درج الدّرر في تفسير القرآن ّالعظيم - ج ١

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني

درج الدّرر في تفسير القرآن ّالعظيم - ج ١

المؤلف:

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني


المحقق: د. طلعت صلاح الفرحات / د. محمّد أديب شكور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر ناشرون وموزعون
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9957-07-514-9

الصفحات: ٨٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) : والكون في مثل هذا الموضع للإثبات في الحال دون الماضي من الزمان ، وتقديره : إن أنتم مؤمنون.

٩٤ ـ (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ) : (٢٣ و) نزلت في اليهود حيث زعموا أنّهم يبعثون ويثابون ، وسائر الناس لا بعث لهم ولا نشور. والمراد بالدار الآخرة الجنّة (١).

وإنّما توجّه عليهم تمنّي الموت (٢) بهذه الدعوى لمعنيين : أحدهما مجمع عليه ؛ لأنّهم لو باينوا سائر الناس في حكم البعث والنشور لباينوا في حكم كراهية الموت وتمنّيه (٣) ، دليله رجلان في حبس حكم أحدهما أن يخرج فيقتل ، وحكم الآخر أن يخرج فيطلق. والآخر مختلف فيه ، وهو جواز التمنّي لمن يرجو ثواب الله وعفوه ، من العلماء من يجيزه ، ومنهم (٤) من لا يجيزه.

و (من) في قوله : (مِنْ دُونِ النَّاسِ)(٥) صلة ، كما في قولك : من فوق ، ويحتمل أنّها في الموضعين مكان (في) أو (على).

والشيء الخالص هو المتفرّد عن غيره المتمحّص في نفسه (٦).

و (تمنّي) الشيء : تشهّيه (٧) ، وهو إرادة غير المقدور (٨) ، ومن أدواته (ليت) (٩).

٩٥ ـ (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) : كان حكم هذا التحدّي في الآية السابقة حكم التحدّي للمباهلة مع النصارى (١٠) ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (والذي نفسي بيده لو تمنّى أحدهم لغصّ بريقه) (١١).

و (الأبد) هو الأمد البعيد ، وقد يطلق على بعيد دون بعيد ، ومن ذلك قولهم : إلى أبد الأبيد ، وأبد الآباد ، ويطلق على بعيد للأبعد (١٢) منه ، وهو آخر جزء من أجزاء حياة الرجل أو مدّة الدنيا ، وإيّاه عنى فتية الكهف بقولهم (١٣) : (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) [الكهف : ٢٠](١٤). وهو

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٩٥ ، والتفسير الكبير ٣ / ١٩١ ، والبحر المحيط ١ / ٤٧٧.

(٢) في الآية نفسها : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

(٣) ينظر : التبيان في تفسير القرآن ١ / ٣٥٧ ، ومجمع البيان ١ / ٣٠٩.

(٤) (منهم) ساقطة من ك. وينظر : مجمع البيان ١ / ٣٠٩.

(٥) في ك وع : الله ، وبعدها في ع : علة ، بدل (صلة).

(٦) ينظر : مجمع البيان ١ / ٣٠٨.

(٧) ينظر : تفسير الطبري ١ / ٥٩٩ ، والبحر المحيط ١ / ٤٦٦.

(٨) ينظر : التبيان في تفسير القرآن ١ / ٣٥٨.

(٩) ينظر : الكشاف ١ / ١٦٧ ، والبحر المحيط ١ / ٤٧٩.

(١٠) ينظر : تفسير الطبري ١ / ٥٩٦ ـ ٥٩٧ ، والتبيان في تفسير القرآن ١ / ٣٥٨ ، ومجمع البيان ١ / ٣١٠.

(١١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٩٥ ، وتفسير القرآن العظيم ١ / ١٣١.

(١٢) في ك وب : الأبعد ، وفي ع : لأبعد.

(١٣) في ع : لقولهم ، وفي ب : وقولهم.

(١٤) ينظر : مفردات ألفاظ القرآن ٥٩ (أبد) ، والدر المصون ٢ / ٩.

٢٠١

منصوب على الظرف (١).

والمراد به آخر جزء من أجزاء حياتهم الدنيا (٢) بدلالة أنّهم يقولون في النار : (يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) [الحاقّة : ٢٧](٣).

والباء في (بِما) للسبب (٤).

وقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) على التهديد (٥).

٩٦ ـ (وَلَتَجِدَنَّهُمْ) : اللام للقسم ، تقديره : والله لتحدنّهم (٦) ، أي : لتلفينّهم (٧). وهو يقتضي مفعولين ، وقوله : (أَحْرَصَ) مفعول ثان ههنا ، كقولك : وجدت الرجل صالحا (٨). والحرص : شدّة التمنّي (٩). ووزن (أفعل) للتفضيل ههنا ، والتفضيل على الجنس لا يحتاج إلى (من) ، كقولك : الياقوت أفضل الجواهر ، وإن (١٠) وقع على غير الجنس لم يجز إلا بإدخال (من) ، تقول : الياقوت أفضل من الزجاج ، والدهن ألين من الماء (١١).

(وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) : هم المجوس (١٢). ويحتمل وجوها أربعة :

أحدها : أنّه معطوف على (الناس) فجيء ب (من) ؛ لأنّ المجوس غير جنس اليهود ، كقولك : الإنسان أحسن الخلائق ومن الحور العين ، فالخلائق (١٣) اسم جنس والحور العين غير جنس (١٤).

والثاني : أن تقدّر (١٥) التّكرار فتجعل في التقدير : أحرص الناس وأحرص من الذين أشركوا (١٦).

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن وإعرابه ١ / ١٧٧ ، وإعراب القرآن ١ / ٢٤٩ ، والمحرر الوجيز ١ / ١٨١.

(٢) ساقطة من ب.

(٣) ينظر : تفسير القرآن الكريم ١ / ٤٢٢ ، ومجمع البيان ١ / ٣٠٩ ، وتفسير القرطبي ٢ / ٣٣.

(٤) ينظر : التبيان في إعراب القرآن ١ / ٩٥ ، والمجيد (ط ليبيا) ٣٤٥.

(٥) ينظر : التبيان في تفسير القرآن ١ / ٣٥٨ ، والوجيز ١ / ١١٩ ، والكشاف ١ / ١٦٧.

(٦) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٩٥ ، ومجمع البيان ١ / ٣١١ ، والدر المصون ٢ / ٩.

(٧) ينظر : مجمع البيان ١ / ٣١١.

(٨) ينظر : مجمع البيان ١ / ٣١١ ، والتبيان في إعراب القرآن ١ / ٩٥ ، والمجيد (ط ليبيا) ٣٤٧.

(٩) ينظر : مجمع البيان ١ / ٣١١ ، والبحر المحيط ١ / ٤٦٦.

(١٠) في ع : فإن.

(١١) في ب : الياء ، وهو تحريف. وينظر : مجمع البيان ١ / ٣١٢ ، والدر المصون ٢ / ١٠.

(١٢) ينظر : تفسير غريب القرآن ٥٨ ، وتفسير الطبري ١ / ٦٠٢ ، وتفسير القرآن الكريم ١ / ٤٢٣.

(١٣) ساقطة من ك.

(١٤) ينظر : الدر المصون ٢ / ١١.

(١٥) في ك : ولنا أن تقدير ، بدل (والثاني أن تقدر).

(١٦) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ٦٢ ، وتفسير الطبري ١ / ٦٠٢ ، والكشاف ١ / ١٦٨.

٢٠٢

والثالث : أن تجعل الواو للاستئناف ، وتجعل في التقدير : ومن الذين أشركوا من يودّ أن يعمّر ألف سنة ، كأنّه وقع العدول من قصّة إلى قصّة ليتبيّن أنّ من الناس من يودّ عمر ألف سنة ومع ذلك فإنّ اليهود أحرص منهم ، ويجوز حذف (من) إذا ذكر قبله (من) ، قال الله تعالى : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [الصافّات : ١٦٤] ، أي : إلا من له ، وقال : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا (٢٣ ظ) يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) [النساء : ٤٦](١).

والرابع : أنّه معطوف على كناية الجمع ، تقديره : ولتجدنّهم والذين أشركوا أحرص الناس على حياة ، و (من) (٢) صلة.

وقيل (٣) : المراد بالمشركين مشركو العرب. والشركة : اجتماع الحقّين في محلّ واحد ، والإشراك نصب الشريك (٤).

(يَوَدُّ) : يحبّ (٥).

(أَحَدُهُمْ) : أحد الجمع اسم عام يتناول الكلّ على سبيل الإفراد ، قال الله تعالى : (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) [الأحزاب : ٣٢] ، وتقول العرب : يلبث أحدنا أيّاما لا يأكل ولا يشرب (٦). وربّما تميّز وصار بمعنى الأوّل في إثبات ، قال الله تعالى : (أَمَّا أَحَدُكُما (٧) فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ) [يوسف : ٤١] ، والآخر الآخر لا محالة (٨). ويسمّى اليوم الذي بعد السبت يوم الأحد ، وهو في العربيّة الأولى (٩) اليوم الأوّل ، وهو في الأصل : وحد فقلبت الواو همزة كما في (أناة) (١٠).

وجملة قوله : (لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) في محلّ النصب لوقوع الودّ عليها (١١).

