موسوعة مصطلحات علم الكلام الإسلامي - ج ٢

الدكتور سميح دغيم

موسوعة مصطلحات علم الكلام الإسلامي - ج ٢

المؤلف:

الدكتور سميح دغيم


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة لبنان ناشرون
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٦٥
الجزء ١ الجزء ٢

بالقول ، وذلك بمثابة المذكور الذي لا يكتسب من الذكر صفة في نفسه (ج ، ش ، ٢٩٧ ، ٩)

نبوات

ـ القول في النبوّات : أنّه لا بدّ فيها من معارف ضروريّة ؛ وذلك أنّه لا بدّ من أن نعرف عين النبي ، ونميّزه من غيره ، بمشاهدة أو بالخبر ؛ ولا بدّ في الخبر من صفة يبيّن بها النبي عند المخبر ، ويستغنى عن ذلك في المشاهدة .. ولا بدّ من أن يعرف ادّعاؤه النبوّة ، ودعاؤه إلى النظر في صدقه ، وإلى شريعته ، على طريق المخاطبة ، لأنّه متى لم يقع كذلك لم يكن له تعلّق بمن يدعوه ، ومدّعي النبوّة ، والبعثة إليه. ولا بدّ أن يعرف من أحوال النبيّ ما يتميّز به ، ممن لا يجوز أن يكون نبيّا ، مما يقتضي أن لا يقع النفار والانصراف عن النظر في نبوّته. وإنّما يجب أن يعلم ذلك ، على الجملة ؛ وغالب الظنّ يقوم مقام العلم فيه ، لأنّ الرسول ، وإن كان لا بدّ من أن يكون كذلك ، فقد يصحّ الاستدلال على نبوّته ، وإن لم يعلم كذلك على بعض الوجوه ، على ما تقدّم القول فيه ؛ ولا بدّ من أن يعرف المعجز الذي يجعله دلالة على نبوّته ، وظهوره عند ادعائه النبوّة ، ودعائه الأمّة إلى التزام الشريعة ، على وجه مخصوص ، يمكن معه أن يعلم تعلّقه بدعواه ؛ ولا بدّ من أن يعرف من أحوال المعجز ما يمكن معه الاستدلال به ، على نبوّته. وقد بيّنا من قبل أنّه لا بدّ من أن يعرف التوحيد والعدل ، ليصحّ أن تعرف حكمة المرسل ، وأنّه ممن لا يصدق الكذّابين ، ولا يفعل ما يحل محل التصديق لهم ، ولكن يصحّ أن يعلم بخبر الرسول ، المصالح ، على الوجوه التي بيّناها في الكلام على" البراهمة" (ق ، غ ١٦ ، ١٤٣ ، ١٦)

ـ صارت المعتزلة وجماعة من الشيعة إلى القول بوجوب وجود النّبوات عقلا من جهة اللطف ، وصارت الأشعريّة وجماعة من أهل السنّة إلى القول بجواز وجود النبوّات عقلا ووقوعها في الوجود عيانا ، وتنتفي استحالتها بتحقيق وجودها ، كما ثبت تصوّرها بنفي استحالتها (ش ، ن ، ٤١٧ ، ٥)

ـ مذهب أهل الحق أنّ النبوّات ليست واجبة أن تكون ولا ممتنعة أن تكون ، بل الكون وأن لا كون بالنسبة إلى ذاتها وإلى مرجّحها سيّان ، وهما بالنظر إليه سيّان ، وأمّا أهل الطعان فحزبان : حزب انتمى إلى القول بالوجوب عقلا ، كالفلاسفة والمعتزلة. وحزب انتمى إلى القول والامتناع كالبراهمة والصابئة والتناسخيّة (م ، غ ، ٣١٨ ، ٢)

نبوة

ـ اختلفوا في النبوة هل هي ثواب أو ابتداء. فقال قائلون : هي ابتداء ، وقال قائلون : هي جزاء على عمل الأنبياء ، هذا قول" عبّاد" ، وقال" الجبّائي" : يجوز أن تكون ابتداء (ش ، ق ، ٤٤٨ ، ٨)

ـ قال شيوخنا ، رحمهم‌الله ، في النبوّة إنّها جزاء على عمل ، ففصلوا بينها وبين الرسالة ، من حيث كان المستفاد بها الرفعة ، التي هي جزاء عمله. ولذلك قالوا : إنّها مستحقّة ، دون الرسالة ، وهو قدر التعظيم والثواب ، وليس كذلك الرسالة (ق ، غ ١٥ ، ١٦ ، ٢٠)

ـ إن قيل : ومن أين أنّه لا يجوز أن تعرف نبوّة الأنبياء إلّا بالمعجزات؟ قيل له : إنّا لم نقل إنّها لا تعرف ، على كل وجه ، إلّا بالمعجز ؛ وإنّما

٤٤١

نقول : لا يصحّ أن تعرف من جهة الاستدلال ، ومع ثبات التكليف ، إلّا بالمعجز. فأمّا مع ارتفاع التكليف ، فقد يجوز أن تعلم النبوّة بالعلوم الضروريّة ؛ لأنّه لا شيء يصحّ أن يعلم باستدلال إلّا ويصحّ عندنا أن يعلم باضطرار ، على ما بيّناه في باب الأصلح (ق ، غ ١٥ ، ١٤٨ ، ٧)

ـ إنّا لم ننكر أن تدلّ على النبوّة ، من جهة غير القديم تعالى ، الأخبار ؛ وإنّما قلنا إنّ الذي يدلّ عليها ، من جهته تعالى ، لا يكون إلّا المعجزات (ق ، غ ١٥ ، ١٥٠ ، ٣)

ـ لا بدّ ، فيما يدلّ على النبوّة ، من اجتماع شرطين : أحدهما : أن نعلم أنّه من قبله تعالى. والثاني : أن نعلم أنّه خارج عن العادة. لأن عند هذين الشرطين ، نعلم تعلّقه بالدعوى على جهة التصديق (ق ، غ ١٥ ، ١٧١ ، ١١)

ـ قال أهل الحق النبوّة ليست صفة راجعة إلى نفس النبيّ ، ولا درجة يبلغ إليها أحد بعلمه وكسبه ، ولا استعداد نفسه يستحقّ به اتّصالا بالروحانيّات ، بل رحمة من الله تعالى ونعمة (ش ، ن ، ٤٦٢ ، ١٢)

ـ قالت الشيعة الإمامة واجبة في الدين عقلا وشرعا ، كما أنّ النبوّة واجبة في الفطرة عقلا وسمعا (ش ، ن ، ٤٨٤ ، ١٠)

ـ ليست النبوّة هي معنى يعود إلى ذاتيّ من ذاتيّات النبيّ ، ولا إلى عرض من أعراضه ، استحقّها بكسبه وعمله ، ولا إلى العلم بربّه ؛ فإنّ ذلك مما يثبت قبل النبوّة. ولا إلى علمه بنبوّته ؛ إذ العلم بالشيء غير الشيء ... فليست إلّا موهبة من الله ـ تعالى ـ ، ونعمة منه على عبده. وهو قوله لمن اصطفاه واجتباه : إنّك رسولي ونبيي (م ، غ ، ٣١٧ ، ٦)

ـ الجاحدين لوجوب الوجود فإنّهم قالوا : النبوّة ليست من صفة راجعة إلى نفس النبيّ ، بل لا معنى لها إلّا التنزيل من عند ربّ العالمين ، وعند ذلك فالرسول لا بدّ له أن يعلم أنّه من عند الله ـ تعالى ، وذلك لا يكون إلّا بكلام ينزل عليه أو بكتاب يلقى إليه ؛ إذ المرسل ليس بمحسوس ولا ملموس ، وما الذي يؤمنه من أن يكون المخاطب له ملكا أو جنّيا؟ وما ألقى إليه ليس هو من عند الله ـ تعالى ـ؟ ومع هذه الاحتمالات فقد وقع شكّه في رسالته وامتنع القول الجزم بنبوّته (م ، غ ، ٣٢٠ ، ٤)

ـ النبوّة هي وحي الله إلى أزكى البشر عقلا وطهارة من ارتكاب القبيح ، وأعلاهم منصبا بشريعة (ق ، س ، ١٣٥ ، ١)

ـ المهديّ ، عليه‌السلام ، والبصريّة وظاهر كلام القاسم : ويصحّ أن يكون النبي نبيّا في المهد. البلخيّ : لا يصحّ. قلت : وهو الأقرب لأنّ النبوّة تكليف ، ولا تكليف على من في المهد ، لعدم التمييز والقدرة ، إلّا أن يجعلها الله (له) (ق ، س ، ١٣٨ ، ٦)

نبي

ـ يقول (الأشعري) في معنى النبيّ صلى الله عليه إنّه في أحد الوجهين ، مشتقّ من النبأ وهو الخبر ، وعلى الوجه الثاني مشتقّ من النبوّة وهي الرفعة. منه يقال للمكان المرتفع" نبوة" ، ومنه يقال" نبا جنبي عن الفراش" إذا ارتفع. فإذا قلنا إنّه من الخبر فكأنّه سمّي بذلك لإخباره عن الله عزوجل على وجه مخصوص. وإذا قلنا إنّه من الرفعة فالمراد أنّه هو الذي رفع من شأنه وأظهر من منزلته ما أبين بها من غيره (أ ، م ، ١٧٤ ، ٣)

٤٤٢

ـ أمّا النبي ، فقد يكون مهموزا ومشدّدا ، وإذا كان مهموزا فهو من الإنباء ، وهو الإخبار ؛ وإذا وصف به الرسول ، فالمراد به أنّه المبعوث من جهة الله تعالى ؛ وإذا كان مشدّدا فإنّه يكون من النباوة وهو الرفعة والجلالة ، وإذا وصف به المبعوث فالمراد به أنّه المعظّم الذي رفعه الله تعالى وعظّمه. وفي الخبر أنّ بعضهم قال للرسول عليه‌السلام يا نبيء الله مهموزا ، فقال له الرسول : لست نبيء الله وإنّما أنا نبيّ الله (ق ، ش ، ٥٦٧ ، ١٢)

ـ لا فرق في الاصطلاح بين الرسول والنبيّ (ق ، ش ، ٥٦٧ ، ١٨)

ـ فيما يفيده وصف النبي بأنّه نبيّ ، وما يتّصل بذلك : اعلم أنّه يفيد الرفعة ؛ وهي مأخوذة من النّبوة والنباوة. ومن جهة اللغة ، لا يقع فيها تخصّص من هذا الوجه ؛ لأنّها تستعمل في كل رفعة. وصارت ، في الشريعة والتعارف مستعملة في رفعة مخصوصة. ولذلك لا تستعمل في مثل رفعة المؤمنين ، حتى إذا زادت على هذا الحدّ ، وبلغت رتبة مخصوصة ، استعملت فيها ، كما أنّ الكفر لا يستعمل في العقاب فقط ، دون أن يبلغ قدرا مخصوصا ، فعند ذلك يخصّ بهذا الوصف. فالنبوّة في مقابلة الكفر ، كما أنّ قولنا" مؤمن" في مقابلة قولنا" فاسق". هذا إذا عرّيت اللفظة من الهمز. فأما إذا همزت فهي مأخوذة من الإنباء ، والإخبار والإعلام (ق ، غ ١٥ ، ١٤ ، ٢)

