موسوعة القرآن العظيم - ج ٢

دكتور عبد المنعم الحفني

موسوعة القرآن العظيم - ج ٢

المؤلف:

دكتور عبد المنعم الحفني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
ISBN: 977-208-422-2
الصفحات: ١٢٤٤
الجزء ١ الجزء ٢

الحق» ، يعنى أن كل ما يتلهى به المسلم والمسلمة مما لا يفيدهما فى العاجل ولا فى الآجل فهو باطل والإعراض عنه أولى. والزواج واجب للإنجاب وإكثار الأمة وليس للتلهى ، وبالأولاد تعمر الدولة بالأفراد ، والرياضة البدنية إن كانت للهو فهى باطل ، وإن كانت من نوع رياضيات القوة الدفاعية كالكاراتية فهى حقّ. ولو كانت الآية اقتصرت على قوله : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) كان يكفى ، ولكنها خصّت الرمى ورباط الخيل لأنهما كانا أصل الحروب وأوزارها ، ويقابلهما الآن معانى للقوة ورباط الخيل مختلفة فى زمن الحرب فيه إلكترونية. ويظل الجندى المدرّب هو أقوى القوة وأشد العدّة ، ويظل إعداد هذا الجندى بالعقيدة هو أفضل الإعداد. وفى الآية فإن الوقف على رباط الخيل جائز ، وكذلك الوقف الآن على إعداد الجيوش ، وتقوية الجبهة الداخلية ، والإنفاق على البحوث ، وإنشاء الجامعات المدنية والعسكرية ، وكل مال ينتفع به فى تقوية الدولة فجائز أن يوقف ، كالأرض الزراعية ، والعمارات السكنية ، واستثمارات الأموال فى الشركات والمصارف وغيرها.

* * *

١٥٣٦ ـ الرباط

فى قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٢٠٠) (آل عمران) جمع الله تعالى ثلاث وصايا لا غنى عنها فى الحرب ، فحضّ على الصبر على مكاره الحرب ، وأمر بمصابرة الأعداء ، وبالمرابطة بالعدة والعتاد ، ونظيره قوله تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ) (الأنفال). ورباط الخيل هو كل ما من شأنه تسهيل وتسريع وتفعيل الرمى ، وفى الحديث : «ألا إن القوة الرمى» ، وسلاح المدرّعات ، والطيران ، والسلاح البحرى ، وسلاح الدبابات ، والمدفعية ، كل ذلك حلّ محل الخيل ، والمرابطة بهذا العتاد من الدين. والمرابطة أصلا هى ملازمة المواقع العسكرية على أهبة استعداد لخوض المعركة ، ومنها الرباط المعنوى ، برفع الروح المعنوية ونشر التوعية. والمرابط فى سبيل الله : هو المدافع عن وطنه وعقيدته. وجاء فى فضل الرباط : «رباط يوم فى سبيل الله خير من الدنيا وما فيها» ، والرباط هو الجندية ، والمرابطة هى الخدمة العسكرية ، والرباط هو أفضل الأعمال التى يبقى ثوابها بعد الموت ، ويضاعف أجره إلى يوم القيامة ، وكذلك انتظار الصلاة بعد الصلاة فإنه رباط ، والمسلمون لم يؤمروا بالجهاد من غير تقوى ، والرباط أساس كل تقوى وفلاح وبقاء.

* * *

٦٤١

١٥٣٧ ـ الجهاد

الجهاد : فى اللغة بذل الوسع من القول والفعل ، كقوله تعالى : (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي) (العنكبوت ٨) ؛ وفى الشرع فإن الجهاد هو بذل الوسع فى سبيل الله وخدمة الدين والزود عن حياض الأمة والدعوة إلى الإسلام ، ويقال جهاد فى سبيل الله ، وفى الإسلام يتوجه الجهاد إلى الكفار والمنافقين وأعداء الله والمسلمين ، كقوله تعالى : (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) (التوبة ٧٣) ، ويأتى الجهاد فى المرتبة بعد الإيمان (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) (١١) (الصف). والهجرة والجهاد علامتان للإيمان ، كقوله : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) (٢١٨) (البقرة). ويأتى عن الجهاد والمجاهدين فى القرآن تسعا وعشرين مرة ، وحقيقة من يجاهد لله إنه يجاهد لخلاص نفسه ونجاتها ، كقوله : (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) (٦) (العنكبوت) ، والإخلاص شرط الجهاد ، ومن الجهاد ما هو صغير وما هو كبير ، والجهاد الشرعى هو الجهاد الكبير ، كقوله : (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً) (٥٢) (الفرقان) ، والمجاهد نقيضه القاعد عن الجهاد ، كقوله : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) (٩٥) (النساء). والجهاد جهادان : جهاد عرفى وهو الجهاد فى الحياة ، وجهاد عام فى دين الله وطلب مرضاته ، والردّ على الظالمين ، وأعظمه الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، ومنه مجاهدة النفس فى طاعة الله وهو الجهاد الأكبر.

* * *

١٥٣٨ ـ الحضّ على الجهاد

الجهاد فرض ، والحض عليه وتحريض المسلمين ليجاهدوا من أولى مهام الداعية ، والله تعالى يقول : (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) (٧٥) (النساء). وفى هذه الآية يتوجه الجهاد ضد الدولة الظالمة كالدولة اليهودية التى تظلم الفلسطينيين ، والدولة الروسية التى يعيش فيها المسلمون مضطهدين ، والدولة الهندية التى يفزّع فيها المسلمون ويقتلون ، وتهدم مساجدهم. ومن البلاد الإسلامية من يضطهد المسلمين ويغلق مساجدهم قسرا ويصادر ملكيتها ، ويمنع دراسة الدين ، ويحكم بالطاغوت. والجهاد فى الآية بغرض تخليص المستضعفين ، أوجبه تعالى لإعلاء كلمة الله وإظهار دينه واستنقاذ المؤمنين الضعفاء من عباده ، وإن كان فى الجهاد تلف للنفوس. وإنقاذ المسلمين من أحوالهم المتردّية ، ومظالم الدولة الجائرة والحاكم الظالم ، واجب على جماعة

٦٤٢

المسلمين ، إما بالقتال ، وإما بالأموال ـ وذلك أوجب لكونها دون النفوس ، إذ هى أهون ، فى الحديث : «فكّوا العانى» ، وهو الذى يعانى الظلم والاضطهاد ويحرم من حقوق المواطنة وحقوق الإنسان.

* * *

١٥٣٩ ـ الجهاد وحق الجهاد

تقول صوفية المسلمين : إن الجهاد فى سبيل الله هو «الجهاد الأصغر» ، وعندهم «الجهاد الأكبر» وهو مجاهدة النفس الأمّارة بالسوء ، والحق أن الجهاد بالمال والنفس فى سبيل الله هو أعلى الجهاد ، وهو «حق الجهاد» ، والجهاد لا يكون جهادا إلا إذا كان جهادا بحق ، كقوله تعالى : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) (٧٨) (الحج) ، ومعنى «حقّ جهاده» أن يمتثل المجاهد جميع ما أمر الله ، وأن ينتهى عن كل ما نهى عنه ، ويجاهد نفسه على طاعته تعالى ، ويردّها عن هواها ، ويجاهد الشيطان ويردّ وسوسته ، ويجاهد الظلمة ويردّ ظلمهم ، ويجاهد الكافرين ويردّ كفرهم ، كقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (١٦) (التغابن) ، وفى الحديث «خير دينكم أيسره» ، والأيسر هو الوسع ، فكأن حق الجهاد هو بذل ما فى الوسع والاستطاعة ، وفى الحديث أيضا : «المجاهد من جاهد نفسه لله عزوجل» أخرجه الترمذى ، أى جعلها فى طاعته ، ولما سئل النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أى الجهاد أفضل؟ قال : «كلمة عدل عند سلطان جائر» أخرجه ابن ماجة ، والحديث عن الجهاد فى دولة الظلم ، ويبقى دائما أن أفضل الجهاد هو الجهاد بالمال والنفس.

