موسوعة القرآن العظيم - ج ٢

دكتور عبد المنعم الحفني

موسوعة القرآن العظيم - ج ٢

المؤلف:

دكتور عبد المنعم الحفني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
ISBN: 977-208-422-2
الصفحات: ١٢٤٤
الجزء ١ الجزء ٢

ولذا كان الصلح أوجب بينهم وأحرى بهم. وقوله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (١٠) (الحجرات) خبر عن الحالة التى شرّعت للمؤمنين ، فهو بمعنى الأمر أن يكونوا كالإخوة ، والذى يمنع الأخوّة رذائل حصرها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ، ولا تجسّسوا ولا تحسّسوا ، ولا تناجشوا (يزايد بعضكم على بعض) ، وكونوا عباد الله إخوانا» ، أخرجه البخارى ، وفى رواية قال : «ولا تحاسدوا ، ولا تناجشوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، ولا يبع بعضكم على بعض وكونوا عباد الله إخوانا» ، وقال : «المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ، ولا يخذله ، ولا يحقره. التقوى هاهنا (وأشار إلى صدره ثلاث مرات). بحسب امرئ من الشرّ أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام ، دمه ، وماله ، وعرضه» أخرجه مسلم ، وقال : «المؤمنون كجسد واحد ، إن اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى».

* * *

١٤٨٧ ـ «المعروف» من مكارم الأخلاق

المعروف : اسم لكل فعل يعرف حسنه بالشرع والعرف والعقل معا ، ويأتى ذكره فى القرآن ٣٩ مرة ، والأمر بالمعروف يلازمه النهى عن المنكر ، كقوله تعالى فى صفة المؤمنين : (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (١١٠) (آل عمران) وقوله نقيض ذلك فى صفة العاصين : (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) (٦٧) (التوبة) ، وقوله : (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (١١٢) (التوبة) ، وصف لأمة الإسلام ، ما أقاموا على ذلك واتصفوا به ، فإذا تركوا المعروف ، وتواطئوا على المنكر ، زالت عنهم هذه الصفة ولحقهم الذم. وفى الحديث : «كل معروف صدقة» ، و «على كل مسلم صدقة» ، قالوا : فإن لم يجد يا رسول الله؟ قال : «فيعمل بيديه ، فينفع نفسه ويتصدّق» ، وقالوا : فإن لم يستطع؟ قال : «فيعين ذا الحاجة الملهوف» ، قالوا : فإن لم يستطع؟ قال : «فليأمر بالمعروف» ، قالوا : فإن لم يستطع؟ قال : «فليمسك عن الشرّ فإنه له صدقة». والحديث من عيون الحكمة ، وأصل من أصول الخلق الإسلامى ، وفى الحديث أن الصدقة : هى الثواب ، ولا تنحصر فى الأمر المحسوس ، ولا تختص بأهل اليسار ، وكل واحد بوسعه أن يفعلها فى أكثر الأحوال ، وبغير مشقة. وأصل الصدقة : ما يخرجه المسلم من ماله متطوعا به ، وقد تطلق على الواجب لأن صاحبه يتحرّى الصدق بفعله. والآية والحديث من جملة ما يعرف به المسلم ، فمن أراد أن يعرف ما هو الإسلام ، فليتأملهما ليدرك توا أن هذا الدين يدعو إلى العمل والتكسّب ، ليجد المرء ما ينفق به على نفسه ، وما يتصدّق به ، وما يغنيه عن ذلّ السؤال ؛ وأنه دين يحثّ على فعل الخير كلما أمكن ، وأن من قصد بابا من أبواب الخير فتعسّر عليه فلينتقل إلى غيره. وكان المتكلمون يقولون : إن ترك فعل الشر ليس من العمل ، وفى الحديث أنه عمل ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

٦٠١

«من همّ بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة» ، وقوله : «إن الحسنة إنما تكتب لمن همّ بالسيئة فلم يعملها ، إذا قصد بتركها الله تعالى» ، وفى الحديث عن الكلمة أو الفعل الطيب قوله : «الكلمة الطيبة صدقة» ، وقوله : «اتقوا النار ولو بشقّ تمرة ، فإن لم يكن فبكلمة طيبة» ، وأصل الطيب ما تستلذه الحواس ، ويختلف باختلاف متعلقه ، وطيب الكلام من جليل عمل البرّ ، لقوله تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (٣٤) (فصلت) ، والدفع قد يكون بكلمة ، وقد يكون دفعا بالفعل والعمل.

* * *

١٤٨٨ ـ الدفع بالتى هى أحسن

الدفع بالتى هى أحسن من مكارم أخلاق المسلم ، وفى التنزيل قوله : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) (٩٦) (المؤمنون) ، وقوله : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (٣٤) (فصلت) ، والحسنة ضد السيئة ؛ ومن الحسنات : المداراة ، والعفو ، والعلم ، والتحية ؛ ومن السيئات : الغلظة ، والانتصار ، والفحش ، والمخاصمة. وفى الأثر قوله : «تصافحوا يذهب الغلّ» ، وقوله : «من تمام المحبة الأخذ باليدين» ؛ وفى الحديث : «ما من مسلمين يلتقيان فيأخذ أحدهما بيد صاحبه مودة بينهما ونصيحة ، إلا ألقيت ذنوبهما بينهما» ، والآية تأمر بالصبر عند الغضب ، والحلم عند الجهل ، والعفو عند الإساءة. والدفع قد يكون بالقول أو بالفعل.

* * *

١٤٨٩ ـ الشفاعة الحسنة والشفاعة السيئة

الشفاعة من الخلق الإسلامى ، وأصل الشفاعة من الشفع ، وهو الزوج فى العدد ، ضد الوتر ، ومنه الشفيع سمى كذلك لأنه يصير مع صاحب الحاجة شفعا ؛ والشفعة ضمّ ملك الشريك إلى ملك الآخر ، والشفاعة مثلها ، وهى ضمّ غيرك إلى جاهك ووسيلتك ، وفى التنزيل : (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها) (٨٥) (النساء) ، والشفاعة الحسنة لا يفعلها إلا المتّقون ، والشفاعة السيئة لا يفعلها إلا الأشرار ، والأولى فى البرّ والطاعة ، والثانية فى المعاصى ، وكل من يشفع سواء بالحسنة أو بالسيئة له أجره أو وزره ، ومن الشفاعة الحسنة أن تدعو للناس ، ومن الشفاعة السيئة أن تدعو عليهم ، وكان اليهود يدعون على المسلمين. والشافع يؤجر فيما يجوز وإن لم تتحقق شفاعته ، والشفاعة قد لا تنجز ، لأنه تعالى قال : «من يشفع» ولم يقل «ومن يشفّع» ، وفى الحديث : «اشفعوا تؤجروا وليقض الله على لسان رسوله ما شاء» ، والأجر على الخصوص وليس على العموم ، وهو فى الشفاعة الحسنة ما تجوز فيه الشفاعة ، وضابطها ما أذن فيه الشرع دون ما لم يأذن فيه ، ومن شفع بالباطل كان له نصيب من وزره ، والرسول شفيع

٦٠٢

للمسلمين ، والله تعالى يقضى الحاجة بشفاعته إن شاء ، وكل الحاجات يشفع فيها إلا الحدود ، وما تجوز الشفاعة فيها ، ولمّا تشفّعوا فى السارقة أنكر عليهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يشفعوا فى حدّ من حدود الله ، وما كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقبل شفاعة إلا ممن وقعت منهم الهفوة من أهل الستر والعفاف ، وأما المصرّون على فسادهم ، المشتهرون فى باطلهم ، فلا يشفع فيهم ، ليزجروا عن ذلك. وكان إذا جاءه السائلون أو طالبوا الحاجة أقبل عليهم بوجهه يقول : «اشفعوا» ، وفى الحديث : «إنى أوتى فأسأل أو تطلب إلى الحاجة وأنتم عندى فاشفعوا».