ـ إن كان في العباد من يكون نبيّا ، ولا يكون رسولا ، فظهور المعجز عليه ـ في أنّه لا يحسن ، ويكون مفسدة في أعلام الرسل (ق ، غ ١٥ ، ٢٤٤ ، ٥)

ـ زعمت الكرّامية أيضا أنّ النبي إذا ظهرت دعوته ، فمن سمعها منه أو بلغه خبره لزمه تصديقه والإقرار به من غير توقّف على معرفة دليله (ب ، ف ، ٢٢٢ ، ٧)

ـ في الفرق بين الرسول والنبي : إنّ كلّ من نزل عليه الوحي من الله تعالى على لسان ملك من الملائكة وكان مؤيّدا بنوع من الكرامات الناقضة للعادات فهو نبي ، ومن حصلت له هذه الصفة وخصّ أيضا بشرع جديد أو بنسخ بعض أحكام شريعة كانت قبله فهو رسول (ب ، ف ، ٣٤٢ ، ١٥)

ـ النبي في اللغة مهموز وغير مهموز. فالمهموز مأخوذ من النبأ الذي هو الخبر. وغير المهموز يحتمل وجهين : أحدهما التخفيف بإسقاط همزته. والثاني أن يكون من النبوّة التي هي الرفعة. وهي ما ارتفع من الأرض. وكذلك النباوة ما ارتفع من الأرض. ويقال نبا الشيء إذا ارتفع. فالنبي على هذا هو الرفيع المنزلة عند الله تعالى (ب ، أ ، ١٥٣ ، ١٦)

ـ إنّ النبي من أتاه الوحي من الله عزوجل ونزل عليه الملك بالوحي (ب ، أ ، ١٥٤ ، ٥)

ـ نقول (الآمدي) : إنّ الرسول لا يأتي إلّا بما لا تستقلّ به العقول ، بل هي متوقّفة فيه على المنقول ؛ وذلك كما في مسالك العبادات ، ومناهج الديانات ، والخفي مما يضرّ وينفع من الأقوال والأفعال ، وغير ذلك مما تتعلّق به السعادة والشقاوة في الأولى والأخرى. وتكون نسبة النبيّ إلى تعريف هذه الأحوال ، كنسبة الطبيب إلى تعريف خواص الأدوية والعقاقير التي يتعلّق بها ضرر الأبدان ونفعها ؛ فإنّ عقول العوام قد لا تستقلّ بدركها ، وإن عقلتها عند ما ينبّه الطبيب عليها ، وكما لا يمكن الاستغناء عن الطبيب في تعريف هذه الأمور ، مع أنّه قد

٤٤٣

يمكن الوقوف عليها ، والتوصّل بطول التجارب إليها ؛ لما يفضى إليه من الوقوع في الهلاك والإضرار ؛ لخفاء المسالك ، فكذلك النبيّ (م ، غ ، ٣٢٦ ، ١٠)

ـ النبيّ : من أوحى إليه بملك أو ألهم في قلبه أو نبّه بالرؤيا الصالحة ، فالرسول أفضل بالوحي الخاص الذي فوق وحي النبوّة لأنّ الرسول هو من أوحى إليه جبرائيل خاصّة بتنزيل الكتاب من الله (ج ، ت ، ٢٩٤ ، ٨)

ـ أكثر العقلاء : بعثة النبيّ حسنة وجائزة. البراهمة : لا ، إذ العقل كاف ، ولا يقبل ما خالفه. قلنا : يجوز أن تعرفنا الرسل بألطاف لا يهتدي إليها العقل. أبو هاشم : ولا يحسن إلّا حيث يحصل بها من مصالح الدين ما لولاها لما علم ، ومتى حسنت وجبت. البلخيّ : يجوز لمجرّد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإن لم يعلم بها أكثر مما علم بالعقل. أبو علي : يجوز لزيادة في التكليف أو زيادة تنبيه وتحذير وتأكيد لما في العقول أو لشريعة متقدّمة. لنا : لا بعثة إلّا بمعجز ، ولا معجز إلّا ويجب النظر فيه ، ولا يجب النظر إلّا مع تخويف من تركه ، ولا تخويف مع تجويز الجهل ببعض المصالح (م ، ق ، ١١٣ ، ٢)

ـ النبي اسم لمن لا درجة فوقه في التعظّم. قلت : من الآدميّين غير الأنبياء ، والمؤمن دونه (م ، ق ، ١٣٢ ، ١٨)

ـ القاسم والهادي (عليهما‌السلام) وغيرهما : والنبي أعمّ من الرسول ، لأنّ الرسول من أتى بشريعة جديدة من غير واسطة رسول خلافا للمهدي (عليه‌السلام) والبلخيّ (ق ، س ، ١٣٧ ، ١٩)

ـ المهديّ ، عليه‌السلام ، والبصريّة وظاهر كلام القاسم : ويصحّ أن يكون النبيّ نبيّا في المهد. البلخيّ : لا يصحّ. قلت : وهو الأقرب لأنّ النبوّة تكليف ، ولا تكليف على من في المهد ، لعدم التمييز والقدرة ، إلّا أن يجعلها الله (له) (ق ، س ، ١٣٨ ، ٤)

ندب

ـ مثال الندب ، هو كالأضاحي فإنّها تستحقّ العوض على الله تعالى ، دوننا ، لما كان الله تعالى هو الذي ندبنا إليه (ق ، ش ، ٥٠٢ ، ١٧)

ـ إنّه لا بدّ من تردّد الدواعي ولا تثبت الدواعي والصوارف إلّا إلى الفعل أو إلى أن لا نفعل ، وفي كل واحد من الفعل وأن لا نفعل يتناول التكليف فيه على طريقين ، ففي الفعل يستوي جميعه في استحقاق المدح والثواب به إذا فعل على وجه مخصوص. ثم يفترقان في وجه آخر وهو أنّه قد يكون الذي يستحقّ الثواب لفعله له مدخل في استحقاق العقاب بأن لا يفعله وقد لا يكون كذلك. فالأوّل الواجب والثاني الندب. وأمّا في أن لا يفعل يستوي جميعه في استحقاق الثواب أن لا يفعل على وجه مخصوص. ثم يقع الفرق من وجه آخر وهو أنّه قد يستحقّ العقاب بفعل شيء منه دون غيره. فالأوّل هو القبيح والثاني هو ما الأولى له أن لا نفعله من ترك المطالبة بالدين ولا يخرج كل ما يتناول التكليف بأن يفعل وبأن لا يفعل عن ذلك (ق ، ت ١ ، ٢ ، ٢٥)

ـ ما يقع على وجه يحسن ينقسم أقساما : فمنها ما لا صفة له زائدة على حسنه ، وفعله له وأن لا يفعله فيما يتعلّق بالذمّ والمدح سواء ، فيكون مباحا. ومنها ما يستحقّ بأن يفعله المدح ، إذا لم يمنع منه مانع ، ولا يستحقّ الذمّ بأن لا

٤٤٤

يفعله ، فيوصف بأنّه ندب ، ومرغّب فيه. ومنها ما يستحقّ به الذمّ بأن لا يفعله ، فيوصف بأنّه واجب (ق ، غ ٦ / ١ ، ٧ ، ١٧)

ـ قد يكون في الأفعال ما يستحقّ بفعله المدح ولا يستحقّ بأن لا يفعله الذمّ ، ولا يحصل نفعا موصولا إلى الغير ، فيوصف بأنّه ندب ، كالنوافل وما شاكلها (ق ، غ ٦ / ١ ، ٣٧ ، ١١)

ـ اعلم أنّ الحسن يفارق القبيح فيما له يحسن ، لأنّ القبيح يقبح لوجوه معقولة ، متى ثبتت اقتضت قبحه. والحسن يحسن متى انتفت هذه الوجوه كلها عنه ، وحصل له حال زائدة على مجرّد الوجود يخرج بها من أن يكون في حكم المعدوم. ولذلك لا يصحّ عندنا أن نعلم الحسن حسنا إلّا مع العلم بانتفاء وجوه القبح عنه. ومتى ثبت كونه حسنا ، فإنّما يحصل ندبا لحال زائدة ، وواجبا لحال زائدة. ولا يصحّ أن يكون ما له قبح القبيح جنسه ولا وجوده أو حدوثه ، ولا وجود معنى نحو الإرادة وغيرها ولا انتفاء معنى (ق ، غ ٦ / ١ ، ٥٩ ، ٦)

ـ أمّا الندب والتفضّل فلا بدّ من أن يحصل لهما صفة زائدة على حسنه ، ويكون المقتضي لها وقوعه على وجه يجري مجرى الإثبات ، ككون الفعل تفضّلا ، والنوافل مسهّلة للواجبات (ق ، غ ٦ / ١ ، ٧٢ ، ١٧)

ـ أمّا الندب والواجب فقد تقرّر في العقل استحقاق المدح بهما ، ودلّ الدليل على استحقاق الثواب عليهما ، لأنّا قد بيّنا أنّ إلزام الشاقّ لا يحسن إلّا على جهة التعريض للمنفعة ، وكما تقرّر ذلك في العقل فقد ثبت أنّ القبيح يستحقّ به الذمّ والعقاب وأنّ الإخلال بالواجب كمثل ، وأنّه إذا لم يفعل القبيح على وجه مخصوص يستحقّ المدح والثواب (ق ، غ ١١ ، ٥٠٥ ، ١٧)

ـ أمّا صفة الفعل فقد بيّنا أنّه يجب أن يكون حسنا وله صفة زائدة على حسنه حتى يصير واجبا أو تفضّلا أو ندبا (ق ، غ ١١ ، ٥١١ ، ١١)

ـ أما الواجب والندب فقد يستحقّ بهما المدح والثواب ، ومتى كان الإحسان تفضّلا استحقّ به الشكر وضربا من التعظيم ، ومتى كانت النعمة مستقلّة بنفسها عظيمة ، استحقّ بها العبادة ، وقد يستحقّ بذلك إسقاط الذمّ والعقاب بواسطة ، على ما قدّمناه ، وقد يستحقّ بالإحسان إسقاط الذمّ المخصوص بواسطة ، وكذلك بالإساءة يستحقّ سقوط الشكر بواسطة. فأمّا الدعاء للمكلّف وعليه ، والتعظيم والاستحقاق واللعن وما شاكله ، ففيه ما يتعلّق بالشرع ، وجميعه يعود إلى مثل حكم المدح والذمّ (ق ، غ ١٤ ، ١٧٢ ، ١٥)

ـ الندب ، وهو : الذي يختصّ بصفة زائدة على ماله يحسن ، لكونه عليها يستحقّ فاعله المدح ، وبأن لا يفعله يستحقّ الذمّ (ق ، غ ١٧ ، ٢٤٧ ، ١١)

ـ أما الحسن ، فضربان : أحدهما إمّا أن لا يكون له صفة زائدة على حسنه تؤثّر في استحقاق المدح والثواب ، فيكون في معنى المباح ؛ وإمّا أن يكون له صفة زائدة على حسنه لها مدخل في استحقاق المدح. وهذا القسم إمّا أن لا يكون للإخلال به مدخل في استحقاق الذمّ ، وإمّا أن يكون له مدخل في استحقاق الذمّ. والأوّل في معنى الندب الذي ليس بواجب. وهو ضربان : أحدهما أن يكون نفعا موصلا إلى الغير على طريق الإحسان إليه ، فيوصف بأنّه فضل. والآخر لا يكون نفعا موصلا إلى الغير على طريق الإحسان ، بل يكون مقصورا على فاعله ؛

