مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥٨

بحث دلالي

تدل الآيات الشريفة على امور :

الاول يدل قوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) على قواعد عقلية نظامية اجتماعية منها قاعدة «امتناع اجتماع المتنافيين» فان الكفر بآيات الله مع دعوى الايمان يكون من المتنافيين الذي هو ممتنع بفطرة العقول وبرهنت عليها العقلاء ولذا كان الخطاب ب (كيف) الدال على التعجب.

ومنها ثبوت الاختيار للإنسان الذي هو من مهمات مباحث الفلسفة والكلام.

ومنها : تفكيك المقتضى (بالفتح) عن فعلية المقتضي (بالكسر) من كل جهة وهي مما يستنكره العقل ، فان تلاوة آيات الله تعالى ووجود الرسول الأعظم فيهم مقتضيان للتخلق بأخلاقه ، والامتثال لأوامره والانتهاء عن نواهيه فهم منكرون هذه القاعدة التي دلت عليها الادلة العقلية والنقلية.

الثاني : ذكر سبحانه وتعالى في المقام : (مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً) وفي سورة الأعراف ـ ٨٦ : (مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً) وانما حذف «به» والواو في المقام لان حذف (به) موافق لقوله تعالى (وَمَنْ كَفَرَ) فقد حذف (به) فيه أيضا. كما ان حذف الواو انما هو لأجل ان قوله تعالى (تَبْغُونَها) جملة حالية والواو لا تزاد مع الفعل إذا وقع حالا مثل قوله تعالى : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) المدثر ـ ٦

٢٠١

واما في سورة الأعراف عطف على الحال هي قوله تعالى : (تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ) وكذلك «لا تبغونها عوجا».

الثالث : ذكرنا ان قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) يدل على قاعدة اجتماعية لا ينفك عنها اي اجتماع إنساني وهي تبادل الأفكار والعادات والتقاليد بين المجتمعات والقرآن الكريم يحذر المسلمين من ذلك ويبين ان كل طائفة إذا أطاعت طائفة اخرى وأخذت بافكارها وثقافتها لا بد ان تتأثر بها فان كانت الأفكار فاسدة ومنحرفة فهي تؤثر في المؤمنين وتذهب فضائل افكارهم وتفسد عليهم ثقافتهم وتحرّمهم من سعادتهم وتوجب ضلالهم وذلهم وعبوديتهم وقد أوجز سبحانه جميع ذلك في قوله تعالى : (يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) الذي فيه قبح عظيم واثار سيئة. وقد لطف تعالى بالمؤمنين حيث خاطبهم بقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وبين عزوجل اثره الكبير بأسلوب رائع.

الرابع : انما عبر سبحانه وتعالى بالتلاوة في قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ) لان التلاوة هي البيان بقصد التفهيم والتفهم فلا يكتفي بمجرد وجود القرآن الكريم فقط دون تلاوته والعمل به.

واما ذكر الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مجردا عن كل شيء فلأنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بنفسه وحركاته وسكناته وأقواله وأفعاله حجة لله على خلقه ومعلم عظيم للكمالات الانسانية وشارح للآيات الشريفة ومفسر لها ومبين القرآن الكريم قولا وعملا وهو الصراط المستقيم الذي عقب الله تعالى به ذلك. ويمكن أن يستفاد من الآية الشريفة اشتداد العقوبة على المخالفة عند تمامية الحجة.

الخامس : انما وصف سبحانه الصراط بالمستقيم لبيان انه لا يختلف ولا يغيره إضلال المعاندين وإفساد المفسدين ، كما انه يحفظ سالكيه

٢٠٢

عن الوقوع في الضلال.

بحث روائي

في الخصال عن الحسين الأشعر : «قلت لهشام بن الحكم ما معنى قولكم : إن الامام لا يكون إلا معصوما؟ فقال سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن ذلك فقال : «المعصوم هو الممتنع بالله من جميع محارم الله وقد قال الله تبارك وتعالى : (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

أقول : المراد من قوله (عليه‌السلام) : الممتنع بالله اي الممتنع بالاعتصام في جميع أموره وشؤونه فيحصل له توفيق ترك محارم الله بالاختيار ، فقد جمع الطاعة وترك المحارم وهذا هو معنى العصمة.

