موسوعة القرآن العظيم - ج ٢

دكتور عبد المنعم الحفني

موسوعة القرآن العظيم - ج ٢

المؤلف:

دكتور عبد المنعم الحفني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
ISBN: 977-208-422-2
الصفحات: ١٢٤٤
الجزء ١ الجزء ٢

وفى الآية كذلك دليل : على أن الحامل قد تضع حملها لأقل من تسعة أشهر أو لأكثر من ذلك ، وأقل الحمل ستة أشهر. ولا يكون الحمل عادة لأكثر من تسعة أشهر ، والأمر مختلف فيه اجتهادا ، وبعض النساء يحملن لأكثر من ذلك ، ومن أعاجيب الحمل ما يقال له حمل الفيل ، وهو كل أربع سنوات ، وقيل : سمى هرم بن حيان هرما ، لأنه بقى فى بطن أمه أربع سنوات ـ وهو خرافة. وأقل الحيض والنفاس والحمل وأكثره ، مأخوذ من طريق الاجتهاد ، لأن علم ذلك استأثر به الله ، ولا يعارض ذلك إلا العلماء من الطبائعيين الذين يردّون كل شىء للأسباب دون الله ، وهو تعالى الذى يقدّر خروج الولد من بطن أمه ، ويقدر مكثه فى بطنها إلى خروجه. وبعد الحمل تكون الولادة ثم الرضاعة. وفى القرآن قال تعالى : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ) (لقمان ١٤) ، وقال : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) (الأحقاف ١٥) ، وقال : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) (البقرة ٢٣٣). والحمل والولادة والرضاعة جميعا عمليات كبرى ومهولة بها تستحق المرأة خالص الاحترام.

* * *

١٧٢٣ ـ الرضاعة تحرم النكاح

تتناول الآية : (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) (٢٣) (النساء) التحريم بالرضاع ، ويشرحها الحديث : «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» ، فإذا أرضعت المرأة طفلا حرّمت عليه لأنها أمه ، وحرّمت بنتها لأنه أخته ، وحرّمت عليه أخت الأم بالرضاع لأنها تصير خالته ، وتحرّم أمها لأنها جدّته ، وتحرّم بنت زوجها لأنها فى حكم أخته ، وكذلك أخت الزوج لأنها تصير عمّته ، وبنات بنيها ، وبناتها ، لأنهن بنات إخوته وأخواته ، وأم الزوج لأنها جدته. وبالاختصار : فإن المحرّمات بالرضاع هن : الأمهات من الرضاع ، وأمهاتهن ، وجدّاتهن وإن علون ؛ والأخوات من الرضاع ، سواء رضع الرجل من أمها ، أو رضعت المرأة من أمه ، أو ارتضعا سويا من امرأة أخرى ، أو ارتضعت هى من امرأة رجل له امرأة أخرى ارتضع هو منها ، وكل امرأة حرمت من النسب تحرم من الرضاع ، وهن : الأمهات ، والبنات ، والأخوات ، والعمّات ، والخالات ، وبنات الأخ ، وبنات الأخت ، ويحرم الجمع بين الأختين من الرضاع. ويحجّ مع المرأة أخوها من الرضاع ، والتحريم بالرضاع يحصل إذا اتفق الإرضاع فى الحولين ، ولا فرق بين قليل الرضاع وكثيره إذا وصل إلى الأمعاء وأنبت اللحم والعظم. والأخوات من الرضاع هن : الأخت لأب وأم ، والأخت من الأم دون الأب.

* * *

٨٠١

١٧٢٤ ـ الإرضاع فى الزوجية وفى الطلاق

فى الآية : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) (٢٣٣) (البقرة) أن الوالدين أحق وأولى بإرضاع أطفالهن ، وهو واجب عليهن ، وخاصة المطلقات ، لأن الأم أحنى وأرق على طفلها ، وانتزاع الصغير منها إضرار به وبها ، والولد وإن فطم فالأم أحق بحضانته ، لفضل حنوها وشفقتها ، وقد لا يقبل الولد غيرها ليرضع منها فتجبر على الإرضاع ، وعلى المولود له أن ينفق عليها طعاما وشرابا وكسوة ، بما يناسب وضعها الاجتماعى وانتماءاتها الطبقية ، وخاصة أن الوالدة فى الإرضاع تتفرغ له ، فإن كان لها عمل تتعطل عن عملها وكسبها ، وعليها تكاليف لا تستطيع الوفاء بها ، من مسكن وقوت وكسوة ومطالب حياة لها ولطفلها ، سواء كانت على ذمة الرجل أو كانت مطلقة ، وقوله : «وعلى المولود له» أوجب ذلك على الزوج. وإرضاع الحولين ليس حتما بقوله : «لمن أراد أن يتم الرضاع» ، لكنه تحديد لقطع التنازع فى مدة الرضاع بين الزوجين. وعلى ذلك تكون الرضاعة المحرّمة الجارية مجرى النسب ، إنما هى ما كان فى الحولين ، لأنه بانقضاء الحولين تتم الرضاعة ، ولا رضاع معتبرة بعدهما ، وبذلك تنتفى رضاعة الكبير الذى قالت به عائشة ولا تكون لها حرمة.

* * *

١٧٢٥ ـ الوالدة والوالد لا يضاران بولدهما

فى الآية : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) (٢٣٣) (البقرة) أن الأم قد تأبى أن ترضع طفلها إضرارا بأبيه ، وقد تطلب نفقة أكثر من اللازم لترضعه ، ولا يحلّ للأب أن يمنع الأم من إرضاعه مع رغبتها فى الإرضاع. وإذا مات الأب وآلت ثروته إلى الآخرين ، وتئول إليهم كذلك الوصاية على الصغير ، فإنهم ملزمون بتكاليف إعالة الصغير وإرضاعه ، وتجب النفقة له على كل ذى رحم محرم ، والمراد بهم عصبة الأب فهؤلاء عليهم النفقة والكسوة ، فإن كان للصبى مال أخذ رضاعه من ماله ، وإن لم يكن له مال أخذ من العصبة. والأب لو مات فعلى الأم كفاية الطفل إذا لم يكن له مال ، ويشاركها العاصب فى إرضاع المولود على قدر حظه من الميراث. ولو كان الطفل فقيرا لا مال له ، وجب على الدولة القيام به من الخزانة العامة ، فإن لم تكن هناك قوانين بذلك ، وجبت النفقة على المسلمين ، الأخص به فالأخص ، والأم أخص به إذا توفى الأب ، فيجب عليها إرضاعه والقيام به.

* * *

٨٠٢

١٧٢٦ ـ نفقة الرضيع وأمه على الأب

فى الآية : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) (٢٣٣) (البقرة) : فى الآية : أن نفقة الرضيع وأمه على الأب ، وأن الرضاعة على الأم ، وإنفاق الأب على قدر غناه ، لا يكلّف فى الإنفاق فوق ما يطيق ، ولا تكلّف المرأة أن ترضعه من غير أن تقدر ، كما لا تكلف على الصبر على تقتير الأب وشحّه ، و «القصد» هو المطلوب. وللأم حضانة الرضيع خلال عامى الرضاعة وحضانته ما بعدهما من سنين ، لصغره وحاجته إليها ، إلى أن يبلغ فيخيّر ، ولا شك أن الطفل سيختار أمه ، والآية لا تحدد سنا للطفل ترعاه فيه أمه ، والأولى أن يترك لها أمر رعايته إن كان ولدا أو جارية ، والنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيّر الابن فاختار أمه ، وفى الخبر أن امرأة جاءت إلى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالت : يا رسول الله ، إن ابني هذا كان بطنى له وعاء ، وثديى له سقاء ، وحجرى له حواء ، وإن أباه طلّقنى وأراد أن ينتزعه منى. فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنت أحق به ما لم تنكحى» أخرجه أبو داود. فإذا تزوّجت الأم فالخالة أحقّ بالصغير ، وفى الحديث : «فإنما الخالة أم» ، ثم أم الأم ، ثم أم الأب إذا لم يكن للصغير خالة ، ثم الأخت ، ثم العمّة ، فإذا لم تتوفر الحاضنة المؤتمنة التى يكون عندها فى حرز وكفاية ، ينظر إلى من يحوط الصبى ، ومن يحسن إليه فى حفظه وفى تعليمه ، وقيل الأم أولى ولا يسقط حقها فى الحضانة بالزواج.