* * *

١٤٩٠ ـ الابتداء بالسلام سنّة

إذا كان الابتداء بالسلام سنّة فإن ردّه فريضة ، كقوله تعالى : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) (٨٦) (النساء) ، والتحية هى السلام ، وهى خلاف الردّ. والابتداء بالتحية تطوّع ، وردّها من الفروض المتعيّنة ، ويلزم كل إنسان بعينه ، غير أنه فى الحديث : «يجزئ من الجماعة إذا مرّوا أن يسلّم أحدهم ، ويجزئ عن الجلوس أن يردّ أحدهم» أخرجه أبو داود ، يعنى الواحد يسلّم على الجماعة وينوب عن الباقين كفروض الكفاية. وردّ السلام يكون بردّ المثل لا ردّ العين ، بقول : «وعليك» أو «وعليكم السلام» ؛ وحسن السلام بأن يقال : «وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته» ، فزيدت ورحمة الله وبركاته. والسلام مأمور به بقوله تعالى : (فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) (٥٤) (الأنعام) ، وبقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفشوا السلام تسلموا» ، وإفشاء السلام ابتداء يقتضى إفشاءه جوابا ، وقد يقال فى الجواب «وعليكم» أو «السلام» فقط ، وقد يقال فى السلام : (سَلامٌ) (يونس ١٠) ، أو «سلام عليكم (الأنعام ٥٤) ، وفى الردّ عليه : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) (هود ٦٩) وأكثر ما يأتى فى القرآن سواء فى التحية أو فى الردّ «سلام» أو «سلاما» (هود ٦٩) ، أو «سلام عليكم» (الرعد ٢٤). وكان المسلمون يدعون فى الصلاة فيقولون : «السلام على الله قبل عباده ، والسلام على جبريل ، وعلى ميكائيل ، وعلى فلان وفلان» ، فعلّمهم النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى التشهّد أن يقولوا : التحيات لله والصلوات والطيبات. السلام عليك أيها النبىّ ورحمة الله وبركاته. السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين». وقال : «فإن الله هو السلام» ، وفى القرآن أن من أسمائه تعالى : (السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ) (٢٣) (الحشر) ، ومعنى السلام أنه السالم من النقائص. وفى الحديث عن السلام قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وضعه الله فى الأرض ، فأفشوه بينكم» أخرجه الطبرانى. والسلام تحية أهل الجنة لبعضهم لبعض : (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) (٢٣) (إبراهيم) ، وتحية الملائكة لهم : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ) (الزمر ٧٣) ، وتحيتهم لله تعالى : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) (٤٤) (الأحزاب) ، وتقرن أسماء النبيين بالسلام ، كقوله : (سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) (١٠٩) (الصافات) ، و (وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) (١٨١)

٦٠٣

طلب السلامة لهم ، كقوله تعالى : (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) (٩١) (الواقعة). وفلسفة السلام وإفشائه فى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفشوا السلام» أن المسلم يعلم من يسلّم عليه أنه سالم منه ، ويدعو له بالسلامة. وقيل فى التحية فى الآية : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) (٨٦) (النساء) أن التحية هى تشميت العاطس والردّ على المشمّت ، وهذا قول بعيد. ولا يجزئ فى السلام إلا الردّ بالسلام ، وليس بأن يقال «صبّحت بالخير» أو «بالسعادة» ونحو ذلك ، وفى الحديث : «لا تسلّموا تسليم اليهود» لأن اليهودى ضنين بقول السلام. والتحية للنساء تجوز برفع اليد ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألوى لهن بيده بالتسليم ، وما منعه من إزجاء السلام إلا بعدهن ، ولمّا جاء الولد يقول للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن أبى يقرئك السلام. قال : «وعليك وعلى أبيك السلام» ، والسنّة فى السلام : أن القليل يسلم على الكثير ، والصغير على الكبير ، والمار على القاعد ، والراكب على الماشى ، والماشى على القاعد ، فإذا تساوى المتلاقيان فمن يبدأ بالسلام أفضل ، وأولى الناس بالله من بدأ بالسلام. والفلسفة فى السلام من تسليم القليل على الكثير ، أن حق الكثير أعظم ، ومن تسليم المار على الجالس ، لأن المار يشبه الداخل على أهل المنزل ، ومن تسليم الراكب ، لئلا يتكبّر بركوبه فيرجع إلى التواضع. والجهر واجب فى السلام والردّ ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا سلمتم فاسمعوا ، وإذا رددتم فاسمعوا». ولا يسلّم على المصلّى ، ولا قارئ القرآن ، وأثناء خطبة الجمعة ، ولمن يشتغل بالدعاء ، أو بالأذان ، أو بالتلبية فى الحج ، وبعد الفراغ من ذلك يمكن الردّ. والسلام على النفس : لمن دخل مكانا ليس فيه أحد ، لقوله تعالى : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) (٦١) (النور) فيقول الداخل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين». ويكره إذا لقى المسلم جماعة أن يخص بعضهم بالتحية ، لأن القصد من التحية تحصيل الألفة ، وفى تخصيص التحية إيحاش (أى تحريك الغل) لمن أهمل أمره فى التحية. وفى الحديث : «وتقرأ السلام على من عرفت وعلى من لم تعرف» ، فلما ذا لمن لم نعرف؟ يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه سيأتى على الناس زمان يكون السلام فيه للمعرفة» أى لمن نعرفهم فقط ونترك الباقين ، ويقول : «إن من أشراط الساعة السلام للمعرفة».

* * *

١٤٩١ ـ دخول البيوت بالاستئذان والسلام على أهلها

الاستئذان هو طلب الإذن فى الدخول لمحل لا يملكه المستأذن ، وفى الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٢٧) (النور) تأديب للمؤمنين بما يرجع إلى الستر عليهم لئلا يطّلع أحد على عورة

٦٠٤

لهم ؛ والاستئناس هو الاستئذان ، وهو أن يفعل الزائر أو يقول قدر ما يعلم أن أصحاب البيت قد شعروا به : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) (٦) (النساء) فادخلوا. ولمّا سئل النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الاستئذان قال : «يتكلم الرجل بتسبيحة وتكبيرة وتحميدة ، وينحنح ويؤذن أهل البيت» أخرجه ابن ماجة. والسنّة فى الاستئذان ثلاث مرات إلا لو علم المستأذن أنه لم يسمع ، وفى الحديث : «إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع» أخرجه البخارى. والاستئذان ترك الناس العمل به لاتخاذهم الأبواب والأجراس وسمّاعات الصوت. وإذا سئلت : من بالباب؟ فلا تقل أنا ، بل قل اسمك وحاجتك ، وابدأ بالسلام ، وفى الحديث : «من لم يبدأ بالسلام فلا تأذنوا له».

* * *

١٤٩٢ ـ السلام عند دخول البيوت

البيوت أنواع : فهناك بيوت الله ، والبيوت المسكونة من الغير ، والبيوت المسكونة بالأهل ، والبيوت غير المسكونة. ويقول الله تعالى : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٦١) (النور). قيل : إذا دخلت المسجد فقل : السلام عليكم تحية مباركة طيبة من عند الله. السلام على رسول الله. السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وإذا دخلت البيوت غير المسكونة يسلم المرء على نفسه بأن يقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وإذا دخلت البيوت المسكونة فقل : السلام عليكم ، تحية من عند الله. وإذا دخلت بيتك فقل : ما شاء الله لا قوة إلا بالله. وهذا عام فى دخول كل بيت. فإذا كان بالبيت ساكن مسلم فليقل : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. تحية من عند الله. وإن كان فى البيت غير مسلم فليقل : السلام على من اتبع الهدى ، أو : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وفى الحديث : «إذا دخلتم بيوتا فسلموا على أهلها ، واذكروا اسم الله ، فإن أحدكم إذا سلّم حين يدخل بيته وذكر اسم الله تعالى على طعامه يقول الشيطان لأصحابه : لا مبيت لكم هاهنا ولا عشاء. وإذا لم يسلّم أحدكم إذا دخل ، ولم يذكر اسم الله على طعامه ، قال الشيطان لأصحابه : أدركتم المبيت والعشاء». والكلام رمزى بطبيعة الحال.

