مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥٨

قوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).

اي فان اعرضوا عن الحق وما تدعو اليه الفطرة المستقيمة في التوحيد وما اتفقت عليه الكتب والرسل فقد لزمتهم الحجة والحق أوضح من ان تقام عليه الحجة وانما كان اعراضهم عنادا ولجاجا (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) النمل ـ ١٤ ولذا امر سبحانه وتعالى نبيه والمؤمنين بإظهار ايمانهم وانهم على الدين الحق المرضي عند الله تعالى وهو الإسلام الذي هو ملازم للتوحيد في العبادة والفعل.

والشهادة منهم بأنهم مسلمون انما تكون في قولهم وعملهم في التوحيد فتكون تثبيتا لمقامهم واعترافا منهم بالحق.

وفي الآية الشريفة تعريض لهم بأنهم على غير الحق وان المسلمين لا يبالون بأباطيل غيرهم مهما كلفهم الأمر.

قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ).

خطاب لليهود والنصارى معا. والجملة مقول القول في الآية السابقة ، وهذه الآيات التي تليها مسوقة لبيان الدين الحق والدعوة إلى الإسلام الذي له جذور من حين ابراهيم الخليل (عليه‌السلام).

والمحاجة في ابراهيم من اهل الكتاب هي ادعاء اهل كل دين انه كان منهم وعلى دينهم وتعصب كل طائفة على ذلك فزعمت اليهود انه كان يهوديا والنصارى انه كان نصرانيا وقد وقع بسبب ذلك النزاع بينهم وأكذبهم الله تعالى في عدة مواضع من القرآن الكريم قال تعالى : (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) البقرة ـ ١٤٠.

٤١

قوله تعالى : (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ).

احتجاج على اهل الكتاب بأن التوراة والإنجيل نزلتا بعد ابراهيم فلا ريب ان اليهودية والنصرانية انما حدثتا بعد نزولهما. وفي إتيان نزول التوراة والإنجيل في الاحتجاج لبيان انه لو كان ابراهيم (عليه‌السلام) من احدى الطائفتين لكان كتاب كل طائفة يشير إلى ذلك وهذا لم يتحقق فلا يمكن ان يكون ابراهيم منهم.

قوله تعالى : (أَفَلا تَعْقِلُونَ).

اي : أفلا تعقلون دحوض دعواكم وبطلانها وان المتقدم لا يكون تابعا للمتأخر ، والتعبير بذلك انما هو لبيان ان الأمر يكفي فيه ادنى تنبيه.

وفي الآية الشريفة تجهيل لهم واعلام لهم بان الحق في ابراهيم (عليه‌السلام) وانه كان على الدين الحنيف مسلما لله عزوجل كما نبه عليه عزوجل في الآيات اللاحقة.

قوله تعالى : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ).

تثبيت لتكذيبهم واظهار لجهلهم ، وانما أتى سبحانه باسم الإشارة إما للتحقير والتنقيص ، أو لبيان ان الخطاب والتوبيخ انما يكون إليكم وفي انفسكم دون اسلافكم ، أو لأن المحاجة كانت بينهم وفي أنفسهم لا بينهم وبين المسلمين وإلا كان المسلمون طرفا في المحاجة الباطلة.

والمعنى : انكم حاججتم وتنازعتم في امور معلومة البطلان لديكم بالوجدان : منها : ما حكاه عزوجل آنفا عنهم وهو محاجتهم في كون ابراهيم (عليه‌السلام) يهوديا أو نصرانيا مع علمهم بانه على الدين الحق وان المتقدم لا يكون تابعا للمتأخر بل هو منبعث عن الاول وقد غالوا

٤٢

في هذه الأمور وتشبثوا بحجج هي اوهن من بيت العنكبوت :

ومنها : انهم كانوا يتنازعون في عيسى (عليه‌السلام) فكانت النصارى تحاج اليهود في بعثه أو نبوته أو انه الله أو ابنه أو ثالث ثلاثة ، وكانت اليهود تحاج النصارى فيه فتبطل نبوته وألوهيته والجميع يعلمون بانه مخلوق من مريم ورسول أرسله الله تعالى إلى بني إسرائيل.

قوله تعالى : (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ).

الاستفهام توبيخي يعني : فلم تتنازعون وتحاجون في امور لا تعلمون بها وتغالطون فيها والواجب عليكم اتباع الوحي المبين ومتابعة سيد المرسلين.

