(١) هذا البيت من أبيات ليحيى بن طالب الحنفيّ ، من أهل اليمامة بنجد ، فى قصة ذكرها أبو عليّ القالى فى الأمالى : ١ / ١٢٢ ، ١٢٣ وصحّح رواية أبياتها أبو عبيد البكرى فى اللّالئ شرح الأمالى : ١ / ٣٤٨ ، وينظر : مصارع العشاق : ٢١٤ ، ومعجم البلدان : ٢ / ٥٩ ، ٤ / ٣٢٧ ، وشرح مقصورة حازم القرطاجنى : ٢ / ١٤٠ ، وشرح الشواهد للعينى : ١ / ٣٠٥ ، وليحيى أخبار وأشعار فى الأغانى : ٢٤ / ١٣٥ ـ ١٤٢ ... وغيره. قال أبو علي ـ رحمه‌الله ـ : «وحدّثنا أبو بكر بن الأنبارى ، قال : حدثنى أبي ، قال : حدثنى أبو محمد ابن سعيد قال : كان يحيى بن طالب سخيا كريما يقرى الأضياف ويطعم الطعام فركبه الدين الفادح فجلا عن اليمامة إلى بغداد ليسأل السّلطان قضاء دينه فأراد رجل من أهل اليمامة الشخوص من بغداد إلى اليمامة فشيعه يحيى بن طالب فلما جلس الرّجل فى الزورق ذرفت عينا يحيى وأنشد يقول :

أحقا عباد الله أن لست ناظرا

إلى قرقرى يوما وأعلامها الغبر

إذا ارتحلت نحو اليمامة رفقة

دعاك الهوى واهتاج قلبك للذّكر

أقول لموسى والدّموع كأنّها

جداول ماء فى مساربها تجرى

قال أبو بكر بن الأنبارى : ... فغنّي هارون الرشيد بشعر يحيى بن طالب :

أيا أثلاث القاع من بطن توضح

حنينى إلى أطلالكنّ طويل

ويا أثلاث القاع قلبى موكّل

بكنّ وجدوى غيركن قليل

ويا أثلاث القاع قد ملّ صحبتى

مسيرى فهل فى ظلّكنّ مقيل

ألا هل إلى شمّ الخزامى ونظرة

إلى قرقرى قبل الممات سبيل

فأشرب من ماء الحجيلاء شربة

يداوى بها قبل الممات عليل

أحدّث عنك النّفس أن لست راجعا

إليك وحزنى فى الفؤاد دخيل

أريد هبوطا نحوكم فيصدّنى

إذا رمته دين علىّ ثقيل

قال هارون الرشيد : يقضى دينه ، فطلب فإذا هو قد مات قبل ذلك بشهر. وللخبر روايات أخرى.

٢١٦

وابن كثير ونافع يخففان : أكْلٍ خمط.

والباقون يثقلون : (أُكُلٍ خَمْطٍ) بضم الكاف على الأصل ، كما قال تعالى (١) : (أُكُلُها دائِمٌ) ومن أسكن الكاف مال إلى التّخفيف ، وقد ذكرته فيما تقدّم.

١١ ـ وقوله تعالى : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) [٢٣].

قرأ ابن عامر وحده : فَزَعَ بفتح الفاء والزاى ، أى فزع الله عن قلوبهم الرّوعة ، وخفف عنهم ذلك ، وذلك أن الفترة بين النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعيسى عليه‌السلام كانت ستمائة سنة ، فلما نزل الوحى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمعت للملائكة صليلا ووقعا كصلصلة السلسلة على الألواح ، ففزعت ، وظننت أن القيامة قد قامت. فقال بعضهم لبعض : (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ) فأجيبوا : (قالُوا الْحَقَ) أى : قال يشاء الحق وأنزل الحق.

وقرأ الباقون : (فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) بضم الفاء وكسر الزاى على ما لم يسمّ فاعله.

وحدّثنى أحمد عن على عن أبى عبيد أن الحسن قرأ (٢) : فزّغ عن قلوبهم بالزّاى والغين معجمة.

وفيها قراءة رابعة ـ بخلاف المصحف فلا يجوز القراءة بها ـ (٣) :

حتّى إذا افرنقع عن قلوبهم روى ذلك عن ابن مسعود (٤) و [روى عن]

__________________

(١) سورة الرعد : آية : ٣٥.

(٢) سورة الرعد : آية : ٣٥.

(٣) معانى القرآن للفراء : ٢ / ٣٦١ ، وتفسير القرطبى : ١٤ / ٢٩٨ ، والبحر المحيط : ٧ / ٢٧٨.

(٤) مختصر الشواذ للمؤلف : ١٢٢ ، والمحتسب : ٢ / ١٩٢ والبحر المحيط : ٧ / ٢٧٨.

٢١٧

عيسى بن عمر ، وذلك أنه سقط من حماره ذات يوم فاجتمع عليه الناس ، فقال : مالى أراكم قد تكأكأتم على كتكأكئكم على ذى جنّة ، افرنقعوا عنّى /.

١٢ ـ وقوله تعالى : وهل نجازى إلّا الكفورُ [١٧].

قرأ حمزة والكسائى وحفص عن عاصم (نُجازِي) بالنون ، الله تعالى يخبر عن نفسه (إِلَّا الْكَفُورَ) قرأ حمزة والكسائى وحفص عن عاصم نصب مفعول به.