* * *

١٤٩٣ ـ السلام كتحية لغير المسلمين

السلام من أدب السلوك الإسلامى ، وكذلك من حسن السياسة. واليهود يسلمون فيقولون : شالوم أو سلام ، وليس ذلك السلوك من أدبيات التوراة ولكنه من تعليم الأحبار والسلام بمعنى التحية خصّت به أمة الإسلام ، فيجوز السلام على غير المسلم ، وفى القرآن

٦٠٥

سلم إبراهيم على أبيه آزر لمّا أعلنه آزر بالكفر وبادأه بالخصام والهجر ، فقال له إبراهيم : (سَلامٌ عَلَيْكَ) (٤٧) (مريم) ، وفى أدب ذلك قال تعالى فى المؤمنين : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) (٦٣) (الفرقان) ، وفى حكمته وفلسفته قال تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) (٨) (الممتحنة). وفى الحديث : «إن الله تعالى أعطى أمتى ثلاثا لم تعط أحدا قبلهم : السلام وهو تحية أهل الجنة» الحديث ، ذكره الترمذى. وروى عن السلف أنهم كانوا يسلمون على أهل الكتاب ، وكانوا لا يمرون بمسلم ولا نصرانى ، ولا صغير ولا كبير ، إلا سلّموا عليه ، فهكذا أمر المسلمون : أن يفشوا السلام. والذين يسلّمون هم الصالحون ، وعن الحسن البصرى قال : إذا مررت بمجلس وفيه مسلمون وكفّار فسلّم عليهم ، فهكذا كان يفعل النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفعله نبىّ الله إبراهيم ، والله يقول : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ) (٤) (الممتحنة).

* * *

١٤٩٤ ـ لا حرج أن يأكل الناس من بيوت أقاربهم

القرابة إذن للقريب أن يأكل من بيت قريبه ، ولا حرج على من يفعل ذلك : (أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ) (٦١) (النور) ، والآية كلها فى المطاعم ، وفى القرابة عطف تسمح النفوس به ، أن يأكل القريب من أشياء أقربائه إذا دعوه وكانوا به أحفياء ، فإذا كان الطعام مبذولا فلا حرج أن نأكل منه بلا استئذان ، فإذا كان محرزا لم يكن لنا أخذه ، وإذا دعينا فلا يجوز أن نزيد على ما نتناوله عادة من كميات ، وأن لا نحتفظ ببعضه ، أو تمتد أيدينا إلى ما لم يبذل لنا. وبيت الابن من بيوت الأقارب ولو أنه لم يذكر فى الآية ، وفى الحديث : «أنت ومالك لأبيك» ، ويباح للرجل إذا وكل آخر فى ضيعته أن يأكل من ثمرها ، وهو معنى (أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) ، ومالك المفتاح يسمى الخازن ، فلا بأس أن يطعم الشيء اليسير ، وله أن يأكل مما يخزن إذا لم تكن له أجرة ، فإذا كانت له أجرة حرم عليه الأكل. وكذلك يباح الأكل عند الصديق ، وهو من يصدقك فى مودته ، يشرط أن يجيزه الصديق ، وفى الحديث : «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه» أخرجه أحمد.

* * *

١٤٩٥ ـ رفع الحرج عن المعوق

رفع الله الحرج عن الأعمى فيما يتعلق بالتكليف الذى يشترط فيه البصر ، وعن الأعرج فيما يشترط فى التكليف به من المشى ، وما يتعذر من الأفعال مع وجود العرج ،

٦٠٦

وعن المريض فيما يؤثّر المرض فى إسقاطه ، كالصوم ، والصلاة ، والجهاد ونحو ذلك ، قال : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) (٦١) (النور). والحرج عن هؤلاء وأمثالهم مرفوع فى كل ما يضطرهم إليه العذر ، وتقتضى نيتهم فيه الإتيان بالأكمل ، فيقع منهم الأنقص. ويعذر أمثال الأعمى إذا جالت يده فى الطعام ، والأعرج إذا انبسطت جلسته ، والمريض إذا كانت له رائحة ، وهؤلاء يعذرون عن درجة الأصحاء ، فنزلت الآية تبيح الأكل مع الأعمى والأعرج والمريض رغم عجز الأعمى عن الرؤية ، والأعرج عن المزاحمة ، والمريض لضعفه.

* * *

١٤٩٦ ـ دعاء الأكابر بالأدب

كان المؤمنون يصيحون على النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بعيد : يا أبا القاسم! فنزلت الآية : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) (٦٣) (النور) يعنى عظّموه ، كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) (٣) (الحجرات) أى الذين كانوا يرفعون أصواتهم فى محضره. والدرس المستفاد أن يكون ذلك هو سلوك المسلمين مع كبرائهم وأعيانهم.

* * *

١٤٩٧ ـ النميمة من الكبائر

النّم : إظهار الحديث بالوشاية ، وأصل النميمة الهمس والحركة ، وفى الاصطلاح : النّم هو نقل القول إلى المقول فيه ، وكشف ما يكره كشفه ، سواء كرهه المنقول عنه ، أو المنقول إليه ، أو غيرهما ، وسواء كان المنقول قولا أو فعلا ، والنّم بخلاف الغيبة ، ومع ذلك يتشابهان ، فبينهما عموم وخصوص ، لأن النميمة : هى نقل حال الشخص لغيره على جهة الإفساد ، وبغير رضاه ، سواء كان بعلمه أم بغير علمه ؛ والغيبة ذكره فى غيبته بما لا يرضيه ، فامتازت النميمة بقصد الإفساد ، ولا يشترط ذلك فى الغيبة. وامتازت الغيبة بكونها فى غيبة المقول فيه ، واشتركت فيما عدا ذلك. وكلاهما الغيبة والنميمة من الكبائر ، وفى التنزيل : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) (١٣) (القلم) وجميع هذه الصفات وجوه لشخصية النّمام ، فمن كانت صفته النّم لن يعدم أن يكون كل ذلك ، فلأنه نمّام فهو إنسان حقير وواش مهين وضيع ، والنّم يكون همزا أى باغتياب الناس ، والنمام على ذلك همّاز وهمزة ، ومنّاع للخير يسعى للإفساد ، ومعتد أثيم ، لأن كل ما يقوله أو يفعله ظلم ومن الإثم ، وهو عتل فاجر فى الخصومة ، وفاحش زنيم ـ أى دعىّ وابن زنا لا أصل له. والآية أصل من أصول علم نفس السمات ، وتصف النّمام وصفا محيطا آية فى الشمول ، وهى من الإعجاز العلمى فى هذا المجال ، وفى الطب النفسى ، وفى الأدب وما ينبغى أن ينأى عنه المسلم خلقيا.

٦٠٧

١٤٩٨ ـ المسلم لا يحسد

الحسد : تمنّى الشخص زوال النعمة عن مستحق لها وإن لم يصر للحاسد مثلها ؛ والمنافسة : تمنى الشخص مثل النعمة وإن لم تزل ؛ والحسد لذلك شرّ مذموم : (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) (٥) (الفلق). والمنافسة مباحة وهى الغبطة ، وفى الحديث : «المؤمن يغبط ، والمنافق يحسد» ، واليهود والنصارى يحسدون المسلمين على نبيّهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى كتابهم القرآن ، وعلى لغتهم العربية. والحسود عدو ينقم على الله ، ويسخط لقضائه ، ولا يرضى بقسمته. والحسد أول ذنب عصى الله به فى السماء ، وأول ذنب عصى به فى الأرض ، فأما فى السماء فحسد إبليس لآدم ، وأما فى الأرض فحسد قابيل لهابيل. والحاسد لا ينال فى المجالس إلا الندامة ، ولا ينال من الناس إلا اللعنة والبغضاء ، ولا ينال عند ما يخلو إلى نفسه إلا الجزع والغم ، ولا ينال فى الآخرة إلا غضب الله وعقابه ، ولا ينال من الله إلا البعد والمقت ، وروى عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ثلاثة لا يستجاب دعاؤهم : آكل الحرام ، ومكثر الغيبة ، ومن كان فى قلبه غل أو حسد للمسلمين» ، وقال : «ثلاث لا يسلم منها أحد : الطّيرة ، والظن والحسد» ، قيل : فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال : «إذا تطيّرت فلا ترجع ، وإذا ظننت فلا تحقق ، وإذا حسدت فلا تبغ» ، ومضمون الحديث أنه ما من آدمى إلا وفيه الحسد ، إلا أن المسلم لا ينبغى أن يجاوز ذلك إلى البغى والظلم ، فحينئذ لا يضرّه إن اعتمل فيه حسد.