* * *

١٥٤٠ ـ فضل الجهاد

لا عمل يفضل الجهاد أبدا ، لقوله تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ) (التوبة ١٩) ، فأى عمل مدنى لا يساوى الجهاد عن إيمان ، وقوله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) (٢٠) (التوبة) ، وليس أعظم درجة عنده تعالى ممن هاجر مجاهدا وضحّى بنفسه وماله فى سبيل الله ، وفى الحديث : «من ترك الجهاد ألبسه الله ذلا وفقرا فى معيشته ، ومحقّا فى دينه». والجهاد عزّ الإسلام ، وباب من أبواب الجنة ، وهو لباس التقوى ، ودرع الله الحصينة ، وجنته الوثيقة ، ومن تركه يشمله البلاء ، وضرب على قلبه ، وأديل الحق عنه ، وسيم الخسف ، ومنع النّصف. والرباط من الجهاد ، وهو انتظار العدو ، وأن يكون مستعدا دائما للقتال حذر المفاجآت ، كقوله تعالى : (اصْبِرُوا

٦٤٣

وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ) (آل عمران ٢٠٠). والرباط حراسة ، وفى الحديث : «عينان لا تمسهما النار : عين بكت من خشية الله ، وعين باتت تحرس فى سبيل الله» رواه الترمذى.

* * *

١٥٤١ ـ من يجب عليه الجهاد؟

من اجتمعت فيه ست شرائط وجب عليه الجهاد : الإسلام : فلا استعانة بغير مسلم فى القتال ، وقد يستأجر غير المسلم للخدمة لا غير ؛ والبلوغ : فلا يكون صبيا غير مميز ؛ والعقل : فلا يكون مجنونا ؛ والحرية : فلا يكون مسجونا أو متّهما فى شرفه ؛ والسلامة : فلا يكون ضريرا ، أو به عرج شديد ، أو مريضا بمرض مزمن أو شديد ، ومع ذلك فيمكن للضرير والأعرج المشاركة فى التعبئة المدنية. ولا يهم فى الجهاد إن كان المجاهد ذكرا أو أنثى ، فلكل مجاله الذى يجاهد فيه ، ويمكن للنساء القيام بكافة الأعمال خلف خطوط القتال.

* * *

١٥٤٢ ـ زمان الجهاد ومكانه

القتال جائز فى زمان دون زمان ، وفى مكان دون مكان ؛ فأمّا المكان الذى لا يجوز فيه القتال فهو المسجد الحرام ، إلا إذا ابتدأ المعتدى بالقتال ، كقوله تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) (البقرة ١٩١) ، و «عند» تفيد المكان والبلد ، وفى الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم فتح مكة «إن هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السموات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة» أخرجه مسلم ، ومكة حرام تعظيما للمسجد الحرام ، والقتال عنده حرام ، وقتال المسلم عنده لردّ العدوان ، وهو قتال دفاعى. ويتعيّن على المسلم الجهاد فى ثلاثة مواضع : الأول : التقاء الجيوش ، فلا يهرب من القتال ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١٦) (الأنفال) ، والأمر بعدم الإدبار مقيّد بالشريطة المنصوصة فى مثلى المؤمنين ، فإذا لقيت فئة من المؤمنين فئة هى ضعف المؤمنين من الأعداء ، فالفرض ألا يفروا أمامهم ، فمن فرّ من اثنين فهو فار من الزحف ، ومن فرّ من ثلاثة فليس بفار من الزحف ، ولا يتوجّه عليه الوعيد. و «التحرّف» فى القتال هو الانحراف من جانب إلى جانب ، وسرعة نقل القوات ، لمكايد الحرب ، وكذلك «التحيّز» وهو أن يأمر القائد قواته بالتوجه إلى نقاط الضعف لنصرة جماعة المسلمين المحاصرة ؛ والثانى : إذا نزل العدو ببلد تعيّن على

٦٤٤

أهله قتالهم ودفعهم ، كقوله تعالى : (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) (البقرة ١٩١) ؛ والثالث : إذا استنفر المسلمون لزمهم النفير ، كقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) (البقرة ٢١٦) ، وقوله : (ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) (التوبة ٣٨). والمكان : الذى يجوز القتال فيه ابتداء للدعوة إلى الإسلام هو أى مكان ما عدا المسجد الحرام. وأما الزمان : الذى لا يجوز القتال فيه ، فهو الأشهر الحرم ، وعددها أربعة : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرّم ، ورجب ، إلا إذا ابتدأ المعتدى بالقتال فيها ، فيجوز الدفع حينئذ ، كقوله تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (التوبة ٥) ، وقوله : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (البقرة ١٩٤) ، فمن استحلّ قتال المسلمين فى الشهر الحرام استحلّوا أيضا قتاله فيه ، قصاصا على اعتدائه.

* * *

١٥٤٣ ـ درجات المجاهدين فى سبيل الله

المجاهدون درجات ومنازل عند الله تعالى ، كقوله : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) (١٩) (الأحقاف) ، وقوله : (فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى) (٧٥) (طه) ، وفى الحديث : «إن فى الجنة مائة درجة أعدّها الله للمجاهدين فى سبيل الله» ، وفى قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) (٢٣) (الأحزاب) ، فالأولون هم الشهداء ، والثانون هم المرابطون. وفى الرواية أن أحدهم قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الرجل يقاتل للمغنم ، والرجل يقاتل للذكر ، والرجل يقاتل ليرى مكانه ، فمن فى سبيل الله؟ قال : «من قاتل لتكن كلمة الله هى العليا فهو فى سبيل الله» ، وذلك أعلى درجات الجهاد وأسمى درجات المجاهدين.

* * *

١٥٤٤ ـ الحرب إثخان

الجهاد من شريعة الإسلام ، وجهاد الكفر واجب على كل مسلم ، بالحوار دائما وبالقتال لو اقتضت الظروف. والحرب تفرض على المسلم ولا يسعى لها ، وحربه دفاعية ، فما ذا تكون عليه طريقة الحرب كما ينصح بها القرآن؟ وتحدد الآية : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) (٤) (محمد) من يكون عدو المسلمين؟ وكيف تكون مجاهدته؟ والطريقة التى يحسن اتباعها معه. فأما العدو فهو الكافر الذى يخالف الإسلام ، ويظهر له العداء ، ويكيد للمسلمين ، وهذا لا عهد له ولا ذمة. والمعتدون على دولة مسلمة ، كالشيشان ،

٦٤٥

وفلسطين ، وأفغانستان ، وإيران ، والعراق ، وليبيا ، والسودان ، أو على شعب مسلم كشعب فلسطين ، بلادهم بلاد حرب ، وطريقة القتال معهم أساسها «الضرب فى المليان» حتى الإثخان ، وضرب الرقاب : خصّ به الرقاب بالذكر ، لأن القتل أكثر ما يكون بالرقاب ، وفى الآية لم يقل اقتلوا العدو ، لأن فى عبارة «ضرب الرقاب» تغليظا وشدة ليسا فى لفظ القتل ، وتصويرا للقتل بأشنع صورة ، وهو حزّ العنق وإطارة العضو الذى هو رأس البدن ؛ والإثخان : هو الإكثار من القتل ؛ وشدّ الوثاق : هو الأسر وربط الأسير بالأغلال فلا يفر ؛ فإذا وضعت الحرب أوزارها ، كان للهيئة الحاكمة التى لها سلطة القرار السياسى أن تختار بين الفدية : وهى إطلاق الأسير لقاء فائدة تعود على المسلمين ، كأن تكون تبادل الأسرى ، أو إعادة الممتلكات والأموال ، أو الجلاء عن الأرض إلخ ؛ وبين المن : وهو إطلاق الأسير دون مقابل ، لأنه من الجرحى أو المعوقين ، أو الزمنى ، أو المرضى ، أو المدنيين الذى لا يحسنون القتال ، وبين العفو عن فئة المستضعفين الذين لا يخشى أن يحملوا السلاح وينبذوا إلى القتال لو عادت جماعتهم لقتال المسلمين.