__________________

(١) ينظر : الكشاف ١ / ١٦٨ ، والمجيد (ط ليبيا) ٣٤٨ ، والدر المصون ٢ / ١٢.

(٢) في ع : من ، والواو ساقطة. وينظر : المجيد (ط ليبيا) ٣٤٨.

(٣) ينظر : زاد المسير ١ / ١٠١ ، وتفسير القرطبي ٢ / ٣٤ ، والبحر المحيط ١ / ٤٨٠.

(٤) ينظر : لسان العرب ١٠ / ٤٤٨ (شرك) ، والتوقيف على مهمات التعاريف ٤٢٩.

(٥) ساقطة من ك ، وكدا قوله : (أحد) الآتي قريبا. وينظر : مجمع البيان ١ / ٣١١ ، والبحر المحيط ١ / ٤٦٦.

(٦) ينظر : البحر المحيط ١ / ٤٨٢ ، وروح المعاني ٢٢ / ٣ ـ ٤.

(٧) في ع : أحدكم ، وهو خطأ.

(٨) ينظر : روح المعاني ٢٢ / ٤.

(٩) في ب : والأولى ، والواو مقحمة.

(١٠) أصلها (وناة) ، ينظر : الممتع ١ / ٣٣٥ ، والمجيد (ط ليبيا) ٣٤٨ ـ ٣٤٩ ، وروح المعاني ٢٢ / ٤ و ٣٠ / ٢٧٢.

(١١) ينظر : المجيد (ط ليبيا) ٣٤٩ ، والدر المصون؟؟؟.

٢٠٣

و (التعمير) : إطالة (١) العمر ، والعمر المدّة ، والعمر بقاء الحيوان (٢).

و (الألف) : آخر أسماء العدد (٣) ، وللعدد أحد عشر اسما موضوعا ، فالثمانية الأولى للآحاد وهي تعرض للاشتقاق (٤) وكذلك التاسع وهو العشرة ، والعاشر المئة ، والحادي عشر الألف.

وإنّما انتصب (الألف) على معنى الظرف (٥) ، وخفض (السّنة) ؛ لأنّها مضافة إليها.

و (السّنة) : اسم لاثني عشر شهرا (٦).

(وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ) : و (ما) للنفي (٧). والزحزحة هي التّنحية (٨).

و (البصير) : المبصر إلا أنّ البصير أبلغ في الوصف ؛ لأنّه أشدّ عدولا عن الفعل (٩).

٩٧ ـ (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) : نزلت في اليهود ، وعن قتادة والشّعبيّ أنّ السبب في ذلك أنّ عمر رضي الله عنه قال (١٠) لليهود ذات يوم : بالرحمن الذي أنزل التوراة على موسى أتجدون محمّدا في كتابكم؟ فتمسكوا ثمّ قالوا : نعم ، ولكنّ صاحبه جبريل عدوّنا ، وهو صاحب كلّ عذاب ، ولو كان مكانه ميكائيل لآمنّا به فإنّه صاحب كلّ رحمة ، فقال عمر : وأين مكانهما ، أي : مكانتهما ، من الله عزوجل؟ قالوا : أحدهما ، أي : كأنّ أحدهما ، عن يمينه ، والآخر عن يساره (١١) ، قال عمر : أشهد أنّ من كان عدوّا لهما كان عدوّا لله تعالى ، وانصرف إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليخبره الخبر فإذا جبريل (١٢) عليه‌السلام قد سبقه بالوحي ، وقرأ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن ، فقال : والذي بعثك بالحقّ ما جئت إلا لأخبرك ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لقد وافقك ربّك (١٣) يا عمر ، قال عمر : لقد رأيتني بعد ذلك في دين الله أصلب من الحجر (١٤). وقيل : زعم (١٥) ابن صوريا أنّ جبريل

__________________

(١) في ع وب : الحالة. وينظر : تفسير الطبري ١ / ٦٠٤ ، وتفسير القرآن الكريم ١ / ٤٢٤ ، وتفسير البغوي ١ / ٩٦.

(٢) ينظر : البحر المحيط ١ / ٤٦٦.

(٣) ينظر : مجمع البيان ١ / ٣١٣ ، وزاد المسير ١ / ١٠١ ، والتوقيف على مهمات التعاريف ٨٨.

(٤) في ب : الاشتقاق.

(٥) ينظر : الدر المصون ٢ / ١٤.

(٦) ينظر : التوقيف على مهمات التعاريف ٤١٥ ـ ٤١٦.

(٧) ينظر : المجيد (ط ليبيا) ٣٥٠ ، والدر المصون ٢ / ٩.

(٨) ينظر : تفسير الطبري ١ / ٦٠٥ ، والكشاف ١ / ١٦٨ ، والمحرر الوجيز ١ / ١٨٢.

(٩) ينظر : تفسير الطبري ١ / ٦٠٦ ، والتبيان في تفسير القرآن ١ / ٣٦٠ ، والبحر المحيط ١ / ٤٦٦.

(١٠) مكررة في ك.

(١١) في ب : شماله.

(١٢) (فإذا جبريل) مكررة في ك ، وفي ع : بجبريل ، وبعدها في ب : (عليه وسلم فإذا بجبريل) مقحمة.

(١٣) في ك : الله. وينظر : تفسير الطبري ١ / ٦٠٨ ـ ٦١١ ، والبغوي ١ / ٩٦.

(١٤) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٩٧ ، والكشاف ١ / ١٦٩.

(١٥) بعدها في النسخ الأربع : (أن) ، وهي مقحمة.

٢٠٤

عدوّهم ؛ لأنّه حال بينهم وبين قتل بختنصر إذ هو صبيّ ليتمّ أمر الله فيه وفيهم ، فأنزل الله هذه الآية (١).

وبعد الشرط إضمار وتقديره : من كان عدوّا لجبريل كان عدوّا لله ، وقد أظهر هذا المعنى في الشرط (٢٤ و) الثاني (٢). ويجوز أن تجعل (فَإِنَّهُ) جوابا للشرط مجازا (٣) من غير تقدير إضمار ، كقوله : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة : ١١٨].

وفي ضمير الهاء في (فإنّه) ثلاثة أقوال : راجع إلى المضمر وهو اسم الله تعالى (٤) ، أو إلى (إيل) وهو اسم الله أيضا (٥) بالعبرانيّة ، أو إلى جبريل (٦).

وفي ضمير الهاء في (نَزَّلَهُ) قولان (٧) : راجع إلى جبريل ، أو إلى القرآن (٨).

و (الإذن) (٩) : يتناول معاني كثيرة :

دها : إباحة المطلوب (١٠) ، قال الله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي) [التوبة : ٤٩] ، وقال : (حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) [النور : ٢٨].

والثاني : التّمكين (١١) ، قال الله تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [البقرة : ١٠٢] ، وقال : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢٥٥].

والثالث : المشيئة (١٢) ، قال الله تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [آل عمران : ١٤٥] ، وقال : (أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [يونس : ١٠٠].

(وَبُشْرى) : الخبر السارّ خاصّة (١٣) ، قال الله تعالى : (لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ)

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٩٦ ، والكشاف ١ / ١٦٩ ، والعجاب في بيان الأسباب ١ / ٢٩٦ ـ ٢٩٧.

(٢) ينظر : التبيان في إعراب القرآن ١ / ٩٧ ، والبحر المحيط ١ / ٤٨٨.

(٣) مكررة في ب. وينظر : الكشاف ١ / ١٧٠ ، والبيان في غريب إعراب القرآن ١ / ١١١.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٣٦ ، والتسهيل ٥٥ ، والبحر المحيط ١ / ٤٨٨.

(٥) في ب : تعالى. وينظر : تفسير الطبري ١ / ٦١٤.

(٦) ينظر : تفسير الطبري ١ / ٦١٢ ، وتفسير القرآن الكريم ١ / ٤٢٥ ، والمحرر الوجيز ١ / ١٨٣.

(٧) ساقطة من ب.

(٨) ينظر : المحرر الوجيز ١ / ١٨٣ ، والتسهيل ٥٥ ، والدر المصون ٢ / ٢٠.

(٩) الآية نفسها : (بِإِذْنِ اللهِ). وينظر في معاني الإذن : لسان العرب ١٣ / ٩ ـ ١٠ (أذن).

(١٠) ينظر : التبيان في تفسير القرآن ١ / ٣٨٠ ، ومجمع البيان ١ / ٣٢٢.

(١١) ينظر : البحر المحيط ١ / ٤٨٦ ، والدر المصون ٢ / ٢٢.

(١٢) في ب : الميت ، وهو خطأ.

(١٣) ينظر : تفسير الطبري ١ / ٦١٦ ، ومجمع البيان ١ / ٣١٤.

٢٠٥

[الفرقان : ٢٢] ، وقال في المؤمنين : ([لَهُمُ الْبُشْرى] (١) فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) [يونس : ٦٤].

و (جبر) و (ميك) اسما عبد ، و (إيل) اسم الله عزوجل (٢).

٩٨ ـ وإنّما ذكرهما (٣) بعد دخولهما في عموم الملائكة تشريفا لهما (٤) ، كقوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) [الأحزاب : ٧].