٤٤٥

فيوصف بأنّه مندوب إليه ، ومرغوب فيه ، ولا يوصف بأنّه إحسان إلى الغير (ب ، م ، ٣٦٥ ، ١)

ـ حكي عن بعض الفقهاء أنّ قولنا" سنّة" يختصّ بالنفل ، دون الواجب. وهذا أشبهه من جهة العرف. ويوصف بأنّه" إحسان" إذا كان نفعا موصلا إلى الغير ، قصدا إلى نفعه. ويوصف بأنّه" مأمور به" ، لأنّ أمر الله تعالى قد تناوله. فهذه هي الأوصاف التي تختصّ" الندب" (ب ، م ، ٣٦٧ ، ٢٥)

ـ من حق الندب أن يستحقّ الثواب والمدح بفعله ؛ ولا يستحقّ الذمّ بالإخلال به ولا العقاب. لأنّهما ، لو استحقّا على الإخلال بالمندوب إليه ، لكان واجبا. وإنّما ذمّ الفقهاء من عدل عن جميع النوافل ، لاستدلالهم بذلك على استهانته بالخبر ، وزهده فيه. والنفوس تستنقص من هذه سبيله (ب ، م ، ٣٦٨ ، ١)

ـ إنّ هذه الأحكام التي هي الوجوب والقبح والحسن والندب فإنّها أحكام موجبة عن أحوال الفعل وأحكامها وهي أحكام أحوالها ، فصارت هذه الأحكام مع أحكام الفعل كالعلل مع المعلول ، فلا بدّ إذن من أن تضاف هذه الأفعال إلى الفاعل من وجه يكون له في ذلك تأثير ، وليس ذلك إلّا الحدوث (ن ، د ، ٣١٨ ، ٥)

ندم

ـ إنّ الندم على السبب يحلّ محلّ الندم عليه وعلى المسبّب إذا وقعا جميعا. فكما يكون هذا الندم توبة صحيحة منهما جميعا ، فكذلك الندم على الرمية بانفرادها ، إذا كان المعلوم أو المظنون أنّها توجب الإصابة لا محالة لقبحها ، وقبح ما يجب عنها يقوم في إسقاط العقاب المستحقّ بهما جميعا مقام الندم الأول ؛ وذلك صحيح في الندم. ألا ترى أنه يزيل العقاب إذا تعلّق بالقبيح على التفصيل وعلى الجملة ، وإن كان تعلّقه في الوجهين يختلف؟ فكذلك ما ذكرناه. وهذا ظاهر ، على ما بيّناه ، من أنّ الندم يرجع إلى الاعتقادات ، لأنّه بتصوّر الإنسان حال المضرّة في المسبّب إذا وقع سببه كتصوّره ذلك فيه إذا وقع بنفسه ، فيصحّ معنى الندم والغمّ والأسف فيهما جميعا (ق ، غ ١٢ ، ٤٧١ ، ١٣)

ـ إنّ الندم يصحّ أن يتعلّق على وجوه ، فهو مخالف في بابه للقدرة التي إنّما تتعلّق على وجه واحد ، والإرادة التي إنّما تتعلّق على طريقة واحدة ، وهو موافق الاعتقاد والعلم ، لأنّه من جنسهما ، أو مخالف لهما ، ولا يصحّ وجوده إلّا معهما ، فيجب أن يكون تعلّقه كتعلّقهما. وهذا مما يعرفه أحدنا من نفسه ، لأنّه يجد نفسه نادما على الفعل على جهاد ، والفعل لا يتغيّر ، لأنّه يجوز أن يندم عليه ، لأنّه ضرر ، ويجوز أن يندم عليه ، لقلّة انتفاعه به ، أو لما فيه من الذمّ ، أو من العاقبة الذميمة ، أو لأنّه قبيح ، أو لأنّه معصية لفلان ، أو طاعة لفلان ، إلى غير ذلك من الوجوه (ق ، غ ١٤ ، ٣٥٠ ، ٣)

ـ الندم لا يكون توبة ، من حيث كان ندما فقط ، لأنّه لا بدّ من أن يتعلّق بالفعل على وجه مخصوص ؛ فإذا صحّ ذلك ، فالذي يكون توبة من الندم ، هو أن يتعلّق بالقبيح لقبحه ، أو يقدّر هذا التقدير فيه ، لأنّه قد يكون ثابتا بالندم الذي لا متعلّق له ، بأن يظنّ أنّه فعل قبيحا ، فيندم على ما ظنّه ، ويكون ثابتا في الحقيقة ، ولذلك

٤٤٦

صحّ أن يتوب مما لا يعلمه من القبائح التي أوقعها ، إذا ظنّها ، كما يصحّ أن يتوب مما لا يعلم تفصيله ، ولذلك شرطنا ما قدّمناه. وقد يجوز أن يكون الندم توبة مما لا تعلّق له به ، إذا تعلّق بسببه (ق ، غ ١٤ ، ٣٥٠ ، ١٢)

نزول

ـ أما نزول كلام الباري تعالى فمعنى نزول الملك به ، فليس يستدعي النزول انتقالا ، فإنّك تقول نزلت عن كلامي ونزل الأمير عن حقّه ، وقد ورد إليّ الخبر نزول الربّ تعالى إلى السماء الدنيا ، وورد في القرآن مجيئه وإتيانه ، وذلك لا يستدعي انتقالا كما حقّق في التأويلات (ش ، ن ، ٤٦٦ ، ٧)

نسب

ـ النّسب والإضافات أمور لا يكون لها وجود إلّا في العقل ، واعتبارها في الأمور الخارجيّة هو كون تلك الأمور صالحة لأن يعقل منها تلك النسب والإضافات ، أي تكون بحيث إذا عقلها عاقل حصل في عقله تلك النّسبة أو الإضافة (ط ، م ، ٣٦ ، ٢)

نسخ

ـ النسخ لا يقع في قرآن قد نزل وتلي وحكم بتأويله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكنّ النسخ ما أنزل الله به على هذه الأمّة في حكمه من التفسير الذي أزاح الله به عنهم ما قد كان يجوز أن يمتحنهم به من المحن العظام التي كان صنعها بمن كان قبلها من الأمم (ش ، ق ، ٦٠٧ ، ٩)

ـ إنّ التبديل والنسخ إنّما يكون ويتصوّر في الرسم من خط أو تلاوة ؛ أو في حكم ، فيكون تقدير الكلام : وإذا بدّلنا حكم آية أو تلاوة آية ، دون المتلو القديم الذي لا يتصوّر عليه تبديل ولا تغيير ، وقد بيّن ذلك سبحانه وتعالى وأخبر أنّ كلامه القديم لا يغيّر ولا يبدّل (ب ، ن ، ٧٧ ، ١)

ـ أمّا ، النسخ فهو في الأصل الإزالة أو النقل ، على ما اختلف فيه أصحابنا ؛ فأمّا في الشرع ، فهو إزالة مثل الحكم الثابت بدلالة شرعية بدليل آخر شرعيّ ، على وجه لولاه لثبت ولم يزل مع تراخيه عنه ، فاعتبرنا أن يكون إزالة مثل الحكم الثابت ، لأنّه لو زال عين ما كان ثابتا من قبل ، لم يكن نسخا بل كان نقضا. واعتبرنا أن تكون الدلالتان شرعيتين ، لأنّهما لو كانا عقليتين أو إحداهما عقليّة والأخرى شرعيّة لم يعد نسخا ؛ ألا ترى أنّ من لزمه ردّ الوديعة مثلا ، ثم لم يلزمه بعد ذلك لعجز طرأ عليه أو لمرض اعتراه ، لم نقل : إنّه قد نسخ عنه ردّ الوديعة (ق ، ش ، ٥٨٤ ، ١)

ـ قوله عزوجل (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) (البقرة : ١٠٦) فجوّز النسخ على الآية وهو الإبدال والإزالة وجوّز النسيان عليهما ، وكل ذلك يدلّ على حدث الآية ؛ لأنّها لو كانت قديمة لم يصحّ فيها ذلك. وأن يأتي بخير منها يدلّ على أنّها محدثة ، لأنّ القديم لا يوصف بأنّ القادر يأتي بخير منه (ق ، م ١ ، ١٠٣ ، ١٦)

ـ اعلم ... أنّا قدّمنا في معنى النسخ ما يغني ، من حيث كشفنا عن العبادات ، ما يستمرّ وما لا يستمرّ ، وما يجوز أن يزول إلى بدل ، وما يزول لا إلى خلافه ؛ وهذا هو معنى النسخ ؛ فأمّا ما نفيده بهذه اللفظة فقد علمنا أنّ العبادة الشرعيّة

٤٤٧

إذا لزمت بدليل ، فالدليل على ضربين : أحدهما : يتناول عبادة واحدة ، فمعنى النسخ لا يصحّ فيه ؛ والآخر : يتناول تكريرها والاستمرار عليها ، على الوجه الذي يقتضيه الدليل ، لأنّه ربما اقتضى استمرار المكلّف عليها ، في أوقات مخصوصة ، أو من دون أوقات ؛ وعلى شرائط مخصوصة ، وعلى خلافها ، فمتى كان ظاهر الدليل يقتضي التكرير والإدامة ؛ على بعض الوجوه ، بعد أن قطع ذلك على الحدّ الذي يقتضيه الدليل ، قد يكون بمقدّمة عقليّة ، وقد يكون بأن تقتضيه قرينة الدليل حتى لا يفارق ؛ وقد يكون بدليل مستقبل ، فمتى كان بالوجهين الأوّلين لم نسمّه نسخا ، ومتى كان بالوجه الثالث نسمّيه نسخا ، لنفرّق بين ما يقتضي زوال الاستمرار والتكرار إذا كان مع الدليل ، وبينه إذا لم يكن مع الدليل ، بل عرض بعده ، ولنفرّق بين أن ينقطع بوجه كان لا يجوز أن لا ينقطع به ، وبين أن ينقطع بوجه كان يجوز أن لا ينقطع ؛ وهذه العبارات توضع للفروق ، فإذا ثبت ما ذكرناه من الفرق بين أن ينقطع استمرار التكليف عن المكلّف ، أو المكلّفين بمقدّمة عقليّة لا يجوز خلافها ، أو بقرينة للدليل ، لا ينتظر خلافه ، وبين أن ينقطع بأمر منتظر سمعيّ يجوز وروده كتجويز أن لا يرد ، فغير ممتنع أن نصف هذا الوجه بأنّه نسخ ، للتفرقة بينه وبين ما تقدّم ؛ وقد علمنا أنّه لا يجوز انقطاع ذلك التكليف الأوّل (والفعل واحد) لأنّا قد دللنا من جهة العقل ، على أنّ الفعل الواحد لا يصحّ فيه الوجوب والسقوط ، وإنّما يصحّ ذلك في فعلين ، وكذلك القول إنّه لا يجوز فيه التحريم والإيجاب ، وإنّما يصحّ ذلك في الفعلين ، فصار النسخ على الوجه الذي ذكرناه يتضمّن تغاير الأفعال ، وإن كان لفظه لا يقضي ذلك ، لأنّه لا فرق بين أن يقتضيه الدليل العقليّ ، وبين أن يقتضيه لفظه ، فإذا كان لفظ الدليل لو اقتضى ذلك لم يجز أن يلتبس بالفعل الواحد ، فكذلك القول إذا اقتضاه الدليل العقليّ ، بل ما يقتضيه الدليل العقليّ أوكد ، لأنّه يخرج عن باب الاحتمال (ق ، غ ١٦ ، ٩٢ ، ٥)

