موسوعة القرآن العظيم - ج ٢

دكتور عبد المنعم الحفني

موسوعة القرآن العظيم - ج ٢

المؤلف:

دكتور عبد المنعم الحفني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
ISBN: 977-208-422-2
الصفحات: ١٢٤٤
الجزء ١ الجزء ٢

إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) (البقرة ٢٨٦) ، وفى الحديث عن عائشة : «لا طلاق فى غلاق» ، والغلاق والإغلاق هو الغضب ، ومنه الطلاق على غيظ ، والطلاق عن إكراه ، وفى الآية : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) (١٠٦) (النحل) وضع الله تعالى الكفر عمّن تلفّظ به حال الإكراه ، وأسقط عنه أحكام الكفر ، فكذلك يسقط عن المكره ما دون الكفر ، لأن الأعظم إذا سقط سقط ما هو دونه بطريق الأولى. وفى الآية : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) (النساء ٤٣) أن السكران ، والمجنون ، والشاك ، والمخطئ ، والغالط ، والناسى ، لا يعلمون بالتأكيد ما يقولون ، وطلاقهم لا يقع.

وطلاق كل قوم بلسانهم ، أى أن الفارسى إذا طلّق بالفارسية جائز ، والإنجليزى بالإنجليزية وهكذا. وعن ابن عباس : «الطلاق عن وطر» ، أى أن من يلجأ إلى الطلاق إنما يلجأ إليه عن حاجة ، يعنى أن يستبين أنه لم تعد ثمة سبيل إلا الطلاق. و «الطلاق المشروط» ـ يعنى أن يقول : إن فعلت كذا طلّقت ـ وإن لم ينو الطلاق حين أوقع يمينه فلا طلاق ، وكل امرئ وما نوى ، فإن كانت نيته مع الطلاق فهو ما نوى. والأمر إذن فيه سعة على المسلمين ، وليس من ذلك شىء البتة لا فى اليهودية ولا فى النصرانية ، ولم أعثر على شىء من أى من ذلك فى التوراة ولا فى الأناجيل ورسائل الرسل. وحسبنا الله ، فلله الحمد والمنّة.

* * *

١٧٧٠ ـ لا يقول المسلم لامرأته يا أختى

فى التوراة أن إبراهيم لمّا ارتحل إلى الجنوب وأقام بين قادش وآشور ، قال عن سارة امرأته : هى أختى ، فبعث ملك جيرار فأخذ سارة ، ثم إنه رأى حلما فسارع إلى إبراهيم يعتب عليه ما كان سيرتكب من الإثم ، وسأله لم فعلت ذلك؟ قال : إنه ظن أنه ليس فى هذا المكان خوف من الله فيقتلوه بسبب امرأته ، ثم إنها على الحقيقة أختى ابنة أبى ، غير أنها ليست ابنة أمى ، فصارت امرأة لى» «التكوين ٢٠ / ١ ـ ١٢). والقصة التى تسوقها التوراة فيها خوف إبراهيم ، لأن المتزوجة فى زمنه كانوا يغتصبونها من زوجها إذا رغبوا فيها ، بخلاف الخليّة ، فكانوا لا يقربونها إلا بخطبة ، فاضطر إبراهيم لذلك أن ينسب زوجته إليه كأخته ، وأوضح ذلك للملك من بعد بأنها أخته من الأب ، وكان من الجائز فى زمنه أن يتزوج الرجل أخته من الأب. ولكن فى الرواية عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «قال إبراهيم لسارة هذه أختى ، وذلك فى ذات الله» ، أى أن الأخوة ليست كما ذكرت التوراة ، أن إبراهيم أخوها من الأب ، بل لأنه أخوها فى الله ، فصحّح النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قصة التوراة. وفى الإسلام لا يجوز

٨٤١

أن يقول الرجل عن زوجته أنها أخته ، وفى رواية عبد الرزاق من طريق أبى تميمة الهجينى قال : مرّ النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على رجل يقول لامرأته يا أخيّة فزجره» ، ينبّه إلى أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أن نجتنب هذا اللفظ المشكل حتى لا يكون القول به كما فى الظهار ، فتحرم المرأة به على زوجها. وأما إذا قال القائل عن امرأته أنها أخته وقصد إلى أنها كذلك فى ودّهها وصحبتها الطيبة معه ، ومعاشرتها الحسنة له ، فلا شىء فى ذلك وأيضا لا يضر المكره أن يقول عن امرأته أنها أخته كما فى القصة عن إبراهيم ، يقصد بالأخوّة أخوّة الدين ، فلخوف إبراهيم على سارة قال إنها أخته وتأوّل أخوّة الدين.

* * *

١٧٧١ ـ لا طلاق إلا بعد نكاح

فى الآية : (إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) (٤٩) (الأحزاب) عقب الله تعالى النكاح بالطلاق ، وأطلق على العقد وحده اسم النكاح ، وليس فى القرآن آية أصرح من هذه الآية فى تخصيص النكاح للعقد لقوله : «من قبل أن تمسّوهنّ» ، والآية دليل على إمكان وقوع الطلاق قبل الدخول ، ولا يقع طلاق إلا إذا كان هناك نكاح ، أى عقد ، ويفسّر ذلك الحديث : «لا طلاق لابن آدم فيما لا يملك» أخرجه أحمد وأبو داود والترمذى وابن ماجة ، والحديث : «لا طلاق قبل النكاح» أخرجه ابن ماجة. فكيف تطلّق وأنت لم تتزوج؟ وعن ابن عباس قال : جعل الله الطلاق بعد النكاح. يعنى بعد العقد ؛ وفى رواية أبى ذرّ قال : لا طلاق قبل نكاح. وسئل ابن عباس عن الرجل يقول : إذا تزوجت فلانة فهى طالق؟ قال : ليس بشيء ، إنما الطلاق لما ملك. وسئل عن الرجل يقول : كل امرأة أتزوجها فهى طالق؟ قال : ليس بشيء» ، فالطلاق فى الإسلام حقّ يملكه الزوج ، فإذا لم يكن زوجا ، فأى شىء يملكه حتى يتصرف فيه؟ والأصل فى الطلاق أن يكون للمنكوحة المقيدة بقيد النكاح ، وليس للمخطوبة ، فالخطبة ليست نكاحا ولا هى من ثم عقدا.

* * *

١٧٧٢ ـ ليس بشيء أن يقول المسلم لزوجته أنت علىّ حرام

فى الأثر عن سعيد بن جبير أن رجلا جاء إلى ابن عباس قال : إنى جعلت امرأتى علىّ حراما؟ فقال ابن عباس : كذبت ، ما هى حرام! ثم تلا : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) (التحريم ١). وأصل هذه الآية كما يقول أنس بإخراج النسائى : أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت له أمة يطؤها ، فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرّمها ، فأنزل الله تعالى هذه الآية يلغى بها هذا التحريم ـ فقول الرجل لامرأته «أنت علىّ حرام» لهو ، وإنما تلزمه كفّارة يمين إن حلف. وعن ابن عباس برواية سعيد بن جبير قال : إذا حرّم الرجل امرأته ليس بشيء. وابن عباس جعل الكفّارة بحسب الوسع.

