موسوعة مصطلحات علم الكلام الإسلامي - ج ٢

الدكتور سميح دغيم

موسوعة مصطلحات علم الكلام الإسلامي - ج ٢

المؤلف:

الدكتور سميح دغيم


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة لبنان ناشرون
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٦٥
الجزء ١ الجزء ٢

واجب على الكفاية

ـ أمّا" الواجب على الكفاية" ، فهو ما وقف استحقاق الذمّ على الإخلال به على ظنّ إخلال الغير به. وذلك أنّ من يتمكّن من الجهاد ، إن أخلّ به وهو يظنّ أنّ غيره يقوم به ، لم يستحقّ الذمّ ؛ وإن ظنّ أنّ غيره لا يقوم به ، استحقّ الذمّ (ب ، م ، ٣٦٩ ، ١٣)

واجب عليه تعالى

ـ ليس يوجب قولنا : إنّ الشيء واجب على زيد إبانة نقص فننفي ذلك عن القديم ـ تعالى ـ ، ولا يقتضي معنى الإلجاء فيزال عن القديم سبحانه ، ولا ينبئ عن لحوق المشقّة بالفعل فيحال إجراؤه على القديم ـ تعالى ـ فما الذي يمنع من أن يوصف بعض مقدوراته بأنّه واجب ولازم إذا حصل منه ـ تعالى ـ ما يقتضي وجوب ذلك عليه؟ وإنّما المستنكر أن يجب الشيء عليه من قبل غيره. فأمّا إذا التزمه بفعله التكليف أو الآلام فلا وجه يمنع منه ، لا من حيث المعنى ولا من حيث العبارة ، فكيف يصحّ أن يقال : إنّ إطلاق هذا الوصف عليه يوهم فيجب أن ينفى عنه. ولا فرق بين من قال ذلك وبين من قال : إنّ أفعاله لا توصف بأنّها حسنة ؛ لما فيه من الإيهام. وهذا قول يغني فساده عن تكلّف الإكثار (ق ، غ ١١ ، ٤٢٩ ، ١٣)

واجب لذاته

ـ الشيء الواحد لا يكون واجبا لذاته ولغيره معا (ف ، م ، ٥٧ ، ١٢)

ـ الواجب لذاته لا يتركّب عن غيره (ف ، م ، ٥٧ ، ١٥)

الواجب لذاته لا يتركّب عنه غيره (ف ، م ، ٥٧ ، ١٨)

ـ الواجب لذاته لا يكون وجوده زائدا على ماهيّته (ف ، م ، ٥٧ ، ٢٠)

ـ الواجب لذاته لا يجوز أن يكون وجوبه زائدا عليه (ف ، م ، ٥٨ ، ٧)

ـ الواجب لذاته واجب من جميع جهاته (ف ، م ، ٥٩ ، ٩)

ـ الواجب لذاته لا يصحّ عليه العدم (ف ، م ، ٥٩ ، ١٥)

ـ الواجب لذاته يجوز أن تعرض له صفات تستلزمها ذاته (ف ، م ، ٥٩ ، ١٨)

ـ إذ الواجب لذاته ما لو فرض معدوما لزم منه المحال لذاته لا لغيره (م ، غ ، ١٣ ، ١٠)

واجب مخيّر

ـ الواجب المخيّر هو ما إذا لم يفعله القادر عليه ، ولا ما يقوم مقامه استحق الذمّ (ق ، ش ، ٤١ ، ١٩)

ـ مثال الواجب المخيّر في العقل فهو : كقضاء الدين ؛ فإنّ من عليه الدين بالخيار ، إن شاء قضى من هذا الكيس ، وإن شاء قضى من كيس آخر إذا كان النقد واحدا. وأمّا مثاله في الشرع ، فهو : كالصلاة في الوقت ، فإنّ المكلّف مخيّر إن شاء صلّى وإن شاء عزم ، وكالكفّارات الثلاث فإنّها أجمع واجبة على التخيير إن شاء أطعم ، وإن شاء كسى ، وإن شاء أعتق (ق ، ش ، ٤٢ ، ٥)

ـ ينقسم (الفعل) : فمنه ما يستحقّ الذمّ بأن لا يفعله بعينه فيوصف بأنّه واجب مضيّق ، ومنه ما يستحقّ الذمّ بأن لا يفعله إذا لم يفعل ما يقوم مقامه ، فيوصف بأنّه واجب مخيّر فيه (ق ، غ ٦ / ١ ، ٨ ، ٥)

٥٠١

واجب مخيّر فيه

ـ أمّا" الواجب المخيّر فيه" فهو الذي للإخلال به وبما يقوم مقامه مدخل في استحقاق الذمّ. أو الذي ليس ، لمن قيل : " إنّه واجب عليه" ، أن يخل به وبما يقوم مقامه. أو : الذي الإخلال به وبما يقوم مقامه مؤثّر في استحقاق الذمّ. كالكفارات الثلاث (ب ، م ، ٣٦٩ ، ٨)

واجب مضيّق

ـ الواجب المضيق هو ما إذا لم يفعله القادر عليه بعينه استحق الذم (ق ، ش ، ٤٢ ، ١)

ـ مثال الواجب المضيّق في العقل فهو ، كرد الوديعة ، إذا جاء صاحبها وطالبه بالردّ فإنّه يجب عليه ردّها بعينها ، ولا يقوم غيرها مقامها من قيمة أو بدل ؛ وإن كان يدخله التخيّر من وجه آخر ، فإنّه مخيّر إن شاء ردّها باليمين ، وإن شاء ردّها باليسار. وأمّا مثاله في الشرع فهو ؛ كالصلاة في آخر الوقت ، فإنّه يتعيّن عليه الصلاة ويجب أداؤها ولا يقوم غيرها مقامها من عزم أو غيره ، وإن كان يدخله التخيير من وجه آخر ؛ فإنّه مخيّر إن شاء صلّى في هذه البقعة وإن شاء صلّى في هذه البقعة ، بشرط استوائها في الطهارة (ق ، ش ، ٤٢ ، ١١)

ـ ينقسم (الفعل) : فمنه ما يستحقّ الذمّ بأن لا يفعله بعينه فيوصف بأنّه واجب مضيّق ، ومنه ما يستحقّ الذمّ بأن لا يفعله إذا لم يفعل ما يقوم مقامه ، فيوصف بأنّه واجب مخيّر فيه (ق ، غ ٦ / ١ ، ٨ ، ٤)

واجب مضيّق ومخيّر

ـ إنّ الإحسان من حيث كان إحسانا ، يختصّ بصفة زائدة على جنسه ، ولا يحتاج إلى اشتراط نفي القبح عنه. لأنّ وصفنا له بالحسن يقتضيه. فكذلك القول في الواجب المضيّق والمخيّر فيه (ق ، غ ٦ / ١ ، ٧٥ ، ٩)

واجب معيّن

ـ أمّا" الواجب المعيّن" فهو الذي للإخلال به بعينه مدخل في استحقاق الذمّ. كردّ الوديعة وما أشبهها (ب ، م ، ٣٦٩ ، ٧)

واجبات

ـ إنّ الواجبات على ضربين : عقليّ وشرعيّ ، فالعقليّات نحو ردّ الوديعة وقضاء الدين وشكر النعمة ، فما من شيء منها إلّا ويجوز انفكاك المكلّف عنه بحال من الأحوال ، وأمّا الشرعيّات ، فالشرط فيها إيقاعها على وجه القربة والعبادة إلى الله تعالى ، وذلك لا يحسن إلّا بعد معرفة الله تعالى (ق ، ش ، ٧٠ ، ١١)

ـ إنّ الحسن ينقسم قسمين : فإمّا أن تكون له صفة زائدة على حسنه ، وأمّا أن لا يكون كذلك. فالأوّل هو الذي يستحقّ عليه المدح ، والثاني هو الذي لا يستحقّ بفعله المدح ويسمّى مباحا ، وحدّه : ما عرف فاعله حسنه أو دلّ عليه ، ولهذا لا توصف أفعال القديم تعالى بالمباح ، وإن وجد فيها ما صورته صورة المباح كالعقاب. وأمّا ما يستحقّ عليه المدح فعلى قسمين : إمّا أن يستحقّ بفعله المدح ولا يستحقّ الذمّ بأن لا يفعل ، وذلك كالنوافل وغيرها ؛ وإمّا أن يستحقّ المدح بفعله والذمّ بأن لا يفعل ، وذلك كالواجبات (ق ، ش ، ٣٢٧ ، ٧)

ـ أمّا ما كان من الصفات والأحكام مما يعدّ في الواجبات كنحو صفات الذوات والمقتضى عنها ، وما كان من الصفات التابعة للعلل فلن

٥٠٢

تصحّ إضافته إلى الفاعل. وأمّا حلوله في المحلّ فحكمه حكم صفات الذات وغيرها من حيث أنّه لا يحلّ محلّا مع جواز حلوله في غيره بل لا يجوز. وكان لا يجوز أن يحلّ إلّا فيه. وإنّما يقال في الفاعل أنّه يصحّ منه إيجاد الحركات وغيرها في المحال أجمع من حيث أنّ الذي يقدر عليه لا ينحصر ، وكما يصحّ منه إيجاد الفعل في هذا المحل يصحّ فيما سواه من المحال لا إنّ عين الموجود في هذا المحلّ تصحّ في غيره من المحال (ق ، ت ١ ، ٣٦٩ ، ١٤)

ـ الواجبات تنقسم إلى ضربين. أحدهما متى فات أداؤه في وقته لم يجب فيه الاستئناف باستئناف المقدّمة ، وهذا إنّما يصحّ فيما يختصّ كونه مصلحة في حال دون حال. ومنها ما إذا فات فلا بدّ من استئنافه باستئناف مقدّماته ؛ لأنّ ما له يجب ألا يختلف حاله بالأوقات (ق ، غ ١١ ، ٤٢٤ ، ١٢)

ـ لو ثبت أنّ الواجبات إنّما تكون واجبة بإيجاب الموجب على الحقيقة ، لم يكن يجب أن لا يعرف وجوبه من يجهل الموجب ، ألا ترى أنّا قد نعلم القادر قادرا وإن لم نعلم أنّ له قدرة ، وإن لم يجب كونه قادرا إلّا بها (ق ، غ ١٢ ، ٢٧٤ ، ١)

ـ إنّ العوض في الفعل الشاقّ ، في الشاهد ، هو الذي يخرجه عن كونه ظلما ، ولو خرج عن كونه كذلك لغير بدل لحسن. ولهذا قد يحسن إذا كان له فيه سرور ، وإن لم يكن هناك بدل ، متى فعل ذلك لنفسه أو لمن يمسّه أمره. وليس كذلك حال الواجبات ، لأنّه ليس وجه وجوبها الثواب ، لما بيّناه ، وإنّما تجب لوجوه تقع عليها. فمتى علمها كذلك ، لزمته ووجبت عليه سواء علم الثواب أو لم يعلم (ق ، غ ١٢ ، ٢٨٧ ، ١)

