درج الدّرر في تفسير القرآن ّالعظيم - ج ١

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني

درج الدّرر في تفسير القرآن ّالعظيم - ج ١

المؤلف:

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني


المحقق: د. طلعت صلاح الفرحات / د. محمّد أديب شكور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر ناشرون وموزعون
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9957-07-514-9

الصفحات: ٨٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

وهذه النّقول الكثيرة دليل على سعة اطلاع المؤلّف ، وغزارة علمه. وهي أيضا تعطي صورة واضحة عن مرحلة مهمّة من مراحل مسيرة التّأليف في تفسير القرآن الكريم ، إذ انصرف اهتمام العلماء في تلك المرحلة التي عاش فيها المؤلّف إلى جمع أقوال العلماء المتقدّمين ، وتدوين آرائهم ، وقد يناقشون تلك الأقوال والآراء ، ويردّون على أصحابها ، ويرجّحون بعضها على بعض. وكتاب (درج الدرر) شاهد صدق على هذه المرحلة من مراحل التّأليف.

ه ـ ما انفرد به :

ثمّة آراء وأقوال أوردها المؤلف في كتابه ولم أقف عليها في المصادر التي بين يدي ، ولا سيما المصادر التي سبقت عصره ، وسأسرد فيما يأتي عددا من الأمثلة على هذه الآراء والأقوال معتنيا بما له صلة باللغة والنحو :

في توجيه (عليكم) في قوله تعالى : (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ) [البقرة : ٦٤] قال : «وإنّما قال : (عَلَيْكُمْ) ؛ لأنّه رجع إلى المعنى ، أعني التّفضّل» ، ثمّ انفرد برأي آخر فقال : «أو لأنّه نعمة عليهم» (١).

وفي قوله تعالى : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة : ١٢٥] ذكر أنّ (من) «زيادة» ، وانفرد برأي آخر فقال : «أو لابتداء الغاية» (٢).

وانفرد برأي آخر في توجيه قوله تعالى : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) [البقرة : ١٣٤] فقال : «(تِلْكَ أُمَّةٌ) : أي : تلك الأمّة أمّة» (٣).

وفي توجيه (مَعَهُمُ) في قوله تعالى : (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ) [البقرة : ٢١٣] نقل أنّ «(معهم) بمعنى : عليهم» (٤) ، وهو قول لم أقف عليه.

وفي كلامه على قوله تعالى : (ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ) [البقرة : ٢٣٢] قال : «(أَزْكى) : أدخل في باب التّزكية» ، ثم نقل قولا لم أجده فقال : «وقيل : أزكى : أطهر لكم ، فجمع بين اللّفظين تأكيدا» (٥).

وفي قوله تعالى : (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ) [آل عمران : ٤٥] ذكر آراء متعدّدة في سبب تسمية المسيح مسيحا ، منها اثنان لم أقف عليهما ، أولهما «لأنّه تمسّح

__________________

(١) درج الدرر ٧٧.

(٢) درج الدرر ١٤٦.

(٣) درج الدرر ١٥٨.

(٤) درج الدرر ٢٢٢.

(٥) درج الدرر ٢٤٠.

٤١

بصنع يحيى بن زكريّا من ماء الأردن» (١) ، والثاني «لأنّه كان يمسح التّراب فينام عليه بلا فراش ولا بساط» (٢).

وفي قوله تعالى : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : ٥٥] نقل أقوالا كثيرة للمفسرين عن المصلوب مكان المسيح عليه‌السلام ، أحدها لم أجده وهو أنّ «المصلوب هو الموكّل الذي كان عليه رقيبا» (٣).

وفي توجيه باء (بالله) في قوله تعالى : (بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) [آل عمران : ١٥١] ذكر رأيا لم أجده فقال : «(بِاللهِ) : الباء بمعنى (مع)» (٤).

وفي توجيه إعراب (جهد) من قوله تعالى : (أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) [المائدة : ٥٣] رأى أنّه «نصب بنزع (في)» (٥).

وفي قوله تعالى : (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) [المائدة : ٧٢] قال : «قيل : من كلام عيسى ، وقيل : استئناف كلام من الله عزوجل» ، ثم انفرد برأي في هاء (إنّه) فقال : «والهاء ضمير الأمر والشّأن» (٦).

وانفرد برأي آخر في توجيه قوله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الأنعام : ١] فقال : «هما صفتان للسّموات والأرض ، فكأنّ التّقدير : وجعلهنّ مظلمة ومنيرة ، كما قال : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) [النّحل : ٧٨]» (٧).

وفي قوله تعالى : (قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) [الأنعام : ١٩] انفرد برأي قال فيه : «وإنّما لم يقل : شهيد لي ولكم ؛ لأنّ الشّهادة لم تكن لهم ، وإنّما لم يقل : عليّ وعليكم ؛ لأنّ الشّهادة لم تكن عليه» (٨).

وفي توجيه (من إله) في قوله تعالى : (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ) [الأنعام : ٤٦] رأى أنّ «فحوى الكلام يدلّ على أنّه جواب الشّرط وليس بمبتدأ» (٩) ، ولم أقف على هذا الرأي.

__________________

(١) درج الدرر ٣١١.

(٢) درج الدرر ٣١١ ـ ٣١٢.

(٣) درج الدرر ٣١٧.

(٤) درج الدرر ٣٥٧.

(٥) درج الدرر ٤٩٣.

(٦) درج الدرر ٤٩٩.

(٧) درج الدرر ٥٢٠.

(٨) درج الدرر ٥٢٤.

(٩) درج الدرر ٥٣١.