* * *

١٧٢٧ ـ الحضانة حق الولد

الولد يعنى المولود ، ذكرا كان أو أنثى. ولا حضانة لفاجرة ، أو ضعيفة عاجزة عن القيام بحق الصبى ، لمرض أو زمانة. والحضانة أولى بها الأم ، ثم الخالة ، ثم الجدّة للأم ، ثم الجدّة للأب ، ثم أخت الصبى ، ثم عمّته ، ثم ابنة أخيه ، ثم الأب. وليس لابنة الخالة ، ولا لابنة العمة ، ولا لبنات أخوات الصّبي من حضانته شىء ، والمعقول أن الأنفع له هو الأصلح ، وتستمر الحضانة طالما لا يخاف على الطفل تضييع أو دخول فساد ممن يكون حاضنا له.

وتستوى الزوجة المسلمة والزوجة الذمّية فى حقّها فى حضانة طفلها ، لأن المبدأ الحاكم لذلك كله أن الولد لا بد له من حاضنة ، وهى الأصلح له.

* * *

١٧٢٨ ـ فصال الطفل أو فطامه

يقول تعالى فى آية الرضاع : (فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) (٢٣٣) (البقرة) ، والفصال والفصل : هو الفطام ، أصله التفريق ، فهو تفريق بين الطفل والثدى ، ومنه سمى الفصيل ، لأنه مفصول عن أمه. «والتراضى على الفصال» المقصود به أن يأتى قبل الحولين ، وقبل التراضى يكون التشاور وهو استخراج الرأى ، فلمّا

٨٠٣

جعل الله تعالى مدة الرضاع حولين ، بيّن أن للأبوين وحدهما حق البتّ فى موعد الفطام أو الفصل ، بعد التشاور فيما بينهما ، ومع الطبيب الخاص بالأطفال إن أمكن ، وإن كانا مطلّقين ، وقبل الحولين ، يكون الرضاع واجبا ، ويحرم الفطام قبلهما ، ويجوز لهما الاجتهاد بتقليل مدة الرضاع عن الحولين إن لم يكن فى ذلك ضرر بالصغير ، إلا أنه اجتهاد عن مشورة ، والوصول به إلى الرأى موقوف على غالب ظنهما لا على الحقيقة واليقين.

* * *

١٧٢٩ ـ جواز الاسترضاع إن كان لمصلحة الطفل

الاسترضاع : هو أن تكون للطفل مرضعة غير أمه ، سواء كان ذلك استرضاعا اصطناعيا ، أو استئجارا لمرضعة ، أو حاضنة ، ويكثر ذلك فى ملاجئ الأيتام وقرى إيواء الصغار ، وتسمى المرضعة أو الحاضنة بالأم البديلة ، ولا تثريب على الوالدين لو أخذا بذلك طالما أنه لمصلحة الصغير بحسب ما تمليه ظروفهما وظروف تنشئة الصغير. وقد تستخدم المربيات والزوجية قائمة إذا كان الزوجان موسرين. والبعض لا يلزم الأم الحسيبة بالرضاعة ، وكان الناس فى الجاهلية من ذوى الحسب يلجئون إلى المراضع ، وأقر الإسلام ذلك ولم يغيّره ، وجاء عنه فى القرآن : (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ) (٢٣٣) (البقرة) ، والاسترضاع الاصطناعى أسلم صحيا من الاسترضاع البشرى ـ أى من مرضعة بسبب الأمراض المتوطنة فى المرضعات من الأصول المتدنية اللاتى يقبلن أن يعملن مرضعات ، وكانوا يسمون المرضعة ظئرا ، وليس من المستحب استئجار المرضعات الآن ، وخاصة لما قد يترتب على الرضاع من التحريم كما فى النسب ، وكثيرون يرون أنه من غير المستحسن أن ترضع العمة أو الخالة أو الجارة أو القريبة طفلا أو طفلة قد يكون زوجا لابنتها أو زوجة لابنها فى المستقبل إذا لم ترضعه أو لم ترضعها. والتراضى على المرضعة أو الحاضنة ينبغى أن يقترن بتسليم الأبوين للطفل ولما يلزمه من نفقة وأجرة بالتراضى والمعروف ، لا يعوّق أحدهما لئلا يضار الطفل.

* * *

١٧٣٠ ـ الحمل والرضاع والفصال ثلاثون شهرا

يفطم الرضيع خلال عامين ، للآية : (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) (١٤) (لقمان) ، فلم يقل بعد عامين ، ومثل ذلك قوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) (٢٣٣) (البقرة) ، يعنى تمام الرضاعة حولان كاملان لمن أراد أن يتم الرضاعة. وفى الآية الأخرى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) (١٥) (الأحقاف) ، فإن حملت الأم فى الولد تسعة أشهر فإنها ترضعه إحدى وعشرين شهرا ، فذلك معنى «فى» فى الآية : (وَفِصالُهُ فِي

٨٠٤

عامَيْنِ) (لقمان ١٤) ، أى فى أقل من عامين ، وهو المنوه عنه بإحدى وعشرين شهرا. فإن كان الإرضاع حولين كاملين ، يعنى أربعة وعشرين شهرا ، فيكون الباقى من الثلاثين شهرا ستة شهور ، فاستنبطوا من ذلك أن أقل الحمل هو هذه الشهور الستة. وقيل إن الستة شهور هى بحساب الأشهر الأخيرة فى الحمل ، ولم تحسب الشهور الثلاثة الأولى فى ابتداء الحمل ، لأن الطفل فيها يكون نطفة وعلقة ومضغة ، فلا يكون له ثقل يحس به حتى يوصف بأنه حمل. والقرآن يسميه «الحمل الخفيف» قال : (فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ) (١٨٩) (الأعراف).

* * *

١٧٣١ ـ هل تحرّم الرضاعة بعد الحولين؟

يقول الله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) (٢٣٣) (البقرة) ، فكمال الرضاعة سنتان ، ولا اعتبار لما بعد ذلك ، ولو ارتضع المولود وعمره فوق السنتين لا يحرم ، إذ العادة أن لا يفطم الصبى دفعة واحدة بل بالتدريج. وللفترة التى تحاول فيها الأم ـ بعد الحولين ـ أن تفطم طفلها حكم الحولين. وبعض الأطفال يحتاجون للرضاعة بعد الحولين لضعف بدنى ، أو نفسى ، أو عقلى ، ولمن يحتاج إلى ذلك فلا تثريب أن يرتضع بعد الحولين ، وقد تستمر الرضاعة إلى ثلاث سنوات ، وقد يغتذى الصبى فى المدة الزائدة باللبن والطعام ، أو يجتزئ بالطعام ولو قبل الحولين ، وما رضع بعد الفطام لا يكون رضاعا والرضاع المقصود هنا هو الرضاع من الأم أو من مرضعة ، وأما الرضاع الاصطناعى فهو غير مقصود البتة ، وبتعميم الرضاع الاصطناعى ينتفى باب الرضاع من الفقه الإسلامى وتتجاوزه الأحداث.

١٧٣٢ ـ الرضاعة للكبير

الرضاعة تثبت النسب وتجعل الرضيع محرما ، وعن عائشة فيما رواه البخارى أنها استقبلت ابن أبى القيس بدعوى أنه أخوها بالرضاع ، فقال لها النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «انظرن ما إخوانكن ، فإنما الرضاعة من المجاعة» ، والمعنى تأملن ما وقع من الرضاع : هل هو رضاع صحيح بشروطه أم لا ، فالرضاع المحرّم هو المشترط ، وهو الذى يتسبب فى الأخوّة ، حيث يكون الرضيع طفلا ، وينشد أن يسد اللبن جوعته ، وتكون معدته ضعيفة يكفيها اللبن ، وبه ينبت لحمه ، فيصير الطفل به كجزء من المرضعة ، فيشترك فى الحرمة مع أولادها ، والرضاعة المعتبرة هى المغنية عن المجاعة ، أو المطعمة من المجاعة ، وفى الحديث عن ابن مسعود : «لا رضاع إلّا ما شدّ العظم ، وأنبت اللحم» أخرجه أبو داود ، وعن أم سلمة : «لا يحرّم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام» أخرجه الترمذى ، والرضعة الواحدة إذن لا تحرّم لأنها لا تغنى من جوع ، وعن أم الفضل زوج العباس أن رجلا سأل النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،

