موسوعة القرآن العظيم - ج ٢

دكتور عبد المنعم الحفني

موسوعة القرآن العظيم - ج ٢

المؤلف:

دكتور عبد المنعم الحفني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
ISBN: 977-208-422-2
الصفحات: ١٢٤٤
الجزء ١ الجزء ٢

وإنما فعلنا ذلك لتأييد شريعته ، وجوّزوا وضع الكذب لتثبيت ما ورد فى القرآن والسنّة ، واحتجّوا بأنه كذب له لا عليه! وقالوا : فى الحديث : «من كذب علىّ ليضل به الناس فليتبوأ مقعده من النار» ، وفى القرآن : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ) (١٤٤) (الأنعام). وهم كذبوا حقا وإنما ليهدوا لا ليضلّوا ، وهذا هو عذرهم ، والعذر أقبح من الذنب ، فمن يضمن أنهم سيكذبون ليهدوا؟ وما هو فهمهم للهداية؟ ويهدون إلى ما ذا؟

* * *

١٣٤٧ ـ ربّ مبلّغ أوعى من سامع

المسلم مبلّغ ومبلّغ ، ولا يستنكف مسلم أن يبلّغ ما يسمع من العلم ، ولا يتقاعس عن أن يأخذ عن المبلّغين ، وأن يكون مبلّغا ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) (٦٧) (المائدة) ، والخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن بعده لكل مسلم قد خلفه ، كقوله : (إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ) (٢٣) (الأحقاف) ، وكل علم هو رسالة من الله تعالى واجبة التبليغ. وفى الحديث : «ربّ مبلّغ أوعى من السامع وليبلّغ الشاهد الغائب» أى ربّ مبلّغ عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفهم لما يقول من سامع قد سمع منه شخصيا ؛ وفى المعنى العام أن المبلّغ بالعلم من غير عالم ، والغائب الذى يسمع بالعلم من آخر شهد أهل العلم واستمع لهم ، قد يدرك به تطبيقات ومجالات من الفهم أوسع وأكثر ممن سمعه منهم مباشرة. وليست العبرة بما نسمع ونشهد ونقرأ ، ولكن العبرة بما يتخلّف من القراءة والسماع والرؤية ، والناس فى الفهم متباينون ، فهناك من يسمع ويرى ولا يجدى معه ما يسمع وما يرى ، كالأرض الصلبة ينزل عليها المطر فيسيل عنها ولا يبقى منه شىء لها تفيد منه ؛ وهناك من يسمع ولا يفيد إلا القليل ، كالأرض السبخة يرويها المطر ولكنها لا تتقبل الزرع بها إلا قليلا ، وأما الأرض الجيدة فهى التى ينمو فيها الزرع ويصحّ ، فكذلك الناس ، فمنهم الواعى الذى يعقل ما يسمع ، والأوعى منه وهو الذى ينفعل به ويدعو إليه لأنه ينفع الناس ، فهكذا المسلم العالم الداعية المبلّغ.

* * *

١٣٤٨ ـ العالم يعلم ويعلم

العلماء ثلاثة : العالم العامل المعلّم : كالأرض الطيبة شربت الماء فانتفعت به فى نفسها وأنبتت فنفعت غيرها ؛ والعالم الجامع للعلم : المستغرق فيه لزمانه ، غير أنه لم يعمل به ، ولم يتفقه فيما جمع ، ولكنه أدّاه لغيره ، فهو بمنزلة الأرض التى يستقر فيها الماء فينتفع الناس به ، وهو المشار إليه بقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نضّر الله امرأ سمع مقالتى فأدّاها كما

٤٤١

سمعها» ؛ والثالث : هو العالم السامع للعلم فلا يحفظه ، ولا يعمل به ، ولا ينقله لغيره ، فهو كالأرض السبخة لا تقبل الماء ، وتفسده على غيرها. وأولى الناس بعلم العالم أهله ، وتعليم العالم لأهله من أحسن الأعمال. ومن مناهج العلم فى الإسلام التناوب فى العلم ، وكان عمر بن الخطاب يفعل ذلك ، فإذا غاب كلف صاحبا له ليحضر مجلس العلم عند الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وينقل إليه ما علم. ومن وصايا النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأهل العلم : «ارجعوا إلى أهليكم فعلّموهم» ؛ ومن وصايا أهل العلم لبعضهم البعض : لا ينبغى لأحد عنده شىء من العلم أن يضيّع نفسه فالعلم ينجى. وفى الحديث : «إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل» ، ولا يرفع العلم انتزاعا ينتزعه الله من أهل العلم ، وإنما كما فى الحديث : «ويقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالم ، اتخذ الناس رءوسا جهّالا ، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلوا» ، وقد نصح النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمين فقال : «خذوا العلم قبل أن يقبض أو يرفع». ولمّا دعا لابن عباس قال : «اللهم علّمه الحكمة وتأويل الكتاب» ، فلم يدع له بالمال والسلطان وإنما بالعلم. وفى رواية أنه ضمّه وقال : «اللهم علّمه الكتاب» ، وكان ابن عباس فى الرابعة أو الخامسة ويتلقى عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يدع مجلس علم إلا يحضره ؛ ومثله ابن الزبير وكان فى الثالثة أو الرابعة ، وكان الصبيان يحضرون مجالس العلم ، وليس تحديد الخمس سنوات أو الأربع شرطا للحضور ، ولكنها مظنة ، وكانوا يرسلون أبناءهم للشيوخ فى سن الثالثة إذا كانوا قد فهموا. ولا يهمّ كثيرا فى دعوة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن عباس أنه ـ أى ابن عباس ـ كان من أكبر مروّجى الإسرائيليات من بعد!

* * *

١٣٤٩ ـ علم الإنسان ما لم يعلم

يولد الإنسان على الفطرة ، قيل : يولد صفحة بيضاءtabula rasa ، لم ينقش بها شىء ، وقيل : بل الفطرة تعنى أن كل خبرات النوع والجنس مسطورة فى شفرته الجينية ، وهو تعليمه تعالى للإنسان ، كقوله تعالى : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) (٣٢) (البقرة) ، وقوله : (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) (٥) (العلق) ، والعلم مشاع ويختص الله به من يصطفى ، كقوله : (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (٦٥) (الكهف) ، وقوله : (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) (٢٥١) (البقرة) ، (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ) (يوسف ٦٨) ، إلا أن العلم يتنزّل من الله قليلا ، وكلما أراد ، بحسب استعداد الإنسان وظروف العصر والمصر : (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (٢١) (الحجر).

* * *

٤٤٢

١٣٥٠ ـ لا يتعلم العلم مستح ولا مستكبر

الاستحياء من الحياء ، كقوله : (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ) (الأحزاب ٥٣) وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) (البقرة ٢٦) ، والاستحياء الانقباض عن الشيء والامتناع عنه خوفا من مواقعة القبيح ، وهذا محال عن الله. غير أن الحياء من الإيمان ، ومنه الشرعى الذى يكون عن إجلال واحترام للأكابر ، والمذموم الذى يكون سببا لترك أمر شرعى ، وهو ليس حياء فى الحقيقة ولكنه ضعف ومهانة. والمتعلّم عليه أن يترك العجز والتكبّر. وقد امتدحت عائشة نساء الأنصار لما سألت أم سليم إذا كان على المرأة أن تغتسل إذا احتملت؟ فقالت : نعم نساء الأنصار! لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن! وكانت عائشة تظن بداية أن أم سليم فضحت النساء بسؤالها ، ثم صححت نفسها وأبدت إعجابها. وقد يستحى أحدهم فيطلب من غيره أن يسأل بدلا عنه وذلك جائز ، على أنه لاحياء فى العلم والدين.