وفي اسباب النزول للواحدي عن عكرمة في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) قال : «كان بين هذين الحيين من الأوس والخزرج قتال من الجاهلية فلما جاء الإسلام اصطلحوا وألف الله بين قلوبهم وجلس يهودي في مجلس فيه نفر من الأوس والخزرج فأنشد شعرا قاله احد الحيين في حربهم ، فكأنهم دخلهم من ذلك ، فقال الحي الآخر قد قال شاعرنا في يوم كذا : كذا وكذا فقال الآخرون وقد قال شاعرنا في يوم كذا : كذا وكذا فقالوا تعالوا نرد الحرب جذعا كما كانت فنادى هؤلاء يا آل أوس ونادى هؤلاء يا آل خزرج فاجتمعوا وأخذوا السلاح واصطفوا للقتال ، فنزلت هذه الآية فجاء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حتى قام بين الصفين فقرأها ورفع صوته

٢٠٣

فلما سمعوا صوته أنصتوا له وجعلوا يستمعون اليه فلما فرغ ألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضا وجثوا يبكون».

أقول : على فرض اعتبار الرواية انها تبين بعض مصاديق الآية الشريفة كما ذكرنا مرارا من ان مورد الآية ومصاديقها لا تكون مخصصة للآية النازلة.

٢٠٤

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨))

هذه الآيات من جلائل الآيات الكريمة التي وردت في تكميل النفوس الانسانية وتنظيم نظام الدنيا والآخرة بالنحو الأحسن الأكمل الذي

٢٠٥

يعترف به جميع العقول وتقبله الفطرة المستقيمة وهي مرتبطة بالآيات السابقة فانه تعالى بعد ما حذر المؤمنين من مكائد الكافرين وفتن أهل الكتاب واضلالهم أمرهم بالاعتصام بحبل الله جلت عظمته ليهديهم إلى الصراط المستقيم ويوفقهم للدين القويم ويحفظهم من المهالك.

ويبين سبحانه في هذه الآيات المباركة الصلة به تعالى تلك التي يحبها كل قلب مؤمن وهي التقوى لأنها من سبل الاعتصام بالله بل من أهمها فكل ما اقترب العبد من الله بتقواه اشتقاق إلى مقام ارفع مما بلغ إليها.

وقد دعا سبحانه وتعالى في هذه الآيات الشريفة أيضا إلى الاعتصام بحبل الله ، من الدعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهي كلها من سبل الاعتصام به.

ثم أمرهم بالاجتماع وعدم التفرق ونهاهم عن الاختلاف ووعدهم الحسنى والخير إن هم قاموا بالوظيفة التي أمرهم بها.

فهذه الآيات المباركة تعتبر تتمة الآيات السابقة فان السياق في الطائفتين واحد.

التفسير

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ).

تقدم ما يتعلق بهذا الخطاب في أول سورة البقرة وغيره من الآيات الشريفة ، وفي تكراره لا يخفى من اللطف بالمؤمنين والتشريف لهم لا سيما بعد خطاب (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) الآية ـ ١٠٠.

٢٠٦

والتقوى كما تقدم مكررا هي الطاعة لله تعالى والاحتراز عن الوقوع في ما يوجب سخطه وعذابه ويلزم ذلك الشكر لنعمه ، وانما أمرهم بالتقوى لأنها جوهرة الكمالات الانسانية ومفتاح السعادة وأساس مكارم الأخلاق وبها يفوز العبد بالقرب إلى الله تعالى والبعد عن النار وهي تحفظ ايمان المؤمن وتزيده قوة وثباتا.

هذا ولكن التقوى على نحوين تقوى ظاهرية خالية عن الخلوص والإخلاص وباطنية حقيقة مشتملة عليهما وهي التي لا يشوبها باطل ولا فساد وهي ذكر المنعم بلا نسيان وطاعته بلا عصيان وبالجملة فهي العبودية المحضة التي لا كمال بعدها وهذا النحو من التقوى هو حق في نفسه وحق لله تعالى وهي التي تليق بساحته تبارك وتعالى دون غيرها.

وقد ورد مثل هذا التعبير في ستة مواضع من القرآن الكريم قال تعالى : (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) البقرة ـ ١١٥ وقال تعالى : (جاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) الحج ـ ٧٧ وقال تعالى : (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) الحديد ـ ٢٧ وقال تعالى : (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) الانعام ـ ٩١ ومثله في سورة الحج ـ ٧٣ وسورة الزمر ـ ٦٧ والمستفاد من هذا التعبير هو الأمر بالحقيقة الخالصة من شوائب الأوهام ، وتدل تلك الجملات على كمال الأهمية بالمورد حتى انه تعالى نفى الحقية عن غيره كما هو المستفاد من النفي والإثبات وعرفان الحق لا يحتاج إلى البيان. فانه نفس واقع الشيء على ما هو عليه في ذاته.