ـ قد استدلّ الشيخ أبو علي ، رحمه‌الله ، على ذلك بأنّ الواجبات قد ثبت أنّه يستحقّ المكلّف بها الثواب وبتركها العقاب ، وإذا كان عارفا بالله وصفاته وحكمته وبالثواب والعقاب وغير ذلك. وقد علمت ، أنّ الذي لأجله استحقّ ذلك بها هو أنّه فعلها على الوجه الذي وجب عليه ، لا لسائر ما ذكرناه من معرفته بأحوالها. لأنّه مع علمه بأحوالها ، لو لم يفعلها على الوجه الذي ذكرناه ، لما استحقّ ذلك ؛ وإذا هو فعلها على هذا الوجه ، استحقّ ذلك. فعلم أنّ استحقاقه للثواب هو لأجل ما عنده يستحقّ ، ولولاه كان لا يستحقّ دون سائر ما ذكرناه. فيجب إذا فعل الواجب ، وإن لم يحصل له العلم بما ذكرناه ، أن يستحقّ به الثواب ، لأنّ العلّة حاصلة. وقد استدلّ رحمه‌الله أيضا على ذلك بأنّه لو لم يستحقّ بترك النظر العقاب ، ولم تكن عليه في أن لا يفعله مضرّة ، لوجب أن يكون تعالى بتقرير ذلك في عقله مبيحا له ؛ فكان يجب أن يكون غير واجب ، لأنّه لا يثبت وجوبه مع كون تركه مباحا (ق ، غ ١٢ ، ٤٤٧ ، ١٦)

ـ إنّ الواجبات على ضربين : أحدهما يحدث لصفة تخصّه ، وينقسم إلى قسمين : أحدهما : الصفة المقتضية لوجوبه ؛ ترجع إليه نحو ردّ الوديعة والإنصاف وشكر النعمة ؛ والآخر يرجع إلى ما ينبغي به ، وهو ما يجب لأنّه ترك لقبيح معيّن. وذلك فيه يحلّ محلّ صفة تخصّه. والواجبات العقليّة على هذا النحو يجري أكثرها. والثاني : يجب لكونه لطفا ؛ فهو وإن وجب لصفة تخصّه ، فلا بدّ من اعتبار صفته

٥٠٣

بغيره وهو الأمر الذي هو لطف فيه. فمتى كان هذا حاله وجب. وهذا على ضربين : أحدهما نعلمه عقلا كالنظر والمعرفة ، والآخر لا نعلمه إلا بالسمع كالصلاة وغيرها (ق ، غ ١٣ ، ٤٨ ، ٩)

ـ اعلم أنّ في الواجبات ما إذا وجد من المكلّف ، علم بغير حاله من جهة الإدراك ، وربما علم بغير الحال ، لما لذلك الواجب به من تعلّق ، كنحو ردّ الوديعة ، وقضاء الدين ، والأقوال الواجبة ، والصلاة ، وما شاكل ذلك ، مما يتعلّق بالتحرّك أو بالجمع والتفريق ، لأن لطريقة الإدراك تعلّقا بذلك (ق ، غ ١٤ ، ٢٢٥ ، ٦)

ـ قال أصحابنا إنّ الواجبات كلّها معلوم وجوبها بالشرع (ب ، أ ، ٢٦٣ ، ٥)

ـ أمّا السمع والعقل ، فقد قال أهل السنّة : الواجبات كلّها بالسمع ، والمعارف كلّها بالعقل. فالعقل لا يحسّن ولا يقبّح ، ولا يقتضي ولا يوجب. والسمع لا يعرّف ، أي لا يوجد المعرفة ، بل يوجب (ش ، م ١ ، ٤٢ ، ١٩)

ـ قال (الأشعريّ) : والواجبات كلّها سمعيّة ، والعقل لا يوجب شيئا ، ولا يقتضي تحسينا ولا تقبيحا ، فمعرفة الله تعالى بالعقل تحصل ، وبالسمح تجب (ش ، م ١ ، ١٠١ ، ٢١)

واجبات شرعية

ـ أما الواجبات الشرعية فعلى ما ذكره رحمه‌الله في الكتاب قسمان : أحدهما ما هو من باب الوصف والقول والعبارة ، والآخر ما هو خارج عن هذا الباب. أمّا الأول : فهو كالإقرار بالشهادتين وما يجري هذا المجرى ، والثاني : هو من باب الصلاة والصيام والحج وما شاكل ذلك. وكلا الوجهين متأخر عن معرفة الله تعالى (ق ، ش ، ٧٥ ، ٥)

واجبات عقلية

ـ الواجبات العقليّة ، هي على ثلاثة أضرب : منها ما يجب لصفة تخصّه نحو ردّ الوديعة ، وشكر النعمة. ومنها ما يجب لكونه لطفا في غيره ، كالنظر في معرفة الله تعالى ، على ما تقدّم القول فيه ، وكالشرعيّات ، وإن كنّا لمجرّد العقل لا نعلم ذلك من حالها. ومنها ما يجب من حيث يكون تركا لقبيح به يتحرّز من فعله. ومن حق الواجب أن يلزم المكلّف التحرّز من الإخلال به ، ولا يكون متحرّزا من ذلك إلّا بأن يفعله ، ويقدم عليه ، ويصحّ منه أن يفعله وألّا يفعله كالقبيح. فكما يصحّ أن يكلّف في القبيح ألّا يفعله ، فكذلك يكلّف في الواجب أن يفعله ، وكما أنّ إقدامه على القبيح يقتضي الذمّ والعقاب على بعض الوجوه ، فكذلك إخلاله بالواجب ، ويمكنه ألا يخلّ به كما يمكنه أن يخلّ بالقبيح ، فقد دخل كل واحد منهما تحت التكليف (ق ، غ ١٤ ، ١٦١ ، ٥)

ـ إنّ الواجبات العقليّة ، وإن كانت محصورة بالصفة ، فهي غير محصورة بالعدد ؛ لأنّها قد تجب عند أسباب تكثر وتقلّ ؛ فتزيد بزيادتها ، وتنقص بنقصانها ، وتقع فيها الزيادة والنقصان بامتداد أوقات التكليف وقصرها (ق ، غ ١٥ ، ١٣٧ ، ١٨)

ـ إنّ المعرفة وشكر المنعم ومعرفة الحسن والقبح واجبات عقليّة ، وأثبتا شريعة عقليّة وردّا الشريعة النبويّة إلى مقدّرات الأحكام ومؤقتات الطاعات التي لا يتطرّق إليها عقل ،

٥٠٤

ولا يهتدي إليها فكر. وبمقتضى العقل والحكمة يجب على الحكيم ثواب المطيع وعقاب العاصي ، إلّا أنّ التأقيت والتخليد فيه يعرف بالسمع (ش ، م ١ ، ٨١ ، ٩)

واحد

ـ الله واحد لا شبيه له ، دائم قائم لا ضدّ له ولا ند ، وهذا تأويل قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى : ١١). وأصل ذلك أنّ كل ذي مثل واقع تحت العدد فيكون أقلّه اثنين ، وكل ذي ضدّ تحت الفناء إذ يهلك ضدّه ، وعلى ذلك كل شيء سواه له ضدّ يفني به ، وشكل يعدّ له ويصير به زوجا ، فحاصل تأويل قوله : واحد أي في العظمة والكبرياء ، وفي القدرة والسلطان ، وواحد بالتوحّد عن الأشباه والأضداد ؛ ولذلك بطل القول فيه بالجسم والعرض إذ هما تأويلا الأشياء (م ، ح ، ٢٣ ، ١٦)

ـ قال أبو منصور رحمه‌الله : وسئل واحد عن معنى" الواحد" قال : ينصرف على أربعة : كلّ لا يحتمل التّضعيف ، وجزء لا يحتمل التنصيف ، والذي بينهما يحتمل الوجهين ، كارتفاعه عمّا لا يتنصّف وانحطاطه عما لا يتضعّف ؛ إذ لا شيء وراء الكلّ ، والرابع هو الذي قام به الثلاثة ، هو ولا هو هو أخفي من هو ، والذي انخرس عنه اللسان ، وانقطع دونه البيان ، وانحسرت عنه الأوهام ، وحارت فيه الأفهام ، فذلك الله ربّ العالمين (م ، ح ، ٤٣ ، ١٠)

ـ القول بالتوحيد من طرق : هو أنّ قول أهل الدهر على اختلافهم اتفق على واحد بادئ ، / أو قدم طينة أو هيولى ، وهو واحد حتى اعترضت فيه الأعراض ، وتغيّرت عن الحال الأولى. وقول الثنوية إنّ الحكيم الرحيم العليم واحد ، وإنّ معنى الآخر ليس هو بمعنى الربوبية بل هو ضد معناه ؛ إذ هو سفه كلّه وشر. وأهل الأديان يثبتون القدم للواحد حتى قال قوم بتجسّمه من بعد ، وقوم إن له ابنا. فهم على اختلافهم أجمعوا على الواحد (م ، ح ، ١١٩ ، ٣)

ـ النصارى يقولون بالواحد في الكيان ، والثلاثة في القنومات ، منفي عن كل قنوم الجزء والحد ، ويقولون : كان غير مجسّم ثم تجسّم ، ومعلوم أنّ الجسم هو صورة تتجزأ وتتبعّض (م ، ح ، ١١٩ ، ٢٢)

ـ إنّ صانع العالم جلّت قدرته واحد أحد ؛ ومعنى ذلك : أنّه ليس معه إله سواه ، ولا من يستحق العبادة إلّا إيّاه ، ولا نريد بذلك أنّه واحد من [جهة العدد] ، وكذلك قولنا أحد ، وفرد وجود ذلك إنّما نريد به أنّه لا شبيه له ولا نظير ، ونريد بذلك أن ليس معه من يستحق الإلهية سواه ، وقد قال تعالى : (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) (النساء : ١٧١) ومعناه : لا إله إلا الله (ب ، ن ، ٣٣ ، ٢١)

ـ ينظر في أنّه (الله) لو كان معه ثان لتمانعا ، وهذا يؤدي إلى الضعف الذي لا يجوز إلّا على الأجسام ، فيحصل له العلم بأنّه واحد لا ثاني له يشاركه في القدم والإلهيّة ، فيكون قد حصل له العلم بكمال التوحيد (ق ، ش ، ٦٦ ، ١٠)