وإنّما أجاب بقوله : (فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) ، ولم يقل : فهو كافر ؛ لأنّ الكفر مقدّر (٥) في نفس العداوة ، فصار كالمنطوق به في الشرط ، ومثاله قولك : إن غصبت حقّي فإنّ الله لا يحبّ الظالمين ، وإن أنجيتني فإنّ الله يجزي المحسنين (٦).

٩٩ ـ (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) : الآية كأنّها (٧) تعزية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما ساءه من قول اليهود : (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ) [البقرة : ٩١].

(آياتٍ بَيِّناتٍ) : هذا الكلام المعجز ، وتبيين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم كثيرا ممّا يخفون من الكتاب ، واستجماعه خصال (٨) الأنبياء كلّها في سمته (٩) وهديه وحركته وسكونه ، مع ما خصّه الله عزوجل به من نعوت نعته بها في الصحف الأولى (١٠).

١٠٠ ـ (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً) : نزلت في اليهود (١١). واختلف في نقضهم (١٢) العهود ، قيل : هو عهود أنبيائهم من طاعة هارون عند الميقات ، ومحافظة السبت ، وأن لا يرفعوا طعام يومين في التّيه ، وأن يتوبوا ، وأن يؤمنوا بعيسى ونبيّنا عليهما‌السلام (١٣). وقيل : هو همّهم بقتل

__________________

(١) من المصحف ، ويقتضيها السياق.

(٢) ينظر : تفسير الطبري ١ / ٦١٣ ، والمحرر الوجيز ١ / ١٨٣ ، وزاد المسير ١ / ١٠٣.

(٣) في الآية ٩٨ : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ).

(٤) ينظر : التبيان في تفسير القرآن ١ / ٣٦٤ ـ ٣٦٥ ، والمحرر الوجيز ١ / ١٨٤ ، وملاك التأويل ١ / ٢٠١ ـ ٢٠٢.

(٥) ساقطة من ب.

(٦) ينظر : مجمع البيان ١ / ٣١٦ ، والمجيد (ط ليبيا) ٣٥٥.

(٧) في ك : كأنه.

(٨) في ك : خلاص.

(٩) في ع : سميه.

(١٠) ينظر : تفسير الطبري ١ / ٦١٨ ـ ٦١٩ ، ومجمع البيان ١ / ٣١٧ ، وتفسير القرآن العظيم ١ / ١٣٨.

(١١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٩٧.

(١٢) في ك وع : بعضهم ، وهو تحريف.

(١٣) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٩٧.

٢٠٦

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وشتمهم إيّاه ، وإرجافهم في المدينة (١) ، وإيمانهم وجه النهار مع كفرهم في آخره ، ومعاونتهم الأحزاب (٢) يوم أحد.

والاستفهام للإنكار (٣) ، كأنّهم تبرّؤوا من النّقض (٤) وقالوا : إنّما نقض فريق منّا ، فكذّبهم الله في تبرّئهم وقال : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(٥). وقيل (٦) : أنكروا على فريق منهم نقض العهد ، فأتى بقوله : (بل (٧) أكثرهم لا يؤمنون) لئلا يوهم أنّ كلّ من لم ينقض العهد منهم محمود.

والواو للاستئناف ، ويحتمل العطف (٨) على ما سبق من قصّة اليهود. وإنّما جوّز (٢٤ ظ) دخول ألف (٩) الاستفهام على الواو ؛ لأنّها أبدا تلي صدر الكلام سواء وليها اسم أو فعل أو حرف ، فكذلك مع الواو (١٠).

و (النّبذ) : هو الطّرح (١١) ، والانتباذ : التّنحّي ، والمنبوذ : اللّقيط (١٢).

١٠١ ـ (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ) : نزلت في اليهود أيضا (١٣).

والعرب تقول (١٤) لكلّ من أعرض عن شيء : نبذه وراء ظهره (١٥). و (الظهر) : هو المتن.

و (كأنّ) : حرف التشبيه ، وإنّما ينصب لأنّه يفيد التشبيه (١٦). والتشبيه : فعل واقع على المشبّه ، ويستعمل عند الظنّ والحسبان (١٧) أيضا ، وذلك لأنّ (١٨) الظانّ يشبّه المحسوس بالموهوم.

__________________

(١) (وقيل : هو همهم ... المدينة) ليس في ب.

(٢) ساقطة من ك. وينظر : التبيان في تفسير القرآن ١ / ٣٦٧ ، ومجمع البيان ١ / ٣١٨.

(٣) ينظر : التفسير الكبير ٣ / ٢٠٠ ، والتبيان في إعراب القرآن ١ / ٩٧ ، والبحر المحيط ١ / ٤٩٢.

(٤) في ك وب : البعض.

(٥) ينظر : البحر المحيط ١ / ٤٩٣.

(٦) في ب : وقال. وينظر : الكشاف ١ / ١٧١.

(٧) ليس في ب.

(٨) النسخ الأربع : اللفظ ، والسياق يقتضي ما أثبت. وينظر : معاني القرآن للأخفش ١ / ٣٢٦ ، وتفسير الطبري ١ / ٦٢٠ ، والبيان في غريب إعراب القرآن ١ / ١١٣.

(٩) في ب : الألف.

(١٠) ينظر : التبيان في تفسير القرآن ١ / ٣٦٦ ، ومجمع البيان ١ / ٣١٨ ، والبحر المحيط ١ / ٤٩٢.

(١١) ينظر : مفردات ألفاظ القرآن ٧٨٨ (نبذ) ، والتبيان في تفسير القرآن ١ / ٣٦٧ ، وتفسير القرطبي ٢ / ٤٠.

(١٢) ينظر : تفسير الطبري ١ / ٦٢٠ ـ ٦٢١ ، وتفسير القرآن العظيم ١ / ١٣٨.

(١٣) ينظر : تفسير الطبري ١ / ٦٢٢ ، ومعاني القرآن وإعرابه ١ / ١٨٢ ، والوجيز ١ / ١٢١.

(١٤) ساقطة من ك ، والكلام على قوله تعالى في الآية نفسها : (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ).

(١٥) ينظر : تفسير الطبري ١ / ٦٢٢ ، والبحر المحيط ١ / ٤٩٤.

(١٦) (وإنما ينصب لأنه يفيد التشبيه) ساقطة من ك ، وبعدها في ع : والشبه ، بدل (والتشبيه). وينظر في (كأنّ) : مغني اللبيب ٢٥٢ ـ ٢٥٥.

(١٧) في ع : والحساب. وينظر : لسان العرب ١٣ / ٥٠٣ (شبه) ، والتعريفات ٨١.

(١٨) في ع : أن.

٢٠٧

وفي الآية دلالة على امتياز الخبر المتواتر عن غيره.

١٠٢ ـ (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) : نزلت في ذمّ اليهود ، وبيان أصل السحر (١) ، وتزكية سليمان عليه‌السلام (٢). ونحن نقدّم قصصا يحتاج إلى علمها ، وشواهد لا بدّ من ذكرها ، وأحكاما يجب (٣) إحصاؤها ، ثمّ نأخذ في التفسير إن شاء الله تعالى.

اعلم أنّ هاروت وماروت ملكان من الملائكة ببابل الكوفة ، من أتاهما من الوجه المقدّر سمع كلامهما ولم يرهما ، هكذا روي عن عائشة (٤) ، وعن عليّ في حديث المسوخ (٥) ، وعن ابن عمر (٦). وسئل الضحّاك بن مزاحم فقال : كانا علجين (٧). والحسن البصريّ أخذ بقول عائشة مرّة (٨) وبقول الضحّاك أخرى (٩) ، وكان يقرأ : (الملكين) بكسر اللام (١٠) ، وهو شاذ ، وإن صحّ فيجوز أن يكون : (ملكين ملكين) ، كما في حديث المسوخ (١١). وقيل : إنّهما شيطانان (١٢) ، وذلك لا يدلّ على نفي كونهما ملكين من قبل كإبليس لعنه الله. وأحسن ما قيل فيهما : إنّهما ملكان لا يعصيان الله في ما أمرهما بتبيان السحر ، ويحذّران منه بأمر الله تعالى ، وهذا غير مستنكف كقوله (١٣) تعالى : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) [الشمس : ٨] ، وقال لآدم عليه‌السلام : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) [البقرة : ٣٥] ، ولو شاء لصرفهما عنها وحال بينهما وبينها ولم يمكّنهما من التناول ، إلا أنّه فعل ذلك للابتلاء ، ولأنّ الثواب إنّما يجب بالامتناع بعد القدرة (١٤).

وسحر البابليين شيء فاش ، وقد عرف الضحاك ذو الحيتين (١٥) بذلك في سابق الدهر.

__________________

(١) (وبيان أصل السحر) ساقطة من ب.

(٢) ينظر : تفسير الطبري ١ / ٦٢٣ و ٦٢٩ ـ ٦٣٢ ، والوجيز ١ / ١٢١ ، وتفسير القرطبي ٢ / ٤١ ـ ٤٢.

(٣) في ب : وأحكام ما يجب ، بدل (وأحكاما يجب).

(٤) ينظر : تفسير الطبري ١ / ٦٤٥ ، وتفسير القرآن العظيم ١ / ١٤٦.

