موسوعة القرآن العظيم - ج ١

دكتور عبد المنعم الحفني

موسوعة القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

دكتور عبد المنعم الحفني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
ISBN: 977-208-442-2
الصفحات: ١٢٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣
٤

الإهداء

إلى القارئ اللبيب ..

كنت أظن أن بوسعى أن أجمع ما فى القرآن من حكمة ، وأمثال ، وقصص ، وأحكام ، وآداب ، وفلسفة ، وعلم فيزياء ، وعلم فلك ، وعلم نفس ، وجغرافيا ، وتاريخ ، ولغة ، وأخبار وغير ذلك مما لا يحصى ولا يعد ، فى كتاب واحد أعطيته اسم الموسوعة ، ولكن تبيّن لى وأنا أكتب ، وأفكر ، وأجمع ، وأحلل ، وأستنبط ، وأدلل ، وأردّ على مفتريات المستشرقين والنصارى واليهود ، أن من المستحيل أن ألمّ بالقرآن كله فى كتاب واحد ، ولأول مرة أعرف تمام المعرفة ، وعن معاناة ، معنى قوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) (١٠٩) (الكهف) ، فالذى يشتمل عليه القرآن أكبر وأجلّ وأعظم من أن يستوعبه مفكر واحد ، ويحتويه كتاب واحد ، فكلماته لا تنفد ، ولا نهاية لها ، وصدق تعالى إذ قال : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢٧) (لقمان) ، ومقصود الآيتين الإعلام بكثرة معانى كلمات الله ، وهى نفسها غير متناهية ، وإنما قرّبها الله تعالى فى القرآن ليفهمها الناس بحسب ثقافاتهم وأزمانهم ، بما يتناهى لهم من العلم ، لأنه غاية ما بوسعهم ، وما أوتى الإنسان من العلم إلا القليل ، وتفسير القرآن وتأويل آياته يحتاج إلى جهد الإنسانية كلها ، لا جهد فرد وحده ، وإنى لأعتذر للقرّاء عمّا قد يجدونه من نقص ، ولكنه بالتأكيد ليس تقصيرا ، فما قصّرت والله على ذلك شهيد ، وإنما هو جهد المقلّ ، وغاية ما استطعت ، وكل إنسان له وسع ، ومما أفدت من رحلتى مع القرآن أنه تعالى يكلّف على قدر الوسع ، ولقد أردت أن أرضى ربّى بهذا العمل ، وكنت أكتب وكأنى أصلّي ، ومع ذلك استشعرت العجز وأنا حيال القرآن ، وإنى لأستغفر الله عمّا يمكن أن أكون قد أخطأت في فهمه ، أو تعثّرت في الإحاطة بمراميه ، وإلا يغفر لى ويرحمنى لأكونن من الخاسرين ، وإنى لأطمع أن يغفر لى خطاياى ، ولهذا كان تأليفى لهذا الكتاب المبارك بإذن الله. وفقنى الله وإياكم ورحمنا أجمعين.

عبد المنعم الحفنى

٥
٦

الباب الأول

القرآن

* * *

١. مجمل في التعريف بالقرآن

تسمية القرآن مختلف فيها ، قيل هو اسم علم غير مهموز ، وغير مشتق ، خاص بكلام الله ؛ وقيل بل هو مشتق من قرآن الشيء بالشىء ، وسمى به لقرآن السور والآيات والحروف فيه ؛ وقيل هو مشتق من القرائن ، وبه همزة ، ونونه أصلية ؛ وقيل إن ترك الهمزة فيه من باب التخفيف ، وقد نقلت حركتها إلى الساكن قبلها ؛ وقيل هو مصدر لقرأ ، سمى به الكتاب المقروء ، من باب تسميته بالمصدر ؛ وقيل هو وصف على فعلان ، مشتق من القرء بمعنى الجمع.

والقرآن اسمه كذلك عند أهل السنة والجماعة ؛ وهو الفرقان لأنه يفرّق بين الحق والباطل ؛ وهو الكتاب ، والذكر ، والتنزيل ؛ نور ، وهدى ، وشفاء ، ورحمة ، وموعظة ؛ وهو مبين ، ومبارك ، وعزيز ، ومجيد.

والقرآن كلام الله ، مكتوب في المصاحف ، ومحفوظ في القلوب ، ومقروء بالألسنة ، ومسموع بالآذان ، ومع أنه كلام إلا أنه ليس من جنس الحروف والأصوات ، فهذه حادثة ، وكلام الله معان قائمة بذات الله تعالى ، ولكنها تلفظ بألفاظ ، وتسمع بنظم خاص ، وتكتب بنقش موضوع ، كالشيء له وجود في الأذهان ، ووجود في الكتابة ، والكتابة تدل على العبارة ، وهى على ما في الأذهان ، وما في الأذهان هو على ما في الأعيان. وحين نصف القرآن فنقول «كلام الله» ، فالمراد حقيقته الموجودة في الخارج ، فإذا وصفناه بما هو من لوازم المخلوقات ، فالمراد الألفاظ المنطوقة المسموعة ، كأن نقول قرآنا نصف القرآن ؛ وقد نقصد من القرآن شكله ، كأن نحرّم مسّه ككتاب. والقرآن ككلام الله يشترك بأنه معان نفسية إلهية ، في ألفاظ حادثة مخلوقة له تعالى ، وليس من تأليفات المخلوقين ، وإعجازه إنما باعتبار دلالته على المعانى. ولا نزاع في إطلاق اسم القرآن على كلام الله باعتباره معان إلهية تخصّه تعالى ، قد صيغت في كلام حادث يتعارف عليه العامة والقرّاء والأصوليون والفقهاء ، وقامت عليه علوم توفّر عليها العلماء لخدمة القرآن ، ومن ذلك علم تفسير القرآن ، ومن علمائه : ابن هارون السلمى ، وابن الحجاج ، وابن الجرّاح ، وابن عيينة ، وابن همّام ، والطبرى. والمؤلفون كثيرون في غير علم التفسير ، ومنهم : ابن المدينى ، وله «أسباب

٧

النزول» ، وابن قتيبة ، وله «مشكل القرآن» ، والسجستانى ، وله «غريب القرآن» ، والباقلانى ، وله «إعجاز القرآن» ، والعزّ بن عبد السلام ، وله «إعجاز القرآن» ، والزركشى ؛ وله «البرهان في علوم القرآن» والسيوطى ، وله «الإتقان في علوم القرآن» ، والقائمة لا تنتهى.