٤٢

وفي قوله تعالى : (المص) [الأعراف : ١] نقل عن ابن عباس أنّ معناها : «أنا الله أعلم وأفصّل» ، ثم ذكر رأيا لم أقف عليه فقال : «ويحتمل أن تكون الصّاد إشارة إلى الفصل ، أي : إلى هذا الفصل ، فإنّ السّور فصول لا محالة» (١).

وفي قوله تعالى : (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) [الأعراف : ٥٠] انفرد برأي قال فيه : «وإنّما لم يقولوا : لا نفيض ؛ لأنّ فيه شمّة بخل ولكنّهم ذكروا وجه المنع وعلّته» (٢).

وفي تفسير الفئة في قوله تعالى : (إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) [الأنفال : ١٦] نقل عن ابن عباس قوله : «إنّها الكتيبة العظمى في المعركة» (٣) ، ولم أجده.

وفي بيان سبب تسمية المؤتفكات في قوله تعالى : (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ) [التوبة : ٧٠] ذكر أنّها «سمّيت بهذا لانقلابها ظهرا على بطن» ، ثم نقل قولا لم أقف عليه ، وهو أنّها سمّيت بذلك «لإفك أهلها» (٤).

وفي توجيه الضمير في (إنّها) في قوله تعالى : (وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ) [التوبة : ٩٩] قال : «والضّمير في (إِنَّها) عائد إلى الصّدقات ، وقيل : إلى الصّلوات ، وقيل : إليهما جميعا» (٥) ، والقول الأخير لم أقف عليه.

و ـ مآخذ على الكتاب :

لا بدّ من التنبيه منذ البداية على أنّ ما سيأتي ذكره من مآخذ على الكتاب لا يقلّل بأيّ حال من الأحوال من الجهد الذي بذله المؤلف ، فلا يغضّ من شأنه هفوة هنا ، أو زلّة هناك ؛ لأنّ أيّ عمل بهذا الحجم الذي تصدّى له لا بدّ من أن يكون فيه ما يقال ، وهذا شأن كلّ عمل بشري. ومن المهمّ القول أيضا إنّ بعض تلك الهفوات قد لا يتحمّل وزرها المؤلف ؛ لأنّها ربّما كانت من عمل النّسّاخ.

ويمكن إجمال هذه المآخذ بالآتي :

١ ـ خلوّ الكتاب من مقدّمة تبيّن اسم الكتاب ، وسبب تأليفه ، والمنهج الذي اتّبعه مؤلّفه.

__________________

(١) درج الدرر ٥٦٤.

(٢) درج الدرر ٥٨٠.

(٣) درج الدرر ٦٥١.

(٤) درج الدرر ٧٠٨.

(٥) درج الدرر ٧١٩.

٤٣

٢ ـ ربّما ناقض قوله ، فعند حديثه عن قوله تعالى : (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) [البقرة : ٣٤] ذكر الخلاف في الاستثناء هل هو متّصل أو منقطع ، وبيّن أنّ ذلك مترتّب على الخلاف في كون إبليس من الملائكة أو من الجنّ ، وعقّب على ذلك بقوله : «ويجوز تناسل الممسوخ عند أكثر النّاس» (١) ، ولكنّه عند ما تكلّم على قوله تعالى : (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) [البقرة : ٦٥] ناقض ذلك فقال : «والأمّة الممسوخة لا تتناسل عند أكثرهم ؛ لأنّهم لم يعيشوا فوق ثلاث» (٢).

٣ ـ ربّما كرّر قوله ، مناقضا ميله إلى الاختصار ، كما فعل في بيانه أنّ العلم «رؤية تنفي الجهالة» ، فذكر ذلك في حديثه عن (عَلِيمٌ) [البقرة : ٢٩](٣) ، وكرّره عند حديثه عن قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا) [البقرة : ٦٥](٤).

٤ ـ رغم عنايته بالأحاديث النّبويّة الشّريفة التي ضمّنها كتابه ، وتحرّيه الصّحيح منها نقل حديثا موضوعا في أثناء كلامه على توجيه قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) [البقرة : ١٣٠] ، وهو قوله : (من عرف نفسه فقد عرف ربّه) (٥). ونقل حديثا عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ذكر فيه أنّه أمر بهدم الآطام في المدينة ، والذي وجدته في المصادر عكس ما رواه (٦).

٥ ـ عزا بيتا من الشّعر إلى الإمام الشّافعيّ والمصادر تعزوه إلى غيره (٧) ، ووهم في عزو بيت آخر إلى حسّان (٨) مخالفا موضعين سابقين من كتابه عزاه في أولهما إلى جرير ، وهو الصّواب (٩).

__________________

(١) درج الدرر ٣٨.

(٢) درج الدرر ٧٨.

(٣) درج الدرر ٣٢.

(٤) درج الدرر ٧٧.

(٥) درج الدرر ١٥٤.

(٦) ينظر : درج الدرر ٦١٩.

(٧) ينظر : درج الدرر ٥٨٠.

(٨) ينظر : درج الدرر ٢٧١.

(٩) ينظر : درج الدرر ٣٣.