ويحتمل ان يكون المراد في قوله تعالى : (حَقَّ تُقاتِهِ) آخر مراتب التقوى وأعلا درجاتها التي من صفات الأنبياء والأولياء وهي حقيقة التقوى التي أوحاها عزوجل إلى أنبيائه وبشرت بها رسله وغيرها خارج عن تلك الحقيقة وليست شيئا زائدا عليها. نعم الاشتداد والتضعف

٢٠٧

الجاريان في كل مقولة يجريان في هذه الحقيقة أيضا ولكن الآية المباركة ليست ناظرة إلى هذه الجهة ، كما انها ليست منسوخة ولا ناسخة ، فيكون تعميم الخطاب في صدر الآية لجميع المؤمنين تشريفا لهم شيئا وطلب حق التقوى شيئا آخر وطلب الموت على الإسلام في ذيل الآية الشريفة شيئا ثالثا ، فيصير صدر الآية وذيلها شاهدين على ان ليس المراد بالتقوى هنا خصوص تقوى الأنبياء والأولياء فقط بل هي عامة تشمل الآية جميع المراتب كل على حسب ما يقدر عليه.

ويحتمل التنزيل على مراتب القدرة والاستطاعة بل هي ظاهر الآية الشريفة ، فالصحيح يصلي قائما مثلا والمريض جالسا وهكذا كل على قدر استطاعته وعلى هذا فيكون قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) التغابن ـ ١٧ شارحا لهذه الآية الشريفة.

ومحصل معنى الآيتين ان مراتب التقوى ، كمراتب اصل التكليف كما ان الأخير لا يتعلق إلا بالمستطاع وينحل الى مراتب كثيرة وكذلك التقوى فكل مؤمن لا بد ان يحظى بالتقوى على قدر استطاعته وطاعته.

كما انه يحتمل ان يكون المراد من قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) التغابن ـ ١٧ الترغيب إلى إتيان المندوبات والتنزه عن إتيان المكروهات لان الأولى من شؤون الواجبات والثانية من شؤون المحرمات وكل ذلك من حمى الله تعالى كما في بعض الروايات. وعليه فلا ربط لها لهذه الآية الشريفة.

قوله تعالى : (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

تحريض على مداومة التقوى بعد الأمر بتحصيل حقيقتها والخلوص فيها ، فيكون المراد من الإسلام في الآية هو الإسلام الحقيقي الاستمراري

٢٠٨

حتى الانتقال إلى النشأة الاخرى ووقوع الموت الذي هو امر غيبي في حال الإسلام والتسليم.

وعلى هذا لا وجه للتفصيل بكون الطلب في الآية الشريفة متعلقا بأمر تكويني أو بجامع من الأمر التكويني واختياري ، فان ظاهر الآية هو الأمر بتحصيل المداومة على التقوى حتى الموت وتقدم بعض الكلام في آية ١٨٩ من سورة البقرة.

والمراد بالإسلام هو الطاعة لله تعالى وعدم المحادة له بالمعصية ، وهذه هي التقوى التي أمرنا الله تعالى بها سابقا. وذكر بعض المفسرين ان المراد بالإسلام هو الايمان القلبي ، لان الأعمال حال الموت مما لا تكاد ان تتأتى. وفيه من التكلف ما لا يخفى ، فما ذكرناه اظهر من الآية الشريفة وانسب إلى الأمر بالتقوى كما عرفت ، وكيف كان ففي الآية المباركة التأكيد على ترك طاعة اهل الكتاب.

قوله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا).

الاعتصام هو التمسك والالتجاء وتقدم اشتقاق الكلمة في الآية السابقة.

والحبل معروف ، ويستعمل في سبب منيع يوصل إلى البغية والحاجة وفي الدعاء «يا ذا الحبل الشديد» والمراد به القرآن أو الدين أو السبب كما ورد في صفة القرآن «كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض» اي نور هداه يكون كذلك ، وفي حديث آخر : «وهو حبل الله المتين». وقيل المراد عهده وامانه الذي يؤمن من العذاب وقيل المراد منه العهد والميثاق وقيل غير ذلك وجميعها من باب التفسير بالمصداق.