وقد اختلف المفسرون في تعيين الذي لهم به علم وجمهورهم انه امر ابراهيم المتنازع في كونه يهوديا أو نصرانيا إلا ان ذلك أمر واضح لا يجهله احد منهم ويعلمون ان ابراهيم (عليه‌السلام) كان متقدما عليهم ولا يمكن ان يكون تابعا للمتأخر كما ذكرنا ولذا عقب سبحانه وتعالى بعد تكذيبهم في ذلك بقوله (أَفَلا تَعْقِلُونَ) الدال على تقبيحهم في هذا الإمر المعلوم.

وذكر بعض المفسرين ان المراد من عدم علمهم بأمر ابراهيم هو عدم علمهم بأن دين الله واحد وهو الإسلام وان اليهودية والنصرانية والإسلام شعب من ذلك الدين الحق وانها تتدرج في سلم الكمال ، واليهود والنصارى جهلت ان ابراهيم هو المؤسس لهذا الدين الحق ، والأصل لا ينسب إلى فرعه بل الأمر بالعكس.

وفيه : ان ما ذكره يرجع إلى ما تقدم الذي عرفت المناقشة فيه ، مع ان كون ابراهيم (عليه‌السلام) هو المؤسس للدين امر مسلّم

٤٣

عند الجميع ، بل هو معروف عند الأديان الثلاثة ، إلا ان النزاع يرجع إلى ان اليهود تدعى ان الدين الحق هو اليهودية فقط وان ابراهيم يهودي ، والنصارى تدعي ان الدين الحق هو النصرانية وان ابراهيم هو الذي أسسها. فالنزاع بينهم في تعيين الدين الذي أسسه ابراهيم لا في كونه المؤسس للدين الحق وانه لا يجهله احد منهم.

والحق ان يقال : ان ما كان يجهله اليهود والنصارى هو ادعاء اليهود الألوهية في بعض أنبيائهم كما زعموا في عزير ابن الله وادعاء النصارى في عيسى ابن الله أو هو الإله أو التثليث ، وقد جهلوا جميعا ان المخلوق المربوب لا يمكن ان يكون إلها وان الله تعالى هو الا له الواحد الأحد.

مع ان الآية الشريفة تدل على امر أبعد من ذلك وهو ان التشبث بأمور معلومة لا تجعل المستحيلات أمورا ممكنة بالمغالطة فجميع ما زعموه مغالطة بين الحق الواقعي والوهم الاعتقادي وهم بمعزل عن الواقع مع تشبثهم بهذه الأوهام.

قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

تأكيد لنفي العلم عنهم اي : والله يعلم الحق واهله وما أنتم عليه من تلبيس الحق بالباطل ومغالطتكم فيه وأنتم لا تعلمون شيئا ولستم بأهل لان يعلمكم الله تعالى شيئا لجحودكم وضلالكم.

والآية الشريفة دليل على ان كل علم ما لم ينته إلى العلوم التي اودعها الله تعالى في الفطرة أو ما أوحاه إلى أنبيائه لم يكن منتجا بل لا يكون إلا من المغالطات والأوهام كما أثبته أكابر الفلاسفة.

٤٤

قوله تعالى : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا).

بيان للبرهان المقرر سابقا في شأن ابراهيم (عليه‌السلام) وان التوراة والإنجيل نزلتا بعده وتنزيه من الله تعالى له من كل افتراء عليه فلم يكن يهوديا ولا نصرانيا كما كان يدعيه كل فرقة منهما لأنه لا يقول بأمر يمس بجلال الله تعالى وعظمته ولا يحد قدرته عزوجل ولا ينسب اليه ما لا يليق به كما تقوله اليهود ولا يقول بالتثليث والوهية البشر كما عليه النصارى المبتعدين عن التوحيد الخالص الذي هو دين ابراهيم (عليه‌السلام) فالامر هنا امر عقائد لا امر نسب وصلة.