٤٤

الفصل الثاني

موقف المؤلف من أصول اللغة والنحو

المبحث الأول : موقفه من الشواهد :

١ ـ القرآن الكريم

٢ ـ القراءات

٣ ـ الحديث الشريف

٤ ـ الشعر العربي

٥ ـ أمثال العرب وأقوالهم

المبحث الثاني : موقفه من السماع والقياس :

١ ـ السماع

٢ ـ القياس

المبحث الثالث : موقفه من الكوفيين والبصريين

٤٥
٤٦

المبحث الأول

موقفه من الشواهد

١ ـ القرآن الكريم :

غنيت العربية بالقرآن الكريم المبين ، كتابها الأكبر ، وحارسها الخالد الأمين ، فألفاظه الكريمة هي لبّ كلام العرب ، ونصوصه هي الأصل المكين الذي أوى إليه النحويّون في بناء أصولهم ، وإرساء قواعدهم. وقد اعتمد مؤلّف (درج الدّرر) على الشّاهد القرآنيّ كثيرا ، واستشهد به على مسائل العربية ، وظهر هذا جليّا في توجيهاته آي التّنزيل الحكيم ، فنجده يورد نظائر الآية التي يتحدث عنها للاحتجاج على صحة ما يذهب إليه ، وفي ما يأتي نوعان من الأمثلة على ذلك :

أ ـ استدلال بالقرآن الكريم لغرض نحوي :

عند حديثه عن قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] قال : «و (هدى) مصدر مثل التّقى والسّرى ، يتعدّى إلى مفعولين بغير حرف ، كقوله : (وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الصافات : ١١٨]» (١).

وفي قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨)) [البقرة : ٨] تكلّم على توحيد الفعل في أوّل الآية وجمع الضّمير في آخرها مستدلا بآية أخرى فقال : «وإنّما وحّد الفعل في أول الآية وجمع الضمير في آخرها ؛ لأنّ (من) لفظه لفظ الوحدان ، ولإبهامه يصلح أن يكون اسما للمذكّر والمؤنّث والاثنين والجماعة ، يعدل تارة إلى اللفظ وتارة إلى المعنى ، كقوله : (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً) [الأحزاب : ٣١]» (٢).

وفي قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة : ٢١٤] فرّق بين (لم) و (لمّا) ، واستدلّ لما ذهب إليه بآيتين أخريين ، فقال : «و (لمّا) و (لم) بمعنى ، إلا أنّ (لم) يقتضي نفيا مجرّدا ، و (لمّا) يقتضي نفيا دون نفي ، إذ المنفيّ به مراد إثباته في المستقبل ، كقوله : (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا) [آل عمران : ١٤٢] ، (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) [يونس : ٣٩]» (٣).

__________________

(١) درج الدرر ٧.

(٢) درج الدرر ١١.

(٣) درج الدرر ٢٢٣.

٤٧

وفي كلامه على قوله تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) [البقرة : ٢٥٣] ذكر أن قوله : «(دَرَجاتٍ) : نصب على التفسير كقوله : (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ) [الإسراء : ٢١] ، وقوله : (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) [الكهف : ١٠٣]» (١).

وفي أثناء حديثه عن (يُكْفَرُوهُ) في قوله تعالى : (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) [آل عمران : ١١٥] ذكر أنّ الفعل عدّي بغير باء واستشهد بآية أخرى فقال : «فعدّي بغير باء ، قال الله تعالى : (جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) [القمر : ١٤]» (٢).

ب ـ الاستدلال بالقرآن الكريم لغرض لغوي :

في قوله تعالى : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) [البقرة : ٤٥] بيّن معنى (كبيرة) ، واستدلّ له بآيتين أخريين ، فقال : «(لَكَبِيرَةٌ) : لثقيلة ، كقوله : (إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي) [يونس : ٧١] ، وقال : (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) [الشورى : ١٣]» (٣).

وعند كلامه على قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ) [النّساء : ١] قال : «(وَاتَّقُوا اللهَ) : للتّكرار» ، واستشهد على ما ذهب إليه بآيتين أخريين فقال : «كما في قوله : (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠)) [المدّثّر : ١٩ ـ ٢٠] ، وقوله : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥)) [القيامة : ٣٤ ـ ٣٥]» (٤).

ولمّا تحدّث عن قوله تعالى : (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [الأنعام : ١٣] ذكر أنّ المراد به ما سكن وما تحرّك ، وعبّر عن ذلك بأنّه «اقتصار على أحد طرفي الكلام ، كقوله : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النّحل : ٨١]» (٥).

وفي كلامه على قوله تعالى : (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ) [الأعراف : ٥٣] ذكر توجيهين للمعنى المراد به ، واستدلّ لكلّ منهما بشواهد من القرآن الكريم ، فقال : «فيه معنى الطّلب

__________________

(١) درج الدرر ٢٦١.

(٢) درج الدرر ٣٣٨.

(٣) درج الدرر ٥١.

(٤) درج الدرر ٣٨٠.

(٥) درج الدرر ٥٢٣.

٤٨

والإرادة ، ومثله قوله : (هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) [الصّافّات : ٥٤]. ويحتمل أنّه بمعنى النّفي ، كقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ) [البقرة : ٢١٠] ، (هَلْ مِنْ خالِقٍ) [فاطر : ٣]» (١).

٢ ـ القراءات

قسّم العلماء القراءات بحسب تواترها وعدمه على ثلاثة أقسام :

الأول : متّفق على تواتره ، وهو قراءات الأئمّة السّبعة وهم : نافع بن أبي نعيم المدنيّ ، وعبد الله بن كثير المكيّ ، وعبد الله بن عامر اليحصبيّ الدّمشقيّ ، وعاصم بن أبي النّجود ، وأبو عمرو بن العلاء ، وحمزة بن حبيب الزّيات ، وعلي بن حمزة الكسائيّ.

الثاني : مختلف فيه ، والصّحيح المختار عند المحقّقين من أئمّة القراءة تواتره ، وهو قراءات الأئمّة الثلاثة وهم : أبو جعفر المدنيّ ، ويعقوب الحضرميّ ، وخلف بن هشام.

الثالث : متّفق على شذوذه ، وهو غير قراءات الأئمّة العشرة (٢).