٨٠٥

قال : يا رسول الله : هل تحرّم الرضعة الواحدة؟ قال : «لا» ، وفى رواية قال : «لا تحرّم الرضعة ولا الرضعتان» ، وجاء عن عائشة : عشر رضعات ، وسبع رضعات ، وخمس رضعات ، والثابت من الأحاديث حديث عائشة فى الخمس. والبعض قال مجرد الرضاعة تحرّم ولا يشترط العدد ، مثلها مثل المنى. وقال آخرون التغذية بلبن المرضعة يحرّم سواء كان بشرب أم بأكل ، أم بأى صفة كان ، طالما استوفى الشرط المذكور من العدد. والبعض قال إن الرضاعة المحرّمة إنما تكون بالتقام الثدى ومصّ اللبن منه ، وأنها تعتبر فى حال الصّغر ، وهى التى يمكن طرد الجوع منها باللبن بخلاف حال الكبر ، وضابط ذلك قول الله تعالى : (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) (٢٣٣) (البقرة). ومما يثبت أن «الصغر» معتبر فى الرضاع قصة سالم مولى أبى حذيفة ، فقد تحرّجت زوجة أبى حذيفة أن تنكشف على سالم عند ما كبر وصارت له لحية ، فذهبت إلى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم تشكو إليه أبا حذيفة أنه يأنف أن تحتجب عن سالم ، فقال لها النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أرضعيه» ، قالت : وكيف أرضعه وهو رجل كبير؟ فتبسّم النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «قد علمت أنه رجل كبير» رواه مسلم. وإرضاع الكبير ليس بأن تلقمه ثدييها وإنما بأن تعتصر ثدييها وتسقيه لبنها فى وعاء ، وبذلك يصبح من محارمها ، فتنكشف عليه بلا تثريب. وكانت عائشة ـ كما جاء فى الصحيحين ـ تفتى بذلك وتقول إن الكبير يصير من المحارم بالرضاع ، وكانت تأمر بنات إخوتها وأخواتها أن ترضع الواحدة من تحب أن يدخل عليها ويراها بلا حجاب ، وإن كان كبيرا ، وأن تكون رضعاته لخمس مرات ، وبذلك يدخل عليها!! والجمهور يرد هذا الحديث ، بدعوى أن قصة رضاع الكبير خاصة بسالم ، أو بالأحرى قصة ملفقة ، وأن الرضاعة لا تجوز إلا لمن يحتاجها وكان دون الحولين ، وأنها إن جرت بعد الحولين لا تحرّم. وحجة الجمهور ما سبق إثباته من حديث عن عائشة للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «انظرن من إخوانكن! فإنما الرضاعة من المجاعة» ، يعنى يشترط للرضاعة أن تكون لصغير دون الحولين ، وأن تكون بدافع ما يستشعره من جوع ، فيستمر يرضع إلى أن يشبع ، فهذه هى الرضاعة المحرّمة ، وأما إرضاع الكبير فليس فيه أىّ مما سبق. والقول لذلك قول الجمهور والعقل والمنطق ، وحديث إرضاع الكبير إذن : وهم!

* * *

١٧٣٣ ـ فى معنى تحريم إخوة زوج المرضعة

عن عائشة أن «أفلح» أخا أبى القعيس جاء يستأذن عليها بعد أن نزل الحجاب ، فأبت عائشة أن تأذن له ، فلما جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبرته ، قالت : «فأمرنى أن آذن له» رواه البخارى. وأبو القعيس هو زوج مرضعة عائشة كما جاء فى رواية مسلم ، قالت : فأبيت أن آذن له ، فقال أتحتجبين منى وأنا عمك؟ وفى الرواية عن الزهرى قالت : فقلت لا آذن له حتى استأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنّ أخاه أبا القعيس ليس أرضعنى ، ولكن أرضعتنى امرأة

٨٠٦

أبى القعيس! وفى رواية لمسلم قال : وكان أبو القعيس زوج المرأة التى أرضعت عائشة. قيل : وتحريم زوج المرضعة إنما لأن لبنها كان السبب فيه لبن الرجل ، أى منيّة ، فلو لا أن الرجل وطأها ما درّت اللبن ، فللرجل فى لبنها نصيب ، ومنه انتشرت الحرمة إلى أخيه ، وبذلك صار أخوه عمّا لعائشة. ولكن عائشة من ناحية أخرى ، قبل أن تستأذن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وطبقا للروايات المختلفة ـ صحّ عنها أن لا اعتبار بلبن زوج المرضعة ، وصحّحها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعن زينب بنت أم سلمة : أن أمهات المؤمنين بخلاف عائشة ذهبن إلى أن الرضاعة من قبل الرجل لا تحرّم شيئا ، بدعوى أن اللبن لا ينفصل للطفل من الرجل وإنما ينفصل من المرأة ، فكيف تنتشر الحرمة إلى الرجل؟ غير أن ابن عباس شبّه المسألة بالجدّ ـ وهو سبب الولد فأوجب تحريم ولد الولد به ، وقال : اللقاح واحد» أخرجه ابن أبى شيبة ، وقال أغلب أهل المدينة أن لبن الرجل لا يحرّم ، بينما كان الجمهور من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار على القول : إن لبن الرجل يحرّم ، وحجّتهم هذا الحديث. والعلم الحديث مع الرأى بأنه لا يحرّم ، لأنه لا علاقة بين لبن المرضعة وبين لبن زوجها ، ثم بين لبن المرضعة وشقيق زوجة المرضعة ، ولو كان الأمر هكذا لحرّمت كل النساء على كل الرجال من أولاد وبنات آدم ، لأننا جميعا أقرباء! وعلى كل فهذا الباب من الرضاع تجاوزته الأحداث ، فلا يوجد من يرضع من ثدى امرأة أخرى لأسباب صحية محصنة واجبة المراعاة ، ومنعا لنقل المرض ، لاحتمال أن تكون المرضعة أو الرضيع مصابا بمرض فينتقل منها أو من ابنها إليه ، أو ينتقل منه إليها وإلى ابنها ؛ وهذا الحديث كحديث إرضاع الكبير فيه تحايل مقيت ، وليس هكذا الإسلام.

* * *

تابع الإسلام الاجتماعي

* * *

رابعا : الأولاد

* * *

١٧٣٤ ـ أنقلّل النسل أم نكثره؟

من الأحاديث ما يدعو إلى تقليل النسل ، ومنها ما يدعو إلى تكثيره ، فأيهما نتّبع؟ فمن الأولى : عن سهل بن حنيف عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تزوّجوا إنى مكاثر بكم الأمم» أخرجه الطبرانى فى الأوسط ، يعنى إنى مكاثر بكم بالأولاد ثمرة الزواج. وعن ابن عباس قال : : «بيت لا صبيان فيه لا بركة فيه» ، وقال : «ريح الولد من ريح الجنة» ، وعن ابن حيدة أنه قال : «وإنى مكاثر بكم الأمم» ، وعن ابن عمر أنه قال : «ما ولد فى أهل بيت غلام إلا أصبح فيهم عزّ لم يكن» ، وعن أبى حفصة قال : «لا يدع أحدكم طلب الولد ، فإن الرجل إذا مات

٨٠٧

وليس له ولد انقطع اسمه» ، وهذه الأحاديث قد نظن أنها دعوة لتكثير النسل حتى وإن كان الوالدان من الفقراء ، ولم ينالوا علما والصحيح أن التكثير المقصود هو الذى يتحقق مع يسر الحال وتعليم العيال ، وتعهدهم بحسن التربية ، وتنشئتهم ليكونوا مواطنين صالحين ، وعندئذ فقط يباهى بهم النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأمم يوم القيامة ، وإلّا فبأى شىء يباهى بهم الأمم؟ هل يباهيهم بالكثرة من الفاشلين والخاملين والعاطلين والفاسقين؟ والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحضّ على السعى من أجل خير الأولاد. وهذا الحديث الأخير عن انقطاع الاسم بالموت إذا لم يكن له ولد يشبه ما قالوه عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان سبب نزول سورة الكوثر ، فقالوا إن ابنه مات فصار أبتر ، أى بلا وريث ذكر ؛ وفى الحديث عند الديلمى عن جابر أنه قال : «إذا خرج العبد فى حاجة أهله كتب الله له بكل خطوة درجة ، وإذا فرغ من حاجتهم غفر له» ، وعند ابن عساكر عن المقداد أنه قال : «من كان فى مصر من الأمصار يسعى على عياله فى عسرة أو يسرة ، جاء يوم القيامة مع النبيين. أما إنى لا أقول يمشى معهم ولكن فى منزلتهم». والعيال المقصودون هم من كان فى وسعه أن يعولهم ويحسن إعالتهم ، وليست الإعالة إطعاما وكساء وإسكانا ، ولكنها بالدرجة الأولى تربية وتعليما. وفى الحديث عند الطبرانى عن عبادة بن الصامت : «استعيذوا بالله من الفقر والعيلة» ، والعيلة هى كثرة العيال مع الفقر فذلك الذى يورث الإجرام. وفى الحديث عند الطبرانى ابن عمر أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أكبر الإثم عند الله أن يضيّع الرجل من يقوت» ، أو قال : «كفى بالمرء إثما أن يضيّع من يقوت» ، وضياعهم بأن يتركهم يتكفّفون الناس ويخاصمون العلم والتعلّم وينفرون من محامد الأخلاق ، وقال : «جهد البلاء كثرة العيال مع قلة الشيء» ، وبرواية الديلمى عن بكر بن عبد الله المزنى عن أبيه قال : «قلة العيال أحد اليسارين» ، واليسار الأول هو كثرة المال ، والثانى قلة العيال ، فجعل قلة العيال يسارا.