وإنزال القرآن كان في شهر رمضان ؛ قيل : نزل إلى سماء الدنيا ليلة القدر جملة واحدة ، ثم نزل بعد ذلك منجّما في عشرين سنة ، أو ثلاث وعشرين ، أو خمس وعشرين ، هى مدة إقامة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة بعد البعثة ، وبالمدينة بعد الهجرة. وقيل : نزل إلى سماء الدنيا ليلة القدر ، وهى الليلة العشرون أو الثلاث والعشرون أو الخمس والعشرون ، على مدار مدة العشرين أو الثلاث والعشرين أو الخمس والعشرين سنة ، في كل ليلة ما يقدّر الله إنزاله في كل سنة ، ثم نزل بعد ذلك منجّما. وقيل ابتدأ إنزاله في ليلة القدر ، ثم نزل بعد ذلك منجّما في أوقات مختلفة من سائر الأوقات. وقيل : إن الحفظة نجّمته على جبريل في عشرين ليلة ، ونجّمه جبريل على النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عشرين سنة ، والمعتمد أن جبريل كان يعارضه في رمضان بما ينزل عليه طول السنة. وقيل كان إنزاله منجّما ، لأن الوحى إذا كان يتجدد في كل حادثة ، فإن نزول القرآن يكون أقوى للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين ، ويستلزم ذلك كثرة نزول الملك إليه ، فيحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة.

وفي كيفية الإنزال أو الوحى اختلف العلماء ، فقيل : إن الله تعالى ألهم جبريل وهو في السماء ، وعلّمه قراءته ، ثم نقله جبريل إلى الأرض ؛ وقيل : إن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليتلقاه ، انخلع من صورته البشرية إلى صورة ملكية ، أو أن الملك انخلع إلى البشرية حتى يأخذه الرسول عنه ؛ وقيل : إن جبريل إنما نزل بالمعانى خاصة ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم علم تلك المعانى وعبّر عنها بلغة العرب ، لقوله تعالى (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ) (الشعراء) ؛ وقيل : إن جبريل ألقى عليه المعنى ، وعبّر عنه بلغة العرب ، وقرأة لأهل السماء بها ، وبها نزل كذلك.

وقيل : القرآن قسمان ، قسم قال الله تعالى لجبريل : قل للنبىّ إن الله يقول افعل كذا وكذا ، فنزل جبريل ونقل له ما قاله ربّه ، ولم تكن العبارة هى نفسها تلك العبارة التى قالها الله تعالى ؛ وقسم آخر قال الله تعالى لجبريل اقرأه على النبىّ ، فنزل به جبريل لم يغيّر فيه شيئا. وقيل : القرآن هو القسم الثانى ، والقسم الأول هو السنّة ، وكان جبريل ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن ، ومن هنا جاز رواية السنة بالمعنى ، لأن جبريل أداها بالمعنى. ولم تجز قراءة القرآن بالمعنى لأن جبريل أدّاه باللفظ ، والمقصود بذلك التعبّد به بلفظه ، وأن يأتى

٨

لفظه معجزا ، وأنه مع كل قراءة تتحصّل بها تجلّيات لمعان. ولو جعل القسمان بحيث يروونهما باللفظ ، لشقّ على الأمة ، وتخفيفا عليها جعل قسم للرواية باللفظ ، وقسم للرواية بالمعنى.

وللوحى كيفيات ، الأولى : أن يأتيه الملك في مثل صلصلة الجرس ، وهذه الحالة أشد حالات الوحى عليه ، وقيل : إنه إنما كان ينزل هكذا إذا نزلت آية وعيد أو تهديد ؛ والثانية : أن ينفث في روعه الكلام نفثا ؛ والثالثة : أن يأتيه في صورة رجل فيكلمه ، وهذا أهونه ؛ والرابعة : أن يأتيه في النوم.

والقرآن منه المكى ، ومنه المدنى ، والأول : ما نزل عليه قبل الهجرة ولو كان في غير مكة ، والثانى : ما نزل بعد الهجرة ولو كان في غير المدينة.

وقيل ان علوم القرآن تتنظم : علم التفسير ، وعلم القراءات ، وعلم الرسم العثمانى ، وعلم إعجاز القرآن ، وعلم أسباب النزول ، وعلم الناسخ والمنسوخ ، وعلم إعراب القرآن ، وعلم غريب القرآن ، إلى غير ذلك. وقيل : علوم القرآن. ٧٧٤٥ علم ، على عدد كلمات القرآن ، مضروبة في أربعة ، لأن كل كلمة لها ظهر وبطن ، وحدّ ومطلع.

والقرآن كتاب هداية وإعجاز ، ولم ينزل ليدلل على نظرية ، ولا ليقرر قانونا علميا ، وان كان يدعو إلى تعلّم النظريات والقوانين والعلوم ، ويحثّ على استكناه الكون ، ومعرفة الأسباب فيه ، وصنائع الله وبدائعه ، ولذا كثر العلم فيه ، وكثر التنبيه إلى آيات الكون والإعجاز فيها ، والتدليل بالعقل والبرهان على صحة ما يقول ، واستخدام الحجاج والجدل والحوار ، فكان كلامه في ذلك إعجازا علميا وفلسفيا لا شك فيه. وعلوم القرآن موضوعها كل ذلك ، وتتعرف إلى ناحية من نواحيه ، وأول العلوم هو علم التفسير ، وهو أبو العلوم القرآنية ، ومن أوائل الكاتبين فيه : شعبة بن الحجاج ، وسفيان بن عيينة ، ووكيع بن الجرّاح في القرن الثانى الهجرى ، ثم ابن جرير الطبرى ، المتوفي سنة ٣١٠ ه‍ ، وكتابه من أجلّ التفاسير وأعظمها. وفي أسباب النزول ، كان في مقدمة المؤلفين : على بن المدينى ؛ وأبو عبيد القاسم بن سلام في الناسخ والمنسوخ ، وهذان من علماء القرن الثالث ؛ وفي غريب القرآن : أبو بكر السجستانى من علماء القرن الرابع ؛ وفي إعراب القرآن : علىّ بن سعيد الحوفي من علماء القرن الخامس ؛ وفي مبهمات القرآن : أبو القاسم عبد الرحمن ، المعروف بالسبيلى ، من علماء القرن السادس ، وفي مجاز القرآن : ابن عبد السلام ؛ وفي القراءات : علم الدين السخاوى من علماء القرن السابع. وفي القرن الثامن كان بدر الدين الزركشى ، ثم محمد بن سليمان الكافيجى في القرن التاسع ، والسيوطى في القرن العاشر ، وطاهر

