موسوعة القرآن العظيم - ج ٢

دكتور عبد المنعم الحفني

موسوعة القرآن العظيم - ج ٢

المؤلف:

دكتور عبد المنعم الحفني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
ISBN: 977-208-422-2
الصفحات: ١٢٤٤
الجزء ١ الجزء ٢

(البقرة). والدليل على صدق رواية القرآن أنه يصادق على ما ورد فى التوراة عن إبراهيم ، حيث كان دأبه أن يقيم المذابح والأنصاب لله ، والآية تقول بالضبط ما كان يفعله فى كل ما كان يبنيه أو يقيمه بالحجارة ويرفع قواعده ، وفى هذه المرة لم يقم مذبحا ولا نصبا وإنما بنى بيتا حقيقيا بقواعد. وهذا البيت نفسه هو الذى كان يتمناه النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمسلمين ، لأنه فعلا بيت لله بكامل معنى البيت.

* * *

١٩٥١ ـ هوى اليهود أن يكون بيت المقدس قبلة المسلمين

قبلة بيت المقدس كانت إلى المشرق ، وقبلة الكعبة كانت إلى المشرق ، وفى مكة كانت قبلة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة ، وفى المدينة توجه إلى بيت المقدس لعل اليهود يؤيدون الإسلام ، فيمكن من بعد توجيههم إلى الكعبة ، ولكنهم عادوه وهزءوا من الإسلام ، فنزلت الآية : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (١٤٥) (البقرة) ، لأن أهل الكتاب ما آمنوا بأية آية أتى بها لإقناعهم ، وقوله : (ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) دليل على أن الكعبة كانت قبلته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن بدا أنه يتوجه إلى بيت المقدس ، فكما قلنا إن بيت المقدس والكعبة كلاهما يتوجه إلى المشرق ، فلا تدرى هل المصلى يصلى إلى الكعبة أم إلى بيت المقدس ، والفرق فى التوجه ضعيف. وقوله : (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) فيه نفى أنه كان يتبع قبلتهم على الحقيقة ، أو أنه منذ الآن لن يتبع قبلتهم. وقوله : (وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) دليل على أن إجماع اليهود لم يكن ينعقد على بيت المقدس قبلة ، ولكن قبلتهم كانت المشرق ، وكان يهود السامرة يجعلون قبلتهم إلى جبل جرزيم حيث اعتقادهم أن الهيكل بنى هناك ، وقوله : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) دليل على أن هوى اليهود كان أن يتخذ المسلمون بيت المقدس قبلة لهم ، ففي ذلك إقرار بتبعية الإسلام لليهودية ؛ والعلم : هو ما أعلمه به الله : أن تكون الكعبة هى قبلته. والحمد لله ربّ العالمين!

* * *

١٩٥٢ ـ الحقّ الذى يعرفه اليهود كأبنائهم

لم يفرض على اليهود فى كتبهم التوجه فى الصلاة إلى بيت المقدس ، فهذا شىء جديد لم يعرفوه إلا فى حكم داود وسليمان ، وكانوا قبل ذلك يصلون حيثما يوجّه تابوت العهد أو خيمة الشهادة ، أو أنهم كانوا يتوجهون فى صلاتهم ناحية المشرق كما فعل إبراهيم وإسحاق ويعقوب عند ما كانوا يقيمون الأنصاب لله ويصلون إليها ، وفى الآية : (وَلَئِنِ

٩٤١

اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (البقرة) ، إخبار بأنهم يعلمون ذلك ، وأن الحق ليس معهم فى مماراتهم للمسلمين حول تحويل القبلة عن بيت المقدس ، بنزول الأمر للمسلمين بالانصراف عن استقبال بيت المقدس إلى الكعبة ، فبيت المقدس كقبلة لم يكن فرضا على اليهود ، ولا على النصارى ، وإنما كان اليهود إذا صلوا يصلون فرادى أو جماعات إلى أى اتجاه ، وغالبا ناحية المشرق ، وإذا كانت هناك خيمة شهادة أو تابوت الشهادة استقبلوهما كما قلنا سابقا ، وصلاتهم دعاء ، إلا ما علّم المسيح النصارى فيما يسمونه الصلاة الربّانية والتى يبدءونها بالدعاء : «أبانا الذى فى السموات» ، فهذا هو ما يعلمه اليهود والنصارى أنه الحق من ربّهم : «أن التوجه لبيت المقدس ليس فرضا». فإذا كان الأمر كذلك ، فلما ذا ينتقدون المسلمين لمّا نزل عليهم تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة؟ وكانوا يعلمون أن الله لم يقرر بيت المقدس كقبلة للمسلمين ، وأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرره على المسلمين باجتهاده ولم يكن راضيا رغم ذلك ، وكان يرفع رأسه إلى الله يدعوه ويبتهل له أن يلزم المسلمين بقبلة تخصّهم ، وأن يأتى الأمر منه تعالى بذلك ، وهذا كله كان يعرفه أهل الكتاب ، ويعلمون أنه الحق من ربّهم ، لا انتحال فيه ولا اعتذار. وهذا الأمر من الله بالقبلة حدث لأول مرة فى تاريخ الديانات ، ولم تسبق إليه ديانة قبل الإسلام ، ونبّه إلى ذلك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «حسدتكم اليهود على القبلة» ، ونزل به القرآن فقال : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (١٤٦) (البقرة) ، فهذا الذى يعرفونه كأبنائهم هو أن بيت المقدس لم تكن قبلة بمعنى القبلة ، وأن القبلة بالمعنى الإسلامى شىء جديد تماما ، ولكن اليهود كدأبهم ظلوا يمارون ويجحدون ويجادلون بالباطل ، وكتموا الحق وهم يعلمون أنهم يكتمون الحق ، ومثل ذلك حدث معهم لما أنكروا الرجم فى التوراة ، فشهد عليهم بالكذب عبد الله بن سلام ، وكان يهوديا وأسلم ، وفى ذلك نزل القرآن : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) (١٠) (الأحقاف).

* * *

١٩٥٣ ـ استقبال الكعبة هو الحق لا مراء فيه

يقول تعالى مخاطبا النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما حقيقة الخطاب لأمة محمد ، يطمئنهم أن الكعبة كقبلة هى الحق من عند الله وليس بيت المقدس : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (١٤٧) (البقرة) ، والامترار فى الشيء هو الشك فيه ، وكذا التمارى ، والممترون هم الشاكون ، والمرية هى الشك. وفى الآية أن الامتراء يمكن أن يحدث بإصرار اليهود بادعائهم العلم وتلبيسهم على من يستمع إليهم.

* * *

٩٤٢

١٩٥٤ ـ اليهود يحسدوننا على القبلة

لمّا جاء الأمر بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ، حصل لبعض الناس من أهل النفاق والريب ، ارتياب وزيغ عن الهدى ، وتخبيط وشك ، وقال اليهود : (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها ...) (١٤٢) (البقرة) ، كأنهم يقولون : ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا ، وتارة يستقبلون كذا؟ فكان الجواب عليهم منه تعالى ، قال : (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) (١٤٢) (البقرة) أى له الحكم والتصرف ، وقال : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (١١٥) (البقرة) ، فحيثما يوجهنا نتوجه ، والطاعة له فى امتثال أوامره ، ولو وجهنا فى كل يوم مرات إلى جهات متعددة لفعلنا. وقال : (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١٤٢) (البقرة) ، وفى ذلك الحديث عن عائشة فى أهل الكتاب قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنهم لا يحسدوننا على شىء كما يحسدوننا على يوم الجمعة التى هدانا الله لها وضلّوا عنها ، وعلى القبلة التى هدانا الله لها وضلّوا عنها ، وعلى قولنا خلف الإمام آمين».