ـ اعلم أنّ الواحد قد يستعمل في الشيء ويراد به أنّه لا يتجزّأ ولا يتبعّض على مثل ما نقوله في الجزء المنفرد أنّه جزء واحد ، وفي جزء من السواد والبياض أنّه واحد. وقد يستعمل ويراد به أنّه يختصّ بصفة لا يشاركه فيها غيره ، كما

٥٠٥

يقال فلان واحد في زمانه. وغرضنا إذا وصفنا الله تعالى بأنّه واحد إنّما هو القسم الثاني ، لأنّ مقصودنا مدح الله تعالى بذلك ، ولا مدح في أن لا يتجزّأ ولا يتبعّض ، وإن كان كذلك ، لأنّ غيره يشاركه فيه (ق ، ش ، ٢٧٧ ، ١٠)

ـ إنّا إذا أثبتنا الصفات التي تجب لله تعالى ونفينا عنه الصفات التي تستحيل عليه فلا يتمّ ذلك دون أن نبيّن أنّه لا ثاني له يشاركه في استحقاق هذه الصفات على الحدّ الذي استحقّها مفردة ومجموعة. وهذا معنى قولنا فيه أنّه واحد إذا أجرى عليه على طريق المدح ، وقد يطلق ذلك لا على جهة المدح ويراد به أنّه لا يتجزّأ ولا يتبعّض وإن كان في ذلك خلاف عباد (ق ، ت ١ ، ٢١٥ ، ٥)

ـ قال شيخنا أبو علي رحمه‌الله : إنّ القديم يوصف بأنّه واحد على وجوه ثلاثة : أحدها بمعنى أنّه لا يتجزّأ ولا يتبعّض ، وهذا هو المراد بقولنا في الجوهر إنّه واحد ، وهذا الوجه ليس بمدح له لمشاركة سائر الأشياء له فيه ، والثاني بمعنى أنّه متفرّد بالقدم لا ثاني فيه ، والثالث أنّه متفرّد بسائر ما يستحقّه من الصفات النفسيّة من كونه قادرا لنفسه ، وعالما لنفسه ، وحيّا لنفسه. قال رحمه‌الله : وعلى هذين الوجهين يمدح بوصفنا له بأنّه واحد لاختصاصه بذلك دون غيره (ق ، غ ٤ ، ٢٤١ ، ٤)

ـ ذهب بعضهم إلى أنّه يوصف بأنّه واحد في الفعل والتدبير دون سائر الوجوه (ق ، غ ٤ ، ٢٤١ ، ١٣)

ـ قال بعضهم : إنّا نريد بوصفنا له بأنّه واحد أنّه ليس بكثير (ق ، غ ٤ ، ٢٤١ ، ١٥)

ـ ذهب عبّاد وغيره إلى أنّه يوصف بأنّه واحد على جهة المدح ، فأمّا بمعنى العدد فلا يصحّ ، واعتلّ في ذلك بأنّه لو صحّ ذلك ، لجاز أن يقال إنّه ثان لغيره وثالث لغيره ؛ لأنّ ذلك واجب في كل ما يعدّ ، ولصحّ أن يقال إن الله سبحانه رابع أربعة وخامس خمسة. فإذا بطل ذلك ، علم صحّة ما قلته (ق ، غ ٤ ، ٢٤١ ، ١٦)

ـ ذهب بعضهم إلى أنّه يوصف بأنّه واحد من حيث لا يتجزّأ ولا يتبعّض ، وأمّا من حيث اختصّ بما هو عليه ولم يشاركه أحد فيه ، فذلك مجاز (ق ، غ ٤ ، ٢٤٢ ، ٢)

ـ بيّن شيخنا أبو هاشم رحمه‌الله أن وصفنا له بأنّه واحد من حيث انفرد بصفاته النفسيّة حقيقة ، وذلك بمنزلة وصفهم الرجل بأنّه واحد دهره ، وواحد عصره ، من حيث انفرد بخصال لا يشاركه فيها غيره ، وهو في بابه بمنزلة وصفهم الإنسان بأنّه إنسان واحد لاختصاص هذه الجملة دون الأبعاض بأنّها إنسان. وعلى هذا الوجه ، يصف القديم جلّ وعزّ بأنّه واحد لنفسه ، وإن كان ما يتضمّنه الكلام من النفي لا يستحقّ للنفس. وقد قال شيخنا أبو هاشم رحمه‌الله : إن وصفنا له بأنّه واحد من باب العدد لا يستحقّ للنفس ، ولا لعلّة. وربما قال إنّ ذلك يفيد النفي ، فلا يعلّل أيضا (ق ، غ ٤ ، ٢٤٥ ، ١٣)

ـ إنّه تعالى يوصف بأنّه واحد على الحقيقة ، ويراد به أنّه لا يتجزّأ ولا يتبعّض تفرقة بينه وبين ما يجوز عليه التجزّؤ والتبعّض. وعلى هذا الوجه أجروا هذه اللفظة في الشاهد ، لأنّهم لما عقلوا الفصل بين ما يتجزّأ ويتبعّض ويكون جملة من الأسماء وبين ما لا يصحّ ذلك عليه ، وصفوا ذلك بأنّه واحد ليفرّقوا بينه وبين الجملة (ق ، غ ٥ ، ٢٤٤ ، ٣)

ـ أمّا وصفهم للإنسان بأنّه واحد ، فمن الناس من

٥٠٦

يقول إنّه توسّع ، لأنّه في الحقيقة جملة من الأجزاء. وإنّما قيل إنسان واحد بمعنى أنّه جملة واحدة ، كما قيل ذلك في العشرة إنّها عشرة واحدة. والذي قاله شيخنا أبو هاشم في ذلك أنّ وصفهم للإنسان بأنّه إنسان واحد حقيقة ، لأنّه ، من حيث كان إنسانا ، وجب أن لا يتجزّأ ولا يتبعّض. ألا ترى أنّ هذا الاسم لا يقع على بعضه فحلّ في الوجه الذي صار إنسانا محلّ الواحد في الحقيقة الذي لا بعض له. وعلى كلا الوجهين يجب وصفه تعالى بأنّه واحد على الوجه الذي ذكرناه (ق ، غ ٥ ، ٢٤٤ ، ١٣)

ـ قال شيخنا أبو هاشم : إن وصف المنفرد بالصفة بأنّه واحد فيه حقيقة ، ولذلك يقال في سيّد القوم إنّه واحدهم إذا انفرد بصفات اختصّ بها دونهم (ق ، غ ٥ ، ٢٤٥ ، ٦)

ـ الباري سبحانه وتعالى واحد ، والواحد في اصطلاح الأصوليين الشيء الذي لا ينقسم ، ولو قيل الواحد هو الشيء لوقع الاكتفاء بذلك. والربّ سبحانه وتعالى موجود فرد ، متقدّس عن قبول التبعيض والانقسام. وقد يراد بتسميته واحدا أنّه لا مثل له ولا نظير (ج ، ش ، ٦٩ ، ٣)

ـ ندّعي أنّ الله تعالى واحد ، فإنّ كونه واحدا يرجع إلى ثبوت ذاته ، ونفي غيره. فليس هو نظرا في صفة زائدة على الذات ، فوجب ذكره في هذا القطب ؛ فنقول الواحد قد يطلب ويراد به ، أنّه لا يقبل القسمة أي لا كمّية له ، ولا حدّ ، ولا مقدار ، والباري تعالى واحد بمعنى أنّه لا الكميّة له بمعنى سلب الكمّية المصحّحة للقسمة عنه. فإنّه غير قابل للانقسام إذ الانقسام فيما له كمّية (غ ، ق ، ٧٣ ، ١٠)

ـ قال أصحابنا الواحد هو الشيء الذي لا يصحّ انقسامه إذ لا تقبل ذاته القسمة بوجه ولا تقبل الشركة بوجه ، فالباري تعالى واحد في ذاته لا قسم له ، وواحد في صفاته لا شبيه له ، وواحد في أفعاله لا شريك له ، وقد أقمنا الدلالة على انفراده بأفعاله ، فلنقم الدلالة على انفراده بذاته وصفاته (ش ، ن ، ٩٠ ، ٥)

ـ البصريّة : ومعنى كونه واحدا أنّه غير مشارك في صفاته. وقيل : أو في الإلهيّة. وقيل : أو لا يتجزّأ (م ، ق ، ٨٤ ، ١٤)

واحد مطلق

ـ إنّ الواحد المطلق على الحقيقة هو الذي ليس كثيرا ، هذا ما لا شكّ فيه عند كل ذي حسّ سليم ، وكل ما كان له أبعاض فهو كثير بلا شكّ ، فهو إذا بالضرورة ليس واحدا ، فالواحد ضرورة هو الذي لا أبعاض له ، فإذ لا شكّ فيه فالواحد الذي لا أبعاض له تساويه ليس عددا وهو الذي أردنا أن نبيّن ، وأيضا فإنّ الحسّ وضرورة العقل يشهدان بوجود الواحد ، إذ لو لم يكن الواحد موجودا لم يقدر على عدد أصلا ، إذ الواحد مبدأ العدد ، والمعدود الذي لا يوصل إلى عدد ولا معدود إلّا بعد وجوده ، ولو لم يوجد الواحد لما وجد في العالم عدد ولا معدود أصلا (ح ، ف ١ ، ٦٤ ، ١٠)

واحدية

ـ أمّا الأحديّة والواحدية فإنّ الأحديّة صفة الذات والواحديّة صفة الفعل ، فيقال أحد بذاته وواحد بفعاله ، ثم أحديّته ووحدانيّته ليست من جهة العدد محتملة بالزيادة والنقصان والشركة والمثال ، فيقال العدد أحد وآحاد وواحد

٥٠٧

وواحدان ، حتى قيل فلان وحيد زمانه وفريد أوانه ، فأمّا وحدانيّة الربّ جلّ جلاله فمن جهة لفي الأمثال والأنداد عنه كما قال تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى : ١١) (م ، ف ، ٢٠ ، ١٧)

واسطة

ـ أمّا إبطال الواسطة بإجماع المسلمين فليس كما ينبغي. والمعتمد في إبطالها أنّ الواسطة يمتنع أن تكون واجبة الوجود لامتناع أن يكون الواجب أكثر من واحد ، فإذن هي ممكنة. وهي من جملة العالم ، لأنّ المراد من العالم ما سوى المبدأ الأوّل ، فإذن وقوع الواسطة بين واجب الوجود لذاته وبين العالم محال (ط ، م ، ٢٧٥ ، ١١)

ـ إنّ مسمّى الامتناع ليس بموجود ولا معدوم وذلك هو الواسطة (خ ، ل ، ٣٩ ، ١٣)

وجدانيات

ـ ما يكون غنيّا عن الاكتساب وما هو إلّا الحسيّات ، كالعلم بأنّ الشمس مضيئة والنار حارّة ، أو الوجدانيّات كعلم كل واحد بجوعه وشبعه وهي قليلة جدّا لأنّها غير مشتركة (ف ، م ، ٢٧ ، ٤)

