موسوعة القرآن العظيم - ج ٢

دكتور عبد المنعم الحفني

موسوعة القرآن العظيم - ج ٢

المؤلف:

دكتور عبد المنعم الحفني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
ISBN: 977-208-422-2
الصفحات: ١٢٤٤
الجزء ١ الجزء ٢

وآمنّ به جميعهن. غير أنه فى الحديث لم يقل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن النساء ليس عليهن أن يفعلن مثل الرجال.

وتروى صفية بنت عبد المطلب عمة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عن جهادها فى الغزو : أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا خرج لقتال عدوه من المدينة ، يرفع أزواجه ونساءه فى حصن حسّان بن ثابت ، فلما كان يوم الأحزاب ، صعدت صفية معهن ، وتخلّف عندهن حسّان ، فجاء يهودى فلصق بالحصن يتجسّس ، فقالت صفية لحسّان : انزل إليه فاقتله! فتوانى حسّان ، فأخذت صفية عمودا ونزلت ، ففتحت الباب بهدوء وحملت على الجاسوس فقتلته. وصعدت إلى حسّان تطلب منه وهو الرجل أن ينزل لسلب اليهودى ، ورفض حسّان بزعم أنه ما له بسلبه حاجة ، فنزلت صفية فسلبته. ـ فهذه مسلمة مجاهدة ، فهل كانت تقرّ فى مكانها إلى أن يقتل اليهودى النساء والأطفال جميعا؟! بينما كان حسّان وهو الرجل قد جبن وقبع فى مكانه خائفا! ويروى عن صفية أنها يوم أحد رأت المسلمين يتراجعون ، فتقدمت وبيدها رمح ، تضرب فى وجوه الناس وتقول : انهزمتم عن رسول الله! ولم تكفّ إلا بعد أن شاهدها النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأشار إلى الزبير بن العوام أن يبعدها عن أخيها حمزة عمّ النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان حمزة قد بقرت بطنه ، فكره الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تراه ، فناداها الزبير أن تتنحّى ، فزجرته ، وأقبلت تحارب حتى وصلت إلى جثة أخيها وقالت فيه شعرا ترثيه يقطّع نياط القلب ، فكانت تجاهد بيديها وبلسانها على السواء ، وسلوكها هو ما يمليه عليها الدين والعقل وإن قال بعكس ذلك البعض.

وفى غزوة حنين حملت هوازن وثقيف على المسلمين حملة رجل واحد ، فانهزم جمهور المسلمين ، وثبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه أبو بكر وعمر ، ومن أهل بيته : علىّ ، والعباس ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، وابنه جعفر ، وأسامة بن زيد ، وأيمن بن عبيد ابن أم أيمن ، وربيعة بن الحارث ، والفضل بن عباس ، وقثم بن العباس ، فهؤلاء تسعة والنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاشرهم. وكانت المفاجأة : أم سليم الأنصارية! فإنها كانت فى المعركة ، وثبتت كالرجال ، وأفضل من الرجال ، وقد احتزمت بعيرا لأبى طلحة ، وفى يدها خنجر! وهؤلاء النساء كن قليلا من كثير غيرهن ، بل كانت غالبية النساء المسلمات هكذا ، فهل بعد ذلك يقال إن المرأة لا نصيب لها فى الجهاد؟ وأن الإسلام جعلها من القواعد لا فائدة منها إلا أن يستمتع بها؟!!! حسبنا الله!

* * *

٧٠١

١٦١٧ ـ هل المرأة فى الإسلام شؤم

فى الحديث عن ابن عمر عند البخارى : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الشؤم فى المرأة والدار والفرس» ، وفى رواية أخرى قال : ذكروا الشؤم عند النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن كان الشؤم فى شىء ففي الدار والمرأة والفرس». وفى الرواية عن سهل بن سعد قال : «إن كان الشؤم فى شىء ففي الفرس والمرأة والمسكن». وعن أسامة بن زيد فيما رواه البخارى ، أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما تركت بعدى فتنة أضرّ على الرجال من النساء». وفى القرآن يقول الله تعالى : (إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) (التغابن ١٤). وفى تفسير هذه الأحاديث قالت السيدة عائشة ، برواية أبى حسان فيما نقله أحمد والحاكم ، أن نبىّ الله لم يقل ذلك بالضبط ولكنه قال : «كان أهل الجاهلية يقولون الطّيرة فى المرأة والدار والدابة» ، ثم قرأت عائشة قول الله عزوجل : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ) (الحديد ٢٢). وفى رواية أخرى عند الطيالسى عن مكحول قالت : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قاتل الله اليهود! يقولون إن الشؤم فى الدار والمرأة والفرس». ورواية عائشة أصدق لموافقة قولها مع نهيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الطيرة نهيا عاما بقوله : «يدخل الجنة سبعون ألفا بغير حساب ، وهم الذين لا يكنزون ، ولا يسترقون ، ولا يتطيّرون ، وعلى ربّهم يتوكلون». والعدد لضرب المثل فقط ، أن الجنة يدخلها كثيرون. وفى الحديث عن أبى هريرة قال : «لا طيرة وخيرها الفأل» ، وأصل التطيّر أنهم كانوا فى الجاهلية يتفاءلون بالطّير تطير يمنة ، ويتشاءمون بها تطير يسرة. وعن عائشة ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الطّيرة شرك» ، ومعنى أنها شرك أن الذى يعتقد فى التطيّر إنما لما يجلبه من نفع أو يدفع من ضرّ ، فكأنهم أشركوا مع الله. والمقصود بهذه الأحاديث فى المرأة والدار أو المسكن ، والدابة أو الفرس أو المركبة ، إنما هى المرأة السوء ، والمسكن السوء ، والمركبة السوء ، وفى رواية للحاكم شرح أكثر عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المرأة تراها فتسوؤك ، وتحمل لسانها عليك ، والدابة تكون قطوفا فإن ضربتها أتعبتك ، وإن تركتها لم تلحق أصحابك ؛ والدار تكون ضيقة قليلة المرافق» ؛ وللطبرانى من حديث أسماء قال : «إن من شقاء المرء فى الدنيا سوء الدار والمرأة والدابة» ، وفيه أن سوء الدار هو ضيق مساحتها وخبث جيرانها ؛ وسوء الدابة : منعها ظهرها وسوء طبعها ؛ وسوء المرأة : عقم رحمها وسوء خلقها. وإذن فتخصيص الشؤم بالمرأة ، ونسبة الفتنة إليها ، إنما المقصود بهما من يحصل منها أو منه ذلك بالفعل ، يستوى فى ذلك الرجال والنساء ، ومن الجهل أن يقال إن المرأة إطلاقا عدو للرجال ، وأنها سبب الفتنة ، وأنها شؤم. والشارع أطلق الكفر على من ينسب المطر إلى النّوى ، فكيف بمن

٧٠٢

ينسب ما يقع من الشرّ إلى المرأة مما ليس لها فيه مدخل؟! وفى الحديث مع ذلك أن الفتنة بالنساء أشد من الفتنة بغيرهن ، وفى علم النفس والطب النفسى : أن فتنة الجنس هى أعظم الفتن ، ولا يعنى ذلك أن المرأة سبب فيها ، والله تعالى يقول : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ) (آل عمران ١٤) فلا دخل للمرأة إذن فى ذلك ، وليست الفتنة هى فتنة المرأة ولكنها «فتنة الجنس» ، يستوى إزاءها الرجال والنساء ، ومن أمثال العامة : النساء شرّ كلهن ، وأشرّ ما فيهن عدم الاستغناء عنهن! وهو قول غريب فيه الجهل المطبق ، فمن النساء من هن أمهاتنا وأخواتنا ، ومنهن عظيمات النساء ، كمريم ، وخديجة ، وعائشة فى الدين ، وفى العلم مدام كورى ، واليهود يعظّمون استير ويهوديت ، وإن كان فى النساء نقص فى العقل والدين ، فإن الرجال أنقص عقلا ودينا إذ يفتنون بهن ، ويشغلون بهن عن الجاد من الأمور ، وعن الدين ، بالإيقاع بهن ، والتهالك على الدنيا إرضاء لهن ، ففساد الرجال أكبر ، فإذا وعظ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم المؤمنين والمؤمنات بقوله ـ برواية أبى سعيد فيما أخرجه مسلم : «واتقوا النساء فإن أول فتنة بنى إسرائيل كانت النساء» ، إنما معناه اتقوا الجنس ، يقول ذلك للنساء والرجال معا.