(٥) في ع : المنسوخ ، وف ب : الممسوخ ، وبعدها في ك : وعن أبي عمرو سئل ، بدل (وعن ابن عمر وسئل).

(٦) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٥١.

(٧) ينظر : تفسير القرآن العظيم ١ / ١٤٢ ، والدر المنثور ١ / ٩٦ ، وفتح القدير ١ / ١٢٢.

(٨) ينظر : تفسير القرآن العظيم ١ / ١٤٧.

(٩) ينظر : تأويل مختلف الحديث ١٧٨ و ١٨٧ ، والشفا بتعريف حقوق المصطفى ٢ / ١٧٧ ، وشرح نهج البلاغة ٦ / ٤٣٦.

(١٠) ينظر : القطع والائتناف ١٥٦ ، والمحتسب ١ / ١٠٠ ، والتبيان في تفسير القرآن ١ / ٣٧٣.

(١١) في ب : المنسوخ.

(١٢) ينظر : التبيان في تفسير القرآن ١ / ٣٧٤ ، والبحر المحيط ١ / ٤٩٧ ، والعجاب في بيان الأسباب ١ / ٣١٥.

(١٣) في ب : لقوله ، وفي ع : مستكف لقوله ، بدل (مستنكف كقوله).

(١٤) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٠٠.

(١٥) واسمه بنو راسب ، ينظر : العين ٧ / ٢٥٠ (رسب) ، والأخبار الطوال ٤ ، والصراط المستقيم ٢ / ٤٤. وقيل : هو النمرود ، ينظر : البداية والنهاية ١ / ٢٠٠.

٢٠٨

ويروى عن فريدون أيضا أنّه أرسل بنيه (١) إلى ملك مصر ليخطبوا منه (٢) بناته ، فلمّا رجعوا استقبلهم فريدون في الطريق متمثّلا ثعبانا يبتليهم بذلك ، ففرّ (سلم) وحمل (٣) عليه (طوش) وانذار (إيرج) (٤) ، فلمّا رأى ذلك قسم الملك بينهم على قضيّة (٥) ما رأى ، وقال الشاعر (٦) : [من الطويل]

يعقّد سحر البابليّين طرفها

مرارا وتسقينا سلافا من الخمر

وقول (٧) من يزعم أنّ قوله : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) للنفي منتقض بقوله (٨) : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا (٩) إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما (١٠)).

ثمّ (١١) يحتمل أنّهما باقيان بعد ، ولكنّ الله تعالى صرف أكثر الناس عنهما لنوع من المصالح (١٢) ، ويحتمل أنّه قد انقرض أمرهما.

فإن قيل : زهرة أحد الكواكب (٢٥ و) السبعة التي ركّب الله فيها مصالح الدنيا ، وقد روي في حديث المسوخ (١٣) ما روي ، وهو محال فلا يجوز قبوله والاستدلال به ، قلنا : ومن يسلّم بأنّ مصالح الدنيا متعلّقة بالكواكب ، وأنّها سبعة منذ خلقت الدنيا ، وإن صحّ أنّها (١٤) لم تزل سبعة ، فيحمل أنّ الكوكب (١٥) لم يكن يسمّى زهرة ، فلمّا مسخ الله تلك المرأة وأودعها هذا الكوكب تعذيبا لها سمّي الكوكب باسمها (١٦).

واعلم أنّ الجنّ أمّة (١٧) كالإنس ، قال الله تعالى : (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِ

__________________

(١) في الأصل وك : بفئة ، وفي ب : نفيه.

(٢) ساقطة من ع.

(٣) في ب : وحمله.

(٤) سلم وطوش وإيرج أسماء بنيه ، وفي بعض المصادر اختلاف في الأسماء قد يكون بسبب التحريف.

(٥) (على قضية) ساقطة من ب. وينظر : التنبيه والأشراف ٣٤ ، ومعجم البلدان ٢ / ٥٧ (توران).

(٦) ذو الرّمّة ، ديوانه ٥٥.

(٧) في ب : وقوله ، والهاء مقحمة.

(٨) في ع : لقوله.

(٩) (وما أنزل على الملكين ... يقولا) ليس في ك.

(١٠) ليس في ب. وينظر : تفسير الطبري ١ / ٦٣٦ ـ ٦٣٧ ، والبيان في غريب إعراب القرآن ١ / ١١٤.

(١١) ساقطة من ع.

(١٢) ينظر : التبيان في تفسير القرآن ١ / ٣٧٤.

(١٣) في ب : المنسوخ.

(١٤) بعدها في ب : (سبعة منذ خلقت الدنيا وإن صح أنها) مكررة.

(١٥) في ك وب : الكواكب ، وكذا ترد في ب قريبا.

(١٦) ينظر : تفسير القرآن الكريم ١ / ٤٣٧ ـ ٤٣٨ ، وتفسير البغوي ١ / ١٠١.

(١٧) ساقطة من ب.

٢٠٩

وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ)(١) [النمل : ١٧] ، وقال : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) [الجن : ٦] ، وقال : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) [الأنعام : ١٢١]. ثمّ يجوز رؤيتهم أجمعين ؛ لأنّهم مركّبون من روح وجسد لا محالة غير أنّ نصيب الروح لهم أكثر ، وفي الحديث أنّ الحمار والكلب يريان الشيطان ، ولذلك أمرنا بالاستعاذة عند نهيق الحمار (٢). وعن عمر أنّه صارع جنّيّا (٣) ، وعن أبي أيّوب الأنصاريّ أنّه أسر جنّيّا (٤). غير أنّ الله تعالى صرف أبصارنا عنهم كما صرف أبصار قريش عن نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أرادوا أن يغتالوه ، وهذا شيء لا يمكن تواطؤهم عليه ، فمن أنكر هذا فقد أنكر العيان. ثمّ منهم شياطين ومن الإنس شياطين (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) [الأنعام : ١١٢] ، وهؤلاء وضعوا (٥) كثيرا من علم السحر وأسندوا إلى سليمان صلوات الله عليه للترويج (٦).

واعلم أنّ بعض الناس أفرط في إثبات السحر ، وزعم أنّهم يقدرون على تقليب العين ، والإيجاد من العدم (٧) ، وقصّر بعض فأنكر تأثير الرقى (٨) والعقد والتمائم ، وحمل تأثيرها على نوع من التخويف والتطميع بالتمويه (٩).

وقولنا على قضيّة اللغة (١٠) وما سبق من القواعد هو (١١) أنّ علم السحر يسمّى سحرا لصرفه عن جهة الحقّ ، قال الله تعالى : (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) [المؤمنون : ٨٩] ، أي : تؤفكون وتصرفون (١٢) ، ولأنّه سبب لكثير من العلل ، والشيء المسحّر : المعلّل (١٣) ، قال لبيد (١٤) : [من الطويل]

فإن تسحرينا فيم (١٥) نحن فإنّنا

عصافير من هذا الأنام المسحّر

__________________

(١) ليس في ب.

(٢) ينظر : المنتخب من مسند عبد بن حميد ٣٣٣ ، ومسند أبي يعلى ١١ / ١٨٧ ، وموارد الظمآن ٤٨٩.

(٣) ينظر : تأويل مختلف الحديث ٩ ، ونوادر الأصول ٣ / ٢٦٧ ، وتفسير القرطبي ٣ / ٢٦٩.

(٤) ينظر : المعجم الكبير ٤ / ١٦٢ ، والعظمة ٥ / ١٦٤٨ ـ ١٦٤٩ ، وتفسير القرآن العظيم ١ / ٣١٣.

(٥) في ك : وصفوا.

(٦) في ب : للتزوج. وينظر : أحكام القرآن للجصاص ١ / ٦٨ ، والتفسير الكبير ٣ / ٢٠٤.

(٧) ينظر : تفسير الطبري ١ / ٦٤٣ ـ ٦٤٦ ، ومغني المحتاج ٤ / ١٢٠ ، وكشاف القناع ٦ / ٢٣٥ ـ ٢٣٦.

(٨) في ع وب : الرمي.

(٩) ينظر : التبيان في تفسير القرآن ١ / ٣٧٤ ، وتفسير البغوي ١ / ٩٩ ، ومجمع البيان ١ / ٣٣٣.

(١٠) ساقطة من ب.

(١١) في ب : وهو.

(١٢) في ك : فتصرفون ، وبعدها في ع : ولا سبب ، بدل (ولأنه سبب). وينظر : لسان العرب ٤ / ٣٤٨ (سحر).

(١٣) ينظر : الصحاح ٢ / ٦٧٩ ، ولسان العرب ٤ / ٣٤٩ (سحر).

(١٤) ديوانه ٧١ ، وفيه : فإن تسألينا.

(١٥) في ب : فيهم.

٢١٠

ثمّ هو أربعة أنواع (١) :

النوع الأوّل : تلبيس على الأفهام (٢) ، وهو اللحن المذموم ، والمعاريض المذمومة ، قال الله تعالى في المنافقين : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) [محمّد : ٣٠] ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إنّ من البيان لسحرا) (٣) ، وكذلك (٤) ذمّ المتفيهقين (٥) المتشدّقين.

والنوع الثاني : تلبيس على الإحساس بالنيرنجات والتمويهات قال الله تعالى : (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) [طه : ٦٦](٦).