٩

الجزائرى في القرن الرابع عشر ، ومن علماء عصرنا : محمد بخيت ، والعدوى ، ومحمد خلف الحسينى ، ومصطفي صادق الرافعى ، ومحمد مصطفي المراغى.

* * *

٢. أسماء القرآن

قيل أسماء القرآن كما وردت به في مواضعها منه خمسة وخمسون اسما ، سمّاه بها الله تعالى ، ومنها : كلام الله (التوبة ٦) ، والكتاب المبين (الدخان ٢) ، والقرآن الكريم (الواقعة ٧٧) ، والنور المبين (النساء ١٧٤) ، والهدى (لقمان ٣) ، والرحمة (يونس ٥٨) ، والفرقان (الفرقان ١) ، والشفاء (الإسراء ٨٢) ، والكتاب المنير (آل عمران ١٨٤) ، والكتاب المحكم (هود ١) ، والذكر (الأنبياء ٥٠) ، والعلىّ (الزخرف ٤١) ، والحكمة البالغة (القمر ٥) ، والكتاب الحكيم (يونس ٢) ، والكتاب المهيمن (المائدة ٤٨) ، والكتاب المبارك (ص ٢٩) ، وحبل الله (آل عمران ١٠٣) ، والصراط المستقيم (الأنعام ١٥٣) ، والكتاب القيم (الكهف ٢) ، والقول الفصل (الطارق ١٣) ، والنبأ العظيم (النبأ ٢) ، وأحسن الحديث (الزمر ٢) ، والتنزيل (الشعراء ١٩٢) ، والروح (الشورى ٥٢) ، والوحى (الأنبياء ٤٥) ، والمثانى (الحجر ٨٧) ، والقرآن العربى (الزمر ٢٨) ، والقول (القصص ٥١) ، والبصائر للناس (الجاثية ٢٠) ، والبيان (النساء ١٣٨) ، والعلم (الرعد ٣٧) ، والقصاص بالحق (آل عمران ٦٢) ، والهادى (الإسراء ٩) ، والقرآن العجيب (الجن ٢٩) ، والتذكرة (المدثر ٥٤) ، والعروة الوثقى (لقمان ٢٢) ، والكتاب المتشابه (الزمر ٢٣) ، والكتاب المفصّل (الأعراف ٥٢) ، والصدق (الزمر ٣٣) ، والعدل (الأنعام ١١٥) ، والإيمان (آل عمران ١٩٣) ، وأمر الله (الطلاق ٥) ، والبشرى (النمل ٢) ، والقرآن المجيد (البروج ٢١) ، والبشير النذير (فصلت ٤) ، والكتاب العزيز (فصلت ٤١) ، والبلاغ (إبراهيم ٥٢) والصحف المكرّمة المرفوعة المطهرة (عبس ١٣ / ١٤).

وقيل : لما جمع أبو بكر القرآن سمّوه المصحف وأخذوا بالاسم ، لأنه يصحّف الآيات والسور ، ولأنه مكتوب على صحائف ؛ وسمّوه كتابا لأنه يجمع الحروف لمعان وموضوعات وأحكام وقصص وآيات ؛ وقيل : سمّوه قرآنا ، لأنه جمع السور وأنواع العلوم ويسّرها للقراءة ، ولأنه يقرأ ويتلى. وقيل القرآن مشتق من قرنت الشيء بالشىء ، يعنى ضممته ، لقرآن السور والآيات والحروف فيه ؛ وسمّى النور ، لأنّه يبين الحلال من الحرام ؛ وسمّى البشير والنذير ، لأنه يبشّر بالجنة وينذر بالنار ، وهكذا في كل اسم.

* * *

١٠

٣. غريب القرآن

غريب القرآن : هو ما استغلق الإحاطة بمعانيه ، لقلة ما يعرف الباحث من موضوعات اللغة وحقائقها ، ففي سورة عبس ترد لفظة الأب ، كقوله : (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) (٣١) ، قال فيها عمر : الفاكهة وقد عرفناها ، فما الأب؟ فعاب عليه أبو بكر ، واعتبر سؤاله من التكلّف ، وقال : (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) (٧) (آل عمران) ، وقال : ما كلّفنا بهذا! ولم يكن ذلك عن جهل من عمر أو أبى بكر لمعنى الأب ولكنهما حارا في المعانى الكثيرة للكلمة ، فخشيا إن فسراها بمعنى ، أن يكون المراد غيره ، فلذلك اختلف المفسرون في معنى «الأب» إلى سبعة أقوال. وهذا نموذج لغريب القرآن ، وكانوا يتحرّون الشعر لأنه ديوان العرب ، فينظرون إن كانت الكلمة قد وردت عند أحد الشعراء من القدامى؟ والمفسّر للقرآن يحتاج إلى معرفة مدلول الغريب من القرآن ، ويقتضى ذلك معرفته للغات العرب. وكان الأصمعى ـ وهو إمام اللغة ـ يخشى التصدّى لغريب القرآن ولا يحاول تفسيره ، وسئل ما معنى : (شَغَفَها حُبًّا) (٣٠) (يوسف) فسكت ، ثم تذكر قولا لبعض العرب في جارية لقوم أرادوا بيعها ، أتبيعونها وهى لكم شغاف؟ ولم يزد على هذا ، ولهذا كان النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحثّ المسلمين على تعلّم إعراب القرآن ومعانى كلماته العربية.