* * *

١٦١٨ ـ هل شهادة المرأة فى الإسلام نصف شهادة الرجل؟

الذين يقولون بذلك يستدلون عليه بأن الله تعالى قال : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) (البقرة ٢٨٢) ، والآية تنصرف إلى الاستشهاد فى «الأموال» لا غير ، وأقيمت المرأتان مقام الرجل بدعوى أنه إذا ضلت إحداهما أن تذكّرها الأخرى ، وفى سياق الآية معنى أن تضلّ : هو أن تنسى الشهادة ، وتذكير الواحدة للأخرى فيه أن المرأة على إطلاقها لا تنسى دائما ، فهذه واحدة قد تنسى بينما الأخرى لم تنس! فالنسيان ليس شيمة المرأة وليس طبعها ، والنسيان فى الرجل كما هو فى المرأة ، وإلا ما طالبه المولى عزوجل أن يكتب المعاملات ، وأن يستشهد عليها ، وعلّل ذلك بأنه أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا ، أى أعدل وأثبت للاستشهاد به ، فإذا وضع خطّه ثم رآه تذكّر به الشهادة ، لاحتمال أنه لو لم يكتبه لنسيه كما هو الواقع غالبا ، والكتابة والشهادة عليها أقرب إلى عدم الريبة ، ويرجع إليهما عند التنازع فيفصل بين المتنازعين بلا ريبة ، فإن كانت آفة النساء النسيان ، ودرؤه بأن تظاهر المرأة امرأة أخرى وتعينها على التذكّر ، فإن آفة الرجال الريبة ، وإتيان الظلم ، وقول الزور. والنسيان يكون فى الشهادة الشفوية ولكنه لا يكون فى الشهادة

٧٠٣

المكتوبة ، وفى المكتوبة لا تلزم الشهادة المرأة كما لا تلزم الرجل ، والآية تنصرف إلى الشهادة الشفوية ولا تنصرف إلى المكتوبة. وفى زمن الرسول ما كان النساء فى الأغلب والأعم يعرفن القراءة والكتابة ، فما كانت شهادتهن تتيسر لذلك إلا شفوية ، وشهادة المرأتين عن المرأة الواحدة تحرّز لذلك من نسيان إحداهما ، وهو حقّ وعدل ، ولا تثريب على المرأة فى ذلك ولا يهينها ، وليس فيه حط من شأنها ، ولا من قدراتها الذهنية والنفسية. وأكرر أن شهادتى المرأتين تحرّز من النسيان فى الشهادة الشفوية فى الأموال فقط. وقد أخذ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشهادة المرضعة ، وكان عقبة بن الحارث قد تزوّج امرأة ، فجاءته مرضعة وقالت له إنها أرضعتهما ، فذهب عقبة إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقصّ عليه الأمر ويكذّب المرضعة ، فأعرض عنه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما ألحّ عقبة ردّ عليه بحسم وقال : «كيف بها وقد زعمت أنها قد أرضعتكما» رواه البخارى ، وإذن فشهادة المرأة الواحدة تجوز.

* * *

١٦١٩ ـ هل عامة أهل النار نساء؟

فى الصحيح عن عمران أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اطّلعت فى النار فرأيت أكثر أهلها النساء» ؛ وفى الرواية لأسامة جاء : «وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء» ؛ وفى الرواية عن ابن عباس جاء عن النار : «أريت النار فإذا أكثر أهلها النساء» قيل : لم يا رسول الله؟ قال : بكفرهن» ، قيل : يكفرن بالله؟ قال : «يكفرن العشير ، ويكفرن الإحسان! لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ، ثم رأت منك شيئا قالت : ما رأيت منك خيرا قطّ». وفى رواية عياض بن عبد الله قال للنساء : تصدّقن فإنى رأيتكن أكثر أهل النار» ، فقلن : «ولم يا رسول الله؟ قال : تكثرن اللعن وتكفرن العشير» ، والمرأة تكفر عشيرها يعنى لا تقرّ بفضله ، والعشير الزوج ، قيل له عشير بمعنى معاشر ، مثل أكيل ومؤاكل.

وهذه الأحاديث صيغت للتحذير وليس على الحقيقة ، والكفر الذى من نصيب النساء لا يراد به الكفر المخرج عن الملّة ، ولكنه أراد أن يخوّف النساء أن يرتكبن هذا النهى المذكور ، ومن ثم يكنّ أكثر من يدخل النار ، والإكثار من اللعن وكفران العشير لا يختصّ بهما النساء دون الرجال ، وقوله : «لو أحسنت إلى إحداهن الدهر» إشارة إلى سبب التعذيب ، لأن المرأة التى تفعل ذلك إنما حالها كحال المصرّ على كفر النعمة ، والإصرار على المعصية من أسباب العذاب ؛ وكذلك قد يقول الرجل لعشيرته : ما رأيت منك خيرا قطّ ، وقد يكثر اللعن وهو الأغلب. والحديث لذلك ضعيف وغير متوازن ، وموضوع غالبا لإغاظة النساء.

* * *

٧٠٤

١٦٢٠ ـ هل النساء ناقصات عقل ودين؟

يقول مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة ، عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يا معشر النساء تصدّقن وأكثرن الاستغفار ، فإنى رأيتكن أكثر أهل النار» ، فقالت امرأة منهن جزلة ـ أى ذات رأى : وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟ قال : «تكثرن اللعن ، وتكفرن العشير ، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذى لب منكن». قالت : يا رسول الله! ما نقصان العقل والدين؟ قال : «أمّا نقصان عقلها فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل ، فهذا نقصان العقل ؛ وتمكث الليالى لا تصلّى ، وتفطر فى رمضان ، فهذا نقصان الدين». وفى رواية البخارى عن أبى سعيد الخدرىّ أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يا معشر النساء تصدّقن فإنى رأيتكن أكثر أهل النار» ، فقلن : وبم يا رسول الله؟ قال : «تكثرن اللعن وتكفرن العشير! ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الرجل الحازم من إحداكن». قلن : وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال : «أليس شهادة المرأة نصف شهادة الرجل؟» ، قلن : بلى : قال : «فذلك من نقصان عقلها! أليس إذا حاضت لم تصلّ ولم تصم؟» قلن : بلى ، قال : فذلك من نقصان دينها».

ومعنى الحديث لا ينصرف إلى ما ينصرف إليه ذهن البعض من تقليل شأن المرأة فى الإسلام ، فقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تكثرن اللعن» فذلك من شأن بذيئة اللسان وحدها ، وبذاءة اللسان تستوي عند الرجال والنساء ؛ وقوله : «تكفرن العشير :» معناه تجحدن نعمة الزوج وتستقللن ما كان منه ، وذلك دأب بعض النساء دون الغالبية ، وكذلك هو دأب بعض الرجال دون الغالبية ؛ واللّب فى الحديث : هو العقل ، واللبيب هو الرجل الحازم الضابط لأمره. وليست المرأة على عمومها ناقصة عقل ودين ، والإسلام والقرآن قد ضربا المثل بملكة سبأ ، وكانت أرجح عقلا من قومها من الرجال بخاصة ، وكانت الأكثر منهم حنكة وكياسة فى أمور السياسة والدين ، ومقالتها : (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً) (النمل ٣٤) جعلها القرآن من الحكم المأثورة ، وبها أوتيت ملكة سبأ جوامع الكلم ، وأتمّ الله تعالى الآية بالتأمين على حكمتها فقال : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) (٣٥) (النمل) ، أى أن ما قالته عن الملوك هو الصحيح. وبلقيس أو ملكة سبأ فكّرت ودبّرت وانتهت إلى الرأى : فما كان أعقلها فيما ذهبت إليه ، وقد تحصّل لها العلم بأن الهدية تقع موقعا حسنا من الناس ، فسليمان إن قبل الهدية فهو ملك فتنصح بقتاله ، وهم أولو قوة وبأس وسيهزمونه حتما ، وإن لم يقبلها فهو نبىّ حقا وعليهم أن يتّبعوه! فهل رأى الإسلام فى ملكة سبأ أنها ناقصة العقل فيما استنّته لقومها من التريث وإعمال الذهن وتجربة الحيلة ، وفى طلبها المشورة حين قالت : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ

٧٠٥

قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) (٣٢) (النمل)؟ ولقد بيّن القرآن أن خاصة قومها ممن جمعتهم للمشورة قضوا بأنها الأحكم والأعقل ، وردّوا عليها قائلين : (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ) (٣٣) (النمل) ، فلمّا تأكّد لبلقيس ظنّها فى سليمان قالت : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤٤) (النمل) ، وواضح من النصّ القرآنى أن الإسلام يعلى من قدر هذه المرأة ، وقد خلصت إلى ما خلصت إليه ، مما أعوز قومها ، وينبّه إلى كمال عقلها واكتمال دينها معا!