* * *

١٥٤٥ ـ الحرب مقدّرة بقدرها

الحرب فى النظرية الإسلامية ضرورة ، كتبها الله على المؤمنين وهو يعلم أنهم يكرهونها : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) (٢١٦) (البقرة) ، ولذلك فقد جعلها مقدّرة بقدرها فقال : (فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) (١٩١) (البقرة) ، وقال : (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٩) (الممتحنة) ، وقال : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا) (١٩٠) (البقرة) ، فقصر القتال على المقاتلين ، وأما من تجنّب الحرب فلا يحلّ قتالهم ولا قتلهم ، ولا التعرّض لهم بأى سوء ، ولذلك حرّم الإسلام قتل النساء ، والأطفال ، والمرضى ، والشيوخ ، والرهبان ، والأجراء ، طالما لم يحاربوا ، وحرّم المثلة : وهى أن يمثّل بالقتلى أو بالأحياء ، وحرّم قتل الحيوانات ، واقتلاع الزروع ، وحرث الأرض ، وحرق المحاصيل ، وتلويث الآبار ، وهدم البيوت ، مما يفعله اليهود فى فلسطين ، والأمريكان فى أفغانستان ، وحرّم الإجهاز على الجرحى. وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوصى جنود الإسلام أن يتّقوا الله ، ويقول لهم : «اغزوا باسم الله فى سبيل الله. قاتلوا من كفر بالله. اغزوا ولا تغلوا ، ولا تغدروا ، ولا تمثّلوا ، ولا تقتلوا وليدا» ، ومرّ فى إحدى الغزوات فعثر على امرأة مقتولة فاستنكر ذلك وقال : «ما كانت هذه لتقاتل» ، ثم نظر إلى وجوه أصحابه واختار أحدهم وقال له : «الحق بخالد بن

٦٤٦

الوليد : فلا يقتلنّ ذرية ، ولا عسيفا ـ أى أجيرا ـ ولا امرأة» ، ونهى عن النّهبى والمثلة ـ من النهب وهو الاستيلاء عنوة وقهرا ، والمثلة هى التنكيل. وفى وصية أبى بكر لأسامة قال : «لا تخونوا ، ولا تغلوا ، ولا تغدروا ، ولا تمثّلوا ، ولا تقتلوا طفلا صغيرا ، ولا شيخا كبيرا ، ولا امرأة ، ولا تعقروا نخلا ، ولا تحرّقوه ، ولا تقطعوا شجرة مثمرة ، ولا تذبحوا شاة ، ولا بقرة ، ولا بعيرا ، إلا لمأكلة ، وسوف تمرون بأقوام قد فرّغوا أنفسهم فى الصوامع (أى الرهبان) فدعوهم لما فرّغوا أنفسهم له». وأصدر عمر أوامره على نفس المنوال ، قال : «لا تغلوا ، ولا تغدروا ، ولا تقتلوا وليدا ، واتّقوا الله فى الفلاحين» ، وقال : «ولا تقتلوا هرما ، ولا امرأة ، ولا وليدا ، وتوقّوا قتلهم إذا التقى الزحفان ، وعند شن الغارات».

وبعد ، فهذه هى تعاليم القرآن ، ومبادئ السنّة المشتقة من القرآن ، والتى تمثّلها المسلمون ، وكانت دائما القاعدة السلوكية لهم فى الحرب لا يشذّون عنها ، وهذه هى إملاءات حضارة الإسلام ، فأين منها ما يفعل الآن بالمسلمين باسم صراع الحضارات؟ وأين هذه السلوكيات الراقية من دعواهم فى المسلمين بأنهم برابرة بينما هم المتحضرون؟!

* * *

١٥٤٦ ـ الحرب خدعة

الحديث للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الحرب خدعة» ، بضم الخاء أو فتحها ، والأصح بالفتحة ، والله قد أمر بخداع أعداء الإسلام ، فلأنهم يلجئون للخداع ، فعلينا أن نخدعهم ، وخداعهم باطل ، وخداعنا حق ، والله تعالى ، وهو الحق يخادعهم ، يقول : (يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) (١٤٢) (النساء) ، ويقول : (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) (٩) (البقرة) ، ويقول : (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ) (٦٢) (الأنفال) ، والخداع فى الحرب : هو استعمال الحيلة ، وما أمر المسلمون باللجوء للخداع إلا لأن العدو فى طبيعته الخداع ، والحروب أصلا قوامها الخداع ، والخداع إن كان من المسلمين فالآيات والحديث تحضّ عليه ، وإن كان من أعداء الإسلام فكأنه يحذرهم من مكرهم ، فلا ينبغى التهاون بهم ، لأن التهاون مفسدة ولو قلّ. وخداع العدو فى الحرب جائز كيف أمكن ، إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يجوز. وفى الآيات والحديث إشارة إلى استعمال الرأى فى الحرب ، فلأنها خدعة وجبت فيها المشورة ، والاحتياج للرأى آكد فى الحرب من الشجاعة ، والمخادعة أفضل فى نتائجها من المواجهة ، لخطر المواجهة وحصول الظفر مع المخادعة ، بشرط أن لا تكون مخادعة ساذجة وإنما جيدة لصاحبها ، كاملة فى مقصودها.

* * *

٦٤٧

١٥٤٧ ـ الكذب فى الحرب

الكذب : من الخداع فى الحرب ، والكذب مطلقا رذيلة ، وهو فى الحرب فضيلة ، وفى الحديث : «لا يحل الكذب إلا فى ثلاث : يتحدث الرجل إلى امرأته فيكذب ليرضيها ؛ والكذب فى الحرب ، وفى الإصلاح بين الناس». والكذب فى الحرب من المستثنى الجائز بالنصّ لحاجة المسلمين إليه ، ردا على كذب أعداء الإسلام ، وصفهم الله تعالى فقال : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (٢٨) (الأنعام) ، فالكذب ليس للعقل فيه مجال ، ولو كان تحريم الكذب بالعقل ما انقلب حلالا ، ومن أمثلته أن النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أذن للحجاج بن علاط أن يقول عنه ما يشاء لأهل مكة لمصلحته فى استخلاص ماله منهم ، وأذن للمسلمين أن يقولوا كذبا عن أنفسهم أن أهل خيبر هزموهم ليوقعوا بأهل مكة. ولا يتعارض ذلك مع القصة مما أخرجه النسائى : أن الأنصارى طلب من النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يومئ إليه بعينه ، فقال له : «ما ينبغى لنبىّ أن تكون له خائنة الأعين» ، لأن المأذون به فى الخداع فى حالة الحرب خاصة ، وأما فى غير ذلك فليس بأحوال حرب ، ومنها أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلما أراد أن يغزو وجهة الشرق ، جعل كأنه يهتم بجهة الغرب ، مع أن مراده الشرق. والكذب فى القرآن بالنسبة للمسلم من المعاريض ولا يصرّح به ، ولا يوجد آية فى القرآن تصرّح بالكذب الحقيقى ، الذى هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو ، ومحال أن يتضمن القرآن آية تبيح الكذب ، وفيه على العكس أكثر من ٢٠٠ آية تدين الكذب ، ومحال أن يأمر بالكذب من قال : «من كذب علىّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» ، إلّا الكذب فى الحرب فإنه خدعة ، والخداع جائز فى الحرب.