ـ إنّ النسخ هو : ما اقتضى من الأدلّة الشرعيّة أن لا يدوم الفعل الشرعي ، وأن ينقطع إذا كان ذلك الدليل منتظرا ، فما هذه حاله نصفه بأنّه نسخ تشبيها بإزالة الريح الآثار المعلومة ، لأنّ تلك الآثار يجوز أن تثبت وتدوم ، وهذا هو الظاهر من حالها ، والريح المزيلة لها منتظرة غير مقطوع بها ؛ فإذا وردت قيل فيها نسخت الآثار ، لأنّها قطعت الاستمرار ؛ فكذلك القول في الدليل الشرعيّ المنتظر ، إذا قطع التكرار ، الذي لو لا هذا الدليل لكان في حكم الثابت. فأمّا إذا كان زواله غير منتظر فذلك لا يعدّ نسخا ، وكذلك إذا كان في تفصيل الأوقات ينتظر ، ولا ينتظر في جملته ، كالعجز وغيره فذلك لا يعدّ نسخا ؛ ولذلك قلنا في الرسول ، لو دعا إلى شريعة سنّة واحدة ، لم يكن الرسول الثاني ناسخا لتلك الشريعة ؛ لأنّ المكلّف لا ينتظر هذا الثاني ، لزوال الأوّل دوامه ، وإنما ينتظره كما ينتظر ذوو العقول الرسل ، بل يعلم أن شريعته تنقطع بعد تقضي السنّة ، ورد رسول ثان أو لم يرد ، وإنّما يقال في الرسول الثاني ، إنّه ناسخ بشرعه لشرع الرسول الأوّل ، متى دعا الرسول الأوّل إلى إدامة ذلك الفعل ، ولم يعلّقه بوقت ؛ ويكون جواز ورود الرسول الثاني ، من جهة العقل يقتضي أنّه متى ورد ودلّ على زوال

٤٤٨

تكرار الشرع الأوّل يكون ناسخا (ق ، غ ١٦ ، ٩٤ ، ١٢)

ـ قد بيّنّا في كتاب" العمد" : أنّ الحكم المضاد للحكم الأوّل إنّما يكون ناسخا لأنّه يقتضي زوال التكرار ، وقطع الإدامة ، لا لأنّ النسخ يحتاج فيه إلى بدل ، أو يقتضي ذلك ، بل لأنّ البدل إذا كان منافيا فكما دلّ على إثبات الحكم فقد دلّ على زوال التكرار ، فيما ينافيه ، فحلّ محل سائر الأدلّة الدالّة على ذلك (ق ، غ ١٦ ، ٩٥ ، ١٠)

ـ إنّ النسخ قد لا يصحّ في الأمر إذا تعلّق بفعل مخصوص ، فيجب على هذا أن يجوّز فيما حلّ هذا المحل أن لا يدلّ على المراد به كالخبر ، وهذا يوجب أنّ الأمر كلّما زاد توكيدا وتخصيصا فهو أبعد من أن يجب أن يعلم به المراد ، وهذا مما لا يبلغه مميّز (ق ، غ ١٧ ، ٤٦ ، ١٥)

ـ ما ذهب إليه الشافعيّ وغيره : في أنّ القرآن لا ينسخ بالسنّة القاطعة ، لأنّها إذا كانت دلالة على حدّ القطع ، فهي بمنزلة القرآن فلا يجوز ألّا تدلّ على النسخ ، وهي دالّة على سائر الأمور ، لأنّها في دلالتها لا يجوز أن تختصّ ، لهذه الجملة ما عدل الفقهاء ، من أصحاب الشافعي إلى أن نسخ الكتاب بالسنّة لا يوجد ؛ ولو وجدت سنّة يصحّ أن تكون ناسخة لوجب كونها ناسخة (ق ، غ ١٧ ، ٩٠ ، ٧)

ـ إنّ النسخ قد يقع بأدلّة العقول عندنا ، وإنّما لا يسمّى نسخا ، إذا كان نسخا بالإسقاط والإزالة. فأمّا إذا كان بحكم شرعيّ مضادّ للحكم الأوّل فإنّما لا يقع بأدلّة العقول ، لأنّها تدلّ على ما هذه حاله (ق ، غ ١٧ ، ٩٠ ، ١٨)

ـ معنى النسخ عندنا بيان انتهاء مدّة العبادة. فإنّ ورود ... الأمر بالعبادة يؤقت ... بغاية ، فذلك بيان نهاية وليس بيان انتهاء (ب ، أ ، ٢٢٦ ، ١٠)

ـ زعم أكثر اليهود إنّ الأمر إذا ورد مطلقا لم يجز ورود نسخ حكمه بعده. وأجاز آخرون منهم النسخ من طريق العقل وقالوا إنّما لم نقرّ ... بنسخ شريعة موسى عليه‌السلام لأنّه أمرنا بالتمسّك بها أبدا (ب ، أ ، ٢٢٦ ، ١٣)

ـ المرضي عندنا ، أنّ النسخ هو الخطاب الدّال على ارتفاع الحكم الثابت بخطاب آخر على وجه لولاه لاستمرّ الحكم المنسوخ ، ومن ضرورة ثبوت النسخ على التحقيق ، رفع حكم بعد ثبوته (ج ، ش ، ٢٨٣ ، ١٢)

ـ المعتزلة يصيرون إلى أنّ النسخ لا يرفع حكما ثابتا ، وإنّما يبيّن انتهاء مدّة شريعة ، وإلى ذلك مال بعض أئمتنا ، وقالوا : النسخ تخصيص الزمان ؛ وعنوا به أنّ المكلّفين إذا خوطبوا بشرع مطلق ، فظاهر مخاطبتهم به تأبيده عليهم ، فإذا نسخ استبان أنّه لم يرد باللفظ إلّا الأوقات الماضية (ج ، ش ، ٢٨٤ ، ٣)

ـ تبديل الآية مكان الآية هو النسخ ، والله تعالى ينسخ الشرائع بالشرائع لأنّها مصالح ، وما كان مصلحة أمس يجوز أن يكون مفسدة اليوم وخلافه مصلحة. والله تعالى عالم بالمصالح والمفاسد فيثبت ما يشاء وينسخ ما يشاء بحكمته (ز ، ك ٢ ، ٤٢٨ ، ١٥)

ـ كان (المختار) لا يفرّق بين النسخ والبداء ، قال : إذا جاز النسخ في الأحكام ، جاز البداء في الأخبار (ش ، م ١ ، ١٤٩ ، ٩)

ـ قال بعض العلماء النسخ رفع الحكم بعد ثبوته ، وقال بعضهم النسخ تبيين انتهاء مدّة الحكم ، وكأنّه تخصيص بزمان ، وهو بظاهره كان شاملا

٤٤٩

لكل زمان ، وبالنسخ يتبيّن أنّه لم يشمل الأوقات كلها (ش ، ن ، ٤٩٩ ، ٧)

ـ قالت اليهود النسخ رفع تكليف بعد توجّهه على العباد ، وذلك لا يجوز في حق الباري تعالى ، فإنّه يؤدّي ذلك إلى البداء والندم على ما قال (ش ، ن ، ٤٩٩ ، ١٠)

ـ النسخ في اللغة : الإزالة والنقل وفي الشرع هو أن يرد دليل شرعيّ متراخيا عن دليل شرعيّ مقتضيا خلاف حكمه ، فهو تبديل بالنظر إلى علمنا وبيان لمدّة الحكم بالنظر إلى علم الله تعالى (ج ، ت ، ٢٩٦ ، ٢)

ـ النسخ في اللغة : عبارة عن التبديل والرفع والإزالة ، يقال نسخت الشمس الظلّ أزالته ، وفي الشريعة هو بيان انتهاء الحكم الشرعيّ في حق صاحب الشرع وكان انتهاؤه عند الله تعالى معلوما. إلّا أنّ في علمنا كان استمراره ودوامه وبالناسخ علمنا انتهاءه ، وكان في حقنا تبديلا وتغييرا (ج ، ت ، ٢٩٦ ، ٥)

ـ النسخ ، لغة ، بمعنى الإزالة وبمعنى النقل. عند أئمتنا ، عليهم‌السلام ، وبعض المعتزلة : وقيل بل حقيقة في الأوّل مجاز في الثاني. وقيل : بل العكس. وشرعا : بيان انتهاء الحكم الشرعيّ بطريق شرعيّ واجب التراخي عن وقت إمكان العمل (ق ، س ، ١٥٧ ، ١٧)

نسيء

ـ إنّ النسيء ـ على ما ذكرناه ـ من أفعال الجوارح ، وقد جعله تعالى كفرا ، فإذا صحّ ذلك لم يمتنع في تركه الواقع بالجوارح أن يكون إيمانا (ق ، م ١ ، ٣٢٨ ، ١٦)

نشأة

ـ إن قال قائل ما الدليل على جواز إعادة الخلق ، قيل له الدليل على ذلك أنّ الله سبحانه خلقه أولا لا على مثال سبق ، فإذا خلقه أولا لم يعيه أن يخلقه خلقا آخر وقد قال الله عزوجل : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (يس : ٧٨ ـ ٧٩) فجعل النشأة الأولى دليلا على جواز النشأة الآخرة لأنّها في معناها ثم قال (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) (يس : ٨٠) فجعل ظهور النار على حرّها ويبسها من الشجر الأخضر على نداوته ورطوبته دليلا على جواز خلقه الحياة في الرّمة البالية والعظام النخرة وعلى قدرته على خلق مثله (ش ، ل ، ٨ ، ١٨)

نصارى

ـ ذكر شيخنا أبو علي ، رحمه‌الله ، أنّ من مذهب جميع النصارى ، إلّا نفر منهم يسير ، أنّ الله تعالى خالق الأشياء والخالق حيّ متكلّم ؛ وحياته هي الروح التي يسمّونها روح القدس ؛ وكلامه هو علم. ومنهم من يقول في الحياة إنّها قدرة. وزعموا أنّ الله وكلمته وقدرته قدماء ، وأن الكلمة هي الابن وهي عندهم المسيح الذي ظهر في الجسد الذي كان في الأرض. ويختلفون في الذي يستحقّ اسم المسيح. فمنهم من يقول إنّه الكلمة والجسم إذ اتّحد بعضهما ببعض. ومنهم من يزعم أنّه الكلمة دون الجسد. ومنهم من يزعم أنّه الجسد المحدث وأنّ الكلمة صارت جسدا محدثا لما صارت في بطن مريم وظهرت للناس. ويزعمون جميعا أن الكلمة هي الابن وأن الذي له الروح والكلمة هو الابن. ويزعمون أن هذه الثلاثة هي إله واحد وخالق واحد وأنّها من

٤٥٠

جوهر واحد. وهذا جملة ما حكاه (ق ، غ ٥ ، ٨٠ ، ٤)

