موسوعة القرآن العظيم - ج ٢

دكتور عبد المنعم الحفني

موسوعة القرآن العظيم - ج ٢

المؤلف:

دكتور عبد المنعم الحفني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
ISBN: 977-208-422-2
الصفحات: ١٢٤٤
الجزء ١ الجزء ٢

وعماهم هو : صمم نفسى ، وبكم نفسى ، وعمى نفسى ، وفى الاصطلاح يقال صمم نفسى المنشأpsychogenic deafness ، أى أنه ظاهرة مرضية نفسية وليست عضوية ، والمرضى بالأمراض نفسية المنشأ يتداعون بها لعجز عن احتمال مواقفهم ، أو لهوى فى نفوسهم فلا يريدون أن يروا الحق أو يسمعوا به ، فيفقدون أسماعهم وأبصارهم وقدراتهم على الكلام ، وفى الخبر أن حكيما انتهت به حكمته إلى أن «لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم» بما يعرف ، فتحول واقعا أو مجازا فصار قردا. وفى القرآن يأتى عن ذلك اثنتى عشرة مرة ، وفى الآية لم تنف الإدراكات عن حواسهم جملة وإنما الغرض نفيها عن رؤية أو سماع أو التحدّث بالحق ؛ وقوله «لا يرجعون» يعنى إلى الحق ، وفى الآية : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (١٧١) (البقرة) لأن من أصمّ أذنيه ، وأعمى عينيه ، وأبكم فمه ، لن يعقل من أى أمر شيئا ، ويصفهم القرآن يقول : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) (٢٢) (الأنفال) ، فجعلهم كالدواب ، أى الحيوانات ، وزاد فقال فيهم إنهم من شرّ الدواب ، وفى آية أخرى حدّد شرّ الدواب فقال : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (الأنفال ٥٥) ويوم القيامة يحشرون كما كانوا فى الدنيا (عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) (٩٧) (الإسراء).

* * *

١٤٣٦ ـ علم السيما

السيما ـ مقصورة ـ : هى العلامة ، وقد تمدّ فيقال السيماء ؛ وتأتى فى القرآن ست مرات ؛ والسيما فى الآية : (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) (٢٩) (الفتح) هى سيما التديّن ، تكون علامة بالجبهة مما يعلق بها من الأرض عند السجود ، دليل كثرة الصلاة واللجوء إلى الله ، والشخصية التى لها هذه السيما من النمط المتدين ، ويوصف بأنه نمط غيبى ، وقيل : سيما التديّن حسن يكون بالوجه وضاءة ونورا ، ويعكس طمأنينة نفس صاحبه ؛ وقيل : هى الخشوع والتواضع اللذان يميزان الشخصية الدينية ؛ وقيل : سيما التدين هى علامة على توجّه صاحب السيما إلى الله ، وأن مرجعيته دوما ليست نفسه ولكنها كتاب الله ، بمعنى أنه «إنسان مرجعى» لا يفعل من نفسه ، ولكنه بحسب النّص الذى يستند إليه. وفى الآية (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) (٣٠) (محمد) ، والسيما هنا من نوع آخر مناقض ، هى سيما النفاق ، وأصحابها هم المنافقون ، وأبرز سمات النفاق «لحن القول» ، كقوله تعالى : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) (٣٠) (محمد) وهو أن نقول ما لا نفكر فيه ولا نشعر به ، وأن نتكلم بالشىء ونريد غيره.

٥٤١

وللمجرمين سمات هى تعلّق «علم النفس الإجرامى» ، والقرآن سابق فى تحديد الصفات النفسية للمجرم قبل أن ينبّه إليها أمثال توبينارد ، وسيزار بيكاريا ، وچيريمى بنتام فى القرن الثامن عشر والتاسع عشر ، ولعل أكبر العلماء فى هذا الميدان سيزار لمبروزو (المتوفى سنة ١٩٠٩) ، زعيم المدرسة الوصفية ، وما يذكره القرآن عن سمات المجرمين ضمن المدرسة الوصفية ، وكنموذج للمجرمين كما يعدّدهم القرآن : فرعون موسى : وكان جبّارا عصيا ، متضخم الذات ، ومتمركز التفكير فى نفسه ؛ وهامان : وكان من الإمّعات ، يوظّف علمه للأقوى ، ويقيم الصروح وفق طلب المستبدّين ؛ وقارون : وكان من ملوك المال ، ويظن بنفسه الألوهية. والمجرمون الذين يحفل القرآن بتوصيفهم كثيرون ، ومنهم الكفرة ، والمكذبين ، والمعاندين ، والمتآمرين ، ولصوص المال ، والمصابون بالشذوذ النفسى الجنسى كاللواط ، والزنا ، والنمامون والغمّازون ... إلخ ، ولكل هؤلاء صفات بدنية ونفسية واجتماعية إجرامية. والملائكة ، كما يرد عنهم من أهل الفراسة المتضلّعين فى علم السيما ، وفى ذلك يأتى فى القرآن : (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) (٤١) (الرحمن) ، ومثل الملائكة : أصحاب الأعراف ، يقول فيهم ربّهم : (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ) (٤٨) (الأعراف) ، فهؤلاء الذين على الأعراف يطالعون سيما الناس ويتعاملون معهم بحسبها. وكما أن السيما فى الدين والجريمة ، فهى فى غير ذلك من النواحى الاجتماعية ، وفى مجال علم الاجتماع الاقتصادى مثلا تأتى هذه الآية : (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) (٢٧٣) (البقرة) ، وهؤلاء هم الفقراء ، أو صنف منهم ، يستحون أن يسألوا الناس ، ومن السهل اكتشافهم مع ذلك بالنظر إلى رقّة مظهرهم ، ونظرة الذلّ فى عيونهم ، واستطالة وجوههم ، وصفرتها ، وارتعاش أصواتهم ، وتلعثمهم الكثير خشية الناس.

* * *

١٤٣٧ ـ الصراع بين الأفراد كما هو بين المجتمعات

دليل ذلك الآية : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) (١١١) (النحل) أى تخاصم وتحاجّ عن نفسها ، وكل واحد فى يوم البعث لا يقول إلا نفسى! نفسى! وكل أمة تشهد لنفسها ، وتتصارع الأمم من شدّة هول القيامة ، وما تزال الخصومة بالناس حتى أن الروح لتخاصم الجسد ، فالروح تلقى المسئولية على الجسد ، والجسد يلقى المسئولية على الروح ، والصحيح أنهما مسئولان معا ، كأعمى ومقعد فى بستان ، يطلبان ثمرا على شجرة ، فالمقعد يستعين بالأعمى ليحمله ، فيقطف المقعد ويأكل ويعطى الأعمى ، فأيهما مسئول؟

٥٤٢

هل هو الأعمى الذى حمل ، أم المقعد الذى قطف؟ والصحيح أنهما معا مسئولان ، والعقاب لهما معا ، فكذلك الروح والجسد.