* * *

٨٤٢

١٧٧٣ ـ الطلاق كالزواج لا يجوز إلا أمام قاض

الطلاق كالزواج يحتاج لشهادة الشهود وللتوثيق ، وأيّما طلاق لم يشهد عليه ولم يوثّق فهو باطل ولغو. وفى الديون مهما قلّت تجب الشهادة عليها وأن تكتب ، فالأولى أن يكتب الطلاق ويستشهد عليه. وكما فى الديون تجب شهادة اثنين ذوى عدل فكذلك الطلاق. وفى زماننا صار من المعتاد أن ينطق الرجل بألفاظ الطلاق لغلبة الطلاق الشفاهى على الطلاق المحرّر قبل أن تنظّم الدولة وتسن القوانين وتصبح للأحوال الشخصية لوائح. والطلاق البدعى هو الذى يكون بين الرجل وزوجته ولا يستشهد عليه ولا يوثّق. والطلاق كالزواج كلاهما علم له العارفون به ، ومن ثم يجب عند الطلاق الرجوع إلى صاحب العلم فيه وهو قاضى الأحوال الشخصية ، أو قاضى الأسرة ولما طلّق ابن عمر امرأته النّوار طلاقا بدعيا وهى حائض ، أمره الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يراجعها وينتظر حتى تطهر ولا يجامعها ثم يطلقها بشهادة شاهدين ، وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو القاضى فى هذه المسألة ، فعلّمنا أن القاضى ضرورى فى مسائل الطلاق كضرورته فى مسائل الزواج. وفى الآية : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) (١) (الطلاق) العدّة هى الطهر ، فإذا شارفت العدّة على الانقضاء دون أن تفرغ بالكلية فله أن يطلقها ويشهد على طلاقه كما فى قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) (٢) (الطلاق). وعن عمران بن حصين لمّا سأله أحدهم وكان قد طلق امرأته ، ثم وقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها ، فقال له : طلّقت لغير سنّة ، ورجعت لغير سنّة. أشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعد» فالحاجة إلى القاضى ماسة ، ولا ينبغى ترك الأمور لفهم الناس ، ولا سبيل لضمان سلامة الإجراءات وصحة الدين إلا أن يكون الطلاق أمام قاض وبحضور شاهدين ، وأن تعلم المرأة به ، بحضورها أو حضور وكيلها ، أو أن يكون إعلامها بطريق رسمى ، ولا يجوز النكاح ولا الطلاق ولا الرجاع بدون شاهدى عدل ، وإقامة الشهادة من الحق والعدل ولذا أمر بها الله تعالى.

* * *

١٧٧٤ ـ الرجل مندوب إلى مراجعة امرأته

الذى يطلق امرأته مندوب إلى مراجعتها فى العدّة إذا قصد إزالة الوحشة بينهما وإصلاح حاله معها ، بقوله تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) (٢٢٨) (البقرة) ، وأما إذا قصد الإضرار بها وتطويل العدة فمحرم عليه مراجعتها لقوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) (٢٣١) (البقرة). والبعولة : جمع البعل وهو الزوج ، والمباعلة والبعال : الجماع ، والرجل بعل المرأة ، والمرأة بعلته ، وباعل مباعلة أى باشرها. ولا تكون مراجعة المرأة إلا لمن

٨٤٣

كان طلاقها دون الثلاث. ولا بد من الإشهاد فى المراجعة لقوله تعالى : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) (٢) (الطلاق) فالإشهاد ضرورى للمراجعة ، وينبغى للمرأة أن تمنع الرجل من وطئها طالما لم يشهد على مراجعتها ، وينبغى للرجل أن تكون نيّته المراجعة ، وإن قبّل وباشر ولم ينو الرجعة كان آثما وليس بمراجع ، ولا بد من ترجمة النية إلى قول ، ولا تصح الرجعة إلا بالقول ، ولا يسافر بها حتى يراجعها ، ولا يخلو معها ، ولا يدخل عليها ، ولا ينظر إليها إلا بإذن وعليها ثيابها ، وإذا طلّق الرجل امرأته تطليقة فإنه يستأذن عليها. والرجعة فى الإسلام تمنع زوال الزوجية بالكلية بانقضاء العدة ، فطالما العدّة لم تنقض فأحكام الزوجية باقية ، والمرأة ترث زوجها فى العدة ، وزوجها فى العدّة أحق بالمرأة من نفسها ، وأما بعد العدة فهى تملك نفسها.

* * *

١٧٧٥ ـ هل تغصب المسلمة على أن ترجع لزوجها إذا طلقها ولم تستوف العدة؟

إذا طلّقت المرأة طلاقا رجعيا ، أى لم تكن هذه هى المرة الثالثة التى تطلّق فيها ، وكانت ما تزال فى عدّتها ـ أى لم تمر عليها ثلاثة أقراء ، فللزوج أن يراجعها ، والفقهاء يقولون إنها لا تستأذن فى الرجاع ، والقرآن يقول : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) (٢٢٨) (البقرة) ، أى يشترط لحقّ الرجل فى ردّ مطلقته وهى فى العدّة أن يريد الإصلاح مثلما تريده ، والإصلاح مقصوده إصلاح ما أفسده طلاقه لزوجته ، والطلاق يضرّ بالمرأة غاية الضرر ، نفسيا واجتماعيا ، وشرط الردّ : أن يتعهد الرجل بأن يكون لها من الحقوق مثلما عليها من الواجبات ، وتزيد حقوق الرجل على حقوقها فى الدرجة وليس فى الكم ، وأبانت ذلك الآية : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) (٣٤) (النساء) وهذه الدرجة هى التى صارت القوامة ، والقوامة تعنى رعايته للأسرة ، والقيام على شئونها ، والنهوض بأعبائها ، وسياسة أمورها ، ويستلزم ذلك نفقات مالية يتحملها عن طيب خاطر ، والقوامة على ذلك تكاليف وواجبات أهّله الله لها ، وأعدّه لاحتمالها ، وتترتب عليها حقوق له بدونها لن يكون بوسعه القيام بمسئولياته ، ومدار الحقوق والواجبات للطرفين على ما هو معروف منهما فى أى مجتمع من المجتمعات فى إطار الزمان والمكان. وينعقد استئناف الزوجية على الإرادة الحرة للزوجين ، وشرط الإرادة الرضا والقبول ، ومراجعة المطلقة المعتدة لا بدّ فيها إذن من أخذ رأيها وموافقتها ، وهذا ما نعرف أن العقود لا تستقيم إلا به وإلا صارت عقود إذعان ، والإذعان لا يقيم حياة زوجية ، ولا ينتج سوى المشاحنات والمخاصمات ، ويتولد منه النفور ،