* * *

١٩٥٥ ـ حقيقة نسخ القول بأن القبلة إلى أى اتجاه

إذا كان استقبال الكعبة أمرا من الله تعالى ، كقوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (١٤٤) (البقرة) ، فلما ذا كان قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) (١١٥) (البقرة)؟ والجواب : أن البعض قال إن آية : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) ، نزلت كردّ على اليهود لما تساءلوا مستهزئين : (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) (١٤٢) (البقرة) ، ونزلت : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (١١٥) (البقرة) ، تعنى قبلة الله أينما تتوجهون شرقا أو غربا ، فما من ناحية تتوجهون إليها بصلواتكم إلا كان الله تعالى فى ذلك الوجه وتلك الناحية ، لأنه تعالى له المشارق والمغارب ولا يخلو منه مكان ، كما قال : (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) (٧) (المجادلة). وقيل : ثم نسخ ذلك بالفرض الذى فرضه تعالى بالتوجه إلى المسجد الحرام. ولا نرى أن الآية قد نسخت ، لأنها نزلت فى شىء آخر وهو صلاة السفر ، فيمكن للمسافر أن يصلى فى السفر لأى اتجاه ، وروى عن ابن عمر أنه كان يصلى وهو راكب راحلته ، إلى أى اتجاه تكون عليه ناقته ، فكذلك المسافر بالسيارة والقطار ، وبالمركب والطائرة ، والجندى داخل الدبابة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفعل ذلك ويتأوّل هذه الآية. وكذلك من تعمى عليه القبلة فلا يعرف شطرها ، فله أن يصلى فى أى اتجاه ، وصلاته ماضية. وكذلك من يصلى فى الغيم ، أو فى الظلام ، أو فى الخوف الشديد ، وفى المرض ، فصلاته جائزة لغير

٩٤٣

القبلة. وكذلك فى غير السفر على الدابة أو فى السيارة يومئ إيماء ، وكان أنس بن مالك يصلى على حمار فى أروقة المدينة ويومئ إيماء ، ويجوز لكل راكب وماش ، سواء فى الحضر أو فى السفر ، أن يصلى إيماء فى وسيلة المواصلات التى يتخذها أو وهو ماش على رجليه.

* * *

١٩٥٦ ـ فى الأسفار لا يلزم استقبال القبلة

فى قوله تعالى : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (١٤٩) (البقرة) وجوب استقبال المسجد الحرام فى السفر ، وعن أنس : أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا كان فى سفر فأراد أن يصلى على راحلته استقبل القبلة وكبّر ثم صلّى حيث توجهت به. وقيل : لا يلزمه الاستقبال ، وعن ابن عمر : أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلى وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته ، وقال : وفيه نزل : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (١١٥) (البقرة).

* * *

١٩٥٧ ـ وقت تحويل القبلة

عن ابن عمر قال : كان أهل قباء يصلون الصبح فجاءهم من يبلغهم أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوحى إليه أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها ، فكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة. وعن البراء ، قال : صلّى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر ، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت ، وصلّى أول صلاة صلاها إلى الكعبة فى المدينة : صلاة العصر. وعن آخرين قالوا : إن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلى الظهر فى مسجد بنى سلمة ، فنزل عليه بعد ركعتين منها ، فتحوّل فى الصلاة ، فسمىّ ذلك المسجد : مسجد القبلتين. وأكثر الروايات على أن الآية نزلت فى غير صلاة. وقيل : إن أول صلاة فى المدينة إلى الكعبة كانت العصر ، وروى أن أول من صلى إلى الكعبة حين صرفت القبلة عن بيت المقدس : أبو سعيد بن المعلّى ، سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلن الناس بتحويل القبلة ، فأسرع وصلى ركعتين قبل أن ينتهى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خطبته ، فلما انتهى صلى بالناس الظهر.

وقيل : إن تحويل القبلة كان فى رجب من سنة اثنتين ، وقيل : صلى فى المدينة إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرا وثلاثة أيام سواء ، لأن قدومه إلى المدينة كان يوم الاثنين لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول ، وأمره الله تعالى باستقبال الكعبة يوم الثلاثاء للنصف من شعبان.

* * *

٩٤٤

١٩٥٨ ـ طريق المعرفة إلى القبلة

معنى الآية : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (البقرة ١٤٤) : أن الصلاة تكون إلى المسجد الحرام لو كان مرئيا ، وإن كان محجوبا فبالدلائل والأعلام ، أو أن يصلى المسلم باجتهاد ، وطالما أنه مكلّف وملزم بالصلاة إلى المسجد الحرام ، فعليه أن يبحث ويتحرّى ليحصل له العلم بالقبلة ، ومن يترك البحث والفحص فكأنه ترك واجبا ، وإن عجز أخذ بالظن حيث لا طريق إلى العلم ، وإن عجز عن تحصيل الظن قلّد سواه ، وإن لم يجد من يقلّده ، عمل بالاحتياط على قدر إمكانه ، ويجب عليه إن أراد أن يصلى ، أو يعمل عملا يتطلب استقبال القبلة ، كالذبح أو الصلاة على الميت ودفنه ، أن يحصّل العلم بوجهته إلى القبلة بأية طريقة كانت ، سواء بالمعاينة أو أية قرينة من القرائن. ويجزى التحرّى أبدا إن لم يعلم وجه القبلة. ويسقط الاستقبال شرعا مع العجز عنه ، أو مع عدم الاستقرار ، كالصلاة فى الطائرة تحلق فى السماء ، أو المركب تمخر البحر ، فحيثما كانتا كانت قبلته ، وأما فى حال الاستقرار فشرط القبلة شىء آخر.

* * *

١٩٥٩ ـ عشرة ماتوا بعد فرض الصلاة وقبل تحويل القبلة

الذين ماتوا بعد فرض الصلاة وقبل تحويل القبلة من المسلمين عشرة أنفس ، فبمكة من قريش : عبد الله بن شهاب ، والمطّلب بن أزهر ، والسكران بن عمرو العامرى ، فهؤلاء ثلاثة ؛ والذين ماتوا بأرض الحبشة : حطّاب بن الحارث الجمحى ، وعمرو بن أمية الأسدي ، وعبد الله بن الحارث السهمى ، وعروة بن عبد العزّى ، وعدىّ بن نضلة ، فهؤلاء خمسة ؛ ومن الأنصار بالمدينة : البراء بن معرور ، وأسعد بن زرارة ، فهؤلاء عشرة. ومات أيضا إياس بن معاذ الأشهلى ولكنه مختلف فى إسلامه. وهؤلاء جميعا ماتوا ولم يقتلوا ، لأنه لم يقتل أحد من المسلمين قبل تحويل القبلة ، إلا سويد بن الصامت ، فهذا التقى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واستمع إليه ، واستحسن قوله ، ولكنا لم نعرف أنه أسلم ، وأنصرف إلى المدينة بعد لقائه بالنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفيها قتل فى وقعة بعاث ، وكانت قبل الهجرة ، ولأسباب بعيدة عن الإسلام ، وأكد أهله من بعد أنه قتل وهو مسلم. ومن المستضعفين مات بمكة من التعذيب والدا عمّار ، ولكنا لا نعرف هل ماتا قبل الإسراء أم بعده؟