والمراد به في المقام ما جعله الله تعالى سببا عاصما من الوقوع في

٢٠٩

الضلالة والمهالك ، والمعروف ان في الكلام استعارة تمثيلية بأن شبه التمسك بما جعله الله عاصما من الوقوع في المهالك بالتمسك بالحبل المتدلي من مكان رفيع وثيق مأمون الانقطاع الذي يمنع المتمسك به من السقوط والهلكة.

وجميعا حال من فاعل اعتصموا أي : مجتمعين ، فيكون قوله تعالى : (وَلا تَفَرَّقُوا) تأكيدا والنهي عن التفرق باتباع السبل المختلفة فيوجب البعد عن سبيل الله تعالى كما قال عزوجل : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) الانعام ـ ١٥٢.

واختلف المفسرون في المراد بالحبل في هذه الآية الشريفة فقيل انه كتاب الله. وقيل انه الإسلام. وقيل انه الطاعة والجماعة. والحق ان يقال انه بعد ان بين عزوجل في الآية السابقة ان التمسك بآيات الله تعالى وبالرسول اعتصام بالله تعالى مضمون له الهدى ومأمون من الضلال والهلاك ، فان كل واحد منهما يكمل الآخر ويفسره. والرسول كتاب ناطق كما ان القرآن رسول صامت فيكون التمسك بالرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) تمسكا بالقرآن لا سيما بعد أمر القرآن بذلك قال تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الحشر ـ ٧ وقد أمرنا سبحانه وتعالى بالاعتصام بحبل الله في هذه الآية فتكون النتيجة ان حبل الله هو الكتاب والرسول. ولكن بما ان الحكم في الآية السابقة معلق على شخص الرسول الكريم باعتباره جامعا لجميع الكمالات وملتزما للطاعات ومعصوما من المعاصي والزلات شارحا للكتاب المبين ومفسرا لرموزه ودقائقه فمن يكون مثل الرسول من هذه الجهة يكون من مصاديق حبل الله ، ويدل على ذلك حديث الثقلين المتواتر بين الفريقين «إني مخلف فيكم الثقلين ما إن تمسكتم

٢١٠

بهما لن تضلوا كتاب الله وعترتي اهل بيتي» فان الكتاب والرسول وعترته كلها مشاعر هدايته عزوجل ومصاديق حبل الله ، وان حقيقة هذا الحبل هي الانسانية الكاملة التي هي في الحقيقة الصراط المستقيم ؛ وان الكتب السماوية والأنبياء والمرسلين تدعوا إلى الاهتداء إليها ، وهي حقيقة الجنة التي وعد الله عباده بها ، وهي التي توجب مخالفتها النار ، فلهذه الحقيقة صور كثيرة مختلفة في جميع العوالم والنشئات ، فتارة : يكون موسى بن عمران والتوراة واخرى : يكون عيسى بن مريم والإنجيل ، وثالثة : يكون حبيب الله محمد بن عبد الله والقرآن الكريم ورابعة : يكون عترته الطاهرة لأنهم شراح القرآن وامتداد لشخص الرسول الكريم كما عرفت ، وحينئذ يكون الأمر بالاعتصام بحبل الله امرا حقيقيا واقعيا تكوينيا وهو عبارة عن الاضافة بين العلة والمعلول أو المقتضى (بالكسر) مع المقتضى (بالفتح) أو بين الخالق والمخلوق فالخطاب من سنخ الخطابات التكوينية التي لا يختص بزمان دون زمان ولا بقوم دون آخرين. نعم أفضل مصاديقه الإنسان الكامل والإسلام لأنهما أفضل الممكنات.

ومن ذلك كله يعرف انه ليس المراد بالاعتصام القولي منه فقط أو الاعتقادي بل الاعتصام العملي والطاعة لله تعالى بكل ما شاء وأراد ومثل هذا الاعتصام تحكم بحسنه فطرة العقول ، لان اعتصام الفقير المطلق بالغني كذلك مما يحكم بلزومه الفطرة ، بل ان الممكن بذاته معتصم لمبداه لا سيما بعد ان اثبت المحققون من الفلاسفة ان مناط الحاجة هو الإمكان لا الحدوث ، ولا بد وان يظهر الإنسان هذا الاعتصام الذاتي في الاعتقاد والقول والعمل بان يطابق ما يصدر عنه لما هو المحبوب لدى المعتصم به.