٨٤٤

وتستحكم به البغضاء ، والآية (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) (٢٢٨) (البقرة) من أعدل الصياغات القانونية فى تشريعات الأحوال الشخصية ، وفيها كافة الموازنات بين الحقوق والواجبات للجنسين ، ويفسّرها الحديث عن جابر عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى خطبة الوداع ، قال : «فاتقوا الله فى النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله» ، وتقتضى التقوى والأمانة أن تكون المعاشرة بالحسنى ، وأن تستهدى إرضاء الطرفين ، وأن تسترشد بكلمة الله التى هى التقوى ، وتقوى الله فى النساء بينها الحديث عن ابن عباس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلى ، ولما نزلت آية التخيير : (إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) (٢٨) (الأحزاب) فكان فيها أن المعاشرة بالاختيار لا الغصب. وفى الآية (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) (٢٢٩) (البقرة) يدور الاختيار بين الإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان ، وكان الناس يعتسفون ويجورون على النساء ، فقد لا يطلقها البتة ويدعها كالمعلقة ، لا هى أيّم ، ولا هى ذات زوج ، أو قد يطلقها فإذا شارفت العدّة على الانتهاء راجعها بلا استئذان ، فرفع الله ذلك الغبن ، وأبطل هذا الظلم ، ووقّت الطلاق ثلاثا لا غير ، فإن كانت طلقتها واحدة أو اثنتين ، كان له الخيار فى عدّتها بين أن يستبقيها زوجة أو يسرّحها ، وشرطه الإمساك بالمعروف ، والتسريح بالإحسان ، وكان ذلك أمرا على المتّقين. والخيار عماد الإسلام ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم برواية أبى موسى انتقد على المسلمين استهانتهم بأوامر الله فقال : «ما بال أقوام يلعبون بحدود الله ، يقول أحدهم : قد طلقتك ـ قد راجعتك ـ قد طلقتك». واشترط الله لضبط هذه الفوضى «إرادة الإصلاح» من الزوجين ، فلا رجاع للمطلقة إلا إذا انعقدت إرادتهما على إصلاح ما فات ، ولا تنعقد إرادة المرأة على الرجاع إلا إذا كان لها الخيار فيها ، والرضا والقبول به ، وعماد الرجاع الآية : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة ٢٢٨) ، فساوى الله تعالى بين الحقوق والواجبات ، فإن ضمن الرجاع هذه الحقوق وقابلها بالواجبات ، فالرجاع جائز. والتشريع الإسلامى فى ذلك فى القمة. والرجاع فى اليهودية ، وليس للزوجين أن يتراجعا لو تزوجت المرأة بآخر بعد طلاقها ثم طلقت من الآخر ، لأن زواجها بالآخر يدنّسها ، فهكذا جاء فى التوراة (تثنية الاشتراع ٢٤ / ٤) فحرّم كتبة التوراة وحلّلوا ما ليس فى مصلحة الناس. ولا رجاع فى النصرانية ، لأنه لا طلاق أصلا إلا للزنا. والتشريع الإسلامى فى حدود النصوص حافل بالمعانى ، ويحتمل أشرف المقاصد وأنبل الغايات ، ويا ليت تشريعات البلاد الإسلامية تأخذ ينصّ ما جاء به كتاب الله وسنّة نبيّه وتترك القوانين الوضعية ، وإذن

٨٤٥

لاستقامت مجتمعاتنا وانصلحت أحوال عائلاتنا ، وكنا للناس أئمة ، وآلت إلينا مقاليد الحضارات. ولله الحمد والمنّة!

* * *

١٧٧٦ ـ الصلح خير

الصلح الحقيقى الذى تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف خير على الإطلاق ، وفى مجال الأسرة الصلح ضرورة ، والقرآن يدين المرأة الناشز والرجل الناشز على السواء ، والنشوز هو المخالفة والخروج على الحق ، ونشوز الرجل أكبر فى نتائجه وأخطر ، لأنه عماد الأسرة وقدوتها ومثالها الأعلى ، وفى الآية : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (١٢٨) (النساء) : أن الصلح على أى وضع ـ بما لا يتعارض مع مبادئ الشريعة وروح الإسلام ـ فإنه خير. وفى الحديث عن البغضة قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنها الحالقة» ، أى القاضية التى تقضى على كل شىء فتحلقه كحلاقة الشعر ، وهى تحلق الدين والدنيا معا ، فهذه هى البغضة : وهم الذين لا يصدرون فيما يقولون ويفعلون إلا عن البغض الشديد. وفى الحديث والآية ، تحذير للنساء وللرجال أن يطاوعوا أنفسهم على أن يبغضوا أزواجهم وزوجاتهن ، كقوله تعالى : (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) (١٩) (النساء) ؛ والشّح فى الآية الأسبق ، أكثر ما يصيب الرجال ، ولا يكون فى الأموال فقط فيبخل الرجل على امرأته وأسرته ، ولكنه يكون أيضا فى الدين ، كقوله : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٩) (الحشر) ، والشح المقصود هو الذى يصير إلى حيز منع الحقوق الشرعية ، أو منع الحقوق التى تقتضيها المروءة ، فهذا الذى تحذّر منه ، والخطاب فيها للأزواج من حيث أن الزوج يمكن أن يشح ، وأن يتّقى الله فى عشرة زوجته ، فلا يظلمها ولا يجور عليها.

* * *

١٧٧٧ ـ نفقة السنة للمتوفى عنها زوجها

عدّة المتوفى عنها زوجها : أربعة أشهر وعشر ، تعتدّها عند أهل زوجها ، ولها أن تبقى معهم تساكنهم بقية السنة ، كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) (٢٤٠) (البقرة) فإن شاءت ساكنتهم سبعة أشهر أخرى وعشرين ليلة ، وليس لأولياء الميت إخراجها ، فإذا كان البيت من الميراث فلها فيه بحكم الشرع ، فلا يخرجها من بيتها

٨٤٦

أحد ، وخاصة إذا كان لها ولد ، ولها أن تخرج بعد العدة لتتشوف إلى الأزواج. والمتاع فى الآية هو نفقة سنتها.

* * *

١٧٧٨ ـ للمفروض لها نصف ما فرض

المرأة التى لم يدخل بها ، طالما أنه قد فرض لها ، فمن حقها نصف ما فرض إن طلّقت قبل الدخول بها ، وهو شىء تمتاز به المرأة فى الإسلام عن غيرها فى غير الإسلام. يقول تعالى : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) (٢٣٧) (البقرة) ، والنصف هو الجزء من اثنين ، إلا أن تترك النصف الذى وجب لها عند الزواج ، فأذن الله لها فى إسقاطه بعد وجوبه ، وجعله خالص حقّها ، فتتصرف فيه بالإمضاء والإسقاط كيف شاءت إذا ملكت أمر نفسها ، وكانت بالغة عاقلة راشدة. وفى الآية الخطاب للأزواج ، ثم للنساء ، ثم للولى ـ وهو المراد بقوله تعالى : (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) وليس لكل امرأة أن تعفو عن نصف صداقها ، فإن الصغيرة والمحجور عليها لا عفو لهما ، فالأهلية شرط فيمن تعفو ، ويجوز عند الولى إذا كان من أهل السداد.

والأصل هو العفو ، والخطاب للرجال والنساء ، فلا ينسوا الفضل بينهم ، والفضل هو أن تترك المرأة النصف الذى لها إن أرادت ، أو يتم الرجل الصداق كله ويجعله لها إن سمحت نفسه. وروى الدارقطنى عن جبير بن مطعم أنه تزوج امرأة من بنى نصر فطلقها قبل أن يدخل بها ، فأرسل إليها صداقها كاملا ، وذكر قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) ، وقال وأنا أحق بالعفو عنها ـ فقصد نفسه بأنه الذى بيده عقدة النكاح ، ودليل ذلك قوله تعالى فى متعة المطلقة كما سنرى لاحقا.