وقرأ الباقون : يجازى بالياء ، وفتح الزّاى على ما لم يسم فاعله ، والكفورُ رفع ، و «هل» فى هذا الموضع بمعنى الجحد ، كقولك : ما يجازى إلا الكفور ، قال الشاعر :

فهل أنتم إلّا أخونا فتحزبوا

علينا إذا نابت علينا النّوائب

ذلك أن «هل» تكون استفهاما وجحدا وأمرا. كقوله (١) : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) أى : انتهوا. وتكون بمعنى «قد» كقوله (٢) : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ) قد أتى على الإنسان ، و «إلّا» تحقيق بعد جحد ، أعنى فى قوله : وهل نجازى إلّا الكفورُ.

١٣ ـ وقوله تعالى : (رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) [١٩].

قرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر : (رَبَّنا) على الدعاء ، أى : يا ربنا بالنصب وبَعَّدَ بغير ألف مشدّد العين مثل قرّب.

وقرأ الباقون : (رَبَّنا) بالنّصب أيضا (باعِدْ) بألف أيضا و (باعِدْ) دعاء على لفظ الأمر ، وكذلك بعّد ، وعلامة الأمر سكون الدّال. والمصدر باعد يباعد مباعدة فهو مباعد ومن الأول بعد يبعد بعدا فهو مبعد.

__________________

(١) سورة المائدة.

(٢) سورة الانسان (الدهر) : آية : ١.

٢١٨

وفيها قراءة ثالثة (١) : روى عماد بن محمد عن الكلبى عن أبي صالح ربُّنا بالرّفع على الابتداء باعدَ بين أسفارنا على الخبر ف «باعد» فعل ماض على هذه القراءة.

حدّثنى بذلك أحمد عن على عن أبى عبيد قال : فإن / قيل لك : باعد خبر ، وباعد دعاء ، فلم جاز فى آية من كتاب الله عزوجل أن يقرأ بالشىء وضدّه؟

فالجواب فى ذلك : أنّهم سألوا ربّهم أن يباعد بين أسفارهم فلما فعل الله ذلك بهم أخبروا فقالوا : ربّنا باعد بين أسفارنا فأنزل الله ذلك فى العرضتين فاعرف ذلك. وله فى القرآن نظائر.

١٤ ـ وقوله تعالى : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) [٢٠].

قرأ أهل الكوفة : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ) بالتّشديد (إِبْلِيسُ) بالرّفع (ظَنَّهُ) مفعول ، وذلك أن إبليس ـ لعنه الله ـ قال ظنيّا لا مستيقنا ولأمرنّهم فليبتّكنّ آذان الأنعام (٢)(وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) فلمّا تبعه من قد سبق شقاؤه عند الله صدّق ظنّه ، قال ابن عباس : ظنّ ظنّا فصدق ظنّه.

وقرأ الباقون : ولقد صَدَق مخففا و (ظَنَّهُ) نصبا أيضا ؛ لأنه يقال : صدّقت زيدا وصدقته وكذّبته وكذبته وينشد (٣) :

فصدقتها وكذبتها

والمرء ينفعه كذابه

__________________

(١) معانى القرآن للفراء : ٢ / ٣٥٩ ، المحتسب : ٢ / ١٨٩ ، وتفسير القرطبى : ١٤ / ١٩١ ، والبحر المحيط : ٧ / ٢٧٢ ، ٢٧٣ ، والنشر : ٢ / ٣٥٠.

(٢) سورة النّساء : آية : ١١٩.

(٣) هو الأعشى ديوانه : (الصبح المنير) : ٢٣٨.

٢١٩

وفيها قراءة ثالثة : قرأ أبو الهجهاج : (١) ولقد صدّق عليهم إبليسَ ظنُّه جعل الفعل للظنّ ونصب «إبليس». قال النّحويون : وهو صواب ، كما تقول صدّقنى ظنّى ، وكذّبنى ظنّى.

١٥ ـ وقوله تعالى : (إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) [٢٣].

قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر [وحفص عن عاصم] : (أَذِنَ) بفتح الهمزة وكسر الذال ، أى : أذن الله له.

وقرأ الباقون : أُذِن له على ما لم يسمّ فاعله ، ويقال : أذنت للرجل فى الشىء يفعله بمعنى : أعلمته ، وأذنته / أيضا ، وأذن زيد إلى عمر : إذا استمع إليه. جاء فى الحديث (٢) : «ما أذن الله بشىء قطّ كإذنه لنبىّ حسن الصّوت يتغنّى بالقرآن».

١٦ ـ وقوله تعالى : (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) [٣٧].

قرأ حمزة وحده : فى الغرفة بالتوحيد ، لأنّ الله تعالى قال (٣) : (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا) وفى الجنّة غرفات وغرف. غير أنّ العرب تجتزىء بالواحد عن الجماعة فيقولون : رزقك الله الجنة يريدون الجنّات «وأهلك النّاس الدّينار والدّرهم» يريدون : الدّنانير ، والدّراهم ، وقال الله تعالى (٤) : (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) يريد الملائكة.

وقرأ الباقون : (فِي الْغُرُفاتِ) بالجماع. وشاهدهم قوله (٥) : (لَهُمْ

__________________

(١) ويقال : «أبو الجهجاه» من فصحاء الأعراب والقراءة فى إعراب القرآن للنحاس : ٢ / ٦٦٨ ، والمحتسب : ٢ / ١٩١ ، وتفسير القرطبى : ١٤ / ٢٩٢ ، والبحر المحيط : ٧ / ٢٧٣.

(٢) تقدم ذكره فى أول الكتاب : ١ / ٤٥.

(٣) سورة الفرقان : آية : ٧٥.

(٤) سورة الحاقة : آية : ١٧.

(٥) سورة الزمر : آية : ٢٠.

٢٢٠