* * *

١٥٤٨ ـ الرّجز فى الحرب

الرّجز : من بحور الشعر ، والعرب كانت تستعمله فى الحرب ليزيد فى النشاط ويستحث الهمم ، والجماعات تنشده طلبا للطمأنينة ، واستئناسا بقومهم ، واستنصارا بالله ، والنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم استنّه للمسلمين ، وارتجز برجز غيره فى غزوة الخندق ، إلا أن يكون فى سماع أصوات الجماعة خطرا داهما عليهم فيجب الصمت والتخفّى ، ومما كان يرتجز به النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله

اللهم لو لا أنت ما اهتدينا

ولا تصدّقنا ولا صلّينا

فأنزلنّ سكينة علينا

وثبّت الأقدام إن لاقينا

إنّ الأعدا قد بغوا علينا

إذا أرادوا فتنة أبينا

* * *

٦٤٨

١٥٤٩ ـ البيعة فى الحرب أن لا يفروا

المسلمون فى الحرب على البيعة أن يصمدوا فى المعركة ، والصمود يعنى أن لا يفروا ، ويستلزم الصبر ، ويقتضى أن يجاهد المسلم بنفسه وأن يبذلها لنصرة دينه ، وفى الحديث عن بيعة الرضوان فى الحديبية لمّا بايعوا النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قال بعضهم إنهم بايعوا على أن لا يفروا ، وقال آخرون : إن البيعة كانت على الموت ؛ وأخبر بعضهم أن البيعة كانت على الصبر ، أو كانت على الإسلام والجهاد ، وأنزل الله تعالى الآية : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (١٨) (الفتح) ، فهذه الأركان الأربعة إذن هى التى كانت عليها تلك البيعة ، وهى التى كانت رضا الله تعالى عنهم بسببها ، واستوجبت أن ينزل عليهم السكينة ويثيبهم الفتح القريب ، وهى : الثبات وعدم الفرار ، والموت ، والصبر ، والإسلام والجهاد ، وما تزال هذه الأركان هى أركان كل حرب يدخلها المسلمون ، فهم لا يحاربون إلا صونا لبلادهم ودينهم ، وقد أقسموا أن لا يفروا منذ بيعة الرضوان ، ومن لا يفر قد يموت ، والموت لا يخيفهم لأنه يعنى الشهادة ، وهى إحدى الحسنيين ، ولا تنافى بين عدم الفرار والموت ، لأن المراد بالمبايعة على الموت أن لا يفروا ، وليس المراد أن يقع الموت حتما لمن لا يفر ، والصمود يقتضى الصبر ، وكل حرب لها أهدافها ، وخير أهداف المسلمين فى حروبهم نصرة الإسلام ، ووسيلتهم لتحقيقها الجهاد ، وهو أشرف وسيلة ، لأنه يعنى بذل الوسع لتحقيق النصر.

* * *

١٥٥٠ ـ الحربىّ والذمىّ

الحربى : هو من يعادى الإسلام والمسلمين ، سواء من أهل بلد من بلاد الإسلام ، أو من خارج بلاد الإسلام ، وكل بلد تعادى نظمه الاجتماعية والسياسية والإعلامية الإسلام والمسلمين فهو دار حرب ـ أقول تعادى ولا أقول تناقض أو تخالف أو تعارض ، وفرق بين العداء والمعارضة والنقض والمخالفة .. وقد يصنّف الذين يظهرون الإسلام ويبطنون له العداء من أهل بلد الإسلام باعتبارهم : منافقين ، وهؤلاء كانوا منذ النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضمن أهل المدينة نفسها ، أى من داخل المجتمع الإسلامى ، ومن حول المدينة ، أى ضمن مجتمعات البلاد الإسلامية الأخرى ، وأدرجهم الله تعالى مع الكفار والمشركين ، واتهمهم بالفسوق والكذب ، وشخّص نفاقهم بأنه مرض نفسى من أمراض القلوب وأرجعه إلى جهلهم وسوء طويتهم ، ووصفهم بأنهم لا يعلمون ، ولا يفقهون (الآيات ١٢ و ٧٣ الأحزاب ، والتوبة ٦٧ ، ٦٨ ، ١٠٦ ، والمنافقون ٧ ، ٨) ، وجميعها صفات تصنع منهم ما يسمى بالطابور الخامس.

٦٤٩

وأما الذمّى : فهو الكتابى من اليهود أو النصارى ، وهؤلاء قسمان ، فمنهم الأجنبى المقيم أو العابر ، وهذا له الأمان ، ومنهم المواطن ، من أهل البلد المسلم ، وله ما للمسلمين ، وعليه ما عليهم. وهذه هى شروط الذمّة : أن يلتزم بالمواطنة الصحيحة فلا يمايز أهل ملّته على المسلمين ؛ ولا ينضم لأعدائهم ولو كانوا من أهل ملّته ، وأن يدفع ما عليه من ضرائب كغيره من المواطنين ، ويخضع لقوانين الأغلبية طالما يأخذ بالديموقراطية. والذمّى ليس بحربى ، ولكنه فى ذمة المسلمين وعهدهم ، فلا يتعرضون له ولدينه بسوء ، ويدفعون عنه ، ويمكّنون له أن يعبد الله كما يشاء ، طالما يوفّى بشروط الذمة ـ وهى حسن المواطنة ، وعدم التعرّض للإسلام وللمسلمات ، ولا يبشّر بدينه ، ولا ينكح المحارم ، ولا يظهر ارتكاب المنكرات ، ولا يأوى إليه أعداء الإسلام ، ولا يتجسّس على المسلمين لحساب أعدائهم ، ولا يأكل الربا ، فمن فعل ذلك برئت منه ذمة الله وذمة رسوله.

والحربى الذى يجيء متاجرا ومعه التصريح بذلك من السلطات المحلية المختصة والقنصليات والسفارات المعتمدة ، عليه ضرائب أهل البلد المسلم مثلما الحال فى بلده ، وكانوا قديما يتقاضونه عشر الأرباح فقط كما هو فى دينه. وإذا أسلم الحربى فى دار الإسلام دخل فى ذمة المسلمين. وتجوز هدية أهل الحرب لواحد من المسلمين ، بشرط أن لا تكون على سبيل الرشوة. وأموال أهل الحرب فى حال الحرب المعلنة غنائم حرب ، وما يغنمه المسلمون منهم بلا حرب من الفيء. ولا يدخل فى الغنيمة مال المسلم القاطن بدار الحرب. وتصحّ وصية المسلم للذمّى ، والذمّى للمسلم ، وتصحّ وصية المسلم للحربى فى دار الحرب ، والحربى للمسلم فى دار الإسلام ودار الحرب. والمسلم يقطع بسرقة مال الذمّى ، كما يقطع الذمّى بسرقة مال المسلم ومال الذمى. والحربى إذا دخل بلاد الإسلام مستأمنا وسرق قطع ، ويقطع المسلم والذمى بسرقة مال الحربى المستأمن ، ومعاملة الذمى والحربى المستأمن هى نفس المعاملة للمسلم فى القصاص ، سواء فى السرقة والزنا أو غيرهما. وقيل : يقتل الحربى المستأمن لو زنى بمسلمة أو ذمّية فى دار الإسلام ، وهذا غير صحيح لأن القتل ليس جزاء الزنا ولا يقتل ذمّى ولا مسلم بحربى غير مستأمن ، ولا يقتص منهما لأذى أو جرح يصيبه وإن أسلم قبل أن يموت ، لا تجب له الدية ولا الكفّارة.