* * *

١٣٥١ ـ أول العلم الاستماع ثم الإنصات

يقول تعالى : (فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) (الأعراف) ، فتحصيل العلم بالاستماع والإنصات لأهل العلم ، فأما «الاستماع» فيكون مع السكون ، أو مع النطق بكلام يمنع المتكلم من الاشتغال بالاستماع للعلم ، وأما «الإنصات» فهو السكون ، ويحصل ممن يستمع وممن لا يستمع على السؤال ، كأن يفكر فى أمر آخر يصرفه عن الاستماع وإن كان ساكنا. وفى الأثر : «أول العلم الاستماع ، ثم الإنصات ، ثم الحفظ ، ثم العمل ، ثم النشر». وقيل إن المرء ليستمع أولا ، ثم ينصت ، والاستماع بالأذنين ، وأما الإنصات فهو بالعينين ، فأنت إذا حدّثت رجلا فلم ينظر إليك بعينيه اعتبرته غير منصت.

* * *

١٣٥٢ ـ من سمع شيئا فراجع حتى يعرفه

لم يكن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينهى عن المراجعة فى العلم ، وهكذا يجب على كل عالم ، والمناظرة أجازها الله تعالى : قال : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (١٢٥) (النحل) وعند المسلمين يجوز مقابلة السنّة بالكتاب ، والسؤال عن مثل هذا لم يدخل فيما نهى الصحابة عنه فى قوله تعالى : (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) (المائدة). وفى الحديث عن حفصة أنها لمّا سمعت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا يدخل النار أحد ممن شهد بدرا والحديبية» ، قالت : أليس الله يقول : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) (٧١) (مريم)؟ فردّ عليها النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال عن ربّه : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ

٤٤٣

اتَّقَوْا) (٧٢) (مريم)! وسأل الصحابة لمّا نزلت : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) (٨٢) (الأنعام) : أيّنا لم يظلم نفسه؟ فأجابهم : «إن المراد بالظلم الشرك» .. وكانت عائشة لا تسمع شيئا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه ، فلمّا قال النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حوسب عذّب» ، قالت عائشة : أو ليس يقول الله تعالى : (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) (٨) (الانشقاق)؟ فردّ عليها : «إنما ذلك العرض ، ولكن من نوقش الحساب يهلك». وفارق بين من يسأل ليراجع فى ما استشكل عليه ولم يفهمه ، ومن يسأل تعنّتا كما قال تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) (٧) (آل عمران).

* * *

١٣٥٣ ـ لا تكتموا العلم

تعليم العلم وإذاعته تؤكده الآية : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ) (١٥٩) (البقرة) ، وهى عامة فى كل من كتم علما ، وفى الحديث : «من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نارا» أخرجه ابن ماجة ، ويعارضه الحديث برواية ابن مسعود : «ما أنت بمحدّث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة» ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حدّث الناس بما يفهمون» ، وهذا الكلام محمول على بعض العلوم ، كعلوم الحكمة ، وعلم الكلام ، أو أى علم من العلوم التخصّصية كالطب والهندسة إلخ ، مما لا تستوى فى فهمه العوام ، فحكم العالم أن يعلّم ما يفهمه الناس ، وأن يتولى الشرح لهم ، وأن يكون مقاله بحسب المقام ، وأن ينزل الناس منازلهم بحسب استعداداتهم واحتياجاتهم ورغبتهم فى تحصيل العلم. وهذه الآية استشهد بها العالم الكبير أبو هريرة لمّا لاموه أنه كثير الحديث عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : لو لا آية فى كتاب الله ما حدثتكم حديثا ، ـ والآية التى يقصدها هى آية كتمان العلم السابقة ، وبها استدل العلماء على وجوب تبليغ العلم الحق ، وتبيانه على الجملة. وتحقيق هذه الآية : أن العالم إذا قصد كتمان العلم كما يفعل علماء الغرب ـ عصى الله ، والإسلام يحضّ أهل العلم إذا سئلوا العلم أن يبلّغوه ، وفى الحديث : «لا تمنعوا الحكمة أهلها فتظلموهم ، ولا تضعوها فى غير أهلها فتظلموها» ، ونسبوا إلى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديثا لم يقله ولكنه من أمثال عيسى عليه‌السلام ، فقيل إنه قال : «لا تعلّقوا الدرّ فى أعناق الخنازير» ، وأصله فى إنجيل متّى : «لا تعطوا القدس للكلاب ولا تلقوا جواهركم قدّام الخنازير» (متّى ٦).

* * *

١٣٥٤ ـ من لم يخشى الله فليس بعالم

العلم علمان : علم عقيم ، وعلماؤه يكتفون بالعلم ولا يسألون : وما ذا بعد أن علمنا؟

٤٤٤

وعلم منتج ، حيث العالم يخلص بما علم إلى نتائج لم يكن يبلغها لو لم يعلم. والعلم يجيب عن الكيف والكم ، ولكنه لا يجيب عن : لما ذا؟ إلا طبقة من العلماء العابدين ، عرفوا الله بالعلم ، ولم يتوقفوا عند مجرد الإحاطة بالكيف والكم ، وهؤلاء تقصدهم الآية : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (٢٨) (فاطر) ، فلأنهم عرفوا ، أقدروا الله حقّ قدره ، وخافوا قدرته ، ومن علم أن الكون له صاحب وهو خالقه ومبدعه ، وأنه عالم ولكن ليس كالعلماء ، فأهل العلم يختصون بالجزئيات ، والله عالم محيط بكل شىء ، فإنهم يجلّونه ويقدّسونه ، ومعنى خشيتهم له معرفتهم به ، ومن لم يعرف الله فليس بعالم ، وهى قضية تماثل قولنا : من لم يخش الله فليس بعالم : فالعالم هو من يعرف الله فيخشاه ، وكفى بخشية الله علما ، وبالاغترار جهلا. وأفقه العلماء هو أتقاهم لربّه ، ولا خير فى علم لا عبادة فيه ، ولا خير فى عبادة لا علم فيها ولا قراءة ولا تدبّر ، وفى الحديث : «إن الله وملائكته وأهل سماواته وأهل أرضه ، والنون (أى الأسماك) فى البحار ، يصلّون على الذين يعلّمون الناس الخير» ، ولا بارك الله فى علم يتعلم علماؤه لغير العبادة ، ويطلبون به الدنيا. وأن يستعمروا ويستولوا ، ويضطهدوا ، ويستعلوا فى الأرض. وليحذر علماء المسلمين أن يكونوا مثل هؤلاء ، ولا تزال أمة الإسلام بخير طالما كان علماؤها يخشون الله ، ومن خشى الله زاده علما ، والعلم لا يكون اكتسابا فقط ولكنه لمن يفتح الله عليه به ، والذى يفتح الله به ليس هو العلم العقيم. وأفضل العلماء الذى يعلّم ، ويعمل بما يعلّم ، ويعلّم ما يعلم ، والعلماء أصناف كما فى الحديث : «مثل ما بعثنى الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا ، فكان منها نقية قبلت الماء فانبتت الكلأ والعشب الكثير ؛ وكانت منها أحادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا ؛ وأصابت منها طائفة أخرى ، إنما هى قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه فى دين الله ونفعه ما بعثنى الله به فعلم وعلّم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذى أرسلت به» ، فكما أن الغيث يحيى البلد فكذا العلم يستنهض العقول الراكدة ، ويحيى القلوب الميتة. والآخذون بالعلم المقبلون عليه ـ كما قلنا ـ كالأرض المختلفة فى تلقّيها للماء ، فمنهم العالم العامل المعلّم ، فهو بمنزلة الأرض الطيبة شربت فانتفعت فى نفسها ، وأنبتت ونفعت غيرها ، وهذا الذى يخشى الله ويعلم ، ويعمل ، ويعلّم ، يقصد بذل نوال رضاه. ومنهم الجامع للعلم الذى لا يعمل به ، ولا يخلص له ، ولا يخدّم به الله ، ولم ينفع به نفسه ولكنه يؤدّيه للناس كما علمه ، ويعلّمه غيره ، فهو بمنزلة الأرض التى يستقر فيها الماء فينتفع الناس به. ومنهم من يسمع العلم فلا يحفظه ، ولا يعمل به ، ولا ينقله لغيره ، فهو كالأرض المستوية الملساء التى لا تقبل الماء وقد تفسده على غيرها.