والإسلام حريص فى مسألة العيال على الكيف وليس على الكم. وعن أبى الدرداء عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ذرية صالحة يرزقها العبد ، يدعون له من بعد موته ، يلحقه دعاؤهم» ، وصلاح الذرية : بالعلم والتربية ، والتعويل على الأخذ بالأسباب ، أى بالمنهج العلمى ، وبذلك وحده يكون الصلاح.

* * *

١٧٣٥ ـ تنظيم النسل من الإسلام

يطلق على ذلك فى الإسلام اسم «العزل» ، وهو أن يمتنع الرجل عن الإنزال فى الفرج إذا لم يرد لامرأته أن تحمل ، وعن أبى سعيد الخدرى قال : ذكر العزل عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «وما ذلكم؟» قالوا : الرجل تكون له المرأة ترضع له ، فيصيب منها ويكره أن تحمل منه» ، بمعنى أنه يكره للموطوءة أن تحمل وهى ترضع فيضرّ ذلك بالولد المرضع ،

٨٠٨

وليس ذلك هو السبب الوحيد للعزل ، فقد يأتيه البعض فرارا من كثرة العيال إذا كان الرجل مقلا ، فيرغب عن قلة الولد لئلا يتضرر بتحصيل الكسب ، وقد تكون صحة الأم متوعكة لا تحتمل الحمل والرضاع ، وفيهما ضرر بالغ لها ، وقد يكون أحد الوالدين به مرض أو ضعف وراثى فينأى بنفسه عن أن ينجب نسلا ضعيفا أو مريضا ، وكثيرا ما تكون الزوجة من أقارب الزوج فيخشى على نسله أن يأتى ممروضا. وفى الصحيح عن جابر قال : كنا نعزل على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن ينزل» ، وزاد مسلم قوله : «فبلغ ذلك نبىّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم ينهنا». وعن ابن عباس أن الزوجة تستأمر فى العزل. وعن مالك : أن لها حق المطالبة أن لا يعزل زوجها إذا قصد به إضرارها. وعن عمر بإخراج أحمد وابن ماجة : أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن العزل إلا بإذن المرأة ؛ وفى الحديث المنسوب إلى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من طريق جذامة بنت وهب ، أنه لمّا سئل عن العزل ، قال : «ذلك الوأد الخفى» أخرجه مسلم ، وصحيحه عن جابر كما قيل : أن اليهود قالت عن العزل تلك «الموءودة الصغرى» ، فسئل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «كذبت اليهود». واليهود لم يكذبوا ، لأنهم يتمنون كثرة النسل ليزيد عددهم. والذين نهوا عن العزل من المسلمين ، وفعلوا ذلك بدعوى شرعية وليس لأسباب قومية ، بزعم أن فيه تفويتا لحق الزوجة ، ومعاندة للقدر ، وإسقاطا للنطفة. والذين قالوا بالإباحة فعلوا ذلك إطلاقا ، وجوّزوا للزوج أن ينزع متى يشاء حتى لو أنزل خارج الفرج ، وبذلك لا يكون هناك علوق ولا حمل ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان على عكس هؤلاء وهؤلاء ، يحضّ على الزواج والإنجاب ، من منطلق قومى ، لتكثر أمّة لا إله إلا الله ، فلا يكونوا قلة ، ومن ثمة يصحّ القول بأنّ العزل هو وأد خفيّ حقّا.

* * *

١٧٣٦ ـ هل يفرّق بين الولد والبنت فى الهبة؟

لا يجوز فى الإسلام أن يخص المسلم أولاده الذكور بشيء يحرم منه بناته ، حتى يعدل بين أولاده وبناته ، ويعطى الذكور كما يعطى البنات ، وفى الصحيح عن النعمان بن بشير أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اعدلوا بين أولادكم فى العطية» ، وفى رواية المغيرة عن الشعبى عند مسلم قال : «اعدلوا بين أولادكم فى النّحل كما تحبون أن يعدلوا بينكم فى البرّ» ، وفى رواية مجالد عن الشعبى عند أحمد قال : «إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم» ، ولأبى داود من هذا الوجه قال : «ألّا سويت بينهم»؟ ، فالتسوية بين الذكور والإناث واجبة إن قصد الأب بتفضيل الذكور على الإناث والإضرار بالإناث. وفى رأى البعض أن الأب إذا كانت عنده بنت لم تتزوج وكبرت فى السن ، أو كانت مريضة مرضا مزمنا ، أو طلّقت ولا مورد لها ، أن يفضّلها على سائر أولاده الذكور والإناث معا ، على أن التسوية مستحبة مع ذلك ، لأن التفضيل ـ خاصة إن كان للأولاد الذكور على الإناث بلا سبب غير الذكورة والأنوثة ـ

٨٠٩

يقطع الرحم ويستجلب العقوق وهما محرّمان ، وما يؤدى إليهما يكون من ثمّ محرّما. ولا فرق إذن فى الإسلام بين الذكر والأنثى ، ويشهد بذلك الأمر بالتسوية ، وفى الحديث عن ابن عباس مرفوعا : «سووا بين أولادكم فى العطية ، فلو كنت مفضّلا أحدا لفضّلت النساء» أخرجه سعيد بن منصور والبيهقى. ولكن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يفضّل أحدا فى واقع الأمر ، لا النساء ولا الرجال ـ وسوّى بين الجميع. وقد فضّل أبو بكر ـ على العكس ـ ابنته عائشة على سائر أولاده الإناث والذكور ، ثم رجع قبل وفاته فى عطيته ، وقال لها برواية الموطأ عن عائشة : إنى كنت نحلتك نحلا ، فلو كنت اخترتيه لكان لك ، وإنما هو اليوم للوارث». وسبب العطية لعائشة وتمييزها عن إخوتها وأخواتها أنها كانت الأبرّ بهم ذكورا وإناثا ، وكانت تصلهم ، وتعنى بهم ، وتشرف عليهم جميعا ، ورجوعه فى العطية أو الهبة يجوز. ومن العجيب أن الفقهاء جوّزوا أن ترجع الزوجة التى تهب زوجها شيئا فى هبتها ، ولم يجوّزوا للزوج الذى يهب زوجته أن يرجع فى هبته ، قيل : رحمة بالنساء من غضبات الرجال وتحوّل ميولهم ، فكيف يقال إن الإسلام يعادى المرأة؟ وقد يميل الأب إلى زوجة ، أو ولد ، أو بنت ، دون بقية أهل بيته ، وذلك حقّه لا سبيل له فيه ، وإنما تجب التسوية بينهم فى غير ذلك ، وهذا هو حكم الإسلام. على أننا يجب أن نراعى أن بعض أولادنا فيهم سفه ، فكيف نسوّى بينهم وبين العقلاء؟ والله تعالى يعطى بقدر العمل ، والابن الصالح البار بأبويه وأهله يستحق التمييز لصلاحه وبرّه ، ولما يعود به ذلك على عائلته وإخوته وأمه ، وعلى مجتمعه ، فليست التسوية إذن مطلوبة دائما.