* * *

١٥٥١ ـ كل هزيمة أو نصر فبإذن الله

الفرق بين المؤمن وغير المؤمن فى الحرب : أن المؤمن يرى أن الهزيمة والنصر من عند الله ، وغير المؤمن يراهما من عند نفسه ، كقارون قال عن غناه : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) (٧٨) (القصص) ، فكذلك الظالمون يرون أن النصر يؤتونه على علم عندهم ، والله

٦٥٠

تعالى يقول : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) (١٠) (الأنفال) ، ويقول : (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ) (البقرة ٢٥١) ، ونصره تعالى إنما لأهل الحق ، فإن بدا أحيانا أن أهل الباطل ينتصرون ، فليس انتصارهم نصرا ولكنه إملاء محفوف بخذلان وسوء عاقبة وخسران ، كقوله تعالى : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) (١٨) (الأنبياء) أى يبين الحجة ويظهرها وإن كان بعد لأى ، والنصر من عند الله مرة يكون بالقوة ، ومرة بالحجة ، وفى كل الحالات ينصر الله أهل الحق ، كقوله : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (٤٧) (الروم) ، وهذه العبارة هى خلاصة كل حروب الإنسانية من يوم أن خلق الله الخلق.

* * *

١٥٥٢ ـ الاستشهاد فى سبيل الله

الاستشهاد من شهد يعنى أخبر به خبرا قاطعا ؛ واستشهد تعرّض أن يقتل فى سبيل الله ؛ واستشهد : قتل شهيدا ؛ والشهيد والشهيدة من قتل فى سبيل الله ، والجمع شهداء ، والاسم الشهادة ، وسمّى الشهيد بذلك لقيامه بشهادة الحق فى أمر الله ، كقوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٧١) (آل عمران) ، وفى الآيات إخبار بأن الاستشهاد أكبر نعمة من الله يمكن أن يرزق بها المؤمن ، وأن الشهداء أحياء فى الجنة يرزقون ، ولا محالة أنهم ماتوا ، وأن أجسادهم فى التراب ، ولكن الله يؤكد لنا أن أرواحهم حيّة كأرواح سائر المؤمنين ، وأنهم فضّلوا بالرزق فى الجنة من وقت القتل ، كأن حياة الدنيا دائمة لهم. وقيل : إن أرواحهم تردّ إليهم فى القبور فينعمون ، كما يحيا الكفار فى قبورهم فيعذّبون. وقيل : الكلام فى الآية على المجاز ، ويعنى أنهم فى حكم الله ، مستحقون للتنعّم فى الجنة ، كما فى قولنا إن فلانا ما مات ، لأن ذكراه باقية ، كقول الشاعر :

موت التّقىّ حياة لا فناء لها

قد مات قوم وهم فى الناس أحياء

فالمعنى أنهم يرزقون الثناء الجميل. والشهيد حاله فى الغسل والصلاة كحال الأحياء ، فهو يغسّل ويصلّى عليه مثلهم ، إلا قتيل المعترك ، وفى الحديث : «ادفنوهم بدمائهم» ، ودفن الشهداء يوم أحد ولم يغسّلوا ولا صلّى عليهم. وقيل : إن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى على حمزة وسائر شهداء أحد ، وقيل : لم يغسّل شهداء أحد ، وكان يجمع بين الشهيدين فى ثوب واحد ، ويدفنان بدمائهما ، ويقدّم الأقرأ للقرآن ، ولم يصلّ على أىّ منهم. وقيل : من يقتل

٦٥١

مظلوما لا يغسّل ، ولكن يصلّى عليه ، ولمّا قتل عمّار بن ياسر فى صفّين لم يغسله علىّ. وقيل : مات مظلوما ، ولا يغسّل قتيل البغاة ، والصحيح أن غسل الموتى ثابت عقلا وبالإجماع ، وهو سنة ثابتة. والآية فيها عظم ثواب القتل فى سبيل الله ، وأن الشهادة تكفّر الذنوب ، وفى الحديث : «القتل فى سبيل الله يكفّر كل شىء إلا الدّين» ، والحديث غير معقول ، فهل الدّين أكبر وأقيم من الشهادة؟! وقيل : المدين وإن قتل شهيدا لا يدخل الجنة حتى يقضى عنه دينه ، فأين يكون إذن؟ وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أرواح الشهداء على نهر بباب الجنة يقال له بارق ، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا ، وقال : «شهيد البحر مثل شهيد البرّ ؛ والمائد فى البحر (أى الذى يموت من دوار البحر) كالمتشخّط فى دمه فى البرّ (أى الذى يتخبّط فى دمه).

والأولياء عند الله تعالى مراتب ، كقوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (٦٩) (النساء) ، فأولى المراتب للأنبياء ، ثم للصّديقين ، ثم للشهداء ، ثم للصالحين ؛ فالشهداء فى المرتبة الثالثة. والصالحون هم صالحو أمة الإسلام ، واللفظ يعمّ كل هؤلاء السابقين. والرفيق هو الصاحب يرتفق صاحبه ، ولأنهم يرتفقون بعضهم البعض فإنهم رفقة ، وهؤلاء السابقون أصحاب المراتب الأربع رفقة الشهيد فى الجنة.

* * *

١٥٥٣ ـ دار البغى

البغى : هو الظلم وتجاوز الحدّ فيه ، وأن يقع الرجل فى الرجل فيتكلم فيه ويبغى عليه بغير الحق ، كقوله تعالى : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ) (٣٣) (الأعراف) ، فأخرج البغى من الفواحش وهو منها ، لعظم البغى وفحشه ، فنصّ على ذكره وحده ، وقرنه بالإثم تأكيدا لأمره ، وقصدا للزجر عنه. ودار البغى أو أرض البغاة : هى البلاد التى يحكمها البغاة أو أهل البغى ـ أى الطواغيت الظلمة ، وقوانينها قوانين باغية ، وكانت مكة تحت حكم المشركين دار بغى ، بغى أهلها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآذوه وأخرجوه وأصحابه. وذكر الله الانتصار فى البغى فقال : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) (٣٩) (الشورى) ، والآية عامة فى بغى كل باغ ، والمسلم لا يرضى بالظلم ولا يستسلم له ، ومأمور أن يتصدّى للباغى المعلن للفجور ، الوقح فى الجمهور ، والمؤذى للصغير والكبير ، فيكون الانتقام منه أفضل ، والمسلمون يكرهون أن يذلّوا أنفسهم فيجترئ عليهم الفسّاق ، والآية فيمن تعدّى فى البغى وأصرّ عليه ، ويأتى عقبها : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ

٦٥٢

سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (٤٠) (الشورى) فجعل الانتقام بمثل الإساءة ، فإن اعترف الباغى بالزلّة وسأل المغفرة ، فالعفو أفضل ، وفى ذلك نزل قوله تعالى : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) (٢٣٧) (البقرة) ، وقوله : (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) (٢٢) (النور) ، وأكد الله تعالى حق المظلوم فى الانتصار عند تمادى الباغى فى الظلم ، فقال : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤٢) (الشورى) ، فامتدح من انتصر ممن بغى عليه من غير اعتداء بالزيادة ، وسمّى الجزاء سيئة لأنه فى مقابلتها ، والانتصار من المعتدى غير المسلم حتم ، ومن المسلم مباح ، والعفو مندوب.