نصب الأدلة

ـ إنّما يجب أن ينصب ـ تعالى ـ الأدلّة فيما يحتاج في معرفته إلى اكتساب العلوم ، فأمّا ما يعلمه المكلّف باضطرار فتعريفه ـ تعالى ـ ذلك باضطرار أبلغ من تمكينه بنصب الأدلّة ، فلذلك لا يجب فيه نصب الأدلّة. وإن كان الأكثر منه ممّا لا دليل عليه فالكلام فيه أصلا لا يصحّ. وقد بيّنا أنّ في الأمور التي يحتاج المكلّف إليها ما المعتبر فيه حصوله من أيّ جهة حصل ؛ كما أنّ المعتبر في قبح التكليف عند فقد شرائط التكليف فقدها من أيّ وجه حصل. ولذلك قام نصب الأدلّة من فعل غير القديم في بعض المواضع مقام نصب الأدلّة من فعله. وإذا صحّ أنّ العلم لا يصحّ أن يكتسب إلّا بالنظر في الدلالة المعلومة فقد صار فقدها في أنّه يوجب تعذّر ذلك بمنزلة فقد الآلات. فلذلك وجب عليه ـ سبحانه ـ أن ينصب الأدلّة حتى يحسن أن يكلّف ؛ كما وجب أن يمكّن بالآلات وغيرها (ق ، غ ١١ ، ٤٠٩ ، ٥)

نصب الإمام

ـ إنّ سبيل نصب الإمام وأمر الإمامة كسبيل سائر الأحكام في أنّ ذلك ممّا يعرف نصّا واجتهادا ، فإن لم يكن في ذلك نصّ وكان للاجتهاد في ذلك مدخل وله أصل يمكن أن يبنى عليه وينتزع حكمه منه ويتعرّف صير إلى ذلك عند عدم النصّ وفقده (أ ، م ، ١٨٣ ، ٤)

نصر

ـ قال أهل الإثبات : النصر من الله ما يفعله ويقذفه في قلوب المؤمنين من الجرأة على الكافرين ، وقد تسمّى القوّة على الإيمان نصرا (ش ، ق ، ٢٦٤ ، ١٢)

ـ قوله تعالى : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) (النصر : ١) لا يصحّ إلّا مع القول بأنّ المنصور ، بنصره ، ممكن من الفعل الذي نصر فيه ، لأنّ النصر هو المعونة والتأييد ، ولو لم يكن العبد قادرا على المجاهدة لم يصحّ أن يوصف بالنصر ، ولوجب أن يكون ما يأتيه ، في أنّه لا يصحّ أن يوصف بذلك ، بمنزلة اللون والهيئة وسائر ما يخلقه تعالى في العبد ، في أنّه لا يصحّ أن يوصف بأنّه نصر العبد فيه (ق ، م ٢ ، ٧٠٤ ، ٣)

ـ أمّا النصر الحجّة والأدلّة وشرح الصدر عند ورود الأدلّة المؤكّدة أو ما يجري مجراها من الشواهد ، وبالمدح والتعظيم ، وبأمره جلّ وعزّ بمدح المؤمنين وتأييدهم ومعونتهم فيما يعرض في باب الدين ـ إلى ما شاكله ـ فهو جار مجرى الثواب أو يحل محلّ التمكين ، فلا يعتبر في الباب الأوّل ، وإن لم يمتنع في بعضه أن يكون لطفا (ق ، غ ١٣ ، ١١٢ ، ١)

نصرة

ـ قالت المعتزلة إنّ نصر الله المؤمنين قد يكون على معنى نصرهم بالحجّة كما قال : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) (غافر : ٥١) وقد تكون النصرة بمعنى أن يزلزل أقدام الكافرين ويرعب قلوبهم فينهزموا فيكون ناصرا للمؤمنين عليهم وخاذلا لهم بما طرحه من الرعب في قلوبهم ، فإن انهزم المؤمنون لم يكن ذلك بخذلان من الله سبحانه لهم بل هم منصورون بالحجّة على الكافرين وإن كانوا منهزمين (ش ، ق ، ٢٦٤ ، ٨)

٤٥١

ـ اعلم أنّ الأصل في النصرة إنّما تستعمل إذا تعلّق الفعل بغيره ، فيقال إنّه منصور على غيره ، ولذلك يكثر استعماله في الحرب والقتل ، لكنه استعمل في سائر ما يقتضي الظفر بالعدو في الحال أو في الثاني ، فوصف الحجّة إنّها نصرة ، ووصفت الطاعة بذلك ، من حيث تؤدّي إلى المدح وزوال الذمّ ، والظفر من هذا الوجه بالعدو ، في الاستخفاف والإهانة ، واستعمل فيما يفعله تعالى بالمجاهد في الأمور التي معها يظفر بالكفار ، من تثبيت الأقدام ، وتقوية القلوب ، وما يثبته في قلوب العدو من الرعب ، والإمداد بالملائكة ، والتذكير بما يستحقّه المجاهد من عظم الثواب ، إلى غير ذلك. ولا بدّ من أن يعتبر في النصرة الظفر على وجه لا يتعقّبه المضار الموفية على ما يحصل في الحال من النفع والسرور ؛ لأنّه متى كان كذلك ، عاد الحال فيما حصل في الوقت إلى أنّه مضرّة. ولا تستعمل النصرة إلّا في المنافع وما يؤدّي إليها (ق ، م ٢ ، ٧٢٥ ، ١٩)

ـ أمّا النصرة فتنقسم : ففيها ما هو ثواب ، وفيها ما هو لطف. فأمّا الإمداد بالملائكة وتثبيت الأقدام ، فهو لطف ؛ لأنّ عنده يختار الجهاد ، أو يكون أقرب إلى اختياره. وأمّا ما يفعله تعالى من أنواع المدح والتعظيم ، فهو الثواب. فعلى هذا يجب أن يجري القول فيها (ق ، م ٢ ، ٧٢٧ ، ٣)

ـ أمّا الكلام في النصر والخذلان ، وما يجوز أن يكون لطفا منهما وما لا يجوز ، فقد اختلف قول أبي علي ، رحمه‌الله ، في ذلك. فيقول في موضع : إنّ النصرة كلها ثواب ، والخذلان كله عقاب. ويقول في موضع آخر : إنّ النصرة فيها ثواب وفيها غيره ، ويومئ إلى أنّه لطف. وقد نصره أبو هاشم ، رحمه‌الله ، وذلك أن ما يفعله تعالى من إيقاع الرعب في قلوب الكافرين لكي يظهر عليهم المؤمنين لا يمنع أن يكون لطفا ، وكذلك فيما يفعله تعالى بالمؤمنين عند المجاهدة من تثبيت قلوبهم وأقدامهم لا يمتنع أن يكون لطفا في وقوع الظّفر منهم ، وما يفعله تعالى من تأييد المجاهدين بالملائكة على ما ورد به الخبر لا يمتنع أن يكون لطفا. فما حلّ هذا المحلّ لا يمتنع أن يكون لطفا ، بل يجب في بعضه أن يكون لطفا ، لأنّه لا وجه يحسن لأجله سواه (ق ، غ ١٣ ، ١١١ ، ١٢)

نطق

ـ النطق عندنا هو التصرّف في العلوم والصناعات ومعرفة الأشياء على ما هي عليه (ح ، ف ١ ، ٨٠ ، ١٦)

نظر

ـ (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (يونس : ١٤) ... ومعنى ننظر أي نحكم عليكم بما يكون من خبركم (ي ، ر ، ٤٦ ، ٦)

ـ إن قال قائل زيدوني وضوحا في صحّة النظر ، قيل له قول الله تعالى مخبرا عن إبراهيم عليه‌السلام لمّا رأى الكوكب (قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) (الأنعام : ٧٦ ـ ٧٧) فجمع عليه‌السلام القمر والكوكب في أنّه لا يجوز أن يكون واحد منهما إلها ربّا لاجتماعهما في الأفول. وهذا هو النظر والاستدلال الذي ينكره المنكرون وينحرف عنه المنحرفون (ش ، ل ، ٩ ، ١٥)

٤٥٢

الدليل على أنّ الله تعالى يرى بالأبصار قوله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (القيامة : ٢٣) ولا يجوز أن يكون معنى قوله (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (القيامة : ٢٣) معتبرة كقوله (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) (الغاشية : ١٧) لأن الآخرة ليست بدار اعتبار. ولا يجوز أن يعني متعطفة راحمة كما قال (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ) (آل عمران : ٧٧) أي لا يرحمهم ولا يتعطف عليهم لأنّ الباري لا يجوز أن يتعطف عليه. ولا يجوز أن يعني منتظرة لأنّ النظر إذا قرن بذكر الوجوه لم يكن معناه نظر القلب الذي هو انتظار ، كما إذا قرن النظر بذكر القلب لم يكن معناه نظر العين. لأنّ القائل إذا قال" أنظر بقلبك في هذا الأمر" كان معناه نظر القلب ، وكذلك إذا قرن النظر بالوجه لم يكن معناه إلّا نظر الوجه ، والنظر بالوجه هو نظر الرؤية التي تكون بالعين التي في الوجه. فصحّ أنّ معنى قوله تعالى (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (القيامة : ٢٣) رائية إذ لم يجز أن يعني شيئا من وجوه النظر. وإذا كان النظر لا يخلو من وجوه أربع وفسد منها ثلاثة أوجه صحّ الوجه الرابع وهو نظر رؤية العين التي في الوجه (ش ، ل ، ٣٤ ، ٨)

ـ الأصل في لزوم القول بعلم النظر وجوه : أحدهما الاضطرار إليه في علم الحس والخبر ، وذلك فيما يبعد من الحواس أو يلطف ، وفيما يرد من الخبر أنّه في نوع ما يحتمل الغلط أو لا ، ثم آيات الرّسل وتمويهات / السحرة وغيرهم في التمييز بينها ، وفي تعرّف الآيات بما يتأمل فيها [من] قوى البشر وأحوال الآتي بها ليظهر الحق بنوره والباطل بظلمته (م ، ح ، ٩ ، ١٦)

ـ بالفكر والبحث إرادة ما يضطر إلى العلم بأنّ الحق في ما انكشف له ، مع اشتباه خاطر الرحمن في الأمر والتحذير من خاطر الشيطان. وفي ترك النظر / والبحث أمن ذلك ؛ إذ لم ينكشف له ما يلزمه التمييز ، ولا يخطر بذهنه ما يبعثه على الطلب (م ، ح ، ١٣٥ ، ١١)

ـ إنّ لزوم النظر ليس عقيب نظر تقدّمه ، بل عقيب الذي به يقع النظر والبحث وهو العقل الذي به يعرف المحاسن والمساوئ ، وبه يعلم فضله على سائر الحيوان (م ، ح ، ١٣٥ ، ١٣)

ـ أمّا الاستدلال والنظر فهو تقسيم المستدل وفكره في المستدل عليه وتأمّله له ؛ وقد يسمّى ذلك أيضا دليلا ودلالة ، مجازا واتساعا لما بينهما من التعلّق. وقد تسمّى العبارة المسموعة التي تنبئ عن استدلال القلب ونظره وتأمله نظرا واستدلالا ، مجازا واتساعا لدلالتها عليه (ب ، ت ، ٤٠ ، ١)