* * *

٤. اختلاف المتكلمين عن الأصوليين في تعريف القرآن

الخلاف بين الاثنين ظاهرى ، فالمتكلمون ـ بما أنهم متكلمون ـ فقد اهتموا بالكلام القرآنى من ناحيته النفسية أو الذهنية أو الباطنية ، أى قبل أن يخرج كلاما على الحقيقة. ومن الكلام من هذا النوع النفسى في الحديث عن أم سلمة ، قول الرجل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنى لأحدّث نفسى بالشىء لو تكلمت به لأحبطت أجرى» ، فقال له النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يلقى ذلك الكلام إلا مؤمن». رواه الطبرانى. والنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمّاه كلاما مع أن الرجل لم ينطق به ، وإنما هو حديث نفسى ، أو خواطر ذهنية باطنية لم ترق أن تكون كلاما منطوقا ، وقد جاء عن المتكلمين أنهم اعتبروا كلام القرآن قديما ، وغير مخلوق ، ومنزّه عن الأعراض ، وأزليا ، وليس مجرد ألفاظ متراتبة ، مصورة الحروف والأصوات ، وإنما كان من أول الفاتحة إلى آخر سورة الناس كلمات حكمية ، أى قديمة قدم الله سبحانه وتعالى ، فلأنه تعالى قديم فكلامه كذلك قديم وليس حادثا ، وقولهم ذلك لأنهم اعتقدوا أن مذهبهم ينزّه الله تعالى ولا يفصل صفاته عنه ، فهو تعالى لم يتصف بصفاته من يوم أن مورست هذه الصفات ، ولكنها صفات قديمة فيه ، فالصفات هى عين الذات ، والذات هى الصفات.

١١

وأما الأصوليون فكان اهتمامهم بالأحكام والاستدلال عليها ، وطريق ذلك الألفاظ ، واهتم علماء اللغة بها كدليل على إعجاز القرآن ، ولإثبات نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإثبات أن القرآن معجزة اختص بها ، ولو لم يكن نبيا ما كان القرآن الذى أتى به معجزة ، فأبانوا وأفصحوا عن أن القرآن هو كتاب الله لا نزاع في ذلك.

* * *

٥. كتابة القرآن

يقول ابن عباس : كان رسول الله إذا نزلت عليه سورة دعا بعض من يكتب فقال : «ضعوا هذه السورة في الموضوع الذى يذكر فيه كذا وكذا». يعنى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم اتخذ كتّابا للوحى ، فكلما نزل عليه شىء من القرآن أملاه عليهم ليسجلوه توثيقا وضبطا ، لتظاهر الكتابة الحفظ لآيات القرآن ، وليكون النقش مؤيدا للفظ. ومن هؤلاء الكتاب : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلىّ ، ومعاوية ، وإياس بن سعيد ، وخالد بن الوليد ، وأبىّ بن كعب ، وزيد بن ثابت ، وثابت بن قيس ، وأرقم بن أبىّ ، وحنظلة بن الربيع.

وكان يدلهم على موضع ما يمليه عليهم من السورة التى يتبعها ، فيكتبونه على العسب جريد النخل ، وكانوا يكشفون الخصوص ويكتبون في الطرف العريض ، واللّخاف جمع لخفة وهى الحجارة الرقيقة المبسوطة كالصحيفة ، والرقاع جمع رقعة ، وقد تكون من جلد أو ورق عريض ، وقطع الأديم وهو جلد الحيوان المدبوغ والمبسوط ، وعظام الأكتاف والأضلاع ـ وعظم الكنف والضلع هو أعرض عظام الحيوانات ، وكانوا يختارون عظام أكتاف الجمال بخاصة ، لعرضها أكثر من غيرها. ثم يحفظ المكتوب في بيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعن زيد بن ثابت قال : «كنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نؤلف القرآن من الرقاع» ، أى يؤلفون بين الآيات بحسب ما يقول عن الوحى ، وكان من الصحابة من يكتب لنفسه ، ومنهم من يعتمد على الحفظ. وكانت هذه العبارة دائما في فم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند كل نزول للوحى : «ائتوني بالكتف والدواة».

* * *

٦. رسم المصحف

الأصل في الكتابة أن يجيء المكتوب موافقا للمنطوق ، غير أن عثمان اتبع قواعد في رسم القرآن وحفظه وخطّه بحيث أتت بعض الكلمات على غير مقياس لفظها ، وهذه القواعد ست ، هى : الحذف ، والزيادة ، والهمز ، والفصل ، والوصل ، وما فيه قراءتان جعلت قراءته على أحدهما.

١٢

فأما الحذف : كأن تحذف الألف من حرف النداء مثل : «يأيها الناس» ، ومن «ها» ، مثل «هأنتم» ، ومن اسمه تعالى «الله» ، و «إله» و «الرحمن» ، و «سبحن» ؛ ومن كل عدد ، مثل «ثلث» يعنى «ثلاث» ، ومن البسملة عموما وهكذا. وتحذف الياء من كل منقوص منون ، نحو «غير باغ ولا عاد». ومن ذلك حذف الواو مثل «لا يستون» (لا يستوون) ، واللام نحو «اليل» (الليل) ، والألف من مالك لتصبح «ملك» ، والياء من إبراهيم لتصبح إبراهم.

وأما الزيادة : فتزاد الألف بعد الواو في آخر الجمع ، مثل : ملاقوا ربّهم ، وأولوا الألباب ؛ وبعد الهمزة : نحو «تالله تفتأ» فتصبح «تالله تفتؤا» ، وفي كلمات مثل «مائة» و «مائتين» وهكذا ، وتزاد الياء في كلمات ، مثل «نبأ» فتصبح «نبإى» ، وآناء فتصبح «آناء» ، وهكذا.