* * *

٤٤٥

١٣٥٥ ـ من يرد الله به خيرا يفقهه فى العلم

هذا القول المشهور من حديث النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويثبت الخير لمن ينفقه فى العلم ، ولا يكون العلم بالاكتساب فقط ، بل لمن يفتح الله عليه به. وفى الحديث : «لا حسد إلا فى اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسلّط على هلكته فى الحق ، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يتّقى بها ويعلّمها». والحسد تمنّى زوال النعمة ، ولكن الحسد فى الحديث هو الغبطة ، وأطلق عليها الحسد مجازا ، وهى أن يتمنى الحاسد أن يكون له مثل ما لغيره من غير أن تزول عنه النعمة ، والحرص على هذا منافسة ، فإن كانت فى الطاعة فهى محمودة ، كقوله : (فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) (٢٦) (المطففين) وإن كانت فى المعصية فهى مذمومة ، ومنها قول النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تنافسوا» ، وإن كانت فى الجائزات فهى مباحة.

* * *

١٣٥٦ ـ كتابة العلم

العلم للتوثيق ، وكتابة العلم من أولى واجبات أهل العلم ، ولا يبعد وجوبه على من يخشى عليه النسيان ، والكتابة لا تكون إلا بالعدل ، أى بالحق ، كقوله : (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ) (٢٨٢) (البقرة) ، ويستوى فى ذلك أن يكون الكاتبون من البشر أو من الملائكة أيضا : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ) (١١) (الانفطار) ، والله تعالى أحرص على أن ينزل وصاياه فى كتاب كقوله فيه : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) (١) (هود) ، وأطلق على الكتاب المرجع اسم «أم الكتاب» ، كقوله : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (٣٩) (الرعد). وفى الإسلام لم يكن هناك من هو أكثر اشتغالا بالتعليم ـ من الرجال ـ من «أبى هريرة» ، ومن النساء من عائشة بنت أبى بكر ، وكانا يتصديان للفتوى والتعليم إلى أن ماتا ، ويظهر هذا من كثرة ما روى عنهما. وكان من العلماء الكاتبين عبد الله بن عمرو ، وقد استأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يكتب بيده ما يسمع منه فأذن له ، وقال عبد الله : كنت أكتب كل شىء سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومما قاله له النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اكتب ، فو الذى نفسى بيده ما يخرج منه إلا الحق». وقد كره جماعة من الصحابة والتابعين كتابة العلم ، واستحبوا أن يؤخذ عنهم حفظا كما اخذوه حفظا ، لكن لمّا قصرت الهمم ، وخشى العلماء ضياع العلم دوّنوه.

وقيل إن أول من دوّن العلم من العلماء : ابن شهاب الزهرى على رأس المائة ، بأمر عمر بن عبد العزيز ، ثم كثر تدوين العلم بعد ذلك ، ثم التصنيف ، فحصل الخير الكثير.

* * *

٤٤٦

١٣٥٧ ـ العلم لينتفع به

فى الحديث : «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى فى النار .. فيجتمع إليه أهل النار ، فيقولون : يا فلان ، مالك؟ «ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، فيقول : بلى ، قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه ، وأنهى عن المنكر وآتيه». وفى القرآن فى هذا المعنى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٤٤) (البقرة) والآية تنكر على الناس أن يخالفوا حقائق المعانى ، وتوبّخهم بسبب ترك البرّ وهم يعلمونه من كتبهم ، وهؤلاء هم أهل العلم يقولون ما لا يفعلون. والبرّ هو العمل الصالح. والعلم والعمل متقارنان. ولم يقل فى الآية وأنتم تقرءون الكتاب وإنما قال وأنتم تتلونه ، والتلاوة أشدّ لأنها تعنى الاتّباع ، ولأن الكلام يتبع بعضه بعضا ليأتى على نسقه.

* * *

١٣٥٨ ـ الوحى : هل هو حقيقة علمية؟

الوحى من الحقائق العلوية ، وصارت المدارس المتشبهة فى برامجها بالبرامج الأوروبية لا تعتمد فيما تقدم من دراسات إلا ما يخدم الفهم العقلى ويقوّى فى التلاميذ المنهج الوضعى التجريبى ، ولذا فقد ينكر خريجو هذه المدارس الوحى ويتأبّون على الموافقة عليه ويذهبون فى تفسيره مذاهب مادية. ولكى نفهم الوحى كما تنزّل على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكما وردت الآيات فى القرآن ، علينا أولا أن نبدأ بالتعريف به ، وهو فى الشرع : كلام خفىّ من الله لمن يصطفى ، وقد يكون إلهاما ، كما فى الآية : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) (٦٨) (النحل) ، والآية : (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) (١٢) (فصلت) ؛ أو يكون كالرؤيا كما وقع لإبراهيم ، يقول : (يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) (١٠٢) (الصافات) ؛ أو يكون بواسطة ملك فى هيئة رجل كما فى قوله : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) (١٧) (مريم) أى فى صورة آدمية ؛ أو رآه على صورته الملكية ، كقوله : (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) (١٣) (النجم) ، قالت عائشة : رآه أى رأى جبريل ، ولم يره فى صورته إلا مرتين ، مرة عند سدرة المنتهى ومرة فى أجياد ، وله ستمائة جناح قد سدّ الأفق» أخرجه الترمذى ، أى رآه فى صورته الحقيقة كما خلقه الله. ومن الوحى ما يكون بالقلب ويسمونه الوحى الجلىّ كما فى قوله : (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى) (٣٨) (طه) فهو يتنزّل على القلب بالعلم الضرورى ، فلا يملك الموحى إليه دفعا له. وفى التوراة ، فى سفر العدد ، يأتى : «كان على بلعام أن ينطق بما وضعه الله فى فمه» (٢٤ / ٣ و ١٣ و ١٥ و ١٦) ؛ وفى سفر إرميا يأتى : ومدّ الربّ يده ولمس فمى (١ / ٩) ، وكان بولس يرى أنه يتكلم من روح الله وقال : إنه يقدم