* * *

١٧٧٩ ـ متعة المطلّقة واجبة على المسلم

فى الآية : (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) (٢٣٦) (البقرة) أن إمتاع المطلقة واجب. والمتعة مال يفرضه الرجل على نفسه تعويضا للمرأة عمّا يلحقها من الطلاق من ضرر ، بحسب حاله ، على الموسع قدره ، وعلى المقتر قدره. وقد متّع الحسن بن على بن أبى طالب بعشرة آلاف ، وكان ـ كما قالت مطلقته ـ متاعا قليلا من حبيب مفارق». والمتاع لا حدّ له ، وهو بحسب المعروف ، والزيادة فيه من الإحسان ، وقيل : إنه لمّا نزلت : (مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) (٢٣٦) (البقرة) ، قال رجل : إن شئت أحسنت ففعلت ، وإن شئت لم أفعل ، فأنزل الله هذه الآية : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (٢٤١) (البقرة) ، والآية دليل على وجوب المتعة لكل مطلقة.

٨٤٧

وتفسير هذا الرجل للإحسان تفسير غير صحيح ، لأنه أعلى درجات الإيمان ، ولذا قال تعالى فى الآية الأخرى : (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) ، فجعل هذا الإحسان حقا من الحقوق على كل من يتقى الله ، كهذا الرجل فى الموضوع عالية الذى كان متزوجا من بنى نصر ولم يدخل بزوجته وطلقها فأرسل إليها كل صداقها ، فكان من المحسنين حقا والمتقين صدقا. وفى الآية : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) (٢٤٠) (البقرة) أن للمرأة التى يتوفى عنها زوجها متعة أن تبقى فى مسكنه لا يخرجها ورثته مدة سنة. ولا دخل للعدّة فى متعة السكن وعدةّ المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر إن لم تكن حاملا ، فإن كانت حاملا ، فعدتها إلى أن تضع حملها ، وفى كل الأحوال يتوجب أن تظل الزوجة بمسكن عائلة زوجها ، ولها النفقة مدة سنة ، ولو كانت له تركة فلها الربع إن لم يكن له ولد ، والثمن إن كان له ولد ، ولها أن تستمر فى المسكن بعد السنة باعتبارها وريثة وحاضنة.

وفى الآية : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) (٢٤) (النساء) أن المتعة للمرأة نظير ما استمتع الرجل بها. وقوله فى الآية : (فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) (٢٨) (الأحزاب) ، ثم فى الآية : (إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) (٤٩) (الأحزاب) : أن المتعة زيادة على الفريضة : أى الصداق ، وأنها على قدر عسر الرجل ويسره ، وذلك مقصوده تعالى من السراح الجميل. وفى صحيح البخارى عن سهل بن سعد أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أن تجهّز أميمة بنت شراحبيل وتكسى لمّا أراد أن يصرفها إلى أهلها ، وكان ذلك من قبيل المتعة.

* * *

١٧٨٠ ـ المتعة للمطلقات ينفرد الإسلام بفرضها

لا متعة للمرأة المطلّقة فى اليهودية ، فكل ما يفعله الرجل لطلاقها هو : أن يكتب لها كتاب طلاق ويدفعه إلى يدها ثم يصرفها من بيته» (تثنية الاشتراع ٢٤ / ١). وفى المسيحية لا طلاق أصلا إلا لعلّة زنا ولا متعة بالتبعية (متّى ١٩ / ٩). والإسلام هو الديانة الوحيدة التى تفرض للمطلقة متعة ، وهى التعويض الذى يفرضه الزوج أو القاضى للمطلقة عند الطلاق ، وفى الآية : (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) (٢٣٦) (البقرة) أن المتعة بحسب حال المطلق ، على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ، وكان الحسن بن علىّ يمتع نساءه بعشرة آلاف ، وقالت إحداهن فى ذلك : متاع قليل من حبيب مفارق!». وقد يجادل الزوج وينازع فى مقدار المتعة ، وأبو حنيفة يرى أن المتعة

٨٤٨

نصف مهر مثلها ، غير أن ذلك يحدد مقدارها بالوضع الاجتماعى للمرأة وليس بوسع الرجل ، والوسع تحدده طرق حصر الدخل للمطلّق ، والمتعة واجبة لكل مطلقة مدخولا بها أو غير مدخول بها ، ويؤخذ فى الاعتبار عدد سنوات المعاشرة بين الزوجين ، وقد أوجب الله تعالى ذلك فى الآية : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (٢٤١) (البقرة) ، قيل لمّا نزلت : (مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) (٢٣٦) (البقرة) قال رجل : إن شئت أحسنت ففعلت ، وإن شئت لم أفعل. فأنزل الله هذه الآية : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (٢٤١) (البقرة) فأوجب الله المتعة للمطلقة ، سواء كانت مفوضة ، أو مفروضا لها ، أو مطلقة قبل المسيس ، أو مدخولا بها ، وجعلها مستحبة مطلقا وحقا لها على مطلّقها. وأما الآية : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) (٢٣٧) (البقرة) فالحديث فيها عن «الصداق» ، فإذا وقع الطلاق بعد دفع المهر وعقد الزواج فللمرأة نصف هذا الصداق ، إلا أن يكون قد خلا بها وإن لم يدخل ـ فلها الصداق كله. وفى أيامنا هذه والاختلاط جار فالأولى الصداق كله ، وللمرأة أن تعفو أو يعفو وليّها ـ الأب أو الأخ ـ بإذنها. والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم متّع وأحسن ، وأمر أبا أسيد أن يجهّز أميمة بنت شراحبيل ويكسوها لمّا ردّها إلى أهلها قبل أن يمسّها أو يدخل عليها ، وهو نفسه مقصود التسريح الجميل فى قوله تعالى : (فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) (٢٨) (الأحزاب) قال ذلك لزوجاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا اخترن الطلاق. فذلك إذن هو شرع الله ، والعجب من المتعالمات من العلمانيات وتلاميذ المستشرقين الأوربيين فى نقدهم لوضع المرأة فى الإسلام ، والإسلام من تشنيعاتهم برىء ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

* * *

١٧٨١ ـ ما موقف الإسلام من المحلل؟ وما هو التحليل أصلا؟

فى اليهودية لا يوجد ما يسمى التحليل عند الطلاق ، وهو أن يطلق الرجل المرأة باتا فلا تحلّ له إلا إذا تزوجت بآخر ، والمرأة فى اليهودية إذا طلقت يمكن مراجعتها بزواج جديد ما شاء للزوجين ذلك من المرات ، أما إذا تزوجت بآخر بعد طلاقها من الأول ، ثم كرهها الثانى فطلقها لا يجوز البتة أن تتزوج الأول بدعوى أن زواجها الثانى دنّسها فلم تعد تحلّ للأول (تثنية الاشتراع ٢٤ / ٤). والأمر عكس ذلك تماما فى الإسلام ، فالطلاق مرتان فقط ، ويمكن مراجعتها خلال العدة ، فإذا انقضت العدة فزواج جديد بمهر جديد ، فإذا طلقها للمرة الثالثة فلا يحل له مراجعتها ولا الزواج منها من جديد إلا إذا تزوجت بآخر وطلقت منه فيحل لها أنا تعود إلى زواج الأول وقد روى أن الآية (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ

٨٤٩

حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) (٢٣٠) (البقرة) نزلت فى عائشة بنت عبد الرحمن بن عقيل النضرية ، وكانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك وهو ابن عمها ، فطلقها طلاقا بائنا ، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير ثم طلقها ، فأتت النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : إنه طلقنى قبل أن يمسنى ، أفأرجع إلى ابن عمى ـ زوجى الأول؟ قال : «لا ، حتى تذوقى عسيلته ويذوق عسيلتك» وفى الحديث عن ابن عمر عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فى الرجل يتزوج المرأة فيطلقها قبل أن يدخل بها البتة ، فيتزوجها زوج آخر فيطلقها قبل أن يدخل بها ، أترجع إلى الأول؟ قال : «لا ، حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها». وفى الحالتين لا تحلّ للأول إلا إذا وطأها الثانى فى نكاح صحيح ، فلو وطأها فى غير نكاح صحيح لم تحل للأول ، لأنه لم يكن زوجا على الحقيقة ، ولم يدخل بها ، ولم يجرّب جماعها ، ولم تخبر هى جماعه. والعسيلة تصغير عسل وهى حلاوة الجماع ، والعرب تسمى كل شىء تستلذه عسلا. وذوق العسيلة كناية عن المجامعة وحصول الإنزال. وهذه الشروط الإجرائية ليست غاية لذاتها وإنما لتوقّى الحذر أن لا يكون الزواج الثانى صوريا لتحليل رجوع المرأة لزوجها الأول ، فأمّا إذا تزوجها الثانى زواجا صحيحا وتزوجته المرأة بنية الزواج لا تريد بزواجها إحلالها للأول ، وتبينت أن زوجها الثانى عنّين ، وطلّقت منه ولم يدخل بها ، فلا تثريب عليها إن تزوجها الأول ، ومن البديهى أن العنين لا سبيل إلى أن تذوق عسيلته ، فهل تطلّق منه ويتزوجها آخر وهكذا لتحلّ للأول؟ أم أن يكتفى بالثانى ولو لم يدخل بها عملا بظاهر الآية : (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) (٢٣٠) (البقرة)؟ وفى الحديث عن عائشة أن تميمة بنت وهب كانت زوجة لعبد الرحمن بن الزبير فطلقها طلاقا بائنا ، وخلفه عليها رفاعة القرظىّ ، فأتت النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكرت أن رفاعة لا يأتيها ، وأنه ليس معه إلا مثل هدبة ، تريده بذلك أن يطلقها للعنّة فترجع إلى عبد الرحمن بن الزبير ، فقال لها : «لا ، حتى تذوقى عسيلته ويذوق عسيلتك». والهدبة التى شبّهت بها ذكر رفاعة هى طرف الثوب فيه رخاوة ، تعنى أن جماعه بها متعذّر ، وسياق الخبر يفهم منه أن جماع رفاعة مستحيل ، وأنها تشكو منه عدم الانتشار. وقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم «حتى تذوقى» شرط علّته على الإمكان وهو جائز الوقوع ، فكأنه نصحها أن تصبر لعله يستطيع الجماع ، ولو طلقت من رفاعة لوجب عليها أن تتزوج بثالث بنية الزواج ، وتحدث منه المواقعة ، فلو طلّق فإنها تحل للأول. فالحديث يحذر أن تكون المرأة كاذبة فى دعواها عن زوجها الثانى لغاية فى نفسها أن ترجع لزوجها الأول دون أن يمسّها الثانى. والذوق المشترط يقتضى تبادل العواطف بين الزوجين وهو ما يدل على أن الزواج الثانى تمّ بنية الزواج فعلا ، وإذن لو حدث الوطء عن كراهية من المرأة فلا تحل

٨٥٠

للأول إذا طلقها الثانى. ولو حدث وأغمى على المرأة أو استغرقها النوم ووطأها الثانى فلا تحلّ مع ذلك للأول لأن شرط الذوق لم يستوف. وخلاصة الأمر أن لا تكون هناك مخادعة من أى نوع من الزوج الثانى بإرادة تحليلها للأول. والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمس فى هذه القضية تحايل المرأة ، وإلا فإنه فى قضية مماثلة قد حكم حكما مغايرا لمّا عرف صدق المرأة فى ادعائها ، فعن ابن عباس فيما أخرجه أبو داود قال : طلق عبد يزيد أبو ركانة أم ركانة ، ونكح امرأة من مزينة ، فجاءت إلى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : «ما يغنى عنى إلا كما تغنى هذه الشعرة ـ لشعرة أخذتها من رأسها ـ ففرّق بينى وبينه» ، قال : فقال النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعبد يزيد : «طلّقها وراجع أم ركانة» ففعل» ، يعنى أنه أخذ بدعواها وفرّق بينه وبينها لعنة الزوج ، فلم تكن العنّة إذن هى التى لم يقبل بها عذرا للطلاق فى قضية امرأة رفاعة القرظى وغيره ، وإنما كان هو التحايل على الزواج ، ثم الطلاق من أجل أن تحل المرأة لزوجها الأول ، والتحايل منهىّ عنه. وفى الرواية : أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا ـ يعنى مرة واحدة فى مجلس واحد ، فقال : «أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم»؟ يقصد أن التطليقات الثلاث طالما هى فى مجلس واحد فهى طلقة واحدة رجعية فقال : «إنما تلك واحدة فارتجعها إن شئت». وكذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى النكاح : «لا نكاح إلا نكاح رغبة ، لا نكاح دلسة ولا مستهزئ بكتاب الله لم يذق العسيلة» ، والدلسة هو المتحايل ، وتحايله هو استهزاء بكتاب الله ، والله تعالى قد اشترط الزواج الثانى لتحل للأول من بعد ، فإن كان زواج دلسة ولا مستهزئ بكتاب الله لم يذق العسيلة» ، والدلسة هو المتحايل ، وتحايله هو استهزاء بكتاب الله ، وليس الزواج الدلسة بالزواج المحلّل. والزوج الذى يتزوج مطلقة بتاتا بنيّة تحليلها لزوجها الأول ملعون ، والملعون مطرود من رحمة الله ، وهو المقصود بالحديث عن ابن مسعود ، قال : «لعن الله المحلّ والمحلّل له» ، والحديث عن عقبة بن عامر ، قال : «ألا أخبركم بالتّيس المستعار : هو المحلّل ، فلعن الله المحلّل والمحلّل له» ، والتّيس ذكر الماعز ، وطبعه التيوسة ـ أى الخسّة وقلة الحمية ، فلا ينفعل إذا نزا ذكر آخر على أنثاه. وقوله تيس مستعار ، لأن المحلل يؤجر على هذا العمل الخسيس.

فكما ترى يا أخى المسلم الذكى ، ويا أختى المسلمة الذكية ، الإسلام برىء مما يتقوّلون به عليه ، وتشريعاته فى قمة التشريعات ولا تضاهيها أية تشريعات ، والدفوع القانونية والنفسية فى مجال التحليل لم يرد مثلها فى التوراة ، وفيها من بعد النظر ، والأخذ بالأحوط ، والذى ييسّر على الناس ، ما يجعل منهج الإسلام فى الأحكام هو الأفضل والأرقى من كافة المناهج الوضعية ، ولقد عرفنا أن التوراة والأناجيل كتب موضوعة ،

٨٥١

ومناهجها من ثم موضوعة ، ولا يقارن ما كان من عند إله بما يصوغه بشر ، وحسبنا الله وله الحمد والمنّة!.

* * *

باب الإسلام الاجتماعى

* * *

سابعا العدّة

* * *

١٧٨٢ ـ أسماء بنت يزيد أول من أنزلت فيها العدة

لم يكن للمطلقة عدّة قبل نزول الآية : (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) (١) (الطلاق) ، ولمّا طلّقت أسماء بنت يزيد بن السكن أنزلت آية العدة ، فكانت أول امرأة مسلمة تقرّر لها العدّة للطلاق.