* * *

١٧٣٧ ـ هل صحيح أننا نعق عن الصبى ضعف عقيقة البنت؟

العقيقة : اسم لما يذبح عن المولود ، وأصلها شعر المولود ، وسمّيت به الشاة التى تذبح عنه ، لأنه يحلق عنه ذلك الشعر عند الذبح. وفى سفر الأحبار اليهودى ، الفصل الثانى عشر يأتى : أن الحبلى التى تلد ذكرا تظل نجسة سبعة أيام ، كحكم أيام طمثها يكون حكم نجاستها ، وفى اليوم الثامن يختن الولد ، وتظل المرأة ثلاثة وثلاثين يوما فى دم طهرها لا تلامس شيئا من الأقداس إلى أن تتم أيام طهرها ، فإن ولدت أنثى فنجاستها الضعف ـ أى لأسبوعين ، وتقيم فى دم التطهير ستة وستين يوما ، ثم إنها بعد تمام أيام تطهيرها ، بالنسبة للولد أو للبنت ، تذبح حملا وفرخ حمام أو يمامة ، فتقرّبهما قربانا ، فإن كانت فقيرة تكتفى بيمامتين أو حمامتين». ـ ونجاسة الوالدة غير واردة فى الإسلام ، وطهرها من طمث الولادة وما بعدها لا يكون بالذبح ، والولادة ليست خطيئة كما فى اليهودية ، والذبح فى الإسلام ليس قسرا بل لمن يقدر عليه. وشعائر الإسلام أكبر ، فغداة يولد الطفل عند المسلمين يسمّى بعد أن يعقّ عنه أو لا يعقّ بحسب وسع الوالد ، ثم يحنّك ، وقد فعل ذلك

٨١٠

النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع عبد الله بن الزبير لمّا ولدته أسماء بنت أبى بكر ، فكان أول مولود ولد فى الإسلام ، وفرح المسلمون به كثيرا لأنه قد قيل لهم إن اليهود سحرتهم فلا يولد لهم. والتحنيك يكون بالتمر أو بشيء حلو كعسل النحل. ولم يحب النبىّ العقيقة لأن الاسم من العقوق ، وقال فيها : «من ولد له ولد فأحبّ أن ينسك عنه فليفعل» رواه أحمد ، ولأن النبىّ كره اسم العقيقة فقد آثر البعض أن يسميها «النسيكة» أو «الذبيحة». والتحنيك بعد التسمية ، ولا ينتظر الوالدان للتسمية إلى اليوم السابع. وتسمية المولود يوم يولد أصحّ من تسميته فى اليوم السابع ، غير أنه كما ورد عن عائشة فإن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عقّ عن الحسن والحسين فى اليوم السابع ، وسمّاهما فى اليوم السابع. والصبى يعقّ عنه كالجارية ، إلا أن البعض يعقّ عن الصبىّ بشاتين مكافئتين ـ أى متعادلتين ، وعن الجارية بشاة واحدة. وقد ورد عن أبى هريرة أن اليهود تعق عن الولد بكبش ولا تعقّ عن الجارية ، والصحيح عن اليهود هو ما قلناه أنهم يعقّون بحمل. واستخدم فى التفرقة بين وضع الصبى والجارية من بعد ، وتفضيل الصبى على الجارية ، الاختلاف حول : هل يعق بشاة واحدة أو بكبش عن كل من الصبى والجارية؟ أو يعق عن الصبى بكبشين والجارية بكبش؟ إلا أن مالكا لم يفرّق بين الصبى والجارية وجعلهما سواء ، وقال بأنه يعق عن كل أحد منهما بشاة ، واحتج لذلك بأن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عقّ عن الحسن والحسين كبشا كبشا ، فلو كان الصبى يعق عنه بكبشين لفعل ، ومن ثم فلا تفرقة بين الصبى والجارية ، وهذا هو الصحيح أيضا. وقد فهم البعض أن قصر العقيقة على الشاة أو الكبش يتعيّن به أن تكون من الغنم ، إلا أنه فى الحديث عند الطبرانى عن أنس قال : «يعق عنه من الإبل والبقر والغنم» ، والجمهور على إجزاء الإبل والبقر أيضا كالغنم ، والسبب فى إيثار الغنم أن العرب كانوا رعاة غنم ولم يكونوا رعاة إبل ولا بقر. ويسمّى على العقيقة كما يسمى على الأضحية ، ويقال : «بسم الله عقيقة فلان» أو يزاد على ذلك : «اللهم منك ولك عقيقة فلان ، بسم الله والله أكبر» ، ثم يذبح. وليس صحيحا أن رأس الطفل يطلى بدم العقيقة!! وقد ورد عن عائشة قالت : كانوا فى الجاهلية إذا عقّوا عن الصبى خضّبوا قطنة يوم العقيقة ، فإذا حلقوا رأس الصبى وضعوها على رأسه ، فقال النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اجعلوا مكان الدم خلوقا» ونهى أن يمس رأس المولود بدم. والخلوق ضرب من الطيب. وفى الحديث «يعقّ عن الغلام ولا يمس رأسه بدم». وعند أبى داود والحاكم فى حديث الجاهلية قالت عائشة برواية مختلفة : فلما جاء الله بالإسلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ـ أى المولود ـ ونلطخه بزعفران ، والزعفران طيب. وعن مالك أن من مات قبل السابع تسقط عنه العقيقة ، وأنه من يفوته أن يعق فى السابع الأول ، يعق عنه فى السابع الثانى ، وربما فى السابع الثالث. وأول السبعة اليوم الذى يلى يوم الولادة ، واليتيم يعق عنه من ماله. ويكره حلق رأس الجارية. وقد يؤثر عن العقيقة أن يحلق رأس

٨١١

الصبى ويتصدّق بوزن شعره ذهبا أو فضة ، وفى حديث العقيقة عن الحسن والحسين قال النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا فاطمة ، احلقى رأسه وتصدقى بزنة شعره». وقال علىّ بن أبى طالب : وزنّاه فكان درهما أو بعض درهم. ـ وهذا غير معقول طبعا أن يزن شعر الطفل المولود درهما!! وعند أحمد من حديث أبى رافع : لما ولدت فاطمة حسنا قالت : يا رسول الله! ألا أعق عن ابني بدم؟ قال : لا ، ولكن احلقى رأسه وتصدّقى بوزن شعره فضة» ، ففعلت ، فلما ولدت حسينا فعلت مثل ذلك. والخلاصة : أن الأمر فى العقيقة سيّان ، أن تعقّ أو لا تعقّ ، والتصدّق بالمال أفضل فى أيامنا ، شكرا لله تعالى على جزيل نعمه ، والحمد لله ربّ العالمين.

* * *

١٧٣٨ ـ الابن الدعىّ والابن بالتبنّى

يأتى اسم زيد بن حارثة فى آية واحدة فى القرآن كواحد من الأدعياء ، أى الذين يدعون أبناء وليسوا كذلك على الحقيقة. ولم يأت ذكره إلا لأهمية ذلك فى التشريع ، ومناسبة الآية المرتبطة باسم زيد تحفل بالأحداث التى كانت موضع الكثير من التساؤلات ومثار الكثير من التشنيع على الإسلام والطعن على النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد أنزل الله تعالى الآية : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) (٤) (الأحزاب) لتزيل الشبهات حول معنى الدعىّ ، وقبلها يأتى : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) (٤) (الأحزاب) توطئة للمقصود المعنوى من آية الأدعياء ، بأمر حسّى معروف ، وهو أنه كما لا يكون للشخص الواحد قلبان فى جوفه ، كذلك لا يصير الدعىّ ولدا للرجل إذا تبناه فدعاه ابنا له ، والمقصود بالنفى ليس أن الرجل يستحيل أن يكون له قلبان فى جوفه ، وإنما المقصود نفى أن يكون الدعى ولدا على الحقيقة لرجل بمجرد أن يدعى كذلك قولا. والآية نزلت فى شأن زيد بن حارثة مولى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان قد تبنّاه قبل النبوة ، فكان يقال له : «زيد بن محمد» ، فقطع الله تعالى هذا الإلحاق وهذه النسبة بقوله : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) (٤) (الأحزاب) ، كما قال : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) (٤٠) (الأحزاب) ، وقال : (ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) (٤) (الأحزاب) يعنى تبنيكم لأدعيائكم هو بالقول فقط ، ولا يقتضى القول أن يصبح حقيقة ، فإن الدعى فى الحقيقة هو ابن لرجل آخر ، وما يمكن أن يكون له أبوان ، كما لا يمكن أن يكون للبشر الواحد قلبان.