* * *

١٤٣٨ ـ الصراع مقدور على الناس إلا من رحم ربّه

لما عصى آدم وغوى ، طرد من الجنّة وزوجته حواء وإبليس : (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) (١٢٣) (طه) ، يعنى آدم وزوجته من ناحية ، وإبليس من ناحية ، وكلّ منهم سيكون له النسل ، وسيجتهد بنوهم الرأى ، وسيلجئون مثل آدم وإبليس إلى التأويل ، وراثة عنهما ، وسينشب بينهم النزاع ، وتتولد العداوة وتزيد البغضاء ، واستثنى الله تعالى فقال : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) (١٢٤) (طه) ، والهدى : يعنى الرسل والكتب ، فكأن الصراع والحرب والعداء قد كتبوا على مخلوقات الله فى الأرض ، فجميعها فى تناحر ، وكلها فى صراع ، والبقاء للأصلح ولكنه ليس الأصلح باعتبار الموائمة مع ظروف الحياة ، إنما الأصلح باعتبار الأخذ بناموس الله ، وأن يكون الإنسان عبدا صالحا حقا ، وخليفة الله فى الكون صدقا ، جديرا بالخلافة ، وحقيقا بالإعمار. والقول بالمعايشة بين الحضارات أو الثقافات وهم ، لأنه لا وجود للباطل مع الحق ، والباطل والحق لا يتماشيان ، وأصحاب الحق يريدون أن يسود الحق بالحوار والمحاجاة ، وأصحاب الباطل يريدون للباطل أن يسود بالقوة والجبر والطغيان. والله تعالى جعل مع الحق التسليم والقناعة والتوكل عليه تعالى ، وصاحب الحق سمح النفس ، وعيشه سهل ورافع (يعنى به سعة) ، كما قال تعالى (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) (٩٧) (النحل) ؛ والمعرض عن الحق مستول عليه الحرص الذى لا يزال يطمح به إلى الازدياد من الدنيا ، مسلّط عليه الشحّ الذى يجعله دائم الاعتراك مع الغير ، فعيشه ضنك ، وحاله مظلمة ، وستبقى الحروب ما دام هناك حق وباطل ، وما لم تكن الحرب السجال بينهما بالحوار لا بالقتال.

* * *

١٤٣٩ ـ القنوط من الكبائر

القنوط عرض نفسىّ صنو الإحباط واليأس ، إلا أن القنوطDespondence يأتى فى البداية ، والإحباطFrustration يكون فى النهاية ، واليأس Despair هو محصلة الاثنين معا ، كقوله تعالى : (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) (٣٦) (الروم) ، والقنوط والبطر صفتا الكافر ، يقنط عند الشدّة ، ويبطر عند النعمة ،

٥٤٣

وقنوطه يصيبه منه اليأس أن تأتيه رحمة الله وفرجه ، والقانط قد يبلغ به حدّ اليأس أن ينسى الفرائض ولا يأتيها ، لاعتقاده فقد الأمل ، كقوله : (فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) (٥٥) (الحجر) أى من الآيسين. وقد يأتيه القنوط إذا كثرت ذنوبه ، وفى الخبر أن الآية : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) (٥٣) (الزمر) نزلت فى قوم أسرفوا على أنفسهم ، قيل نزلت فى «وحشىّ» قاتل حمزة عمّ النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سأل النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أشركت بالله ، وقتلت النفس التى حرّم الله ، وزنيت ، هل يقبل الله منى؟ فنزلت : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٧٠) (الفرقان) ، تبيّن أن التوبة تجبّ ما قبلها إذا عمل صاحبها صالحا ، وهنا قال وحشىّ : فلعلى لا أعمل صالحا؟ فنزلت : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٥٣) (الزمر) ، فدلّ على أن التائب تغفر له ذنوبه جميعا ، حتى «وإن لم يعمل صالحا» ، فيكفيه من الصلاح الامتناع عن الشرّ ، واستبشر أصحاب الذنوب الكثيرة بالآية ، ولذلك قال فيها علىّ بن أبى طالب : ما فى القرآن آية أوسع من هذه الآية : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٥٣). وقال عبد الله بن عمر : هذه أرجى آية فى القرآن. ونعود إلى القنوط واليأس والفرق بينهما ، وفى الآية : (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ) (٤٩) (فصلت) يأتى اليأس أولا ثم يترتب عليه القنوط ، وربما من السياق كله أن اليأس يكون من روح الله ، وأما القنوط فمن رحمته تعالى ، وأما فى هذه الآية فإن اليأس يكون من زوال ما به المكروه ، بينما القنوط أن يظن أنه يدوم.

* * *

١٤٤٠ ـ المستضعفون والمستكبرون من أنماط الشخصية

الناس صنفان فى الحق : إما مستضعفون وإما مستكبرون ، ويوم القيامة يبرزون لله جميعا ، يقول المستضعفون للمستكبرين : (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) (٢١) (إبراهيم) ، ذلك لأن علامة المستضعف أو الضعيف نفسيا واجتماعيا : أنه تابع يأتمر بأمر القوى أو المستقوى ، والمجتمعات فيها من الفئتين ، والمستقوون من دأبهم الاستكبار ، واستكبارهم يجعلهم فى المقدمة ، وينحّى من أمامهم الضعفاء ، ولذلك تؤول الأمور فى المجتمعات إلى المستقويين المستكبرين ، وهؤلاء خارجون على القوانين ، وهم ترزية

٥٤٤

القوانين ، والقوانين فى مجتمعات المستقويين لتطبيقها على المستضعفين ؛ والمستضعفون يأتمرون بأمر المستقويين ، وكان قولهم لهم فى الدنيا : افعلوا ونحن المسئولون ، فلما كان الحساب فى الآخرة ، سألوهم : هل ستتحملون عنا عذاب ما كنتم تأمروننا به؟ وهذا تحذير للمستضعفين المؤتمرين بأمر المستقويين ، فلو كان هؤلاء ناجين من النار لأنجوهم معهم ، والإحباط هو الشعور السائد يومئذ ، ويدفع إلى الجزع ، والجزع هو المحبط اليائس ، وما كان يمكن أن يصبر ، فالمحبط الجزع لا يصبر وكلما فكر فى العذاب زاد به الإحباط والجزع ، فلا مهرب ولا فكاك من العذاب ، وبقدر الجرم يكون العقاب ، وجرم المستقويين أكبر من جرم المستضعفين ، وجرم الاستقواء هو أبشع الجرم. وفى الجزع يكون الصراخ ، وهو عكس الصمت فى الصبر ، وسواء جزعوا أم صبروا لا محيص ـ أى لا منجى. (انظر أيضا الكبر ليس من شيم الإسلام ضمن باب القرآن والفنون والصنائع والآداب واللباس).

* * *

١٤٤١ ـ المخادع يخدع نفسه

من أنماط الشخصية فى القرآن نمط المخادع ، وأصل الخداع فى كلام العرب الفساد ، والمخادع فى الدين يخدع الرسول ، ويخدع الله والمؤمنين ، كقوله تعالى : (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ) (٦٢) (الأنفال) ، وقوله : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) (٩) (البقرة) ، وقوله : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) (١٤٥) (النساء) ، وخداعهم لله ولرسوله وللمؤمنين بإظهار الإيمان خلاف ما أبطنوه من الكفر ، ليحقنوا دماءهم وأموالهم ، ويظنوا أنهم نجوا وخدعوا ، وهم فى الحقيقة أفسدوا إيمانهم وأعمالهم بالرياء ، والمراءاة هى الإخفاء. ومن الأمثال فى الخداع قولهم : انخدع الضب فى حجره ؛ وما تحل عاقبة الخداع إلا بصاحبه ؛ ومن كلام أهل الإسلام : من خدع من لا يخدع فإنما يخدع نفسه» ، وهذا صحيح ، لأن الخداع إنما يكون مع من لا يعرف البواطن ، وأما من عرف البواطن فمن دخل معه فى الخداع فإنما يخدع نفسه ، ودلّ ذلك على أن المنافقين لم يعرفوا الله ، ولو عرفوه لعرفوا أنه لا يخدع ، وفى الحديث : «لا تخادع الله فإن من يخادع الله يخدعه الله ، ونفسه يخدع لا يشعر» ، قالوا : يا رسول الله كيف يخادع الله؟ قال : «تعمل بما أمرك الله به وتطلب به غيره». وليس القول الله يخدعهم ، أنه تعالى مخادع ، وإنما هذه هى عادة العرب إذا وضعوا لفظا بإزاء لفظ جوابا له وجزاء ، ذكروه بمثل لفظه وإن كان مخالفا له فى معناه ، وعلى ذلك جاء قوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ)

٥٤٥

(١٩٤) (البقرة) ، والجزاء لا يكون سيئة ، والقصاص لا يكون اعتداء ، لأنه حقّ وجب ، ومثله ، وقوله : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (٥٤) (آل عمران) ، وقوله : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) (١٥) (البقرة) ، وليس منه تعالى مكر ، ولا هزء ، ولا كيد ، ولا خداع ، وإنما هو جزاء مكرهم واستهزائهم وخداعهم ، وكلها صفات غالبة على شخصية المنافق.