٤٤٧

للكنيسة وصايا الربّ» (كولوسى ٢) ، والوحى فى الأناجيل يعنى أن أشخاصه لا يتكلمون باسمهم ، والفرق بين الوحى فى التوراة والأناجيل والوحى فى الإسلام : أنه فى الإسلام له خصوصية لم تكن له فى أى من الديانتين السابقتين ، فالعلاقة بين جبريل والنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن لها مثيل فى هاتين الديانتين ، وفى القرآن يأتى قوله : (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) (٤) (التحريم) ، وقوله : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ) (٩٧) (البقرة) ، وفى الأثر أن اليهود سألوا النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن اسم صاحبه الذى ينزل عليه بالوحى ، فقال : «جبريل» ، قالوا : فإنه عدو لنا ولا يأتى إلا بالحرب والشدّة والسنة (أى القحط) والقتال ، فنزلت : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) الآية : وجبريل من الجبر والتجبّر ، وتتضح المؤامرة على الإسلام منذ ذلك الحين فى هذا التفسير ، فأن يكون ملك محمد ، يعنى بالنسبة لهم أن محمدا قد أتى بالسيف! فهذه هى الفرية التى روّجوا لها من زمنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومن الإسرائيليات فى الحديث عن وقعة خيبر ، أن جبريل بعد الخندق جاء إلى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مغبّرا فقال له : أوضعت سلاحك؟ إن الملائكة لم تضع سلاحها! وأمره أن يتجه إلى يهود خيبر! وكأن خيبر كانت بأمر جبريل وليست بسبب نقض اليهود للعهد؟! وأما القرآن فيصحّح هذه الفكرة عند اليهود عن جبريل وميكال فيقول : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) (٩٨) (البقرة). واليهود كانوا يريدون أن يكون ملكه ميكائيل ، وهو بالعبرية يعنى الذى يأتى بالرحمة والمطر والنبات والرزق. ونسأل : ألم يأت المسيح بذلك فلم يتقبلوه؟ ـ ونعود إلى الوحى والوحى أشدّ من الإلهام ، وفى التنزيل : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (٨) (الشمس) أى جعل فى النفس الخير والشرّ ، وأن يميّز بينهما فيختار فى حرية أيهما شاء ، ويسأل عمّا اختار وفعل. والدليل العلمى على صحة الوحى أننا قد نوحى لبعضنا البعض ونقبل على فعل الشيء أو نعزف عنه. وعلماء التحليل النفسى استخدموا الوحى فى التنويم المغناطيسى ، ومن هذا النوع التجريبى من الوحى ما يتم بعد اليقظةWaking suggestion ، وما يتم بعد التنويم hypnotic suggestion post ـ ، ومنه الوحى المباشر وغير المباشر ، والسالب ـ لمحو سلوك معين مثلا أو منعه ، والموجب ، والجمعى أو الجماهيرى ، والذاتى auto suggestion الصادر عن الشخص نفسه ، والغيرى hetero ـ suggestion ، الصادر من كلمات أو اتجاهات أو أفعال الآخرين ، والاجتماعى من الشخص لآخر. وفى الطب النفسى يعالجون الناس بالوحى ، ومن أئمة العلاج به كوويه الفرنسى ، وكان يوحى إلى المريض أنه فى تحسّن مستمر ، ويدفعه إلى أن يوحى إلى نفسه بأنه يتحسّن باستمرار. وتترتب على الوحى عند

٤٤٨

الأنبياء ظهور المعجزات وهى الأفعال الخارقة. وقيل الآيات لله ، والمعجزات للأنبياء ، والكرامات للأولياء وأخيار الناس ، وكل ذلك مصدره الوحى أو الإلهام. والفرق فى ذلك أن المعجزة للنبىّ مأمور أن يظهرها بينما الواجب على الولىّ أن يستر كراماته ويخفيها. والنبىّ يحتج بمعجزته ويثبت بها أنه يوحى إليه ، وكرامة الولىّ يحتج بها على نفسه لتطمئن وتوقن ولا تضطرب ، والقرآن دليل المعجزة بالنسبة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ ودليلها عند مريم ، ولم تكن نبيّة ، أن قيل لها : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) (٢٥) (مريم) ، فالوحى إذن حقيقة علمية ، وليس فى القول به فى الإسلام وعند غير المسلمين أيما تثريب. وكذلك الإلهام الذى ورد فى سورة الشمس لا تمارى حقيقته ، وليس فى القرآن شىء من الوحى أو الإلهام يمكن أن يمارى فيه العلم ، أو يصادم نظرياته. واكتشاف فليمنج للبنسلين كان بالإلهام ولم يكن بالتدبير ، وكذلك خوارق الأطفال المعجزين. ويأتى الإلهام كالتنوير ، مثلما كان عند نيوتن ، عند ما صاح فجأة «وجدتها». وكان اكتشاف ديكارت للهندسة التحليلية ، وكيكول لفكرة الشكل الحلقى لجزىء البنزين ، وهنرى بوانكاريه لحساب التفاضيل والتكامل بتأثير الإلهام. وبعض الملاحدة الذين لا يؤمنون بالله لا يدرون من أين يأتيهم الإلهام ، وقال موتسار إنه ـ أى الإلهام ـ كالوحى. وأهل العلم يعرّفونه بأنه تفكير حدسى ، والمؤمنون ينسبونه إلى الله وهذا هو الفرق.

* * *

١٣٥٩ ـ لأنه خلق كل شىء لزم أن يعبده كل شىء

الناس فى أيامنا جعلوا لله شركاء ، بدعوى أنهم صاروا يخلقون كما يخلق الله ـ كهؤلاء العلماء الملاحدة الذين اشتركوا فى ميلاد النعجة «دوللى» ، والدين لا يتعارض مع العلم ، وللعلم أن يبلغ مداه فى مجاله ، ولكن القول بأنهم يخلقون مثل الله ، وأن الإنسان خالق ، مسألة تتجاوز العلم إلى الفلسفة ، وهنا يكون الجدال وليس الجدل ، والجدال فيه سفسطة ، ولكن الجدل قوامه المنطق والحق ، والقضية التبست على هؤلاء ، وتشابه الخلق عليهم ، فالله يخلق من عدم وبلا مثال ، وهؤلاء يخلقون بخلق الله ، فقوانين الخلق ، ومداد الخلق ، والعقول المفكّرة فى الخلق ، جميعها لله ، وفيهم يقول تعالى : (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (١٦) (الرعد) ، و «لأنه خلق كل شىء فلزم أن يعبده كل شىء» ، والآية ردّ على هؤلاء القدرية الذين يزعمون أن بقدرة الإنسان أن يخلق كل شىء ، وهذا كذب وافتراء ، فالله غالب لكل شىء ، ويغلب فى مراده كل مريد ، وهو واحد ـ كان قبل كل شىء. ولو خلق هؤلاء النعجة دوللى ، فهل بوسعهم أن يخلقوا سماء كالسماء ، أو أرضا كالأرض؟ وإنما الخلق الحق لله إلزاما للحجة ، إن لم يقولوا ذلك وجهلوا من هو الله ،

٤٤٩

فبمنطقهم ـ طالما أن لكل شىء خالقا ، فالخالق هو من خلق كل ذلك ، والله هو ذلك الخالق ، فيلزم أن نخلص له العبادة ، وهو إلزام صحيح.