ـ أمّا سبيل العلم بكلام الذراع وتسبيح الحصى وحنين الجذع وجعل قليل الطعام كثيرا وأشباه ذلك من أعلامه ، عليه‌السلام فهو نظر واستدلال لا اضطرار (ب ، ت ، ١١٥ ، ١٠)

ـ جنس النظر ممّا لا يجوز عليه البقاء. فلم يصحّ أن يتعلّق العلم الواحد بمعلومين من طريق التفصيل. فأمّا من طريق الجملة فلا خلاف فيه بين أصحابنا وبين المعتزلة وسواء كان ذلك علما مكتسبا أو ضروريّا ، لأنّ علمنا بأنّ معلومات الله تعالى لا نهاية لها وكذلك مقدوراته علم يتناولها على طريق الجملة وهو علم واحد والمعلومات أكثر من ذلك. ولسنا نقطع الآن أنّ الإنسان يعلم من طريق الضرورة معلومات على التفصيل بعلم واحد بل نجيز ذلك. فأمّا العلم بمعلومات الله سبحانه كلها

٤٥٣

على التفصيل فذلك غير مشكوك فيه أنّه لم يوجد ، وإذا وجد فإنّما يوجد على نقض العادة (أ ، م ، ١٣ ، ١٠)

ـ إنّ النظر هو الفكر والتأمّل والاعتبار والمقايسة وردّ ما غاب عن الحسّ إلى ما وجد العلم به فيه لاستوائهما في المعنى واجتماعهما في العلّة (أ ، م ، ١٧ ، ٩)

ـ كان يجيز أن ينفرد النظر عن العلم والعلم عن النظر إلّا أنّه لا يسمّى المنفرد عنه كسبا (أ ، م ، ١٩ ، ٦)

ـ إنّ النظر لفظة مشتركة بين معان كثيرة : قد يذكر ويراد به تقليب الحدقة الصحيحة نحو المرئي التماسا لرؤية ، تقول العرب نظرت إلى الهلال فلم أره. وقد يذكر ويراد به الانتظار ، قال الله تعالى (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) (البقرة : ٢٨٠) أي انتظار ، وقال (فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) (النمل : ٣٥) أي منتظرة ، وقال المثقب العبدي أو الممزق : فإن يك صدر هذا اليوم ولى فإن غدا لناظره قريب. أي لمنتظره. وقال الفقسعيّ : فإنّ غدا للناظرين قريب. أي للمنتظرين. وقد يذكر ويراد به العطف والرحمة ، قال الله تعالى : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) (آل عمران : ٧٧) أي لا يرحمهم ولا يثيبهم. ويروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم" من جر إزاره بطرا لا ينظر الله إليه يوم القيامة. أي لا يرحمه". وقد يذكر ويراد به المقابلة ، تقول العرب داري تنظر إلى دار فلان أي تقابلها ، وتقول إذا أخذت في طريق كذا فنظر إليك الجبل أي قابلك فخذ عن يمينك أو عن شمالك. وقد يذكر ويراد به التفكّر بالقلب ، قال الله تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) (الغاشية : ١٧) ، أفلا يفكرون في خلقها. وإنّما تتميّز هذه الأنظار بعضها من بعض بما يقترن بها من القرائن ، وينضاف إليها من الشواهد (ق ، ش ، ٤٤ ، ١)

ـ سائر الشرائع من قول وفعل لا تحسن إلّا بعد معرفة الله تعالى ، ومعرفة الله لا تحصل إلّا بالنظر ، فيجب أن يكون النظر أوّل الواجبات (ق ، ش ، ٦٩ ، ١٧)

ـ قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (القيامة : ٢٢ ـ ٢٣) لا يدلّ ظاهره على أنّه تعالى يرى : من وجوه : أحدها : أنّه تعالى ذكر أنّها ناظرة إلى ربها ، والنظر غير الرؤية لأنّه إذا علق بالعين ، فالمراد طلب الرؤية ، كما إذا علق بالقلب ، فالمراد طلب المعرفة ، ولذلك يقول القائل : نظرت إلى الشيء فلم أره ، ونظرت إليه حتى رأيته ، فلذلك نعلم باضطرار أنّ الناظر ناظر ولا نعلمه رائيا إلّا بخبره. ولذلك أضافت العرب النظر إضافات ، فجعلت منه نظر الراضي والغضبان إلى غير ذلك ، ولم تضف الرؤية على هذا الحدّ. وإذا كان النظر غير الرؤية ـ لما ذكرناه ـ فكيف يدلّ الظاهر على أنّهم يرون الله (ق ، م ٢ ، ٦٧٣ ، ٨)

ـ اعلم أنّ النظر لا يراد لنفسه وإنّما يراد لما توصّل إليه من المعرفة ، فصار وجوبه للخوف من تركه وجوب المعرفة بالله وصفاته وعدله للطف. وإن كنّا إذا حقّقنا فهو مما لا يتمّ اللطف دونه (ق ، ت ١ ، ٢٤ ، ٢)

ـ استدلّوا على أنّه سبحانه يرى بقوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (القيامة : ٢٢ ـ ٢٣) ، وأنّه جلّ وعزّ دلّ بذلك على أنّه يصحّ أن يرى ، لأنّ النظر إذا علّق بالوجه لم يحتمل إلّا الرؤية. قالوا : والنظر إذا عدّى بإلى لم يحتمل إلّا الرؤية ولم يحتمل الانتظار ، لأنّه لا يقال في

٤٥٤

زيد إنّه ناظر إلى فلان ، ويراد الانتظار ، وإنّما يقال هو منتظر فلانا ، قالوا : على أنّا إذا قسمنا النظر خرج من القسمة أنّ المراد بالآية الرؤية على ما نقوله ، ولذلك أنّ النظر يحتمل وجوها : منها الفكر ، ومنها التعطّف والرحمة ، ومنها الانتظار ، ومنها الرؤية (ق ، غ ٤ ، ١٩٧ ، ٨)

ـ إنّ النظر بمعنى الفكر لا يعدّى بإلى. ألا ترى أنّ القائل إنّما يقول نظرت في الشيء بمعنى الفكر ، ولا يقول نظرت إليه (ق ، غ ٤ ، ١٩٧ ، ١٦)

ـ أمّا النظر فإنّه يولّد العلم متى تعلّق بالدليل ، وكان الناظر عالما به على الوجه الذي يدلّ على المدلول ونظر فيه على هذا الوجه ، ومتى لم يكن الناظر بهذه الصفة ولا كان النظر متعلّقا على هذا الوجه لم يولّد العلم (ق ، غ ٩ ، ١٦١ ، ٤)

ـ اعلم ، أنّ النظر ، وإن كان متى أطلق ، فقد تعبر به عن وجوه : عن تقليب الحدقة الصحيحة نحو المرئي ، التماسا لرؤيته ؛ وعن الرحمة والإحسان ؛ وعن نظر القلب ؛ وعن الانتظار على ما فيه من الاختلاف في أن تعبر به عنه على جهة الحقيقة أو التوسّع ؛ فالمقصد بها بهذا الموضع ذلك نظر القلب دون غيره ، وحقيقة ذلك هو الفكر. لأنّه لا ناظر بقلبه إلّا مفكّرا ، ولا مفكّر إلّا ناظرا بقلبه ؛ وبهذا تعلم الحقائق (ق ، غ ١٢ ، ٤ ، ٤)

ـ اعلم ، أنّ النظر كالاعتقاد ، في أنّه يجب أن يتعلّق بغيره ، وفي أنّه يتعلّق بالأشياء على سائر وجوهها ؛ وإن كان يخالف الاعتقاد في أنّه يتعلّق بكون الشيء على صفة. والنظر لا يتعلّق بصفة واحدة ، بل يتعلّق بهل هو على صفة ، أو على ضدّها ، أو ليس هو عليها؟ وأظنّ شيخنا أبا عبد الله ، رحمه‌الله ، يقول في نظر الإنسان ، في هل الجسم قديم أو محدث : إنّه ليس بنظر واحد ، وإنّهما جزءان من النظر وإن لم يفارق أحدهما الآخر إذا سلك الناظر هذه الطريقة. والأولى ما قدّمناه في أنّه يتعلّق ، وإن كان جزءا واحدا على هذا الحدّ (ق ، غ ١٢ ، ٩ ، ٣)

ـ من حقّه (النظر) أن يتعلّق بالشيء الّذي له تعلّق بما نلتمس ، بالنظر ، العلم به أو الظنّ به من دليل أو أمارة ؛ ويخالف ، في ذلك ، غيره من المعاني مما يتعلّق بالشيء ، وإن لم يكن له تعلّق بشيء سواه. ومن حقّه أن يتعلّق بعضه ببعض ، كتعلّق العلوم بعضها ببعض ؛ لأنّه لا يصحّ أن ينظر في حدوث الأغراض ، إلّا بعد النظر في إثباتها. وقد ذكر ذلك شيخنا أبو هاشم ، رحمه‌الله (ق ، غ ١٢ ، ١٠ ، ١)

ـ من حقّ النظر أن تجوز فيه القلّة والكثرة كسائر الأفعال. وإنّما لا يجوز أن يكون الكثير منه يولّد جزءا واحدا من العلم ، لما سنبيّنه. فأمّا العبارة عنه بالطول والقصر ، فإنّه بعيد ، لأنّه في الحقيقة إنّما يصحّ في الأجسام. وقد نتّسع به في الكلام تشبيها بما له تأليف ونظام. فأمّا النظر فكالإرادة في أنّه قد يتوالى حدوثه ، وقد لا يتوالى. فكما لا نعبر بذلك عن الإرادة ، فكذلك في النظر (ق ، غ ١٢ ، ١٠ ، ١٥)

ـ من حقّ النظر أن يكون فيه ما يولّد العلم ، إذا كان نظرا من عاقل في دليل معلوم له على الوجه الذي يدلّ ؛ ويكون فيه ما لا يولّد العلم ، بل يقتضي غالب الظن في أمور الدنيا ؛ وقد يكون فيه ما لا يحصل عنده الوجهان جميعا. ولا يصحّ أن يكون فيه ما يولّد الشّبهة أو الجهل (ق ، غ ١٢ ، ١١ ، ٣)

٤٥٥

ـ من حقّ النظر أن لا يصحّ إلّا مع الشك في المدلول ، عند شيخينا ، رحمهما‌الله ؛ فأمّا ما إذا كان عالما بالمدلول ، فالنظر لا يصحّ منه. وذكر شيخنا أبو عبد الله ، رحمه‌الله ، أنّ النظر إنّما لا يصحّ مع العلم بالمدلول ؛ فأمّا أن تجب مجامعة الشكّ له في المدلول فلا ؛ بل قد يصحّ مع اعتقاد المدلول ، ومع الظنّ به. ويجب أن لا يصحّ أن يجامعه ما يقتضي العلم بالمدلول ، على قول الكل ، نحو أن ينظر ويعلم أنّه يولّد العلم بشيء مخصوص ، على وجه مخصوص.