وأما الهمزة : فإذا كانت ساكنة تكتب بحذف حركة ما قبلها ، نحو «ائذن» ، و «البأساء» ؛ والهمزة المطلقة إذا كانت في الأول تكتب ألفا ، نحو : «أيوب» ، و «أولوا» ؛ وإن كانت وسطا تكتب من جنس حركتها ، نحو : «سأل» ، و «سئل» ؛ وإن كانت متطرفة تكتب بحركة من جنس ما قبلها ، نحو «سبأ» ، و «شاطئ».

وأما البدل : فهو أن تكتب الألف واوا للتفخيم ، مثل «الصلاة» بدلا من الصلاة ، و «الزكوة» بدلا من الزكاة ، و «الحيوة» بدلا من الحياة. وكذلك ترسم الألف ياء في الكلمات : إلى ، وعلى ، وأنّى ، ومتى ، وبلى ، ولدى. وترسم النون ألفا في كلمة «إذن» فتصبح «إذا» ، وهاء التأنيث ، مثل «رحمة» تصبح «رحمت» بتاء مفتوحة ، و «نعمة» تصبح «نعمت».

وأما الوصل والفصل : فإذا جاءت «لا» بعد «أن» توصل بها ، إلا في عشرة مواضع مثل : أن لا تقولوا ، وأن لا تعبدوا وهكذا. وتوصل كلمة «من» بكلمة «ما» بعدها ، إلا في «من ما ملكت» ، و «من ما رزقناكم». وكلمة «من» توصل بكلمة «من» مطلقا ، و «عن» و «ما» ، و «إن» و «ما» ، و «كل» و «ما» ، وهكذا ، إلا في حالات.

وما فيه قراءتان : فتكتب الكلمة برسم إحدى القراءتين إذا كانت الكلمة لها قراءتان ، كالكلمات الآتية «ملك (مالك) يوم الدين» ، و «يخدعون الله» (يخادعون الله) ، و «وعدنا موسى» (واعدنا).

ولهذا الرسم مزايا أنه يصلح للقراءة بالوجوه الأربعة عند نافع ، وابن كثير ، وحفص ، وابن عمرو ؛ فعند نافع يشددون إن ويخففون الألف في «هذان» ؛ وعند ابن كثير تخفف

١٣

النون في «إن» ، وتشدّد في «هذان» ، وفي قراءة حفص تخفف النون في «إنّ» وفي «هذان» بالألف ؛ وفي قراءة ابن عمرو تشدد «إن» وتخفف النون في «هذين».

* * *

٧. هل رسم المصحف توقيفي أم اصطلاحى؟

هو اصطلاحى وإن كان البعض قالوا إنه توقيفي ، بدليل حديث النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمعاوية وهو من كتبة الوحى : «ألق الدواة (يعنى أصلح مدادها) ، وحرّف القلم (يعنى رفّع سنّه) ، وانصب الباء ، وفرّق السين ، ولا تعوّر الميم ، وحسّن الله ، ومدّ الرحمن ، وجوّد الرحيم ، وضع قلمك على أذنك اليسرى فإنه أذكر لك» ، إلا أن الحديث ليس للرسم وإنما لتجويد الخط ، ولا شك أن الرسم العثمانى الآن مدعاة للبس في القراءة ، والإجماع على أنه تجوز مخالفته ، ولم يحدث أن اصطلح الصحابة على هذا الرسم ، والمصحف الآن يجب كما يقول العزّ بن عبد السلام : أن يكتب لعامة الناس باصطلاحات معروفة لهم ، وشائعة عندهم ، ولا تجوز كتابته بالرسم العثمانى. (انظر أيضا عن اللحن في القرآن ضمن باب «الإسرائيليات والشبهات والإشكالات في القرآن).

* * *

٨. توقيفية قراءة القرآن

في الحديث عند البخارى ، أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنزل القرآن على سبعة أحرف ، كلها شاف كاف ، فاقرءوه كيف شئتم». والأحرف : هى القراءات التى يتوجب قراءة القرآن بها ، وهى بوحى من الله إلى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي الاصطلاح : هى قراءات توقيفية ، منصوص عليها من الله تعالى بطريق نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والصحابة وقفوا عند الألفاظ المنزّلة ولم يتجاوزوها ، ولم يقرأ كل واحد منهم بحسب هواه ، ولكنهم كانوا يردّون ويصوّبون بعضهم البعض ، حتى أنه كادت تحدث بسبب ذلك فتنة أثناء غزوة أرمينية ، وشهدها حذيفة بن اليمان ، فجاء إلى عثمان يحذّره وقال : إن الناس قد اختلفوا في القرآن ، حتى أنى والله لأخشى أن يصيبهم ما أصاب اليهود والنصارى من الاختلاف!

والاختلاف كان منذ عهد النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي الرواية عند البخارى ومسلم وغيرهما ، أن عمر بن الخطاب قال : سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاستمعت لقراءته ، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكدت أساوره في الصلاة (يعنى أثب عليه) ، فتصبّرت حتى سلّم ، فلببته بردائه (أى أخذته من طوق ردائه) ، فقلت : من أقرأك هذه السورة التى سمعتك تقرأ؟ قال : أقرأنيها رسول

١٤

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقلت : كذبت! فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أقرأنيها على غير ما أقرأك!. فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقلت : يا رسول الله! إنى سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حرف لم تقرأنيها؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أرسله» (يعنى أطلقه). وقال له : «اقرأ يا هشام». فقرأ عليه القراءة التى سمعته يقرؤها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وكذلك أنزلت». ثم قال لى : «اقرأ يا عمر»! فقرأت القراءة التى أقرأنيها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وكذلك أنزلت». وقال : إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ، فاقرءوا ما تيسّر منه». وفي رواية قال : «فأى ذلك قرأتم أصبتم.» وفي رواية قال : «كلها» أى الأحرف السبعة «كاف شاف». فكأن هناك إذن أكثر من قراءة ، ويشرح ذلك النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقول في الحديث عن ابن عباس عند البخارى : «اقرأنى جبريل على حرف ، فراجعته ، فلم أزل أستزيده ويزيدنى حتى انتهى إلى سبعة أحرف». وفي رواية قال : «الله يأمرك أن تقرأ أمتك على سبعة أحرف ، فأيّما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا».