* * *

١٣٦٠ ـ لما ذا تكثر فى القرآن القضايا العلمية الكونية : هل القرآن كتاب علمى؟

الجواب : أن القرآن بما أنه كتاب من عند الله فلا يمكن أن تأتى به عبارة واحدة تخالف الواقع العلمى للكون ، وما ورد فى القرآن من ذلك كثير ، ولو كان من عند محمد لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ، ولارتاب المبطلون ، وإنما كان القرآن آيات بيّنات فى صدور الذين أوتوا العلم ، من هؤلاء العالم الجليل الدكتور زغلول النجار ، وهو بحر من العلم ، سواء فى علوم القرآن أو علوم الكون ، وانظر مثلا إلى قضية تولّد المطر من السحاب ، وتصادمه فى شحنات سالبة وموجبة ينتج عنها البرق ، ويتخلّق بها الماء ، فهذه قضية لم يعرفها العلم إلا مؤخرا ، وبعد بحوث مستفيضة ومتقدمة ، ونبّه إليها القرآن وأوجزها فى الآيات : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) (٤٣) (النور)! وقضية أخرى منطقية ثبتت بالدليل العلمى المتقدّم جدا ، أن بصمة كل إنسان تختلف عند الواحد عن الآخر ، فلا تتشابه البصمات ، فالله تعالى جعل لكل إنسان فردية خاصة ، ولم نكتشف ذلك إلا مؤخرا ، فاستعنا بالبصمة على التعرّف إلى الشخصية وتعيين الهوية : فأن ينفرد القرآن بذلك سواء من ناحية المنطق أو بالعلم ، فى الآية : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) (٤) (القيامة) فذلك إعجاز علمى لا يمارى ، وبرهان منطقى لا جدال فيه. ومع ذلك فالقرآن ليس كتابا فى العلوم ، ولا فى المنطق ، والفلسفة ، والحكمة ، ولم يتنزّل لينتصر لنظريات على نظريات ، وإنما هو كتاب فى الدعوة إلى الله ، وهو يستعين لإظهار دعوته بالآيات الكونية ، ويصوغ عنها عبارات معجزة الكلمات ، ويستنفر المسلم الذى يؤمن به أن لا يمر على آيات الكون دون أن يدرك أسرارها ، ويعى عنها ، ويفهم أسبابها ، ويفيد بها ، كقوله : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) (٢٠) (العنكبوت) ، وقوله : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١٠١) (يونس) ، وقوله : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) (٤٦) (الحج) ، وقوله : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١٣) (الجاثية) ، فمن الدعوة إلى الله أن يكون الإنسان المستخلف لله فى الأرض على علم بأسباب الله ، وأن يعمر الأرض بالعلم كما قضى بذلك الله ، ولأن يكون مسلما قويا واعيا فاعلا ، خير من أن يكون مسلما ضعيفا مسكينا مستعبدا ، والعلم الذى هو أداته فى الوجود الفاعل هو ميراثه عن الله تعالى ، ليخرجه به من الظلمات إلى النور ، ومنهجه لتحقيق

٤٥٠

ذلك يلخّصه النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقول : «المؤمن القوى خير من المؤمن الضعيف ، وفى كلّ خير. احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ولا تعجز ، وإن أصابك شىء فلا تقل : لو أنى فعلت كذا كان كذا وكذا ، ولكن قل : قدّر الله وما شاء فعل ، فإنّ «لو» تفتح عمل الشيطان». رواه مسلم عن أبى هريرة. وهى دعوته إلى تطبيق العلم الصراح. ومادة «علم» تأتى فى القرآن ٧٤٥ مرة ، ولا شىء من ذلك إطلاقا فى التوراة ولا فى الأناجيل. والقرآن يحضّ على استخدام العقل ، ويستحث على التعقّل ، وتأتى مادة «عقل» فيه ٤٩ مرة ، ويأتى قوله «لعلكم تعقلون» ثمانى مرات ، ولا شىء من ذلك البتة فى كتب التوراة أو العهد القديم ، ولا فى كتب الأناجيل أو العهد الجديد. فكيف إذن قول اليهود والنصارى : أن الإسلام ضد العلم أو ضد العقل؟ إن يتّبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ، وما عقلوا القرآن ولا الإسلام ، ويحسبون أنهم على شىء وهم كاذبون ، ومن أظلم ممن افترى الكذب ، وكذّب بالحقّ ، ليضلّ الناس بغير علم.

* * *

١٣٦١ ـ الدلالة العلمية للآيات الكونية

القرآن ليس كتابا فى العلوم ، ولكنه مع ذلك لا يتصادم مع العلم ، والآيات العلمية فى القرآن تنتصر للعلم المكتسب وليس العكس ، لأن العلم المكتسب يقوم على التنظير فى القضايا التى لا تخضع لحسّ الإنسان وإدراكه الحسّى ، كقضايا الخلق والإفناء وإعادة الخلق ، وتكثر النظريات فى ذلك ، وأكثرها يدفع إليها الإلحاد ، إلا أن نتائجها الإيمانية توافق آيات القرآن ، وذلك دليل على صحة هذه النتائج ، وعلى أن من ذهبوا إليها كانوا على الطريق الصحيح فى الكشف والاستنتاج وإن كانوا قد بدءوا منكرين للألوهية ، وبعد أن كانوا يقولون مثلا أن الكون ثابت ، وأنه أزلى ولا نهائى ، ينفون بذلك الخلق والآخرة والمعاد ، اضطروا بما أجروا من تجارب إلى القول بأن الكون كانت له بداية ، وأنه يسير حتما إلى نهاية ، وأنه كما بدأ فإنه يعود ، والقرآن نبّه إلى ذلك منذ ألف وأربعمائة سنة ، فقال : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) (٣٠) (الأنبياء) ، يؤكد أن هذا الكون الذى نحيا فيه هو كون مخلوق ، وأنه تعالى خلقه من جرم ابتدائى واحد عالى الكثافة كانت فيه السماء غير متمايزة عن الأرض ، وهو ما عبّرت عنه الآية بالرتق ، ثم كان الفتق ـ وهو الانفجار ، ويسميه أهل الفلك «الانفجار الكبيرThe Big Bang» ، فتحوّل هذا الجرم إلى دخان ، وتأدّت الحرارة الشديدة المصاحبة لذلك إلى تفاعلات نووية ، تكونت بها عناصر أولية كالإيدروجين والهيليوم. والرتق فى اللغة هو الضم والالتحام ، ونقيضه الفتق وهو الفصل والانشقاق والانشطار. وفى الرتق كما قلنا

٤٥١

يزيد الضغط والحرارة فتؤدى زيادتهما المستمرة إلى الفتق ، ومع تكوّن العناصر تكونت الأرض والسماء ، مصداقا للآية : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (١٢) (فصّلت). ومع الانفجار الكبير تمدد الكون وتضخّم بسرعة فائقة تضاءلت مع الزمن إلى معدلاتها الحالية ، ولكن هذا التمدّد لن يستمر للأبد ، فالكون ليس كونا منفتحا آليا كما يقول الملحدون ، وتؤكد حسابات الكتل المفقودة بأن الكون مصيره إلى الانغلاق ، وأنه على ذلك كون مغلق ، أى له نهاية ، وأن التمدّى سيتوقف عند لحظة فى المستقبل ، يعود بعدها إلى الانكماش والتكدّس والانطواء والتقارب والالتحام ، وهى مرحلة الرتق الثانية ، فيعود سيرته الأولى ، بحسب غلبة قوى الجذب فيه على قوى الدفع إلى الخارج ، وينطوى الكون على نفسه ، ليعود إلى حالة الكثافة اللانهائية الأولى التى بدأ بها ، وهو المعبّر عنه فى الآية : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) (١٠٤) (الأنبياء) ، والآية : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٤٨) (إبراهيم) ، وذلك ما يسميه الفلكيون «الانسحاق الكونى العظيم The Big Crunch».