فأمّا مجامعة العلم ، فإنّه يولّد أصلا له ، وأنّه يولّد العلم بالشيء ؛ وإن لم يعلم على أي وجه يولّد ، فغير ممتنع (ق ، غ ١٢ ، ١١ ، ١٤)

ـ إنّ في النظر ما يكون صحيحا ؛ وفيه ما لا يصحّ لأنّه لا يولّد العلم ، كالنظر في أمور الدنيا ، وفيما ليس بدليل ، وفيما لا يعلمه المستدلّ وإن كان دليلا لكنّه لا يكون فاسدا. وقد دلّ الدليل على أن لا نظر يوجب جهلا أو ظنّا. وقد صرّح بذلك في غير موضع ، فقال : إنّ النظر الصحيح لا بدّ من أن يولّد العلم (ق ، غ ١٢ ، ٦٩ ، ٩)

ـ إنّ النظر يولّد العلم ، يدلّ على ذلك أنّ عند النظر في الدليل يحصل اعتقاد المدلول على طريقة واحدة ، إذا لم يكن هناك منع ، ويحصل هذا الاعتقاد عنده بحسبه ، لأنّه لا يحصل عنده اعتقاد غير المدلول. لأنّه إذا نظر في دليل حدوث الأجسام ، لم يحصل عنده اعتقاد النبوّات ؛ وإذا نظر في دليل إثبات الأعراض ، لم يحصل عنده العلم بإثبات المحدث. فإذا وجب وجوده عنده على طريقة واحدة ، فبحسبه من الوجه الذي بيّناه. ويجب أن يكون حاله في أنّه متولّد عنه ، كحال سائر المتولّدات. فلو لم تدلّ هذه الطريقة على ما ذكرناه ، لم تدلّ سائر الأدلّة على إثبات التوليد ، ولما دلّ وجوب وقوع التصرّف بحسب قصده ودواعيه على طريقة واحدة على أنّه فعله. وقد بيّنا صحّة ذلك في باب التوليد من هذا الكتاب (ق ، غ ١٢ ، ٧٧ ، ٢)

ـ إنّ النظر لا يقع من الطفل على الوجه الذي يولّد ، لأنّ من حقّه أن لا يولّد ، إلّا إذا كان الناظر عالما بالدلالة على الوجه الذي يدلّ. وذلك لا يتأتّى في الطفل ، فلذلك لم يولّد العلم (ق ، غ ١٢ ، ٧٨ ، ١٢)

ـ إنّ شيخنا أبا عبد الله قد ذكر أنّ النظر الذي يولّد العلم من حقّه أن لا يوجد إلّا ويولّد ، ومنع من وجوده بعينه إذا كان الناظر معتقدا للدلالة ؛ وحكم بأن ما يوجد منه مع الاعتقاد ، غير الذي يوجد منه مع العلم. فإذا كان كذلك ، لم يقدح في قولنا : إنّ النظر يولّد العلم. ولم يحتج على هذا الوجه أن يقال : إنّ من شرط توليده ، كون الناظر عالما بالدلالة ؛ بل يجب متى وجد هذا النظر أن يولّد العلم لا محالة. وهذا يبعد ، لأنّ ما يقدر عليه من النظر في الدلالة ، يجب أن يصحّ أن يفعله ، كان عالما بالدلالة أو معتقدا لها ، من حيث لا يصير للنظر بمفارقته للعلم أو للاعتقاد حالة مخصوصة ، فيحكم لأجله بتغاير ما يوجد عندهما ، ولا القدرة أو المحل أو الفاعل متغايرا ، فيتغاير النظر لأجله. فإذا صحّ كون النظر واحدا ، فلا بدّ من أن يرجع إلى ما قدّمناه (ق ، غ ١٢ ، ٨١ ، ٥)

ـ إذا حصل ، في النظر ، ما يمنع من كونه مولّدا ، لم يمتنع أن يقال : إنّ العلم يولّد ، وإن كان باقيا ؛ كما نقول في الحجر المعلّق بالسلسلة : إنّ عند قطعه يتولّد فيه الانحدار عند الاعتماد

٤٥٦

الباقي ، لا عن الحركة الحادثة ، لما حصل فيها ما يمنع من كونها مولّدة ويقال لكم : إذا كان المختار عندكم أن العلم لا يبقى ، فكيف يصحّ أن تدفعوا هذا الكلام به؟ (ق ، غ ١٢ ، ٨٢ ، ٧)

ـ إنّ المولّد قد يولّد الشيء في حالة وقد يولّده في ثانية ؛ لأنّ الاعتماد يولّد الأكوان في ثاني حالة. وقد بيّنا ذلك في كتاب الاعتماد. فإذا صحّ ذلك لم يمتنع ، في النظر ، أن يكون مولّدا للعلم ، وإن ولّده في ثانية. ولا يجب ، إذا لم يناف العلم النظر أن يولّده في الحال (ق ، غ ١٢ ، ٨٧ ، ١٠)

ـ مما يدلّ على أنّ النظر يولّد العلم ، أنّ العلم بالمدلول عنده يقع على طريقة واحدة ، على ما قدّمناه. فلا يخلو من أن يكون وقوع ذلك عنده ، إنّما يجب لأنّه طريق للعلم ، أو لأنّه يحتاج إليه ، أو لأنّه مولّد له. لأنّا قد علمنا أنّه لا يجوز أن يكون وقوعه عنده على جهة العادة ، لأنّ ذلك يطرق القول بمثل ذلك في سائر المتولّدات ، بل في تعلّق الأفعال بالفاعلين. وقد بيّنا أن ما طريقه العادة ، لا بدّ من أن ينفصل حاله من حال الموجب ، على بعض الوجوه. وقد علمنا أنّ النظر ليس بطريق للعلم ، لأنّ من حق طريق العلم أن يتعلّق بالشيء على الحدّ الذي يعلم عليه ؛ كالإدراك الذي يتناول المدرك على الحدّ الذي يعلم عليه وعلى ما يتّصل به. وذلك يستحيل في النظر ، لأنّه لا يتعلّق بالمدلول أصلا ؛ ولو تعلّق به ، كان لا يتعلّق به على وجه دون وجه. فإذا بطل ذلك ، وبطل حاجته إلى العلم ، لأنّ من حقّه أن لا يوجد معه ، بل يتقدّمه ؛ فما هذا حاله لا يصحّ كونه محتاجا إلى غيره ولا مضمنا به ، فلم يبق إلّا أنّه يولّد العلم. ولذلك قال شيخنا أبو علي ، رحمه‌الله : كان يجب ، لو لم يولّد العلم ، أن لا يكون ما يوجد عنده بأن يكون علما أولى من أن يكون جهلا ؛ بل كان لا يمتنع أن يبقى ناظرا مدّة طويلة ينظر في الأدلّة ولا يعتقد المدلول على وجه كما قد يتذكّر ، إلّا محال ؛ ويتكرّر ذلك منه ، ولا يذكره في الأغلب. وفساد ذلك ، يبطل هذا القول (ق ، غ ١٢ ، ٩٢ ، ٤)

ـ إنّا قد عرفنا أنّ العلوم تكثر بكثرة النظر في الأدلّة وتقلّ بقلّته ، ولا تكثر بكثرة العلم بالأدلّة. فلو لا أنّه يولّد للعلم ، لم يجب ذلك فيه ، كما لا يجب فيما لا يكون مولّدا مثله ؛ ويجب في الاعتماد إذا ولّد الحركات أن تكثر بكثرته وتقلّ بقلّته. والنظر في الدليل الواحد ، لا يتبيّن الناظر من نفسه كثرته ، وإنّما الذي يتبيّن في ذلك النظر الأدلّة المتغايرة. فيجب أن يعتمد على ذلك ، وأن لا يقدح في ذلك ما لا نتبيّنه من أنفسنا. وإن كنّا ، لو عرفنا وعلمنا أنّ العلم يقع بحسبه في القلّة والكثرة ، لصحّ أن يستدلّ به (ق ، غ ١٢ ، ٩٣ ، ١٥)

ـ إن قيل : فيجب أن يكون العلم بتولّده عن النظر ، أن يقدر هذا الناظر عليه ، وأن يقدر على تركه. لأنّ من حق القادر على الشيء أن يقدر على تركه. قيل له : إنّ المتولّدات لا تروك لها ، فلا يجب ما سألت عنه ؛ ولأنّه إذا لم يكن له ترك ، فمحال أن يقال : إنّ القادر عليه يجب أن يقدر على تركه. ولا يجب أن يكون محمولا عليه ، إذا لم يصحّ أن ينصرف إلى تركه. لأنّه يمكنه أن لا يفعل العلم بأن لا يفعل النظر ، وليس ذلك حكم الملجأ. ويجب ، متى وقع النظر ، أن لا يصحّ أن يمتنع من العلم ؛ لأنّه قد خرج من كونه مقدورا له بوجود سببه ؛ فلا بدّ

٤٥٧

إذن من وقوعه (ق ، غ ١٢ ، ٩٨ ، ١٤)

ـ يختصّ النظر بأن يولّد ما لا يصحّ وجوده معه البتّة ، ويخالف بذلك سائر الأسباب التي لا تولّد إلّا ما يوجد معها. وقد بيّنا العلّة التي لها وجب ذلك في النظر ؛ وإن كان شيخنا أبو عبد الله ، رحمه‌الله ، قد قال : إنّ العلّة التي لها لا يجتمع النظر في الدليل ، والعلم بالمدلول ، مما لا يعلم ولا يوقف عليه ؛ وإن علمنا في الجملة ، أنّه لا يضادّه ، كما لا نعلم العلّة التي لها احتاج النظر والإرادة بنية القلب. وقد بيّنا ما عندنا في ذلك ، وذكرنا أن كونه ناظرا يتعلّق بحال له تقتضي أن لا يكون عالما بالمدلول عليه (ق ، غ ١٢ ، ١٠٢ ، ٥)

ـ إنّ النظر لا يوجب الجهل ولا يولّده. يدلّ على ذلك ما ذكره شيخنا أبو هاشم ، رحمه‌الله ، من أنّ النظر من جميع الناظرين في دليل الشيء الواحد يقع على وجه واحد ، فيجب أن لا يختلف ما يتولّد عنه. فإذا صحّ أن يولّد لبعضهم العلم ، فيجب أن يولّد مثله لسائرهم. فلو كان يولّد لبعضهم الجهل ، لوجب أن يولّد لسائرهم مثله. يبيّن ذلك أنّ الرمي من جميع الرماة ، إذا وقع على سمت واحد ، لم يختلف ما يتولّد عنه من الإصابة (ق ، غ ١٢ ، ١٠٥ ، ٢)

ـ إنّا قد بيّنا أنّ الذي له لم يولد النظر في الدليل للاعتقاد ، هو كونه غير عالم بتعلّق الدلالة بالمدلول. وإنّ هذه العلّة موجودة في النظر في الشبه ، فيجب تساويهما في ارتفاع التوليد. وليست العلّة في استحالة وجود الإرادة في محلّ مفرد ، هو انتقاء البنية والحياة فقط ؛ بل العلّة فيه أنّ المحلّ غير مهيّأ لوجوده فيه. وإذا كان لا في محل ، استحال هذه الطريقة فيه ، وغير ذلك من العلل (ق ، غ ١٢ ، ١١٣ ، ١٠)

ـ لو كان النظر يولّد الجهل ، لم يكن بين العلم والجهل فصل فيما يقتضي صحّتهما ، لأنّهما قد وقعا عن النظر والاستدلال ، وهذا بعيد. لأنّ الفصل بين العلم والجهل فصل فيما يقتضي صحّتهما. والحق والباطل يصحّ بسكون النفس إلى الحق والعلم ، وانتفاء ذلك في الجهل والباطل. وإذا صحّ أن يفصل بين العلم الضروريّ ، والاعتقاد المبتدأ لمثله ؛ وبين العلم بالمدرك ولا لبس ، وبين العلم بالمدرك إذا دخله اللبس ؛ فهلا جاز بمثله التفرقة بين العلم والجهل (ق ، غ ١٢ ، ١١٤ ، ١٣)