وجه

ـ قد فسد أن يكون لله وجه هو بعضه أو وجه صفة له قديم معه ـ جلّ الله وتعالى عن ذلك ـ فلم يبق إلّا أن يكون وجهه هو كما يقال : " هذا وجه الأمر" و" هذا وجه الرأي" : هذا الأمر نفسه وهذا هو الرأي نفسه. (قال) فلما كان هذا هكذا وفسد أن يقال : إنّ الله وجه وأنّ الأمر وجه وأن الرأي وجه ، فكذلك قلت أنا : إنّ علم (الله) هو الله كما قال قائلكم : إنّ وجهه هو ، وفسد أن يكون جلّ ذكره علما بمثل ما فسد عندكم أن يكون وجها (خ ، ن ، ٦٠ ، ٢)

ـ إنّ لله وجها هو هو والقائل بهذا القول" أبو الهذيل" (ش ، ق ، ١٨٩ ، ٤)

ـ إنّا نقول وجه توسّعا ونرجع إلى إثبات الله لأنّا نثبت وجها هو هو ، وذلك أنّ العرب تقيم الوجه مقام الشيء فيقول القائل : لو لا وجهك لم أفعل ، أي لو لا أنت لم أفعل ، وهذا قول" النظّام" وأكثر معتزلة البصريين وقول معتزلة البغداديين (ش ، ق ، ١٨٩ ، ٦)

ـ إنّ الوجه قد يراد به ذات الشيء. وعلى هذا تقول العرب : هذا وجه الرأي ، ووجه الأمر ، ووجه الطريق. ومتى كان الكلام فيما لا بعض له ، فلا شكّ أن المراد به ذاته ، فيختلف موقع هذه اللفظة بحسب حال ما يستعمل فيه ، فإذا صحّ ذلك وجب أن يكون المراد بذلك : ويبقى ربّك (ق ، م ٢ ، ٦٣٧ ، ١٨)

ـ زعمت المشبّهة أنّ لله وجها وعينا كوجه الإنسان وعينه ، وزعم بعضهم أنّ له وجها وعينا هما عضوان ولكنهما ليس كوجه الإنسان وعينه ، بل هما خلاف الوجه والعيون سواهما (ب ، أ ، ١٠٩ ، ١٦)

ـ زعم بعض الصفاتية إنّ الوجه والعين المضافين إلى الله تعالى صفات له. والصحيح عندنا إنّ وجهه ذاته وعينه رؤيته للأشياء. وقوله : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) (الرحمن : ٢٧) معناه ويبقى ربّك ، ولذلك قال ذو الجلال والإكرام بالرفع لأنّه نعت الوجه ، ولو أراد الإضافة لقال ذي الجلال والإكرام بالخفض (ب ، أ ، ١١٠ ، ٢)

ـ ذهب بعض أئمتنا إلى أنّ اليدين والعين والوجه

٥٠٨

صفات ثابتة للرب تعالى ، والسبيل إلى إثباتها السمع دون قضية العقل. والذي يصحّ عندنا حمل اليدين على القدرة ، وحمل العين على البصر ، وحمل الوجه على الوجود (ج ، ش ، ١٤٦ ، ١٣)

ـ وقوله : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) (الرحمن : ٢٧) فإنّه يحتمل أن يكون المعنيّ بالوجه الذات ومجموع الصفات ، وحمله عليه أولى ؛ من جهة أنّه خصّصه بالبقاء وذلك لا يختصّ بصفة دون صفة ، بل هو بذاته ومجموع صفاته باق (م ، غ ، ١٤٠ ، ٨)

وجه إيجاب المعارف

ـ اعلم ، أنّ الشيخ أبا علي ، رحمه‌الله ، قد ذكر في وجه إيجاب المعارف أشياء : منها قوله : إنّه تعالى قد جعل المكلّف بحيث ترد عليه الخواطر لكمال عقله ، فلو لم يلزمه المعرفة لكان قد أعلمه ودلّه على أنّه لا ضرر عليه في أن لا يفعلها ؛ وإذا لم يخل متى لم يفعلها من الجهل والشك ، فيجب أن لا تكون عليه مضرّة في فعل أحدهما. وهذا يوجب كونه تعالى مبيحا له الجهل والشكّ ، وإذا قبح ذلك في الحكمة ولم يكن بعد فساده إلّا القول بأنّه أوجب المعرفة ، فيجب أن يحسن منه تعالى الإيجاب ، بل يجب متى جعل المكلّف على هذه الصفات أن يكلّفه لا محالة ؛ فيكون إيجاب المعارف (ق ، غ ١٢ ، ٤٩٥ ، ١٤)

وجه حسن ابتداء الله لخلق الخلق

ـ في بيان وجه حسن ابتداء الله تعالى لخلق الخلق وإنشاء الأيّام وما يتّصل بذلك : اعلم أنّ ذلك إنّما يحسن منه تعالى على وجوه ثلاثة : أحدها لينفعه ، والآخر لينفع به ، والثالث لأنّه أراده لخلق ما ذكرناه ، مع تعرّي الكلّ من وجوه القبح. وقد دخل فيما ذكرناه ما يخلقه تعالى لينفعه ولينفع به جميعا ؛ لأنّ الشيء إذا حسن لكل واحد من الوجهين فبأن يحسن متى حصلا فيه أولى. ولم يذكر في ذلك خلق من يخلقه ليفعل به المستحقّ ، لأنّ ذلك لا يحسن أولا ، وإنّما يحسن أن يخلقه لهذه البغية ثانيا. فإذا حسن أن يخلق تعالى الخلق لينفعه تفضّلا ، ويعرّضه للثواب والمدح ، وينفعه بالتعويض على الآلام حسن منه أن يخلق غير المكلّف للتفضّل والتعويض جميعا. وقد بيّنا أنّ المنافع على ضربين : مستحقّ وغير مستحقّ ، وأنّ المستحقّ منه قد يكون مستحقّا على وجه التعظيم والإكرام فيكون ثوابا ، وقد يكون مستحقّا على وجه العوض والبدل ، وبيّنا لكل واحد منهما مثالا في الشاهد ، وبيّنا أنّ ما ليس بمستحقّ يكون إحسانا وتفضّلا ، وبيّنا أنّ ما أدّى إلى المنافع يكون في حكمه ، وإن كان شاقّا على فاعله ، وإنّما يحسن متى أدّى إلى نفع يوفي عليه ، ومتى لم يشقّ على فاعله البتّة فإنّه يحسن إذا أدّى إلى أيّ منفعة كان متى عري من وجوه القبح. فإذا صحّت هذه الجملة حسن من القديم تعالى أن يخلق الخلق لينفعه على بعض الوجوه التي قدّمناها أو كلّها (ق ، غ ١١ ، ١٠٠ ، ١٥)

وجه حسن الفعل

ـ إنّ وجه حسن الفعل ليس هو جواز النفع والضرر على فاعله ؛ لأنّه قد يحسن منه ما لا يختصّ بهذا المعنى ؛ كإرسال الضالّ وغيره مما يختاره لنفع غيره (ق ، غ ١١ ، ٦٧ ، ٨)

٥٠٩

وجه الحكمة في ابتدائه تعالى الخلق

ـ الكلام في بيان وجه الحكمة في ابتدائه تعالى الخلق وما يتّصل بذلك. اعلم أنّ ما بيّناه في أوّل باب العدل : من أنّه تعالى لا يجوز أن يختار فعل القبيح ، يقتضي أنّ سائر ما خلقه يجب كونه حسنا ، وإلّا فسد ذلك الدليل وانتقض ، والواجب في الأدلّة أن تقع صحيحة ، فلا يجوز فيها الانتقاض والفساد. ولهذه الجملة قلنا : إنّ الذي يلزم المكلّف أن يعلم أنّه تعالى لا يفعل القبيح. فمتى علم ذلك لزمه عنده أن يعتقد في سائر ما خلقه أنّه ليس بقبيح ، وأنّه حسن. ولا يلزمه معرفة وجه الحكمة في كل فعل من أفعاله ، وإنّما يجب النظر في ذلك لحلّ الشبه ، وإسقاط ما يورده المخالف من اللّبس ؛ فهذا مما يختصّ به العلماء وهو في بابه بمنزلة المتشابهات التي يجب بيان المراد بها عند ورود الشبه ؛ وإن كان الذي يلزم المكلّف أن يعلم في الجملة أنّ المراد بها يجب أن يكون مطابقا لما اقتضاه العقل. ولهذا المعنى قلنا : إنّ الاهتمام يجب أن يشتدّ من المكلّف في معرفة أصول الأدلّة دون غيرها ، لأنّ ذلك يغنيه عن معرفة التفصيل. وإنّما يجب تكلّف القول في ذلك عند إيراد الملحدة الشّبه التي بزعمهم يتوصّلون بها إلى أنّه لا صانع للعالم ؛ من حيث لو كان له صانع لوجب كونه حكيما ، ولو كان كذلك لم تقع أفعاله على الوجه الذي وقعت عليه ، فيجب بيان فساد تعلّقهم بذلك. وعند إيراد المجبرة الشبه التي بزعمهم يتوصّلون بها إلى أنّه تعالى قد فعل ما مثله يقبح في الشاهد ، فيجب ألا يمتنع كونه فاعلا لسائر القبائح ، فيقدحون بذلك في قولنا : إنّه تعالى منزّه عن كل قبيح فيحتاج أن يبيّن فساد ما ظنّوه في هذه الأفعال ، وأنّها واقعة على وجه يحسن وقوعها عليه ؛ لإزالة الشبه التي تعلّقوا بها. وعلى هذا قلنا : إنّ ما تعبّد الله به من الشرعيّات إذا علمنا في الجملة كونه مصلحة لم يلزمنا بيان الوجه الذي له صارت مصلحة ؛ لأنّ فقد العلم بذلك لا يؤثّر فيما نعلمه من كونه تعالى حكيما ، ولا في شيء من التكليف. ولا يبعد مع ذلك أن نتكلّف ذكر ذلك عند إيراد المخالف بعض الشبه الذي يخاف عند إهمال القول فيه الفساد ؛ وإنّما يجب بيان كون الفعل مصلحة. والوجه في ذلك إذا كان هو الطريق إلى معرفة وجوبه ؛ نحو ما نقوله في معرفة الله تعالى ، فأمّا الشرعيّات فالقول فيها على ما قدّمناه (ق ، غ ١١ ، ٥٨ ، ١٦)