وهذه الدلالات العلمية للآيات الكونية لم يتبينها الإنسان إلا بعد نزول القرآن بألف وأربعمائة سنة كما ذكرنا ، أو أن القرآن قال بها منذ ذلك الوقت البعيد يوم كانت البشرية فى عماء علمى كامل ، ومن ذلك فى سفر الخروج من التوراة ، فى الفصلين الأول والثانى ، أن الكون ساكن ثابت فى مكانه ، لا يتغير ، وأن النجوم ثابتة فى السماء التى تدور بها حول الأرض ، وأن الكون كله مركب من عناصر أربعة هى الماء والهواء والتراب والنار ، وبذلك تختلف الصورة العلمية فى القرآن للكون عن مثيلتها فى التوراة ، مما يدل على أن كلام القرآن هو كلام الخالق وليس كلام بشر ، وأن محمدا الذى تنزّل عليه القرآن وبلّغه ، هو رسول من عند الله تعالى يوحى إليه. وقد شهد العلم بصدق القرآن فى كل ما ورد فيه من قضايا علمية ، وبأن آياته قد صيغت بحيث يفهم منها كل عصر ما يتناسب مع مستواه العلمى ، وهذه معجزة أخرى للقرآن ، وما تزال عجائب القرآن ومعجزاته تتضح الحين بعد الحين ، كلما اتسعت دائرة المعارف الإنسانية.

* * *

١٣٦٢ ـ من الآيات الكونية الدالة على وجود الله ووحدانيته

الإعجاز العلمى فى القرآن ، وكذلك الإعجاز العلمى فى الأحاديث النبوية ، يحتاجان

٤٥٢

إلى مجلدات ، وفى هذا الباب «القرآن والعلم» نحاول أن نلفت النظر إلى بعض الآيات المتضمنة للإعجاز دون الآيات كلها ، ونبيّن ما فيها ، وما تشير إليه ، وما تتضمنه.

ومن الآيات التى تتضمن إشارات إلى الإعجاز العلمى للقرآن ، ومن ثم تشتمل على الدليل على وجود الله وعلى وحدانيته ، الآية : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) (١٢٥) (الأنعام) ، وفيها يقابل الله تعالى بين ضيق صدر الكافرين بالهداية ، وضيق صدر الذى يصعّد فى السماء بغير وسائل واقية ، فمن أين يتسنّى للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعرف هذه الحقيقة العلمية ، والعلوم فى وقته لا ذكر فيها لذلك ، إلا أن يكون مبدع القرآن هو الله الذى خلق هذا الكون ، وهو أعرف بما فيه؟ وفى علوم الفلك : أن للأرض غلافا غازيا يمتد ثلاثة كيلومترات فوق سطح الأرض ويمكن للإنسان أن يتواجد فيه ، فإذا ارتفع عن ذلك ١٦ كيلومترا فإن هذا الجزء حتى نصفه يمكن للإنسان أن يعيش فيه بصعوبة ، فتعترى خلاياه الاضطرابات نتيجة نقص الأوكسيجين وانخفاض الضغط الجوى ، ويعانى صعوبة فى التنفس ، فإذا ارتفع عن ذلك كان لا بد له أن يرتدى حلة كحلل رواد الفضاء لتحميه ، وإلا بدأ صدره يضيق حرجا كما تقول الآية ، وتبدأ كل وظائف الجسم فى التوقف ، وتتمدد الغازات فى الجسم وأنسجته وتنفصل عنه ، وتتسبب فى آلام مبرحة ، وفى صدمة عصبية ، وزرقة فى الجسم ، وشلل جزئى ، ويتوقف القلب والرئتين ، وهذه حقائق تضمنتها الآية وأشارت إليها ولم يبينها إلا العلم الحديث ، فنعلم بذلك عظمة القرآن ، وأنه كتاب لا يمكن أن يكون قد ألّفه بشر ، وندرك عظمة خالقه سبحانه ، وأنه عالم قادر لا مثيل له ، ولا ند ، ولا شبيه.

* * *

١٣٦٣ ـ السماء فى القرآن والعلم

تتكرر لفظة السماء فى القرآن ١٢٠ مرة ، وجمعها السموات ويتكرر لفظه ١٩٠ مرة ، وقال تعالى عن السماء : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً) (٢٢) (البقرة) ، وبناء السماء كما يقول العلم ، كما لو كانت السماء سقفا للأرض : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) (٣٢) (الأنبياء) ، وتشمل السماء كل ما فوق منطقة المناخ من الأرض ، وهى المنطقة التى توجد فيها السحب وتأتى منها الأمطار ، وتلحق بالأرض ، وأما ما بعدها فهو من السماء ، أو بالأحرى من السموات ، جعلهن الله سبعا طباقا (نوح ١٥) ، يعنى طبقات فوق بعضها البعض ، ولا تقوم على عمد وإنما تجمعها القدرة ، وتشدّها بعضها إلى بعض الجاذبية ، ولها أقطار (الرحمن ٢٩) ، ويقع قطر السموات عند نهاية قطر الأرض وبعد منطقة

٤٥٣

المناخ ، وجميع السموات تتطابق حول مركز واحد ، وهى مجموعات فلكية ، منها مجموعتنا الشمسية ، وتدخل ضمن مجموعات أكبر هى المجرات وكأنها الحشود ، والشمس أكبر كواكب هذا البناء ضمن المجموعة الشمسية ، وهى من الخارج عبارة عن كتلة غازية ملتهبة ومشتعلة ومضيئة بذاتها ، سمكها ثلثا نصف قطر الشمس ، وتدور حول مركز الشمس فى نحو ٢٤ يوما ، بينما قلب الشمس يدور كجسم صلب ، وتستغرق دورته ٣٦٥ يوما ، وتقدر درجة حرارتها بنحو ٥٨٠٠ درجة مطلقة ، ودرجة حرارة اللّب نحو ١٥ مليون درجة ، ودرجة حرارة الهالة أو الإكليل بنحو ٢ مليون درجة ، وتتكون من غاز الإيدروجين (٧٠ خ) والهيليوم (٢٨ خ) وعناصر أخرى (٢ خ) وتجرى الشمس ـ تجرّ معها مجموعتها ـ نحو نقطة محددة فى كوكبة هرقل (كوكبة الجاثى) بالقرب من النسر الواقع Vega ، بسرعة تقدر بنحو ١٩٥ كيلومتر فى الثانية ، وتجرى حول مركز مجرتنا بسرعة ٢٥٠ كيلومترا فى الثانية لتتم دورتها فى نحو ٢٥ مليون سنة. والمجموعة الشمسية بحسب قربها من الشمس تتكون من عطارد ، والزهرة ، والأرض ، والمريخ ، وهذه كواكب صخرية ، والمشترى ، وزحل ، ويورانوس ، ونبتيون ، وبلوتو ـ وهى كواكب غازية ، وبالإضافة إلى عدد من مدارات المذنبات والأقمار التوابع وآلاف الكويكبات. وهذه الكواكب جميعها تدور حول الشمس فى اتجاه واحد ، وفى مستوى واحد ما عدا بلوتو ، وفى مدارات إهليلجية. والمسافة بين الأرض والشمس نحو ١٥٠ مليون كيلومترا. وتكوّن المجموعة الشمسية بالإضافة إلى حشد من النجوم يقدّر بنحو التريليون (مليون مليون) ، ما يسمى باسم مجرة الدرب اللّبنى أو درب اللبّانة ، وتشد الجاذبية هذه الكوكبة فتتحرك كجسم واحد. وبمجرة درب اللبانة نحو عشرين مجرة ، بعضها حلزونى ، وبعضها بيضانى ، وهناك مجرات أكبر مثل مجرات برج العذراء ، وتكوّن تجمعا أكبر يقال له الحشد المجرّى المحلى الأعظم ، ويضم نحو المائة من الحشود المجريّة ، وتبدو كروية. وفى النجوم تصنّع مختلف صور المادة ، وتعتبر هذه النجوم لذلك أفران الصهر الكونية. وهناك غير ذلك السدم Nebulae ، والمادة بين النجوم ، والمادة الغامقة ، ويقدر الجزء المدرك من السماء الدنيا بمائة ضعف كتلة المادة والطاقة والأجرام المرئية والمحسوسة فيه ، والمقدّر أننا لا ندرك إلا أقل من عشرة فى المائة من الجزء الذى وصل إليه علمنا من السماء الدنيا ، وذلك قوله تعالى : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (٨٥) (الإسراء) ، وقوله : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٥٧) (غافر). سبحانه!