قوله تعالى : (وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

مادة حنف تدل على الميل إلى الحق وحيث ان الحق فيه تعالى فيكون الميل إلى التوحيد حينئذ ويلازمه نفي كل خلاف الحق والتوحيد من الشرك والضلال فكانت عقيدة ابراهيم (عليه‌السلام) مائلة عن الشرك ومتمحضة في التوحيد الخالص الذي ينفي كل شرك وضلال كما عليه محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

ويقابلها مادة (جنف) الدالة على الميل إلى الباطل. وقد كان عرب الجاهلية يدعون أنفسهم بالحنفاء لأنهم تبعوا ابراهيم في بعض شرايعه كالختان والحج. وكان اهل الكتاب يسمونهم بالحنفية الوثنية.

والمراد بالإسلام في المقام هو التسليم لله تعالى والانقياد لطاعته والخضوع لربوبيته وليس المراد من الإسلام الدين الذي جاء به محمد ابن عبد الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فانه حادث بعد ابراهيم بعدة قرون وتابع له لقوله تعالى : (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) النساء ـ ١٢٥ وقد تقدم في قوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) آل عمران

٤٥

 ـ ١٩ بعض الكلام.

وقد وصف الله سبحانه وتعالى ابراهيم (عليه‌السلام) بأوصاف ثلاثة كل واحد منها يدل على بطلان ما تدعيه اليهود والنصارى والوثنية المشركة ، ففي توصيفه بكونه حنيفا لأجل كونه تاركا لكل العقائد الزائفة ومائلا إلى التوحيد الحق كما تقدم ، وفي توصيفه بكونه مسلما لبيان انه منقاد للحق وداخل في طاعة الله تعالى مخلص له خاضع لوجهه الكريم ، وفي توصيفه بكونه لم يكن من المشركين للاعلام بانه لم يكن من عبدة الأصنام ولا من الحنفية الوثنية كما كانت عليه عرب الجاهلية ، وفيه التعريض بأنهم مشركون فتكون الجملة تأكيدا لما تضمنه الكلام السابق ، كما ان فيه التنبيه على أن الحنفية المصطلحة بين عبدة الأوثان لم تكن مرادة بل المراد هي الحنفية الحقة التي جاء بها ابراهيم.

ويستفاد من الآية الشريفة ان ابراهيم (عليه‌السلام) الذي اتفق على إجلاله وإكرامه جميع الأديان انما هو المرضي لله تعالى والمستسلم لأمره لم يكن على ملة احد منهم ، وبهذا الاعتبار صار موضع احترام وإجلال جميع الأديان بل يعتبر أصلها ومؤسسها.

قوله تعالى : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ).

اولى افعل التفضيل من وليه يليه وليا وهو بمعنى اقرب. اي : اقرب الناس إلى ابراهيم في الدخول في ولايته من كان متبعا له ، فإذا كانت نسبة بين احد وبين هذا النبي العظيم المبجل فإنما هي نسبة المتابعة له في حق وموافقته في الدين الذي جاء به ، ومن استحق هذه الأولوية من المتقدمين من أجاب دعوته واهتدى بهديه واتبعه على

٤٦

الحنيفية واسلافه من الأنبياء السابقين والموحدين الصالحين.

وفي الآية المباركة التعريض لأهل الكتاب بأنهم لم يتبعوه فليسوا اولى بإبراهيم (عليه‌السلام) فكيف يكون منهم.

قوله تعالى : (وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا).

اي : ومن المتأخرين هذا النبي والمؤمنين به فان دينه على الحق ، وانه من أكبر الداعين إلى الحنيفية التي دعى إليها ابراهيم (عليه‌السلام) بل ان دينهما واحد.

وفي إفراد النبي والمؤمنين به عن الذين اتبعوه تجليل لهذا النبي العظيم وصون له من ان يطلق عليه الاتباع. هذا إذا جعلنا قوله تعالى : (وَهذَا النَّبِيُّ) جملة معطوفة على الضمير المفعول.

وقيل : الجملة معطوفة على الموصول قبله فيكون من عطف الخاص على العام.

وقيل : انه معطوف على ابراهيم فتكون الجملة مجرورة. والمعنى ان اولى الناس بإبراهيم وهذا النبي للذين اتبعوه. واعترض عليه أنه ينبغي أن يثنى ضمير (اتبعوه). ولكن أجيب بانه نظير قوله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) التوبة ـ ٦٢.