* * *

١٤٤٢ ـ الهمزة واللمزة

الهمزة واللّمزة : نمطان من الأنماط النفسية للشخصية ، ينفرد بهما القرآن ضمن ما نسميه بعلم النفس الإسلامى ، يقول تعالى (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) (١) (الهمزة) ؛ والهمزة : الفتّان ؛ واللمزة ، العيّاب ؛ أو أن الهمزة : الذى يغتاب ويطعن الناس فى وجوههم ، واللمزة : الذى يغتابهم من خلفهم ، كقوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) (٥٨) (التوبة). وقيل إن الهمزة : الطعّان فى الناس ، واللّمزة : الطعّان فى أنسابهم. والهمزة والهامز أيضا : الذى يزغدنا باليد ، يعنى بالدفع ؛ واللّمزة : يزغد باللسان ، يعنى يسيء به. وقيل : الهمّاز : باللسان ؛ واللمّاز : بالعينين ، أو بالعينين والحاجبين.

والهمزة اسم وضع للمبالغة ، كما يقال ضحكة للذى يضحك بالناس. وأصل «الهمزة واللمزة» الضرب والدفع. ومثل «الهمزة اللمزة» : الوليد بن المغيرة ، الذى كان يغتاب النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ورائه ، ويقدح فيه فى وجهه ، وكذلك أبىّ بن خلف ، وجميل بن عامر الثقفى.

* * *

١٤٤٣ ـ القرين فى القرآن وعلم النفس

القرين Peer : فى علم النفس هو الصاحب أو الزميل ، وهو الذى يقرن به دوما للمشابهة بينهما. والقرين فى «جماعة اللعب» بين الأطفال ، فهو الملازم لقرينه ، وفى «جماعة الأصحاب» توزّع الأدوار بين القرناء بحسب الوسع والقدرات والزعامة. والقرناء يكونون منذ الطفولة ، وتكون لهم تخيّلاتهم وطموحاتهم المتشابهة. والقرين فى اللغة : المقرون بآخر ، والمصاحب ، والعشير ، والزوج ، والنفس ؛ والمؤنث القرينة ، والجمع أقران وقرناء. والفرق بين القرين والصاحب ، أن القرين ألصق بالصفات النفسية المشتركة بين اثنين من الأقران ، بينما الصاحب Companion هو المرافق ، يقال صحبه أى رافقه ، والصاحب لا ينافر صاحبه وهما لذلك يتلازمان. والرفيق Comrade هو الصاحب أيضا ، ومن صفته أن يرفق بصاحبه فينفعه ويعينه ، والجمع رفقاء.

والقرين : مصطلح قرآنى ، وينصرف إلى ثلاثة معان ، فقد يعنى الملك الموكل بالمرء كما فى قوله تعالى : (وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) (٢٤)

٥٤٦

(ق) ، وما لديه هو كتاب عمله ، وقوله ألقيا مثنّى ، لأن كل امرئ ليس له قرين واحد من الملائكة ولكنهما «قرينان» : السائل والحافظ. والملك بالطبع يتجاوز مجالى الخير والشرّAmorality ، ولا يحكم بهما على ما يفعل أو يقول.

وقد يعنى القرين «الصاحب من البشر» ، كقوله تعالى (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) (٥٦) (الصافات) ، وكان قرينه هذا يوعز إليه بالكفر ، فلما كانت الآخرة سأل عنه ووجده فى النار ، فقال مقالته فيه : أنه كاد يضله لو لا ستر الله.

وقد يعنى القرين الشيطان ، كقوله تعالى : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) (٣٦) (الزخرف) ، والعشا هو العمى الليلى ، وهو فى الآية العمى إطلاقا ، والشيطان إذا قيّض كقرين يصاحب قرينه فى الدنيا فيمنعه من الحلال ، ويبعثه على الحرام ، وينهاه عن الطاعة. وفى الخبر أن الكافر يشفع بشيطان ، والمؤمن يشفع بملك ، فهما للكافر والمؤمن قرينان. والقرين إذن يمكن أن يكون قرين سوء أو قرين خير ، ويأتى فى التنزيل ثمانى مرات بمعنى قرين السوء : (فَساءَ قَرِيناً) (٣٨) (النساء). وفى علم النفس كذلك يأتى القرين غالبا فى مجال الشر ، والقرناء هم الشلّة أو العصابة ، والأمر بينهم على السواسية ، وهم جميعا على الآخرين عصبة.

* * *

١٤٤٤ ـ الإنسان بفطرته هلوع جزوع وللخير منوع

من صفات الإنسان الدنيّة : الهلع ، والجزع ، ومنع الخير ، كقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) (٢١) (المعارج) ، وهذه صفات مركوزة فى النفس ، قال أهل التحليل النفسى : إنها من مخلّفات مراحل النمو النفسى الجنسى ؛ وقال أهل علم النفس الجينى : إنها صفات فى الفطرة أو الجبلّة ؛ وقال أهل الطب النفسى إنها من آثار اللاشعور الجمعى والوراثة والبيئة. والهلع فى اللغة أشد الحرص ، وهو أسوأ الجزع وأفحشه ، ولا يصبر الهلوع على خير ولا على شر ؛ لأنه جزوع ، أو أنه يصيبه الجزع من الهلع ؛ والجزوع هو الضّجور وهو شديد الضجر ، والضجر القلق من الغمّ وضيق النفس ؛ والمنوع الذى يمنع الخير عن الناس وينازع عليه ويحرمهم منه. وقيل الهلوع هو الذى إذا مسّه ما يكره انتابه الجزع الشديد ، وإذا ناله الخير بخل به ومنعه الناس ، وفى الحديث : «شرّ ما أعطى العبد شحّ هالع وجبن خالع» ، وهذه علامات غير سوية لنفس غير

٥٤٧

الحديث : «شرّ ما أعطى العبد شحّ هالع وجبن خالع» ، وهذه علامات غير سوية لنفس غير مطمئنة ، وقلقة ، تتوجس الشر ، وتبدأ به ، ونقيضها فى القرآن ضمن بقية السورة : النفس السوية ، وعلاماتها تقوى الله ، ودوام الصلاة ، وإعطاء الزكاة ، والإيمان بالآخرة ، والالتزام بالأخلاق الحميدة (المعارج ٢٢ / ٣٤).