* * *

١٤٩٩ ـ اجتناب قول الزور

من الأدب فى الإسلام اجتناب قول الزور ، وفى الآية : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) (٣٠) (الحج) قرنه الله تعالى بالشرك بالله ، وقال اجتنبوا أى تحاشوا ، والنهى بالاجتناب أشد من النهى بعدم التعبّد للأوثان أو قول الزور ، لأن الاجتناب فيه الحظر من إتيان أى شىء يشتمّ فيه أنه من رجس الوثنية أو من رجس الزور ، ومثلما أن الوثنية رجس أى نجس ، فقول الزور أيضا رجس ، والرجس نجس حكما ، وليست النجاسة وصفا ذاتيا للأعيان ، وإنما هى وصف شرعى من أحكام الإيمان ، فلا تزال إلا بالإيمان ، كما لا تجوز الطهارة إلا بالماء ، فكذلك قول الزور ضد الحق ، وكل ما عدا الحق فهو كذب وباطل ، وفى الحديث : «عدلت شهادة الزور الشرك بالله» ، والشرك أعظم الزور ، ولذا كان قول الزور ، وشهادة الزور ، من الكبائر ، وحدّها فى الإسلام أربعون جلدة ، وليس فى القرآن شىء من ذلك ، وقيل إن عمر بن الخطاب كان يأمر بأن يسخّم وجه قائل الزور ، وتحلق رأسه ، ويطاف به فى الأسواق! ولا تقبل شهادته إلا بعد إصلاح وصلاح.

* * *

٦٠٨

١٥٠٠ ـ إدهان ذى الوجهين

المدهن هو المصانع ، كقوله تعالى : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (٩) (القلم) ، أى لو تصانع ، والمدهن ذو وجهين ، وظاهرة خلاف باطنه ، وفى الحديث : «من أشرّ الناس ذو الوجهين يأتى هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه» ، وهو المنافق المتملق بالباطل وبالكذب ، ومدخل الفساد بين الناس ، ومصانعته للأطراف المتضادة خصوصا ، يتحايل عليهما ليطّلع على أحوالهما ، والمداهنة محرّمة. وقيل الادّهان أو المصانعة وأن يكون المرء بوجهين ، منه المحمود ومنه المذموم ؛ والمحمود : ما كان بهدف الإصلاح بين المتخاصمين أو المتعادين ، وشأنه كشأن الكذب الأبيض ؛ والمذموم : ما زيّن لكل طائفة عملها ، وقبّحه عند الأخرى ، وما ذمّ كل طائفة. والعميل المزدوج : هو الجاسوس الذى يعمل للطرفين ، ويصانع الفريقين ، وله وجه مع كلّ ، وفى الحديث : «من كان له وجهان فى الدنيا ، كان له فى الآخرة لسانان من نار».

* * *

١٥٠١ ـ العدل والإحسان من أعظم الأخلاق

العدل والإحسان من أدب الإسلام ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٩٠) (النحل) ، وهذه الآية لمّا سمعها أبو طالب عمّ النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : اتّبعوه تفلحوا. والله إن الله أرسله ـ أى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليأمركم بمكارم الأخلاق. وقال : اتّبعوا ابن أخى ، فو الله إنه لا يأمر إلا بمحاسن الأخلاق. وقيل : هذه أجمع آية فى القرآن لخير يمتثل ، ولشرّ يجتنب. وقيل : ما فى القرآن آية أجمع لحلال وحرام ، وأمر ونهىّ من هذه الآية». ـ والعدل فى الآية إنزال العقاب بالجانى بما يستحق ، والإحسان ترك العقوبة. والعدل إنصاف ، والإحسان تفضّل. والعدل ضربان : مطلق : يقتضى العقل حسنه ولا يوصف بالاعتداء بوجه ، نحو أن تحسن لمن أحسن إليك ، وتكفّ الأذى عمّن كفّ أذاه عنك ؛ وعدل يعرف بالشرع : ويوصف بالاعتداء مقابلة ، كالقصاص ، وأرش الجنايات (أى الدية) ، وأخذ مال المرتد ، كقوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (١٩٤) (البقرة) ، فالعدل : هو المساواة فى المكافأة فى الخير أو الشر ؛ بينما الإحسان : مقابلة الخير بأكثر منه ، والشر بالترك أو بأقل منه ، وفى الآية أن إيتاء ذى القربى إحسان ، وترك الفحشاء والمنكر والبغى عدل.

* * *

١٥٠٢ ـ من بغى فإنما يبغى على نفسه

البغى من الرذائل ، وهو مجاوزة القصد فى الشيء ، ومن سنّته تعالى فى الكون تأنيسا لعباده أن جعل وبال البغى يعود على الباغى ، فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ

٦٠٩

(٢٣) (يونس) ، ووعد من بغى عليه بالنصر فقال : (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) (٦٠) (الحج) ، فكان على من بغى عليه أن يشكره تعالى ويقابل ذلك بالعفو عمن بغى عليه ، كقوله : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (٤٣) (الشورى) ، والله تعالى : (يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) (٩٠) (النحل) ، والعدل هو الإنصاف ، والإحسان هو التفضّل ، وفى نفس الآية أمر تعالى بالنهى عن البغى ، فجعل حدّ الإجزاء فى البغى ضمن العدل ، وجعل التكميل الزائد على الإجزاء ضمن الإحسان. والبغى مع ذلك منه ما يحمد ، ومنه ما يذمّ ، والبغى المحمود : ما جاوز العدل إلى الإحسان ، والبغى المذموم : ما جاوز العدل إلى الجور ، وما جاوز الحق إلى الباطل. غير أن أكثر ما يطلق البغى على المذموم ، كقوله تعالى : (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ) (٧٦) (القصص) ، وقوله : (قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) (٢٢) (ص) ، وقوله : (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) (٩) (الحجرات) ، وإذا أطلق البغى وأريد به المحمود يزاد فيه غالبا التاء ، كقوله تعالى : (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) (١٧) (العنكبوت).

* * *

١٥٠٣ ـ الكبر ليس من شيم المسلم

الكبر والتكبّر والاستكبار متقاربة المعنى ؛ فالكبر الحالة التى يختص بها الإنسان من إعجابه بنفسه ، وذلك أن يرى نفسه أكبر من غيره وأعظم ؛ والمتكبّر هو الذى يتصرّف باستكبار ؛ والتكبّر على وجهين ، أحدهما : أن تكون الأفعال حسنة زائدة على محاسن الغير ، ولذلك وصف الله تعالى نفسه بالمتكبّر فقال : (السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ) (٢٣) (الحشر) ، لأنه تكبّر بربوبيته فلا شىء مثله ، وهو المتكبّر عن كل سوء ، والمتعظّم عمّا لا يليق من صفات الحدث والذم. وأصل الكبر والكبرياء الامتناع وقلة الانقياد. والكبرياء فى الإنسان صفة ذم ، وفى الله صفة مدح ؛ والوجه الثانى : أن يكون المتكبّر متكلفا لذلك ، كقوله تعالى : (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) (٣٥) (غافر) ، والمستكبر مثله ، والمستكبرون فى كل أمة هم المترفون أصحاب الجاه والسلطان يعتون ويستضعفون الناس ؛ والمستضعفون هم المقابل للمستكبرين ، كقوله تعالى : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) (٧٥) (الأعراف) ، وقوله : (فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) (٢٢) (إبراهيم). وقيل : إن الكبر إن ظهر على الجوارح فهو التكبّر ، وإلا قيل : فى نفسه كبر ، والكبر فى النفس هو أصل الكبر ، وهو الاسترواح إلى رؤية النفس. والكبر يستدعى مستكبرا عليه يرى نفسه فوقه ، ومتكبّرا به ، وبه ينفصل الكبر عن العجب ، فمن يظن أنه ليس فى الدنيا سواه يعجب بنفسه ولا يكون متكبّرا. والكبر يبدأ بالعجب. ولذلك لم يكن الكبر من شيم المسلم. والمستكبرون لهم علامات ، كقوله : (لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ

٦١٠

وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ) (٥) (المنافقون) وقوله : (قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ) (٢٢) (النحل) ، وقوله : (وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) (٢١) (الفرقان) ، وكلها صفات مستهجنة تصف المستكبر ، وكان إبليس ـ أول مرتكب لأول رذيلة فى الكون ـ وهى الكبر ؛ وكان رئيس المستكبرين فى الدنيا فرعون موسى ، وفيه قال ربّ العالمين : (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) (٣٩) (القصص) ، وفى التنزيل أن أبرز صفات المتكبّر أنه : (ثانِيَ عِطْفِهِ) (٩) (الحج) ، والعطف هو الرقبة ، والمعنى أنه معرض من العظمة. وفى الحديث عن الضعفاء قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضاعف لو أقسم على الله لأبرّه» ، وقال : «ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتلّ جوّاظ مستكبر» ، والعتلّ هو الجافى الغليظ ، والجوّاظ المختال فى مشيه. وفى الأحاديث عن الكبر والمتكبّرين قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الكبر بطر الحق وغمط الناس» ، والغمط هو الازدراء والاحتقار. وقوله : «الكبر السفه عن الحق وغمص الناس» ، والسفه عن الحق إنكاره ، وغمص الناس تحقيرهم. والتواضع نقيض الكبر. وكان النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم شديد التواضع ، ولمّا سئل فى ذلك قال : «إن الله أوحى إلىّ أن تواضعوا حتى لا يبغى أحد على أحد» ، لأن القبر طريق البغى ، والأمر بالتواضع نهىّ عن الكبر ، وفى الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من تواضع لله درجة ، رفعه درجة ، حتى يجعله الله فى علّيين ، ومن تكبّر على الله درجة وضعه الله درجة حتى يجعله فى أسفل سافلين» أخرجه أحمد.

* * *

١٥٠٤ ـ المسلمون معافون إلا المجاهدين

المسلم مأمور بالستر على نفسه ، وفى الحديث : «اجتنبوا هذه القاذورات التى نهى الله عنها ، فمن ألمّ بشيء منها فليستتر بستر الله». أخرجه الحاكم ، وفى التنزيل : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) (١٤٨) (النساء) ، ومنه الجهر بالمعاصى ، وهو الذى يفعلها العاصى جهارا ، أو يتحدث بها ويكشف عما ستره الله عليه منها ، ومن يجاهر بفسقه أو ببدعته يسمى مجاهرا. وفى الحديث : «كل أمتى معافى إلا المجاهرين» ، وفى الجهر بالمعصية استخفاف. والمعاصى تذل مرتكبها ، وتقيم الحدّ عليه إن كان فيها حدّ ، أو التعزير له إن لم توجب حدا. وإذا ستر الله الفاسق فى الدنيا لم يفضحه فى الآخرة ، والذى يجاهر يفوته عفو الله ورحمته. والمجاهرون بالمعاصى لا يعانون ولا يسترون. والحال مع العصاة من المسلمين يوم القيامة على قسمين : أحدهما من معصيته بينه وبين ربّه ، وهذا القسم على قسمين : قسم معصيته مستورة فى الدنيا فيسترها الله عليه يوم القيامة ؛ وقسم معصيته مجاهرة فيفضحه الله يوم القيامة ؛ والقسم الثانى : من تكون معصيته بينه وبين العباد فهم على قسمين أيضا : قسم ترجح سيئاتهم على حسناتهم ، فهؤلاء يقعون فى النار ثم يخرجون بالشفاعة ، وقسم تتساوى سيئاتهم وحسناتهم فهؤلاء لا يدخلون الجنة حتى يقع بينهم التقاص.

* * *

٦١١

١٥٠٥ ـ المؤمن لا يكذب

فى الحديث : «آية المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان» ، وهو الكاذب عند ما يحدّث ، وعند ما يعد ، وعند ما يؤتمن. والكذب : من قبائح الذنوب ، ويجانب الإيمان. والصدق ضد الكذب ؛ والصدق : مطابقة القول للمخبر عنه ، فإن لم يطابقه فإنه إما أن يكون كذبا ، أو مترددا بين الصدق والكذب ، كقول المنافق محمد رسول الله ، فإنه يصحّ أن يقال صدق ، إذا كان يعتقد ذلك حقا ، فعندئذ يكون صادقا ؛ ويصحّ أيضا أن يقال كذب ، إذا كان قوله يخالف ضميره ، وفى التنزيل قال المنافقون : (قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) (١) (المنافقون) ، وقال تعالى في الصادقين : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (١١٩) (التوبة) يعنى أن الصدق قرين الإيمان ، والصادقون هم الذين استوت ظواهرهم وبواطنهم ، كقوله تعالى : (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) (٢٣) (الأحزاب) يعنى أوفوا بما عاهدوا ، وبالصدق ينتفى النفاق فى العقيدة ، والمخالفة فى الفعل ، وصاحب هذه الصفة يقال له الصادق ، فإذا كثر منه الصدق يقال له الصدّيق ، كأبى بكر. والمسلم حقّ أن يلازم الصدق فى الأقوال ، والإخلاص فى العمل ، لو فهم الإسلام ، ووعى القرآن ، وفى الحديث : «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدى إلى البرّ ، وإن البرّ يهدى إلى الجنة ، وما يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقا. وإياكم والكذب ، فإن الكذب يهدى إلى الفجور ، وإن الفجور يهدى إلى النار ، وما يزال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب حتى يكتب عند الله كذّابا» أخرجه مسلم. وقد ردّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شهادة رجل فى كذبة كذبها ، فالكذب لا يصلح منه جدّ ولا هزل ، وقبول شهادة الشاهد مرتبة شريفة لا تكون إلا لمن كملت خصاله وعرف عنه الصدق ، ولا خصلة أشرّ من الكذب.

* * *

١٥٠٦ ـ مدار الإسلام على الحياء

أصل الحياء الامتناع ، وهو فى الاصطلاح الامتناع عن فعل ما يعاب. ومنه الاستحياء يعنى الاحتشام والخجل ، كقوله تعالى : (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ) (٥٣) (الأحزاب) ، وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً) (٢٦) (البقرة) يعنى لا يمتنع ، ولمّا سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الحياء من الدين؟ قال : «بل الدين كله» : وقال «الحياء من الإيمان» ، يقصد الحياء الشرعى المكتسب بالدين ، فذلك هو الذى جعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الدين ، وأما الحياء بمعنى الخجل من المطالبة بالحق ورفع الظلم ، ومواجهة من يرتكب المنكرات ، فذلك عجز ومهانة. والمسلم حياؤه غالبا غريزى ومكتسب ، يعنى أن الحياء فيه غريزة ومن ثم يعينه على المكتسب. وقد ينطبع المسلم