وزيد فيما روى عن أنس وغيره سبته فى الشام خيل من تهامة ، فابتاعه حكيم بن حزام بن خويلد ، ووهبه لعمّته خديجة بنت خويلد ، التى وهبته بدورها لزوجها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان ذلك قبل الإسلام ، وأعتقه النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتبنّاه ، فأقام عنده مدة ، ثم جاء عمه وأبوه يرغبان فى فدائه ، فقال لهما النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل البعث : «خيّراه ، فإن اختاركما فهو لكما دون

٨١٢

فداء» ، فاختار زيد صحبة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على صحبتهما وقومه ، وآثر أن يكون رقيقا مع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على أن يكون حرا مع غيره حتى لو كان هذا الغير هم قومه وأهله ، فقام النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتوه وقال : «يا معشر قريش! اشهدوا أنه ـ أى زيد ـ ابني يرثنى وأرثه» وطاف على الناس يشهدهم على ذلك ، فرضى عمه وأبوه وانصرفا. وكان ذلك قبل المبعث ، وقيل إن أباه ظل يبحث عن ابنه ويدور بالشام ينادى :

بكيت على زيد ولم أدر ما فعل

أحييّ فيرجى أم أتى دونه الأجل؟

فأخبروه أنه بمكة ، فجاء إليه وحدث ما حدث. وفى زيد نزلت الآية : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) (٣٧) (الأحزاب) ، ادعيائهم ، فكأن السبب فى تزويج النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من زينب امرأة زيد بعد أن طلقها زيد ، هو أن لا يكون على المؤمنين حرج إذا تزوّجوا من مطلقات ادعيائهم ، وقبل ذلك نفى الله تعالى أن يكون الدعى ابنا على الحقيقة ، فمطلقات الأبناء من الصّلب هن فقط المحرّمات على الآباء.

وقتل زيد فى مؤتة من أرض الشام سنة ثمان هجرية ، وكان النبىّ قد أمّره على تلك الغزاة ، وقال : «إن قتل زيد ، فجعفر ـ يعنى تكون الإمارة لجعفر ، فإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة» ، فقتل الثلاثة فى تلك الغزاة.

ويقول الله تعالى فى الأدعياء : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٥) (الأحزاب). وفى ذلك قال ابن عمر : ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا «زيد بن محمد» ، وقوله هذا دليل على أن التبنى كان معمولا به فى الجاهلية والإسلام ، ويتوارث به ، ويتناصر ، إلى أن نسخ الله تعالى ذلك بقوله : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) (الأحزاب ٥) ، فجعل من العدل أن يدعى الابن بالتبنى لأبيه الحقيقى ، أى أبيه نسبا. ولم تنسخ الآية التبنّى وإنما نسخت أن يدعى الولد بغير اسم أبيه الحقيقى ، كما نسخت كل ما كان يترتب على اعتباره ابنا على الحقيقة ، فإن لم يكن معروف الأب ، فالآية تقول ينسب إلى ولائه ، فإن لم يكن له ولاء معروف ، فيعامل معاملة الأخ فى الدين ، والله يقول : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (١٠) (الحجرات). وكان العرب قبل ذلك يعاملون أبناء التبنى معاملة الأبناء من كل وجه ، كالخلوة بالمحارم وغير ذلك ، فلما نسخت هذه المعاملة أبيحت زوجة الدعى ، وتزوج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مطلقة زيد. وفى آية التحريم شرطه بقوله : (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) (٢٣) (النساء) احترازا عن زوجة الدعى فإنه ليس من الصلب ، فأما دعوة الغير ابنا على سبيل التكريم والتحبيب فليس مما نهى عنه ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول لأنس بن مالك : «يا بنىّ» ، وقال لأولاد بنى عبد المطلب : «يا بنىّ» ، وعلى ذلك فإن

٨١٣

النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد هذه الآية قال لزيد : أنت أخونا ومولانا» ، كقول الله تعالى : (فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) ، (الأحزاب ٥) ، وقد نهى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتحرّج مسلم أن يدعى باسم أبيه ، فقال : «لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم» ، والكفر هنا هو الفسوق ، وفى الحديث : «ثلاث فى الناس كفر ..» ، منهم الطاعن فى النسب ، فالذى يطعن فى نسب آخر فقد كفر ، أى فسق ، وكذلك الذى يدعى لغير أبيه وهو يعلمه.

* * *

تابع الإسلام الاجتماعى

* * *

خامسا : الأسرة

* * *

١٧٣٩ ـ الأب والأم والابن والابنة والأخ والأخت

الأب هو الوالد ، والأم الوالدة ، والأولاد والبنات منهم الابن والابنة ، ويقال إنهم إخوة وأخوات ، جمع أخ وأخت. والأبوة قد تكون أبوة جسد ، كقوله تعالى (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) (٩٩) (يوسف) ، والأبوان هما الأب والأم ، غلب عليهما اسم الأب. ويقال «يا أبتى» صيغة إعزاز او احترام لمخاطبة الأب كقوله تعالى : (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ) (يوسف ٤) ، والعرب يقولون : «فديتك بأبى» كناية عن الإعزاز ، ومثل ذلك قولهم : «بأبى أنت وأمى». وفى الآية : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) (٤٠) (الأحزاب) نفى أن يكون للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولد بعد أن مات أولاده إبراهيم والقاسم ، وقال تعالى : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) (٤) (الأحزاب) والدعىّ هو الابن بالتبنى ، وقال : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) (٥) (الأحزاب) فذكّر بأن الأولى والأعدل أن ينسب الرجل إلى أبيه نسبا ، وأسقط نظام التبنى.

وكما تكون الأبوة بالجسد تكون كذلك بالقلب ، وكان العارف بالله إبراهيم الدسوقى يدعو اتباعه «أولاد القلب» ، ويقول : إن ابن الجسد أو الابن من الصلب ، يرث المال ، وأما ابن القلب فميراثه المذهب. ولم يورث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مالا ولكنه ورّث القرآن والسنّة. وفى دعاء زكريا ، قال : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) (مريم) ، كان يعنى يرث عنه المال ، ويرث عن آل يعقوب الحكمة والنبوة.

والأم والأب يرثان عن ابنهما : (لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) (١١) (النساء) ، (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) (١٢) (النساء).

٨١٤

ويرث الأبناء عقائد الآباء وآدابهم ، كقوله تعالى : عن آبائنا الأقدمين : (نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) (٢١) (لقمان) ، وقول إسماعيل لأبيه إبراهيم : (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (١٠٢) (الصافات) ، ومثل نصيحة بنت شعيب لأبيها : (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) (٢٦) (القصص) ، ونبّه القرآن إلى ذكاء هذه الابنة وأدبها العالى باعتبارها البنت الكبرى ، فقال تعالى : (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) (٢٥) (القصص) ، ومثل ذلك أدب يوسف مع أبويه : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) (١٠٠) (يوسف) ، ويعدّ حوار إبراهيم مع أبيه نموذجا للنقاش مع الأب فى قوله تعالى : (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) (٤٧) (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) (٤٨) (مريم) ، فلم يعارض أباه بسوء الردّ. وقد يقال للعم أبا ، وقيل : كان آزر هو عم إبراهيم الذى ربّاه ، ومع ذلك جاء عنه فى القرآن أنه أبوه ، قال : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) (٧٤) (الأنعام) ، وقال : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ) (١١٤) (التوبة). وفى القرآن نوديت مريم أم عيسى بالأخت فقيل : (يا أُخْتَ هارُونَ) (٢٨) (مريم) ، ولم تكن أخت هارون على الحقيقة ولكنها من بيت هارون ؛ وفى التوراة والإنجيل نفس الشيء ، فقال عن الأعمام أنهم آباء ، ويقال للسيدة «يا أخت» ، كما يقال للرجل : «يا أخ» ومن قصة يوسف مع إخوته وأبيهم خلصنا إلى ما أطلقنا عليه اسم «عقدة الإخوة» ، ويسميها أهل الطب النفسى تنافس الأشقاء ، وهو أن تعتمل الغيرة فى نفوسهم ضد الابن المقرّب من أبيه ، وفى قصة يوسف بلغ من شدّة غيرتهم أنهم دبّروا قتله ، قالوا : (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) (٩) (يوسف).

وفى تعاليم القرآن عن الوالدين : البرّ ، كقوله تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) (٨٣) (البقرة) ، والوصية لهما ، كقوله : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ) (١٨٠) (البقرة) ، والنفقة عليهما ، كقوله : (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ) (٢١٥) (البقرة) ، والإحسان بهما ، كقوله : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) (٣٦) (النساء) ، والشكر لهما ، كقوله : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) (١٤) (لقمان). ومن دعاء إبراهيم للوالدين قوله : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) (٤١) (إبراهيم).

والأم كالأب ، وهى أمّ على الحقيقة ، وأم بالرضاع ، ولها حقوقها وآداب التعامل معها ، كالأسرة جميعا ، ويحرم الزواج منها سواء كانت أما بالولادة أو بالرضاع ، وشأنها شأن البنات والأخوات. والأخوات بالرضاع يحرم الزواج منهن كتحريم الزواج من الأخوات بالولادة ، والبنات ، والأم ، والأخوات إلخ ، كقوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ

٨١٥

تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) (٢٣) (النساء) ، والربيبة هى بنت المرأة من رجل آخر بخلاف زوجها الحالى وتنشأ فى كنف زوج أمها.