ولم يخل (درج الدرر) من الاستشهاد بالقراءات القرآنيّة المتواترة والشّادّة ، ولكنّ عناية المؤلف بهذه القراءات لم تكن كبيرة ، وسأذكر أمثلة لما استشهد به المؤلف من القراءات :

أ ـ القراءات المتواترة :

عند توجيهه معنى قوله تعالى : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها) [البقرة : ٣٦] قال : «أوقعهما في الزّلل وحملهما عليه» ، وذكر بعده توجيه معنى قراءة متواترة أخرى فقال : «وقرئ : (فأزالهما الشّيطان) ، أي : نحّاهما» ، ثمّ ذكر توجيه قوله : (عنها) على القراءتين فقال : «(عَنْها) : عن الوصيّة على القراءة الأولى ، وعن الجنّة على القراءة الأخرى» (٣).

وعند حديثه عن قوله تعالى : (حَتَّى تَتَّبِعَ) [البقرة : ١٢٠] ، ذكر أنه إن «كان الفعل المضارع منفيّا ب (لا) ، وحسنت (ليس) مكان (لا) فرفعه حسن ، قياسا على المنفيّ ب (لا) بعد (أن لا) ، نحو قوله : (أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ) [طه : ٨٩] ، (أَلَّا تَكُونَ (٤) فِتْنَةٌ) [المائدة : ٧١]» (٥).

وفي كلامه على قوله تعالى : (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) [البقرة : ١٦٥] بيّن توجيه إعراب (الذين ظلموا) في قراءتي (يرى) بالتاء وبالياء فذكر أنّه : «في محلّ النصب على قراءة التاء ، وفي

__________________

(١) درج الدرر ٥٨١.

(٢) ينظر : لطائف الإشارات ١ / ٧٧.

(٣) درج الدرر ٤٠.

(٤) برفع (تكون) ، وهي قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائيّ من السبعة.

(٥) درج الدرر ١٤١.

٤٩

محلّ الرّفع على قراءة الياء» (١).

وقد يذكر اختلاف توجيه الإعراب للّفظ الذي يتحدّث عنه من غير أن ينبّه على اختلاف القراءة ، كما في قوله تعالى : (وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ) [البقرة : ٢٤٠] إذ قال : «(وصيّة) : نصب على إضمار الأمر ، ورفع بالابتداء» (٢) ، ولم يذكر أنّ النّصب والرّفع قراءتان متواترتان. وكذلك فعل في قوله تعالى : (أَوَأَمِنَ) [الأعراف : ٩٨] فحكى أنّه «قيل : على الاستفهام ، وقيل : على التّخيير» (٣) ، ولم يبيّن أنّ القول الأول على القراءة بفتح الواو ، والثاني على القراءة بتسكينها ، وهما متواترتان.

وحين تكلّم على قوله تعالى : (فَإِذا أُحْصِنَ) [النّساء : ٢٥] ذكر المعنى المراد به في قراءتي فتح الهمزة وضمّها فقال : «بفتح الهمزة : أسلمن ، عن ابن مسعود وزرّ والشّعبيّ ، وهو يحتمل التّزوّج أيضا. وبضمّ الهمزة إذا تزوّجن ، عن ابن عبّاس ومجاهد ، وهو يحتمل أدخلن في الإسلام» (٤).

ب ـ القراءات الشاذة :

عند كلامه على قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا) [البقرة : ١٠٤] ذكر قراءة شاذة فقال : «وقرأ الحسن : (راعنا) منوّنا ؛ لأنّه ظنّ أنّها لفظة كالأسماء ، فنصبها بوقوع القول عليه» ، واستدلّ لها بقراءة شادّة أخرى فقال : «كنصب من نصب : (وقولوا حطّة)» (٥).

وفي حديثه عن قوله تعالى : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ) [البقرة : ١٣٧] ذكر أنّ «العرب تذكر المثل مجازا ، وتريد به النّفس حقيقة ، كقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] ، ويقال : أمثلك يقول لمثلي ، فيكون تقدير الآية على هذا : فإن آمنوا بما آمنتم به» ، وبيّن أنّ هذا التّقدير قراءة لابن عباس فقال : «هكذا يروى في قراءة ابن عبّاس ومصحفه» (٦).

وفي توجيه إعراب (ما) في قوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) [البقرة : ١٧٣] ذكر أنّ (الميتة) تقرأ بالرّفع فقال : «و (ما) اسم عند من قرأ : (الميتة) بالرّفع» (٧).

__________________

(١) درج الدرر ١٨١ ـ ١٨٢.

(٢) درج الدرر ٢٥٠.

(٣) درج الدرر ٦٠٦.

(٤) درج الدرر ٣٩٩.

(٥) درج الدرر ١٢٣.

(٦) درج الدرر ١٦١.

(٧) درج الدرر ١٨٦.

٥٠

وعند كلامه على قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) [البقرة : ١٨٤] ذكر قراءة شادّة أخرى فقال : «وعن ابن عبّاس أنّه قرأ : (وعلى الذين يطيّقونه) ، أي : يلزمونه» (١).

وفي حديثه عن قوله تعالى : (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا) [الأنعام : ٧١] ذكر أنّ «(ائْتِنا) : حكاية الدّعاء» ، وتكلّم بعد ذلك على توجيه قراءة شادّة أخرى فقال : «وفي مصحف عبد الله : (بيّنا) ، أي : دعاء بيّنا» (٢).