والنوع الثالث : تأثير في الأجساد بالفساد ، وهو بالطبّ أو بمطاوعة (٧) الجنّ ، (٢٥ ظ) قال الشاعر (٨) : [من الوافر]

وإنّك لا تبالي بعد حول (٩)

أسحرا كان طبّك أم جنونا

وفي حديث بئر أروان (١٠) قال أحد الملكين : طبّ الرجل ، فقال آخر : من طبّه؟ قال : لبيد بن أعصم اليهوديّ (١١). وممّا يختصّ به من علم الأطبّاء علم الخواصّ. وكذلك الجنّيّ يمس فيضرّ (١٢) بالنفس في طاعة وليّه من الإنس ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الطاعون : (هو وخز أعدائكم من الجنّ) (١٣) ، وقال في دم الاستحاضة : (هو (١٤) ركضة من الشيطان) (١٥). فهذه الأنواع الثلاثة ممّا يجوز أن

__________________

(١) ذكر الفخر الرازي ثمانية أنواع للسحر في التفسير الكبير ٣ / ٢٠٦ ـ ٢١٣.

(٢) في ب : الإبهام ، وهو تحريف.

(٣) الموطأ ٢ / ٩٨٦ ، وصحيح البخاري ٥ / ١٩٧٦ و ٢١٧٦ ، ومسند الشهاب ٢ / ٩٨.

(٤) في ك : ولذلك.

(٥) في ب : التفيقهين. ينظر : الأدب المفرد ٤٤٣ ، والتواضع والخمول ٢٢٦ ، وشعب الإيمان ٤ / ٢٥٠ ـ ٢٥١. والمتفيهق : الذي يتوسع في كلامه ويملأ به فاه ، وهذا من التكبر والرعونة ، ينظر : غريب الحديث لابن سلام ١ / ١٠٦ ، والفائق في غريب الحديث ٤ / ٦٨.

(٦) ينظر : المحلى ١ / ٣٦ ، وتفسير البغوي ١ / ٩٩ ، وكشاف القناع ٦ / ٢٣٦.

(٧) بعدها في ب : أو بمطاعة ، وهي مقحمة. وينظر : البحر المحيط ١ / ٤٩٦.

(٨) لم أقف على هذا البيت. ويروى صدره مع عجز مختلف وهو : أظبي كان أمّك أم حمار ، وهذا بلا عزو في الجمل في النحو ١٤٧ ، وشرح الكافية في النحو ٣ / ٢٣٥. وقريب منه قول أبي قيس صيفي بن الأسلت الأنصاري في ديوانه ٩١ : ألا من مبلغ حسّان عني أسحر كان طبّك أم جنون.

(٩) في ب : تحول ، وبعدها في ك وب : أسحر ، بدل (أسحرا).

(١٠) في ب : ارزان. وبئر أروان ، أو بئر ذي أروان : بئر لبني زريق بالمدينة حيث دفن السحر الذي أصيب به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ينظر : شرح سنن ابن ماجه ٢٥٣.

(١١) ينظر : مسند أحمد ٦ / ٥٧ و ٩٦ ، وصحيح البخاري ٥ / ٢١٧٦ ، ومسلم ٤ / ١٧٢٠. وطبّ الرّجل : سحر ، ورجل مطبوب : مسحور ، ينظر : لسان العرب ١ / ٥٥٤ (طبب) ، وفتح الباري ١٠ / ٢٢٨.

(١٢) في ك : فيصر.

(١٣) ينظر : نوادر الأصول ٤ / ٢٣٠ ، ومسند البزار ٨ / ١٦ و ١٨ و ٩٢ ، وشرح الزرقاني ٤ / ٢٩٤.

(١٤) ليس في ب.

(١٥) ينظر : تأويل مختلف الحديث ٣٢٨ ، والآحاد والمثاني ٦ / ١٢ ، وسنن الدارقطني ١ / ٢٢٢. والركضة : الدفعة.

٢١١

يبتلى بها كلّ أحد من الناس ، الأنبياء وغيرهم ، إذ (١) النبيّ يفارق غيره في حكم العقل والقلب دون النفس.

والنوع الرابع : تأثير في العقول والصدور بالخيال (٢) والعرف ، وهو بالطبّ أو بمطاوعة الجنّ أيضا ، والأنبياء مصونون عن هذا النوع ، معصومون بعصمة الله ، لا يضرّهم منه شيء. والكلّ لا يؤثّر إلا بإذن الله تعالى ومشيئته.

وحكم الساحر أن يقتل إن كان يقتل بسحره (٣) ، وهذا الشرط مرويّ عن أبي يوسف (٤) ، وكذلك إن كان سحره كلمة كفر أو اتّخاذ معبود (٥) ، وكذلك إن استحلّ شيئا من السحر قليلا أو كثيرا إمّا هو كفر في نفسه أو غير كفر ؛ لأنّه مقطوع الحكم (٦) بتحريمه لا يسوغ الاجتهاد فيه ، فإذا (٧) استحلّه كفر فوجب قتله (٨).

والحكم فيما عدا (٩) هذه الأوجه الثلاثة الإنذار والنكال (١٠).

و (اتّبعوا) : افتعال من تبع يتبع.

(ما تتلو) : مستقبل بمعنى الماضي (١١).

(عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) : (على) بمعنى (في) (١٢) ، كانت الشياطين تقرأ السحر فيتلقّى منهم مردة الإنس. وقيل (١٣) : تقديره : على عهد ملك سليمان.

وزعموا أنّه كان يضبط أمره بالسحر ، واستخرجوا من تحت سريره كتابا من السحر كتبوها بأيديهم ، ويروى أنّ سليمان عليه‌السلام دفنه توهينا وإبطالا فسمّوه كنزا ، فبرّأه الله ممّا قالوا على لسان نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١٤).

وهو سليمان بن داود بن إيشا الذي فهّمه الله حكم الغنم والحرث وهو صبيّ ، وآتاه النبوّة

__________________

(١) ساقطة من ب.

(٢) في ك : بالحيال.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٤٥ ، وفتح الباري ٦ / ٢٧٧ ، ونيل الأوطار ٧ / ٣٦٣.

(٤) ينظر : أحكام القرآن للجصاص ١ / ٦٢ ، وهو مذهب الشافعي أيضا ، ينظر : الأم ١ / ٢٩٣.

(٥) ينظر : المحلى ١١ / ٣٩٤ ، والمجموع (شرح المهذب) ١٩ / ٢٤٥.

(٦) في الأصل وب : للحكم.

(٧) في ع : فإن.

(٨) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٤٧ ـ ٤٩ ، والمجموع (شرح المهذب) ١٩ / ٢٤٥.

(٩) بعدها في ب : في ، وهي مقحمة.

(١٠) ينظر : المجموع (شرح المهذب) ١٩ / ٢٤٦.

(١١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٩٨ ، والمحرر الوجيز ١ / ١٨٥ ، والبيان في غريب إعراب القرآن ١ / ١١٣.

(١٢) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ٦٣ ، وتفسير الطبري ١ / ٦٢٨ ، وتفسير القرآن الكريم ١ / ٤٢٨.

(١٣) ينظر : معاني القرآن وإعرابه ١ / ١٨٣ ، وتفسير القرآن الكريم ١ / ٤٢٨ ، والمحرر الوجيز ١ / ١٨٥.

(١٤) ينظر : تفسير الطبري ١ / ٦٢٩ ـ ٦٣٢ ، وتفسير القرآن الكريم ١ / ٤٢٩ ـ ٤٣٤ ، وتفسير البغوي ١ / ٩٨ ـ ٩٩.

٢١٢

والملك العظيم الذي لا ينبغي لأحد من بعده (١).

وظاهر الآية يقتضي أنّ الشياطين كانوا يعلّمون الناس نوعين من السحر : ما هو من تلقاء أنفسهم ، وما أخذوه من هاروت وماروت (٢).

[وهاروت وماروت](٣) : اسمان أعجميّان مثل : طالوت وجالوت (٤). وقيل : هاروت من الهرت ، وماروت من المرت ، والهريت الفصيح (٥) ، قال الشاعر (٦) : [من البسيط]

عاد الأذلّة في دار وكان بها

هرت الشّقاشق ظلّامون للجند

والمرت مفازة لا ماء فيها ولا كلأ (٧) ، قال الشاعر (٨) : [من البسيط]

أنّى طربت ولا تلحي (٩) على طرب

ودون إلفك أمرات أماليس

(وَما يُعَلِّمانِ) : للنفي (١٠).

(حَتَّى يَقُولا) : للغاية (١١) ، تجرّ الاسم ، وتنصب الفعل بتقدير (أن) ، وربّما لا تنصب (١٢).

و (الفتنة) (١٣) : الامتحان (١٤) ، وقد تكون الفتنة إيقاعا في الشيء.

ويحتمل أن (٢٦ و) يكون الفعل في قوله : (فَيَتَعَلَّمُونَ) للشياطين (١٥) ، فيكون معطوفا على قوله : (يُعَلِّمُونَ)(١٦) ، وتعليمهم السحر كاستراقهم السمع أو نحوه (١٧). ويحتمل أن يكون الفعل للاثنين ، فيكون معطوفا على مضمر وتقديره : فيأبون (١٨) فيعلمان فيتعلمون.