ـ إنّ النظر لا يولّد النظر ولا الشكّ ولا الظنّ (ق ، غ ١٢ ، ١١٦ ، ٢)

ـ قد بيّنا أنّ العلم ، بأنّ النظر يولّد ويؤدّي إلى العلم ، مكتسب ؛ فقد يجوز أن يذهب عنه البعض ، فلا يكتسبه ؛ ولا يؤثّر ذلك في كونه مولّدا للعلم (ق ، غ ١٢ ، ١٤٠ ، ١٤)

ـ إنّ النظر إذا كثر كثر العلم ، ومن أكثر من النظر في الأدلّة يكون أعلم ممن قلّ منه. وقد بيّنا ذلك من قبل ، واعتمدنا عليه في أنّ النظر يولّد العلم ، كما يعتمد على مثله في أنّ الرامي يولّد الإصابة (ق ، غ ١٢ ، ١٥٢ ، ١٧)

ـ أمّا شيخنا أبو هاشم رحمه‌الله ، فإنّه يقول في المسبّب : إنّه يجب أن يتبع السبب ، لكنّه لا يجوز في السبب في أن يكون حسنا والمسبّب قبيحا ، وإنّما يجوز فيه أن يكون السبب حسنا والمسبّب لا حسنا ولا قبيحا ، بأن يقع على جهة السهو. فلهذا قال في النظر : إنّه لو ولّد الجهل أو كان فيه ما يولّده ، لم يصحّ أن يعلم العاقل حسنه. فعلى طريقته ، إذا ثبت حسن النظر ، علم أنّه لا يجوز أن يتولّد عنه الجهل وإنّما يتولّد عنه ما يكون معتقده على ما هو على

٤٥٨

وجه لا يكون قبيحا (ق ، غ ١٢ ، ١٨٧ ، ١٤)

ـ الذي يدلّ على ذلك أنّه يقع بحسب دواعي العبد وبحسب قصده وإرادته ، على حدّ ما يقع عليه قيامه وقعوده وسائر أفعاله التي يبتدئها. فكما يجب بمثل هذه الدلالة كون تصرّفه فعلا له ، فكذلك القول في النظر. وقد دللنا ، من قبل ، على أنّ العبد قادر عليه في الحقيقة ، في باب المخلوق (ق ، غ ١٢ ، ٢٠٩ ، ٨)

ـ يجوز أن يختلف جنس النظر إذا تعلّق بالدليل على وجهين ؛ فأما إذا نظر الناظر فيه على وجه واحد ، فهو متّفق في الجنس ، ويقوم بعضه مقام بعض فيما يوجبه ويولّده (ق ، غ ١٢ ، ٢٦٦ ، ٢٠)

ـ إذا صحّ أنّ النظر حسن ، فيجب أن لا يجوز أن يتولّد عنه الجهل القبيح وإنّما يجوز أن يحسن السبب ، ولا يكون المسبّب حسنا ولا قبيحا من حيث يجري مجرى أفعال الساهي النائم التي لا يعتدّ بها في باب القبح والحسن ؛ وقد كشفنا من قبل القول في ذلك. وإذن قد ثبت بطلان ما سأل عنه ، لأنّه ظنّ أنّ السبب يجوز أن يحسن ، والمسبّب قبيح عنده ، وقد بيّنا أن الأمر بخلاف ذلك. واعلم ، أنّه لا يجوز من الحكيم أن يحسّن في عقل المرء السبب ، إلّا وقد جوّز له الإقدام عليه ؛ لأنّ من حق الحسن ، جواز ذلك فيه. ولا يجوز أن يحسن منه أن يقدم على فعل ويلحقه فيه مشقّة من يرمي أو ما يجري مجراه ، إلّا ويحسن منه ما يولّده ويوجبه (ق ، غ ١٢ ، ٢٩٥ ، ١٣)

ـ لم يحسن النظر على وجه إلّا والواجب القطع على أنّ المطلوب به لا يكون إلّا حسنا ، إذا كان متولّدا عنه. فإذا ثبت ذلك ، لم يمتنع أيضا في الداعي ، الذي إذا قوي ووجب وجود الفعل عنده ، أن يقتضي في ذلك الفعل مثل ما يقتضيه السبب من حيث شاركه في وجوب وجود الفعل عنده. فلهذا قلنا : إنّ تذكّر الدلالة بمنزلة النظر في أنّ ما يقع عنده من الاعتقاد يجب أن يكون علما ، وأن يحسن منه الإقدام عليه ؛ وإن قارنه في أنّ الأوّل موجب ، والثاني داع يبعث على الاختيار ، لا أنّه يوجب ذلك إيجاب الأسباب للمسبّبات (ق ، غ ١٢ ، ٢٩٦ ، ١٠)

ـ يقول (الجاحظ) في النظر : إنّه ربما وقع طبعا واضطرارا ، وربما وقع اختيارا. فمتى قويت الدواعي في النظر ، وقع اضطرارا بالطبع ؛ وإذا تساوت ، وقع اختيارا. فأمّا إرادة النظر ، فإنّه مما يقع باختيار ، كإرادة سائر الأفعال. وهذه الطريقة دعته إلى التسوية بين النظر والمعرفة ، وبين إدراك المدركات ، في أنّ جميع ذلك يقع بالطبع. وكذلك يقول في التحريكة بعد الاعتماد. لأنّه يذهب في التولّد ، مذهب أصحاب الطبائع. لكنّه ، فيما يقع من القادر ، يخالف طريقتهم ، لأنّه يقول : إنّما يقع بالطبع عند الحوادث والدواعي ، فيرجع في ذلك إلى حال للجملة نعتبرها. وليس كذلك طريقة أصحاب الطبائع (ق ، غ ١٢ ، ٣١٦ ، ٤)

ـ قال (الجاحظ) : فكذلك النظر ، إذا لم يعرف فاعله من قبل ، أنّه يؤدّي إلى معرفة مخصوصة ، لم يجز أن يدخل تحت التكليف ، ولا أن يتعلّق به ذمّ ولا مدح. ولهذا قال : لا يستحقّ الذمّ على المعصية إلّا بعد أن يعلم أنّها موافقة لسخط الله ، تعالى ؛ والطاعة ، لا يستحقّ بها الثواب ، إلّا مع العلم بأنّها توافق رضاه. وسلك هذه الطريقة في كلامه كثيرا ، وتنوّع فيما يضرب فيه من الأمثال بحسب اقتداره على الكلام (ق ، غ ١٢ ، ٣٢٤ ، ١٢)

٤٥٩

ـ اعلم ، أنّ الشيخ أبا علي ، رحمه‌الله ، ... قال : إنّ النظر طريق معلوم للناظر يميّزه من غيره ، وللناظر طريق يعلم به وجوب هذا النظر في طريقه. فإذا كان كذلك ، خرج بهذه الصفة عمّا يقع باتفاق وحدس ، ولحق بالأفعال الواجبة التي تتميّز عند من وجبت عليه عن غيرها (ق ، غ ١٢ ، ٣٢٤ ، ١٩)

ـ بيّن (أبو علي) أنّ المعرفة ، وإن لم يعلم الناظر أنّها تصاب بعينها بالنظر ، فمتى علم من حال سببها ، وهو النظر ، ما ذكرناه ، فواجب عليه المعرفة بوجوب سببها ، من حيث يجب وجودها بوجوده وإن لم يكن من قبل عالما بها. وبيّن أنّ ما علم وجوبه من السمعيّات ، أو بعد ورود السمع من العقليّات ، إنّما يجب على المكلّف لعلمه بقبح تركه. وأنّ هذه الطريقة قائمة في النظر والمعرفة ، فيجب القضاء بوجوبهما ، وإن لم يرد السمع (ق ، غ ١٢ ، ٣٢٥ ، ١١)

ـ اعلم أنّ طريقة شيوخنا ، رحمهم‌الله ، في باب النظر تختلف فربما قال أبو علي ، رحمه‌الله : إنّ النظر في باب الدين يعلم وجوبه ضرورة كالنظر في باب الدنيا. حتى يقول في بعض كلامه : إن ذلك نقض عقله من حيث لا بدّ من ثبوت هذا العلم في عقل العقلاء. وربما مرّ في كلامه وفي كلام شيخنا أبي هاشم ، رحمهما‌الله ، أنّ العلم بوجوب ذلك يقع من جهة حمله وقياسه على النظر في باب الدنيا ، لكن طريقته في القياس تتّضح بحيث لا تخفى على العقلاء (ق ، غ ١٢ ، ٣٥٥ ، ١٦)

ـ قال شيخنا أبو علي ، رحمه‌الله في نقض كلامه : إنّه لا بدّ من أن يعلم في النظر أنّه يؤدّي إلى الكشف ، وأنّه عند فعله أقرب إلى المعرفة منه إذا لم يفعله. وذكر أنّه متى اعتقد فيه خلاف ذلك ، لم يحصل له العلم الضروريّ لوجوبه ، لأنّ الغرض بالنظر هو التبيّن ، وإنّما يلتمس به زوال ما يخافه من هذا الطريق. لأنّه إذا علم وتبيّن طريقة الخوف ، أخذ في التحرّز. فإذا صحّ ذلك لم يجب فيما هذا حاله أن لا يصحّ من الجمع الكبير إنكار وجوبه من حيث اختلفت أحوالهم وأوقاتهم في حصول هذا العلم فيهم. وليس كذلك ما يدّعيه على أصحاب الضرورة ، وذلك أنّهم يدّعون على جميع العقلاء ممن خالفهم أنّهم قد علموا الحق في حالة واحدة ، وأنّ هذا العلم مبتدأ في عقولهم من قبل الله تعالى ، كالعلوم التي هي عنده من بداية العقول. فكان يجب ، لو كان ذلك حقّا ، أن لا يصحّ منهم مع كثرتهم جحد ما يعلمون ، وكان لا يصحّ فيهم التنازع الشديد ولا النظر فيما العلم به قد حصل. فإذا ثبت أن هذا حالهم علم بذلك بطلان القول بالاضطرار والإلهام (ق ، غ ١٢ ، ٣٨١ ، ٤)

ـ وبعد ، فإنّ من حقّ النظر أن يسقط وجوبه ، متى فعل المكلّف ما يجب من المعرفة. ومن لا يقوم بالواجب من ذلك يختلف حاله ، ففيهم من يعتقد الباطل لشبهة فيظنّه حقّا ويخرج بذلك من أن يعلم وجوب النظر على كل حال ، وإن كانت الخواطر ترد عليه في بعض الأحوال على وجه لا يخرج من أن يكون خائفا (ق ، غ ١٢ ، ٣٨٤ ، ٥)

ـ إنّ جميع ما يلزمه من النظر حالا بعد حال كالنظر الأول فيما يستحقّ به من ثواب وبتركه من عقاب. اعلم ، أنّ الذي اقتضى ما ذكرناه في النظر الأول ، يقتضيه في النظر الثاني والثالث وما أولاهما إلى آخر ما يلزمه من

٤٦٠