* * *

٤٥٤

١٣٦٤ ـ السموات السبع والأرضين السبع

من معجزات القرآن تحديده للسماء بأنها سبع سماوات ، وللأرض بأنها سبع أرضين ، فقال تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) (١٢) (فصّلت) ، وقال : (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) (١٢) (الطلاق) ، وقال : (خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) (٣) (الملك) ، وقال : (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) (١٢) (النبأ) ، وقال : (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) (١٧) (المؤمنون) ، ومن هذه الآيات عرفنا أن السموات سبع تأكيدا ، وهى متطابقة حول مركز واحد ، يغلف الخارج منها الداخل. ويصف القرآن الحركة فى السماء بالعروج ، أى الانحناء ، وثبت علميا أن حركة الأجسام فى الجزء المدرك من الكون ليست فى خطوط مستقيمة ، بتأثير الجاذبية والمجالات المغناطيسية ، كقوله : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) (١٤) (الحجر) ، وقوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٥) (السجدة) ، فلو أن الإنسان ـ فرضا ـ تحرك حول الجزء المدرك من السماء الدنيا ـ وهذا مستحيل فى حدود إمكاناته. فإنه لا بد أن يعود إلى النقطة نفسها التى بدأ منها ، مما يثبت كروية السماء الدنيا ، وكروية السموات السبع التى تطابقها. والسرعة المطلوبة للإنسان ليفعل ذلك لا يطيقها إلا بأمر الله ، وأما بالنسبة للملائكة والجن ، فذلك ممكن ، لأنها مخلوقات ليست مادية من طين كالإنسان ، وكذلك الروح إذا خرجت من البدن فتزيد سرعتها كما قال تعالى : (مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (٤) (المعارج). ويتضح من ذلك تحدّب المكان والزمان ، وأن السموات يغلف الخارج منها الداخل ، وأننا لا نرى من ذلك سوى الجزء المدرك وهو محدود ، ولذا فليس لنا سوى أن نصدّق القرآن والحديث لأنهما الوحيدان اللذان أخبرانا عن ذلك فى حدود العلم ؛ وكذلك الأرض فإنها سبع أرضين. والأرض من كواكب المجموعة الشمسية التسعة ، وهى الثالثة بعدا عن الشمس ، ومتوسط قطرها ١٢٧٤٢ كيلومتر ، ومتوسط محيطها ٤٠٠٤٢ كيلومتر ، ومساحة سطحها ٥١٠ ميليون كيلومتر ، وأقصى ما استطاع الإنسان أن يصل إليه من عمق الأرض لم يتجاوز ١٢ كيلومتر ، وما توصل إليه هو بضع استنتاجات ، منها : أن للأرض نواة صلبة مصمتة من الحديد وبعض النيكل وعناصر من الكبريت والفوسفور أو السليكون ، ويبلغ قطر هذه النواة ٢٤٠٠ كيلومتر تقريبا ، وتعرف باسم «اللّب الصّلب للأرض» ، ويليها إلى الخارج نطاق من نفس التركيب ولكنه منصهر ، ويسمى «لبّ الأرض السائل» ، ويبلغ سمكه نحو ألفى كيلومتر ، وبين اللّبّين منطقة انتقالية سمكها ٤٥٠ كيلومتر ؛ ويلى ذلك ما يعرف باسم «وشاح الأرض» ، ويبلغ

٤٥٥

سمكه نحو ٢٧٦٥ كيلومتر ، ويقع تحت سطح الأرض من عمق ١٢٠ كيلومتر إلى ٢٨٨٥ كيلومتر ، وهو عبارة عن ثلاثة نطق ، تقسم الوشاح إلى وشاح سفلى ، ومتوسط ، وعلوى ، والنطاقان الأخيران يكونان ما يعرف باسم «نطاق الضّعف الأرضى» ؛ ويلى الوشاح إلى الخارج «الغلاف الصخرى للأرض» ، ويصل سمكه من ٦٥ كيلومتر تحت قيعان المحيطات ، إلى ١٢٠ كيلومتر تحت القارات ، ويقسمه خط الانقطاع الاهتزازى المسمى «الموهو» إلى نطاقين ، الخارجى يشكل «قشرة الأرض» ، ويتراوح سمكها بين ٨٠٥ كيلومتر تحت قيعان المحيطات ، وبين ٢٠ إلى ٨٠ كيلومتر تحت القارات بمتوسط ٣٥ كيلومتر. وهذه النطق عددها سبعة ، هى : لب الأرضى الصلب ، ولب الأرض السائل ، ووشاح الأرض ، ونطاقا الضعف الأرضى ، ثم نطاقا الغلاف الصخرى ، وهذه النطق السبعة هى المقصودة بالأرضين السبع ، فسبحان خالق السموات الأرض ، وجاعلهن سبعا سبعا! وسبحان منزّل القرآن وفيه الخبر عمّا لا يعرف الإنسان ، تأكيدا أن هذا الكتاب من لدنّ الله ، نزّله على عبده فلم يكتم منه شيئا ، فكان ما جاء به القرآن عن آيات الكون مصدقا لكشوفنا فيه ، وهو لذلك مصدّق كذلك لكل ما حوى القرآن من أوامر ونواه ، وأخبار عن الجنة والنار والحساب والبعث ، فهى حقّ مطلق لا ريب فيه.