وفى الآية عن مريم ، عن مستتبعات الوالدية قوله : (ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) (٢٨) تنبيه إلى ميراث الصفات الأخلاقية عن الأبوين ، وعن الأم خصوصا ، ولقد أوصى الله بها ، ونبّه إلى سبب الوصية فقال : (وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) (١٥) (الأحقاف) ، وقال : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) (١٤) (لقمان). ولمّا لم تنجب نساء النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللاتى كن معه فى المدينة ، عوّضهن الله خيرا ، وكرّمهن أجمل تكريم ، وجعلهن «أمهات للمؤمنين» ، قال : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) (٦) (الأحزاب). وكرّم الله تعالى المرأة عموما فحرّم الظهار : وهو أن يقول الرجل لزوجته : أنت علىّ كظهر أمى» ، فتحرم عليه ، فقال : (إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) (٢) (المجادلة) فمايز بين الزوجة والأم ، وجعل لكلّ مكانتها العالية ، وفى كل الأحوال فإن كل الأمهات زوجات ، وأغلب الزوجات أمهات ، واختص الأم بحضانة طفلها وإرضاعه ، كما اختص الأب بحق تربيته. والأب : ليس من حقه أن يجبر ابنته على الزواج ، وله حقّ تولّى مال أولاده القصّر ، وله دون غيره أن يأخذ من مال ولده ما يشاء ، مع حاجة الأب إلى ما يأخذه ، صغيرا كان الولد أو كبيرا ، شريطة أن لا يجحف بالابن ولا يضرّ به ، ولا يأخذ إلا ما تتعلق به حاجته. وليس للأب أن يتصرّف فى مال الصغير ؛ وعليه التسوية بين أولاده فى العطية. ولا يجوز للابن الخروج للجهاد إلا بإذن الوالدين ، ولا حدّ للأب وللأم إن قذفا ابنهما ، وإن سرقا ماله لا يقطعان فيه ، ولا يقطع الابن وإن سفل بسرقة مال والده وإن علا ؛ وأما الإخوة والأخوات فيقطعون بسرقة أموال بعضهم البعض. ولا يقتل الرجل بولده ، ولا بولد ولده وإن نزلت درجته ، سواء فى ذلك ولد البنين وولد البنات. وقتل الأب والأم لابنيهما فى الأصل موجب للقصاص ، وهو أعظم ذنب بعد الشرك بالله ، وقد ساوى الله تعالى بينه تعالى وبينهما فقال : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) (١٤) (لقمان) ، وإنما سقط وجوب القصاص لمعنى مختص بالوالدين وهو الولادة ، بينما ويقتل الولد بكل من والده ووالدته ، وروى أن الابن لا يقتل بأبيه أو أمه.

وليس للأبناء من الرجل إرث مقدّر : فإن كان معهم ذو فرض أخذوا ما فضل عنه ، وإن انفردوا أخذوا الكل ، فإن استغرقت الفروض المال سقطوا ولم يأخذوا شيئا. ويعصب الإخوة أخواتهم ، ويقتسمون معهن ، للذكر مثل حظ الأنثيين ، وتشمل العصبات : الابن ، وابن الابن وإن نزل والأخ ، والأخ من الأب ، وأما بقية العصبات فينفرد الذكور منهم بالميراث دون الإناث ، وإذا كان ضمن العصبات أخ لأم وأخ لأب ، أخذ الأخ لأم السدس ،

٨١٦

والباقى للأخ من الأب. والوارثون من الرجال هم : الابن ؛ ثم ابن الابن وإن سفل ، والأب ؛ ثم الجد وإن علا ؛ والأخ ؛ ثم ابن الأخ ، والعمّ ، ثم ابن العم ؛ والزوج ، وكلهم قد يسقطون ما عدا الأب والابن والزوج. ويسقط الإخوة الأشقاء بالابن ، وابن الابن وإن سفل.

وفى الشهادة : تقبل شهادة الأخ لأخيه ، ولا يستحق الأخ لأم الحضانة. وفى الإرث : يسقط الإخوة لأم ، ذكورهم وإناثهم ، بالولد ، وولد الابن ، وبالأب ، وبالجدّ والد الأب وإن علا.

* * *

١٧٤٠ ـ الأسر المسلمة نواة والمجتمع المسلم والدولة المسلمة

يتحدث القرآن عن الأسرة تحت اسم الأهل ، من أهل أى تزوّج ، وتأهّل أى اتخذ أهلا وصارت له زوجة ، والأهل هم الزوجة والعيال ؛ وفى القرآن : (احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ) (هود ٤٠) والآية دليل على أن الأهل هى الزوجة ، أو هى الزوجة وعيالها ، كقوله تعالى : (يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) (هود ٤٦) يعنى أنه وإن كان من صلبك إلا أنه عدوك ، فالأهل كما تربط بينهم صلة الرحم ، فإنهم لا بدّ أن يكونوا متراحمين فعلا ، وإلا فغير المتراحم ليس من الأهل أخلاقا ودينا. وفى قوله تعالى : (لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ) (العنكبوت ٣٢) : أن عيال الرجل هم أهله إضافة إلى امرأته ، كقوله : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) (هود ٤٥). ويقال مجازا عن المكان أنه «مأهول» يعنى مسكونا ، وسكانه هم أهله ، كقوله تعالى : (أَهْلِ مَدْيَنَ) (القصص ٤٥) ، و (أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) (العنكبوت ٣١) أى سكانها. وفى أقواله تعالى عن أهل نوح ، وهود ، ولوط ، وإبراهيم إلخ ، أنهم الجماعة ، أو الوحدة الاجتماعية التى يتألف منها مجتمع المكان ، ويتعاونون معا اقتصاديا. وأبرز الوظائف للأهل بمعنى الأسرة : هى الوظيفة الاجتماعية. وأهل الزوج هم زوجته ، وتتميز علاقته بها دون سائر علاقاته مع النساء الأخريات ، بأنها علاقة جنسية شرعية بين زوجين. ولا يكون الأهل أهلا ، ولا الأسرة أسرة إلا إذا تحقق أن يكون لها الأولاد. والرجل بالزواج يصبح زوجا ، وبالإنجاب يصبح ربّ أسرة ، ويصير له «أهل» ، والأسرة المسلمة كما يأتى عنها فى كثير من الآيات ، هى الأسرة النواةnuclear family ، وهى التى تتألف من الزوجين وطفل أو أكثر ، وتتجمع هذه الأسر كما تتجمع الذرّات وتصبح جزيئا ، فتكوّن مجتمعات أكبر هى المجتمعات المدنية. والقرآن يحضّ على الزواج لإكثار النسل وإعمار الأرض. وفى القرآن يوجد نوعان من الأسر : الأسرة أحادية الزوجةmonagmous family ، التى تتكون من زوج وزوجة واحدة ، كأسرة آدم وحوّاء قال تعالى : (يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) (البقرة ٣٥) ؛ والأسرة متعددة الزوجات polygamous family ، وهى التى تتكون من زوج