ومريم ابنة عمران قال فيها القرآن أجمل القول ، ووصفها أحسن الوصف ، فقال إنها كانت من القانتين (التحريم ١٢) ، فاستحقت أن تحمل بكلمة الله تعالى ، وكان حملها آية (المؤمنون ٥٠) ، أى حجّة قاطعة على قدرته تعالى قدرة مطلقة ، فلقد خلق الله آدم من غير أب ولا أم ، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى ، وخلق المسيح من أنثى بلا ذكر ، وخلق بقية الناس من ذكر وأنثى ؛ ونبّهت الآيات فى القرآن إلى ما يقال فى مريم من بهتان عظيم (النساء ١٥٦) ، وإلى أن اختيارها لمهمة الحمل فى المسيح كان اصطفاء لها على العالمين ، ولو لا أنها كانت أطهر العالمين ما اصطفاها لهذه المهمة (آل عمران ٤٢). وفى الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى ، عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يجيء عن مريم : «كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ، ومريم ابنة عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام». وهؤلاء جميعا كن ممن جاء فيهن وصف الله تعالى لفضليات النساء عموما : (مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ) (التحريم ٥) فأين نقص العقل ونقص الدين فى هؤلاء وأولئك وهن الكاملات؟ ثم إن الله تعالى وقد ضرب المثل على الكمال فى النساء بامرأة فرعون ، وبمريم (التحريم ١١) ، فقد ضرب النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم المثل على الكمال فى النساء المسلمات بخاصة ـ بخديجة ، أعظم امرأة عرفها التاريخ ، ظاهرت زوجها واحتملت معه عذابات الدعوة ، وبعائشة التى وصفها صحابة الرسول فقالوا : إنها كانت أعلم النساء ، ولو جمع علمها إلى علم نساء زمانها لكان علمها الأفضل! بل كانت أفقه وأعلم وأحسن الناس رأيا ، وكانت الأعلم بالحلال والحرام ، وقال فيها المقداد بن الأسود : ما كان أحد من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلم بالفريضة من عائشة رضى الله عنها»! وعن أبى موسى قال : ما كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشكّون فى شىء إلا سألوا عنه عائشة فيجدون عندها من ذلك علما». وروى مسروق : أن مشيخة أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يسألونها» ، وكانت عائشة مدرسة وحدها ، فهل كانت ناقصة عقل ودين؟!! وإنما عنى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا الحديث صنف النساء اللاتى حذّر منهن ابن لقيط بن صبرة لمّا اشتكى

٧٠٦

له طول لسان زوجته وبذاءها فقال له : «طلّقها» فقال ابن لقيط : إنّ لى منها ولدا! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فعظها ، فإن كان لك فيها خير فستفعل ، ولا تضرب ظعينتك كضربك أمتك». رواه الحاكم. و «الناشز» من المصطلح الإسلامى ، ويقصد بها صنف المرأة التى عناها الحديث ، ونبّهت إليه الآية : (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) (النساء ٣٤). والناشز فى الرجال كما فى النساء لا فرق ، كقوله تعالى : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً) (١٢٨) (النساء) والخطاب فى الآية لجماعة المؤمنين دون غيرهم وليس لسفلة الناس ، والمؤمن ـ من ناحية ـ لا يبغى ، ومن ناحية أخرى لا تصلح له الناشز ، كما أن المؤمنة لا يصلح لها الفاسق ولا الكافر ، والعظة والهجر والضرب وسيلة المؤمن لزجر الناشز وبذيئة اللسان المفحشة ، ولا تعامل هكذا طيبة اللسان عظيمة الخلق. وكان دعاء امرأة فرعون من نشوز وفسق زوجها : (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ) (التحريم ١١) ، فالنشوز والفسق كما قد يكون فى المرأة ، قد يكون فى الرجل ، ونقص الدين يترافق مع نقص العقل ، وكلاهما يمكن أن يتواجدا فى الرجال تواجدهما فى النساء ، ويحذر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم النساء والرجال معا منهما ، وإلّا فالنساء لا يمكن أن يكن ناقصات عقل بسبب أن شهادتهن نصف شهادة الرجل!! وموضوع الشهادة جاء فى المعاملات المالية وحدها ، وفى الشهادة الشفوية دون الشهادة المكتوبة مخافة «أن تضل إحداهما» (البقرة ٢٨٢) ، أى أن تنسى ، والنسيان فى الشهادة الشفوية ، وأما المكتوبة فلا نسيان فيها. والنسيان تتميز به المرأة خصوصا نتيجة عوامل القمع والكبت التى تتعرض لها ، وبسبب الضغوط النفسية الهائلة التى تعانى منها حتى فى المجتمعات المتقدمة ؛ وكذلك فإن الحيض ، والإياس ، والحمل ، والرضاعة ، وحتى الجماع نفسه ، فى كل ذلك الكثير من المعاناة بالنسبة للمرأة. وفى البحوث المشهورة لكينزى وچونسون وماسترز فى أمريكا ثبت أن النسيان تتعرض له المرأة خصوصا فى الفترة قبل الحيض ، وأثناء الحيض. والحيض فترة مرض ، وما بعد الحيض فترة نقاهة يفسدها أن يمارس الرجل الجنس مع المرأة. ويلحقها من الجماع بعد الحيض ، وأثناء الحمل ، وبعد الولادة ، وأثناء الرضاعة ـ أذى بالغ ، ربما من ضخامة آلة الرجل ، أو من ثقل وزنه ، أو من تكرار ممارسته للجنس وإرهاقها به ، أو من الشذوذ الذى قد يأتى عليه جماعة بها. وفترة الحمل فترة مرض حقيقى وتستمر تسعة أشهر ، تتلوها الولادة والنفاس ، وتستمر الرضاعة لمدة سنتين ، ثم تكون فترة تنشئة الطفل اجتماعيا ، وإعداده نفسيا ، وموالاته تربويا وتعليميا ، والإشراف على شئون البيت أثناء ذلك ، فإذا كان لدى أغلب النساء ثلاثة أطفال فى المتوسط ، فمعنى ذلك أن المرأة تعيش فى كبد أغلب عمرها! فإذا بدأت تفيق من هذه الشواغل ، كانت مسائل زواج الأولاد ، والقلق على البنات ومستقبلهن ، ويتوج ذلك كله

٧٠٧

الإياس ، وهو مشكلة المشاكل بالنسبة للمرأة ، وأكبر المسببات للنسيان. والنسيان فى الاصطلاح : هو ترك الشيء تهمله الذاكرة أو تغفله عن ذهول ، وهو طبيعى فى الذكور والإناث ، إلا أنه أشد فى الإناث ، وأسبابه عندهن عضوية غالبا ، وقد علمنا دوافع ذلك من الحيض والجماع والحمل والولادة والرضاع ... إلخ ، إلا أن النسيان النفسى عند المرأة يكاد يميّزها عن الرجل ، والفرق بين نسيان المرأة العضوى والنسيان النفسى ، أنها فى النسيان العضوى تتعطل قدرات الذاكرة عندها عن التسجيل والاحتفاظ والاستدعاء معا ، بينما تتعطل فقط قدرة الذاكرة عن استدعاء الخبرة فى النسيان النفسى.