* * *

١٤٤٥ ـ البغض والكره والمقت

البغض : نقيض الحب ؛ والبغيض : المكروه كراهية شديدة ؛ والبغضاء : شدّة الكراهية ، كقوله تعالى : (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) (١٤) (المائدة). فالبغضاء وليدة العداوة ، والعداوة هى الخصومة والمباعدة ، فكلاهما متلازمان ، ولذا قال تعالى : (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ) أى ألصقنا بهم ، مأخوذ من الغراء ، وهو ما يلصق الشيء بالشىء كالصمغ وشبهه ، يريد بذلك طوائف اليهود ، فكأن العداوة والبغضاء صفتان ملتصقتان بهم ، وكأنهما الطبع فيهم ، ومن يلازمه الشيء فكأنه قد التصق به ، مثل قوله تعالى : (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) (٦٤) (المائدة) ، فهم متخاصمون متباغضون ، كما قال : (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) (١٤) (الحشر) ، وهم أبغض خلق الله إلى الناس : (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (٦٤) (المائدة) ، فما من حرب إلا وراءها اليهود ، وما من فساد فى الأرض إلا وكان المروّج له اليهود ، وما كانت رذيلة إلا واتصفوا بها ، وهم أساتذة النفاق ، وأستاذهم جميعا «السامرى» فى قصة موسى ، كقوله تعالى : (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) (٨٥) (طه) ، ثم «يهوذا الأسخريوطى» فى قصة المسيح ، فكان السامرى أول تلميذ يخون معلمه ، ويوقع بقومه. وكان الاسخريوطى أول تلميذ يسلم معلمه إلى أعدائه بثلاثين من الفضة (يوحنا ٦ / ١٥). والسامرى عادى موسى وأبغضه ، وكذلك الاسخريوطى عادى المسيح وأبغضه ، وكانا فى ذلك مثلا للبغض الذى أودى بصاحبه ، وكلاهما كان إذا تكلم بدت البغضاء فى كلامه ، وكذلك كان اليهود كافة ، كلما تحدّثوا إلى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظهر بغضهم ، وفيهم قال تعالى : (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) (١١٨) (آل عمران) ، وفى الآية أن خروج الكلام من الأفواه وليس بالألسنة ، إشارة الى تشدّقهم وثرثرتهم فى أقوالهم ، ومن هذا التشدّق أن يقول قائل اليهود فى سلامه على النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «السام عليك» بدلا من أن يقول «السلام عليك» ، فإما أنه قالها عن عمد ، وإما أنها خرجت منه زلّة لسان ، وزلّات اللسان هى المعبر عن المشاعر المكبوتة ، وفى الحالتين أفصح اليهودى عن بغضه وبغض قومه

٥٤٨

للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفى هذه الآية تنبيه إلى أن الصدور مكان المشاعر المكبوتة ، ولكنها لا تجد طريقها للتعبير من طريق اللسان ، فاللسان للمشاعر الظاهرة ، وأما المشاعر المكبوتة فتظهر فلتات من خلال الثرثرة والتشدق ، وعبّر القرآن عن ذلك بقصر التعبير عن البغضاء على الأفواه ، وهى حالة فوق حالة المتستر الذى تبدو البغضاء فى عينيه ، ومن هذا المعنى نهيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يشتحي الرجل فاهه فى عرض أخيه ، والاشتحاء هو أن يفتح فاهه ، يقال شحى الحمار أى فاه بالنهيق ، وجاءت الخيل شواح ، أى فاتحة أفواهها ، والشحو فى الحديث إشارة إلى معنى التشدّق فى الآية.

والكره ضد الحب ، وهو أقل من البغض ، فإذا اشتد الكره واستحكم تحوّل إلى بغض ، وإذا زاد البغض صار مقتا. والكره والكراهية من كره ، فهو كاره ، والشيء مكروه. وتقول الكره بالفتح وتقصد ما تكره عليه ، كقوله تعالى (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (٨٣) (آل عمران) أى رغبة أو اضطرارا ، والمسلم يؤمن طوعا ، وغير المسلم قد يظهر الإيمان اضطرارا وخوفا كالمنافقين ، والإيمان على المؤمنين غير ثقيل ، ولكنه على غيرهم مستثقل وله وطأة وشدّة ، لأن التزام التكليف مشقة ، فمن آمن تحمّلها إخلاصا ، ومن لم يؤمن اضطر أن يألفها ويمرن عليها ، وإسلام المؤمن لذلك إسلام عبادة ، بينما إسلام الآخر إسلام دلالة ، كقوله تعالى : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (١١) (فصلت) فإتيانهما بكره هو إتيانهما بتسخير ، كما قال : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٤٠) (النحل) ، وأما الكره بالضم : فهو ما أكرهت نفسك عليه ، كقوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) (١٥) (الأحقاف) ، فالكره بالضمة المشقة ، وفى كل القرآن فإن لفظ الكره بالفتح ، إلا فى آية الأحقاف ، والآية الأخرى فى سورة البقرة ، وفيهما أن المشاعر فى الكره بالضم هى مشاعر قهر وكبت وغضب ، فالكره بالضم للمخبر ، بينما الكره بالفتح للمظهر ، وكلاهما من الكراهية. والكره بالضم للمشقة ، والكره بالفتح ما أكرهت عليه. وفى الآية : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٢١٦) (البقرة) ، فإن القتال هو الجهاد ، فكان كرها لأن فيه إخراج المال ، ومفارقة الأوطان والأهل ، والتعرّض بالجسد للقتل والجراح وقطع الأطراف ، فكانت الكراهية له لذلك ، ومثله الذى يتألم ويخاف مع ذلك أن يخلع ضرسه ، أو يبتر الجزء من جسمه المسبب للألم والذى يخشى منه على حياته. فمعنى الكره إذن : أن تأتى الشيء عن اضطرار. وربّ أمر نكرهه وفيه نجاتنا ،

٥٤٩

والإكراه : هو أن تحمل الناس على الشيء يكرهونه ، كقوله تعالى (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) (١٠٦) (النحل) ، ولا يؤاخذ المكره ، وفى الحديث : «يرفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ، ومن استكره على الشرك كان مرتدا فى الظاهر ، وطلاق المكره لا يعتد به ، وكذلك بيع المكره ظلما أو قهرا لا يجوز ، ويبطل نكاح المكره والمكرهة. وإذا استكرهت المرأة الى الزنا فلا حدّ عليها ، ويمين المكره تسقط إذا كانت فى معصية. وفى الآية : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) (٢٥٦) (البقرة) ، أى لا إجبار ، كقوله : (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) (٤) (الشعراء) ، أى أنه تعالى لم يشأ أن يجعل إيمانهم إجبارا ولكن عن طواعية ، ولم يرد لنفسه أعناقا خاضعة ولكن قلوبا خاشعة ، وإذا ذلت الرقاب ذلّوا ، والإخبار عن الرقاب إخبار عن أصحابها ، وقوله تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) قطع بأن الأمر فى العقائد موكول بأصحابها ، وكيف يصبح ما نكرهه وتخضع له الرقاب عقيدة تنشرح لها الصدور ، وتستنير بها العقول؟ وهو تعالى القائل : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (٩٩) (يونس) فالدين اختيار ، والإنسان حرّ أن يؤمن أو يكفر ، وعلى ذلك تترتب المسئولية ، وليس أشق على النفس من الانصياع لما نكره ، والإنسان الصحيح هو من يكره ما ينبغى أن يكره ، ويحب ما يتوجب عليه محبته.

والمقت : أشد البغض ، وكان زواج الابن من امرأة أبيه المتوفى ممقوتا ، وأطلقوا عليه زواج المقت ، لأنه بنى على الكراهية من المجتمع والناس ، ومن الابن الكاره أساسا لزوجة أبيه ، وألغى الإسلام هذا الزواج ونزلت فيه الآية : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً) (٢٢) (النساء) فذمه الله ذما بالغا متتابعا ، لقيامه على المصلحة الخالصة وعلى الكراهية غير المصرّح بها بين أفراد هذا النوع من الزواج ، واعتبره القرآن من الزنا ، وبغّض فيه المسلمين وحرّمه عليهم ، ووصفه بما يجعله من القبح فى الغاية ، وكان العرب رغم إقرارهم به يكرهونه ويتأففون ممن يفعله ، وأطلقوا لذلك اسم «الضّيزن» على الابن الذى يتزوج امرأة أبيه ، ويوازى فى المعنى اسم الزانى بامرأة أبيه ، وأعطوا الوليد من هذا الزواج اسم المقتىّ ، أى ولد الزنا بامرأة الأب.