* * *

١٩٦٠ ـ مقام إبراهيم

المقام : من قام يقوم ، وهو مقام من أقام ، ويكون مصدرا واسما للموضع. ومقام إبراهيم : هو الحجر الذى يصلون عنده ركعتى طواف القدوم فى الكعبة. وعند مسلم من

٩٤٥

حديث جابر : أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا رأى البيت ، استلم الركن ، فرمل ثلاثا ، ومشى أربعا ، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) (١٢٥) (البقرة) ، فصلّى ركعتين قرأ فيهما : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ، و (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ). وفى البخارى أن مقام إبراهيم : هو الحجر الذى ارتفع عليه إبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة التى كان إسماعيل يناولها إياه فى بناء البيت الحرام. واتخاذ المقام مصلّى عند البعض مدعى يدعى فيه ؛ وعند البعض موضع صلاة يصلّى عنده. وقيل المقام : قبلة يقف الإمام عندها.

* * *

١١ ـ الذكر والتسبيح والدعاء

* * *

١٩٦١ ـ حقيقة الذكر

فى الآية : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) (٢٤) (الكهف) ، أن آفة الذكر النسيان ، فإذا نسيت اذكره تعالى ، ولكى لا تنسى استثن باسمه تعالى وقل : «لا إله إلا الله» فلا تنسى ، أو قل : «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» ، أو قل : «الله» وكفى ، وفى القرآن يقول تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) (البقرة ١٥٢) ، ويقول : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) (العنكبوت ٤٥) ، وفى الحديث : «مثل الذى يذكر ربّه والذى لا يذكر ربّه مثل الحىّ والميت». والصلاة ذكر ، ولكن الذكر ـ كما فى الآية ـ أكبر من الصلاة ، أو قمة الصلاة. والمراد بالذكر ألفاظ مثل : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، وما يلتحق بها من الحوقلة ، والبسملة ، والحسبلة ، والاستغفار ونحو ذلك ، والدعاء بخير الدنيا والآخرة ، وكتلاوة القرآن والحديث ، ومدارسة العلم ، والتنفّل بالصلاة. ثم الذكر يقع تارة باللسان ، وتارة بالقلب وهو الأكمل. والمراد بذكر اللّسان : ألفاظ التسبيح والتحميد والتمجيد ؛ وبذكر القلب : التفكّر فى أدلة الذات والصفات ، وأدلة تكاليف الأمر والنهى ، وأسرار مخلوقات الله. والذكر بالجوارح : هو الاستغراق فى الصلاة ومختلف الطاعات كالتسبيح وغيره ، ولذلك سميت الصلاة ذكرا ، لأنها تذكّر بالله وبالطاعات ، كقوله تعالى : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) (٩) (الجمعة). وقيل الذكر سبعة أنواع : فذكر العينين : بالبكاء ؛ وذكر الأذنين : بالإصغاء ؛ وذكر اللسان : بالثناء ؛ وذكر اليدين : بالعطاء ؛ وذكر البدن : بالوفاء ؛ وذكر القلب : بالخوف والرجاء ؛ وذكر النفس : بالتسليم والرضاء. ـ وما من عمل صالح إلا والذكر مشترط فى تصحيحه ، فمن لم يذكر الله بقلبه عند صدقته أو صيامه مثلا ، فليس عملا كاملا ، فصار الذكر أفضل الأعمال من هذه

٩٤٦

الحيثية ، وقيل : الذكر خروج من ميدان الغفلة إلى قضاء المشاهدة ، وحقيقته : أن تنسى سوى المذكور ؛ وأقسامه : ذكر العوام : وهو ذكر اللسان ؛ وذكر الخواص : وهو ذكر القلب ؛ وذكر خاصة الخاصة : وهو غيبة الذاكر فى المذكور. ومن الذكر ما يكون فرديا وهو الغالب ، وما يكون جماعيا. وليس كل من ادّعى الذكر بذاكر ، والذكر مختلف والمذكور واحد ، ومحل قلوب الذاكرين متفاوت. ووجه الذكر : الأول هو التهليل والتسبيح وتلاوة القرآن ؛ والثانى : تنبيه القلب بالتذكير بالله وأسمائه وصفاته ، فذكر الراجين على وعده ، وذكر الخائفين على وعيده ، وذكر المتوكلين على ما كشف لهم من كفايته ، وذكر المراقبين على مقدار ما طلع عليهم باطّلاعه عليهم ، وذكر المحبين على قدر تصفّح النعماء.

* * *

١٩٦٢ ـ كيف يكون الذكر؟ ومتى يكون؟

فى الآية : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) (٢٠٥) (الأعراف) ، قيل الذكر : الدعاء ، وقيل هو القراءة فى الصلاة ، ونظيره : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) (٥٥) (الأعراف) ، ومعنى خفية : سرا فى النفس ليبعد عن الرياء ، وفعل ذلك النبىّ زكريا : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) (٣) (مريم) ، ومثله قول النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من رواية أحمد وابن حبان والبيهقى : «خير الذكر : الخفىّ ؛ وخير الرزق : ما يكفى». وفى الآية : الذكر الخفى : هو الذى يكون فى النفس ؛ والتضرع : هو أن يكون فى خشوع ؛ وخيفة : هو أن يكون عن خوف ؛ ودون الجهر : أى لا يرفع فيه الصوت ، بين الجهر والمخافتة ؛ والآية دليل على أن رفع الصوت بالذكر كما يفعل الصوفية ليس هو المطلوب. والزمن الأمثل للذكر بالغدو ، أى الفجر ، والآصال : أى العشيات.

* * *

١٩٦٣ ـ الصلاة ذكر لله تعالى

فى صلاة الخوف ، لما نزلت الآية : (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) (١٠٣) (النساء) ، قرن الناس بين الذكر وهذه الصلاة ، باعتبار الذكر مأمور به إثر هذه الصلاة ، أى إذا فرغتم من الصلاة فاذكروا الله بالقلب واللسان ، على أى حال كنتم ، قياما أو قعودا أو على جنوبكم ، والذكر المأمور به عقب صلاة الخوف من نوع التكبير والتهليل والدعاء بالنصر ، ونظيره : (إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٤٥) (الأنفال). وقيل : إن الصلاة فى دار الحرب تكون والمعركة محتدمة ، بذكر الله بالتكبير والتسبيح والحمد ، قياما أو

٩٤٧

قعودا ، أو على جنوبكم ، أو على أى وضع تكونون ، واذكروه فى مشيكم أو عدوكم ، والذكر صلاة. أو أن الذكر فى الآية هو الصلاة المكتوبة وقد اشتملت على الأذكار المفروضة والمسنونة ، فإذا صليتم صلاة الخوف ، ثم بعد ذلك اطمأننتم وأمنتم ، فأقيموا الصلاة بأركانها دون تقصير ، وبكمال هيئتها وعددها ، والسبب كما تقول الآية : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) (١٠٣) (النساء) ، أى موقّتة بأوقاتها المفروضة. والصحيح أن الذكر فى الحروب يأتى قبل صلاة الخوف وبعدها ، تسلية للمؤمن ، ورفعا لروحه المعنوية ، وتثبيتا لإيمانه ، وتقوية لقلبه ، وبثا لشجاعته.