٢١١

وانما امر سبحانه وتعالى بالاعتصام بحبل الله على نحو الجمع في قوله (وَاعْتَصِمُوا) ثم أكده بقوله تعالى : (جَمِيعاً) وثالثة بقوله (وَلا تَفَرَّقُوا) لان اختلاف الامة أحزابا أو اشياعا أضر شيء بالنظام ، ويستفاد منه ان هذا الحكم لا يتحقق حدوثا وبقاءا إلا على نحو الجمع والاجتماع ، فالاعتصام الفردي من دون الجماعة لا يثبت المطلوب والغرض من هذا الحكم ، فيكون عدم الاجتماع على هذا الحكم من موجبات التفرق والاختلاف والوقوع في المهالك ، فالآية السابقة تتعرض لحكم الفرد من حيث التقوى والموت على الإسلام وهذه الآية لحكم الجماعة.

قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ).

دعوى إلى تذكر نعم الله تعالى التي فيها الموعظة والعبرة وفيها الحث على الاجتماع إلى الاعتصام بحبل الله تعالى المؤدي إلى التآلف وزوال الاضغان والنفرة بين افراد المجتمع.

وفي الآية الشريفة دعوة إلى تعلم العلل والأسباب التي تؤدي إلى خير الإنسان وسعادته وتهديه إلى الحق والتوفيق إلى الايمان الصحيح ونبذ التقليد الأعمى الذي لا يجنى منه الخير وهذا هو الأصل القويم الذي اعتمد عليه القرآن الكريم في تعليم الإنسان وهديه إلى سعادته فانه يأمره بالعلم النافع والعمل الصالح ليمكنه معرفة الحقائق وارتباط بعضها مع البعض ثم كيفية ارتباطها مع مسبب الأسباب والمبدأ الفياض ورجوعها إلى الله تعالى والأمر بالاعتصام بحبله والتسليم لأمره ، فان في ذلك السعادة الحقيقية وفي غيره الجهل والبعد عن الحقيقة وقد نهى عزوجل عن التقليد الأعمى الذي يسلب الارادة عن الإنسان وينفى

٢١٢

عنه التفكر الصحيح ، ويشوه الحقائق. وقد اقام سبحانه ادلة ثلاثة على ما حث عليه من التذكر وندب اليه من التفكر اثنتان منها تشهد عليهما التجربة والثالث مبني على البرهان القطعي.

قوله تعالى : (إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ).

هذا هو الدليل الاول وهو تذكر العداوة التي كانت سائدة في المجتمع الجاهلي الفاسد والبغضاء التي كانت قائمة بينهم وقد قاسوا مرارتها وكابدوا شدائدها وأهوالها فقد كانت الحروب والقتل والدمار والضغائن والأحقاد ملتهبة وبلغت ذروتها أبان الدعوة الاسلامية ، فألف عزوجل بين القلوب بالإسلام والرسول الكريم الأمين فزالت تلك الأحقاد وحل الصلح والوئام وقد تألفت قلوبهم وهو اكبر دليل على حقيقة الايمان بالله والاعتصام بحبله وتذكر نعمه فانه لو لا الإسلام لما ذاق الاجتماع حلاوة المحبة والاخوة ولما زالت مرارة العداوة والفرقة.

قوله تعالى : (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً).

هذا هو الدليل الثاني والاخوان جمع الأخ. وقيل ان اكثر ما يجمع أخو الصداقة على الاخوان ، والأخ في النسب على الاخوة وقد ورد في أخ الصداقة قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) الحجرات ـ ١٠ وفي النسب قوله تعالى : (أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ) النور ـ ٣١ وقوله تعالى : (أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ) النور ـ ٦١.

والمراد بها وقوع التآلف في القلوب كعادة الاخوة الاشقاء في كونهم يدا واحدة بقلوب مؤتلفة. وفي تكرار هذه المنة التنبيه على ما ذكرناه والحث على التمسك بحبل الله والاعتصام به وتذكر نعمه التي توصلكم إلى السعادة وتهديكم إلى الرشاد فان في الاخوة التي منّها الله تعالى

٢١٣

عليهم الاجتماع والتآلف.

قوله تعالى : (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها).

عطف على (كُنْتُمْ أَعْداءً) وهذا هو الدليل الثالث المبني على البرهان. وشفا حفرة اي طرف الحفرة وحافتها ، فان شفا كل شيء جرفه وحافته. ومنه حديث علي (عليه‌السلام) : «نازل بشفى جرف هار» أي جانبه وفي المأثور : «لا تنظروا إلى صلاة احد ولا إلى صيامه ولكن انظروا إلى ورعه إذا شفى» أي اشرف على الدنيا وأقبلت عليه ويقال : «أشفى على الهلاك» أي ورد على شفاه وقيل ان كلمة «شفى» لا تستعمل إلا في الشر.