وجه الحكمة في الأفعال

ـ إن قيل : هل خلق الله الخلق لعلّة أم لا؟ وغرضه إذا أجيب إلى ذلك أن يقول : فيجب في تلك العلّة أن تكون مفعولة لعلّة أخرى فيؤدّي إلى ما لا نهاية له. وليس وراء ذلك إلّا أنه لا نطلب لأفعاله وجوه تحسن عليها على ما تكلّمتم. قيل له : إن أردت بالعلّة ما وقع الاصطلاح من المتكلّمين عليه وهو الأمور التي توجب ولا يبقى للاختيار فيه مدخل ، فلسنا نقول بأنّ الله خلق الخلق لعلّة لأنّا نثبته تعالى مختارا منعما ولن يكون كذلك وهناك ما يوجب على حدّ يزول فيه الاختيار. وإن أردت بالعلّة ما يتعارف به من الدواعي والأغراض فقد يصحّ أن يجاب إلى ذلك ، لأنّ وجه الحكمة في الأفعال ربّما يعبّر عنها بالعلل فيقال : " لأيّة علّة فعلت كذا" أو" تأخّرت عنّا" إلى ما أشبه

٥١٠

ذلك. وقد بيّنّا أنّه لا يجوز أن يوجد القديم تعالى العالم إلّا لوجه يحسن عليه فيكون المطلوب المراد في خلق العالم ذلك الوجه. وهذا يصلح أن يعبّر عنه بالعلّة (ق ، ت ٢ ، ١٧٩ ، ١٥)

وجه الحكمة في التكليف

ـ اعلم أنّ وجه الحكمة في التكليف ما أشاره إليه ، وهو كونه تعريضا للمكلّف للمنزلة التي لا شيء أعلى منها في المنافع ، وهي التي نقول إنّها منزلة الثواب الدائم المفعول على وجه الإعظام والإجلال. ولو لا التكليف لما صحّ من المكلّف أن ينال ذلك ولا صحّ من الحكيم المكلّف أن يرقّيه إلى هذه الرتبة. وكل ما حلّ هذا المحلّ مما يكون سببا للوصول إلى المنافع فإنّه يحسن كما تحسن نفس تلك المنافع (ق ، ت ٢ ، ١٩٣ ، ٢)

وجه الحكمة في خلق المكلّف

ـ اعلم أنّ وجه الحكمة في خلق المكلّف أنّه تعالى خلقه لينفعه بالتفضّل ، وليعرّضه للثواب ، وإن كان المعلوم أن إيلامه مصلحة له أو لغيره فلا بدّ من أن يخلقه لينفعه بالأعواض فيكون نافعا من الوجوه الثلاثة ؛ وإن كان تعريضه للعوض تابعا لتكليفه أو تكليف غيره ، فلا يستقلّ بنفسه ؛ كاستقلال الوجهين الآخرين (ق ، غ ١١ ، ١٣٤ ، ٣)

وجه الحكمة فيما خلقه تعالى ابتداء

ـ اعلم أنّ وجه الحكمة فيما خلقه الله تعالى ابتداء ليس إلّا ما يتّصل بالنفع والإنعام أو ما لا يتمّ ذلك إلّا به. فلأجل هذا قلنا إنّ أوّل ما خلقه الله تعالى لا بدّ من أن يشتمل على أمور ثلاثة : أحدها المنتفع والثاني ما ينتفع به والثالث إرادته تعالى لوجه الإحسان والانتفاع. هذا إذا كان مفعولا أوّلا. فإن كان على طريق الاستحقاق ثانيا فهو العقاب وما يجري مجراه من الذمّ وما لا يتمّ كونه عقابا إلّا به من القصد المخصوص. ويكون وجه الحسن في ذلك كونه مستحقّا أو ما لا يتمّ توفير المستحقّ إلّا به فيجري مجراه في الحسن. فحصل من هذه الجملة أنّ أفعاله تعالى كلّها إمّا أن تكون خلق المنتفع أو خلق المنتفع به أو إرادة ذلك أو العقاب أو ما لا يتمّ إلّا به. فإذا وجدت في الكتب قسمة أفعاله تعالى إلى ما ينتفع أو ينتفع به والقصد إلى ذلك من دون ذكر العقاب وما يتّصل به ، فهو لأنّ الغرض بذكر ذلك ما يفعله جلّ وعزّ ابتداء ، والعقاب لا يقع أوّلا وإنّما يقع في الثاني لأنّه مستحقّ على ما يقدم العبد عليه من قبيح أو إخلال بواجب (ق ، ت ٢ ، ١٧٥ ، ١٣)

وجه دلالة المعجزات على النبوات

ـ في وجه دلالة المعجزات على النبوّات ، اعلم أنّها تدلّ على صدق الرسول فيما يدّعيه من النبوّة ، من حيث تقع موقع التصديق. فإذا كان التصديق ، لو وقع منه تعالى عقيب ادعائه الرسالة وعند التماسه ، من جهة التصديق لدلّ على النبوّة ؛ فكذلك ، إذا وقع المعجز من قبله تعالى. يبيّن ذلك أنّه لا فرق ـ في رسول زيد إلى عمرو ، وقد التمس عمرو منه ما يدلّ على صدقه ـ بين أن يقول له زيد : " صدقت" وقد التمس تصديقه ، وبين أن يقول له : " إن كنت صادقا فيما ادّعيته من الرسالة فضع يدك على

٥١١

رأسك" ، ففعل ذلك ، من حيث حلّ هذا الفعل محلّ ذلك القول عند الدعوى ، وطلب التصديق. فكذلك القول فيما قدّمناه (ق ، غ ١٥ ، ١٦٨ ، ٢)

وجه القبح

ـ إنّ كون فاعل القبيح محدثا مربوبا لا تعلّق له بالفعل أصلا. أما ترى أنّ حصوله كذلك قبل الفعل وبعده ، ومساواة الجماد والموات له. وما هذه حاله لا يكون وجها لقبحه ، لأنّ وجه القبح هو الذي لا يحصل إلّا ويوجب قبح الفعل ، كقولنا في كون الكذب كذبا ، وكون الظلم ظلما. ولا فرق والحال هذه بين من قال بذلك ، وبين من قال إنّ كونه قبيحا هو لكونه جسما ، أو طويلا ، أو جوهرا ، أو محلّا. وبطلان ذلك يوجب بطلان ما قالوه (ق ، غ ٦ / ١ ، ٨٩ ، ٩)

وجه له يجب الفعل

ـ اعلم ، أنّا قد بيّنا أنّ الوجه الذي له يجب الفعل هو أن يتحرّز به عن مضرّة مخوّفة. وقد بيّنا أنّه لا يجب أن نقطع على المضرّة ، وأنّه لا فرق بين أن نعلمها أو نظنّها ، بل الذي يعرفه العقلاء بالعادات المضارّ المظنونة ، لأنّهم يعلمون الأمور المستقبلة ؛ وإنّما نعلم بالتأمّل أنّه لو علم ذلك ، لكان الفعل بالإيجاب أحقّ. فكذلك ما يجب أن يتحرّز به ، لا يجب أن يقطع على أنّ التحرّز يقع به لا محالة ، بل متى ظنّ ذلك حلّ محل العلم بأنّه يأمن به من المضرّة ، ووجوبه في الحالين لا يختلف (ق ، غ ١٢ ، ٣٥٨ ، ٤)

وجه له يجب النظر والمعرفة

ـ إذا كان الخاطر من قبله تعالى ، فلا بدّ من وروده على وجه تقتضيه الحكمة ، لأنّه ميّزه عن فعل القبيح ، فلا بدّ من أن يفيد الوجه الذي له يجب النظر والمعرفة. لأنّه تعالى كما لا يجوز أن يوجب ما لا وجه له يقتضي وجوبه ، فكذلك لا يجوز أن يوجب الفعل لوجه لا يجب لأجله ؛ لأنّ ذلك أجمع بمنزلة إيجاب ما ليس بواجب من القبيح وغيره. فليس يخلو الخاطر من أن يرد بإيجابهما فقط أو يرد بذلك وبذكر الوجه الذي له يجبان ، لأنّه لا يجوز أن يرد بذكر وجه لا يجبان لأجله ، لما ذكرناه من قبح ذلك. وقد علمنا أنّ إيجاب الفعل من غير بيان وجه وجوبه ، إمّا بالتعريف وإمّا بنصب الدلالة ، يقبح في عقول العقلاء. لأنّ أحدنا لو أوجب على غيره القعود أو القيام من غير أن يبيّن الواجب في ذلك ، لقبح ذلك منه ، حتى إذا قرن بذلك الوجه الذي له يجب حسن ذلك منه. فلو قال له : يجب ألا تأكل الطعام الذي لا تملكه ، لقبح ذلك منه. وإن قرن إلى ذلك بأنّه مسموم أو أنّ هناك مضرّة توفي على النفع الذي فيه ، لحسن ذلك منه. فإذا ثبت ذلك ، فالواجب في الحكمة أن يخطر ببال المكلّف الوجه الذي له يجب النظر والمعرفة ، وإلّا كان الإخطار قبيحا (ق ، غ ١٢ ، ٤٢٨ ، ١٢)

وجه له يحسن منه تعالى إرادة الخلق

ـ في الوجه الذي له يحسن منه إرادة الخلق : قد بيّنا أنّ إرادته لاختراع الخلق إنّما حسنت ؛ لأنّها إرادة لخلقهم لينفعهم ، أو إرادة لخلق ما ينفع به ، أو إرادة لخلق الشيء للأمرين جميعا. وبيّنا أنّ فعله لما خلقه لينفعه قد يكون على

٥١٢

وجوه ، أحدها أن يريد أن ينفعه تفضّلا ، والثاني أن يريد تعريضه لمنفعة مستحقّة على وجه التعظيم بالتكليف ، والثالث أن يريد تعريضهم لمنفعة مستحقّة على طريقة الأعواض ، فيجب أن يحسن إرادة خلقهم ؛ لأنّها إرادة لخلقهم على هذه الوجوه التي ذكرناها. وكل إرادة تؤثّر في المراد ، ويصير لأجلها على حال يحسن لكونه عليها ، فيجب أن تكون حسنة ، وما اقتضى كون الفعل حكمة يوجب كون إرادة الحكمة حسنة ، إذا تعرّت من وجوه القبح. وقد بيّنا أن وجوه القبح معقولة ، فإذا ثبت انتفاؤها أجمع عنها فيجب كونها حسنة (ق ، غ ١١ ، ١٢٧ ، ١٥)

وجه من الوجوه

ـ إن قيل : هب أنّا سلّمنا أنّ الفعل يحتاج إلينا ويتعلّق بنا ، فلم قلتم إنه يحتاج إلينا في الحدوث؟ قيل له : في ذلك وجهان اثنان : أحدهما أنه إذا ثبت أنه يحتاج إلينا (الفعل) فلا بدّ من أن يكون احتياجه إلينا لوجه من الوجوه ، لأنّه لو قيل إنّه يحتاج إلينا ، ثم لم يشر باحتياجه إلينا إلى وجه من الوجوه لعاد الأمر بالنقض على أنه يحتاج إلينا في استمرار الوجود أو في تجدّد الوجود الذي هو الحدوث (ن ، د ، ٣١٧ ، ٥)