والحق أن الاعتراض ساقط ، لأن الضمير المنصوب في قوله تعالى : (اتَّبَعُوهُ) يرجع إلى خصوص ابراهيم (عليه‌السلام). وكون نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مقصودا أيضا في واقع المراد ، لا يوجب تثنية الضمير في ظاهر اللفظ ، مضافا إلى انه يلزم الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي. فالصحيح ما ذكرناه ، وهو الموافق لأدب القرآن في خاتم الأنبياء والمرسلين مثل قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) الانعام ـ ٩٠ ولم يقل عزوجل فبهم اقتده.

٤٧

قوله تعالى : (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ).

اي : من دخل في ولاية ابراهيم (عليه‌السلام) دخل في ولاية الله تعالى والله ولي المؤمنين ينصرهم بالحسنى ويصلح شؤونهم دون غيرهم من الكافرين المشركين.

وفيه إيماء إلى أن اهل الكتاب خارجون عن ولايته سبحانه وتعالى وان ادعوا الايمان بالله جلت عظمته.

بحوث المقام

بحث أدبي :

كلمة سواء في قوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ) تأتي مصدرا ، وتأتي بمعنى الوصف اي متساوي الطرفين والعدل ، وتقرأ ممدودة إذا فتح السين ومقصورة إذا كسر السين أو ضم. وهي نعت للكلمة مستوية أو متساوية ، فتكون مجرورة ويمكن أن تكون منصوبة على المصدر.

ولم في قوله تعالى : (لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ) أصله (لما) حذفت الالف فرقا بين الاستفهام والخبر.

وها في قوله تعالى : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) حرف تنبيه ، أطرد دخوله على المبتدأ إذا كان خبره اسم الإشارة و (أَنْتُمْ هؤُلاءِ) قيل : مبتدأ وخبر على أن يكون هؤلاء بمعنى الذين وما بعده صلة له وقيل : أنتم مبتدأ وهؤلاء منادى حذف منه حرف النداء وجملة «حاججتم» خبر.

٤٨

بحث دلالي

تدل الآيات الشريفة على أمور :

الاول : يدل قوله تعالى : (كَلِمَةٍ سَواءٍ) على ان الكلمة من اساسيات كتب اهل الكتاب واوليات العقل وانها من البديهيات ، فتدل بالملازمة على انها من الأمور التي يجب العمل بها عقلا وشرعا.

الثاني : ان قوله تعالى : (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) بيان للكلمة السواء ـ كما عرفت ـ ويبين علة الحكم بالرجوع إلى الكلمة السواء وهي كون الله معبودا واحدا لا شريك له في ذلك فلا بد من الاجتماع على عبادته وأن لا يتخذ دونه معبود آخر ولا يجوز لاحد ان يخضع إلا لواحد له من الكمال والعظمة والكبرياء ما لا يوجد في غيره ، وان وحدة النظام في العالم تقتضي ان يكون المعبود واحدا كما ان خالقه واحد.

الثالث : يدل قوله تعالى : (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً) على نفي الولاية لاحد على احد إلا ما يمنحها الله تعالى لعبد من عباده وان افراد الإنسان أبعاض من حقيقة واحدة.

كما ان الآية الشريفة تدل على نفي ربوبية غير الله تعالى ، وأن لا رب سواه ، وأن الربوبية الحقيقية من خصائص الألوهية.

الرابع : يستفاد من قوله تعالى : (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) أن الاحتجاج المنتج لا بد أن يكون عن علم صحيح مطابق للواقع.

٤٩

الخامس : يدل قوله تعالى : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) على ان الأوهام الباطلة والمغالطات توجب عزل الفكر عن الواقع وبعد الإنسان عن الحق.

السادس : يستفاد من قوله تعالى : (وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ان المناط في كل دين وملة هو الخضوع والطاعة لله تعالى ونبذ الشرك بكل انحائه وبهذا الاعتبار لم يكن ابراهيم يهوديا ولا نصرانيا لكونهما مشتملين على الشرك.

السابع : إنما قال سبحانه وتعالى : (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ). ولم يقل : (والله وليهم) إيماء إلى ان الإيمان هو العلة في ولايته تعالى لعباده المؤمنين ، للقاعدة المعروفة بين الأدباء : ان تعليق الحكم على الوصف يشعر بالعلية.