٨١٧

وعدّة زوجات ، كأسرة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) (الأحزاب ٦) ، وقال : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) (التحريم ٣) ، إلا أن الأصل فى الزواج أنه من واحدة ، قال : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) (الزمر ٦) ، وقال : (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (٤٥) (النجم ٤٥) ، والأصل فى الخلق أيضا أنه من زوجين ، كقوله : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) (الذاريات ٤٩). وفى الأسرة متعددة الزوجات يصبح الرجل هو همزة الوصل الذى يربط الزوجات وأولادهن ، ويخلق ما يسمى بالأسرة الممتدة ، وفى أى مجتمعات فإن الأسرة قد تكون مرتبطة بالأم وتنتسب إليهاmatriarchal family ، وإقامتها عند أهل الأم matrilocal ، وقد تكون مرتبطة بالأب petriarchal family ، وإقامتها عند أهله patrilocal ، والأسرة المسلمة من النوع الثانى ، وترتبط بالأب وتنتسب إليه ، وإقامتها عند أهله أو مرتبطة بهم ، ولا يعنى ذلك تهميش دور الأم وأهلها ، فالانتساب عادة يكون لمن يعول ويعمل ويكسب ، ويعرف بجدّه ونشاطه وحركته فى الحياة. وفى القرآن فإن مبدأ التكوين الاجتماعى للأسرة يقوم على «تقسيم العمل» ، فالرجل بما له من صفات وقدرات له مجالات عمله ، كما أن للمرأة مجالات عملها ، ولأنها تحمل وترضع فإنها تنقطع تقريبا لعملها هذا نحو السنتين تعتمد فيهما على زوجها ، كقوله تعالى : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَ) (الطلاق ٦). ويقوم بناء المجتمع الإسلامى وتنشئة الفرد المسلم على أربع وظائف للأسرة المسلمة : جنسية ، واقتصادية ، وإنجابية ، وتربوية ، فالوظيفتان الأولى والثالثة : مهمتهما بقاء المجتمع المسلم ، وتكاثر أفراده ؛ والوظيفة الثانية : يعتمد عليها استمرار حياة المسلمين ومجتمعاتهم ودولهم ؛ والوظيفة الرابعة : يعتمد عليها استمرار الحضارة الإسلامية. وقد رتبت الشريعة حقوقا للمرأة وللرجل ، وللأولاد ، ونظمت العلاقة بينهم ، فلم تجعل للابن الخروج إلى الجهاد إلا بإذن أبويه ، ولا أن يقتص من الوالد للولد ، ولا للولد من الوالد ، وألزمت الأبوين بالتسوية بين الأبناء فى العطايا ، وفرضت للزوجة وأولادها النفقة على والدهم إلخ. والخلاصة : أن الأسرة فى الإسلام هى عماد المجتمع ، وهى الوحدة التى يتألف منها بناؤه ، ولا محيد عنها ، ولأفرادها حرياتهم الشخصية من داخل إطار المصلحة العامة للأسرة وللمجتمع ككل ، وهو أمر يخالف فيه القرآن نظريات العولمة. ولأن الاجتماع الإنسانى ضرورة ، كانت الأسرة ضرورة ؛ وكذلك الزواج ، فالزواج تتكون به العائلات ، وتنشأ المجتمعات وتأتلف ، وتكون الأمم والشعوب ، سواء فى الإنسان ، أو الحيوان ، أو الطير ، وحتى الجن ، كقوله : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ) (٣٨) (الأنعام) ، وقوله : (ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) (٣٨) (الأعراف) ، وقوله : (وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً) (١٦٨) (الأعراف) ، وكما ترى فإن الاجتماع كله قائم على التزاوج والتكاثر ، فى

٨١٨

مجتمعات وشعوب وأمم ، تتباين فيما بينها بحكم أعراقها ، وحكمة ذلك التباين بين المجتمعات والأمم والشعوب ، هو أن تتعارف ، وتتواصل ، وتتبادل المعارف والمنتجات ، وتتثاقف وتتلاقح حضاريا ، كقوله : (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا) (١٣) (الحجرات).

* * *

١٧٤١ ـ نفقة المولود والوالدين والأقارب

تجب نفقة الوالدين على الأبناء وإن نزلوا ، ذكورا وإناثا ، كقوله تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) (البقرة ٨٣) ، وقوله : (وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ) (مريم ١٤) ، وتجب نفقة المولودين على الوالدين ، كقوله : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة ٢٣٣) ، ويجب على الأم أن تنفق على ولدها إذا لم يكن له من ينفق عليه سواها ، وإن أعسر الأب وجبت النفقة على الأم. ويجب الإنفاق على الأجداد والجدّات وإن علوا ، وولد الولد وإن سفلوا. ومن كان له أب من أهل الإنفاق لم تجب نفقته على سواه. والقدرة على الإنفاق شرط فى التكليف ، والنفقة على الأصول والفروع واجبة حتى مع فسوقهم أو كفرهم ، كقوله تعالى عن الأبوين الكافرين : (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) (لقمان ١٥) ، وشرط الإنفاق : الفقر والعجز ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا حظّ فى الصدقة لغنىّ ولا لقوى مكتسب» ، لأن النفقة معونة على سدّ الحاجة ، طعاما ، أو كسوة ، أو سكنا ، أو مصاريف مدارس ، أو علاجا ، وهذه جميعا لحفظ الحياة ، ودفع الضرورة. ولا يجب على الابن أن يزوّج أباه إن احتاج لذلك ، ولا على الأب أن يزوّج ابنه ، لأن الزواج ليس من النفقة ـ أى الصدقة ، وقيل : يجب على الولد إعفاف أبيه ، وعليه نفقة زوجته ، والفرق بين نفقة الزوجة ونفقة القريب : أن الغرض من نفقة القريب مواساته وسدّ خلته ، فوجوبها لدفع الخلة ، لا لعوض ، فإذا أخلّ بها أثم ، ولكنها لا تستقر فى الذمة ، ولا يجب قضاؤها ، بخلاف نفقة الزوجة ، فإنها عوض الاستمتاع ، فكانت كالمعاوضة المالية ، فإذا لم يؤدّها استقرت فى ذمّته ووجب قضاؤها ، وإذا اجتمعت على الشخص الواحد عدة نفقات عليه أن يقوم بها ـ ولم يستطع إلا القيام ببعضها دون البعض ، فنفسه أولا مقدمة على جميع الحقوق ، لأهمية النفس لحياة صاحبها ، فإن فضل منه شىء ابتدأ بزوجته ، لأن نفقتها تثبت على سبيل المعاوضة ، وإن فضل شىء فهو بين الأقارب ، حتى القريب مدّعى الفقر ، وحتى تكفين الميت المعدم قد يقوم به قريبه.

* * *

١٧٤٢ ـ ترتيب أفراد الأسرة فى استحقاق النفقة

النفقة للزوجة أولا دون الأقارب ، ثم من بعد ذلك الأقرب فالأقرب ، فإن اجتمع أبّ وجدّ ، أو ابن وابن ابن ، قدّم الأبّ على الجدّ ، والابن على ابن الابن. وإن اجتمع ابن

٨١٩

وجدّ ، أو أبّ وابن ابن ، قدّم الابن والأبّ ، ويحتمل التسوية. فإن اجتمع جدّ وابن ابن فهما سواء. وإن اجتمع أبّ وابن ، فإن كان الابن صغيرا ، وما يزال فى المدارس ، أو مريضا يشكو علة أو عجزا ، قدّم. وإن كان كبيرا ، والأب زمن ، فالأبّ أحقّ ، وإن كانا صحيحين فقيرين احتمل التسوية بينهما ، وإن اجتمع أبّ وأم تقدّم الأم ، وإن اجتمع جدّ وأخ أو جدّ وابن عمّ ، أو عمّ ، فالجدّ أحقّ. وإذا اجتمعت على الواحد نفقات كثيرة يعجز عن الوفاء بها جميعا ، فليبدأ بنفسه أولا ، لأن نفسه مقدّمة على جميع الحقوق.

* * *

١٧٤٣ ـ الختان واجب على الرجال دون النساء

الختان : من ختن أى قطع ، يقال : ختن الصبى : يعنى قطع قلفته ، فالصبى ختين ، ومختون ، والختان عند اليهود للصبيان ولا ختان للبنات ، وعند المسلمين فإن العادة كانت أن يختتن الذكور والإناث ، ولا يوجد ما يدل على ذلك فى القرآن ، وقيل : إن الختان فى السنة واجب على الرجال ، ومكرمة فى حق النساء ، وليس بواجب عليهن ؛ والكبير الذى لم يختن ويخاف الختان يسقط عنه ، وإن أمن على نفسه لزمه ؛ ولا إثم على من مات قبل أن يختن. والدعوة لوليمة الختان مستحبة ، والإجابة إليها مستحبة وغير واجبة. والاحتفال لا بأس به.

* * *

تابع الإسلام الاجتماعى

* * *

سادسا : الطلاق

* * *

١٧٤٤ ـ ما هو الطلاق فى الإسلام؟

الطلاق فى اللغة : هو حلّ الوثاق ، مشتق من الإطلاق وهو الإرسال والتّرك ، ويقال فلان طلق اليد بالخير أى كثير البذل. والطلاق فى الشرع : هو حلّ عقدة التزويج. ولفظ الطلاق جاهلى ، وكان الطلاق موجودا فى الجاهلية ، وأقرّه الإسلام وهذّبه ، ووضع له الضوابط ، وواسطه أى جعل الأمر فيه وسطا بين إطلاق الجاهلية حيث لم يكن للطلاق ضابط ولا رابط ، وبين تشدّد وتطرّف اليهود والنصارى ، فاليهودية إذا طلّقت فلا رجعة لها إلا بصداق وعقد جديدين ، وإذا نسب الزوج إلى من يتزوجها بكرا أنها ليست بكرا غرّم لذلك وجعلت البنت زوجة له مدى الحياة لا يطلقها. والكاهن لا يتزوج مطلقة غيره فى اليهودية. والزواج من أكثر من واحدة مباح بلا إحصاء ، وكان لسليمان سبعمائة زوجة وثلاثمائة أمة

٨٢٠