٣ ـ الحديث الشريف :

اختلف علماؤنا المتقدّمون في الاستشهاد بالحديث النّبويّ الشّريف ، وعدّه مصدرا من مصادر الاحتجاج في قضايا النّحو والصّرف ، فمنهم من أيّد الاحتجاج به ؛ لأنّه أفصح كلام بعد التّنزيل العزيز ، ومنهم من رأى أنّ معظم الحديث مرويّ بالمعنى دون اللّفظ ، وأنّ معظم رواته أعاجم ، وأنّه منقول بروايات مختلفة ، فذهب إلى معارضة الاحتجاج به ، وتوسّط فريق آخر بين التّأييد والمعارضة فرأى جواز الاحتجاج بالأحاديث التي عني بنقل ألفاظها. وقد فصّل عبد القادر البغداديّ القول في هذه المسألة (٣) ، وأولاها المعاصرون عناية كبيرة في البحث والتّمحيص (٤).

ولم تكن عناية المؤلّف كبيرة في الاستشهاد بالحديث النّبويّ الشّريف لمسائل النّحو واللّغة ، على عكس ما فعله في الاستشهاد به في التّفسير والأحكام الفقهيّة. وهذه أمثلة على استشهاده بالحديث في ما له صلة باللّغة :

في كلامه على قوله تعالى : (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) [البقرة : ٢٥] قال : «والوصف بالطّهر أبلغ من الوصف بالحسن ؛ لأنّ الحسن ربّما يتضمّن خبثا» ، واستشهد بقول النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إيّاكم وخضراء الدّمن» (٥).

وفي قوله تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) [البقرة : ٣٧] تكلّم على معنى (تلقّى) في اللّغة ، واستدلّ على مجيئه بمعنى الاستقبال بحديث شريف ، فقال : «تلقّى : أخذ وأصاب ، وفي

__________________

(١) درج الدرر ١٩٥.

(٢) درج الدرر ٥٣٧.

(٣) ينظر : خزانة الأدب ١ / ٩ ـ ١٥.

(٤) ينظر : في أصول النحو ٤٩ ـ ٥٠ ، والحديث النبوي وأثره في الدراسات اللغوية والنحوية ٣٨١ ، وموقف النحاة من الاحتجاج بالحديث الشريف ٣٦٧.

(٥) درج الدرر ٢٨.

٥١

اللغة قريب من الاستقبال ، نهى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تلقّي الركبان ، أي : عن استقبالهم» (١).

وفي حديثه عن قوله تعالى : (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) [البقرة : ٥١] قال : «وحقيقة الوعد أن يكون للشيء ، فإذا كان على الشيء فهو مجاز» ، ثمّ استشهد بدعاء نسبه إلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو قوله : «(يا من إذا وعد وفى وإذا توعّد عفا)» (٢).

ولمّا تكلّم على معاني (الأكل) الحقيقيّة والمجازيّة في أثناء حديثه عن قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها) [البقرة : ٥٨] قال : «و (الأكل) حقيقة : التّلقّف والاستراط ، ويستعمل في الإنفاق مثل : أكل الدراهم والدنانير ، ويستعمل في الاستيلاء» ، واستشهد للمعنى الأخير بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «(أمرت بقرية تأكل القرى)» (٣).

٤ ـ الشّعر العربيّ :

يعدّ الشّعر العربيّ الموثوق بروايته من المنابع الأصيلة التي أمدّت النّحو العربيّ بمادّة غنيّة أفادته في بناء أصوله وتقعيد قواعده. وقد عني علماؤنا القدامى بالبحث عن مادّته وجمعها لتكون من مصادرهم الأصيلة في الاحتجاج لمسائل النّحو واللّغة.

وفي (درج الدّرر) أشعار كثيرة لشعراء جاهليّين ومخضرمين وإسلاميّين وأمويّين استشهد بها المؤلّف ، وعزا قسما منها إلى قائليها ، وترك قسما آخر منها بلا عزو. وفي ما يأتي أمثلة من الشّواهد الشّعريّة التي وردت في الكتاب :

عند حديثه عن قوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة : ١٥] بيّن أنّ المراد به أنّه «يجازيهم على استهزائهم» (٤) ، ثم استشهد لذلك بقول عمرو بن كلثوم :

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا.

وحين تكلم على قوله تعالى : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) [البقرة : ٧٤] قال : «وإنّما ارتفع (أشدّ) عطفا على الخبر وهو الكاف ، ويجوز أن تكون كاف التشبيه في محلّ الإعراب» (٥) ، واستشهد بقول الأعشى :

أتنتهون ولا ينهى ذوي شطط

كالطّعن يذهب فيه الزّيت والفتل

ثم قال مستدلا به : «فأخبر عن الكاف ، والإخبار عن الاسم لا غير دلّ على أنّه يقبل

__________________

(١) درج الدرر ٤٢.

(٢) درج الدرر ٥٨.

(٣) درج الدرر ٦٦.

(٤) درج الدرر ١٥.

(٥) درج الدرر ٨٧.

٥٢

الإعراب في التقدير» (١).

وفي حديثه عن قوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) [البقرة : ١٧٧] ذكر أكثر من توجيه لإعراب الآية منها أن يكون التّوجيه : «ولكنّ ذا البرّ من آمن بالله» (٢) ، واستشهد له بقول الخنساء :

ترتع ما رتعت حتّى إذا ادّكرت

فإنّما هي إقبال وإدبار

يعني أنّها تريد : فإنّما هي ذات إقبال وإدبار.