والباغى قد يكون فردا ، كما قد يكون جماعة أو دولة ، فأما إن كان فردا فحكمه ما سبق ، وأما إن كان جماعة كالجماعة التى منعت الزكاة وقاتلها أبو بكر ، أو كانت دولة كدولة معاوية التى خرجت على علىّ ، كبغى العراق على الكويت ، فهذه جاء فيها فى التنزيل قوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (٩) (الحجرات). ولا يعامل المسلمون جماعة البغى من المسلمين كأعداء ، وجريحهم ومدبّرهم لا يقتلان ، ولا تغنم أموالهم ، ولا تسبى نساءهم وذراريهم ، ولا يضمنون ما اتلفوا فى الحرب من الأنفس والأموال ، ويغسّل من يقتل منهم ويكفّن ويصلّى عليه. وأهل العدل نقيض أهل البغى ، ولا ينطبق وصف البغاة على الثوار على الحاكم الظالم. ويشترط فى البغاة لكى يصحّ عليهم هذا الاسم أن يكون خروجهم للدنيا ، وللحصول على الحكم ، ومنازعة الشرعية الدستورية ، وهذا الخروج يسمى محاربة. ولا يعدّ من البغاة الخارجون الذين لا يحملون السلاح ، وليست لهم قوة ، وليسوا جماعة سياسية لهم زعامة وقيادة ومطالب ودعاوى. والمحارب يخضع لأحكام آية المحاربة التى تقول : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣٤) (المائدة).

* * *

١٥٥٤ ـ دار الإسلام ودار الحرب

يقال دار الإسلام ، ودار إسلام ، وديار الإسلام فى الجمع ؛ والدار هى البلد ، ودار

٦٥٣

الحرب : هى بلاد العدو ؛ ودار القرار : الآخرة ؛ والداران : الدنيا والآخرة ؛ ودار البغى : هى التى يحكمها الطاغوت ، وتجور فيها القوانين ، وأهلها من البغاة المغتصبين. والحربى : هو المنسوب إلى دار الحرب ، وليس لأهل الحرب دخول دار الإسلام بغير أمان ، وإذا دخلوا بأمان فهم على أمانهم ، وإن دخلوا مستوطنين بطل أمانهم فى أنفسهم وبقى فى أموالهم. ولا يخرج المستأمن من دار الإسلام قبل أن تستوفى منه الحقوق التى لزمته فيها ، وإذا سرق أو قتل أو غصب ثم عاد إلى وطنه فى دار الحرب ، ثم خرج مستأمنا مرة أخرى ، استوفى منه ما لزمه فى أمانه الأول ؛ وإذا خرج وترك مالا فى دار الإسلام ، وديعة أو قرضا ، بقى الأمان لماله ، وإن طلبه بعث إليه به ، وإن مات فى دار الحرب انتقل إلى وارثه ولم يبطل الأمان فيه ، وإن كان له وارث فى دار الإسلام على ملّته ورثه ، وإن لم يكن له وارث صار فيئا للخزانة العامة للدولة. وإذا دخلت المستأمنة دار الإسلام فتزوجت ذميّا ، ثم أرادت الرجوع لم تمنع ، ومن دخل من المسلمين ديار الحرب بأمان ، لم يخنهم فى مالهم ولم يعاملهم بالربا ، فإن خانهم أو سرق منهم أو نحو ذلك وجب ردّ ما خانهم فيه ؛ والفرد المسلم له أن يؤمّن الحربى ، مثله مثل الدولة ، بنصّ الحديث : «المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمّتهم أدناهم» ، وأما فى الآية : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) (٦) (التوبة) فإن حقّ تأمين الحربيين موكول للدولة وليس للأفراد ، وفى القوانين الحالية فإن اللجوء السياسى لا تأذن به إلا الدولة.

* * *

١٥٥٥ ـ الصلاة فى المعركة

انظر باب الصلاة : «صلاة الخوف».

* * *

١٥٥٦ ـ التسلل فى المعارك فرارا ليس من الإيمان

يقول تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦٢) (النور) ، والمعنى أن الإيمان لا يتم ولا يكمل إلا بالسماع إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والطاعة له ، وفى أيامنا بالسماع للقائد ، وأوامر الرسول كأوامر القرآن. والأمر الجامع فى الآية هو ما يستلزم جمع الناس له لإذاعة مصلحة أو إقامة سنّة ، أو إعلان حرب ، أو تعبئة للجيش ، وللقائد هذا الحق طالما أن الجمع لصالح الناس ونفعهم ، والتخاذل عنه والفرار من الخدمة العسكرية مخالف

٦٥٤

للدين. وفى كل الجيوش يدأب المنافقون على التسلل لواذا من كتائبهم ، ويخرجون على الجماعة ، وليس لأحد أن يأذن لأصحاب الأعذار إلا قائدهم. وقد كان ذلك فى جيش المسلمين كثيرا يوم الخندق وفى غزوة تبوك.

* * *

١٥٥٧ ـ أحكام التجسّس فى الإسلام

التجسس : هو التبحّث ، من جسّ ، وتجسّس ، واجتسّ الأخبار والأمور ، بمعنى بحث عنها وتفحّصها ؛ والجاسوس الذى يتجسّس الأخبار ثم يأتى بها ، والجمع جواسيس ؛ وأول جاسوس فى الإسلام كان حاطب بن أبى بلتعة ، من المؤمنين ؛ وأول جاسوسة هى سارة ، من موالى قريش وكانت من الكفار. وكان حاطب من أهل اليمن ، وله حلف بمكة فى بنى أسد بن عبد العزّى ، فقدمت من مكة سارة مولاة أبى عروة بن صيفى إلى المدينة ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتجهّز لفتح مكة ، فلما استجوبها : «أمهاجرة جئت يا سارة؟» قالت : لا ، قال : «أمسلمة جئت؟» قالت لا. قال : «فما جاء بك؟» قالت : كنتم الأهل والموالى والأصل والعشيرة وقد ذهب الموالى ـ تعنى قتلوا ببدر. وقد احتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطونى وتكسونى. وكانت سارة مغنيّة ، وشكت كساد حالها ، فحثّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المؤمنين ليعطوها ، وأتاها حاطب وأعطاها عشرة دنانير وبردا ، على أن تبلّغ إلى أهل مكة كتابا أعطاه لها ، وكتب فيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريدكم ، فخذوا حذركم ، وضمّن الكتاب أخبار تجهّز النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمكة ، ووقت ذلك ، يعنى كان كتابه نموذجا لكتب الجواسيس ، وخرجت سارة بالكتاب ، وكان طبيعيا أن يشك فيها المسلمون ، فأرسل النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلفها عليا والزبير وأبا مرثد الغنوى ، وكانوا فرسانا ، وأدركوا المرأة واستجوبوها وأمروها أن تخرج ما معها ، وحلفت أن ما معها شىء ، وفتشوا أمتعتها فلم يجدوا شيئا ، وكادوا يرجعون ، لو لا أن عليا استل سيفه وهددها أن يجرّدها ويضرب عنقها ، ورأت الجدّ فى وجهه ، فأخرجت كتاب حاطب من ذؤابتها ، أو حجزتها ـ أى معقد سروالها ، وعادوا بها إلى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبدءوا استجوابها وحاطبا ، ونزلت الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) (١) (الممتحنة) ، وفيها النهى عن موالاة الأعداء ، ونظيرها قوله تعالى : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) (٢٨) (آل عمران) ، وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ

٦٥٥

(١١٨) (آل عمران) ، وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) (٥١) (المائدة) ، وتقدير الآية : أن لا يتخذ المسلمون من أعدائهم أصدقاء وإخوانا وأحلافا ، إن كانوا حقا على الإسلام ، فما ينبغى لمسلم أن يوالى عدوا له فى دينه ، ولا أن يلقى إليه بالمودة ، ومن يوافق عدوه فى الدين ، ويسرّ إليه ويكاتبه ، يخطئ قصد السبيل ، لأنه يكون جاسوسا ، وهو أشرّ ما يبتلى به أهل مجتمع من المجتمعات : أن يساكنهم إنسان ويعاشرهم ويضمر فى نفسه الخيانة لهم والغدر بهم ، ويمالئ أعداءهم ، وحتى لو كانت للجاسوس تعلّة ، بأنه من أصول الأعداء ، وله بهم قرابة ، فلا يجيز له ذلك أن يخابرهم ، فالعدو عدو ولو كان قريبا ، كقوله تعالى : (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) (٢) (الممتحنة) ، إشارة إلى ما يناله المسلم من التعذيب ومحاولات غسل المخ إذا اشتغل مع أعداء الله وأعدائه جاسوسا ، ولن يتورعوا أن يسلّطوا عليه فيضرب ويشتم ، ولن يترك لحاله إلا لو كفر ، فهذا هو ما يريدون من المسلمين : أن يكفروا بلا إله إلا الله.

والحكم فى الجاسوس : أنه إن كان لدنيا يصيبها وليس كفرا بالله كما كان حال حاطب ، ولم ينو الرّدة عن الدين ، عفا عنه إذا أظهر التوبة وأقرّ بالذنب ، ويستبعد بعد ذلك عن أية أسرار ، وأما إذا كانت عادته التجسس والخيانة والغدر ، فجزاؤه القتل لإضراره بالمسلمين وسعيه فى الفساد فى الأرض. وحاطب عفى عنه لأنه أخذ فى أول فعلة ، وأقرّ وتاب وأناب. وإذا كان الجاسوس حربيا من الأعداء وعلى غير الإسلام يقتل. وروى علىّ بن أبى طالب : أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى بعين لأعداء الله اسمه فرات بن حيّان ، فأمر به أن يقتل ، فلما صرخ فى الناس : أقتل وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله! أمر به النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخلّوا سبيله وقال : «إنّ منكم من أكله إلى إيمانه ، منهم فرات بن حيّان».

* * *

١٥٥٨ ـ الذين يخاف منهم الخيانة فى الحرب

حكم القرآن عند الخوف من خيانة قوم لنا بهم عهد ، وعلمنا منهم نقضه ، أن لا نوقع بهم إلى النقض حتى نلقى إليهم أننا قد نقضنا العهد والموادعة ، فنكون وإياهم فى علم النقض مستويين ، كقوله تعالى : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) (٥٨) (الأنفال). وهذا الحكم من معجز ما جاء فى القرآن مما لا يوجد فى الكلام مثله ، لاختصاره وكثرة ما به من المعانى. فأما إذا لم يكن للعدو عهد فينبغى أن يتحيّل عليه بكل حيلة ، وأن تدار عليه كل خديعة ، وفى الحديث : «الحرب خدعة».

* * *

٦٥٦

١٥٥٩ ـ لا تمنّوا لقاء العدو

المسلم على سؤال العافية من الفتن ، ومن أقوال الصدّيق : «لأن أعافى فأشكر ، أحبّ إلىّ من أن أبتلى فأصبر» ، وفى القرآن : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (١٤٣) (آل عمران) ، والآية عتاب للمسلمين أن تمنّوا المعركة قبل وقوعها ، وفى الحديث : «لا تمنّوا لقاء العدو وسلوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا». وحكمة النهى : أن المرء لا يعلم ما يؤول إليه الأمر ، ولأنه ربما يصدر عن إعجاب ووثوق بالقوة وقلة الاهتمام بالعدو ، وذلك يباين الاحتياط والأخذ بالحزم ، ويحمل النهى على ما إذا وقع الشك فى المصلحة أو حصول الضرر ، وإلا فالقتال فضيلة وطاعة ، والدعاء عند اللقاء استنصار بالله ، ومراعاة للأدب ، وفى رواية أخرى للحديث : «لا تمنوا لقاء العدو فإنكم لا تدرون ، عسى أن تبتلوا بهم» ، لأن لقاء الموت من أشق الأشياء ، ولا نعلم ما يغيب عنا ، ولا نأمن ما يكون عند الوقوع ، فيكره لذلك التمنّى ، فقد يخالف ما يحدث ما نعد به أنفسنا.

* * *

١٥٦٠ ـ اليهود ينقضون العهود فى كل مرة

مثلهم كمثل بنى قريظة والنضير : (يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) (٥٦) (الأنفال) وقال فيهم لذلك إنهم : (شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ) (٥٥) (الأنفال).

* * *

١٥٦١ ـ فى الحرب مع اليهود شرّد بهم

الآية : (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (٥٧) (الأنفال) ، كالقول المأثور والحكمة الغالية ، وتعنى : إذا لقيتم اليهود فنكّلوا بهم ليكونوا مثلا لغيرهم من قومهم ، فيتّعظون ويفرقون ، والتشريد هو التبديد والتفريق.

* * *

١٥٦٢ ـ الحشر لليهود هو جلاؤهم القسرى

المقصود بالحشر فى سورة الحشر : الإخراج الجماعى وقد حشدوا له كأنهم فى يوم القيامة ، والمقصود بالمخرجين بنو النضير من اليهود ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا قدم المدينة قد هادنهم وأعطاهم عهدا وذمة على أن لا يقاتلهم ولا يقاتلوه ، فنقضوا العهد فأجلاهم النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخرجهم من حصونهم الحصينة التى ظنوا أنها مانعتهم من بأس الله ، فما أغنى عنهم من الله شيئا ، وتفرّقوا بددا ، فذهبت منهم طائفة إلى أذرعات من أعالى الشام ، وذهبت طائفة إلى خيبر. وكانت وقعة بنى النضير بعد وقعة أحد ، وبعد بئر معونة. وقال

٦٥٧

البخارى بطريق عروة : كانت وقعة بنى النضير بعد بدر بستة أشهر. والحشر هو الجلاء القسرى ، وهو خروج الناس من البلد ، وأعطى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل ثلاثة من بنى النضير بعيرا واحدا وسقاء ، وضرب لهم موعدا لجلائهم لا يتجاوزونه وهو ثلاثة أيام ، والرأى فى اليهود عموما ما صنعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معهم ، فلنتعلم من ديننا.

* * *

١٥٦٣ ـ التخيير بين القتل أو الإسلام؟!

الآية (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) (١٦) (الفتح) ضمن سياق فيه خبر عن المستقبل ، أن المسلمين سيدعون إلى قتال قوم أولى بأس ، فهل ستعتذرون وستتخلون مرة أخرى؟ علما بأن هؤلاء الناس لن يكون الحال معهم بالصلح كما فى الحديبية ، بل هى الحرب والموت أو أن يسلموا لو اختاروا الإسلام بلا إكراه ، والآية إذن ليس فيها التخيير بين القتل أو الإسلام ، وليس من معانيها أن من لم يسلم يقتل كما يروّج المستشرقون ، خاصة اليهود.