ولكل ما سبق فإن الله تعالى قد فرض فى الشهادة الشفوية أن تكون لرجلين ، فإن لم يكونا رجلين فلرجل وامرأتين ، وجعل شهادة المرأة نصف شهادة الرجل ، والسبب علمى محض كما رأينا ، وليس فيه افتئات على مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة ، وذلك مفهوم النقص العقلى فى الحديث. ثم إنه بسبب الحيض والحمل والولادة والرضاعة أعفى الله تعالى المرأة من الصلاة والصيام ، وهذا تكريم ما بعده تكريم ، وهذا الإعفاء دوافعه علمية خالصة لا دخل فيه لاعتبارات تمس كرامة المرأة من بعيد أو قريب ، ومثل المرأة فى ذلك مثل المريض الذى يسمح له بالصلاة نائما على ظهره أو جالسا ، أو مثل الذى يؤذن له بالتيمم دون الوضوء ، أو بالإفطار فى رمضان ، ويستحب لكل هؤلاء أن يكثروا من التصدّق ، تعويضا عمّا انتقصهم مما تصلح به صلاتهم أو ينصلح به صيامهم ، فلذلك يعظ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم النساء بأن يكثرن من التصدّق تعويضا عما فاتهن من أجر الصلاة والصيام اللذين اضطررن إلى تركهما غصبا عنهن فى قوله : «تصدّقن وأكثرن» ، وليس فى الحديث ـ كما رأينا ـ أى انتقاص للمرأة من ناحية دينها ، ولا من ناحية ملكاتها الذهنية وذكائها وحقوقها كمواطنة تتساوى فى ذلك مع الرجل عموما ، وساوى القرآن بينهما وقرن ذكر المؤمنين بذكر المؤمنات ، متعادلين فى الحقوق والواجبات إحدى عشرة مرة ، فالمؤمنون أولياء للمؤمنات ، والمؤمنات وليّات المؤمنين (التوبة ٧١) ، ووعد الله الجميع التوبة ، مؤمنات ومؤمنين ، سواء بسواء (الأحزاب ٧٣) ، وتوعّد من يجترئ عليهم أو عليهن (الأحزاب ٥٨) ، وقضى أن لا يصيبهم أو يصيبهن مكروه ، بل إنه تعالى قد ساوى فى الأهمية والقيمة بين تسعة من المؤمنين واثنتين من المؤمنات ، وفى هؤلاء كما يقول جنيد بن سبيع ـ نزلت الآية : (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ) (الفتح ٢٥) ، وكان جزاء من فتنوا المؤمنات والمؤمنين من أصحاب الأخدود العذاب والتحريق (البروج ١٠) ، وحرّض الله تعالى المؤمنين أن لا يرجعوا المؤمنات إلى الكفّار إذا هاجرن من دار الكفر إلى دار الإيمان ، وقال : (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) (الممتحنة ١٠) ، وأمر النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يستغفر لهم ولهن فلا فرق (محمد ١٩) ؛ وعند الحساب يدخل المؤمنات الجنة كالمؤمنين ولا اختلاف (الفتح ٥) ؛ وفى

٧٠٨

الجنة لكل نوره يسعى بين أيديهم وأيديهن بلا تمييز (الحديد ١٢) ؛ وفى الدعاء لم يفرق نوح بين المؤمنين والمؤمنات ، وأوصى الله تعالى المؤمنين بغض البصر وحفظ الفرج كما أوصى المؤمنات (النور ٣٠ و ٣١) ، وغضّ البصر ليس انشغالا بالمسألة الجنسية كما يزعم العلمانيون وصبية العولمة الأمريكية ، ولكنه بتعبير الله تعالى «أزكى لهم» (البقرة ٢٣٢) ، أى أطهر لنفوسهم ، وأنقى لقلوبهم ، وأصفى لعقولهم ، ولعمرى إنه لأقوى ما عرفت من تعبيرات العلم فى مجال الطب النفسى وعلم النفس وعلم الاجتماع معا ، فالنظر وسيلة الشهوة كما بيّن فرويد والآخرون ، وأطلق الله تعالى على النظر بشهوة هذا التعبير الرائع «خائنة الأعين» (غافر ١٩) ، والنظر يكون به الإدراك ، والإدراك يولّد النزوع ، ومن ثم يقع الفعل ، فإذا هدفنا إلى الوقاية فينبغى أن نلتزمها منذ البداية قبل أن يقع الإدراك ، وذلك هو غض البصر ، يفعله الرجال كالنساء سواء بسواء. وهذا الكلام فى المساواة كلّه علم متقدّم وليس فيه من الأوامر غير المبررة شىء ، حتى استحق القرآن أن يكون كتابا فى العلوم بسائر فروعها ، كما هو كتاب فى الآداب ، وكتاب فى الحقوق والواجبات ، وفى المساواة والعدل بين النساء والرجال ، ولعن الله العلمانية ودعواتها الفجّة ، وشعاراتها السمجة!

* * *

١٦٢١ ـ ما مدى صحة الحديث : إن المرأة خلقت من ضلع أعوج؟

فى الحديث عن أبى هريرة أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن خلقن من ضلع ، وإنّ أعوج شىء فى الضلع أعلاه ، فإن ذهبت تقيمه كسرته ، وإن تركته لم يزل أعوج ، فاستوصوا بالنساء خيرا». ومن أقوال ابن عباس : «أن حواء خلقت من ضلع آدم الأقصر الأيسر وهو نائم» ، ومفاد حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن المرأة بطبيعتها عوجاء لأنها خلقت فى الأصل من شىء أعوج ، وقوله : «أعوج شىء فى الضلع أعلاه» فيه أن أعلى المرأة وهو رأسها ليس على سواء ، لأن فيه لسانها الذى يحصل منه الأذى. وفى قوله : «وإن ذهبت تقيمه كسرته» ، وفى رواية أخرى عند مسلم : «وإن ذهبت تقيمها كسرتها ، وكسرها طلاقها». وفى رواية : «إن المرأة خلقت من ضلع أعوج ، وإنك إن ترد إقامة الضلع تكسره ، فدارها تعش بها». وفى رواية لأحمد : «المرأة كالضلع ، إن أقمتها كسرتها ، وهى يستمتع بها على عوج» ، وهذا التشبيه هو الأصح ، فهى لم تخلق من ضلع أعوج وإنما فيها ضعف أو عوج ، كأنما هى كالضلع الأعوج. ومدار كل ذلك الدعوة إلى التقويم برفق ، لا إفراط فيه ولا تفريط ، وأن لا تترك المرأة على اعوجاجها إذا تعدّت طبعها كأنثى ، إلى استخدام الأنوثة فى تعاطى المعاصى ، بمباشرتها ، أو بترك الواجب ، وإنما المراد أن تترك المرأة على اعوجاجها فى الأمور

٧٠٩

المباحة ، أى تكون على طبيعتها كامرأة ، وليس المطلوب منها أن تسلك كالرجال ، وإنما تكون فاضلة كفضليات النساء ، فالفضيلة مطلب الجنسين معا ، وهى محك ومعيار إنسانية الإنسان سواء كان رجلا أو امرأة. ومن سياسة الإسلام مع النساء العفو عنهن ، كقوله تعالى : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) (٢٣٧) (البقرة) والصبر على عوجهن إن ظهر منهن العوج. وحديث : «المرأة خلقت من ضلع أعوج» ورد عند عبد الرزاق بما ينفى أنه من أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان أحدهم قد جاء إلى عمر بن الخطاب يشكو إليه خلق النساء ، فقال عمر : إنّا لنجد ذلك حتى أنى لأريد الحاجة (يعنى أن يذهب إلى الغائط) فتقول (يقصد زوجته) : ما تذهب إلا إلى فتيات بنى فلان تنظر إليهن! فقال له عبد الله بن مسعود عند ذلك : أما بلغك أن إبراهيم شكا إلى الله رديء خلق سارة فقيل له : إنها خلقت من الضلع. جالسها على ما فيها ما لم تر عليها خربة فى دينها! فقال له عمر : لقد حشا الله فى أضلاعك علما كثيرا! ـ وهذه الأحاديث ـ كما ترى ـ مفتراة ، فليس من خلق عمر ما تقوله عنه زوجته! وليس من خلق زوجات عمر أن يتقولن عليه هكذا! وواضح أنها جميعا أحاديث من الإسرائيليات. وفى حديث الضلع الأعوج مشابهة بالتوراة ، ففي الفصل الثانى من سفر التكوين ، يأتى بدءا من العبارة ١٨ : «وقال الربّ الإله لا يحسن أن يكون الإنسان وحده فأصنع له عونا بإزائه» ، يتحدث عن خلق المرأة وأنها ليسكن إليها الرجل فى وحدته ، ولتعينه على معيشته ، ثم يجيء : «فأوقع الربّ الإله سباتا على آدم فنام ، فاستل إحدى أضلاعه وسدّ مكانها بلحم ، وبنى الربّ الإله الضلع التى أخذها من آدم امرأة ، فأتى بها آدم ، فقال آدم ها هذه المرّة عظم من عظامى ، ولحم من لحمى. هذه تسمى امرأة لأنها من امرئ أخذت ، ولذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلزم امرأته ، فيصيران جسدا واحدا». فحديث الضلع الأعوج إذن إسرائيلى لا شك فى ذلك. وأما حقيقة خلق حواء فى القرآن فمثلها مثل خلق آدم. وحواء مسئولة كآدم ، على عكس التوراة فقد أسقطت عن آدم مسئوليته وقصرتها على حواء ، ففي الفصل الثالث من سفر التكوين يأكل آدم وحواء من شجرة المعرفة فتظهر لهما سوأتاهما ، فيخصفان عليهما من ورق الجنة ، وسألهما الربّ عن ذلك فقال آدم : «المرأة التى جعلتها معى أعطتنى من الشجرة فأكلت» ، فجعل الغواية من المرأة! وقالت المرأة : «الحيّة أغوتنى فأكلت» ، والحية هى الشيطان. وهذه الحكاية بهذه التفاصيل لم ترد فى القرآن ، ولم يرد فيه اتهام آدم لحواء ولا اتهام حواء للحيّة. وفى التوراة شمل التكليف بعدم الأكل من الشجرة آدم وحواء ، وكذلك القرآن ، فكان التكليف من نصيب الاثنين بلا فرق ، كقوله تعالى : (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ

٧١٠

فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) (٣٥) (البقرة) ، وكانت الغواية لهما الاثنين معا : (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (٢١) (الأعراف) ، ومن ثم عثر آدم وحواء معا ، كقوله : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها) (البقرة ٣٦) ، وأضلهما معا : (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) (الأعراف ٢٢) ، واحتملا نتيجة المعصية معا ، وحاولا الإصلاح وسعهما معا : (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) (الأعراف ٢٢) ، وتوجه لهما اللوم معا ، كقوله : (وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٢٢) (الأعراف) ، واعتذرا معا ، واستغفرا الله معا ، وتابا إليه معا ، كقوله : (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٢٣) (الأعراف) ، وطردا من الجنة معا ، كقوله : (فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) (البقرة ٣٦) ، يشقيان معا فى الدنيا : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) (البقرة) ، وفى الدنيا يكون النسيان مرة أخرى للتكليف ، فينزل الله تعالى الرسل والنبيّين مذكّرا لهما معا ، ومحذّرا ومبشّرا ، كقوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٣٩) (البقرة) فهذا هو الفرق بين الحكايتين فى الكتابين ، والنقص فى حواء ألصق بحكاية التوراة ، فأولى بحواء التوراة أن تكون الأقل دينا وعقلا ، وهو ما لا يوجد مثله فى القرآن! وفى حكاية القرآن مساواة تامة بين آدم وحواء ، والخطاب يتوجه إليهما معا ، وكلّ منهما كان حرا ومسئولا مسئولية كاملة ، وعقابه أو ثوابه يحتمله وحده ، وذلك منتهى العدل ، وغاية ما يبلغه التفكير السليم والمنطق القويم. ولذلك فإن هذه الأحاديث عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى اعوجاج المرأة ، وقلّة دينها وعقلها ، أقرب إلى التأثّر بما فى التوراة ، وخاصة حديث ابن عباس ، وإن كان قد زاد على حكاية التوراة أن ضلع آدم الذى خلقت منه حواء كان الأقصر الأيسر. وابن عباس ـ كما نحذّر دائما ـ من مروّجى الإسرائيليات!

وأيضا جاءت التوراة ، فى الفصل الثالث من سفر التكوين ، العبارة ١٥ : «وقال الربّ للمرأة : لأكثرنّ مشقّات حملك ، بالألم تلدين البنين ، وإلى بعلك تنقاد أشواقك ، وهو يسود عليك» ، والسيادة فى التوراة يقابلها القوامة فى القرآن ، فى قوله تعالى : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) (النساء ٣٤) ، وفرق بين السيادة والقوامة ، فى المنشأ ، وفى المعنى ، وفى التبعات. فالسيادة فى التوراة كانت للرجل إطلاقا ، وتأكدت كعقاب للمرأة بغوايتها للرجل ، فكأنما سحبت منها ذاتيتها فصارت أمة للرجل ، تتبعه وتأتمر بأمره ، ويتسيّد عليها. والقوامة فى

٧١١

القرآن أسبابها تعدّدها الآية نفسها ، تقول : (بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) (النساء ٣٤). والقوامة : هى أن ينهض الرجل على أعباء المرأة ، ويتولى تكاليف معيشتها ، وأن يكون فى تعامله معها على حالة رفيعة من الأدب ، وفى الحديث : «خيركم خيركم لأهله» ، فخير الرجال من كان أديبا مع زوجته. وقال الله فى الحقوق والواجبات للنساء : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) (البقرة ٢٢٨) ، أى أنه تعالى يساوى بينهما فى الحقوق والواجبات بحسب الزمان والمكان. والدرجة التى خصّ بها الرجال لا تدخل ضمن حقوق الرجال ولكنها فيما خصّ به الله الرجال من الخلق ـ أى «القوة» وما يستتبعها من القيام بالعمل ، والإنفاق على الأسرة ، وتعويض المرأة بحبسها عليه ، وله على ذلك الفضل من الله فى الدنيا وفى الآخرة. وفى حديث معاوية بن حيدة ، عن أبيه ، عن جدّه ، أنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما حقّ زوجة أحدنا؟ قال : «أن تطعهما إذا طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت ، ولا تضرب الوجه ، ولا تقبّح ، ولا تهجر إلا فى البيت». وعن جابر أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فى خطبته فى حجة الوداع : «فاتقوا الله فى النساء ، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف». وذلك ما أوصى به النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو تفسيره لآية الضرب للنساء فى القرآن. وفى علم النفس ، وعلم الاجتماع ، وعلم الإجرام ، فإن من البديهى أن ينفعل الرجل وقد وطأ آخر امرأته ، أفلا يغار ويستشعر المهانة والعار؟ ذلك أمر من معقولات العلم الحديث ، وتفسير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم للضرب بأنه غير مبرح وكأنما هو للتخفيف من غلواء الرجل الجريح فى كرامته وشرفه ، فلا أقل من أن يعبّر عن غضبه بذلك الضرب الموصوف بأنه غير مبرح ، يعنى لا ضرر منه وإنما هو للتنفيس عن الثورة المحتدمة فى نفس الرجل. ولا ضرب إطلاقا فيما سوى ذلك! ثم إن الضرب لا يكون إلا لبذيئة اللسان ، الناشز ، ولنا فى القصاص حياة! والثواب والعقاب جزاء كل أعمالنا ، فى التربية ، وفى المرور ، وفى السلوك ، وفى الاجتماع. ولا تستقيم الحياة بدون ثواب وعقاب. ثم انظر إلى الاختلاف بين شريعة التوراة وشريعة القرآن فيما هو من سنة المسلمين ، فعن ابن عباس رضى الله عنه قال : إنى لأحب أن أتزيّن للمرأة كما أحب أن تتزيّن لى المرأة ، لأن الله يقول : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة ٢٢٨) ، والقوامة إذن فى القرآن تكليف وتشريف ، ومنهج وسلوك ، ومبدأ وتشريع ، وعلى عكس ذلك كانت فى التوراة بلا مبرر ، فما أسرع ما تعلل آدم عند مساءلته عن خطيئته بأنها من فعل حواء وبغوايتها ، فألقى المسئولية عليها دونه! وهذا لعمرى منتهى الظلم واللامعقول! ونعود إلى