__________________

(١) ينظر : البداية والنهاية ٢ / ٢٢ ، وقصص الأنبياء ٢ / ٢٨٤.

(٢) ينظر : التفسير الكبير ٣ / ٢١٧.

(٣) يقتضيها السياق.

(٤) ينظر : الكشاف ١ / ١٧٣ ، وتفسير القرطبي ٢ / ٥٣ ، والبحر المحيط ١ / ٤٨٧.

(٥) في ب : القصة ، وهو خطأ. وينظر : لسان العرب ٢ / ١٠٣ (هرت).

(٦) ابن مقبل ، تاج العروس ١ / ٥٩٥ (هرت) ، وفيه : للجزر بدل (للجند).

(٧) ينظر : لسان العرب ٢ / ٨٩ (مرت).

(٨) المتلمّس الضّبعي ، ينظر : الأغاني ٢٤ / ٢٣٩.

(٩) في ب : تلقى.

(١٠) ينظر : تفسير القرآن الكريم ١ / ٤٣٨ ، والنكت والعيون ١ / ١٤١ ، ومجمع البيان ١ / ٣٢٩.

(١١) ينظر : المجيد (ط ليبيا) ٣٦١ ، والبحر المحيط ١ / ٤٩٩ ، والدر المصون ٢ / ٣٦.

(١٢) ينظر : اللباب في علل البناء والإعراب ١ / ٣٨٢ ـ ٣٨٦ ، والدر المصون ٢ / ٣٧.

(١٣) الآية نفسها : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ).

(١٤) ينظر : تفسير الطبري ١ / ٦٤٧ ، والوجيز ١ / ١٢٢ ، وتفسير البغوي ١ / ١٠١.

(١٥) في ك : الشياطين.

(١٦) ينظر : معاني القرآن وإعرابه ١ / ١٨٥ ، وإعراب القرآن ١ / ٢٥٣ ، ومشكل إعراب القرآن ١ / ١٠٦.

(١٧) ينظر : زاد المسير ١ / ١٠٥.

(١٨) في ك وع : فيأتون. وينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ٦٤ ، وتفسير الطبري ١ / ٦٤٧ ، والبيان في غريب إعراب القرآن ١ / ١١٤.

٢١٣

و (ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) : البغضاء والتّأخيذ (١).

ومرء وامرؤ لغتان ، وفي التأنيث : مرأة وامرأة ، وكأنّ همزة الوصل إنّما عوّضت من الهمزة الأخيرة إذ لا صورة لها (٢) ، فسكّنت الميم وهي فاء الفعل (٣) وابتدئ بهمزة الوصل كما في الاسم والابن. وقيل : إنّما سكّنت فاء الفعل في مثل هذه الأسماء وابتدئ بهمزة الوصل ؛ لأنّها أسماء (٤) كثر دورها على الألسنة ، فشبّهت بالأفعال التي على صيغة الأمر. ومثل هذه العلل واه (٥) ، واللغة بالسماع. وكأنّ المرء موضوع غير مشتقّ ، والتثنية : مرءان وامرؤان ومرأتان وامرأتان ، وهي في التأنيث أكثر استعمالا ، وأمّا الجمع فلم يرو إلا في حديث : (أحسنوا ملأكم أيّها المرؤون) (٦) ، وقال رؤبة لطائفة رآهم : أين يريد (٧) المرؤون؟ وهذا جمع سلامة جائز بالقياس.

(وَما هُمْ بِضارِّينَ) : والضّرّ : إلحاق (٨) الضّرّ والضّرر بالشّيء ، وهما البؤس والمكروه ، وفيهما معنى النقصان ، ونقيضهما : النّفع (٩).

والهاء في (بِهِ) كناية عن السّحر (١٠) ، أو عمّا يفرّقون به (١١).

وتقديره : وما هم بضارّين به أحدا ، إلا أنّه أدخل [من](١٢) للتأكيد كما قال : (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) [التوبة : ١٢٧] ، وقال الشاعر (١٣) : [من البسيط]

وقفت فيها أصيلانا (١٤) أسائلها

أعيت جوابا وما بالرّبع (١٥) من أحد

__________________

(١) ينظر : تفسير القرآن الكريم ١ / ٤٤٠ ، والوجيز ١ / ١٢٢ ، وتفسير البغوي ١ / ١٠٢. والتّأخيذ : حبس الرجل عن امرأته حتى لا يصل إلى جماعها ، ورجل مؤخّذ عن النّساء : محبوس ، لسان العرب ٣ / ٤٧٤ (أخذ).

(٢) لم أقف على من يقول : إنّ همزة الوصل عوّضت من الهمزة الأخيرة. ويقال : مرؤ وامرؤ ومرأة وامرأة ومرة ، ينظر : لسان العرب ١ / ١٥٥ ـ ١٥٦ (مرأ).

(٣) في ب : الفعلة.

(٤) (وابتدئ ... أسماء) ساقطة من ع.

(٥) النسخ الثلاث : واهي.

(٦) ينظر : النهاية في غريب الحديث ٤ / ٣١٤ و ٣٥٢ ، والملأ : الخلق ، ينظر : لسان العرب ١ / ١٦٠ (ملأ).

(٧) في ع : يريدون. وينظر : النهاية في غريب الحديث ٤ / ٣١٤ ، ولسان العرب ١ / ١٥٦ (مرأ).

(٨) في ك : الحلف ، وفي ع وب : الخلف.

(٩) ينظر : التبيان في تفسير القرآن ١ / ٣٧٩ ـ ٣٨٠ ، ومجمع البيان ١ / ٣٢٢.

(١٠) ينظر : النكت والعيون ١ / ١٤٣ ، والوجيز ١ / ١٢٢ ، وتفسير البغوي ١ / ١٠٢.

(١١) ينظر : التبيان في إعراب القرآن ١ / ١٠٠.

(١٢) يقتضيها السياق ، والمراد قوله تعالى في الآية نفسها : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ). وينظر : إعراب القرآن ١ / ٢٥٣ ، والدر المصون ٢ / ٤٣.

(١٣) النابغة الذبياني ، ديوانه ١٤ ، وفيه : عيّت ، بدل (أعيت).

(١٤) مكانها في ك وع : أصيلا لا.

(١٥) في ك : بالرفع.

٢١٤

(ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) : أي : في الآخرة (١). ويحتمل أنّه نفى النّفع وأثبت الضرّ ؛ لأنّ الضرّ في نفسه على معنى الطبيعة والنّفع بالتقدير (٢).

(وَلَقَدْ عَلِمُوا) : يعني اليهود (٣).

(مِنْ خَلاقٍ) : نصيب جميل (٤) ، قال الله تعالى : (فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ (٥) قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ) [التوبة : ٦٩].

و (أَنْفُسَهُمْ) : منصوبة لنزع الخافض ، فهي مشترى لها والآخرة مشترى بها والسحر مشترى. ويحتمل أنّ (أنفسهم) (٦) مشترى بها ، فيكون حينئذ (شَرَوْا) بمعنى : باعوا (٧) ، وإنّما باعوا (٨) أنفسهم بتفويت حظّها من الآخرة. وفعلهم مذموم سواء علموا أو لم يعلموا ، إلا أنّ المراد به كونه مذموما عندهم ، وهو كقوله : (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا) [العنكبوت : ٤١].

وإنّما قال (٩) : (وَلَقَدْ عَلِمُوا) ، ثمّ قال : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)؛ لأنّ العلم الأوّل راجع إلى فوات المعاد فهو مثبت ، والعلم الثاني راجع إلى قبح الصّنيع (١٠) وهو منفيّ ، إذ كلّ أمّة زيّن لهم سوء عملهم (١١).

١٠٣ ـ (لَمَثُوبَةٌ) : لثواب (١٢) ، وهو الجزاء (١٣) ، وأكثر استعماله في الخير. ووزنه (مفعلة) عند بعضهم ، و (مفعولة) عند الآخرين (١٤).

و (الخير) (١٥) : اسم عامّ للمحمود كلّه ، ونقيضه : الشرّ ، يقال (١٦) : فلان خير من فلان ،

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن وإعرابه ١ / ١٨٦ ، والنكت والعيون ١ / ١٤٣ ، ومجمع البيان ١ / ٣٣٣.

(٢) ينظر : البحر المحيط ١ / ٥٠٢.

(٣) ينظر : تفسير الطبري ١ / ٦٥١ ، والوجيز ١ / ١٢٢ ، والمحرر الوجيز ١ / ١٨٨.

(٤) ينظر : غريب القرآن وتفسيره ٧٧ ، ومعاني القرآن وإعرابه ١ / ١٨٦ ، والنكت والعيون ١ / ١٤٣.

(٥) ليس في ب.

(٦) (مشترى لها ... أنفسهم) ساقطة من ب.

(٧) ينظر : غريب القرآن وتفسيره ٧٨ ، وتفسير غريب القرآن ٦٠ ، وتفسير القرآن الكريم ١ / ٤٤٠.

(٨) (وإنما باعوا) ساقطة من ع.

(٩) في ب : قالوا ، وهو خطأ.

(١٠) ساقطة من ب.

(١١) ينظر : تفسير الطبري ١ / ٦٥٤ ـ ٦٥٥.