وقد تستعمل في القليل أيضا يقال «ما بقي منه إلا شفا» أي قليل ويثنى على شفوين والجمع اشفاء ويضاف إلى الأعلى وإلى الأسفل. وكنتم على شفا حفرة أي مشرفين على السقوط فيها.

والمراد من النار هي التي اوقدوها بأعمالهم ومعتقداتهم التي كانت سببا للنار الحقيقية وهي نار جهنم ونار الدنيا التي هي الحروب والمنازعات فإنها استعملت فيها كثيرا في المحاورات الصحيحة كقوله تعالى : (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) المائدة ـ ٦٤.

وكيف كان فالآية الشريفة تبين حالهم في المجتمع الجاهلي الفاسد المبني على الضغائن والحروب والمنازعات والتنافر والافتراق كما تبين مآلهم الذي يصلون اليه وهو الدخول في النار في الآخرة وسلب الطمأنينة والأمن فقد جلبت لهم الشقاوة والعناء والزوال في الدنيا. وقد انقذهم الله تعالى من مآلهم الفاسد بالإسلام الذي جلب لهم الطمأنينة والأمن والرفاه والعيش الهنيء والسعادة وقد شاهدوا بدخولهم في الإسلام

٢١٤

ما لم يتخيلوه في الحسبان فلذلك كان هذا البرهان أوقع في النفوس من غيره لأنه كان به خلاصهم من العذاب في الآخرة والشقاء والحرمان في الدنيا وهذا الدليل حاصل مضمون الدليلين المتقدمين المشتملين على الحس والوجدان دون محض التقدير ومجرد الحسبان.

قوله تعالى : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).

أي يبينها برهانا ووجدانا ومشاهدة لأجل اهتدائكم إلى حقيقة الايمان والاعتصام بحبل الله المبين وتدخلون في الصراط المستقيم وتتذكرون نعمه التي أنعمها الله تعالى على المسلمين.

قوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ).

أمر سبحانه وتعالى بتكميل الغير بعد ما أمرهم بتكميل أنفسهم حيث ان الاعتصام بحبل الله تعالى المادة المهيأة لتوارد الصور الكمالية عليها. ومن المعلوم ان المادة لا فعلية لها الا بالصورة كما هو ثابت في الفلسفة الإلهية ، فلا بد من السعي في تحصيل تلك الصورة وهي الدعوة إلى الخير سواء كان من النبي أو الوصي أو من يقوم مقامهما في هذا الشأن.

وانما تكون الدعوة إلى الخير بمنزلة الصورة الفعلية للاعتصام بالله تعالى ، والدعوة إلى الخير هي من أهم الأسباب التي تكون دخيلة في رقي الامة وتقدمها في كل المجالات ، فهي تحفظ العلم عن الضياع والعمل عن الفساد. والمجتمع عن الانهيار في مهلكة الشرور ، فهي جامعة السعادة ومانعة الشقاوة ، وان القوانين المجعولة خالقية كانت أم خلقية انما يترتب الأثر عليها من حيث البقاء ومداومة العمل بها لا بمجرد حدوثها فقط ، وان البقاء يتقوم بأمرين :

٢١٥

الأول : العمل بها بشرائطها المقررة.

الثاني : الترغيب إلى فعلها والترهيب عن تركها ، وبعبارة اخرى ان القوة المجرية لها في مقام حفظ القانون هي الدعوة. ويعبر عنها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولذا كانت لهما المنزلة العظيمة في الشرائع السماوية ، بل في القوانين المجعولة ، ولولاهما لاختل النظام وتعطّلت الاحكام ، ولأنبياء الله العظام وأوصيائهم الكرام الزعامة الكبرى في التصدي لهذين التكليفين العظيمين.

والمراد من الخير كل ما له دخل في الاعتصام بحبل الله سواء كان من المعارف الحقة او الأعمال الصالحة أو مكارم الأخلاق ، وما ذكره عزوجل في المقام ترغيبا إلى الخير الذي تدعو اليه فطرة العقول ويحبه كل انسان ولا يمكن ان يجهله احد ، ولبيان ان المجتمع الذي يكون الخير هو مطلبهم ومنهاجهم وعملهم هو المجتمع السعيد والأمة الراقية.