الثامن : يستفاد من قوله تعالى : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) الفرق والاختلاف بين الواقع والاعتقاد وأنهما أمران قد يتطابقان وقد يختلفان ، ومن ذلك جاء الاختلاف والتنازع في العلوم والمعارف الانسانية ، وأساس المغالطات على هذا الاختلاف ، وهو يدور مدار قلة التأمل والتفكر وكثرتهما. ولذا ورد في القرآن الكريم والسنة المقدسة الترغيب الكبير إلى التفكر والتعقل ، ولعل من اسرار ذلك رفع التنازع والاختلاف بين الناس ولو وفق فرد لتمييز الاعتقاد الصحيح المطابق للواقع عن غيره لارتفع النزاع وقلّ التشاجر والتناحر بين الأنام ، لكن الخلاف والاختلاف غريزة لا يمكن رفعها ، ولا دفعها.

٥٠

بحث روائي

روى محمد بن الحسن الشيباني عن جعفر بن محمد (عليه‌السلام) في قوله تعالى : قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء ـ الآية ـ قال (عليه‌السلام) : «إن الكلمة السواء هاهنا هي شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وأن عيسى عبد الله وانه مخلوق كآدم».

أقول : يستفاد من الحديث أن الكلمة السواء هي الدعوة إلى التوحيد ، ونبذ الشرك ، فتكون الدعوة عامة بالنسبة إلى اهل الكتاب وغيرهم ، وفي كل وقت.

وفي الدر المنثور في قوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ) ـ الآية ـ أخرج ابن جرير عن السدّي : دعا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وفد نجران ، فقال : (يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ) ـ الآية ـ.

وفي صحيح البخاري عن ابن عباس عن أبي سفيان في حديث ـ يذكر فيه كتاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلى هرقل عظيم الروم ، قال أبو سفيان : ثم دعا ـ يعني هرقل ـ بكتاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقرأه فإذا فيه : بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد فاني أدعوك بدعابة الإسلام أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك

٥١

مرتين ، فان توليت فان عليك إثم الإريسيين ، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله .... واشهدوا بأنا مسلمون ـ الحديث ـ ..

ورواه مسلم في صحيحه أيضا ، ورواه السيوطي في الدر المنثور عن النسائي ، وعبد الرزاق ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

وفي بعض الروايات أن كتاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلى مقوقس عظيم القبط يشتمل أيضا على قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ). وفي الدر المنثور أخرج الطبراني عن ابن عباس : أن كتاب رسول الله إلى الكفار تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ـ الآية ـ.

أقول : البحث في هذه الأحاديث من جهتين : ـ

الأولى : أن كتب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) المشتملة على قوله تعالى : (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ) إلى من ذكر في الروايات كعظماء الروم ، والقبط ، وفارس ليس من جهة الاختصاص بهم ، بل هي دعوة التوحيد ونبذ الشرك ، فيشمل كل من لم يكن على التوحيد حتى المشركين. كما أنها بحسب معنى الدعوة إلى التوحيد لا تختص بزمان دون زمان فان الدعوة عامة وابدية.

الجهة الثانية : اتفق أرباب التواريخ أن إرسال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الرسل والكتب إلى الملوك والرؤساء كان في السنة السادسة من الهجرة ، ويلزم ذلك أن هذه الآية الشريفة ـ (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ) ـ نزلت في تلك السنة أو قريبا منها ، لأن الكتب كانت مشتملة على هذه الآية الشريفة.

ولكن اختلف أهل التاريخ في وفد نصارى نجران ، فمنهم من قال

٥٢

أنهم وفدوا على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في السنه العاشرة من الهجرة ، ومنهم من قال : بأنهم وفدوا سنة تسع من الهجرة ، ويلزم من ذلك الاختلاف في وقت نزول الآية الشريفة.

ويمكن القول بأن الإعتبار يشهد بأن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قد كتب إلى نصارى نجران أيضا في السنة التي كتب إلى الملوك والرؤساء ، لأنهم كانوا اقرب اليه من غيرهم. فيكون ما ذكره المفسرون في شأن نزول هذه الآية الشريفة من باب الجريان والتطبيق ويمكن أن تكون الوفود متعددة فتارة وفدوا في سنة ست ، وأخرى في سنة تسع أو عشر من الهجرة.

بقي شيء وهو أن البيهقي نقل في الدلائل : أن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان : بسم الله إله ابراهيم وإسحاق ويعقوب من محمد رسول الله إلى أسقف نجران إن إسلمتم فاني احمد إليكم الله إله ابراهيم وإسحاق ويعقوب أما بعد فاني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد وإلى ولاية الله من ولاية العباد فان أبيتم فقد آذنتكم بالحرب والسلام ـ الحديث ـ.