وجه الوجوب

ـ إنّ وجه الوجوب يعتبر ، بأن يعلم وجوب الفعل ، متى علمه عليه ، على جملة أو تفصيل ، ومتى لم يعلمه عليه لم يعلم وجوبه ، وبيّنا أنّه في بابه بمنزلة الوجه الذي له يقبح الفعل ، في أنّ من علمه عليه علم قبحه ، ومن لم يعلمه عليه لم يعلمه كذلك ، فإذا صحّ ذلك بما قدّمناه من قبل ، وبيّنا أنّ القادر منّا متى علم كون الفعل ردّ الوديعة مع المطالبة وسلامة الأحوال ، علم وجوبه عليه كذلك. فمتى علم الاستدانة المتقدّمة ، مع المطالبة والتمكّن ، علم وجوب القضاء ، ومتى علم موقع النعمة عليه مع سلامة الأحوال ، علم وجوب الشكر عليه ، كما أنّه متى علم أنّ الفعل يدفع به مضرّة عن نفسه ، علم وجوبه ، فيجب في كل وجه من ذلك ، وإن اختلف أن يكون هو المؤثّر في وجوب الفعل ، للعلّة التي ذكرناها (ق ، غ ١٤ ، ٣٠ ، ١)

وجه وجوب الصلاة

ـ إنّ وجه وجوب الصلاة هو كونها مصلحة ، وإنّما يعلم كونها كذلك لو ورد الإيجاب من قبل الله بها ، لأنّه لا يستدرك بالعقل الوجه الذي له صارت مصلحة ، فوجب الافتقار فيه إلى السمع. فإن كان فقد العلم بالثواب واستحقاقه يقدح في أحد هذين ، فالواجب أن لا يعلم وجوبها ، وإلّا فغير ممتنع أن يعلم ذلك. وقد علمنا أنّ المكلّف إذا علم بعقله أنّه ، تعالى ، لا يوجب مع حكمته ما ليس له صفة الإيجاب ، وعلم في مثل الصلاة أنّه لا صفة له عقليّة يجب لأجلها ، علم أنّه إن وجب فإنّما يجب لكونه مصلحة. وقد علم أنّ المصالح في الدين تستدرك سمعا ، فيعلم أنّه ، تعالى ، إذا أوجبه فإنّما حسن منه الإيجاب مع حكمته لكونه لطفا ، فيعلم لزومه له ، ولا يجوز أن يعلم ذلك وهو سائل في أنّه ، تعالى ، يثيب أم لا. لأنّه يجب أن تتقدّم منه المعرفة بالشروط التي لها يحسن منه التكليف ، فصار فقد العلم بذلك يؤثّر فيما معه بعلم وجوب

٥١٣

الشرعيّات ، وفقده لا يؤثّر فيما معه بعلم وجوب النظر والمعرفة. فلذلك فرّقنا بينهما (ق ، غ ١٢ ، ٢٨٧ ، ٧)

وجه وجوب يختص به الواجب

ـ قد بيّنا في أوّل العدل أنّ هذه الأفعال إنّما تفترق فيما هي عليه من الأحكام ، فيكون بعضها واجبا وبعضها حسنا وبعضها قبيحا لوقوعها على وجوه تختصّ بها ، لولاها لم تكن بأن تختصّ بذلك الحكم أولى من أن لا تختصّ به أو تختصّ بخلافه. لأنّه لو لم يحصل لها إلّا الوجود والحدوث ، وقد تساوت أجمع في ذلك ، لم يكن بعضها بأن يكون واجبا أولى من سائرها. فإذا صحّ ذلك ثبت أنّه لا بدّ من وجه وجوب يختصّ به الواجب ، على ما بيّناه (ق ، غ ١٢ ، ٣٥٠ ، ٤)

وجه يحسن الإيجاب لأجله

ـ ذكر (أبو هاشم) أنّه تعالى إنّما حسن منه إيجاب النظر والمعارف لتعريض المكلّف لدرجة الثواب لأنّه لا يستحقّه إلّا بفعله ، واعترض على كون المعارف لطفا بما سألت عنه. وقد تأمّلنا ذلك فوجدناه لا يصحّ ، لأنّ لقائل أن يقول : ينبغي أن تثبتوا للمعارف وجها يحسن لأجله أن نوجبه سوى الثواب ، لأنّ من حقّ الثواب أن لا يستحقّ على الفعل إلّا إذا صحّ وقوعه على وجوه مخصوصة. ولهذا يقول في الشرعيّات : إنّها لو لم تكن ألطافا لم يحسن منه تعالى إيجابها ؛ وكما لا يكون واجبا لا لوجه يقع عليه سوى الثواب ، فكذلك لا بدّ من وجه يحسن الإيجاب لأجله سوى الثواب الذي يستحقّ به ؛ وقد بيّنا القول في ذلك. فإذا ثبت ما ذكرناه ، لم يصحّ أن نجعل هذا الوجه مما يحسن إيجاب المعارف لأجله ، فلا بدّ من ذكر وجه سواه ، ولا وجه يصحّ فيه إلّا كونها ألطافا. ومتى قال في كونها ألطافا : إنّه يلزم في فعل القديم ، تعالى ، أن يقوم مقام فعله ؛ بيّنا أنّ فيها ما لا يجوز أن يقوم فعل غير المكلّف مقامه ، بما سنذكره من بعد. فلا يلزم على هذا الوجه ما ألزمناه على الوجه الأول (ق ، غ ١٢ ، ٤٩٥ ، ٧)

وجه يحسن عليه من العبد طلب رزق

ـ في الوجه الذي يحسن عليه من العبد طلب الرزق ، أو يجب أو يحرم ، وما يتّصل بذلك. اعلم أنّا قد بيّنا أنّه يحسن من العبد ابتغاء الرزق من جهة العقل والسمع ، وأبطلنا قول من خالف في هذا الباب. فإذا صحّ ذلك ، وكان طلب الرزق من الله تعالى قد يكون بالفعل الذي جرت العادة في الأكثر أن يرزق تعالى عبده : من تجارة وصناعة ، وقد يكون بالقول الذي هو الدعاء والمسألة ، على ما ندب تعالى إليه لما فيه من الانقطاع إليه تعالى ، وعلى ما يقتضي العقل حسنه ، فيجب أن يحسن من العبد طلب الرزق بالوجهين جميعا ؛ كما يحسن منه تعالى أن يرزقه عند كل واحد من الأمرين ؛ لأنّ طلب الحسن يحسن إذا كان للطالب فيه منفعة وبغية (ق ، غ ١١ ، ٤٨ ، ١٩)

وجه يصير للعلم معه ما ليس لغيره

ـ إن قيل : وما ذلك الوجه الذي يصير للعلم معه ما ليس لغيره؟ قيل له : إنّه إذا كان قد نظر فيما يجب ، وعرف الدلالة التي نظر فيها ، ووقعت له المعرفة بالمدلول ، وسكنت نفسه إلى ذلك ،

٥١٤

ثم انتبه بعد نومه فذكر أحواله التي تقدّمت ، فلا بدّ من أن تكون داعية له إلى أن يفعل التي يعلم بها ما كان عالما من قبل ، وتقوى دواعيه إلى ذلك ، فيصير علمه بذلك كالطريقة للعلم الذي يختاره. ومثل ذلك غير ممتنع ، على ما بيّناه من قبل في باب النظر (ق ، غ ١٢ ، ٢٥٠ ، ٥)

وجوب

ـ الوجوب والتكليف لا يتصوران مع الإلجاء (ق ، ش ، ٤٠ ، ٩)

ـ إنّ الحسن لا ينفكّ عن الوجوب في الواجبات الشرعيّة ، ولهذا إنّ الصلاة قبل الوقت كما لا تجب لا تحسن ، وكذلك صوم شهر رمضان قبل دخول الشهر كما لا يحسن لا يجب ، وكذلك الحج عند فقد الاستطاعة كما لا يجب لا يحسن ، فلا فرق بين أن يذكر بلفظ الحسن ، وبين أن يذكر بلفظ الوجوب إذا كان الحال ما ذكرناه (ق ، ش ، ٧٦ ، ١٢)

ـ لو ورد عنه ، جلّ وعزّ ، ما يدلّ على أنّه مريد للفعل وكاره لتركه لدلّ على الوجوب ، لأنّ ما ليس بواجب لا يصحّ ذلك فيه ، من جهة الحكمة ، وكل فعل يعلم أنّه لو لا القول بوجوبه لم يحسن أصلا ، والدليل إذا دلّ على حسنه دلّ على وجوبه مع هذه المقدّمة ، وكذلك ما يثبت فيه أنّه لو لا وجوبه لم يدخل تحت التكليف ، فكل دليل اقتضى دخوله تحت التكليف اقتضى وجوبه (ق ، غ ١٧ ، ١٠٥ ، ١٦)

ـ الذي تقتضيه قضية العقل أنّ وجوب الشيء يقتضي وجوب ما لا يتمّ إلّا به ، إلّا أن يمنع منه مانع ، بأن نعلم أنّه إنّما يجب عند ذلك ، ولولاه كان لا يجب. فأمّا إذا لم يكن هناك مانع ، فالذي ذكرناه صحيح (ق ، غ ٢٠ / ١ ، ٤١ ، ١٦)

ـ إنّ هذه الأحكام التي هي الوجوب والقبح والحسن والندب فإنّها أحكام موجبة عن أحوال الفعل وأحكامها وهي أحكام أحوالها ، فصارت هذه الأحكام مع أحكام الفعل كالعلل مع المعلول ، فلا بدّ إذن من أن تضاف هذه الأفعال إلى الفاعل من وجه يكون له في ذلك تأثير ، وليس ذلك إلّا الحدوث (ن ، د ، ٣١٨ ، ٥)

ـ أمّا حسن النظر ، فإنّما يعلم من حيث يعلم أنّه يوصل به إلى منفعة ، وأنّه متعرّ عن سائر وجوه القبح. ويعلم أيضا حسنه بأن يعلم أنّه يتحرّز به عن الضّرر ، لأنّ ما يتحرّز به عن النظر لا يكون إلّا واجبا ، والوجوب متضمّن الحسن. فإذا علم ذلك ، فقد علم حسنه على طريق الجملة باضطرار (ن ، م ، ٣٤٦ ، ٩)