* * *

١٩٦٤ ـ الذكر بالطاعة

الذكر : هو التنبّه بالقلب المذكور والتيقّظ له ، وسمى الذكر باللسان ذكرا لأنه دلالة على الذكر القلبى ، فلما كثر إطلاق الذكر على القول اللسانى صار هو السابق للفهم ، وفى الآية : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) (١٥٢) (البقرة) : أن الذكر هو طاعته تعالى ، فيذكرهم بالثواب والمغفرة ، ومن لم يطع الله لم يذكره وإن أكثر التسبيح والتهليل ، وفى الحديث : «من أطاع الله فقد ذكر الله ، وإن أقلّ صلاته وصومه وصنيعه للخير ، ومن عصى الله فقد نسى الله ، وإن كثّر صلاته وصومه وصنيعه للخير» ، وفى الحديث كذلك : «أنا مع عبدى إن هو ذكرنى ، وتحرّكت بى شفتاه».

* * *

١٩٦٥ ـ التسبيح لله تعالى

التسبيح لله : هو تنزيهه عمّا يصفه به المشركون ، كقولهم أنه اتخذ ولدا ، أو أن له البنات ، كقوله تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ) (٥٧) (النحل) ، وقولهم : (اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) (٢٦) (الأنبياء) وأما تنزيهه فكقولهم : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) (البقرة ٣٢) ، أى تنزيها لله عن أن يعلم الغيب أحد سواه ، وكقوله : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) (١٧) (الروم) ، والخطاب فى الآية للمؤمنين بالأمر بالعبادة والحضّ على الصلاة فى هذه الأوقات : الصبح والمساء ؛ وقوله : وحين تصبحون : هى صلاة الفجر ؛ وحين تمسون : هى صلاة العصر ، والتسبيح هو حقيقة هذه الصلوات ، ولذلك سمّيت هذه الصلوات بالتسبيح أو التسابيح ، ولهذه التسمية وجهان : أحدهما : لما تضمنته من تسابيح فى الركوع والسجود ، والثانى : مأخوذ من السبحة ، والسبحة هى الصلاة ، ومنها قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تكون لهم سبحة يوم القيامة» أى صلاة. وفى قوله

٩٤٨

تعالى : (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) (٧) (المزمل) : السبح : هو الجرى والدوران ، ومنه السابح فى الماء لحركته فيه ، يعنى أنك فى النهار لك شغل كثير ، فالنهار للمعاش ، وأما الليل فاجعله لعبادتك ؛ وإن فاتك من صلاة الليل شىء ، فلك فى النهار فراغ الاستدراك. وقوله : (وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً) (٣) (النازعات) هى الملائكة ، تسبح فى نزولها وصعودها ، أو هى الخيل الغزاة تجرى فى نشاط وهمّة ، أو النجوم تسبح فى أفلاكها ، وكذا الشمس والقمر : (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٤٠) (يس) ؛ والسفن تسبح فى الماء ، وأرواح المؤمنين تسبح شوقا إلى لقاء الله ، والجميع يفعل ذلك بأمر الله وإذنه. وقوله : (وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) (٢٦) (الإنسان) : يعنى صلاة التطوع فى الليل ، وكل تسبيح فى القرآن فهو صلاة ، وقيل التسبيح هو الذكر المطلق ، سواء كان فى الصلاة أو فى غيرها ، كقوله : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ) (٤٩) (الطور) يعنى التسبيح كلما نقوم من مجلس فنقول : سبحان الله وبحمده ، أو سبحانك اللهم وبحمدك ؛ أو هو التسبيح حين القيام للصلاة ، تقول : الله أكبر كبيرا ، والحمد لله كثيرا ، وسبحان الله بكرة وأصيلا». وقيل : التسبيح هو ذكر الله باللسان حين القيام من الفراش إلى دخول صلاة الفجر ، ومنه حديث النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من تعارّ فى الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شىء قدير ، والحمد لله ، وسبحان الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ثم قال : اللهم اغفر لى ، أو دعا ، استجيب له ، فإن توضأ وصلّى قبلت صلاته» أخرجه البخارى. وتعارّ فى الليل : هبّ من نومه. وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قام من الليل سبّح الله فقال : «اللهم لك الحمد ، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد ، أنت قيّوم السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد ، أنت ربّ السموات والأرض ومن فيهن. أنت الحق ، ووعدك الحق ، وقولك الحق ، ولقاؤك الحق ، والجنة حق ، والنار حق ، والساعة حق ، والنبيون حق ، ومحمد حق. اللهم لك أسلمت ، وعليك توكلت ، وبك آمنت ، وإليك أنبت ، وبك خاصمت ، وإليك حاكمت ، فاغفر لى ما قدّمت وما أخّرت ، وما أسررت وما أعلنت ، أنت المقدّم وأنت المؤخّر ، لا إله إلا أنت ، ولا إله غيرك» أخرجه البخارى. وفى تسبيحات الصلاة قولان ، أحدهما أن نقول : «سبحان ربّى العظيم» فى الركوع ، و «سبحان ربّى الأعلى» فى السجود ؛ والثانى : أن نقول مع التوجّه فى الصلاة ، «سبحانك اللهم وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدّك ، ولا إله غيرك». ومعنى التوجّه أن نقول كما قال علىّ بن أبى طالب : «وجّهت وجهى» الحديث. ولمّا سأل أبو بكر الرسول سبحة يقولها ، قال له : «قل اللهم إنى ظلمت نفسى ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لى مغفرة من عندك ، وارحمنى إنك أنت الغفور الرحيم». وأما قوله تعالى : (وَسَخَّرْنا مَعَ

٩٤٩

داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) (٧٩) (الأنبياء) فقيل : إن داود كان يمر بالجبال مسبّحا ، فيأتيه صدى الصوت مسبّحا ، وكذلك الطير ، فكان يغنى لها بصوته الرخيم ، وينفخ فى المزمار ، فكان الطير يصدح بغنائه والحمام يسجع. وقوله : (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) (١٣) (الرعد) ، جعل صوت الرعد تسبيحا لله ، يعنى طاعة ، فيسوق السحاب وينزل المطر. وفى قوله : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (٤٤) (الإسراء) ، أسند التسبيح إلى قوى الطبيعة وعمّ به كل الأشياء ، مع أن التسبيح فعل عاقل ، والمراد به تسبيح الدلالة ، فكلّ محدث يشهد على نفسه أنه أثر صنعة الله ، وأنه تعالى الخالق القادر.