وأشكل عليه أولا : بأن الكتاب لم يتصدر ببسم الله الرحمن الرحيم بخلاف سائر كتبه (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

ويمكن الجواب عنه : بأنه ربما يكون الكتاب إلى نجران متعددا أو انما فعل ذلك رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لأجل التودد والمجاراة معهم.

وثانيا : أن سورة النمل مكية نزلت قبل هجرة النبي ، وكيف يجتمع مع قصة نجران.

وفيه : بأن النزول له مراتب والمراد به في المقام قبل ظهورها

٥٣

بين الناس وانتشاره. أو كان الكتاب إليهم قبل هجرته (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لقرب دار نجران منه.

وثالثا : انه يشتمل على أمور لا يمكن توجيهها ، كحديث الجزية والإيذان بالحرب وغير ذلك. وفيه : أن ذلك كان في مرحلة الإنشاء بداعي الترهيب دون الفعلية.

وفي تفسير العياشي عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا) ـ الآية قال : «قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) : لا يهوديا يصلي إلى المغرب ، ولا نصرانيا يصلي إلى المشرق ، لكن كان حنيفا مسلما على دين محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

أقول : المراد من قوله (عليه‌السلام) : لا يصلي إلى المغرب .. ولا يصلي إلى المشرق. هو لزومه حد الوسط وعدم الانحراف عنه ويلزم ذلك انحراف الطائفتين عن الحق.

وأما قوله (عليه‌السلام) : كان ابراهيم على دين محمد. أي ما يتخذه محمدا (صلى‌الله‌عليه‌وآله) دينا لأمته ، وهو عبارة أخرى عن الدين الذي أوحاه الله تعالى إلى ابراهيم ، وأمر تعالى محمدا أن يتبعه ، فيصح أن يقال أن ابراهيم على دين محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حيث انه شارح لملة ابراهيم ، كما يصح أن يقال : أن محمدا على دين ابراهيم ، أي أن اصول دين محمد متخذة من ملة ابراهيم.

وفي الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) : «خالصا مخلصا ليس فيه شيء من عبادة الأوثان».

أقول : هذا هو معنى الوسط الذي قلناه وانه لم يكن منحرفا عنه ولو بشيء يسير ، وأن دين غيره لا يخلو عن الشرك. وفي المحاسن عن عبد الله بن سليمان الصيرفي في قوله تعالى : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ

٥٤

لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) ـ الآية ـ قال : «سمعت أبا جعفر (عليه‌السلام) يقول : أنتم والله على دين ابراهيم ومنهاجه ، وأنتم أولى الناس به».

أقول : وردت في مضمون ذلك عدة روايات. والمراد بكونهم على دين ابراهيم لأنهم يبينون حقيقة دين ابراهيم علما وعملا ، فلا محالة يكون أولى الناس به من يكون تابعا لمن يشرح ملة ابراهيم قولا وعملا.

وفي الكافي وتفسير العياشي عن الصادق (عليه‌السلام) : «هم الأئمة ومن اتبعهم».

أقول : تقدم ما يتعلق بذلك.

وفي المجمع في قوله تعالى أيضا : «قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) «أن أولى الناس بالأنبياء أعملهم بما جاءوا به ، ثم تلا هذه الآية. وقال : إن وليّ محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته ، وإن عدو محمد من عصى الله وإن قربت لحمته». وروى الزمخشري في ربيع الأبرار عن علي (عليه‌السلام) قريبا منه.

أقول : الروايات بهذا المضمون كثيرة جدا ، وهي موافقة للقواعد العقلية التي تحكم بأن المتابعة إنما تتحقق في العمل بما يبينه المتبوع لا بمجرد القول فقط ، وهذا الحديث يكون شارحا لجملة من الأخبار الواردة في المقام.