١٧٨٣ ـ عدّة المطلقة وعدة المتوفى عنها زوجها

المطلقة تذكرها الآية : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (٢٢٨) (البقرة) ، والمطلقات لفظ عموم ، والمراد به الخصوص فى المدخول بهن ، وخرجت منه المطلقة قبل البناء بها ، بالآية : (فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) (٤٩) (الأحزاب) ، وكذلك الحامل بقوله : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) (٤) (الطلاق). وعدّة الأمة كعدّة الحرة لعموم الآية ، ولأن النساء فى أمور الفطرة والجبلة سواء ، فالإماء كالحرائر ، ولو أنه لم تعد هناك إماء. والتربّص هو الانتظار ؛ والأقراء : عند البعض هو الحيض ، وعند آخرين هو الأطهار ، فمن جعل القرء اسما للحيض سمّاه بذلك لاجتماع الدم فى الرحم ، ومن جعله اسما للطّهر فلاجتماعه فى البدن. والقرء مأخوذ من قرء الماء فى الحوض يعنى اجتماعه ، ومنه القرآن ، لاجتماع معانيه أو حروفه ، فكأن الرحم يجمع الدم وقت الحيض ، والجسم يجمعه وقت الطهر. والصحيح أن القرء هو الانتقال من حيض إلى طهر ، ولذلك ليس الطلاق فى الحيض طلاقا سنّيا مأمورا به ، ولا هو الطلاق للعدّة ، فإن الطلاق للعدة ما كان فى الطهر ، ويكون تقدير معنى الآية : فعدّتهن ثلاثة انتقالات من حيض إلى طهر ، وجعل هذا الانتقال قرءا ، لأنه دلالة على براءة الرحم أو أنها غير حامل ، فإذا طلّق كان الطلاق فى طهر وهو المعتبر فى العدة وتطلّق فيه النساء ، وإذا طلق الرجل فى طهر لم يطأ فيه اعتدت المرأة بما بقى منه ولو ساعة ولو لحظة ، ثم استقبلت طهرا ثانيا بعد حيضة ، ثم ثالثا بعد حيضة ثانية ، فإذا رأت الدم من الحيضة الثالثة حلّت للأزواج وخرجت من العدة.

٨٥٢

وعدّة المتوفّى عنها زوجها : أربعة أشهر وعشر ، وآيتها : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (٢٣٤) (البقرة) فجعل الله تعالى عدة الوفاة بخلاف عدة الطلاق ، وليس صحيحا أن الآية شاملة للحوامل من النساء وغير الحوامل ، وأن الآية : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) (٤) (الطلاق) نسختها فيما يتعلق بالحوامل ، فليس فى ذلك نسخ وإنما هو تخصيص ، فآية العدة أربعة أشهر وعشرة أيام لغير الحوامل اللاتى يتوفى أزواجهن ، وآية أولات الأحمال للحوامل اللاتى يتوفى أزواجهن أو يطلقن. وفى حالة سبيعة الأسلمية فإنها لمّا نفست بعد وفاة زوجها بنصف شهر أو أربعين ليلة ، ذكرت ذلك للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأفتاها بأنها قد حلّت للزواج حين وضعت حملها ، وأباح لها الزواج إن ارتأت ذلك. ولا يحل للحامل أن تتزوج بانقضاء عدة الوفاة بل يحل زواجها بالوضع. ولا يحل زواجها فى نفاسها إلا بعد أن تطهر.

* * *

١٧٨٤ ـ لما ذا عدة الوفاة أربعة أشهر وعشر أيام؟

فى الحديث عن ابن مسعود فيما جاء فى الصحيحين عن حكمة الأربعة أشهر والعشرة أيام عدة المتوفى عنها زوجها ، قال : «إن خلق أحدكم يجمع فى بطن أمه أربعين يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث إليه الملك فينفخ فيه الروح» ، فهذه ثلاث أربعينات بأربعة أشهر ، والاحتياط بعدها بعشر لما قد ينقص بعض الشهور ، ثم لتتضح حركة الجنين بعد نفخ الروح فيه. ولا تبرأ المرأة إذا كانت ممن توطأ إلا بحيضة تأتى بها فى الأربعة أشهر والعشر ، وإلا فهى مسترابة ، وليس عليها أكثر من أربعة أشهر وعشر ، إلا أن تستريب نفسها ريبة بيّنه ، لأن هذه المدة لا بدّ فيها من الحيض فى الأغلب إلا أن تكون المرأة ممن لا تحيض. واختبار الحمل عند طبيب أمراض النساء يغنى عن ذلك جميعه. وكان سنّ الأربعة أشهر والعشر لمجتمع لم تكن فيه مثل مختبراتنا الطبية الحالية ، واختبار الحمل يؤكد الحمل من عدمه فور حدوث الحمل. والأربعة أشهر والعشر مثلها مثل رؤية هلال رمضان بالعين المجردة وشهادة الشهود ، حيث التلسكوب يغنى عن ذلك. والعدة سواء للمطلقة أو للمتوفّى عنها زوجها للتأكد من أن المرأة غير حامل ، فإن كان من الممكن التأكد من ذلك يقينا بالعلم فلا داعى لهذه المدة كلها. وهذا الرأى من وجهة نظر العلم ، وأما من جهة الشرع وفى مواجهة الأهل والكافة فينبغى التزام هذه المدة.

* * *

٨٥٣

١٧٨٥ ـ عدة اللائى يئسن من المحيض

لمّا نزلت عدّة النساء فى المطلقة والمتوفّى عنها زوجها ، لم يبق إلا الصغار وذوات الحمل ، فنزلت : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) (٤) (الطلاق) جوابا لمن سأل : ما عدّة التى لم تحض؟ وما عدة التى انقطع حيضها؟ وعدّة الحبلى؟ ومعنى : «اللائى يئسن من المحيض» : اللائى انقطع عنهن الحيض ، فى غير أوانه ، فإن شككتم وارتبتم هل بلغن سن اليأس ، فإن عدتهن لا تقل عن ثلاثة أشهر ، وإذا كانت المرأة كبيرة السن وتشكو الاستحاضة ، يعنى تظل تحيض مرارا فى الشهر ، وفى كل شهر ، فالعدة أيضا ثلاثة شهور. وقيل عدة التى ارتفع حيضها وهى شابة سنة ، وأما من تأخر حيضها لمرض فإنها تعتد تسعة أشهر ثم ثلاثة ، وهى كالمرضع التى لا تحيض لأجل الرضاع. ولو تأخر الحيض لغير مرض ولا رضاع فإنها تنتظر سنة لا حيض فيها : تسعة أشهر ثم ثلاثة. وأما اللائى لم يحضن وهن الصغيرات ، فعدتهن ثلاثة أشهر. ويغنى عن ذلك كله إجراء التحاليل الطبية التى تؤكد الحمل من عدمه والحصول على شهادة طبية بذلك.

* * *

١٧٨٦ ـ عدة الأمة كعدّة الحرة

لا إماء لدنيا اليوم ، ولكن قيل إن الإماء كن إذا طلّقن زمن الصحابة كانت عدّتهن حيضتين ، أى نصف عدة الحرّة ، وهذا غير صحيح ، لأن الله تعالى هو المشرّع ، وقد جعل عدة المرأة ، حرّة أو أمة ، ثلاثة قروء : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (٢٢٨) (البقرة) يعنى ثلاث حيضات ، والإسلام يساوى بين الأمة والحرة ، وعدة الأمة لذلك هى كعدّة الحرة ، والآيات فى عدة الطلاق والوفاة بالأشهر والأقراء ، عامة فى حق الأمة والحرّة ، فعدة الحرة والأمة سواء ، وأما الحديث الذى ينسب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «طلاق الأمة تطليقتان وعدّتها حيضتان» فهو حديث ضعيف ويعارض القرآن ، ولا شك أنه حديث موضوع.