* * *

١٩٦٦ ـ الدعاء

الدعاء إلى الشيء الحثّ على فعله ؛ ودعوت فلانا سألته ؛ ودعوته استغثته ؛ ويطلق على رفعة القدر ، كقوله تعالى : (لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ) (٤٣) (غافر) ، ويطلق على العبادة ، كقوله : (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) (٢٨) (الطور) ؛ والدعوى هى الدعاء ، كقوله تعالى : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ) (١٠) (يونس) ؛ والدعاء هو التسمية ، كقوله تعالى : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) (٦٣) (النور). وقيل : الدعاء فى القرآن على وجوه ، منها العبادة ، كقوله : (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) (١٠٦) (يونس) ؛ ومنها الاستغاثة ، كقوله : (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ) (البقرة ٢٣) ، ومنها السؤال ، كقوله : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (٦٠) (غافر) ؛ ومنها القول كما فى الآية : (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَ) (١٠) (يونس) ؛ ومنها النداء كقوله : (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ) (٥٢) (الإسراء) ، ؛ ومنها الثناء كقوله : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) (١١٠) (الإسراء). وفى الحديث : «الدعاء مخّ العبادة» ، والإتيان بما هو عبادة أولى من تركه. ثم إن الدعاء مفتاح الحاجة ، ومستروح أصحاب الفاقات ، وملجأ المضطرين. وأقرب الدعاء إلى الإجابة «دعاء الحال» ، وهو أن يكون صاحبه مضطرا.

* * *

١٩٦٧ ـ النداء هو الدعاء

يقول تعالى عن زكريا عليه‌السلام : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) (٣) (مريم) ، والنداء هو الدعاء ، كقوله تعالى : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) (٥٥) (الأعراف) ، وتضرّعا : أى فى خشوع ؛ وخفية : أى فى السرّ ، أو فى النفس.

* * *

٩٥٠

١٩٦٨ ـ دعوى المؤمنين فى الجنة

الدعوى : هى الدعاء ، يقول تعالى : (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٠) (يونس) ، والدعوى مصدر دعا يدعو ، ودعاؤهم فى الجنة أن يقولوا : سبحانك اللهم. وقيل : إذا أرادوا أن يسألوا شيئا أخرجوا السؤال بلفظ التسبيح ويختمون بالحمد. وقيل الدعاء بمعنى التمنّى ، كقوله تعالى : (وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) (٣١) (فصلت) ، أى ما تتمنون ؛ وآخر دعواهم : «الحمد لله» ، يعنى أن أصحاب الجنة إذا اشتهوا الشيء قالوا : سبحانك ، فيأتيهم الملك بما يشتهون ، فإذا أكلوا حمدوا لله ، فسؤالهم بلفظ التسبيح ، وختامهم بلفظ الحمد. والتسبيح والحمد والتهليل قد يسمى دعاء. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو عند الكرب : «لا إله إلا الله العظيم الحليم. لا إله إلا الله ربّ العرش العظيم. لا إله إلا الله ربّ السموات وربّ الأرض ، ربّ العرش الكريم» ، وكانوا يسمون هذا الدعاء «دعاء الكرب» ، وإن لم يكن فيه من معنى الدعاء شىء ، إلا أنه فى الحديث : «دعوة ذى النون إذ دعا بها فى بطن الحوت : لا إله إلا أنت سبحانك ، إنى كنت من الظالمين ، فإنه لن يدعو بها مسلم فى شىء إلا استجيب له» ، فاعتبرها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعاء.

* * *

١٩٦٩ ـ الدعاء هو العبادة

فى الحديث : «الدعاء هو العبادة. قال ربّكم ادعونى استجب لكم» ، فسمّى الدعاء عبادة ، وفى القرآن : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (١٨٦) (البقرة) ، وسبب الآية أن قوما سألوا النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أقريب ربّنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه؟ فنزلت الآية. وقيل نزلت الآية : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (٦٠) (غافر) فسألوه : فى أى ساعة ندعوه؟ فنزلت : (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) (١٨٦) (البقرة) ، فالدعاء هو العبادة ، والإجابة هى القبول ؛ ومنه قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) (٦٠) (غافر) ، وفى الآية أن العبادة هى الدعاء ، فأمر الله بالدعاء ، وحضّ عليه ، وسمّاه عبادة ، ووعد بالاستجابة له.

* * *

١٩٧٠ ـ دعاؤكم إيمانكم

الدعاء : عمل وإيمان وعبادة وطاعة ، كقوله تعالى : (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) (الفرقان ٧٧) ، والمعنى ما يبالى الله بكم لو لا دعاؤكم له ، أى إيمانكم وطاعتكم له ، كقوله تعالى : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) (١٤٧) (النساء) ، فالشكر عن إيمان دعاء ، والخطاب للمسلمين.

٩٥١

١٩٧١ ـ كل داع يستجاب

يستحب للداعى أن يدعو لغيره ويترك الدعاء لنفسه ، وكل دعاء مستجاب ، كقوله : (فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ) (٤١) (الأنعام) ، وتتنوّع الإجابة ، فتارة تكون بعين ما دعا به ، وتارة تكون بما يعوّض ما دعا به ، وفى الحديث : «ما على الأرض مسلم يدعو بدعوة إلا أتاه الله إياها ، أو صرف عنه من السوء مثلها ، إما أن يعجّلها له ، وإما أن يدّخرها له» ، وفى رواية : «ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث : إما أن يعجّل له دعوته ، وإما أن يدّخرها له فى الآخرة ، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها».

* * *

١٩٧٢ ـ من لم يسأل الله يبغضه

التفويض لله هو الاستسلام للقضاء ، وبعض أصحاب الرأى يؤثرون التفويض على الدعاء ، ويفضلون ترك الدعاء ، ويفسرون قوله تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) (٦٠) (غافر) بأن الدعاء المقصود به العبادة لا غير. والجمهور على أن الدعاء من أعظم العبادات ، وليس الحديث : «الدعاء هو العبادة» إلا كالحديث الآخر : «الحج عرفة» ، فكما أن معظم الحج وركنه الأكبر هو عرفة ، فكذلك العبادة ، فإن معظمها وركنها الأكبر الدعاء ، والنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يوص بشيء ويلح عليه بقدر ما أوصى بالدعاء ، فقال : «ليس شىء أكرم على الله من الدعاء» أخرجه الترمذى وابن ماجة ، وقال : «من لم يسأل الله يغضب عليه» ، والمعنى : أن من لا يسأل الله يبغضه ، والمبغوض مغضوب عليه ، والله يحب أن يسأل ، والنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سلوا الله من فضله ، فإن الله يحب أن يسأل» أخرجه الترمذى ، وقال : «إن الله يحبّ الملحّين فى الدعاء».

* * *

١٩٧٣ ـ لما ذا ندعو ولا نجاب؟

والجواب : أن قوله تعالى : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) (١٨٦) (البقرة) ، وقوله : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (٦٠) (سبأ) لا يقتضى الإجابة مطلقا لكل داع على التفصيل ، ولا بكل مطلوب على التفصيل ، فقد قال : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (٥٥) (الأعراف) ، فكل مصرّ على كبيرة ، عالما بها أو جاهلا ، فهو معتد ، والله كما قال لا يحب المعتدين ، فيحتمل أن الذى يدعو من المعتدين ، فكيف يستجيب له؟! وربما كان من الظالمين أو ممن يستعجلون؟ وفى الحديث : «لا يزال عبدى يستجاب له ما لم يستعجل ، يقول : قد دعوت وقد دعوت ، فلم أره يستجيب لى ، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء». ومعنى يستحسر : يملّ. وربما كان ممن يأكلون الحرام وما فى معناه ، وفى الحديث : «الرجل يطيل السفر ، أشعث أغبر ، يمد يديه إلى السماء : يا ربّ! يا ربّ! ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه

٩٥٢

حرام ، وغذّى بالحرام ، فأنّى يستجاب لذلك؟!» فمن شروط الداعى : أن يكون الداعى عالما أنه لا قادر على حاجته إلا الله ، وأن الوسائط فى قبضته ، ومسخّرة بتسخيره ، وأن يدعو بنيّة صادقة وحضور قلب ، فإن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه ، وأن يجتنب أكل الحرام ، وألا يملّ من الدعاء. ومن شروط المدعو فيه : أن يكون من الأمور الجائزة الطلب والفعل شرعا. وقيل : شروط الدعاء سبعة : أولها التضرّع ، والخوف ، والرجاء ، والمداومة ، والخشوع ، والعموم ، وأكل الحلال. ولا يمنعن أحدا من الدعاء ما يعلمه من نفسه ، فإن الله قد أجاب دعاء شرّ الخلق إبليس : (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) (٣٧) (الحجر).