ـ أمّا وجوب الأفعال وحظرها وتحريمها على العباد فلا يعرف إلّا من طريق الشرع ، فإن أوجب الله عزوجل على عباده شيئا بخطابه إيّاهم بلا واسطة أو بإرسال رسول إليهم وجب. وكذلك إن نهاهم عن شيء بلا واسطة أو على لسان رسول حرّم عليهم. وقبل الخطاب والإرسال لا يكون شيء واجبا ولا حراما على أحد (ب ، أ ، ٢٤ ، ٦)

ـ قال شيخنا أبو الحسن وضرّار وبشر بن غيّاث ، وقت صحّة الإيمان والمعرفة وقت كمال العقل ، ووقت وجوبهما عند اجتماع العقل والبلوغ ، ولا وجوب إلّا من جهة الشرع (ب ، أ ، ٢٥٦ ، ١٨)

ـ ثم نقول : شرط الوجوب عندنا ، ثبوت السمع الدّال عليه ، مع تمكّن المكلّف من الوصول إليه. فإذا ظهرت المعجزات ، ودلّت على صدق الرسل الدلالات ، فقد تقرّر الشرع

٥١٥

واستمرّ السمع ، المنبئ عن وجود الواجبات وحظر المحظورات. ولا يتوقّف وجوب الشيء على علم المكلّف به ، ولكن الشرط تمكّن المخاطب من تحصيل العلم به (ج ، ش ، ٣١ ، ٤)

ـ إنّ الوجوب ليس بصفة للواجب على أصلنا ؛ والمعنى بكون الشيء واجبا أنّه الذي قيل فيه" افعل" : فإذا أخبر الرّب تعالى عن وجوب الشيء فمعناه أنّه أخبر عن الأمر به ؛ فإذا نهى عنه أخبر عن النهي عنه ؛ فليس بين الإخبار عن الأمر به تحقيقا وبين الإخبار عن النهي عنه تناقض ، فلا يتّصف كل واحد من الخبرين بالخروج عن كونه صدقا حقا (ج ، ش ، ٢٨٦ ، ٨)

ـ إنّ معنى الوجوب ترجيح جانب الفعل على الترك بدفع ضرر موهوم في الترك ، أو معلوم. وإذا كان هذا هو الوجوب ، فالموجب هو المرجّح (غ ، ق ، ١٩٢ ، ٤)

ـ معنى الوجوب : الوجوب في الحكمة (ز ، ك ٤ ، ٢٤٨ ، ١٥)

ـ (قالت الصفاتية) إنّ الوجود من حيث هو وجود قد عمّ الواجب والجائز ، والوجوب من حيث هو وجوب قد خصّ الواجب ، فاشتركا في الأعمّ وافترقا في الأخصّ ، وما به عمّ غير ما به خصّ ، فتركّبت الذات من وجود عام ووجوب خاص ، فهو كتركيب الذات من واجب الذات قد شملت الواجبين ، ويفصل كل واحدهما بفصل عن الواجب الآخر (ش ، ن ، ٢٠٣ ، ١٥)

ـ إنّ الحظر والوجوب أحكام لا ترجع إلى الأفعال حتى تكون صفات لها ، ولا الأفعال كانت على صفات من الحسن والقبح ورد الشرع بتقريرها ، ولا قول الشارع أكسبها صفات لا تقبل الرفع والوضع ، بل الأحكام راجعة إلى أقوال الشارع ، وتوصف الأفعال بها قولا لا فعلا ، شرعا لا عقلا ، فيجوز أن يرتفع بعضها ببعض ، وذلك كالحرمة في الأجنبيات ترتفع بالعقد الصحيح ، والحلّ في المنكوحة يرتفع بالطلاق المبين ، وكأحكام المقيم تخالف أحكام المسافر ، وأحكام الرجال في بعض الأحوال ، تخالف أحكام ربّات الحجال ، وإذا كانت الأحكام قابلة للرفع والوضع والتغيير والتبديل ، فما المستحيل في وضع أحكام على أقوام في زمن ، ثم رفعها عن أقوام في زمن آخر (ش ، ن ، ٥٠١ ، ١٨)

ـ الحقّ أنّ الوجوب والإمكان والامتناع أمور معقولة تحصل في العقل من إسناد المتصوّرات إلى الوجود الخارجيّ ، وهي في أنفسها معلولات للعقل بشرط الإسناد المذكور ، وليست بموجودات في الخارج حتّى تكون علّة للأمور التي يسند إليها أو معلولا لها (ط ، م ، ٩٤ ، ٧)

ـ كون الشّيء واجبا في الخارج ، هو كونه بحيث إذا عقله عاقل مسندا إلى الوجود الخارجيّ لزم في عقله معقول هو الوجوب (ط ، م ، ٩٤ ، ١٣)

ـ لا يلزم أن يكون الوجود محمولا على الوجوب حملا كلّيا ، لأنّه من الجائز أن يكون بعض ما هو وجوب عدميّا أيضا ، فإنّ الممكن العامّ والممتنع نقيضان بالوجه المذكور ، والممتنع عدميّ. فلا يجب أن يكون كلّ ما هو ممكن بالإمكان العامّ وجوديّا ، بل بعضه وجوديّ وبعضه عدميّ (ط ، م ، ٩٥ ، ١٤)

٥١٦

وجوب الألطاف

ـ أمّا عندنا (القاضي) ، فإنّ الأمر بخلاف ما يقوله بشر وأصحابه ، إذ ليس يمنع أن يكون في المكلّفين من يعلم الله تعالى من حاله أنّه إن فعل به بعض الأفعال كان عند ذلك يختار الواجب ويتجنّب القبيح أو يكون أقرب إلى ذلك ، وفيهم من هو خلافه ، حتى إن فعل به كل ما فعل لم يختر عنده واجبا ولا اجتنب قبيحا. وإذ قد علمت هذا ، فاعلم أن شيوخنا المتقدّمين كانوا يطلقون القول بوجوب الألطاف إطلاقا (ق ، ش ، ٥٢٠ ، ١٦)

وجوب الإمام

ـ فإن قيل : كيف يصحّ القول بوجوب الإمام ، وقد علمتم أن الزمان قد خلا منه الآن ومن قبل؟ قيل له : لسنا نعني بوجوب ذلك حصوله ، وإنّما نريد أنّه يلزم الناس التوصّل إليه على شرائط : بأن يكون التمكّن منه حاصلا ، ويكون هناك من يصلح لذلك ، ولا يكون هناك إمام ولا ولي عهد. فمتى كانت الخلال هذه ، وجب على الناس التوصّل إلى إقامته ، فإن فعلوا فقد أدّوا ما لزمهم ، وإلّا فقد قصروا في الواجب. فليس في فقد الإمام دلالة على زوال وجوبه ؛ لأنّ ذلك يكون لتقصيرهم ، وقد يكون للعذر من بعض الوجوه التي قدّمناها (ق ، غ ٢٠ / ١ ، ٥٠ ، ١)

وجوب الإمامة

ـ اختلفوا في وجوب الإمامة وفي وجوب طلب الإمام ونصبه. فقال جمهور أصحابنا من المتكلّمين والفقهاء ، مع الشيعة والخوارج وأكثر المعتزلة ، بوجوب الإمامة ، وأنّها فرض واجب ... إتباع المنصوب له ، وأنّه لا بدّ للمسلمين من إمام ينفّذ أحكامهم ويقيم حدودهم ويغزي جيوشهم ويزوّج الأيامى ويقسم الفيء بينهم. وخالفهم شرذمة من القدريّة كأبي بكر الأصمّ وهشام الفوطي ، فإنّ الأصمّ زعم أنّ الناس لو كفّوا عن التظالم (المظالم) لاستغنوا عن الإمام. وزعم هشام أنّ الأمّة إذا اجتمعت كلمتها على الحقّ احتاجت حينئذ إلى الإمام ، وأمّا إذا عصت وفجرت وقتلت الإمام ، لم يجب حينئذ على أهل الحق منهم إقامة إمام (ب ، أ ، ٢٧١ ، ٩)

ـ اتّفق جميع أهل السنّة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة ، وأنّ الأمّة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام الله ، ويسوسهم بأحكام الشريعة التي أتى بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حاشا النجدات من الخوارج (ح ، ف ٤ ، ٨٧ ، ٤)

ـ أمّا طريق وجوب الإمامة ما هي فإنّ مشايخنا البصريين رحمهم‌الله يقولون طريق وجوبها الشرع وليس في العقل ما يدلّ على وجوبها. وقال البغداديّون وأبو عثمان الجاحظ من البصريين وشيخنا أبو الحسين رحمه‌الله تعالى أنّ العقل يدلّ على وجوب الرئاسة وهو قول الإماميّة. إلّا أنّ الوجه الذي منه يوجب أصحابنا الرئاسة غير الوجه الذي توجب الإماميّة منه الرئاسة ، وذاك أنّ أصحابنا يوجبون الرئاسة على المكلّفين من حيث كان في الرئاسة مصالح دنيويّة ودفع مضار دنيويّة. والإماميّة يوجبون الرئاسة على الله تعالى من حيث كان في الرئاسة لطف منه وبعد للمكلّفين عن مواقعة القبائح العقليّة. والظاهر من كلام

٥١٧

أمير المؤمنين عليه‌السلام يطابق ما يقوله أصحابنا ألا تراه كيف علّل قوله لا بدّ للناس من أمير ، فقال في تعليله يجمع به الفيء ويقاتل به العدو ويؤمن به السبل ويؤخذ للضعيف من القوي وهذه كلها من مصالح الدنيا (أ ، ش ١ ، ٢١٥ ، ١٠)

وجوب بالذات

ـ الوجوب بالذات لا يكون مشتركا بين اثنين (ف ، م ، ٥٨ ، ١٤)

ـ الوجوب بالذات لا يكون مفهوما ثبوتيّا ، وإلّا لكان أمّا تمام الماهيّة ، أو جزءا منها ، أو خارجا عنها. والأوّل باطل لأنّ صريح العقل ناطق بالفرق بين الواجب لذاته وبين نفس الوجوب بالذات ، وأيضا فكنه حقيقة الله تعالى غير معلوم ، ووجوبه بالذات معلوم. والثاني باطل وإلّا لم كون الواجب لذاته مركّبا. والثالث أيضا باطل لأنّ كل صفة خارجة عن الماهيّة لا حقة بها مفتقرة إليها ، وكل مفتقر إلى الغير ممكن لذاته ، فيكون واجبا بغيره ، فيلزم أن يكون الوجوب بالذات ممكنا لذاته واجبا لغيره وهو محال (ف ، أ ، ٢٥ ، ٨)

وجوب التوبة

ـ إنّ الوجه في وجوب التوبة هو دفع المضرّة ، وقد ثبت في العقول أنّ المضارّ يجب دفعها على كل هذه الوجوه (ق ، غ ١٢ ، ٤٧٠ ، ١٩)