* * *

١٥٦٤ ـ يراعى الكافر فى حرمة المؤمن

الدليل على ذلك الآية : (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (٢٥) (الفتح) : وهؤلاء هم المستضعفون من المؤمنين وسط الكفار والمشركين ، لم يعرفهم المؤمنون ولم يعلموا بهم ، وإلا لجاز للمؤمنين أن يقاتلوا أهل الكفر وهؤلاء المؤمنون بينهم ، وإنما خشية إلحاق الضرر بالمؤمنين ، وأن يقال المسلمون يتسببون فى قتل المسلمين ، وقد يضار بالقتال من أهل هذا البلد مواطنون يريدون أن يدخلوا فى الإسلام بعد الصلح ، لم يجز الإسلام الرمى وهؤلاء بينهم ، إلا لو تميّز المسلمون بميزة يعرفون بها من غير المسلمين ، وإذن لتيسر مقاتلة غير المسلمين ، وهكذا يدفع الله بالمؤمنين عن الكفّار ، فلا يمكن إلحاق الأذى بالكفار طالما أن ذلك سيؤذى المؤمنين أيضا ، فلو أن أسارى من المسلمين لدى العدو فلا يجوز أن تضرب بلاد العدو بالمدافع والصواريخ وتشن عليها الغارات الجوية. وكذلك لو احتمى كافر بمسلم لم يجز رميه. وإن أصيب مسلم فى عدوان المسلمين على كفرة ، فعلى فاعل ذلك الدّية والكفّارة ، فإن لم يعلم أنه مسلم فلا دية ولا كفّارة ، وذلك لأن المسلمين يعلمون أن من بين صفوف العدو مسلمين فليس لهم أن يرموا ، فإذا رموا صاروا قتلة خطأ ، والدية على عواقلهم ، يعنى على حكوماتهم ، وإذا لم يكن من الممكن أبدا مفاداة قتل المسلمين فى حالة اتخاذ العدو لهم دروعا بشرية ، فإنه

٦٥٨

يغض النظر عن إمكان إصابة مسلمين ، والضرورات تبيح المحظورات ، مع ملاحظة أن المسلمين إذا انتصر العدو سيقتلون أصلا ، وقد يقتلهم انتقاما إذا انهزم. ولو انتهى المسلمون عن حرب الأعداء بدعوى وجود مسلمين بين سكان العدو ، فسينتهى الأمر باندحار كل المسلمين ، وأهون الشرّ أن يموت بعض المسلمين من بلاد العدو ويبقى كل المسلمين الآخرين.

* * *

١٥٦٥ ـ حسنة الجهاد بسبعمائة ضعف

ورد بالقرآن أن الحسنة فى جميع أعمال البرّ بعشر أمثالها ، كقوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) (١٦٠) (الأنعام) ، بينما حسنة نفقة الجهاد بسبعمائة ضعف ، كقوله : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) (٢٦١) (البقرة) ، وفى قوله «يضاعف لمن يشاء» إعلام بمضاعفة الأجر لأكثر من سبعمائة ضعف ، كالمزارع الذى يحسن الفلاحة ، وانتقاء البذر ، ويختار الأرض الخصبة ، فذلك يكون محصوله أوفر من آخر لم يهتم به ، فكذلك المتصدّق المحسن فإن أجره يزيد عن سبعمائة ضعف إذا كان هو نفسه من الصالحين ، وماله من حلال ، ووضع نفقته فى مكانها الصحيح. وليس من ينفق فى الجهاد ويقيم فى بيته كمن ينفق ويغزو بنفسه ، فعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن الأول أجره سبعمائة ضعف ، والثانى أجره سبعمائة ألف ضعف.

* * *

١٥٦٦ ـ السائحون والسائحات هم المجاهدون والمجاهدات

السياحة صفة الكمّل من المؤمنين والمؤمنات ، فمن صفات المجاهدين فى سبيل الله أنهم السائحون (التوبة ١١٢) ، ومن صفات الزوجات الصالحات أنهن السائحات (التحريم ٥) ، والسياحة هى التجوال فى الأرض للعبادة والترهّب ، وعن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن سياحة أمتى الجهاد فى سبيل الله» ، أى أن سياحتهم وتجوالهم فى الأرض من أجل إعلاء كلمة الله ؛ فالمهاجرون سيّاح فى سبيل الله ، والسياحة قد تكون تجوالا بقطع المسافات ، وقد تكون تجوالا فكريا ، بالتفكّر فى ملكوت الله ، وكل ذلك جهاد فى سبيل الله ، لأنه من أجل نشر كلمة التوحيد. وأصل السياحة : الذهاب على وجه الأرض كما يسيح الماء ، فالزوجة السائحة هى الذاهبة فى طاعته تعالى كالماء إذا ذهب ، وهى المهاجرة تذهب فى الهجرة ، والصائم والصائمة سائح وسائحة ، لأن السائح لا زاد معه ، وإنما يأكل من حيث يجد

٦٥٩

الطعام ، فهو يذهب فى الطعام ويستمر على الطاعة فى ترك ما يترك منه ومن غيره ، فكان مجاهدا كما كانت الزوجة الصالحة مجاهدة.

* * *

١٥٦٧ ـ شروط المجاهدين فى سبيل الله

فى تعريف المجاهدين قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) (١١١) (التوبة) ، وأصل الشراء بين الخلق أن يعوّضوا عمّا خرج من أيديهم ، والله تعالى اشترى من عباده المجاهدين أنفسهم وأموالهم فى طاعته وأوعدهم الجنة عوضا عنها ، وعوضه لا يدانيه المعوض ولا يقاس به. وشروطه تعالى فى المجاهدين أنهم كقوله : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (١١٢) (التوبة) ، فلا يدخل تحت المبايعة إلا المؤمنون الذين هم على هذه الأوصاف يبذلون أنفسهم فى سبيل الله ، وهم الكملة يستبق إلى صفاتهم أهل التوحيد ليكونوا فى أعلى مرتبة.

* * *

١٥٦٨ ـ لا يستوى القاعدون والمجاهدون فى سبيل الله

القاعدون مصطلح قرآنى ، والفعل قعد : أى أقام بالمكان ؛ والقاعد فى الاصطلاح : هو الذى لم يخرج إلى الجهاد ، يقول تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (٩٥) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً) (٦٥) (النساء) ، وأولو الضرر : هم العجزة والمرضى والشيوخ ، أقعدهم المرض والعجز والزمانة عن الخروج للجهاد ، وهؤلاء هم أهل الأعذار ، أضرّت بهم أعذارهم فمنعتهم الجهاد فليست لهم درجة المجاهدين ، والناس عند الله درجات ، وفضّل الله المجاهدين على القاعدين من أولى الضرر ؛ والدرجة والدرجات : هى العلو ، والمجاهدون يثيبهم ، ويعلى ذكرهم ، ويرفعهم بالثناء ، وفى الحديث : «إن فى الجنة مائة درجة أعدّها الله للمجاهدين فى سبيله» أخرجه البخارى ؛ والمعذّرون والمجاهدون كلّا وعد الله الحسنى ، أى الجنة. والمجاهدون يجاهدون إما بالمال ، أو بالنفس ، أو بهما معا ، وقد يكون الجهاد بالمال أفضل أحيانا عند ما تكون الحاجة للمال لتجهيز الجيوش ، وقد يكون التطوّع بالنفس أفضل أحيانا إذا توفر المال وكانت الحاجة للأفراد ، ومن تغلب عليه‌السلامة فضّل أن يجاهد بالمال ، ومن زهد فى الدنيا فضّل أن يجاهد بالنفس.

* * *

٦٦٠