وقد اختلف المفسرون في معنى الخير في المقام فقيل انه الإسلام وقيل انه اتباع القرآن وسنة الرسول ، وقيل غير ذلك. والحق ان ما ذكروه من مصاديق مطلق الخير ، والصحيح ما ذكرناه فان جميع ذلك دواع إلى الاعتصام بحبل الله تعالى.

والامة : الجماعة التي تؤم امرا معينا ، وقد أطلقت في القرآن الكريم كثيرا على اتباع الأنبياء لأنهم اجتمعوا على قصد واحد وهو اتباع الحق وراء قدوة شخص معين ، وتطلق أيضا على الدين والملة قال تعالى : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) الزخرف ـ ٢٢ وعلى السنين قال تعالى ، (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) يوسف ـ ٤٥ والجميع يرجع إلى معنى واحد ، وقد تقدم في قوله تعالى : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً) البقرة ـ ١٢٨ وكذا في قوله تعالى : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) البقرة ـ ١٤١

٢١٦

بعض الكلام في اشتقاق هذه الكلمة.

والدعاء إلى الخير هو الدعاء إلى كل ما فيه صلاح الأمة دينا ودنيا وآخرة كما عرفت. وفي الحديث : «سأخبركم بأول امري : دعوة أبي ابراهيم وبشارة عيسى» دعوة ابراهيم (عليه‌السلام) هي قوله تعالى : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ) البقرة ـ ١٢٩ وبشارة عيسى هي قوله تعالى : (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) الصف ـ ٦.

والمعروف : كل ما هو خير وحسن عقلا ولم ينه عنه شرعا فهو اسم جامع يشمل طاعة الله جل جلاله والتقرب اليه والإحسان إلى الناس ، وفي الحديث : «اهل المعروف في الدنيا هم اهل المعروف في الآخرة» يعني من بذل معروفه في الدنيا واحسن العشرة مع الناس آتاه الله جزاء معروفه في الآخرة وروي عن ابن عباس في معنى الحديث : «يأتي اصحاب المعروف في الدنيا يوم القيامة فيغفر لهم بمعروفهم وتبقى حسناتهم جامة (جامدة) فيعطونها لمن زادت سيئاته على حسناته فيغفر له ويدخل الجنة فيجتمع لهم الإحسان إلى الناس في الدنيا والآخرة».

والمنكر : هو ما أنكره العقل والشرع فيكون ضد المعروف.

وعطف الأمر بالمعروف على دعوة الخير يكون عطفا تفسيرا لبيان ان دعوة الخير هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولمعلومية الخير ومحبوبيته لدى الجميع فلا بد ان يكون المعروف والمنكر معلومين عند الداعي إلى الخير ، وللاعلام بأن المجتمع الذي بلغ من الكمال بالاعتصام بحبل الله تعالى صار المعروف عندهم هو الخير والمنكر هو الشر ، كما انه يمكن ان يكون أيضا لأجل ان المعروف والمنكر عند

٢١٧

الشرع هو الخير والشر المعروفان عند العقل وتدعو إليهما الفطرة.

وقيل ان عطف الأمر بالمعرف وو النهي عن المنكر على دعوة الخير هو من عطف الخاص على العام فيكون من قبيل عطف أفضل الإفراد على الكلي. ولا ينافي ذلك ما ذكرناه.

وكيف كان فالآية الشريفة تدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا شك في ذلك.

وانما البحث والخلاف في كونه كفائيا أو عينيا والظاهر انه يرجع إلى دلالة «من» فقيل انها للتبعيض ، فيكون الوجوب كفائيا.

وقيل انها بيانية. والمعنى : كونوا امة كذلك فيكون الوجوب عينيا وسياق الآية الشريفة يدل على الاول ، ويرجحه ان الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر انما تكون واجبة لأجل البعث على الطاعات والزجر عن القبائح والمعاصي ولا معنى لوجوبهما بعد حصول الغرض من البعض ، فالخطاب وان كان متعلقا بالجميع لكن الغرض يحصل من أي فرد كان ، وبما ان المقام يحتاج إلى التعاضد والتعاون حتى يكون له التأثير القوي في حصول الغرض وليسا كغيرهما من الواجبات كان الأمر متعلقا بالجميع ، وبعد ذلك فلا وقع للنزاع في كون «من» تبعيضية أو بيانية فان الأمر متعلق بالجميع بقدر ما يتعلق بالإفراد والبعض ، فان هذا التكليف لطف الهي يتعلق بالجميع ولا بد من التعاضد والتعاون ولا يمكن ترك القائم به لوحده والاعراض عنه وقد ذكرنا في الأصول انه لا فرق بين الوجوب الكفائي والوجوب العيني بحسب ذات الوجوب وانما الفرق بينهما باعتبار سقوط التكليف عن الكل بعد قيام البعض به في الاول دون الثاني وهذا يكون من باب تعدد الدال والمدلول لا باعتبار حقيقة الوجوب ولذا اشتهر بين الفقهاء ان في ترك الجميع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعاقب

٢١٨

الكل لا البعض فراجع ما ذكرناه في (مهذب الاحكام) ويدل على ما ذكرناه ذيل الآية الشريفة الظاهر في الرجوع إلى الموصوفين بهذه الصفة.

قوله تعالى : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

جملة استينافية اي الداعون إلى المعروف والناهون عن المنكر هم الكاملون في الفلاح ، كما هو قضية الحصر.

ويستفاد من الآية الشريفة كمال الأهمية لهذا التكليف الالهي والمنصب الرفيع بل هما من مناصب الأنبياء والأوصياء والأولياء الصالحين وقد ورد في فضلهما روايات كثيرة يأتي في البحث الروائي نقل بعضها ، ولهما شروط وآداب كثيرة يستفاد بعضها من هذه الآية الشريفة والبقية من غيرها.

ويستفاد من مجموع الادلة الواردة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كتابا وسنة ان هذه الدعوة من صفات الباري جل جلاله كالحكم بين الناس بالعدل ، وقد فوّض الله تعالى ذلك إلى أنبيائه واوصيائه والقائمين مقامهم ، وهذه الدعوة ترجع إلى التخلق بأخلاق الله تعالى والتخلي عما لا يرضاه الله والتحلي بما يرضاه ، وتفاني الدنيا في عالم العقبى فيصير الكل باقيا ببقاء الله تعالى ولعل ما ورد في الحديث :

«الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلقان من خلق الله تعالى من احياهما أحياه الله تعالى» يرجع إلى ذلك فان الخلق انما يعتبر في مرتبة الفعل لا في مرتبة الذات ، والمراد بالاحياء الأعم من الأحياء الدنيوي والاخروي وسبب الأحياء معلوم لأنه اتصال فعلي بالحي القيوم.

٢١٩

قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ).

بعد ما أكد سبحانه الدعوة إلى الاتحاد والاعتصام بحبل الله تعالى والدعوة إلى الخير. بيّن سبحانه وتعالى في هذه الآية ما يترتب على الاعراض عن ذلك والاحجام عن ما أمرهم في سبيل الوحدة والاتحاد بين أفراد المجتمع ، فانه لا يمكن ان تختلف امة إذا اجتمعت على مقصد واحد وهدف معين واتفقت عقائدهم ، وكانت بعيدة عن الأهواء الباطلة وما يوجب الضلال ، وتحقق التعاون والتناصر بين افرادها ، وقويت أواصر الوحدة فيهم وبعدت عما يوجب الافتراق والاختلاف بينهم ، فهذه الآية كالدليل على لزوم متابعة ما ورد في الآيات السابقة.

والتفرق انما يكون في ما يجب فيه الاجتماع مما فيه الصلاح والإصلاح ويكون ابتداء في الأبدان والابتعاد عما يوجب اتحاد الإفراد. واما الاختلاف انما يكون في العقائد والآراء ويوجبه الافتراق في الكلمة ، فهو كالمقدمة التي توصل إلى الاختلاف في العقائد والآراء ، فان كل اختلاف في الرأي انما ينشأ عن التفرق في الكلمة وتباعد افراد المجتمع والاختلاف هذا انما يكون عن ضلال الأهواء والبغي ، ولذا نسب سبحانه وتعالى الاختلاف إلى البغي في عدة آيات منها قوله تعالى : «وما اختلفوا فيه إلا (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) البقرة ـ ٢١٣ ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى في المقام (مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) فان الاختلاف بعد مجيء الآيات للحق الموجبة للاتحاد والاجتماع انما يكون عن أعراض عنها فيكون عن بغي وضلال.

والمعنى : ولا تكونوا كالذين تفرقوا في الكلمة ولم يجتمعوا على

٢٢٠