وجوب ساقط

ـ لا بدّ من أن يكون الضرر الذي يخافه بترك الفعل ، أكثر مما يلحقه من المضرّة بنفس ذلك الفعل ، حتى يكون دافعا للضرر الكثير بالمشقّة اليسيرة. فأمّا لو تكافئا وتعادلا وعلم ذلك من حالهما ، لما وجب الفعل ولكان هذا الناظر مخيّرا والوجوب ساقطا. وإنّما يجب الفعل ، إذا كان حاله ما ذكرناه. ومتى عظم التفاوت فيما يزيله من المضرّة لحقّ ثبات الإلجاء ، وإذا تفاوت لحقّ ثبات الوجوب ، خصوصا متى كان الضرر مؤجّلا غير معجّل. فإذا أصبحت هذه الجملة ، وقد صحّ أنّه لا يمتنع في النظر في باب الدنيا أن يصير بهذه الصفة ، فينبغي أن يكون واجبا ؛ وكذلك النظر في باب الدين. ويجريان ، متى صارا كذلك ، مجرى كل فعل يحرز به من ضرر عظيم ، لأن اختلاف الأفعال لا يؤثّر في أنّ الكل منها إذا اتّفق في وجوب الوجوب اتّفق في الوجوب أن لا معتبر في هذا الباب بجنس الفعل ولا بسائر صفاته ، وإنّما المعتبر بحصول وجه الوجوب فيه (ق ، غ ١٢ ، ٣٥٨ ، ١٥)

وجوب شرعي

ـ الوجوب الشرعيّ لا يرتفع باحتمال التّخصيص ، بل يرتفع بالتّخصيص الواقع المعلوم وقوعه ، وإلّا فلا يكون شيء بواجب شرعيّ أصلا (ط ، م ، ٥٧ ، ٢١)

وجوب شكر المنعم

ـ (المعتزلة) يصوغون لإثبات وجوب شكر المنعم عقلا صيغة (أخرى) ، ويقولون العاقل إذا علم أنّ له ربّا ، وجوّز في ابتداء نظره أن يريد منه الرّب المنعم شكرا ؛ ولو شكره لأثابه وأكرم مثواه ، ولو كفر لعاقبه وأرداه ؛ فإذا خطر له الجائزان ، فالعقل يرشده إلى إيثار ما يؤدّيه إلى الأمن من العقاب وارتقاب الثواب.

٥١٨

وضربوا لذلك مثلا فقالوا : من تصدّى له في سفرته مسلكان يؤدّي كل واحد منهما إلى مقصده ، وأحدهما خلي عن المخاوف عريّ من المتالف ، والثاني يشتمل على المعاطب واللصوص وضواري السباع ، ولا غرض له في السبيل المخوف ، فالعقل يقضي بسلوك السبيل المأمون (ج ، ش ، ٢٣٤ ، ١٩)

وجوب الشيء

ـ إنّ ثبوت الشيء دالّ على انتفاء ضدّه ، ووجوب الشيء دالّ على استحالة ضدّه. وهذا أصل متقرّر ، فإذا صحّ ذلك وكنّا قد عرفنا وجوب هذه الصفات لله جلّ وعزّ فيجب أن تستحيل عليه أضدادها ، لا سيّما إذا كان وجوبها لأمر يستحيل خروج الذات عنه وهو ما تقدّم من أنّها للذات تستحقّ. وإذا كانت كذلك جرت في امتناع خروج الباري تعالى عنها مجرى استحالة خروج السواد عن كونه سوادا حيث استحقّه للنفس (ق ، ت ١ ، ١٩١ ، ١٠)

ـ إنّ وجوب الشيء منفصل من إيجاب الموجب له. فلا يمتنع حسن أحدهما وقبح الآخر. ولذلك يجب على ما هدّد بالقتل إن لم يبذل بعض ماله أن يبذله ، ويحرم على من روّعه أخذ ذلك منه. ويكون إيجابه ذلك عليه بالترويع قبيحا. فإذا صحّ ذلك لم يمتنع كون الإيمان حسنا لاختصاصه بالوجه الذي له يحسن وواجبا لحصول جهة الوجوب فيه ، وإن لم ينتفع به ، كما يجب على القديم الواجب لا لمنفعة ، وإن قبح منه تعالى إيجاب الإيمان لا لمنفعة على ما ذكرناه (ق ، غ ١١ ، ٢٣٦ ، ١٧)

ـ في أنّه تعالى قد أوجب النظر والمعرفة على المكلّفين. قد بيّنا ، من قبل ، أنّه تعالى إنّما يوجب الشيء بأن يعرّف المكلّف وجوبه ووجه وجوبه ، أو ينصب له الدلالة على ذلك ويريده منه. فإذا ثبت ذلك ، وقد بيّنا أنّه تعالى قد عرّفنا وجوب النظر في معرفته تعالى من حيث قرّر في العقول وجوب التحرّز من المضارّ بالوجه الذي يمكن التحرّز منه. وقد بيّنا أنّ الخاطر إذا ورد على الوجه الذي فصّلناه في بابه ، يخاف العاقل لا محالة خوفا لا يتحرّز منه في ظنّه إلّا بالنظر ، فيجب أن يعلم وجوب ذلك عليه ، كما يعلم بعقله وجوب التحرّز من سائر المضارّ ، فإذا صحّ ذلك ، وكان تعالى هو الفاعل لهذه المعرفة ، فيجب أن يكون هو المكلّف لها. ولا فرق بين كون العلم بوجوب هذا النظر بعينه ضروريّا أو مكتسبا ، في أنّ على الوجهين جميعا يضاف وجوبه إليه تعالى ؛ فإن كان في أحد الوجهين أوجبه التعريف ، وفي الوجه الآخر ينصب الدلالة (ق ، غ ١٢ ، ٥٠٩ ، ٣)

وجوب الفعل

ـ قد بيّنا أنّ المعتبر في وجوب الفعل لحصول وجه الوجوب فيه ، وبيّنا أنّ أجناس الأفعال واختلافها لا معتبر به. فإذا تكامل عقل الإنسان وعرف العادات في المنافع والمضارّ ، ثم قيل له : إنّك لا تأمن من أن لم تنظر فتعرف أنّ لك صانعا صنعك ومدبّرا دبّرك ، وأنّك إذا عرفته وعرفت طريق طاعته وميّزتها من طريق معصيته ، وتجوّزت معاصيه إلى طاعته ، استحققت من جهته منافع عظيمة. وإذا أنت لم تعرفه اختلط عليك طريق معاصيه بطريق طاعته. فلا تأمن أن تقدم على المقبح منه فتستحقّ المضرّة العظيمة التي تسمّيها عقوبة ، وأنت تجد أمارة في عقلك. لأنّك تعلم أنّ المنعم يستحقّ الشكر والتعظيم ، وأنّ الإقدام

٥١٩

على معصيته يعظم بحسب نعمه ، وأنّ من حق القبيح أن يعمّ ما يستحقّ به الذمّ وأن يقتضي فعله النقص. فلا تأمن أن تستحقّ المضارّ العظيمة من جهة من خلقك ، إذا أنت أهملت النظر في معرفته (ق ، غ ١٢ ، ٣٦١ ، ٨)

ـ إذا عرّفنا وجوب الفعل ، فلا بدّ من وجه يجب له ؛ ولا وجه يجب له الفعل إلّا ويدخل في العقليّات ، إذا كان وجها مخصوصا ، أو في السمعيّات ، إذا كان لطفا. وإيجابه ما ليس له صفة الوجوب لا يحسن من القديم تعالى ، لأنّه في حكم الكذب ، والله يتعالى عن ذلك (ق ، غ ١٥ ، ٦٥ ، ١٠)

وجوب قيام الإمام

ـ قال أهل الحق : الدليل الحق القاطع على وجوب قيام الإمام واتّباعه شرعا ما ثبت بالتواتر من إجماع المسلمين في الصدر الأول بعد وفاة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على امتناع خلو الوقت عن خليفة وإمام ، حتى قال أبو بكر في خطبته المشهورة بعد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ " ألا إنّ محمدا قد مات ، ولا بدّ لهذا الدين ممن يقوم به" ، فبادر الكل إلى تصديقه ، والإذعان إلى قبول قوله ، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين ، ولا تقاصر عنه أحد من أرباب الدين ، بل كانوا مطبقين على الوفاق ، ومصرّين على قتال الخوارج ، وأهل الزيغ والشقاق ، ولم ينقل عن أحد منهم إنكار ذلك ، وإن اختلفوا في التعيين (م ، غ ، ٣٦٤ ، ٧)

وجوب لاحق

ـ أمّا وجوب وقوع ما علم الله وقوعه فهو وجوب لاحق بالواقع ، بعد فرض وقوعه ، وليس بوجوب يوجب الوقوع. فإنّ العلم بالشيء لا يكون علّة له من حيث هو علم به ، وإلّا فعلمنا بطلوع الشّمس غدا يكون علّة لطلوعها غدا ، وذلك محال (ط ، م ، ٥٧ ، ١١)

وجوب اللطف

ـ حكى رحمه‌الله الدلالة استدلّ بها في الكتاب" المغني" على وجوب اللطف ، وهو أنّ اللطف لو لم يجب لكانت المفسدة لا تقبح ، إذ لا فصل بين أن يفعل بالمكلّف ما يدعوه إلى فعل القبيح وبين أن يمنع مما يختار عنده الواجب. والأصل في هذه الدلالة أنّ من منع من وجوب اللطف لم يراع أزيد من التمكين. فإذا كنّا نعلم أنّ عند وجود المفسدة لا يزول تمكّنه من فعل ما كلّف أو من تركه ، كما أنّه عند عدم اللطف لا يزول تمكّنه من الأمرين ، فيجب أن يجوز منه تعالى أن يفعل به ما يدعوه إلى القبيح كما جاز أن لا يفعل به ما يدعوه إلى الواجب ، لأنّه في كلي الحالين متى عصى فقد أتي من قبل نفسه دون غيره. فإذا لم يجز ذلك تبيّنا أنّ مجرّد التمكين غير كاف. فصارت منزلة ذلك منزلة ما نعلم أنّ من دعا غيره إلى طعامه فكما لا يحسن منه أن يقطّب في وجهه مع أنّ عنده يختار الامتناع من تناول طعامه فإنّه يجب عليه أن يخاطبه برقعة إذا علم أنّه لا يجيب إلّا عندها. فجرى الأمران سواء مجرى واحدا (ق ، ت ٢ ، ٣٧٠ ، ٥)

ـ حكي عن جعفر بن حرب رحمه‌الله أنّه كان يقول : متى كان الفعل مع عدم اللطف أشقّ والثواب عليه أكثر جاز أن لا يفعل تعالى اللطف ، وإن كان المعلوم أنّه لو فعل اللطف لآمن لكنّ ثوابه عند ذلك يكون أقلّ لخفّة

٥٢٠