وللدعاء أوقات وأحوال يكون الغالب فيها الإجابة : وذلك كالسحر ، ووقت الإفطار فى الصيام ، وما بين الأذان والإقامة فى الصلاة ، وأوقات الاضطرار ، وحالتى السفر والمرض ، وفى الجهاد فى سبيل الله. وفى الحديث عن كيفية الدعاء ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله تعالى والثناء عليه ، ثم يصلى على النبىّ عليه الصلاة والسلام ، ثم ليدع ما يشاء».

* * *

١٩٧٤ ـ الدعاء المستجاب

هو دعاء الإنسان لنفسه بالخير ، والدعاء المرفوض هو دعاؤه على نفسه وولده عند الضجر ، كقوله تعالى : (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) (١١) (الإسراء) ، ولو استجاب الله دعاءه على نفسه بالشر لهلك ، ولكن بفضله تعالى لا يستجيب له فيه. ونظير ذلك قوله : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ) (١١) (يونس). وفى الحديث : «ينزل ربّنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير ، فيقول : من يدعونى فأستجيب له؟ ومن يسألنى فأعطيه؟ ومن يستغفرنى فأغفر له؟» ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أقرب ما يكون الربّ من العبد فى جوف الليل الآخر ، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله فى تلك الساعة فكن». وعنه قال : «من سرّه أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب ، فليكثر الدعاء فى الرخاء».

* * *

١٩٧٥ ـ الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل

فى الآية : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) (٦٠) (غافر) : أن الدعاء أخصّ من العبادة ، فمن استكبر عن العبادة استكبر عن الدعاء ، والوعيد فى حقّ الذى يترك الدعاء استكبارا ، ومن يفعل ذلك يكفر. وفى الحديث : «إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل ، فعليكم عباد الله بالدعاء» ؛ وملازمة الدعاء والاستكثار منه

٩٥٣

تصرف عن الداعى السوء فى عاجله وآجله. والآية تشترط الإجابة بالإخلاص ، كقوله تعالى : (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (٢٩) (الأعراف) ، والدعاء بحسب الآية هو إظهار غاية التذلل والافتقار إلى الله والاستكانة له ، والعبادات شرّعت للخضوع للبارى وإظهار الافتقار إليه ، ولهذا ختم الآية بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) ، فعبّر عن عدم التذلل والخضوع بالاستكبار ، ووضع «عبادتى» موضع «دعائى» ، وجعل جزاء ذلك الاستكبار : الصغار والهوان.

* * *

١٩٧٦ ـ الدعاء أولى أو السكون والرضا؟

الدعاء هو الذى ينبغى ترجيحه لما فيه من إظهار الخضوع والافتقار. وقيل السكون والرضا أولى ، لما فى التسليم من الفضل ، لأن الداعى لا يعرف المقدور له ، فإما أن دعاؤه يوافق المقدور فيكون الدعاء تحصيل حاصل ، وإما أنه على خلاف المقدور فيكون الدعاء معاندة ، كقوله تعالى فى الحديث : «من شغله ذكرى عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين». والصحيح أن الدعاء من جملة العبادة لما فيه من الخضوع والافتقار ، فلا على الداعى إن دعا ، ثم إنه إن اعتقد بأنه لا يقع إلا المقدور ، فإن الدعاء يكون إذعانا للمقدور وليس معاندة له ، وإذن فالدعاء فى كل الأحوال يترجم عن الحال ، ويفيد تحصيل الثواب ، بامتثال الأمر والإقرار بأنه تعالى خالق الأسباب ومسبباتها. والدعاء أفضل إذا دعا الداعى بلسانه وقلبه راض ، ولا يتأتى ذلك لكل أحد وإنما يختص به الكمّل ، وما كان لله أو للمسلمين فيه نصيب فالدعاء أفضل ، وما كان للنفس فيه حظ فالسكون أفضل.

* * *

١٩٧٧ ـ ادعوا الله أو ادعوا الرحمن

نزلت الآية : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (١١٠) (الإسراء) لتبيّن أن أسماء الله الحسنى لمسمى واحد هو الله ، فإن دعاه الناس بالله فهو ذاك ، وإن دعوه بالرحمن فهو ذاك. والدعاء لا يكون إلا بالحسنى من الأسماء ، وحسنها يقتضى أن تكون معانيها حسانا شريفة ، والأسماء الحسنى بتوقيف لا يصحّ وضع اسم له تعالى بنظر إلا بتوقيف من القرآن أو الحديث أو الإجماع.

* * *

١٩٧٨ ـ فإنكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا

الدعاء إلى الله بالرفق ، وفى الحديث لما صار المسلمون يكبّرون فى الغزاة ، كلما توغلوا فى الأرض ، أو صعدوا تلا ، أو هبطوا فى واد ، فيرفعون أصواتهم بالتكبير والتهليل

٩٥٤

قال : «يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم (أى كفّوا) ، فإنكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا» ، وأمرهم أن يقولوا : «لا حول ولا قوة إلا بالله» ، يريد أن الدعاء لا يفيد إلا بقوة الله ، وأن الحول هو حول الله.

* * *

١٩٧٩ ـ التأمين بعد الدعاء

فى الحديث : «لا يجتمع ملأ فيدعو بعضهم ويؤمن بعضهم إلا أجابهم الله تعالى» ، وآمين مثل الطابع على الصحيفة ، والداعى إذا كان ظالما على من دعا عليه لا يستجاب دعاؤه ، ويؤيده قوله تعالى : (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) (١٤) (الرعد).

* * *

١٩٨٠ ـ لكل نبىّ دعوة مستجابة

دعوة كل نبىّ لأمته ، فهذه دعوته العامة ، وله دعوات خاصة قد يستجاب لها أو لا يستجاب ، وفى الحديث : «لكل نبى دعوة مستجابة يدعو بها وأريد أن أختبئ دعوتى شفاعة لأمتى يوم القيامة» أخرجه البخارى ، ومثل ذلك دعوة نوح ، قال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) (٢٦) (نوح) ، ودعوة زكريا ، قال : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) (٥) (مريم) ، ودعوة سليمان ، قال : (وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) (٣٥) (ص). ودعوة النبىّ العامة لأمته قد تكون بالإهلاك ، أو تكون بالهداية كدعوة إبراهيم : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) (١٢٨) (البقرة) ، ونبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ادّخر دعوته لأمته يوم القيامة ، والمراد بالأمة : أمة الدعوة لا أمة الإجابة ، ولما دعا على بعض أمّته فى حياته نزل عليه قوله تعالى : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) (١٢٨) (آل عمران) ، فبقيت تلك الدعوة المستجابة مدّخرة للآخرة.