وفي كلامه على قوله تعالى : (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) [الأعراف : ٥٠] قال : «وإنّما استعمل الإفاضة على الجميع وإن كان فيه ما لا يتصوّر إفاضته على سبيل الإتباع ، كقوله : (أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا) [البقرة : ٢٤٦]» (٣) ، واستشهد ببيت من الشّعر عزاه إلى الشّافعيّ وهو :

إذا ما الغانيات برزن يوما

وزجّجن الحواجب والعيونا

وفي كلامه على معاني (الإلّ) في قوله تعالى : (لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) [التّوبة : ٨] ذكر أنّ منها «الإلّ : القرابة» (٤) ، واستشهد لهذا المعنى بقول حسّان :

لعمرك إنّ إلّك من قريش

كإلّ السّقب من رأل النّعام

٥ ـ أمثال العرب وأقوالهم :

اعتدّ علماء اللّغة والنّحو القدامى بأقوال العرب وأمثالهم ، وأووا إليها في الأغراض النحويّة والصّرفيّة واللّغويّة.

وقد سار مؤلّف (درج الدرر) على خطى من سبقوه في الاعتداد بهذه الأمثال والأقوال ، والاستشهاد بها ، ومن ذلك :

في توجيه لفظ (السّماء) في قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) [البقرة : ٢٩] قال : «ويجوز أن يكون واحدا يراد به الجنس ، كما يقال : كثر الدّرهم والدّينار في أيدي الناس» (٥).

__________________

(١) درج الدرر ٨٨.

(٢) درج الدرر ١٨٩.

(٣) درج الدرر ٥٨٠.

(٤) درج الدرر ٦٧٤.

(٥) درج الدرر ٣٢.

٥٣

وفي قوله تعالى : (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) [البقرة : ١٤٦] ذكر الأقوال المختلفة في معنى المعرفة ومنها أنّها «سكون النفس إلى ما وقع به العلم» ، واستدلّ عليه بجزء من مثل من غير أن يذكر كونه مثلا ، فقال : «لقولهم : النّفس عروف» (١). وفي موضع آخر استشهد بالمثل نفسه بتمامه ، وبيّن في هذه المرّة كونه مثلا ، وذلك عند كلامه على معنى (التّحميل) في قوله تعالى : (وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) [البقرة : ٢٨٦] فقال : «والتّحميل : التّكليف ، وفي المثل : النّفس عروف وما حمّلتها احتملت» (٢).

وذكر مثلا آخر موضّحا سبب ضربه في أثناء بيانه معنى (الإعصار) في قوله تعالى : (فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ) [البقرة : ٢٦٦] فقال : «وفي المثل : إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا ، يضرب لمن يعتقد قدرة في نفسه فيبتلى بمن فوقه» (٣).

وفي حديثه عن معاني (الإلّ) في قوله تعالى : (لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) [التوبة : ٨] استشهد على أحد تلك المعاني بقول لأبي بكر الصّدّيق فقال : «والإلّ : اسم الله وربوبيّته ، قال أبو بكر الصّدّيق : ويحكم إنّ هذا لم يخرج من إلّ» (٤).

وفي قوله تعالى : (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ) [التوبة : ٥٣] قال : «وقوله : (قل أنفقوا) في معنى الشّرط» ، واستشهد لذلك بآية ، وقول لأبي الدّرداء ، ومثل ، فقال : «كقوله : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) [التّوبة : ٨٠] ، وقال أبو الدّرداء : وجدت النّاس اخبر تقله ، وفي المثل : عش رجبا تر عجبا» (٥).

__________________

(١) درج الدرر ١٧٠.

(٢) درج الدرر ٢٨٩.

(٣) درج الدرر ٢٧٥.

(٤) درج الدرر ٦٧٤.

(٥) درج الدرر ٧٠٠.

٥٤

المبحث الثاني

موقفه من السماع والقياس

١ ـ السماع :

عرّف السّيوطيّ السّماع بقوله (١) : «وأعني به ما ثبت في كلام من يوثق بفصاحته ، فشمل كلام الله تعالى ، وهو القرآن ، وكلام نبيّه ، وكلام العرب قبل بعثته وفي زمنه وبعده إلى أن فسدت الألسنة بكثرة المولّدين نظما ونثرا عن مسلم أو كافر ، فهذه ثلاثة أنواع لا بدّ في كلّ منها من الثّبوت».

ومؤلّف (درج الدرر) يعتدّ بالسّماع ويعوّل عليه في التّقعيد لمسائل اللّغة والنّحو ، ويشهد له على ذلك كثرة الشّواهد التي ساقها للاستدلال على صحّة الآراء التي يذكرها ، وقد عرضنا آنفا أمثلة على تلك الشّواهد. وليس هذا وحده دليلنا على أهميّة السّماع عند المؤلّف ، فقد صرّح المؤلّف بموقفه بوضوح في كتابه حين تحدّث عن (المرء) في قوله تعالى : (ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) [البقرة : ١٠٢] فقال : «ومرء وامرؤ لغتان ، وفي التأنيث : مرأة وامرأة» ، ثمّ تحدّث عمّا قيل في همزة الوصل في قولهم : (امرؤ وامرأة) فقال : «وكأنّ همزة الوصل إنّما عوّضت من الهمزة الأخيرة إذ لا صورة لها ، فسكّنت الميم وهي فاء الفعل وابتدئ بهمزة الوصل كما في الاسم والابن. وقيل : إنّما سكّنت فاء الفعل في مثل هذه الأسماء وابتدئ بهمزة الوصل ؛ لأنّها أسماء كثر دورها على الألسنة ، فشبّهت بالأفعال التي على صيغة الأمر» ، ثمّ بيّن موقفه من مثل هذه العلل المتكلّفة ، وتعويله على السّماع في اللّغة فقال : «ومثل هذه العلل واه ، واللّغة بالسّماع» (٢).