٦١٢

بالمكتسب حتى يصير غريزيا فيه ، وكانت فى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخصلتان : الحياء الغريزى والحياء المكتسب ، وكذلك الصحابة كأبى بكر ، وكانوا فى الحياء الغريزى والمكتسب فى الذروة. وفى الحديث : «الحياء لا يأتى إلا بخير» ، لكونه إذا صار عادة وتخلّق به صاحبه ، يكون سببا لجلب الخير ، فيأتى منه الخير بالذات وبالسبب. ومن الأقوال الإسلامية المأثورة : «إن من الحياء وقارا ، وإن من الحياء سكينة» ، والمعنى أن من الحياء ما يحمل صاحبه على الوقار عند ما يوقّر غيره ويستحى منهم ، ويتوقّر هو فى نفسه ، ويستحى من نفسه ، ومنه ما يحمله على أن يسكن عن كثير مما ينشده الناس ويسعون إليه من الأمور التى لا تليق بذى المروءة. والقول بأن الحياء من الإيمان ، لأن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى قصد واكتساب وعلم ، وفى الحديث : إذا لم تستحى فاصنع ما شئت» ، قيل هو من كلام النبوة الأولى ، وأنه آخر ما تعلّق به أهل الجاهلية من كلام الأنبياء الأوّل ، والمعنى أن الذى لا يكفّ الإنسان عن مواقعة الشرّ هو الحياء ، فإذا تركه صار كالمأمور بطبيعته على ارتكاب الشرّ ، فإذا أراد فعل شىء ، فإن كان مما لا يستحى إذا فعله من الله ولا من الناس فليفعله ، وإلا فلا. ومدار الإسلام على هذا الحياء : وهو أن المأمور به ، والواجب والمندوب ، يستحى من تركه ، والمنهى عنه إلى الحرام والمكروه ، يستحى من فعله ، وأما المباح فالحياء من فعله جائز ، وكذا من تركه ، مثلما فعلت أم سليم عند ما سألت بلا حياء عن غسل المرأة إذا احتلمت ، فهال سؤالها أم سلمة ظنا أنه كان عليها أن تستحى ، غير أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفهمها أنه لا حياء فى الدين ، يعنى أن لها تسأل فيما تجهله وإن كان يوجب عليها أن تستحى أن تسأل فيه ، وهذا يثبت أن الحياء المقصود فى الإسلام هو الحياء الشرعى وليس اللغوى ، وحياء المسلم هو هذا الحياء ، لأن غير الشرعى يعوق عن تحصيل الحقوق وقول الحق ، وذلك منهىّ عنه.

* * *

١٥٠٧ ـ المسلم مضياف

حسن الضيافة من مكارم الأخلاق فى الإسلام ، والضيافة : هى القرى ؛ والضيف : هو النزيل ؛ والفعل ضاف أى نزل به ضيفا ؛ وأضافه واستضافه : أنزله عليه ضيفا ؛ والمضياف : كثير الضيوف ، وفى التنزيل أن إبراهيم ولوطا كانا مضيافين ، فعن إبراهيم يقول القرآن : (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) (٥١) (الحجر) ، ووصفهم فقال : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) (٢٤) (الذاريات ٢٤) ، فأكد لإبراهيم صفة الكرم. وعن لوط يقول : (فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي) (٧٨) (هود) ، وفى الحديث عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وإنّ لزورك عليك حقا» ، والزور هو الزائر ، يقال للواحد وللجمع ، وكذلك ضيف ، وتقول أيضا أضيافا وزوّارا ، وقرن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسن الضيافة بالإيمان ، فقال : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ، جائزته يوم وليلة ، والضيافة ثلاثة أيام ، فما بعد ذلك فهو صدقة ، ولا يحل

٦١٣

(أى الضيف) أن يثوى (أى يقيم) عنده حتى يحرجه» ، وفى الحديث تشريع جديد : أن الضيافة ثلاثة أيام ، قيل يتكلف المضيف للضيف فى اليوم الأول ، ثم فى الثانى والثالث يقدّم له ما يحضره ولا يزيد على عادته ، فإن زاد على الأيام الثلاثة فهو صدقة ، سمّاها كذلك لتنفير الضيف أن يمكث بعد الأيام الثلاثة. وأما الجائزة : فهى المئونة التى تمكن المسافر العابر إذا نزل ضيفا أن يجوز بها مقدار يوم وليلة من هذا البلد إلى البلد الآخر الذى يقصده ، وتسمى لذلك الجيزة أيضا. واستدل بجعل ما زاد على الأيام الثلاثة صدقة ، على أن هذه الأيام الثلاثة ، وكذلك الجائزة ، واجبة ، ولا يحلّ للضيف أن يستمر فى الإقامة بعد الأيام الثلاثة ، وهو معنى الثواء ، إلا لو قبل ذلك المضيف وطلبه منه ، وهو معنى «حتى يحرجه» ، لأنه إذا ارتفع الحرج عن الضيف والمضيف فإن الإقامة تجوز. وفى رواية لمسلم «حتى يؤثّمه» أى يوقع المضيف فى الإثم ، لأن إقامة الضيف أكثر من الأيام الثلاثة ، تجعل المضيف يغتاب الضيف ، أو يغلظ له فى القول ، أو يظن به السوء ، وكل ذلك إثم. وفى الرواية أن الصحابى سلمان نزل ضيفا على أبى الدرداء ، وأقام أكثر من الأيام الثلاثة حتى اضطر أبو الدرداء أن يرهن شيئا من بيته ليحصل على المال لضيفه ، وقال سلمان يوما يشكر لأبى الدرداء حسن ضيافته : الحمد لله الذى قنعنا بما رزقنا. فقال أبو الدرداء غاضبا : لو قنعت ما رهنت بعض ملكى كى أضيفك! ـ ويكره للمضيف والضيف أن يظهر الغضب أو الجزع لشىء يقع من أحدهما.

* * *

١٥٠٨ ـ المسلم غير مسرف

أحلّ الله الأكل والشّرب واللبس للناس جميعا بلا تمييز ، فقال : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (٣١) (الأعراف) ، والخطاب فى الآية لبنى الإنسان ولكل العالم ، وقوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) قاله كل حكماء الطب كأبقراط وغيره. والزينة فى اللباس هى التجمّل ، وهى حالة لا تكون إلا فى المناسبات ، كالذهاب إلى المساجد ، فلا يذهب المسلم بملابس العمل ، واستن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم غسل الجمعة لهذا السبب ، والله تعالى جميل يحب الجمال ، ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده ، والتجمّل فى اللباس من غير إسراف ـ من العبادة ، مثلما الاقتصاد فى الأكل والشرب. وفى الإسلام لا سرف ولا مخيلة ، وما يستر الجسم وتدعو إليه الحاجة ، ويسدّ الجوع ، ويسكن الظمأ ، فهو مندوب إليه عقلا وشرعا ، لما فيه من حفظ النفس ، ولذلك ورد الشرع بالنهى عن الإسراف فى كل شىء ، ويختلف ذلك باختلاف البلدان والأزمان

٦١٤

والأعمار ؛ وفى الاقتصاد منافع كثيرة ، والبهرجة فى الثياب محل نقد ومضيعة للمال ، وكثرة الأكل كظّ المعدة ونتن التّخمة ، وفى الأثر : «جوعوا تصحّوا» ، والجوع بمعنى أن لا نأكل إلا عن جوع ، لأن من الناس من يأكل عن شره ، وقلّة الأكل يصحّ بها الجسم ، ويجود بها الحفظ ، ويزكو بها الفهم ، ويعتدل بها النوم ، وينصلح المزاج ، ومن الأقوال المأثورة عند أهل الإسلام : «أكبر الدواء تقدير الغذاء» ، لأن الأكل الكثير تتولد منه الأمراض ، ومن أقوال أهل الطب فى الإسلام : قل لى ما ذا تأكل ، أقل لك ما الذى سيصيبك من أمراض» ، وفى حديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يغنى عن كل كلام للأطباء ، قال : «ما ملأ آدمىّ وعاء شرا من بطن ، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه» ، ولو سمع أبو الطب أبقراط هذه القسمة لعجب من هذه الحكمة ، والعلم علمان : علم الأديان وعلم الأبدان ، وعند المسلمين لا تعارض بين العلمين ، ومن أقوال علىّ بن أبى طالب : إن الله تعالى قد جمع الطب كله فى نصف آية من القرآن ، قال : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) (الأعراف ٣١) ، وجمع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الطب كله فى ألفاظ يسيرة فقال : «المعدة بيت الداء ، والحمية رأس كل دواء» ، والحمية من حمى المريض إذا منعه عما يضرّه. وفى الطب الإسلامى : معالجة المريض نصفان ، نصف دواء ، ونصف حمية» ، فإذا اجتمع النصفان برأ المريض وصحّ ، وإلا فالحمية به أولى ، لأنه لا ينفع دواء مع ترك الحمية ، وعلى العكس ـ قد تنفع الحمية مع ترك الدواء ، ومن أقوال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوجز الطب كله : «أصل كل دواء الحمية» ، يعنى لا تداوى من غير حمية ، والحمية فيها الغناء عن كل دواء ، وأطباء النفس اليوم من أهل الإسلام ، من غير تلاميذ المبشّرين ، كثيرا ما يعالجون الناس بالحمية ، والحمية من الطب الإسلامى البدنى والنفسى : بمنع المريض من الأكل والشرب والكلام عدة أيام أقلها ثلاثة أيام ، غالبا فيبرأ بإذن الله ويصحّ ، والعلاج بالامتناع عن الكلام من تعاليم القرآن مثلما العلاج بحمية الأكل والشرب ، ومن ذلك قوله تعالى لزكريا : (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) (٤١) (آل عمران) ، وقوله تعالى عن مريم : (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) (٢٦) (مريم ٢٦) وفى عدم الكلام اختزان للطاقة النفسية ، وتوفير لها ، وتوجيهها لمطلب العلاج ، وتجنيب للنفس الدخول فى المهاترات ، ثم إنه توطين لها أن تسكن وتطمئن ، وتؤمن بربّها وتسلّم نفسها إليه تعالى. وأقل مدة للصوم عن الكلام من يوم إلى ثلاثة ، ويصحّ أكثر من ذلك ، وقد صام موسى عن الكلام أربعين يوما ، كقوله تعالى : (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) (البقرة ٥١) والحمية إذن تكون من الطعام ومن الكلام. وفى الحديث : «الكافر يأكل فى سبعة أمعاء والمؤمن يأكل فى معى واحد» أخرجه مسلم ، والمعنى : أن المؤمن يتناول الطعام دون شبع ، وقد يوجد