ولأن المقت صفة نفسية ، فإن الله قد وصف به الأعمال النفسية التى تتنافى مع الآداب ، فقال تعالى (لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) (١٠) (غافر) وهؤلاء المقصودون بالآية هم الذى يتّبعون هواهم ، فلما زال عنهم تأثير نفوسهم وعلموا أنها التى أبقتهم فى المعاصى مقتوها ، ومقت النفوس أبشع المقت ، ويؤدى إلى اليأس والانتحار ، ومقت الله فى الآية هو غضبه.

٥٥٠

الآية هو غضبه.

والنفس اللّوامة من كثرة لومها لنفسها تنتهى بأن تمقت نفسها ، «وكاره نفسه» نمط من أنماط الناس فى الحياة ، ويقابل «نمط المحب لنفسه» الأنانى ، والمحب لغيره ، والفرق بين المحب لغيره وكاره نفسه ، أن الأول لا يعنى حبه لغيره أنه يكره نفسه ، وأما الثانى فبغضه للآخرين يتحوّل عنده حتما إلى بغض لنفسه ، ولا يوجد انسان يبغض نفسه ويحب غيره ، ونمط المنتحر من أنماط المبغض لنفسه ، ولو لا أنه مبغض لنفسه ما حاول الانتحار ، أو ما انتحر فعلا ، وفى الاكتئاب ـ يبغض المصاب به ـ نفسه والناس جميعا. ومقت الله له تصوير لتدنّى منزلته عند ربّه لمّا كفر به ، وللكافر الذى يمقت نفسه أن يتصوّر مقت الله له حينئذ.

والإكراه فى الشرع من شروطه : أن يكون من قادر بسلطان ، كاللص المسلّح ونحوه ، وأن يغلب على المكره الظن أن وعيد الآخرة سينزل به حتما إن لم يجبه إليه طلبه ؛ وأن يكون ما يهدده به مما يلحق به الضرر لو تحقق ، كالضرب الشديد ، أو القتل. وأما الشتم والسبّ فليس بإكراه ، وكذلك أخذ المال اليسير. وأما الضرب اليسير ، فإن كان فى حق من لا يبالى به فليس بإكراه ، وإن كان من ذوى المروءات فهو كالضرب الكثير فى حقّ غيره.

وإن أقرّ الرجل بحقّ ، ثمّ ادّعى أنه كان مكرها لم يقبل قوله إلا ببيّنة.

* * *

١٤٤٦ ـ من علامات المؤمن الطيّب من الأقوال

المؤمن له سماته النفسية ، والقول من هذه السمات ، وهو كالفعل ، ومن سمات المؤمنين كما يقول الله تعالى : (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) (٢٤) (الحج) ، فلأنهم طيبون فكلامهم طيب ، وصراطهم هو الصراط المحمود ، أى الصراط الطيب ، فالطيبة سمة عامة لها مظاهرها فى السلوك والكلام ، ولا يكون المرء طيبا إلا إذا عمر قلبه بالإيمان ، وإلا فالقلب الفارغ لا يكون طيبا ، ولكنه بالقطع سيكون خبيثا ، فحتى لو كان محايدا ، فالحياد تفكير وسلوك سلبيان ، وكل ما هو سلبى فهو خبيث.

* * *

١٤٤٧ ـ عمى القلب

الأعمى من العمى ، ومنه العمى الوظيفى : وهو ذهاب البصر بالكلية ، ويقال له عمى العين ، كقوله تعالى (أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) (٢) (عبس) ، والمقصود به فى الآية عبد الله بن أم مكتوم ، وفيه نزلت أكثر من آية ، وعاتب الله رسوله بسببه ، ومن ذلك قوله : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) (٦١) (النور) فجعل الأعمى من أهل الأعذار ، واعتذر عنه إن قصر عن درجة

٥٥١

الأصحاء فى الأكل أو فى غيره ، وكانوا قبل الآية يتقذّرون الأعمى ويتجنّبون الأكل معه ، لجولان يده فى الطعام ، وظاهر الآية يدل على أن الحرج مرفوع عنه فى كل ما يضطره إليه العذر ، كالغزو ، وكل ما يتعلق بالتكليف الذى يشترط فيه البصر.

ومن العمى ما يسمى عمى القلب ، وهو عمى يتعلق بالإيمان ، وأعمى القلب يعمه فى الضلالة ، كقوله : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٤٦) (الحج) فأثبت للمكذّبين إبصار العيون ، ونفى عنهم أن يدركوا الحق والاعتبار ، وجعل البصر الناظر للمنفعة ، وأما بصر القلب فهو البصر النافع حقا ، وقيل : إن لكل إنسان أربع أعين : عينان فى رأسه للدنيا ، وعينان فى قلبه للآخرة ، فإن عميت عينا رأسه ، وأبصرت عينا قلبه ، لم يضرّه عماه شيئا ؛ وإن أبصرت عينا رأسه ، وعميت عينا قلبه لم ينفعه نظره شيئا ، ويروى أن ابن أم مكتوم سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن كان سيبعث يوم القيامة أعمى كما هو فى الدنيا ، فنزلت الآية : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) (٧٢) (الإسراء) ، و «هذه» المقصود بها الدنيا ، فمن يعمى عن الحق فى الدنيا فهو فى الآخرة أعمى ، كقوله : (قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) (١٢٦) (طه) ، فإنه لمّا اختار عمى القلب فى الدنيا ، جعله الله تعالى أعمى البصر فى الآخرة ، ومن يعمى عن دلالات الله فى وحدانيته وقدرته فى الدنيا ، يعاقب يوم القيامة بعمى البصر (وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى) (١٢٧) (طه) ، وأما من آمن فى الدنيا كحال ابن أم مكتوم ـ فهو بصير القلب فيها ، وبصير العينين والقلب فى الآخرة.

وإمامة الأعمى جائزة ، وكذلك أذانه ، وكان ابن ام مكتوم يؤذّن ويؤم النّاس ، وولّاه النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المدينة فى خروجه لغزوة من الغزوات ، والصلاة فى المسجد واجبة على الأعمى ، وقد أوجبها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ابن أم مكتوم. ويصحّ بيعه وشراؤه إن أمكنه معرفة المبيع بالذوق إن كان مطعوما ، أو بالشم إن كان مشموما ، وإن لم يمكنه ذلك جاز بيعه على أى الأحوال. ولا تجوز شهادته إلا إذا تيقن الصوت وعلم المشهود عليه يقينا ؛ فإن تحمل الشهادة على فعل ثم عمى ، جاز أن يشهد بما أبصر. ولا يجوز قتل الأعمى فى الحرب ، إلا إذا كان حاملا لسلاح ويقاتل مع المقاتلين ، وكانوا قديما يسقطون عنه الجزية ، ولم يكن عليه أن يتحمل شيئا من الدية عن عصبته.

* * *

١٤٤٨ ـ من سمات الكافر

٥٥٢

يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) (٩) (الحج) ، والآية فى الذى يجادل فى الحق اجتهادا من عند نفسه ، ويتّبع هواه ، ومن أوصافه هذه السمة البارزة : إنه إذا تكلم أو أصغى يلوى عنقه ويميل بجانبه صدّا واستكبارا ، كقوله تعالى : (لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) (٥) (المنافقون) ، أو كأنه لم يسمع ، كقوله : (وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) (٧) (لقمان) ، أو أنه يعرض وينأى كقوله : (أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) (٨٣) (الإسراء) ، ثم إنه فى النهاية ينصرف لحال سبيله وكأنه لم يحدث شىء ولم يقع أمر ، كقوله : (ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) (٣٣) (القيامة) ، فهذه سماته غالبا ، وكل من ليس على الحق له طرقه فى السلوك ، يسميها علماء النفس والطب النفسى mannerisms ، لا خلاص له منها إلا بالخلاص أولا من داء المعاندة والمكابرة.