٥٥

بحث تاريخي

روى أهل السير والتواريخ حديث هجرة أصحاب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلى الحبشة وما لقوه من المتاعب والمصائب وما جرى بينهم وبين النجاشي ، وهذه الهجرة كانت أول احتكاك بين المسلمين وبين غيرهم ، وقد أظهرت ثبات المسلمين ، وسمو أخلاقهم ، وعلو حجتهم ، وستبقى هذه الهجرة الميمونة رمزا للفداء والتضحية ، ولا بد للمسلمين أن يجعلوا هذه الهجرة محط انظارهم ويستفيدوا منها في تنظيم مجتمعهم والاحتكاك مع غيرهم ، ونحن ننقل هذه القصة لما تتضمن من الفوائد الجليلة ولتكون نورا يهتدي به المسلمون في جهادهم وكفاحهم وبلائهم.

وليست هي من سبب النزول في هذه الآيات المباركة المتقدمة وإن ذكرها المفسرون في المقام.

فقد روى الواقدي في أسباب النزول ، والخازن في تفسيره وغيرهما عن الكلبي عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، ورواه محمد بن إسحاق عن ابن شهاب ، قال : لما هاجر جعفر بن أبى طالب وأناس من اصحاب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلى أرض الحبشة واستقرت بهم الدار وهاجر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلى المدينة ، وكان من أمر بدر ما كان اجتمعت قريش في دار الندوة ، وقالوا : إن لنا في الذين عند النجاشي من اصحاب محمد ثأرا ممن قتل منكم ببدر فأجمعوا مالا وأهدوه إلى النجاشي لعله يدفع إليكم من عنده من قومكم ، ولينتدب

٥٦

اليه رجلان من ذوي رأيكم. فبعثوا عمرو بن العاص ، وعمارة بن أبى معيط ومعهم الهدايا : الإدم وغيره فركبا البحر حتى أتيا الحبشة فلما دخلا على النجاشي سجدا له وسلّما عليه ، وقالا له : إن قومنا لك ناصحون شاكرون ، ولأصحابك محبّون ، وأنهم بعثونا إليك لنحذر هؤلاء الذين قدموا عليك لأنهم قوم رجل كذاب ، خرج يزعم أنه رسول الله ، ولم يتابعه أحد منّا إلا السفهاء ، وإنا كنا قد ضيّقنا عليهم الأمر ، والجأناهم إلى شعب بأرضنا لا يدخل عليهم أحد فقتلهم الجوع والعطش ، فلما اشتدّ عليه الأمر بعث إليك ابن عمه ليفسد عليك دينك وملكك ورعيتك فاحذرهم وادفعهم إلينا لنكفيكم ، قال : وآية ذلك أنهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك ، ولا يحيونك بالتحية التي يحييك بها الناس رغبة عن دينك وسنتك.

قال : فدعاهم النجاشي فلما حضروا صاح جعفر بالباب : يستأذن عليك حزب الله تعالى ، فقال النجاشي : مروا هذا الصائح فليعد كلامه ، ففعل جعفر ، فقال النجاشي : نعم فليدخلوا بأمان الله وذمته فنظر عمرو إلى صاحبه ، فقال : ألا تسمع كيف يرطنون بحزب الله وما أجابهم به الملك؟ فاسائهما ذلك.

ثم دخلوا عليه فلم يسجدوا له ، فقال عمرو بن العاص : ألا ترى أنهم يستكبرون أن يسجدوا لك؟ فقال لهم النجاشي : ما منعكم أن تسجدوا لي وتحيوني بالتحية التي يحييني بها من أتاني من الآفاق؟ قالوا : نسجد لله الذي خلقك وملّكك ، وانما كانت تلك التحية لنا ونحن نعبد الأوثان ، فبعث الله فينا نبيا صادقا ، فأمرنا بالتحية التي رضيها الله وهي السلام ، تحية أهل الجنة ، فعرف النجاشي أن ذلك حق ، وأنه في التوراة والإنجيل ، قال : أيكم الهاتف : يستأذن

٥٧

عليك حزب الله؟ قال جعفر : أنا ، قال : انك ملك من ملوك الأرض من أهل الكتاب ، ولا يصلح عندك كثرة الكلام ، ولا الظلم ، وإنما أجيب عن أصحابي ، فمر هذين الرجلين فليتكلم أحدهما ، ولينصت الآخر فتسمع محاورتنا ، فقال عمر ولجعفر : تكلّم.