٧١٢

الحديث عن النساء أنهن خلقن من ضلع أعوج ، فلم يرد فى القرآن أن حواء خلقت من آدم ، وإلا لكان الله تعالى قارن خلق المسيح بخلق حواء ولما قارنه بخلق آدم ، كقوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) (آل عمران ٥٩) ، فكان الأولى أن يقول : إن مثل عيسى عند الله كمثل حواء ، فحواء جاءت من آدم ، والمسيح جاء من مريم! والذى جاء فى القرآن قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) (الأعراف ١٨٩) ، يعنى أنه فى البدء خلق آدم ، ثم خلق حواء ، وقوله : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) (الذاريات ٤٩) يعنى أن كل المخلوقات من نباتات وحيوانات وإنسان أبدعها الله تعالى أزواجا ، فهذا قضاء الله وقدره منذ البداية : (إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) (الحجرات ١٣) ، فلما خلق الله آدم جعل خلقه لحواء على نفس المنوال ، ثم كان خلقه للموجودات كلها أزواجا على نفس المنوال : السماء والأرض ، والليل والنهار ، والشمس والقمر ، والبرّ والبحر ، والضياء والظلام ، والإيمان والكفر ، والموت والحياة ، والشقاء والسعادة ، والجنة والنار ، فهذا منهج الله وفعله فى الوجود ، ولم يأت أبدا أن حواء كان خلقها من ضلع لآدم ، وإنما جاء قوله : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) (فاطر ١١) ، وقوله : (مِنْ طِينٍ) (الأنعام ٢) ، وقوله : (مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (٣٣) (الحجر) ، وهذه مراتب وما كان من الممكن أن يترك القرآن خبرا كهذا ـ خلق حواء من ضلع آدم ـ من غير أن يورده! والغواية وقصة آدم وحواء من قصص التوراة ولا وجود لها فى القرآن ، ومن يستحضرها فهو متأثر بالغزو الدينى اليهودى. وحتى اسم حواء لا وجود له فى القرآن وهو اسم من التوراة. فيا أخى المسلم ويا أختى المسلمة احذرا ، فإلى هذا الحدّ كان الغزو الدينى اليهودى متغلغلا فى كتب تفسير القرآن عند المسلمين! ولاحظا الفروق بين وضع المرأة المتردّى فى التوراة ، بل ووضع الرجل أيضا ، وبين وضعهما الراقى والمتسامى فى القرآن. والدأب فى القرآن أن الرجل والمرأة كلاهما على سواء ، وعن عائشة ، عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنما النساء شقائق الرجال» ، ومعنى شقائق أنهن نظراؤهم وأمثالهم ، فلا تمايز ولا تباين إلا ما قد فرضه عليهن فى الخلقة ، واستتبعه ما كان لهن من الجبلّة ، فتشابهت المنازع ، وتخالفت الدوافع ، وإلّا فلا سيادة ولا إمارة للرجال ، إلا بقدر تفاضل البعض ، وبما عليهم من فروض وواجبات.

* * *

١٦٢٢ ـ معنى الحديث عن المرأة «فدارها تعش بها»؟

فى الحديث عن سمرة بن رافع عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خلقت المرأة من ضلع ، فإن تقمها تكسرها ، فدارها تعش بها» أخرجه ابن حبان والحاكم والطبرانى فى الأوسط. ومعنى المداراة المجاملة والملاينة ، فالحديث إذن يعظ بمعاملة المرأة بالحسنى ، وليس من ذلك

٧١٣

تقبيحها ، أو إهانتها ، أو ضربها ، وفيه الاعتذار عمّا قد يصدر عنها وفيه ما يخالف سياسة زوجها أو أبيها ، والحديث يحضّ على قبول المرأة على طبيعتها ، فليست الأنثى كالذكر ، ولكلّ تكوينه النفسى والبدنى والفسيولوجي والوظيفى ، وعلى الرجال أن يأخذوا ذلك فى اعتبارهم عند التعامل مع النساء. ومعنى : «إن تقمها تكسرها» هو المعنى نفسه الذى يقصد إليه علماء النفس والطب النفسى بمصطلح إبادة الشخصيةamputation of personality ، فأن نحاول التغيير من طبيعة المرأة لنجعلها تسلك كالرجال فذلك هو التشويه للهوية ، وللدور الجنسى والنفسى والاجتماعى للمرأةgendre ، فتدرج لذلك ضمن الشواذ. فهل نريد نساء من الشواذ؟! سبحان الله!

* * *

تابع الإسلام الاجتماعى

* * *

ثانيا : النكاح والزواج فى القرآن

* * *

النكاح والزواج بمعنى واحد ، وكلاهما من مصطلحات القرآن ؛ والزواج اسم شائع وهو من شرعة الإسلام ، بينما النكاح اسم اصطلاحى ، ويأتى النكاح فى القرآن ٢٣ مرة ، بينما يأتى الزواج ٨٢ مرة. والنكاح فى اللغة : بالضم هو التداخل ، ويقال للفرج نكح ؛ والنكاح بالكسر يقال للوطء ، وسمى به عقد الزواج ، لأن النكاح سبب له ، وكل زواج لا يتم إلا بالنكاح ، لأن الزواج فى اللغة : هو الاقتران ، بمعنى أن يختار المرء لنفسه شريكة حياة ، ويقال للرجل تزوّج ، وللمرأة تزوجت ، أى تأهّلت ، فصار لكل منهما قرين أى زوج ، والزواج على ذلك مشاركة فى الخصال النفسية ، والزوج هو المكمّل لصاحبه ، وذلك معنى : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) (الأعراف ١٨٣) ، يعنى الذكر والأنثى. وعند ما يقال إن فلانا نكح فلانة : يعنون أنه عقد عليها ، فإذا قالوا : نكح زوجته ، يعنون الوطء. وأصل النكاح لزوم شىء لشىء مستعليا عليه ، ويكون فى المحسوسات والمعانى ، فإن شئت فى المحسوسات فهو الوطء ، وإن شئت فى المعانى فهو الزواج ، أى الاقتران والعقد. والنكاح والزواج فى كل المخلوقات ، تقول : نكح المطر الأرض أى رواها ؛ ونكح النعاس عينيه. والنكاح فى الشرع : هو العقد الذى يجيز الوطء ، ويكثر وروده فى القرآن بهذا المعنى حتى قيل إنه لم يرد منه إلا بمعنى العقد ، إلا فى قوله تعالى : (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا

٧١٤

بَلَغُوا النِّكاحَ) (النساء ٦) فإن المراد به الحلم. واختيار اسم النكاح كناية وهو أليق من اسم الجماع ، ومن ذلك فى القرآن تأتى كثير فى الأسماء بهذا المعنى ، كالملامسة ، تعنى الجماع : كقوله تعالى : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) (النساء ٤٣) ؛ والمماسة : كقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) (الأحزاب ٤٩) ؛ والقرب : كقوله : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) (البقرة ٢٢٢) ؛ والتغشّى ، كقوله : (فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ) (الأعراف ١٨٩) ؛ والإتيان : كقوله : (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ) (النمل ٥٥).

* * *

١٦٢٣ ـ النكاح من المرغوبات فى الإسلام

فى الرواية عن الرهط من المسلمين الذين اجتمعوا يتذاكرون ، فسألوا عن عبادة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتقالّوها ، وقال أحدهم : أما أنا فأصلى الليل أبدا ؛ وقال آخر : وأنا أصوم الدهر ولا أفطر ؛ وقال آخر : وأنا اعتزل النساء فلا أتزوج أبدا ؛ فجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إنى لأخشاكم وأتقاكم له ، ولكنى أصوم وأفطر ، وأصلى وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنّتى فليس منى»! أخرجه البخارى بطريق أنس. «وتقالّوها» يعنى استقلّوها ؛ والرهط الجماعة ، قيل كانوا عشرة وزعموا أنهم : أبو بكر ، وعمر ، وعلىّ ، وابن مسعود ، وأبو ذرّ ، وسالم مولى أبى حذيفة ، والمقداد ، وسلمان ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، ومعقل بن مقرن ، وبعض هذه الأسماء غير صحيح ، بل إن بعضها أبعد ما تكون عمن يمكن أن يفعلوا ذلك ؛ وقيل : كان اجتماعهم فى بيت عثمان بن مظعون ، والواقع أنه هو الوحيد الذى كان يفعل ذلك. وقيل : أنهم اتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ، ولا ينامون على الفرش ، ولا يأكلون اللحم ، ولا يقربون النساء ، وأن يجبّوا مذاكيرهم! والحديث فيه تعريض بالرهبانية ، وقد عابها الله تعالى عند النصارى ، بأنهم لم يوفّوا بما التزموه بها ؛ والسنّة ـ طريقة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هى الحنيفية السمحاء ، والمسلم السنّى : يفطر ليتقوّى على الصوم ، وينام ليتقوّى على القيام ، ويتزوّج لكسر الشهوة وإعفاف النفس وتكثير النسل ؛ وقوله «فليس منى» : يعنى قد خرج على سنّتى ولكنه لم يخرج عن الإسلام.