* * *

١٤٤٩ ـ قلوب الكفار لها عشرة أوصاف فى القرآن

وصفها تعالى : بالختم ، وبالطبع ، والضيق ، والمرض ، والرّين ، والموت ، والقساوة ، والانصراف ، والحمية ، والإنكار. فهذه عشرة أوصاف ، ففي الإنكار : (قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ) (٢٢) (النحل) ؛ وفى الحمية : (فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ) (٢٦) (الفتح) ؛ وفى الانصراف : (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (١٢٧) (التوبة) ؛ وفى القساوة : (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) (٢٢) (الزمر) ؛ وفى الموت : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) (١٢٢) (الأنعام) يعنى ميت القلب ؛ وفى الرّين : (رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ) (١٤) (المطففين) ؛ وفى المرض : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) (١٠) (البقرة) ؛ وفى الضيق : (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) (١٢٥) (الأنعام) ؛ وفى الطبع : (فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) (٣) (المنافقون) ؛ وفى الختم : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) (٧) (البقرة).

* * *

١٤٥٠ ـ الشكّ مرض القلوب

(الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) من اصطلاحات القرآن فى علم النفس ، وتتكرر فى القرآن عشر مرات ، ويأتى ترتيبهم بعد المنافقين ، يقول تعالى : (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) (٤٩) (الأنفال) ، ومرض القلوب هو الشك ، والمنافقون هم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ، وأما «الذين فى قلوبهم مرض» فهم دون المنافقين ، وفى قوله : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) (١٠) (البقرة) نفهم أن الشك يورث الجحد والتكذيب ، والمرض عبارة مستعارة للفساد الذى فى عقائدهم ، والمعنى

٥٥٣

الشك يورث الجحد والتكذيب ، والمرض عبارة مستعارة للفساد الذى فى عقائدهم ، والمعنى أن قلوبهم مرضى لخلوها عن العصمة والتوفيق والرعاية والتأييد. والمرض كل ما خرج به الإنسان عن حدّ الصحة ، وأخطر الأمراض ما كان نفسيا ، والقلب المريض لا يعنى أن مرضه عضوى ولكنه نفسى ، فإذا اعتلت النفس لم تر الأمور كما هى وارتابت فيها ، فيزيد مرضها ، ويزيد الشك بها ، وهو الذى يقعد بصاحبه عن أى عمل ، فيضعف عن الانتصار ، ويعجز عن القدرة ، ويكله الله إلى نفسه ، فيجمع عليه هموم الدنيا فلا يتفرغ إلى الاهتمام بدينه. وعلل القلوب من اتّباع الهوى ، كما أن علل الجوارح من أمراض البدن.

* * *

١٤٥١ ـ القلب وفضله على الجوارح

تأتى مادة قلب فى القرآن ١٣٢ مرة ، ويوصف بصفات فيقال : القلب الغليظ ، والسليم ، والمنيب ، والذاكر ، والمختوم عليه ، والمخاصم اللدود ، والآثم ، والمؤمن ، والمريض ، والمهدى ، والمربوط عليه ، والمطمئن ، والمطبوع ، والمرعوب ، والكافر ، والذى لا يفقه ، والزائغ ، والمعتدى ، والمجرم ، والتّقى ، والعاقل ، والأعمى ، والمتقلّب ، وغير العالم ، وبالغ الحنجرة ، والمشمئز ، والكاظم ، والمقفل ، والساكن ، والرائف الرحيم ، والصاغى ، والقاسى ، والمتألّف ، والممحّص ، والخيّر ، والمتعمّد ، والمطهّر ، والمزيّن له ، والأغلف ، والمغلول ، والمشرب العجل ، والمحسور ، وغير المؤمن ، والمغيظ ، والمنافق ، والمصروف ، والمشدود عليه ، والمنكر ، والمكنون ، واللاهى ، والوجل ، والمخبوت ، والمغمور ، والمفزوع ، والليّن ، والجاهل ، والخاشع ، والمشتّت ، والطاهر ، والمريّن. فهذه ستون صفة للقلب ، وذلك دليل على فضل القلب على كل الجوارح. وهو للإنسان ولغير الإنسان ، وخالص كل شىء وأشرفه قلبه ، فهو موضع الفكر ، وأصله مصدر قلبت الشيء إذا رددته على بداءته ، ونقل اللفظ وسمى به العضو الذى هو أشرف الأعضاء ، لسرعة ما يرد إليه من الخواطر وترددها عليه ، كقول القائل :

ما سمى القلب إلا من تقلّبه

فاحذر على القلب من قلب وتحويل

وفى الحديث : «مثل القلب مثل ريشة تقلبها الرياح بفلاة» ، وفى الدعاء : «اللهم يا مثبّت القلوب ، ثبّت قلوبنا على طاعتك» ، وفى القرآن : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) (٢٤) (الأنفال). ورغم أن الجوارح تابعة للقلب وهو رئيسها ، إلا أنه يتأثر بها للارتباط بين الظاهر والباطن ، وفى الحديث : «إن الرجل ليصدق فتنكت فى قلبه نكتة بيضاء. وإن الرجل ليكذب الكذبة فيسوّد قلبه» رواه الترمذى ، وسواد القلب هو الرّين فى

٥٥٤

قوله : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١٤) (المطففين) ، وفى الحديث : «إن فى الجسد مضغة ؛ إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهى القلب» أخرجه مسلم.

والقلب قد يعبّر عنه بالفؤاد ، وبالصدر ، كقوله : (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) (٣٢) (الفرقان) ، وقوله : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (١) (الشرح) ؛ وقد يعبّر به عن العقل ، كقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) (٣٧) (ق).

* * *

١٤٥٢ ـ لقرآن واللواط

اللواطSodomy هو فعل قوم لوط ، أخبرت بهم التوراة لأول مرة فى سفر التكوين ، الفصل الثامن عشر ، العبارات من ٢٠ حتى ٣٣ ، ثم فى الفصل التاسع عشر ، العبارات من ١ إلى ٢٠ ، وجاء تحريم اللواط فى سفر الأحبار ، الفصل الثانى عشر ، العبارة ٢٢ : «والذكر فلا تضاجعه مضاجعة النساء إنها رجاسة» ، ثم العبارة ٢٩ : «لأن من ارتكب هذه الرجاسات تقطع تلك النفوس المرتكبة من بين شعبها ...» يعنى حكمه العزل. وكان اللواط كما تحكى التوراة فى أهل سدوم وعمورة ، وتفشّى فيهم فأمطرهما الله كبريتا ونارا ، سماهما كما جاء فى القرآن رجزا من السماء ، وأحرقت المدينتان وجميع سكانهما بما كانوا يفسقون ، وما تزال آثار مساكنهم باقية فى فلسطين ، وحكى القرآن عن ذلك فقال : (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) (٨٤) (الأعراف) ، وقال : (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) (٨٣) (هود). وقيل : إن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أمر بقتل اللوطى والمأبون ، وفيما رواه ابن عباس أنه قال : «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط ، فاقتلوا الفاعل والمفعول به» ،

٥٥٥

قالها ثلاثا. غير أن ذلك لم يقل به القرآن حيث قال فى جزاء اللواط فى الذكور : أن يؤذى الفاعلان إلى أن يتركا هذه العادة الرذيلة ، وفى الإناث : أن تحبس النساء حتى يتزوجن أو ينتهى أجلهن ، قال : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً) (١٦) (النساء). ولوط فى آيات اللواط أرّخ له فقال إن قومه كانوا أول من فعل ذلك من العالمين ، وعرّفه : أنه إتيان الرجال شهوة من دون النساء ، ووصف ذلك باسم الإسراف الاخلاقى ، ونقيضهم أن لوطا وأهل بيته كانوا متطهرين ، فالمتطهر فى المصطلح القرآنى كالسوى فى المصطلح النفسانى. وشخّص لوط حالة المصابين باللواط بأنه ناتج عن اضطراب فى الشخصية ، والرشد عنده فى قوله (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) (٧٨) (هود) : هو سلامة الشخصية وخلوّها من الاضطرابات كأمثال اللواط. وفى سورة الأنبياء صنّف الله تعالى اللواط ضمن الخبائث ، وسمّى الممارسين له فاسقين (٧٤) ، وفى سورة النمل ردّ ذلك فيهم إلى الجهل ووصفهم بأنهم قوم يجهلون (٥٥) ، وفى سورة العنكبوت أطلق على ناديهم الذى يجتمعون فيه ويأتون ما يأتون اسم «النادى المنكر» (٢٩).