فقال جعفر للنجاشي : سل هذين الرجلين ، أعبيد نحن أم احرار فان كنا عبيدا قد أبقنا من اربابنا فردنا عليهم. فقال النجاشي : أعبيد هم أم أحرار؟ فقال : بل أحرار كرام ، فقال النجاشي : نجوا من العبودية ، فقال جعفر : سلهما ، هل أرقنا دما بغير حق فيقتص منا فقال عمرو : لا ولا قطرة ، قال جعفر : سلهما هل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤها؟ قال النجاشي : إن كان قنطارا فعلي قضاؤها ، فقال عمرو : لا ولا قيراط ، فقال النجاشي : فما تطلبون منهم؟ قال : كنا وإياهم على دين واحد ، على دين آبائنا فتركوا ذلك ، واتبعوا غيره ، فبعثنا قومنا لتدفعهم إلينا. فقال النجاشي : ما هذا الذي كنتم عليه ، والدين الذي اتبعوه؟ فقال جعفر : أما الدين الذي كنا عليه فهو دين الشيطان كنا نكفر بالله ونعبد الحجارة ، وأما الذي تحولنا اليه فهو دين الله الإسلام جاءنا به من عند الله رسول بكتاب مثل كتاب ابن مريم موافقا له ، فقال النجاشي : يا جعفر تكلمت بأمر عظيم.

ثم أمر النجاشي بضرب الناقوس فضرب ، واجتمع اليه كل قسيس وراهب ، فلما اجتمعوا عنده ، قال النجاشي : أنشدكم بالله الذي انزل الإنجيل على عيسى هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيا مرسلا؟ قالوا : اللهم نعم قد بشرنا. فقال : من آمن به فقد آمن بي ، ومن كفر به فقد كفر بي ، فقال النجاشي لجعفر : ماذا يقول

٥٨

لكم هذا الرجل؟ وما يأمركم به؟ وما ينهاكم عنه : فقال يقرأ علينا كتاب الله ويأمرنا بالمعروف ، وينهانا عن المنكر ، ويأمرنا بحسن الجوار ، وصلة الرحم ، وبر اليتيم ، يأمرنا أن نعبد الله وحده لا شريك له فقال له : اقرأ علىّ مما يقرأ عليكم ، فقرأ عليه سورة العنكبوت ، والروم ، ففاضت عينا النجاشي وأصحابه من الدمع ، وقالوا : زدنا من هذا الحديث الطيب فقرأ عليهم سورة الكهف ، فأراد عمرو أن يغضب النجاشي فقال : إنهم يشتمون عيسى وأمه ، فقال النجاشي فما تقولون في عيسى وأمه؟ فقرأ عليهم سورة مريم ، فلما أتى على ذكر مريم وعيسى رفع النجاشي من سواكه قدر ما يقذي العين ، وقال : والله ما زاد المسيح على ما تقولون هذا.

ثم اقبل على جعفر وأصحابه فقال : اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي ، يقول : آمنون من سبكم وآذاكم غرم. ثم قال : ابشروا ، ولا تخافوا فلا دهورة اليوم على حزب إبراهيم. فقال : عمرو : يا نجاشي ومن حزب ابراهيم؟ قال. هؤلاء الرهط ، وصاحبهم الذي جاءوا من عنده ، ومن اتبعهم ، فأنكر ذلك المشركون وادعوا دين ابراهيم.

ثم رد النجاشي على عمرو وصاحبه المال الذي حملوه ، وقال : إنما هديتكم إلى رشوة فاقبضوها ، فان الله ملكني ولم يأخذ مني رشوة قال جعفر : فانصرفنا فكنا في خير جوار ، وأنزل الله عزوجل في ذلك على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في خصومتهم في ابراهيم وهو في المدينة : إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين.

هذا هو حديث الهجرة الذي رواه الفريقان بطرق مختلفة ، ولا بد من التأمل فيه والاستفادة منه في تكوين المجتمع الاسلامي ،

٥٩

وفيه الدروس القيمة في كفاح المسلمين وبلائهم.

(وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤))

بعد أن دعا عزوجل أهل الكتاب إلى الإسلام الذي كان عليه إبراهيم وسائر الأنبياء العظام ، وسجل عليهم افتراؤهم على ابراهيم بانه يهودي أو نصراني ، ورد عليهم حججهم في ذلك ، يبين سبحانه في هذه الآيات حالهم بالنسبة إلى الحق والمؤمنين به من الكذب والافتراء

٦٠