(١٢) في ك : أثواب. وينظر : تفسير الطبري ١ / ٦٥٦ ، والعمدة في غريب القرآن ٨١.

(١٣) ينظر : تفسير غريب القرآن ٦٠ ، وتفسير القرآن الكريم ١ / ٤٤١ ، والتبيان في تفسير القرآن ١ / ٣٨٦.

(١٤) في ك : الأخرى. ومراده بأن وزنها (مفعولة) أن أصلها : مثووبة ، ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٠.

(١٥) الآية نفسها : (لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

(١٦) في ع وب : ويقال.

٢١٥

أو شرّ منه.

والمراد به التفضيل (١) ، وإنّما وقع التفضيل ههنا على المتاع القليل من العاجلة.

١٠٤ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا) : (٢٦ ظ) نزلت في النهي (٢) عن لفظة كان المسلمون يتلفّظون بها ، ويلحن (٣) فيها اليهود ليّا بألسنتهم يريدون الشتم (٤) ، وهي لفظة (راعنا) (٥). قال ابن عرفة : هو من المراعاة (٦) ، والعرب تقول : راعني ، أي : تعهّدني ، وافهم عنّي وأفهمني. وقال الأزهري : ظاهرها : أرعنا سمعك (٧). وكانت اليهود تذهب بها إلى الرعونة (٨) ، والأرعن : الأحمق (٩). وقيل (١٠) : كانوا يقولون : راعينا ، يعنون راعي السائمة. فنسخ الله تعالى تلك الكلمة بقوله : (انْظُرْنا) ، أي : انتظر وارتقب ما يكون منّا من سؤال أو نحوه (١١).

والإنظار : التمهيل ، والنّظرة : المهلة ، ونظرت (١٢) الشيء ، أي : انتظرته ، قال الله تعالى : (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) [فاطر : ٤٣] ، وقال : (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) [الحديد : ١٣](١٣).

وقرأ الحسن (١٤) : (راعنا) منوّنا ؛ لأنّه ظنّ أنّها لفظة كالأسماء ، فنصبها بوقوع (١٥) القول عليه ، كنصب من نصب : (وقولوا حطّة) (١٦).

١٠٥ ـ (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) : نزلت في الإخبار عن حسد الكفرة ، وما يضمرونه من

__________________

(١) ينظر : المجيد (ط ليبيا) ٣٦٨ ، والبحر المحيط ١ / ٥٠٤.

(٢) في ب : النبي ، وهو تحريف.

(٣) في ب : ويلحق ، وهو تحريف.

(٤) (يريدون الشتم) ساقطة من ب.

(٥) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ٦٩ ـ ٧٠ ، وتفسير غريب القرآن ٦٠ ، والنكت والعيون ١ / ١٤٤.

(٦) وهو قول الفراء في معاني القرآن ١ / ٦٩ ، وينظر : معاني القرآن وإعرابه ١ / ١٨٨ ، والعمدة في غريب القرآن ٨١.

(٧) وعزي إلى ابن عباس في تفسير الطبري ١ / ٦٥٧ ، وتفسير القرآن العظيم ١ / ١٥٣.

(٨) ينظر : تفسير غريب القرآن ٦٠ ، وتفسير القرآن الكريم ١ / ٤٤٢ ، وتفسير البغوي ١ / ١٠٢.

(٩) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٠٢ ، والقرطبي ٢ / ٦٠.

(١٠) ينظر : البحر المحيط ١ / ٥٠٨.

(١١) ينظر : تفسير الطبري ١ / ٦٦٢ ، والتبيان في تفسير القرآن ١ / ٣٨٩ ـ ٣٩٠.

(١٢) في ك : ونظير.

(١٣) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ٧٠ ، وتفسير الطبري ١ / ٦٦٢ ـ ٦٦٣ ، والبغوي ١ / ١٠٢ ـ ١٠٣.

(١٤) ينظر : المحرر الوجيز ١ / ١٨٩ ، ومصطلح الإشارات ١٣٥ ، وإتحاف فضلاء البشر ١٨٩.

(١٥) في ب : وقوع. وينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ٧٠ ، وإعراب القرآن ١ / ٢٥٤ ، والبيان في غريب إعراب القرآن ١ / ١١٦.

(١٦) في الآية ٥٨ من سورة البقرة ، وهي قراءة ابن أبي عبلة ، ينظر : مختصر في شواذ القراءات ٥.

٢١٦

الضغن (١) ليفتضحوا به ، ويزداد الذين آمنوا شكرا لله تعالى ، وشدّة على الكفّار (٢).

و (ما) : للنفي (٣).

(مِنْ) : للتنويع (٤) ، وهي مقدّرة في قوله (٥) : (وَلَا الْمُشْرِكِينَ) ، عنوا به (٦) : وقع الاكتفاء بالأولى.

(أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ) : الجملة في موضع النصب لوقوع الفعل المنفيّ عليها (٧).

(مِنْ) : للتفسير (٨).

(خَيْرٍ) : نصرة ووحي ونحوهما (٩).

(مِنْ رَبِّكُمْ) :" (من) : لابتداء الغاية" (١٠). ومجازه : أن ينزّل الله عليكم من خير من عنده (١١).

واسم الله (١٢) مرتفع بالابتداء ، أو بالفعل.

(يَخْتَصُّ) : تخصيص الشيء : اقتطاعه من جنسه (١٣). والعموم ضدّ الخصوص (١٤).

(مَنْ يَشاءُ) : (من) (١٥) : في محلّ النصب لوقوع الاختصاص عليه ، [أي :](١٦) من يشاء اختصاصه (١٧).

__________________

(١) النسخ الثلاث : النعما ، وبعدها في ب : ليفضحوا ، بدل (ليفتضحوا).

(٢) ينظر : تفسير الطبري ١ / ٦٦٤ ، وزاد المسير ١ / ١٠٩.

(٣) ينظر : البيان في غريب إعراب القرآن ١ / ١١٦.

(٤) ينظر : التبيان في تفسير القرآن ١ / ٣٩١ ، ومجمع البيان ١ / ٣٣٧.

(٥) (في قوله) مكررة في ب.

(٦) يريد الذين قدّروا (من). وينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ٧٠ ، وللأخفش ١ / ٣٢٩ ، ومعاني القرآن وإعرابه ١ / ١٨٨.

(٧) ينظر : التبيان في تفسير القرآن ١ / ٣٩٠ ، والبيان في غريب إعراب القرآن ١ / ١١٦ ، ومجمع البيان ١ / ٣٣٧.

(٨) أجمعت المصادر التي بين يدي على أنها زائدة ، ينظر : إعراب القرآن ١ / ٢٥٤ ، والبيان في غريب إعراب القرآن ١ / ١١٦ ، والتبيان في إعراب القرآن ١ / ١٠٢.

(٩) ينظر : البحر المحيط ١ / ٥١٠.

(١٠) مشكل إعراب القرآن ١ / ١٠٨ ، والبيان في غريب إعراب القرآن ١ / ١١٦ ، والبحر المحيط ١ / ٥١٠.

(١١) ينظر : مجمع البيان ١ / ٣٣٧.

(١٢) الآية نفسها : (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ).

(١٣) ينظر : التبيان في تفسير القرآن ١ / ٣٩١ ـ ٣٩٢ ، ومجمع البيان ١ / ٣٣٦.

(١٤) (الشيء اقتطاعه ... الخصوص) مكررة في ب.

(١٥) ليس في ب.

(١٦) يقتضيها السياق.

(١٧) ينظر : التبيان في إعراب القرآن ١ / ١٠٢.

٢١٧

(وَاللهُ) : رفع بالابتداء ، و (ذُو) : خبره.

وذو الشيء : من له الشيء على وجه التخصيص أو التمليك ، وقد يجعل الشيء ذا معناه : وهو نفسه ، كقولهم : الإنسان ذو روح وجسد ، والأمر ذو بال. وهو يشبه الأخ والأب في التوحيد والتثنية ، والجمع : دوو مثل : أولو وسنو (١).

وذات الشيء : نفسه ، وقد تجعل التاء فيه من نسج (٢) الكلمة فتثبت في (٣) النسبة.

١٠٦ ـ (ما نَنْسَخْ) : (ما) : بمعنى الذي ، إلا أنّ فيه معنى الشرط بدلالة جزم الفعل ، نظيره : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ) [البقرة : ١١٠](٤).

والنّسخ في اللغة : الإزالة والإزاحة ، يقال : نسخت الشمس الظلّ ، والريح الأثر (٥). وتسمّى كتابة ما هو في كتاب سابق نسخا مجازا ، وكذلك تسمّى نقلا ، وحقيقة النقل ما يكون به فراغ محلّ لشغل محلّ (٦).