واللواط فى الطب النفسى يطلق عليه اسم الجنسية المثليةHomosexuality ، وهو من اضطرابات الشخصية ، ومن الانحرافات الجنسية الشائعة ، وعقوبته فى القرآن توردها الآية : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً) (١٦) (النساء) ، والإيذاء على تفسير ابن عباس يكون بالشتم والضرب ، وقوله تعالى بعد الأذى : (فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا) أى إن أقلع الفاعل والمفعول به ، ونزعا عمّا كانا عليه ، وصلحت أعمالهما وحسنت : (فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) أى لا تعنفوهما بعد ذلك ، لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له (إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً) ، فلا يعيّرهما أحد بما كانا يصنعان قبل التوبة.

واللواط يكون بين الذكر والذكر ، كما يكون بين الانثى والانثى homosexuality Female. والإنسان منذ أن يكون جنينا اثنينى الجنسية ، أى يجمع فى نفسه بين الميل إلى الذكور والميل الى الإناث ، وبه عضوا الذكورة والأنوثة معا ؛ وله من الهرمونات ما هو ذكرى وما هو أنثوى بنسب تختلف من فرد لآخر ، فإذا اكتمل الجنين انفرقت فيه الجنسية الذكرية عن الجنسية الأنثوية ، وغلب عليه إما الطابع الذكرى أو الطابع الأنثوى ، وتكون له اتجاهات وتفكير هذا أو ذاك ، إلا أن كل جنس يظل به شوق إلى الآخر ، وأن

٥٥٦

يتحد أو يكتمل فى وحدة اثنينية ، إلا اللوطى مثلىّ الجنسية ، فإنه يهفو إلى مثله وليس للجنس الآخر ، وينشأ ذلك الميل عن اضطرابات فى شخصيته أو فى تكوينه. وبعض الممارسين للواط تكون ممارستهم له بحكم الظروف كما هو الشأن مع المساجين والرهبان ، وبعضهم يجمع بين ممارسته وممارسة الجنسية الغيريةheterosexuality وهى الجنسية السوية. وبعضهم يكون به هذا الميل باعتباره فاعلا ، وبعضهم يأتيه باعتباره مفعولا به وهو المأبون. والجنسية عند الأول تسمى اللواطة ، وعند المأبون تسمى الإبانة. وقد تكون اللواطة والإبانة كامنتين أو مستورتين لا يدرى بهما اللوطى أو المأبون ، وقد تكونا ظاهرتين ومفضوحتين. وبعض المصابين بالجنسية المثلية يعانون من اضطرابات نفسية واضحة ، وبعضهم قد يبدو فى أكمل صحة نفسية ، والجنسى المثلى فى كل الأحوال إنسان مريض لا شك فى مرضه ، سواء فى توافقه أو فى تقديره لنفسه ، أو فى دفاعاته الشخصية. ولبعض هؤلاء مظهر الإناث الضعيف ، وبعضهم قد يبدو على فحولة واضحة ، ولا دخل للمظاهر البدنية فى الدور الجنسى الذى يفضله هذا أو ذاك ، ويذكر التاريخ من المشهورين من المصابين باللواط أصحاب الغزوات والفتوحات والجبروت والسلطان : نيرون ، ويوليوس قيصر ، والإسكندر الأكبر ، وفيليب المقدونى ، وإدوارد الثانى ملك انجلترا الذى كانوا يلقبونه عن جدارة الملك اللوطى.

واللوطى sodomite أوhomosexual أنانى ، ويكبت الكراهية للناس ، ويضمر لهم العداء ، ويشكو الاضطهاد ، وكثيرا ما تأتيه نوبات من الاكتئاب والقلق. وكان ابتلاؤه بالجنسية المثلية منذ الطفولة نتيجة تعيّن فاشل بأحد الأبوين ، فبدلا من أن يتعين الولد بأبيه فإنه يتعيّن بأمه ، وبدلا من أن تتعين البنت بأمها فإنها تتعين بأبيها ، وينشأ على ذلك حتى النضوج فيسعى لإشباع الجنس فيه إلى شريك من جنسه ، فالرجل ينجذب إلى الرجال ، والمرأة تنجذب إلى النساء. وللبيئة دور فى تأمين التربية والتنشئة السليمة للطفل منذ ولادته ، وللوراثة دور فى أن يكون إنجاب الطفل بلا عيوب خلقية أو خلقية. وعلاج الجنسية المثلية المعروفة باسم اللواط تجاوزا لا يختلف عن العلاج الذى وصفه ربّ العزة له فى سورة النساء الآيتين ١٥ و ١٦ ، وذلك شىء ينفرد به القرآن ، والأذى الموصوف فى القرآن يقابله بلغة العصر عن أهل الطب النفسى ما يسمى بالعلاج بالتنفير ، بالإشراط المنفر ، لإطفاء الاستجابات الجنسية المثلية غير المرغوب فيها وإنشاء استجابات بديلة غيرية الجنسية وهى الاستجابات المطلوبة. والعلاج القرآنى يتوافق مع العلاج الحديث ولا يتعارض معه البتة ، والقرآن لا يتناقض والعلم أبدا ، وكل قضية علمية وردت فى القرآن يثبتها العلم الحديث

٥٥٧

ويدلل عليها ، ونحن مطالبون بالأخذ بالعلم لما فيه من فوائد ومزايا ، ولأنه الدليل البرهانى على صدق قرآننا وأنه من لدن عزيز حكيم ، ولله الحمد والمنة.

* * *

١٤٥٣ ـ القرآن واللواط الأنثوى

اللواط الأنثوى Female homosexuality لم تذكره التوراة ، ولا الإنجيل ، وانفرد القرآن بالتحذير منه ، ووصمه بالفحش ، فيقول : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) (١٥) (النساء) ، فجعل ممارسة هذه الفاحشة عند النساء جماعية لأنها فى الغالب تتم جماعية ، بينما جعل اللواط الذكرى عند الذكور بين كل اثنين منهم فقال : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) (النساء ١٦).

واللواط الأنثوى من اضطرابات السلوك الشاذ ، وينبئ عن علّة نفسية فى المرأتين اللتين تمارسانه ، وتقوم إحداهما بدور الذكر ، بينما الأخرى تقوم بدور الأنثى. والمرأة الذكر لها مواصفات الذكورة ، وتمتاز ببسطة فى الجسم ، وجرأة ، وفيها الكثير من العنف ، وصوتها كالرجال ، وتعلو المرأة الأخرى فى الفعل الجنسى ، وتنفق عليها من مالها ، وتدرأ عنها العدوان من الآخرين ، وتغار عليها ، بينما الأخرى لها سمت الإناث المستدق ، وسلوكها أنثوى يتسم بالسلبية ، وتنشد من زميلتها الرعاية والحماية والمحبة ، وتتلقى عنها وتأتمر بأمرها ، وتغار عليها إذا انصرفت عنها الى أخرى. وفى اللواط الأنثوى تفرك المرأة عورتها فى عورة الأخرى ، وتدعكها بها ، وتدعسها ، وتهيج بظرها ، وتداعبها أثناء ذلك ، باللعق والتقبيل والتحضين والتحنين حتى تمام بلوغ الهزة من كلتيهما. وقد تعاود اللوطية الذكر الفعل كالرجال وتنهك اللوطية الأنثى. ويطلق الأخصائيون على ممارساتهما اسم السحاق ، من السحق وهو الدقّ الشديد فى الفعل الجنسى. وبلغة الطب النفسى هو اللزبيانيةLesbianism ، نسبة الى جزيرة لزبوس الإغريقية ، وكانت فيها النساء من أتباع الشاعرة سافوSapho يمارسنه ، فيسمى السحاق أيضا باسم هذه الشاعرةSaphism.