ومفاد كل هذه الأحاديث : أن القراءات ليست على هوى أىّ كيف شاء ، فيغيّر في ألفاظ القرآن ، ويبدّل فيها بمرادفها في لغته إذا أحب ذلك أو ارتآه ، وينزع منه لفظة هنا أو هناك ، ليضع مكانها لفظة أخرى من لغته ، ظنا منه أنه بذلك يجعل القرآن مفهوما أكثر عند قومه ، أو أنه ييسر بها نطق الكلمات ، أو يزيد من بلاغة العبارات ، وإنما الأحرف السبعة قراءات ثابتة ومتواترة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تعلّمها من جبريل ، وعلّمها لصحابته ، وتلقيناها عليهم ، ولا خلاف في صحتها ، وهى كما أنزلها الله على نبيّه ، ولم يكن للهوى فيها نصيب ، وتوارثناها عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأجمعت عليها الأمة.

ومن ثم يتبين كذب المستشرقين وأهل الكتاب ، بأن المسلمين الأوائل قبل عثمان ، كانوا يقرءون القرآن بحرية وعلى هواهم ، وكانوا يغيّرون في الألفاظ كيف يشاءون ، طالما أنهم يحافظون على المعنى أو الفكرة! والعكس هو الصحيح ، فكل مسلم كان يقرأ سابقا ـ وما يزال المسلمون يقرءون للآن ـ على نفس المنوال الذى علّمهم النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويحذون في قراءاتهم حذو المشايخ ، ولديهم دليل للقراءات في كل مصحف ، ولا سبيل إلى الخطأ طالما أنهم يعرفون ما عليهم أن يفعلوه لتسلم قراءاتهم ، ولتخلو من اللحن ، وليصحّ فهمهم ، فيبلّغ به الواعى منهم غير الواعى ، يتأسّون ببعضهم البعض ، وقانا الله شر الخطأ وبلية النسيان ، ويساعد على ذلك رسم المصحف العثمانى ، وهو الرسم المتفق عليه بإجماع الأمة ، فيكون من الأمور التوقيفية في القراءات ، وكانت كتابة حروف القرآن بهذه الطريقة نفسها في عهد النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان كتّابه يسجّلون ما يبلّغهم أولا بأول ، وكان يرشدهم على

١٥

موضع المكتوب من السورة فيقول لهم : ضعوا هذه السورة بجانب تلك السورة ، وضعوا هذه الآية في الموضع الذى يذكر فيه كذا وكذا ، وقبل وفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عرض القرآن كاملا على جبريل مرتين. فلما أمر عثمان بكتابته ، واستقر ذلك في العرضة الأخيرة ، كان هناك عدد من المصاحف بحسب عدد من ساعدوا عثمان على إتمام هذا العمل ، وكان منهم زيد بن ثابت ، وعبد الله بن الزبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وقيل في أصح الأقوال أن عدد المصاحف كان ستة ، هى : المصحف البصرى ، والكوفي ، والشامى ، والمكّى ، والمدنى العام ، والمدنى الخاص ، والأخير هو الذى اختص عثمان به نفسه ، ويسمى المصحف الإمام ، واشتمل مصحفه على ما يحتمله رسم الألفاظ من الأحرف السبعة ، خالية من النقط والشكل ، فكان الرسم لذلك محتملا للأحرف السبعة. ولما سمع أبو الأسود الدؤلى رجلا يقرأ قوله تعالى : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) (التوبة ٣) ، فجرّ اللام في رسوله ، قال أبو الأسود : معاذ الله أن يتبرأ الله من رسوله! فبدأ أبو الأسود في إعراب القرآن ، بوضع نقط يخالف مدادها مداد المصحف ، وجعل للفتحة نقطة فوق الحرف ، وللضمة نقطة إلى جانب الحرف ، وللكسرة نقطة أسفل الحرف ، وجعل للمنوّن نقطتين متجاورتين ؛ ثم أدخلت التحسينات على هذا التنقيط الإعرابى ، وأجريت عليه التعديلات حتى صار إلى ما صار إليه الآن ؛ ثم وضع نصر بن عاصم ، ويحيى بن يعمر ، نقط الإعجام كطلب الحجّاج ، بناء على أوامر الخليفة عبد الملك بن مروان ، لضمان سلامة القرآن من التحريف والتغيير ؛ ثم غيّر الخليل بن أحمد طريقة النقط وطوّر فيها ، فجعل الضمة واوا صغيرة فوق الحرف ، والفتحة ألفا صغيرة مبطوحة فوق الحرف ، والكسرة ياء صغيرة تحت الحرف ، وجعل الشدّة علامة رأس الشين ، والسكون علامة رأس الخاء ، وعلامة للمد ، وعلامة للرّوم والإشمام ، واستمرت التحسينات على ذلك إلى أن صار الحال على ما نراه الآن. فأين هذا الاضطراب ، أو التردّى ، أو اختلاف الروايات الذى ينسب إلى كتابة القرآن؟ وأين الحق فيما زعموا أن أبا بكر وعمر وعثمان والصحابة حرّفوا القرآن ، وحذفوا منه كلمات وسورا؟ والحق ما قاله واحد منهم ـ وهو سير وليام موير ، قال : والأرجح أن العالم كله ليس فيه كتاب غير القرآن ظل اثنى عشر قرنا بنصّ هذا مبلغ صفاته ودقّته.

* * *

٩. الاختلافات في القراءة

في الحديث عن ابن عباس صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض ، فإن ذلك يوقع الشك في قلوبكم» ، فقد يختصم المسلمان ويستشهد كل منهما بآيات ، فيبدو كما لو أن

١٦

القرآن يخالف بعضه بعضا. وعند البخارى بطريق جندب بن عبد الله ، عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اقرءوا القرآن ما ائتلفت قلوبكم ، فإذا اختلفتم فقوموا عنه».