* * *

١٩٨١ ـ من أدعياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم

كان النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أوى إلى فراشه قال : «باسمك ربي وضعت جنبى وبك أرفعه ، إن أمسكت نفسى فارحمها ، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين» ؛ وكان إذا قام من نومه قال : «الحمد لله الذى أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور».

ـ وإذا قام من الليل قال : «اللهم لك الحمد ، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد ، أنت قيّم السموات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد ، أنت الحق ، ووعدك حق ، وقولك حق ، ولقاؤك حق ، والجنة حق ، والنار حق ، والساعة حق ، والنبيون حق ، ومحمد حق. اللهم لك أسلمت ، وعليك توكلت ، وبك آمنت ، وإليك أنبت ، وبك خاصمت ، وإليك حاكمت ،

٩٥٥

فاغفر لى ما قدّمت وما أخّرت ، وما أسررت وما أعلنت. أنت المقدّم وأنت المؤخر ، لا إله إلا أنت».

ـ وكان يدعو فى الصلاة : «اللهم إنى ظلمت نفسى ظلما كثيرا ، ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لى مغفرة من عندك وارحمنى ، إنك أنت الغفور الرحيم».

ـ وكان يدعو إذا سلّم من الصلاة : «اللهم أنت السلام ، ومنك السلام ، تباركت يا ذا الجلال والإكرام».

ـ وكان يدعو إذا انصرف من الصلاة : «اللهم أصلح لى دينى».

ـ وقال يعظ أحبابه : «تسبّحون ، وتكبّرون ، وتحمدون ، دبر كل صلاة : ثلاثا وثلاثين ـ إحدى عشرة ، إحدى عشرة ، إحدى عشرة ، فذلك كله ثلاث وثلاثون».

ـ وكان يدعو عند الكرب يقول : «لا إله إلا الله العظيم الحليم. لا إله إلا الله ربّ السموات والأرض وربّ العرش العظيم».

ـ ولقّنه الله تعالى أن يدعو فيقول : (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) (١١٢) وهذا الدعاء هو ختام سورة الأنبياء ، يأمر الله تعالى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يفوّض الأمر إليه ، وأن لا يستعين على أعدائه إلا به ، وأن لا يتوقع الفرج إلا من عنده ، وكانت الأنبياء قبل ذلك يدعون ربّهم : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) (٨٩) (الأعراف) ، فأمر الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول : (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) ، فكان إذا لقى العدو يقول وهو يعلم أنه على الحق ، وعدوه على الباطل : (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) أى اقض به.

* * *

١٩٨٢ ـ الاستغفار والتوبة دعاء

دعاء الاستغفار : هو طلب المغفرة ، كقوله تعالى : (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا) (البقرة ٢٨٦) ، وقول موسى : (اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ) (الأعراف ١٥١) ، وقول إبراهيم : (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) (٨٦) (الشعراء) ، وقول نوح : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) (١٠) (نوح) ، وقول هود : (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) (هود ٥٢) ، وقوله تعالى للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ) (الممتحنة ١٢) ، وقول بعضهم للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَاسْتَغْفِرْ لَنا) (الفتح ١١) وفى الحديث : «سيد الاستغفار أن يقول : اللهم أنت ربّى لا إله إلا أنت ، خلقتنى وأنا عبدك ، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ، أعوذ بك من شر ما صنعت ، أبوء لك بنعمتك علىّ ، وأبوء لك بذنبى. اغفر لى فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» ، وكان النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستغفر لنفسه ويتوب إلى الله فى اليوم أكثر من سبعين مرة ، ويستغفر للناس ، وأمر الله بالتوبة الصادقة فقال : (تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) (٨) (التحريم) وسميت نصوحا أو ناصحة

٩٥٦

لأن العبد ينصح نفسه فيها ، والتوبة : هى أن يذنب الذنب فيستغفر ويندم ولا يرجع. والله أسرع بإجابة الدعوة إذا سبقتها التوبة والاستغفار ، وتوبة العوام من الذنوب ، وتوبة الخواص من الغفلة ، والتوبة صفة عامة للمؤمنين ، كقوله تعالى : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) (النور ٣١). والتوبة أقسام : الأول التوبة : يدعو بها التائب أن يعينه الله عليها ؛ والثانى : الإنابة ، والثالث : الأوبة ، فمن يتوب لمراعاة أمر الله من غير خوف العقاب وليس طمعا فى الثواب فهو صاحب توبة. والاستغفار : من الغفران ، وأصله الغفر وهو إلباس الشيء ما يصونه عما يدنّسه ، والغفران من الله للعبد أن يصونه عن العذاب.

* * *

١٩٨٣ ـ من جوامع الدعاء

قوله تعالى : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) (٢٠١) (البقرة) ، قيل : هذا الدعاء يعمّ الدنيا والآخرة ، ولذا كان من جوامع الدعاء ، وكان أكثر ما يدعو به النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان يأمر أن يكون أكثر دعاء المسلم فى الموقف بهذه الآية.

* * *

١٩٨٤ ـ أىّ الدعاء أسمع؟

سئل النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قيل : يا رسول الله : أى الدعاء أسمع؟ قال : «جوف الليل الأخير ودبر الصلوات المكتوبات» أخرجه الترمذى. وأخرج الطبرانى : «الدعاء بعد المكتوبة أفضل من الدعاء بعد النافلة كفضل المكتوبة على النافلة». وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تفتح أبواب السماء ويستجاب الدعاء فى أربعة مواطن : عند التقاء الصفوف فى سبيل الله ، وعند نزول الغيث ، وعند إقامة الصلاة ، وعند رؤية الكعبة» ، وقال : «من كانت له إلى الله حاجة فليدع بها دبر كل صلاة مفروضة». وقال : «ثلاثة لا تردّ دعوتهم : الإمام العادل ؛ والصائم حتى يفطر ، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ، وتفتح لها أبواب السماء ، ويقول الربّ تبارك وتعالى : وعزّتى لأنصرنك ولو بعد حين».

* * *

١٩٨٥ ـ دعاء حملة العرش

حملة العرش هم أشراف الملائكة وأفاضلهم ، يطوفون بالعرش مهللين مكبّرين ، ينزّهون الله عمّا يقوله الكفّار ، ويسألون المغفرة للذين آمنوا ، يقولون : (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ

٩٥٧

السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٩) (غافر). وفى هذا الدعاء أن أنصح عباد الله لعباد الله هم الملائكة ، وأغشّ عباد الله لعباد الله هو الشيطان.

* * *

١٩٨٦ ـ دعاء إبراهيم لنفسه ولوالديه وللمؤمنين

قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) (٤١) (إبراهيم) ، فدعا ربّه أن يتقبّل دعاءه ، والدعاء عبادة ، وفى الحديث :

«الدعاء مخ العبادة» ، وشكر الله على الولد ، واستغفر لوالديه وللمؤمنين يوم الحساب.