والنكاح : عبادة ، وقد حضّ عليه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشباب فقال : «يا معشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» أخرجه البخارى بطريق علقمة ، وفى رواية قال : «من استطاع الباءة فليتزوج فإنه أغضّ للبصر ، وأحصن للفرج» والحديث خصّ الشباب بالخطاب ، لأن داعى النكاح فيهم أقوى منه فى الشيوخ ؛ والباءة أو الباهة : هى النكاح أو الجماع ، وهى أيضا لوازم الزواج ومؤنته ، لأن من شأن

٧١٥

من يتزوج أن يبوّئ من يتزوجها منزلا وينفق عليها ، والذى لا يقوى على الجماع ، أو ليس بوسعه مؤنته ، فعليه بالصوم يدفع به شهوته ، ويقطع شرّ منيّه. وقوله من «استطاع منكم الباءة» يقسم الشباب قسمين : أحدهما من يتقدمون إلى الزواج ولهم اقتدار عليه ، فهؤلاء ندبهم إلى أن يتزوّجوا دفعا للمحذور ؛ والآخر الشباب الذين لا قدرة لهم على الوطء ، لفرط حياء ، أو عدم شهوة ، أو بسبب عنّة ، أو لأنهم لا يجدون شيئا يتزوجون به ويعولون به زوجاتهم ، فندبهم إلى التعفّف ، وأن يستمروا على حالهم. والتقوى سبب لغض البصر وتحصين الفرج. والزواج أشد غضّا ، وأشد إحصانا للفرج ، ومنعا للوقوع فى الفاحشة. والصوم الموصوف كعلاج لغير المستطيع من شأنه كسر الشهوة ، والصائم عن النساء يمتلك نفسه ، وبالجوع تقل فرص استثارة شهوته ، وهو المقصود بقوله فإنه «له وجاء» : والوجاء فى اللغة رضّ الأنثيين ، أى الخصيتين ، وإطلاق الوجاء على الصيام من مجاز المشابهة. ومن لا تجتمع له فوائد الزواج ، ولم تنتف آفاته ، فترك الزواج له أفضل. غير أن الأحاديث فى الزواج كثيرة ، ومن ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا رهبانية فى الإسلام» ، وقوله : «تزوّجوا الودود الولود» ، وقوله : «تناكحوا تكاثروا» ، وقوله : «تزوجوا فإنى مكاثر بكم الأمم ولا تكونوا كرهبان النصارى» ، وقوله : «من لم ينكح فليس منا» ، وقوله : «إنما يمنعك من التزويج عجز أو فجور» ، وقوله : «النكاح سنّتى ، فمن رغب عن سنتى فليس منى» ، وقوله : «من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه ، فليتق الله فى الشطر الثانى». والقول بالصيام استعفافا أراد به اتخاذ عبادة الصيام كبديل لعبادة الزواج. وشهوة النكاح تابعة لشهوة الأكل ، وتقوى بقوته ، وتضعف بضعفه. ولا ينبغى أن نفهم أن استخدامه لمصطلح الوجاء أنه يقول بالخصاء كما طالب البعض ، فالخصاء محرّم ، والتقوى كبديل للزواج مثلها مثل تعاطى المسكّنات ، والأحاديث تحصر العلاج لمن لا يستطيع الزواج ، فيما يسمى فى الطب النفسى «العلاج بالإرادة» ، وهو أن يروض نفسه على غضّ البصر وتحصين الفرج بكل ممكن طالما لا يستطيع الزواج ، مع عدم التكليف بغير المستطاع ، ويحرم الاستمناء بالتبعية كبديل للزواج ، لأنه ليس صوما يقطع الشهوة ، والحنابلة وبعض الحنفية يبيحون الاستمناء ، إلا أن الاستمناء فى الطب النفسى يصيب صاحبه بالنهك العصبى ، أو النيوراستينيا ، فكأنه يستعين على تحاشى ضرر بما هو أضرّ منه.

* * *

١٦٢٤ ـ الزواج سنّة المرسلين

قيل : عاب اليهود على النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثرة الزواج ، وقالوا : ما نرى لهذا الرجل همّة إلا

٧١٦

النساء والنكاح ، ولو كان نبيا لشغله أمر النبوة عن النساء؟ فأنزل الله : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً) (الرعد ٣٨) ، والآية ترغّب فى النكاح وتحضّ عليه ، وتنهى عن التبتّل : وهو ترك النكاح. وفى الآية أن الزواج : «سنّة المرسلين». ومن سنّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الزواج قوله : «تزوّجوا فإنى مكاثر بكم الأمم» ، وقال : «من تزوّج فقد استكمل نصف الدين فليتق الله فى النصف الثانى». وكانت لسليمان وداود الزوجات والسرارى ؛ وتزوج موسى امرأتين ، وإبراهيم تزوّج امرأتين بخلاف السرارى ؛ ويعقوب كانت له زوجتان بخلاف السرارى ؛ وتزوج نوح ، ولوط ، وشعيب ، وإسحاق ، وهارون ، ولا نعرف ممن لم يتزوج من المرسلين إلا عيسى ويحيى ، وكانا حصورين ، أى لا يأتيان النساء.

* * *

١٦٢٥ ـ التبتل مكروه فى الإسلام

التبتّل : المراد به الانقطاع إلى العبادة عن النكاح وما يتبعه من الملاذ. وفى الحديث عن سعد بن أبى وقاص : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ردّ على عثمان بن مظعون التبتل. والتبتل : فى رأى البعض تحريم النساء ، والطيب ، وكل ما يلتذ به ، ولهذا أنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) (المائدة ٨٧). والتبتل : خصاء نفسى وليس خصاء على الحقيقة ، وبعض المسلمين الأوائل فهموا التبتل أنه خصاء على الحقيقة. وفى حديث سعد السابق قال : ولو أجاز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعثمان التبتل لاختصينا».

* * *

١٦٢٦ ـ الخصاء منهىّ عنه فى الإسلام

فى الحديث عن ابن مسعود فيما رواه البخارى قال : كنا نغزو مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس لنا شىء ، فقلنا : ألا نستخصى؟ فنهانا عن ذلك». والخصاء : هو الشق على الأنثيين ، أى الخصيتين ، وانتزاعهما. والذى يكره من التبتل السابق ليس تحريم التبتل من أصله ، وإنما نوع التبتل الذى يفضى إلى التنطّع حتى إمكان الاختصاء. والخصاء جائز فى الحيوان المأكول ، ولكنه غير جائز أن يمارسه المسلم على نفسه ، أو على غيره من البشر. وعند الطبرانى من حديث عثمان بن مظعون : أنه قال يا رسول الله إنى رجل تشق علىّ العزوبة ، فأذن لى فى الخصاء؟ فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا ، ولكن عليك بالصيام». ومن طريق سعيد بن العاص ، أن عثمان بن مظعون قال : يا رسول الله ائذن لى فى الاختصاء؟ فقال له : «إن الله قد أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة.» والحكمة فى منع الاختصاء إرادة «تكثير النسل» عند المسلمين ، ليستمروا يجاهدون فى سبيل الله ، ولو أذن لهم فى الاختصاء لتواردوا عليه فينقطع النسل ، ويقل المسلمون بانقاطعه ، وتنتهى عبادة الله فى الأرض.

٧١٧

وكل الرسل بعثوا برسالة واحدة : أن يعبد الله. والنهى عن الاختصاء نهى تحريم بلا خلاف ، فلا يجوز فى بنى البشر ، لأنه تعذيب للنفس ، وتشويه للبدن ، وإدخال ضر يفضى إلى الهلاك ، وإبطال لمعنى الرجولة ، وتغيير لخلق الله ، وكفر بالنعمة. والرجل الذى يختار الاختصاء ، إنما يختار النقص على الكمال. ومن حديث ابن عباس عند الطبرانى : أن رجلا شكا إلى رسول الله العزوبة فقال : ألا أختصى؟ قال : «ليس منا من خصى أو اختصى».