٦١٥

الكافر الأقل أكلا من المؤمن ، غير أن القلب إذا تنوّر بنور الإيمان ، نظر إلى الطعام بعين التقوى ، فأخذ منه قدر الحاجة ، بينما الكافر إذا أظلم قلبه بالكفر ، كان أكله كالبهيمة. وفى الحديث : «من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت» أخرجه ابن ماجة ورواه أنس بن مالك. ومن حكم لقمان : يا بنىّ ، لا تأكل شبعا فوق شبع ، فإنك إن تنبذه للكلب ـ يعنى تطرحه ـ خير من أن تأكله.

* * *

١٥٠٩ ـ المسلم يسبّح لله ويكبّر إذا تعجّب لأمر

التسبيح هو أن تقول : «سبحان الله» ، والمسلم يقولها إذا لم يعجبه أمر ، ويتكرر ذلك فى القرآن ست مرات ، وإذا استعظم أمرا قال : «الله أكبر» ، وفى الرواية أن أبا هريرة لمّا اعتذر بجنابته للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سبحان الله! إن المؤمن لا ينجس» ؛ وفى قصة المرأة التى نذرت أن تنحر ناقة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سبحان الله! بئسما جزيتها» ، ولمّا تأكد عمر أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يطلّق نساءه سرّ لذلك وقال : «الله أكبر».

و «سبحان الله» اسم موضوع موضع المصدر ، ومعناه التنزيه والبراءة لله من كل نقص. وسئل النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن معنى «سبحان الله»؟ فقال : «تنزيه الله من كل سوء» ، فكأنه عند سماع الشيء لا يعجبه ، يسبّح لله ، تذكيرا لنفسه بكماله تعالى ، وتنزيها له من كل نقص مقارنة بالبشر. وأما تكبيره تعالى كقوله : (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) (١٨٥) (البقرة) وهو أن نقول الله أكبر الله أكبر هكذا ، كما فى ليلة الفطر ، وعند ذبح الأضحية (الحج ٣٧) ، مثل قوله : (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) (١١١) (الإسراء) أى عظّمه عظمة تامة. وأبلغ ما قاله العرب فى معنى التعظيم والإجلال لفظة : «الله أكبر» ، أى أنه تعالى أكبر من كل شىء ، وكان النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا بدأ فى الصلاة يقولها.

* * *

١٥١٠ ـ المسلم يتوكل على الله

التوكّل على الله : هو الاعتماد عليه ، والتفويض إليه ، والاكتفاء به ، وهو بخلاف التواكل : وهو أن يتّكل بعضنا على بعض ، ولا يفعل أىّ منا شيئا ، ولا يبذل جهدا ، وحقيقة التوكل : أن تأخذ بالأسباب ، وتدع النتائج إلى الله ، كقوله تعالى فى الدعاء : (رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (١٠) (الشورى) ، وقوله فى أسباب التوكل : (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) (٨٩) (الأعراف) وقوله : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٢٢) (آل عمران) ، وقوله : (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (٤٢) (النحل) ، وقوله : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (٦٧) (يوسف). وفى أسباب اختياره تعالى وكيلا

٦١٦

قال : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) (٥٨) (الفرقان) ، وقال : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) (٢١٧) (الشعراء) ، وقال : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (٦٢) (الزمر) ، فالله كل شىء فى حياة المسلم وتفكيره ، فكان هو وكيله : (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (٨١) (النساء) ، ويبدو أن غير المسلمين لن يفهموا هذه الحقيقة ، أو أنهم سيظلون يكابرون ويصرّون على المكابرة وعلى الخطأ ، كما فى حادث الطيّار المصرى فى الطائرة التى أسقطوها عمدا ، عند ما قال : توكلت على الله» ففسّروا توكّله بأنه إقبال على الانتحار!! وحسبنا الله!

* * *

١٥١١ ـ غضّ البصر والصوت واجب

البصر هو الباب الأكبر إلى القلب ، وهو أرهف حاسة من حواس الإدراك للجمال ، ومدخل الشهوات ، فوجب التحذير منه ، وغضّه واجب عن جميع المحرّمات وما يخشى فتنته ، وفى الحديث : «إياكم والجلوس على الطرقات ، فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقّه» ، قالوا : وما حقّ الطريق يا رسول الله؟ قال : «غضّ البصر ، وكفّ الأذى ، وردّ السلام ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر» أخرجه البخارى. وكان الجلوس على الطرقات فى القديم ، وهو الآن الوقوف على الطرقات ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تتبع النظرة النظرة ، فإنما لك الأولى ، وليست لك الثانية» أخرجه أبو داود ، ويقال للذى ينظر إلى النساء البصّاص ، واللّحاظ. وتسمى النظرة الأولى نظرة الفجاءة. وفى التنزيل : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٣١) (النور) ، والغضّ : هو خفض الطرف استحياء وخزيا ، وغضّ الصوت من ذلك أيضا ، وهو عدم تكلّف رفع الصوت كقوله تعالى : (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (١٩) (لقمان) ، والقصد فى المشى : هو التوسّط فيه ، وهو بين الإسراع والبطء ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أسوتنا فى ذلك ، وتروى عائشة أنه كان إذا مشى أسرع ، أرادت بالسرعة أنها نوع المشى المرتفع عن دبيب التماوت ، والمشى المتكلّف كالتكلّف فى الصوت ، وتشبّه الآية الصوت العالى بصوت الحمار وما أنكره! فلما كان الجهر من مساوئ الأدب ذكر الحمار

٦١٧

مثلا فى الذمّ البليغ ، ويقال لصوته النهيق. وهذه الآيات أدب من الله تعالى بترك الجهر بالصوت والتنظّر على الخلق ، وكلاهما يدرجان ضمن اضطرابات السلوك من أبواب الطب النفسى. وحفظ الفرج : ستره ، والمراد ما لا يحل رؤيته من جسم المرأة ، والخطاب فى الآيات عام للرجال وللنساء ، وفيها الحضّ على الغضّ من الأبصار عمّا لا يحلّ ، وفى ذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فالعينان تزنيان وزناهما النظر ..» أخرجه مسلم ، وقال : «الغيرة من الإيمان والمذاء من النفاق» ، والمذاء (بالكسر) هو المخالطة بين الرجال والنساء ، والمذّاء (بالفتح) هو المخالط من الرجال أو النساء ، والمرأة مأمورة أن تغضّ بصرها كالرجل ، وأن لا تبدى زينتها إلا ما ظهر منها ، ولا تبدى من جسمها إلا ما ظهر منه ، وقيل هو الوجه والكفّان ، وذلك ليس انتقاصا من شأنها ، ولكنه إعلاء لقدرها ، وحفظ لها ، وإكرام لمكانتها ، فلا تنتهب بالأنظار ، ولا يغتال جسمها من حيث لا تدرى ، وزينة المرأة ظاهرة وباطنة ، فما ظهر مباح لكل الناس ، وما بطن لا يحل إبداؤه إلا لمن سمّاهم فى الآية. والخمار : واجب لتغطية الرأس والصدر ؛ والبعل : هو الزوج ، وله أن يرى كل زينة المرأة ، ولا يحل لامرأة مؤمنة أن تكشف بدنها بين غير المسلمات ، ولها أن تظهر على خادمتها والماشطة أو البلّانة. وأما التابعون أولو الإربة من الرجال أو الطفل : فهؤلاء ذوو الحاجة من الأطفال والصبيان والشيوخ وليس لهم طاقة على التنظّر الجنسى.