وقد نهى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن التمادى في الاختلاف ، لما يمكن أن يجرّه من الشر ، كما في قوله تعالى (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (١٠١) (المائدة) ، والمسلمون مطالبون على ذلك بأن يقرءوا ويلزموا الائتلاف ، في الأداء وفي المعنى ، فإذا وقع الاختلاف ، أو عرض عارض شبهة يقتضى المنازعة الداعية إلى الافتراق ، يتركون القراءة ، ويتمسكون بالمحكم الموجب للألفة ، ويعرضون عن المتشابه المؤدى إلى الفرقة ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فإذا رأيتم الذين يتّبعون ما تشابه منه فاحذروهم». وعند البخارى عن ابن مسعود أنه سمع رجلا يقرأ آية سمع النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ خلافها ، قال : فأخذت بيده ، فانطلقت به إلى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «كلاكما محسن ، فاقرءا ، فإن من كان قبلكم اختلفوا فأهلكهم».

والمختلفون إذن ينبغى أن يتفرقوا إخوانا ، ويستمر كل منهم مع ذلك على قراءته.

والاختلاف عن حق فيه خير ، وهو سعة للمسلمين. والأولى أن نحذر الفرقة لاختلاف الرأى ، وأن نلزم الجماعة والألفة ، وأن نتوسل بالنظر ، وندقق في الآية المختلف بشأنها ، ونتجنب اللجاج في التأويل وحمل القرآن على الرأى.

* * *

١٠. القرآن نزل على سبعة أحرف

في الحديث : «أن القرآن أنزل على سبعة أحرف ، كلها شاف كاف» ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أقرأه جبريل القرآن ، اقرأه على حروف ، فظل يستزيده تيسيرا على الأمة ، حتى انتهى إلى سبعة أحرف. ولقد أرسل النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أمة أمّية ، فيهم الرجل ، والمرأة ، والجارية ، والشيخ الفانى الذى لم يقرأ كتابا ، والعجوز الكبيرة ، والغلام ، وما كانوا يطيقون ذلك لو قرءوا القرآن على أقل من سبعة أحرف ، والمقصود أن الأمّة بينها اختلاف في اللهجات والأصوات ، وطريقة الكلام ، وشهرة نطق بعض الألفاظ والتراكيب ، فلو أن القرآن قرئ بطريقة واحدة ونطق واحد ، لشقّ ذلك على الناس. وكانت الديانات قبل الإسلام تقرأ بحرف واحد ، لأن من نزلت عليهم كانوا أقواما مخصوصين ، وأما أمة الإسلام ففيهم العرب والعجم ، فلو كلّف الجميع أن يعدلوا عن لهجاتهم ، لكان في ذلك تكليفهم بأكثر مما في استطاعتهم ، فتنوعت لذلك القراءات ، وتنوّعها كان ضربا من البلاغة ، وذلك لأن القراءات على كثرتها لم تؤد إلى تناقض في المقروء ، ولا إلى تهافت في المعنى ، ولكنها صارت تصدّق بعضها بعضا ، وتبيّن بعضها بعضا ، وتشهد لبعضها البعض ، ودلّ ذلك أنه مهما تنوعت القراءات فإن الإعجاز واحد على كل حرف ووجه ولسان ، وأيّما حرف قرءوا

١٧

عليه فقد أصابوا ، وأنها جميعا من عند الله ، فهكذا قصد من إنزالها ، فلا ينبغى لأحد أن يمنع آخرين من أن يقرءوا بأى حرف من الأحرف السبعة ، وأن المراد بالأحرف وجوه فى الألفاظ ، كأن نقرأ الآية : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) (٨) (المؤمنون) ، مرة نقول لأماناتهم ، ومرة لأمانتهم ؛ أو نقرأ الآية : (رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) (١٩) (سبأ) مرة بنصب لفظ «ربّنا» منادى ، ولفظ «باعد» فعل أمر ، ومرة نضم اللفظ باعتباره دعاء فنقول «ربّنا» ، و «بعّد» بدلا من «باعد». وقيل الأوجه السبعة التى يقع بها التغاير فى القراءة هى : أولا : تغيير الحركة مثل «ولا يضار كاتب» (البقرة ٢٨٢) مرة بفتح الراء ، ومرة بضمها ؛ وثانيا : تغيير الفعل مثل «بعّد» و «باعد» ؛ وثالثا : تغيير اللفظ مثل : «ننشزها» ، و «ننشرها» فى الآية ٢٥٩ من سورة البقرة ؛ ورابعا : تغيير حرف مثل «طلح منضود» ، نغيرها «طلع منضود» الآية ٢٩ من سورة الواقعة ؛ وخامسا : تغيير التقديم والتأخير ، مثل : «وجاءت سكرة الموت بالحق» ، و «وجاءت سكرة الحق بالموت» الآية ١٩ من سورة ق ؛ وسادسا : تغيير بالزيادة والنقصان ، مثل «وما خلق الذكر والأنثى» «والذكر والأنثى» بنقص لفظ «ما خلق» الآية ٣ سورة الليل ؛ وسابعا : تغيير بإبدال كلمة بأخرى مثل «كالعهن المنفوش» و «كالصوف المنفوش» الآية ٥ من سورة القارعة .. إلخ. وتشتمل المصاحف العثمانية على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة جميعها ، وقيل المراد بالأحرف السبعة سبع لغات من لغات العرب ، أى أن القرآن لم تخرج قراءته عن إحدى هذه اللغات السبع من لغات العرب ، وهى : لغات قريش ، وهذيل ، وثقيف ، وهوازن ، وكنانة ، وتميم ، واليمن ، وهى أفصح لغات العرب ، ولا يفهم أن كل كلمة فى القرآن تقرأ بسبع طرق أو لغات ، وإنما أن اللغات السبع مفرّقة فى القرآن ، فبعضه بلغة قريش ، وستجد فيه من لغة هذيل ، ومن اللغات الأخرى ، فمثلا لفظ «سامدون» (النجم ٦١) هى لفظة حميرية ؛ و «خمرا» (يوسف ٣٦) لفظة عمانية ؛ و «بعلا» (الصافات ١٢٥) أى ربّا بلغة أزد شنوءة ؛ و «لا يلتكم» (الحجرات ١٤) أى لا ينقصكم بلغة بنى عبس ؛ و «فباءوا» (البقرة ٦١) بلغة جرهم ؛ و «رفث» (البقرة ١٩٧) بلغة مذجح ؛ و «تسيمون» (النحل ١٠) بلغة خثعم إلخ ، حتى قيل إن فى القرآن قراءات من أربعين لغة عربية ، هى لغات : قريش ، وهذيل ، وكنانة ، وخثعم ، والخزرج ، وأشعر ، ونمير ، وقيس عيلان ، وجرهم ، واليمن ، وأزد شنوءة ، وكندة ، وتميم ، وحمير ، ومدين ، ولخم ، وسعد العشيرة ، وحضر موت ، وسدوس ، والعمالقة ، وأنمار ، وغسّان ، ومذجح ، وخزاعة ، وغطفان ، وسبأ ، وعمان ، وبنو حنيفة ، وثعلب ، وطىّ ، وعامر بن صعصعة ، وأوس ، ومزينة ، وثقيف ، وجذام ، وبلىّ ، وعذرة ، وهوازن ، والنّمر ، واليمامة.