* * *

١٦٢٧ ـ لعنته تعالى على الممتنع عن الزواج رهبانية

فى الحديث عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لعنة الله والملائكة والناس أجمعين على رجل تحصّر ، ولا حصور بعد يحيى بن زكريا». رواه عطية بن بشر وأخرجه الديلمى. ونضيف : ولا حصور بعد المسيح ، لأن المسيح أتى بعد يحيى. والتحصّر : هو الإمساك عن الزواج رهبانية ، وكان النبىّ يحيى بن زكريا حصورا عصمه الله ، لا يأتى النساء ، ولا رغبة له فيهن ، وكذلك كان عيسى ابن مريم.

* * *

١٦٢٨ ـ الزواج سنة محمد والسنّة فطرة

فى الحديث عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أحبّ فطرتى فليستن بسنّتى» ، رواه أبو يعلى عن ابن عباس. والزواج فطرة الله التى فطر الناس عليها (فاطر ١١) وكل ما خلقه الله جعل منه الذكر والأنثى (النجم ٤٥) ، وزواج بينهما ، فالنبات أزواج (يس ٣٦) ، والفواكه أزواج (الرعد : ٣) ، والأنعام أزواج (الشورى ١١) ، وكل شىء خلقه أزواجا (الذاريات ٤٩) والزوجية جعلها الله تعالى سكنا (الروم ٢١) ، وكل نفس خلق منها زوجها ، أى نظيرها ومثيلها وشبيهها. والزواج سنّة دعا إليها النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأكد بها الفطرة ، وجعلها الله شرعة الإسلام.

* * *

١٦٢٩ ـ من كانت فترته إلى السنّة وتزوج فقد اهتدى

فى الحديث عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن لكل عمل شرّة ، والشرّة إلى فترة ، ومن كانت فترته إلى سنّتى فقد اهتدى ، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضلّ». رواه ابن عباس وأخرجه البزّار. يقصد : أن الجنس الذى هو فى فطرة الإنسان ، له وقت تزداد فيه شرّته أو حدّته ، والشّرّة تستنفد فترتها أو وقتها وزمانها وهو الشباب ، وشباب كل امرئ إلى انقضاء ، وشرّة الجنس مآلها إلى الأفول حتما ، فلنبتهل الفرصة ، ولنتحيّن الوقت ، ولنكن على الفطرة

٧١٨

والسنّة ونتزوج ، ومن كان على الفطرة والسنة فقد اهتدى ، ومن سار على غير ذلك فقد ضلّ.

* * *

١٦٣٠ ـ مسكينة امرأة لا رجل لها ومسكين رجل لا امرأة له

عن أبى نجيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مسكين مسكين مسكين رجل ليس له امرأة ـ وإن كان غنيا من المال. ومسكينة مسكينة مسكينة امرأة ليس لها زوج ـ وإن كانت غنية من المال» رواه البيهقى فى شعب الإيمان.

* * *

١٦٣١ ـ الزواج واجب على القادر

وعن النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من كان منكم ذا طول فليتزوج ، فإنه أغض للطرف وأحصن للفرج ، ومن لا يستطيع الزواج فإن الصوم له وجاء» رواه عثمان وأخرجه أحمد. والطّول هو القدرة ، وغضّ الطرف هو كفّ البصر أو تخفيف النظر ؛ وإحصان الفرج هو التعفف عن الزنا.

١٦٣٢ ـ الموسر الذى لا ينكح ليس على الإسلام

فى الحديث عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من كان موسرا لأن ينكح ، ثم لم ينكح ، فليس منى» رواه أبو نجيح وأخرجه الطبرانى فى الكبير ؛ وعند البيهقى فى شعب الإيمان ، والبغوى ، جاء : «فليس منا» بدلا من «ليس منى» ، وفى الأولى : «فليس منا» ، يعنى فليس على الإسلام ، وفى الثانية : «فليس منى» ، يعنى فليس على سنّة محمد.

* * *

١٦٣٣ ـ دين محمد وداود وسليمان وإبراهيم يشترط الزواج

عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من كان على دينى ، ودين داود ، وسليمان وإبراهيم ، فليتزوج إن وجد إلى النكاح سبيلا ، وإلّا فليجاهد فى سبيل الله ، إن استشهد يزوّجه من الحور العين ، إلّا أن يكون يسعى على والديه أو فى أمانة للناس عليه» روته أم حبيبة وأخرجه ابن لال. فأما دين محمد فدعوته إلى الزواج مثنى وثلاث ورباع ، فإن خيف الجور للضرائر ، والعيلة ـ أى الفقر مع كثرة العيال ، فواحدة ـ وذلك هو الأحسن ، والأوفق ، والأفضل ، والأنسب. وقيل توفى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وله تسع أزواج ، والصحيح أن أزواجه اللاتى كنّ أربعا فقط ، وهن : عائشة وحفصة ، وأم سلمة ، وزينب بنت جحش ، وأما الباقيات فكن سرارى ، وبعضهن أضافهن إليه كرما منه أو ليسلم أقوامهن ؛ وأنجب أربع بنات وولدين ، فكان النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى النساء والأولاد مقلّا كما ترى ، مقارنة بغيره من الأنبياء والرسل ، فداود تزوج عشر

٧١٩

زوجات خلاف عشر سرارى ، وكانت له زوجتان فى السبى ، وزوجة فى شيخوخته لم يقربها ، وأنجب تسعة عشر ولدا بخلاف أولاد السرارى ، وأنجب ابنته تمارا من زوجته الحيثية أم سليمان ، ولم يكن هو أول من اتخذ زوجة أجنبية ، فموسى تزوج حبشية ، وأما سليمان فكانت له سبعمائة زوجة وثلاثمائة سرية ، وفى الغالب فإن هذه الأرقام مبالغ فيها ، والعرب واليهود على السواء يحبون الأرقام مثل السبعة والسبعين ، والألف ، والثلاثمائة وهكذا. ومن زوجات سليمان أخت زوجة فرعون مصر ، وابنة فرعون مصر والواقع أنهما ما كانتا مصريتين ، بل هما من الجنس الأشورى الذى كان يحتل أرض جاسان من الدلتا ـ وهى محافظة الشرقية الآن ، ولفظة فرعون ليست مصرية. وقيل إن ابنة فرعون كانت هى الزوجة الأثيرة عنده ، كما كانت الحيثية هى الزوجة الأثيرة لأبيه داود. وأما إبراهيم فكانت زوجاته ثلاثا : سارة وهاجر وقطورة ، ولم تكن هاجر سرية ولا كالسرارى ، وابنها إسماعيل لم يكن كأبناء السرارى. وفى الحديث أن الزواج فريضة القادر. والزواج شرعة اليهود ، ولا حدود عندهم لعدد الزوجات ، وللرجل أن يطلّق ما يشاء ، وأن يراجعها بعقد جديد ما لم تتزوج بآخر. ودعت النصرانية إلى البتولة والرهبانية ، ومن لم يستطع «فالزواج خير من التحرّف» (بولس إلى أهل كورنتس ٧ / ٩).

* * *

١٦٣٤ ـ الزواج سكن

فى البدء خلق الله آدم ولم يكن غيره من البشر ، ومن آدم خلقت حواء ، لا من ضلع آدم كما يقول اليهود وإنما من نفسه ، أى من ذاته ، بمعنى من جوهره وهويته ، كقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (١٨٩) (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الأعراف) : والآية توجز قصة خلق البشر ، وقصة الإيمان : فآدم هو أبو البشر ، وكلهم من ذاته ، الذكور والإناث على السواء ، وحواء من ذاته وكذلك بنات جنسها ، وغاية المزاوجة فى الجنس : أن يسكن كل جنس إلى جنسه ، والسكن أنس وطمأنينة ، فلما تحقق السكن نفسيا كان السكن البدنى ، فأنتج الذرية ، والمرأة والرجل لا ينتجان إلا إذا كانت بينهما السكينة ، وهى المناخ النفسى والفيزيائى الذى بدونه لا صلاح للذرية ، وواو الجماعة فى قوله «دعوا الله» عائد على آدم وحوّاء ، ، إلا أن الدعاء يأتيه الأبناء كما يأتيه الآباء ، ورغبة الصلاح شاملة للجميع ، ولذا كان التعبير بواو الجماعة. ولأن الحمل كان فى جو من السكينة فإنه كان خفيفا ، والصلاح فى الذرية هو السوية فى التنشئة ، وشأن آدم وحواء شأن كل بنى البشر ، يدعون فى الشدة وينسون ربّهم

٧٢٠