* * *

١٧٨٧ ـ لا يحل للمطلقة أن تكتم حملها

الحيض والأطهار والعدّة والحمل مسائل لا اطّلاع عليها إلا من جهة النساء ، وفى الآية : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) (٢٢٨) (البقرة) أنه تعالى جعل القول فى هذا الشأن هو قول المرأة إذا ادّعت انقضاء الحيض أو عدمه ، وجعل النساء مؤتمنات على ذلك ، ولم يؤمر المسلمون أن يفتحوا نساءهم لينظروا إلى فروجهن ليروا ذلك

٨٥٤

ويتأكدوا منه ، ولكن الله تعالى تكريما للمرأة فى الإسلام وكل ذلك إليهن ، ونهاهن عن الكتمان للإضرار بالزوج وإذهاب حقّه فى الولد ، أو الادعاء بالحمل لإلزامه بالنفقة ، وكانت النساء فى الجاهلية يكتمن الحمل لتلحق الولد بالزوج الجديد ، وحاليا لم يعد الأمر للنساء إزاء أى ادعاء بالنظر إلى التقدّم العلمى وإمكان التحليل الطبى لمعرفة الحمل من عدمه.

* * *

١٧٨٨ ـ خطبة المرأة فى العدّة ومواعدتها

لا وزر فى التعرّض بالخطبة فى عدة المتوفّى عنها زوجها ، بقوله تعالى : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) (٢٣٥) (البقرة) ، والتعريض ضد التصريح ، وهو إفهام المعنى بالشىء المحتمل له ولغيره ، وهو من عرض الشيء وهو جانبه ، والكلام مع المعتدة بما هو نصّ فى تزوّجها لا يجوز ، كذلك الكلام معها بما هو رفث ، أو تحريض على الفسق ، وما أشبهه ، وغير ذلك جائز.

ولا يجوز التعريض لخطبة الرجعية لأنها كالزوجة ، ويصحّ التعريض فى عدة البينونة. وللتعريض ألفاظ على قسمين ، فقسم يذكر لوليّها ، كأن يقول له أريد الزواج من فلانة ؛ وقسم يذكره لها دون واسطة ، كأن يقول لها : أريد زواجك ، أو إنى أرغب فيك. وقد تدهش النساء إذا تقدم لهن زوج فى العدّة ، أو أهدى إليهن شيئا ، وقد عابت سكينة بنت حنظلة على من تقدّم إليها فى عدتها من وفاة زوجها فقالت له : غفر الله لك! إنك رجل يؤخذ عنك! تخطبنى فى عدّتى؟! غير أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعل ذلك مع أم سلمة وهى متأيّمة من أبى سلمة. وقد يضمر الرجل الزواج من المرأة بعد أن تتم عدّتها ، ونهى الإسلام عن مواعدة النساء فى العدة سرا ، أو أن تتزوج المرأة سرا فى العدة ، فإن حلّت أعلنت ذلك ، إلا أن يقال فى المواعدة قولا معروفا مما أبيح من التعريض.

* * *

١٧٨٩ ـ لا عقد زواج فى العدة

العدّة للمطلقة ثلاثة قروء ، وللمتوفّى عنها زوجها أربعة شهور وعشرة أيام ، ولا يعقد على المرأة بالنكاح من آخر خلال العدة ، وفى الآية : (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) (٢٣٥) (البقرة) أى تنوون عقد النكاح إلا بعد نهاية العدة ، وبلوغ الأجل أى انقضاء العدة ، وفى ذلك تحريم للخطبة فى العدة.

* * *

٨٥٥

١٧٩٠ ـ إحداد المرأة فى عدة الوفاة

الإحداد : هو ترك المرأة الزينة كلها من اللباس والطيب والحلىّ والكحل والخضاب وما شابه ، ما دامت فى عدّتها ، لأن الزينة داعية إلى الأزواج ، فنهيت عن ذلك ، وفى الحديث : «لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث ، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ، ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب (أى غير مصبوغ ، أى تمتنع عن الثياب الملونة) ، ولا تكتحل ، ولا تمس طيبا ، إلا إذا طهرت : نبذة من قسط أو أظفار» ، يعنى القليل من الطيب تضيع به رائحتها إذا كانت نفساء أو فى المحيض. والمطلقة طلقة رجعية ولم تنقض عدّتها عليها عدّة الوفاة ، وترثه. والعدة فى الوفاة أو فى الطلاق من يوم يموت أو يطلق. وعدة الوفاة تلزم كل النساء ، الصغيرة والكبيرة والتى تحيض واليائسة من المحيض ، والكتابية ، وعدّتهن جميعا أربعة أشهر وعشرة أيام ، ولا عبرة بما ذهب إليه البعض أن عدّة الأمة نصف عدّة الحرة ، فالأمة كالحرة فى الإسلام ، وعلى كل فلا إماء الآن.

* * *

١٧٩١ ـ نفقة المطلقة الحامل

المطلقة ثلاثا ، أو المطلقة وعليها رجعة وهى حامل ، نفقتها واجبة لقوله تعالى : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) (٦) (الطلاق). والحامل المتوفّى عنها زوجها لها النفقة من جميع المال ، ولا تسقط النفقة بالموت كما يقول البعض ، وحكمها أقوى من الدين الثابت ، لأنها تتعلق بحياة الأم وحياة صغيرها.

* * *

١٧٩٢ ـ الحضانة وترتيب استحقاقها بين الأقربين

تكون الحضانة أولا للأم بلا منازع ، ثم أمهاتها وإن علون ، يقدّم منهن الأقرب فالأقرب ، ثم الأب ، ثم أمهاته ، ثم الجدّ ، ثم أمهاته ، ثم جدّ الأب ، ثم أمهاته وإن كن غير وارثات. وروى أن أم الأب وأمهاتها مقدّمات على أم الأم ، فعلى هذه الرواية يكون الأب أولى بالتقديم ويتلو الأم ، ثم أمهاته. وإذا انقرض الآباء والأمهات انتقلت الحضانة إلى الأخوات ، للأخت من الأبوين أولا ، ثم الأخت من الأب ، ثم الأخت من الأم ، وتقدم الأخت على الأخ ، ولا حضانة للأخ لأم ؛ فإذا عدموا صارت الحضانة للخالات ، ولا حضانة للأخوال ؛ فإن عدم الخالات صارت الحضانة للعمّات ويقدمن على الأعمام. ولا حضانة للرجال من ذوى الأرحام كالخال ، والأخ من الأم ، وأبى الأم ، وابن الأخت ، مع وجود أحد من أهل الحضانة سواهم ، فإن لم يكن هناك غيرهم فهم أحق.