٢ ـ القياس :

وهو «حمل فرع على أصل بعلّة ، وإجراء حكم الأصل على الفرع» (٣). وقد اختلف علماؤنا القدماء في القياس بين مانع يرى قصر اللّغة على السّماع ، ومجيز يرى أنّ ما قيس على كلام العرب فهو من كلامهم (٤).

__________________

(١) الاقتراح في علم أصول النحو ١٤.

(٢) درج الدرر ١٢٠ ـ ١٢١.

(٣) الاقتراح في علم أصول النحو ٤٢.

(٤) ينظر : في أصول النحو ٧٩ ـ ٩٩.

٥٥

وفي الكتاب أمثلة متفرّقة على اعتداد المؤلّف بالقياس ، منها ما ذكره في قوله تعالى : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) [البقرة : ٨١] إذ تكلّم على وزن (سيّئة) فقال : «ووزنها (فعيلة) في قياس قول الفرّاء وأهل الكوفة» (١).

وفي قوله تعالى : (ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) [البقرة : ١٠٢] قال : «وكأنّ المرء موضوع غير مشتقّ ، والتّثنية : مرءان وامرؤان ومرأتان وامرأتان ، وهي في التّأنيث أكثر استعمالا ، وأمّا الجمع فلم يرو إلا في حديث : (أحسنوا ملأكم أيّها المرؤون) ، وقال رؤبة لطائفة رآهم : أين يريد المرؤون؟» ، وعقّب على قولهم : (المرؤون) بقوله : «وهذا جمع سلامة جائز بالقياس» (٢).

وفي قوله تعالى : (حَتَّى تَتَّبِعَ) [البقرة : ١٢٠] تحدّث عن نصب الفعل المضارع ورفعه بعد (حتى) فقال : «وإذا وليها فعل مضارع فهو مرفوع أو منصوب» ، وبعد أن انتهى من الكلام على النّصب قال : «وإن كان الفعل المضارع منفيّا ب (لا) ، وحسنت (ليس) مكان (لا) فرفعه حسن ، قياسا على المنفيّ ب (لا) بعد (أن لا) ، نحو قوله : (أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ) [طه : ٨٩] ، (أَلَّا تَكُونَ (٣) فِتْنَةٌ) [المائدة : ٧١]» (٤).

وربّما تكلّم على مجيء الكلام على غير قياس كما في قوله تعالى : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ) [النّساء : ١٥] إذ قال : «(وَاللَّاتِي) : «جمع (التي) على غير قياس» (٥).

__________________

(١) درج الدرر ٩٤.

(٢) درج الدرر ١٢١.

(٣) برفع (تكون).

(٤) درج الدرر ١٤١.

(٥) درج الدرر ٣٩١.

٥٦

المبحث الثالث

موقفه من الكوفيين والبصريين

من خلال القراءة المتأنّية لكتاب (درج الدرر) يتبيّن أنّ مؤلّفه أكثر ميلا إلى المدرسة الكوفيّة ، فنراه يقدّم آراء الكوفيّين ، وربّما اكتفى بها ، أو بتفسيرها ، ولا سيّما آراء الفرّاء ، أحد أشهر أئمّة الكوفيّين. ولكنّ هذا لا يعني إغفاله آراء البصريّين التي قد يعرضها مع آراء الكوفيّين ، وقد يفصّل في توضيحها ، وربّما رجّحها على غيرها ، ولكنّ ترجيحه هذا قد لا يكون ميلا إلى مذهب نحويّ ، وإنّما انسجاما مع مذهبه الفقهيّ. ويمكن تبيان ما ذهبنا إليه من خلال الأمثلة على النّحو الآتي :

في قوله تعالى : (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) [البقرة : ٢٦] قدّم رأي الكوفيّين في انتصاب (مثلا) على القطع ، ووضّحه بما يوحي أنّه رأيه ، ثمّ أردفه بذكر رأي البصريّين ، فقال : «(مَثَلاً) : انتصب على القطع ، فكأنّه قال : بهذا المثل ، فلمّا قطعت الألف واللام انتصب ، وعند البصريين انتصب على الحال ، كقوله : (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) [هود : ٧٢]» (١).

وفي قوله تعالى : (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) [البقرة : ٧٣] تحدّث عن أصل (ميّت) عند الفراء ، وفصّل فيه ، أمّا رأي البصريّين فأوجزه بكلمتين ، وأورده بصيغة (قيل) ، فقال : «و (الموتى) : جمع ميّت ، وأصله عند الفرّاء : مويت ، كصريع وصرعى ، وجريح وجرحى ، فاستثقلت الكسرة على الواو والخروج من الواو إلى الياء ، فجعل ياء ، فأدغمت الياء في الياء. وقيل : أصله : ميوت» (٢).

وقدّم قول الكوفيّين أيضا ، وأتبعه بقول البصريّين في كلامه على انتصاب (مُصَدِّقاً) في قوله تعالى : (وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً) [البقرة : ٩١] ، فقال : «و (مُصَدِّقاً) : نصب على القطع كوفيّا ، وعلى الحال بصريّا» (٣). وفعل مثل ذلك في قوله تعالى : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً) [البقرة : ١٠٩] ، فقال : «(كُفَّاراً) : نصب على القطع ؛ لأنّه جاء بعد تمام الكلام ، وعند البصريّين نصب على الحال» (٤).

وفي كلامه على (أشياء) في قوله تعالى : (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)

__________________

(١) درج الدرر ٢٩.

(٢) درج الدرر ٨٦.

(٣) درج الدرر ١٠٣.

(٤) درج الدرر ١٣١.