واعلم أنّ نسخ الشريعة يأباه اليهود (٧) والإماميّة من الشّيعة ، ولا يفرّقون بينه وبين البداء ، فحجّة اليهود قول موسى عليه‌السلام : من جاءكم بخلاف ما أتيتكم به فلا تقبلوه ، وحجّة الإماميّة قوله : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) [الشورى : ١٣] ، وقوله : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) [ق : ٢٩]. ويجعلون ما تجده (٨) منسوخا من الأحكام مؤقّتا بوقت معيّن (٢٧ و) مقدّر (٩) يعلمه النبيّ أو الوصيّ من بعده ، فينتهي بانتهاء وقته من غير نسخ ، ويفسّرون هذه الآية بانتساخ القرآن (١٠) من اللوح المحفوظ. قلت (١١) : أمّا قول موسى عليه‌السلام فمعناه : من جاءكم مكذّبا بي مخطّئا إيّاي فلا تصدّقوه ، ولم يرد به من يبتني على المعلوم الأوّل إذ هذا لا يكون مخالفا ، ألا ترى أنّك إذا تيقّنت الخبر ثمّ جاء إنسان وقال : إنّ ما علمت لم يكن ، فإنّك تكذّبه (١٢) لا محالة ، ولو أخبرك بزواله بعد كونه لم تكذّبه ، ولكنّك طالبته بالبيّنة والبرهان.

__________________

(١) في ب : وشنو. وينظر : البحر المحيط ١ / ٥٠٦ و ٥١٠.

(٢) في ك وع : نسخ ، وفي ب : عن لنسخ ، بدل (من نسج).

(٣) بعدها في ك : على ، ومكانها في ع وب : على. وينظر : المغني في النحو ١ / ٢٩٢ ـ ٢٩٣.

(٤) ينظر : مجمع البيان ١ / ٣٣٩ ، والبيان في غريب إعراب القرآن ١ / ١١٦ ، والتبيان في إعراب القرآن ١ / ١٠٢.

(٥) ينظر : الناسخ والمنسوخ للنحاس ٥٧ ، ولابن حزم ٦ ـ ٧ ، وأصول السرخسي ٢ / ٥٣.

(٦) ينظر : الفصول في الأصول ٢ / ١٩٦ ، وأصول السرخسي ٢ / ٥٣ ، والإحكام للآمدي ٣ / ١٠٢.

(٧) ينظر : الناسخ والمنسوخ لابن حزم ٨ ، والمنخول ٣٨٣ ، ونواسخ القرآن ١٤.

(٨) النسخ الثلاث : بعده.

(٩) ساقطة من ع ، وبعدها في ب : بعلمه الله ، بدل (يعلمه النبي).

(١٠) في الأصل : للقرآن.

(١١) في ع وب : قلنا.

(١٢) مكانها في ب : تكذب به.

٢١٨

والمراد بالآية ما بقي من شرائعهم غير منسوخ ، والآية الأخرى على ما قال الله تعالى لكنّه في تبديل على وجه البداء دون النسخ بدلالة قوله : (بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) [النحل : ١٠١]. وتأويل النسخ ههنا بالانتساخ خطأ (١) بدليل ما تلونا من قوله : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ)(٢) ، وقوله : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) [الرعد : ٣٩](٣). ولو كان توقيت أمر القبلة يعلمه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما كان لتقلّب وجهه في السماء معنى (٤).

والدليل على جواز النسخ قوله تعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف : ٥٤] ، ثمّ نسخ الخلق بالخلق لا يؤدّي إلى البداء فكذلك نسخ الأمر بالأمر ، ولأنّ النسخ يثبت بالعقل (٥) ، ألا ترى أنّ قطع العضو محظور ، ثمّ إذا أصابته آفة يرجو صاحبه السلامة بالقطع كان له أن يقطعه.

وإذا ثبت النسخ بالعقل ثبت بالوحي إذ هما معنيان موجبان ، ولأنّه ثبت بالنقل العامّ الذي لا يمكن دفعه تزويج آدم أولاد صلبه بعضهم من بعض ، وثبت بالعقل أيضا لأنّ إثبات النسل الأوّل إذ أمكن برجل وامرأة فلا بدّ في إثبات النسل في الدرجة الثانية إلا بتزويج ذوي الأرحام ، وقد ثبت المحسوس على ذلك إلى اليوم (٦). وثبت بالنقل العامّ أيضا جمع يعقوب عليه‌السلام بين أختين ، لايان وراحيل (٧) ابنتا خاله ، ثمّ حرم ذلك التوراة ، وأحدث حكم القربان لا بني آدم ، وحكم الختان لإبراهيم ، والسبت ، وتحريم طبخ الجدي بلبن ، وصوم مدّة معيّنة ، والإفطار في يوم معلوم لموسى عليه‌السلام لم يتقدّمها إيجاب من أحد ، ولا لزوم في عقل فثبت جواز النسخ (٨).

والفرق بين النّسخ والبداء أنّ النسخ إزالة ما سبق العلم في كونه صلاحا في وقت دون وقت بما سبق العلم في كونه (٩) غير صلاح في الوقت الأوّل صلاحا في الوقت الثاني. والبداء هو الاستدراك عند اتّضاح الملتبس ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا (١٠).

فإن قيل : قولكم في بيان النّسخ يؤدّي إلى الشكّ في الأوامر المطلقة ، هل بقي كونها صلاحا

__________________

(١) ساقطة من ب.

(٢) (وتأويل النسخ ... مكان آية) ليس في ع.

(٣) ينظر : الفصول في الأصول ٢ / ٢١٥ ـ ٢١٨ ، والتفسير الكبير ٣ / ٢٢٩.

(٤) ينظر : التبيان في تفسير القرآن ٢ / ١٣.

(٥) ينظر : تفسير القرآن العظيم ١ / ١٥٦.

(٦) ينظر : الفصول في الأصول ٢ / ٢١٤ ، وأصول السرخسي ٢ / ٥٥ ، والمحصول ٣ / ٢٩٥.

(٧) في ع : راحيل ، والواو ساقطة.

(٨) ينظر : الإحكام للآمدي ٣ / ١١٨ ، وتفسير القرطبي ٢ / ٦٣ ، وتفسير القرآن العظيم ١ / ١٥٦.

(٩) (صلاحا في وقت ... كونه) ساقطة من ب.

(١٠) ينظر : الناسخ والمنسوخ للنحاس ٦٢ ، والإحكام لابن حزم ٤ / ٤٧١ ، وللآمدي ٣ / ١٠٩ ـ ١١٢.

٢١٩

أم لا؟ قلنا : لا يؤدّي إلى ذلك لأنّا علمنا أنّ صلاحها إمّا يرتفع بأمر حادث وإمّا بتعذّر (١) الإتيان (٢٧ ظ) بها ، وقد فات حدوث الأمر بانقطاع الوحي ، والتّعذّر معدوم في الحال فلا وجه للشكّ ، ثمّ إن وحد التّعذّر وقع اليقين بارتفاع الصلاح حالة التّعذّر (٢).

فإن قيل : قولكم هذا يؤدّي إلى أنّ الصحابة لم يعتقدوا في الأوامر المطلقة وجوبا على التأبيد ، قلنا : الواجب على السامعين اعتقاد الوجوب على شريطة بقاء الحكم دون اعتقاد الوجوب على التأبيد ؛ لأنّهم لا يدرون لعلّ الله يحدث بعد ذلك أمرا (٣).

وإذا ثبت جواز النّسخ على طريق الإجمال فلنا (٤) أن نقتصر على ذكر مذهبنا فيه.

اعلم أنّ ما لا يجوز نسخه ستّة أنواع :

أحدها : نسخ ما يستحيل نسخه بغير جحد أو اعتراف بالكذب ، كنسخ قصّة عاد وثمود وغيرهم ، وكالإخبار عن نفسه بقوله : (إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) [النساء : ١٤٠] ، وعن قول الشيطان (لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ [وَعْدَ الْحَقِ]) [إبراهيم : ٢٢] ، وعن قول الضعفاء والمستكبرين في النار وقول الملائكة لهم (٥).

والثاني : نسخ ما لا يجيز العقل نسخه ، كنسخ الإحسان والإذعان والإيمان (٦).

والثالث : نسخ يؤدّي إلى اللوم والغرور ، كنسخ ما أوجب الله تعالى من جزاء الإحسان.

والرابع : نسخ يؤدّي إلى الحنث ، كنسخ قوله : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) ، الآية [الأعراف : ١٨] ، وقوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [الحجر : ٩٢] ، (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) ، الآية [مريم : ٧١]. ولو لم يكن للقسم مزيّة على الوعد والوعيد لما ذكر القسم.

والخامس : نسخ حكم لم يفد شيئا ، كنسخ ما لم ينزله جبريل عليه‌السلام بعد ، إذ هو يؤدّي إلى البداء.

والسادس : نسخ (٧) لم يبيّن ؛ لأنّه محال إذ ترك تبيين النسخ إبقاء للحكم الأوّل ، فلا يجتمعان.

وما يجوز نسخه ستّة أنواع :

__________________

(١) في ع : بتقدر ، وفي ب : بتقدير.

(٢) ينظر : أصول السرخسي ٢ / ٥٧ ـ ٥٨.

(٣) ينظر : الإحكام للآمدي ٣ / ١١٨ ـ ١١٩.

(٤) في الأصل وك : فبنا.

(٥) الآيات ٤٧ ـ ٥٠ من سورة غافر. وينظر : الإحكام لابن حزم ٤ / ٤٧٥ ، واللمع في أصول الفقه ٥٦ ـ ٥٧ ، وأصول السرخسي ٢ / ٥٩.

(٦) ينظر : الإحكام لابن حزم ٤ / ٤٧٥.

(٧) بعدها في ب : لأنه ، وهي مقحمة.

٢٢٠