* * *

١٥١٢ ـ أوصاف عباد الرحمن

«عباد الرحمن» من مصطلحات القرآن ، وتأتى أوصافهم فى سورة الفرقان ، فى الآيات من ٦٣ حتى ٧٣ ، وهى اثنتا عشرة صفة تميزهم عن باقى المؤمنين ، وينسبون بها للرحمن ، قيل هو اسم الله الأعظم ، ووصفهم بأنهم «عباد الرحمن» ، وأنهم المتخلقون ، أى كرام الأخلاق ، فهم أولا : (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) (الفرقان ٦٣) أى فى قصد وتؤده ، وحسن سمت ، وحلم ، وتواضع ، وفى الحديث : «أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البرّ ليس فى الإيضاع ـ أى سرعة السير». وسرعة السير أو المشى تخل بالوقار ، والخير فى التوسط ، ونظير ذلك : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) (١٨) (لقمان) ، وكان الرسول يتكفّأ فى مشيه ؛ وثانيا : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) (٦٣) (الفرقان) ، وكان عليه الصلاة والسلام يقف على أندية أعدائه ويدانيهم ويحييهم ولا يداهنهم ؛ وثالثا : (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) (٦٤) (الفرقان) ؛ ورابعا : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) (٦٦) (الفرقان) فمع طاعتهم يشفقون على أنفسهم ، ويخافون ، ويدعون ربّهم سجودا وقياما ؛ وخامسا : (وَالَّذِينَ إِذا

٦١٨

أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) (٦٧) (الفرقان) ، والإسراف : ما كان فى غير طاعة الله ، والإقتار : هو الإمساك عن طاعة الله ، والقوام : هو الإنفاق فى طاعة الله ، وهو فى كل مسلم بحسب عياله وحاله ، وخفة ظهره وصبره وجلده على الكسب ، وخير الأمور أوساطها ، ونظير ذلك الآية : (لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) (٢٩) (الإسراء) ؛ وسادسا وسابعا وثامنا : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) (الفرقان) ، وهذه الصفات الثمانية صفات تحلّى ، وبدأ بها تشريفا لهم ، ثم أعقبها بصفات التخلّى تبعيدا لها ؛ وتاسعا وعاشرا : (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) (٧٢) (الفرقان) ، والزور هو الكذب ، وأعظمه الشرك وتعظيم الأنداد ؛ واللغو : كل سقط من قول أو فعل ؛ وحادى عشر : (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) (٧٣) (الفرقان) يعنى لم يعرضوا عنها ؛ وثانى عشر : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) (٧٤) (الفرقان) فهذه الصفات الاثنتى عشرة تجعلهم من مصاف المؤمنين أخلاقا ، ولذا قال تعالى فيهم : (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) (٧٦) (الفرقان) ، والغرفة هى الدرجة الرفيعة ، وأعلى منازل الجنة وأفضلها ، كما قال : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) (٦٠) (الرحمن).

* * *

١٥١٣ ـ لا تبتذل اليمين فى كل حقّ وباطل

فى حديث الإفك لمّا أشاع مسطح أكاذيبه عن عائشة ، حلف أبو بكر ألا ينفق عليه ـ وكان يساعده فى معيشته ، فنزلت الآية : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) (٢٢٤) (البقرة) ، تنهى أن يحلف الناس ألّا يصلوا أرحامهم ، ولا يتصدّقوا ، ولا يصلحوا ، وأشباه ذلك ، ونزلت : (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) (٨٩) (المائدة) تنهى الذى يستكثر من اليمين ، وذمة الله تعالى فقال : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) (١٠) (القلم). والأيمان جمع يمين ، واليمين الحلف وفى اليمين اللغو نزلت الآية : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) (٢٢٥) (البقرة) ، واللغو : مصدر لغا يلغو ويلغى ، وفى الحديث : «إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت» أخرجه الشيخان. واليمين اللغو : هو القول فى الكلام العادى : لا والله ؛ وبلى والله ، دون قصد لليمين ولا يعتقدها ، ولا يريدها. وفى قول عائشة : «أيمان اللغو فى المراء والهزل والمزاحة ،

٦١٩

وفى الحديث الذى لا ينعقد عليه القلب». واللغو ما يحلف على الظن فيكون بخلافه ، والرجل إذا حلف على الشيء لا يظن إلا أنه إياه ، فإذا ليس هو ، فهو اللغو ، وليس فيه كفّارة. وإنما الكفّارة على من حلف ألا يفعل الشيء المباح له فعله ثم لم يفعله. وقيل لغو اليمين هى أن تحلف وأنت غضبان. وفى الحديث : «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليتركها ، فإنّ تركها كفّارتها» أخرجه ابن ماجة. وقيل : لغو اليمين دعاء الرجل على نفسه. ويمين المكره بمثابة يمين لغو. وقوله : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) (البقرة ٢٢٥) مثل قوله : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) (٨٩) (المائدة).

* * *

١٥١٤ ـ أقسام الأيمان

الأيمان : من اليمن وهو البركة ، سمّاها الله تعالى بذلك لأنها تحفظ الحقوق. وفى الآية : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) (٨٩) (المائدة) أن اليمين قسمان : لغو ، ويمين كفّارة أو منعقدة ؛ وقيل : الأيمان على أربعة أقسام : قسمان فيهما كفّارة ، وقسمان لا كفّارة فيهما ، فاليمينان اللذان يكفّران : الرجل يحلف والله ما فعلت كذا وكذا وقد فعل ، والرجل يحلف لقد فعلت كذا وكذا ولم يفعله. واليمين المنعقدة : هى عقد القلب فى المستقبل ألا يفعل ففعل ، أو ليفعلن فلا يفعل ، فهذه هى التى تحلّها الكفّارة. وقوله : (يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) معناه : بما تعمدتم ، والتعمّد يقتضى التكرار ، غير أنه فى الحديث : «إنى والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذى هو خير وكفّرت عن يمينى» فإنه يوجب كفارة اليمين الواحدة.

واليمين الغموس : هى يمين مكر وخديعة وكذب ، فلا تنعقد ، ولا كفّارة فيها. وفى الحديث عن الكبائر قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها : «الإشراك بالله» ، قيل : ثم ما ذا؟ قال : «عقوق الوالدين» ، قيل : ثم ما ذا؟ قال : «اليمين الغموس» ، وسئل : وما اليمين الغموس؟ قال : «التى يقتطع بها مال امرئ مسلم ، هو فيها كاذب» ، وقال : «من اقتطع حقّ امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرّم عليه الجنة» ، وقال له رجل : «وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال : «وإن كان قضيبا من أراك» ، أو قال : «من حلف على يمين صبر (أى ألزم بها وحبس عليها) يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر ، لقى الله وهو عليه غضبان» ، فنزلت : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) (٧٧) (آل عمران) ، فاليمين الغموس إذن هى : أن يستخف الحالف باليمين بالله ، ويحلف كذبا ، ليستحل بذلك مال الغير. وسميت اليمين

٦٢٠