* * *

١٩٨٧ ـ دعاء إبراهيم فى البيت الحرام

قال إبراهيم : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (البقرة ١٢٦) فسأله تعالى أن يجعل مكة آمنة من القحط والجدب والغارات ، وأن يرزق أهلها ، وفى الحديث : «إن إبراهيم حرّم مكة ودعا لأهلها ، وإنى حرّمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكة ، وإنى دعوت فى صاعها ومدّها بمثلى ما دعا إبراهيم لأهل مكة». وقال إبراهيم : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (١٢٧) (البقرة) ، يدعو ربّه أن يتقبل إسهامه وابنه إسماعيل فى رفع قواعد البيت ، وهى دعوة كل من يستهل عملا لوجه الله. قال : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (١٢٨) (البقرة) ، يقصد نفسه وابنه إسماعيل ، وإسلامه يعنى به الإيمان كما فى قوله تعالى : (فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٣٦) (الذاريات) ، فالمسلمون هم المؤمنون. ولم يدع لنفسه وأمته سوى إبراهيم ، والأمة المسلمة اصطلاح إبراهيم ، وقوله «ومن ذريتنا» حيث من للتبعيض ، لأنه من هذه الأمة سيكون البعض من الظالمين ، وذرية إبراهيم وإسماعيل هم العرب : بنو نبت بن إسماعيل ، أو بنو تيمن بن إسماعيل ؛ والعرب العدنانية من بنى نبت بن إسماعيل بن إبراهيم ، والعرب القحطانية من بنى قيد أو تيمن بن نبت بن إسماعيل بن إبراهيم. والأمّة هى الجماعة. والمناسك هى العبادات ، والمراد بها مناسك الحج ومعالمه ، قيل : إن جبريل حجّ بإبراهيم بعد إتمامه بناء البيت ، فوقف به فى عرفة ، وفى رجوعه من عرفة عرض له إبليس فحصبه سبع حصيات كأمر جبريل ، ثم علا جبل شبير وأذّن للحج ، فقال الناس : لبيك اللهم لبيك. وأراه الطواف ، والصفا والمروة ، والعقبة ، وعلّمه أن يكبّر ، وأن يحصب الشيطان سبع حصيات عند جمرة العقبة ، والجمرة الوسطى ، وعند الجمرة القصوى ، والصلاة جمعا ، وقدوم منى والمزدلفة. وسمّيت «عرفات» كذلك لأن إبراهيم فيها

٩٥٨

عرف. وقيل المناسك هى : الصفا والمروة ، وحصب إبليس بجمرة العقبة ، ثم بالجمرة الوسطى ، ثم بالجمرة القصوى سبع حصيات فى كل مرة. وعلّمه الطواف سبعا ، واستلام الأركان كلها فى كل طواف ، والصلاة خلف المقام ركعتين. وقيل فى المسجد الحرام قبران : قبر إسماعيل فى الحجر ، وقبر شعيب مقابل الحجر الأسود. وكان طلب إبراهيم للتوبة للتثبيت والدوام. وقال إبراهيم : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١٢٩) (البقرة) ، والرسول هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والكتاب هو القرآن ، والحكمة هى السنّة ـ وقيل الفقه ـ ويزكّيهم يطهّرهم من الشرك.

* * *

١٩٨٨ ـ دعاء إبراهيم يعلم المؤمنين

هو قوله : (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٥) (الممتحنة) ، نتأسّى ونفتدى به فى الدعاء ، يعلّم المؤمنين أن يدعوا به ، وأن يتبرءوا من الكفر والكفّار ويتوكلوا على الله. وقولنا : (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا) أى اعتمدنا ، (وَإِلَيْكَ أَنَبْنا) أى رجعنا ، (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) أى لك الرجوع فى الآخرة ، وقوله : (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أى لا تظهر عدونا علينا فيظنوا أنهم على حق فيفتنوا بذلك ، أو لا تسلّطهم علينا فيفتنونا ويعذبونا.

* * *

١٩٨٩ ـ دعاء قوم طالوت

(قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (٢٥٠) (البقرة) ، وكانوا يواجهون قوم جالوت ، وهو كقوله تعالى : (وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) (١٤٧) (آل عمران) ، وفى ذلك كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا لقى العدو يقول فى القتال : «اللهم بك أصول وأجول» أخرجه أبو داود ، وكان يقول : «اللهم إنى أعوذ بك من شرورهم وأجعلك فى نحورهم» أخرجه أبو داود. وما وهن أصحاب طالوت وكانوا ربيين ـ أى علماء صابرين ، والله يحب الصابرين ، ودعوا فأحسنوا الدعاء : (وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (١٤٧) (آل عمران) ، والذنوب هى الصغائر ، والإسراف هو الإفراط ومجاوزة الحد ، يعنى الكبائر ، وفى الحديث أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يدعو : «اللهم اغفر لى خطيئتى وجهلى وإسرافى فى أمرى وما أنت أعلم به منى» ، فعلى كل مسلم أن يستعمل ما فى كتاب الله وصحيح السنة من الدعاء ويدع ما سواه ، وقد اختار الله لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا الدعاء.

* * *

٩٥٩

١٩٩٠ ـ دعاء الراسخين فى العلم

هو قولهم : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٩) (آل عمران) ؛ وإزاغة القلب هى الفساد والميل عن الدين. وكان أبو بكر يكثر من القراءة بهذه الآية : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) ، نوعا من القنوت والدعاء لما كان فيه من أمر أهل الردّة.

* * *

١٩٩١ ـ دعاء المؤمنين

هو دعاؤهم : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) (١٩٤) (آل عمران) ، قيل إنه لمّا نزلت هذه الآيات على النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكى وقام يصلى ، وكان يقرأها كل ليلة ، ويذكر الله على كل أحيانه ، وأنه ما خلق الكون عبثا وهزلا ، ومعنى «سبحانك» تنزيهه تعالى عن السوء ؛ و «المنادى للإيمان» هو النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ و «الأبرار» فى الآية من البرّ وأصله من الاتساع ، فطاعة الله فى البرّ متسعة ، والأبرار متسعة لهم رحمة الله ، ووعد الله أن الجنة لمن آمن ، والمؤمنون يسألونه أن يكونوا ممن وعدوا بذلك دون الخزى والعقاب ، ودعوا بهذا الدعاء على جهة العبادة والخضوع ، والدعاء مخ العبادة ، وسألوه النصر على عدوهم فاستجاب لهم ، فدعوا : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (٢٨٦) (البقرة) ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ، و «الإصر» هو الثقل ، أو شدة العمل ، فقد كانوا يحملون أمورا شدادا ، وهو ضيق الحال والذنوب. وفى الحديث : «من قرأ هاتين الآيتين من آخر سورة البقرة فى ليلة ، كفتاه» من أول «آمن الرسول» إلى آخر سورة البقرة.

* * *

١٩٩٢ ـ دعاء التابعين ومن دخل الإسلام إلى يوم القيامة

الناس فى الإسلام بحسب إسهامهم فيه ، وهم ثلاثة منازل : المهاجرون ، والذين تبوءوا الدار والإيمان ، والذين جاءوا من بعدهم (الحشر ٨ ـ ١٠) ، كالمثل الذى يقول : كن شمسا ، فإن لم تستطع فكن قمرا ، فإن لم تستطع فكن كوكبا مضيئا ، فإن لم تستطع فكن كوكبا صغيرا. والمؤمن قدوته المهاجرون فليكن مهاجرا ، فإن لم يجد فليكن أنصاريا ، فإن لم يجد فليعمل

٩٦٠