* * *

١٨

١١. السور التى نزلت بكل من مكة والمدينة

السور التى نزلت بالمدينة من القرآن بحسب المصحف هى : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنفال ، وبراءة ، والرعد ، والحج ، والنور ، والأحزاب ، ومحمد ، والفتح ، والحجرات ، والرحمن ، والحديد ، والمجادلة ، والحشر ، والممتحنة ، والصف ، والجمعة ، والمنافقون ، والتغابن ، والطلاق ، والتحريم ، والإنسان ، والبيّنة ، والزلزلة ، والنصر ، وعدد هذه السور المدنية ٢٨ سورة ؛ وعدد السور المكية ٨٦ سورة ، وهى : الفاتحة ، والأنعام ، والأعراف ، ويونس ، وهود ، ويوسف ، وإبراهيم ، والحجر ، والنحل ، والإسراء ، والكهف ، ومريم ، وطه ، والأنبياء ، والفرقان ، والشعراء ، والنمل ، والقصص ، والعنكبوت ، والروم ، ولقمان ، والسجدة ، وسبأ ، وفاطر ، ويس ، والصافات ، وص ، والزمر ، وغافر ، وفصلّت ، والشورى ، والزخرف ، والدخان ، والجاثية ، والأحقاف ، وق ، والزمر ، وغافر ، وفصلّت ، والشورى ، والزخرف ، والدخان ، والجاثية ، والأحقاف ، وق ، والذاريات ، والطور ، والنجم ، والقمر ، والواقعة ، والملك ، والقلم ، والحاقة ، والمعارج ، ونوح ، والجن ، والمزمل ، والمدثر ، والقيامة ، والمرسلات ، والنبأ ، والنازعات ، وعبس ، والكوثر ، والتكوير ، والانفطار ، والمطففين ، والانشقاق ، والبروج ، والطارق ، والأعلى ، والغاشية ، والفجر ، والبلد ، والشمس ، والليل ، والضحى ، والشرح ، والتين ، والعلق ، والقدر ، والعاديات ، والقارعة ، والتكاثر ، والعصر ، والهمزة ، والفيل ، وقريش ، والماعون ، والكوثر ، والكافرون ، والمسد ، والإخلاص ، والفلق ، والناس.

وقيل : السور المدنية بالاتفاق عشرون ، والمختلف فيها اثنتا عشرة سورة ، والمكية اثنتان وثمانون سورة ، فيصير المجموع مائة وأربع عشرة سورة ؛ وقيل : السور المدنية منها بالاتفاق هى : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنفال ، والتوبة ، والنور ، والأحزاب ، ومحمد ، والفتح ، والحجرات ، والحديد ، والمجادلة ، والحشر ، والممتحنة ، والجمعة ، والمنافقين ، والتغابن ، والطلاق ، والتحريم ، والنصر. والمختلف فيها هى : الفاتحة ، والرعد ، والرحمن ، والصف ، والتغابن ، والتطفيف ، والقدر ، والبينة ، والزلزلة ، والإخلاص ، والمعوذتان.

وقد تكون السورة كلها مكية أو مدنية ، أو مكية ما عدا آيات منها ، مثل الأعراف ، فإن آياتها من ١٦٣ حتى ١٧٠ مدنية ، والمائدة مدنية إلا الآية ٣ منها نزلت بعرفات ، وسورة طه مكية ، إلا الآيتين ١٣٠ ، ١٣١ وهكذا ، فإذا غلبت فى السورة الآيات المكية فإنها تدرج مكية ، وإذا غلبت الآيات المدنية تدرج كسورة مدنية.

ومن أشرف علوم القرآن علم نزول الآيات وجهات النزول ، وما نزل بمكة فحكمه

١٩

مكى ، وما نزل بالمدينة فحكمة مدنى ، ويتضمن كذلك ما نزل بغيرهما : كبيت المقدس ، والطائف ، والحديبية ، والجحفة ، ومنى ، وعرفات ، وعسفان ، وبدر ، وأحد ، وحراء ، وحمراء الأسد ؛ وما نزل ليلا وما نزل نهارا ؛ وما نزل مجملا أو مفصلا ؛ وما اختلفوا فيه أنه مكى أو مدنى. وتتميز السور المكية عموما بأنها تقرر لأصول الدعوة ، من توحيد لله ، وتقرير للبعث والجزاء ، وللوحى والرسالة ، وأحوال يوم القيامة ؛ وأما السور المدنية فتعنى عموما بجوانب التشريع ، وبالغزوات ، والجهاد فى سبيل الله ، وتعالج النواحى الحربية ، وما ينبغى على المسلمين فى قتال أعدائهم ، وجوانب السلم والحرب ، وأحكام الأسر والغنائم ، والتربية ، وبناء المجتمع على العقيدة والخلق ؛ وعموما فإن الآيات التى فيها حدّ أو فريضة فهى مدنية ، والتى فيها ذكر للأمم والعذاب فإنها مكية.

* * *

٢٠