٥٧

[المائدة : ١٠١] اكتفى بتفسير قول الفراء : إنّ أصل (شيء) (شيّئ) ، فقال : «و (أَشْياءَ) : جمع شيء ، وشيء في الأصل شئيء على وزن شفيع ، فليّنت الهمزة الأولى وأدغمت كما في ميّت وهيّن فصار شيّئا ثم استخفّ بحذف المدغم» (١) ، وأعرض عن ذكر الأقوال الكثيرة في وزن (أشياء) نفسها. واكتفاؤه بتفسير قول الفراء يوحي بموافقته له في ما ذهب إليه.

وقد يذكر رأي البصريّين وحدهم ويفصّل فيه ، كما فعل في حديثه عن الضّمير المنفصل في قوله تعالى : (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) [البقرة : ٣٥] إذ قال : «و (أنت) للتّأكيد ، كقوله : (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ) [طه : ٤٢] ، وقوله : (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) [المؤمنون : ٢٨]» ، ثمّ ذكر أنّ ذلك موافق لرأي البصريّين وفصّل فيه ، ولم يذكر غيره فقال : «وإنّما اقتضى هذا التّوكيد عطف الظّاهر المرفوع على الضّمير المرفوع في الفعل ، إذ ليس يجوز ذلك عند البصريّين إلا بالتّأكيد بضمير مرفوع منفصل ، أو بنوع فاصل كقوله : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) [الأنعام : ١٤٨] ، ولم يقل : وآباؤنا» (٢).

وممّا وافق فيه البصريّين خلافا لمذهب الكوفيّين ، ذهابه إلى أنّ الواو لا تفيد التّرتيب ، وكرّر ذلك في أكثر من موضع. ففي قوله تعالى : (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي) [آل عمران : ٤٣] قال : «وتقديم السّجود لا يوجب تقديمه على الرّكوع ؛ لأنّ الواو للجمع والاشتراك دون التّرتيب ؛ لأنّ الواو في الاسمين المختلفين كالنّسبة في المتّفقين ، وإنّما بدئ بالصّفا (٣) لقوله : (ابدؤوا بما بدأ الله به)» (٤). وكرّر ذلك مرّتين عند حديثه عن قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ) [النّساء : ١٦٣] فقال : «وقدّم عيسى على أيّوب ويونس تشريفا له لكونه من جملة أولي العزم ، والواو لا توجب التّرتيب» (٥) ، ثمّ قال عن يونس عليه‌السلام أيضا : «وإنّما قدّمه على هارون وداود وسليمان ؛ لأنّ الواو لا توجب التّرتيب» (٦). ولكنّ هذه الموافقة للبصريّين لم تكن انتصارا لمذهب نحويّ ، بل جاءت انتصارا لمذهبه الفقهيّ ، وموافقة لما ذهب إليه جمهور أصحابه من الحنفيّة الذين يرون أنّ الواو لا توجب التّرتيب ، وهذا ما نقل الزركشيّ «أنّه قول الحنفيّة

__________________

(١) درج الدرر ٥١٠.

(٢) درج الدرر ٣٩.

(٣) إشارة إلى قوله تعالى : إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ [البقرة : ١٥٨].

(٤) درج الدرر ٣١٠.

(٥) درج الدرر ٤٦٠.

(٦) درج الدرر ٤٦٠.

٥٨

بأسرهم» (١).

أمّا المصطلحات فأكثرها بصريّة ، وهذا غير مستغرب لدى علماء القرن الخامس وما بعده ، ولكنّه استعمل أيضا كثيرا من مصطلحات الكوفيّين ، كالكناية (٢) ، والعماد (٣) ، والصّرف (٤) ، والقطع (٥) ، والتّفسير (٦) ، والنّعت (٧) ، والنّسق (٨) ، والجحد (٩). وربّما استعمل المصطلحين للتّعبير عن الشّيء الواحد في مواضع مختلفة ، كاستعمال الضّمير مكان الكناية (١٠) ، والصّفة مكان النّعت (١١) ، والعطف مكان النّسق (١٢).

__________________

(١) البحر المحيط في أصول الفقه ٢ / ٢٥٤ ، وينظر : واو العطف وأثره في اختلاف الأصوليين والفقهاء ١٦٠ ـ ١٦٥ (ضمن مجلة كلية العلوم الإسلامية).

(٢) ينظر أمثلة على ذلك في درج الدرر ١٤ ، و ٥١ ، و ٨٦.

(٣) ينظر : درج الدرر ٩٨.

(٤) ينظر : درج الدرر ٤٩.

(٥) ينظر أمثلة على ذلك في درج الدرر ٢٩ ، و ١٠٤ ، و ١٣١.

(٦) ينظر أمثلة على ذلك في درج الدرر ٨٨ ، و ١٠٣ ، ١٥٤.

(٧) ينظر أمثلة على ذلك في درج الدرر ٣٠ ، و ٥٢ ، و ٩٨.

(٨) ينظر أمثلة على ذلك في درج الدرر ١٣٠ ، و ٥٨٠ ، و ٥٩٨.

(٩) ينظر أمثلة على ذلك في درج الدرر ١٦ ، و ٣٦٨ ، و ٧٥١.

(١٠) ينظر أمثلة على ذلك في درج الدرر ١١ ، و ١٣ ، و ١٧ ، و ٣٩ ، ٢٩٩.

(١١) ينظر أمثلة على ذلك في درج الدرر ٨٢ ، و ٨٣ ، و ٢٨٥ ، و ٣١٢ ، و ٤٢٥.

(١٢) ينظر أمثلة على ذلك في درج الدرر ١٣ ، و ١٨ ، و ٢٩٩ ، و ٣١٣ ، و ٣٢٤.

٥٩
٦٠