* * *

٨٥٦

١٧٩٣ ـ حضانة الولد بين حضانة الأم أو الأب

إذا بلغ الصبى وليس بمعتوه ، خيّر بين أبويه إذا تنازعا فيه ، فمن اختاره منهما فهو أولى به. وإذا كان الأب متوفى أو من غير أهل الحضانة وحضر غيره من العصبات كالأخ ، أو العم ، قام مقام الأب. ويخيّر الصبى بين أمه وعصبته. وكذلك إن كانت أمه متوفاة أو من غير أهل الحضانة ، فيسلّم الولد إلى الجدة ، فإنه يخيّر بينها وبين أبيه أو من يقوم مقامه من العصبات. فإن كان الأبوان متوفيين ، أو من غير أهل الحضانة ، فيسلّم الولد إلى امرأة كأخته ، أو عمته ، أو خالته ، فإنها تقوم مقام أمه فى التخيير بينها وبين عصباته. ولا يمنع الولد من عيادة أبويه وهو عند أيهما ، ويؤذن له فى حضور جنازة من يموت منهما. والزيارة من الولد أو له مأذون بها. وللأم حضانة ابنها المتخلّف عقليا بلا نهاية ، وحضانة ابنها الضعيف صحيا والمحتاج إلى رعايتها باستمرار. وتكون البنت فى حضانة أمها حتى تحيض ، ثم تخيّر ، ولا يمنع أىّ من الأبوين من زيارتها أو زيارته ، وإن مرضت البنت فالأم أحق بتمريضها فى بيتها. والمقيم أولى بالحضانة من المسافر ، ومن المتنقل ، وقيل إن البنت تظل فى حضانة أمها حتى الزواج ، وقيل إن زواج الأم لا يسقط حق حضانتها لأولادها. وإن تركت الأم حقّها فى الحضانة انتقلت الحضانة إلى الأب.

* * *

وينتهى بذلك الباب السادس عشر ويبدأ الباب السابع عشر

بإذن الله عن العبادات ، ولله الحمد والمنّة

* * *

٨٥٧
٨٥٨

الباب السابع عشر

* * *

العبادات

العبادات : من عبد أى وحّد وخضع وذلّ وطاع ؛ والعبادة : هى نهاية التعظيم ولا تليق إلا فى شأنه تعالى ؛ والعبودية هى الانتساب إليه تعالى بأن تكون له عبدا ؛ والعبادة : لعوام المؤمنين ، وبها ينال المؤمن شرف الانتساب إلى الله فيسميه «عبدا» ، كقوله تعالى : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ) (١٧) (ص) ، وقوله : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ) (٤١) (ص) ؛ والعبودية : لخواصهم ، وهى منع النفس عن هواها ، وزجرها عن مناها ، والطاعة فى أمر مولاها. ونهاية العبودية الحرية ، لأن العبد إذا وصل إلى الله فقد صار حرا من جميع ما سوى الله ، فعندئذ يكون في الحقيقة عبدا لله. والعبودة : لخاصة الخاصة ، وهم الذين يشهدون نفوسهم قائمة به فى عبوديته ، وهم بها يحسّون أنهم بشر وآدميون حقا. وتطلق العبادات على الأحكام الشرعية العملية ، وهى إما أحكام تتعلق بأمور الآخرة ـ وهى العبادات : كالطهارة ، والوضوء ، والغسل ، والصلاة ، والحج ، والصيام ، والزكاة ؛ أو بأمور الدنيا ـ وهى المعاملات : كالربا ، والدّين ، والقرض ، والدّية ؛ أو بأمور الأسرة : كالزواج والطلاق ؛ أو بأمور المجتمع : وهى العقوبات. وسنتناول كلا بإذن الله إلا الزكاة فقد جعلناها ضمن الإسلام الاقتصادى فى الباب الثامن عشر.

* * *

١ ـ الوضوء والاغتسال

* * *

١٧٩٤ ـ آية الوضوء

آية الوضوء هى الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٦) (المائدة) ، وكان نزولها لمّا فقدت السيدة عائشة العقد فى غزوة المريسيع ، فاضطر المسلمون إلى أن يبقوا فى مكانهم فلم يجدوا ماء فى الصباح للوضوء ، فنزلت الآية. ولم يكن الوضوء جديدا عليهم ، وكان متقررا عندهم ومستعملا ، ولم تتضمنه الآية إلا ليتلى فيها ، وكان نزولها أصلا لتعطيهم رخصة التيمّم. وألفاظ الآية

٨٥٩

تقتضى الموالاة بين الأعضاء ، من غير تراخ بين أبعاضه ، ولا فصل بفعل ليس منه ؛ وتقتضى الترتيب كذلك ، والترتيب سنّة ، ولا بد فى الوضوء من النّية ، والآية فيها ذكر أربعة أعضاء : الوجه ـ وفرضه الغسل ؛ واليدان وفرضهما الغسل إلى المرافق ؛ والرأس ـ وفرضه المسح اتفاقا ، والرّجلان ، وفرضهما المسح إلى الكعبين ؛ ولم يذكر سوى هذه الأربعة ، فدلّ على أن ما عداها آداب وسنن ، والوضوء إذن غسلتان ومسحتان. وفى الحديث : «ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار» ، فالفرض المسح ، والإحسان غسل الأعقاب وبطن الرجلين ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوضأ ويمسح على الخفّين والنعلين والجوربين ، ومسح علىّ على الجوربين ؛ وفى غزوة تبوك مسح النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلى الخفّ وأسفله. وفى الآية : الطهارة من الجنابة بالغسل ، فإذا لم يوجد الماء فالتيمم من ملامسة النساء ، وهو كل ما دون الجماع ، وفى حالة المرض كما فى سلس البول ، وفى السفر ؛ وفى الحديث : «لا يقبل الله صلاة بغير طهور» لمن قدر على الطهور ، ومن لم يقدر فلا عليه ، لأن الوقت فرض فيصلى كما قدر فى الوقت ، ثم يعيد. والتيمم بالصعيد الطيب ، أى التراب النظيف الجاف من مكان مرتفع ، حيث لا يجتمع فيه ماء ولا رطوبة فى الأرض. ومن آداب الوضوء المضمضة وهى تحريك الماء فى الفم ؛ والاستنشاق : وهو صبّ الماء فى الأنف ؛ وكذلك الاستنثار : وهو استنشاق الماء وإدخاله فى الأنف واستخراجه منه. والمراد بكل ذلك أن الوضوء مشروع عبادة ، لدحض الآثام وحصول التطهّر ، إعدادا للمصلّى للوقوف فى حضرة الديّان.

* * *

١٧٩٥ ـ الوضوء عند كل صلاة

فى الآية : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ...) (٦) (المائدة) ، اللفظ عام فى كل قيام إلى الصلاة ، فينبغى الوضوء ، وكان علىّ يفعل ذلك ويتلو هذه الآية ، وكان الخلفاء يتوضئون لكل صلاة. وكان النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يعمل عملا إلا وهو على وضوء ، ولا يكلم أحدا ولا يردّ سلاما إلا على وضوء ، وظل يتوضأ لكل صلاة طلبا للفضل ، إلى أن جمع يوم الفتح بين الصلوات الخمس بوضوء واحد ، وليس هذا بنسخ للآية ، لأن السنّة تبيّن القرآن ولا تلغيه. وقيل : إن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى بالصهباء العصر والمغرب بوضوء واحد فى غزوة خيبر ، وهى سنة ست قبل فتح مكة سنة ثمان ، يعنى أنه كان فى الغزو فقط يجمع بوضوء واحد. وقيل إن قوله : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) يعنى من النوم ؛ وإذن يكون الغسل : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) ، (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) ، (أَوْ

٨٦٠