وشرط القرآن فى المساحقة أن يشهد على المرأتين أربعة ، أنهما كانتا تمارسانه مع بعضهما ، وعلاج القرآن لذلك هو العزل فى البيوت ، وإبعاد المرأتين عن زميلات السوء ، والعزل أو الاستبعاد هو أقصى ما يقدمه القرآن منذ ألف وخمسمائة سنة ، واستنته التوراة كذلك (الأحبار ١٨ / ٢٩). ويوازى العزل الآن الإيداع فى مستشفى للعلاج. ويستمر هذا الإيداع إلى ما شاء الله ، إلى أن تشفى المرأة مما بها ، ويتغير سلوكها ، وتقبل الزواج ممن يرضى بها. والقرآن بالعزل يصادق على العلاج الطبى النفسى المعاصر ، ويؤيده ويسبقه ، وعلينا أن نبنى على هذه الآية بما نقترحه من أساليب العلاج ، وأن نطوّر هذه الأساليب

٥٥٨

باستمرار كلما منّ الله علينا بكشوف علمية ونظريات نفسية جديدة. والله المستعان ، وله الحمد والمنّة.

* * *

١٤٥٤ ـ إتيان المرأة فى دبرها لواط

نهى الله عن اللواط (الأعراف ٨٠ / ٨٤) ، وفى التعريف فإن اللواط هو أن يأتى الذكران الذكران فى الدّبر ، ومنه لواط آخر يأتى فيه الرجال النساء فى الدبر ؛ وهذا اللواط كان جماعة من المهاجرين أيام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمارسونه ، ولم يكن يفعله الأنصار ، فقد كان اليهود يسكنون إلى جوارهم ، وفى التوراة اللواط بصنوفه حرام ، وكذلك فى الإسلام وفى النصرانية ، واستهجن الأنصار لواط هذا النفر من المهاجرين ، قال ابن عباس فيما أخرج الحاكم والبيهقى وأبو داود : كان الأنصار يساكنون اليهود ويرون لهم فضلا عليهم فى العلم ، ويقتدون بكثير من فعلهم ، وكان من أمر اليهود ألّا يأتوا النساء إلّا على حرف ـ يعنى على جنوبهن ، فكان الأنصار يفعلون مثلهم ، بينما كان المهاجرون يشرحون النساء شرحا منكرا ، ويتلذذون منهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات ، وحدث أن تزوج رجل من المهاجرين امرأة من الأنصار ، فذهب يصنع بها ذلك ، فأنكرته عليه وقالت : إنما كنا نؤتى على حرف ، فاصنع ذلك وإلا فاجتنبنى ، حتى شرى أمرها ـ أى عظم واشتد ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزل قوله تعالى : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) (البقرة ٢٢٣).

وقالت أم سلمة زوجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرج أحمد والبيهقى : لمّا قدم المهاجرون المدينة على الأنصار تزوّجوا من نسائهم ، وكان المهاجرون يحبون نساءهم ـ من التحبية وهى أن تضع المرأة يديها على الأرض وتنكبّ على وجهها وتقوم على ركبتيها. وكان الأنصار لا يحبون ، فأراد رجل من المهاجرين امرأته على ذلك ، فأبت عليه حتى تسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأتته ، فاستحت أن تسأله ، فسألت أم سلمة ، فنزلت الآية : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) ، والحرث فى قوله (حَرْثٌ لَكُمْ) هو موضع الولد ، وقوله (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) أى كيف شئتم مقبلة ، أو مدبرة ، فى صمام واحد ، فعن جابر قال : كان اليهود تقول : إذا جامع الرجل امرأته من ورائها جاء الولد أحول ، فنزلت : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) ، وعن جابر أيضا : أن اليهود قالوا للمسلمين : من أتى امرأة وهى مدبرة ، جاء الولد أحول فأنزل الله الآية ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مقبلة ومدبرة إذا كان ذلك فى الفرج» ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تأتيها على كل حال إذا

٥٥٩

كان فى الفرج». وعن عبد الله بن سابط دخل على عمّته حفصة بنت عبد الرحمن بن أبى بكر وسألها فى استحياء عن إتيان النساء فى أدبارهن فقال : حدثتنى أم سلمة ان الأنصار كانوا يحبون النساء ، وكانت اليهود تقول : إنه من أحبى امرأته كان ولده أحول ، فلما قدم المهاجرون المدينة نكحوا نساء الأنصار ، فأحبوهن ، فأبت امرأة أن تطيع زوجها وقالت : لن تفعل ذلك حتى آتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدخلت على أم سلمة فذكرت لها ذلك فقالت : اجلسى حتى يأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فلما جاء استحت الأنصارية ، فخرجت ، فسألته أم سلمة ، فقال : ادعى الأنصارية ، فدعتها ، فتلا عليها هذه الآية : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) وقال : «صماما واحدا» ـ يعنى فى مكان واحد هو الفرج. وعن ابن عباس أن رجلا جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله هلكت! قال ««ما الذى أهلكك؟» قال : حوّلت رحلى البارحة ـ يعنى أنه لم يأت امرأته فى قبلها ، فلم يردّ عليه النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأوحى الله إليه هذه الآية : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) ، وقال له : «أقبل وأدبر ، واتق الدبر والحيضة» رواه أحمد. وعن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «استحوا إن الله لا يستحى من الحق : لا يحل أن تأتوا النساء فى حشوشهن» ، وفى رواية أخرى قال : «لا تأتوا النساء فى أعجازهن» ، وشرحه ابن عباس : يعنى والمرأة قائمة ، وقاعدة ، ومقبلة ومدبرة ، فى قبلها ـ أو فى أقبالهن ـ ولا تعدوا ذلك الى غيره». وعن أبى جويرة قال : سأل رجل عليا عن إتيان المرأة فى دبرها فقال : سفلت سفل الله بك! ألم تسمع قول الله عزوجل : (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) (الأعراف ٨٠). وسئل ابن عمر : ما تقول فى الجوارى : أيحمّض لهن؟ قال : ما التحميض؟ فذكر الدبر ، فقال : وهل يفعل ذلك أحد من المسلمين؟!! وهو قول حقّ أى أخى المسلم وأختى المسلمة ، ولمّا سئل مالك بن أنس : ما تقول فى إتيان النساء من أدبارهن؟ قال : ما أنتم إلا قوم عرب! هل يكون الحرث إلا موضع الزرع؟! لا تعدوا الفرج!

* * *

١٤٥٥ ـ القرآن يعزر المتشبّه والمتخنث بالإخراج والنفى

التشبّه والتخنث : من الانحرافات الجنسية ، وشأنهما شأن اللواط والسحاق ، وفى الصحيح عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لعن الله المتشبّهين من الرجال بالنساء ، والمتشبّهات من النساء بالرجال» ، وعند أبى داود برواية أبى هريرة قال : «لعن الله الرجل يلبس لبسة المرأة ، والمرأة تلبس لبسة الرجل» ، وعن ابن عباس فيما أخرج البخارى قال : «لعن الله المخنّث من الرجال ، والمترجّلة من النساء» ، وعن ابن عمرو بإخراج أحمد قال : «ليس منا من تشبّه

٥٦٠