* * *

١٣٦٥ ـ الإعجاز فى الآية : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ

بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ)٦ ق

ينبّه القرآن إلى أن السماء بناء محكم ، لا نقص فيه ولا خلل ، ورغم ارتفاعاتها المذهلة فإنها بلا عمد تحملها ، بينما الكواكب والنجوم تزينها وقد ترابطت معا فى اتساق. وأى بناء يمكن أن يأتيه النقص أو تقع له الفروج والتصدّعات ، إلا السماء لأنها خلق الله. ولمّا اكتشف العلماء منذ عدة سنوات أن بالسماء المنظورة مناطق مظلمة تماما تخلو من النجوم وتجمّعاتها ، سمّوها مجازا بالفراغات أو الفجوات ، فظن البعض أن القرآن قد أخطأ ، وأن الآية : «ومالها من فروج» ليست من العلم فى شىء ، إلا أن الدراسات الفلكية الحديثة أثبتت صواب القرآن ، وأنه كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وأنه «لا فراغات فى الكون» ، وأن ما حسبوه فراغات أو فجوات ، تمتلئ بالدخان الكونى والأشعة الكونية ، قد يكون بها من صور المادة والأجرام الخفية ما يفوق كتل المجرات المحيطة بها ، وذهب العلماء إلى أن هذه المناطق المظلمة تتكون أساسا من المواد الداكنة الباردة ، وتحتوى على نجوم خانسة ذات كثافات فائقة ، وهى التى تسمى «الثقوب السوداء» ، وأنها تنتشر فى الكون ،

٤٥٦

ومن أساسيات نظامه وتماسك بنائه. والحق أن الكون طالما يتمدّد ويتّسع باستمرار نتيجة تباعد المجرات عنا ، وعن بعضها البعض ، فإن المادة والطاقة يتولدان باستمرار لملء هذا الاتساع ، فمع تواجد المكان يتواجد الزمان ، وإذا تواجد المكان والزمان تخلّقت المادة والطاقة. وتنفى المادة الموجودة فى الكون إمكان أن توجد به فراغات ، وليس صحيحا أن أجرام السماء تسبح فى فراغ تام ، وأثبتت الدراسات الحديثة أن المسافة بين النجوم وتجمعاتها تنتشر فيها الأشعة الكونية والجسيمات الأولية والدخان الكونى وما يحمله من هباءات الرمال ، بالإضافة إلى ما يعرف بالمادة الداكنة ، وتتركب من جسيمات ثقيلة تمثل نوعا من الخيوط الكونية التى تربط بين الأجرام ، وتحمل الأوامر الكونية كما تحملها لبنات الشفرة الوراثية فى أجساد الكائنات الحية. وعلى ذلك فلا وجود لفراغات مدّعاة فى الكون ، ولا لفروج فى السماء ، وسبحان من قال ممتنّا على عباده : (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) (٣) (الملك) ، يعنى أنها لا فوت فيها فيقع الخلل بسببه ، ولا فطور بها ، أى فروق ، فيحدث التشقق والتصدّع ، وسبحان من أنزل القرآن بهذه الحقائق منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة وكان الناس فى جهل شديد ، ولم تتضمن التوراة والأناجيل شيئا من ذلك.

* * *

١٣٦٦ ـ (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ)١٣ الجاثية

تسخير السموات فى عهد النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن شيئا ، ولا يوجد مثل هذا التعبير فى الأناجيل ولا فى التوراة ؛ والتسخير : تكليف بالعمل فى خدمة هدف بدون أجر ، والمقصود بتسخير السموات هو استخدامات الفضاء كما فى صناعات الطيران ومركبات الفضاء ، والبث عبر الأقمار الاصطناعية ، ومن فوائد هذا التسخير ثورة المعلومات ، وسهولة انتقالها ، والتجسس بواسطة الأقمار الاصطناعية فى الحروب ، والتنبؤ بالأحوال الجوية ، وفوائدها للزراعة والمواصلات البحرية والجوية ، واستخدامات الإنترنت فى الطب والصناعة والتجارة والتعليم والدعاية ، واستخدامات الطاقة الشمسية فى الزراعة وتنقية المياه والتدفئة ، ولو لا العلم الحديث ما عرفنا معنى التسخير ، فالعلم الحديث كاشف لمعانى القرآن وإعجاز آياته ، وما كان لمحمد أن يحيط علما بهذا التسخير منذ ألف وأربعمائة سنة ، وذلك دليل على صدق القرآن ، وأنه من لدن عليم خبير ، وعلى صدق النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه من رسل الله تعالى.

* * *

٤٥٧

١٣٦٧ ـ (رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها)٢ الرعد

الآية حجة كونية مرئية على وجود الله ، فالسماء نراها مرفوعة ، ووصفها الله تعالى فقال : «بغير عمد ترونها» ، ولم يقل : «ترونها بغير عمد» ، والأولى إثبات للعمد ترفع السماء دون أن يراها الإنسان ، والثانية إثبات بأن السماء مرفوعة كما يراها الإنسان بغير عمد ، وفارق بين المعنيين ، والآية القرآنية أثبتها العلم الحديث ، وأكد أن السماء ترتفع بالجاذبية ، وأن الجاذبية تمسكها أن تقع ، وأن ينهدم بناؤها الشاسع ، كقوله : (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (٦٥) (الحج) ، والأولون قالوا : إن العمد هى الضرورة ، وهى غاية علمهم ؛ والمحدثون قالوا : إنها «الجاذبية العظمى» ، وتتألف من قوى ، منها القوى النووية الشديدة : التى تربط جزئيات المادة ، وتدمج وتلحم نوى الذرات مع بعضها البعض ، والقوى النووية التى تتحكم فى فناء العناصر حيث أن لكل عنصر أجلا مسمى ؛ والقوى الكهر ومغناطيسية التى تربط الذرات ببعضها البعض داخل جزئيات المادة ، وأخيرا قوة الجاذبية ، وهى القوة العظمى ، وتمسك بكافة أجزاء السماء بمختلف تجمعاتها ، وتنتشر موجاتها فى أرجاء الكون كله بسرعة الضوء دون أن ترى. وهذه القوى هى العمد التى ترفع السماء وتمسكها أن تقع ولا نراها. وترتبط الجاذبية بكتل الأجرام ومواقعها ، وكلما تقاربت زادت كتلها ، وزادت قوة الجذب بينها ، فالأكبر منها يمسك بالأصغر بواسطة قوى الجاذبية ، ومع دورانها حول نفسها تنشأ القوة الطاردة المركزية ، وتدفع الأجرام الصغيرة بعيدا عن الكبيرة ، إلى أن تتساوى القوتان المتضادتان ـ قوة الجذب إلى الداخل ، وقوة الطرد إلى الخارج ـ فتتحدد بذلك مدارات النجوم كافة دون اصطدام. وهذه القوى الأربع هى القوى الخفية التى يقوم بها بناء السماوات ، وتتوحّد جميعها فى قوة جاذبية عظمى تنتشر فى كافة أرجاء الكون ، وتظهر فى صورة الطاقة ، والطاقة هى الوحدة الأساسية فى الكون ، والمادة مظهر من مظاهرها ، والكون عبارة عن المادة والطاقة ، وبدون الجاذبية فلا وجود للكون ، وهى التى تربط أجزاءه ببعضها البعض ، وتمسكها أن تنفرط وأن تقع ، وتكوّر كافة النجوم والأرض ، وتحكم دوران الأجرام وتخلّقها ، وتمنعها أن تصطدم فى مداراتها ، وتحدّب الكون وتجعل لمسارات الطاقة والمادة خطوطا متعرجة ، وتمسك بالأغلفة الغازية والمائية ، فهذه هى العمد التى ترفع السماء ولا نراها ، وأخبرنا بها ربّنا فى القرآن ، وهى دليل صدق أن القرآن لا يتصادم مع العلم ، وأنه كتاب منزل من عند الله ، وأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذى تنزّل عليه وبلّغه للناس ، هو فعلا رسول من عنده تعالى.

* * *

٤٥٨

١٣٦٨ ـ (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ)٧ الذاريات

هذا الوصف للسماء يأتى فى القرآن مرة واحدة ، وكلمة الحبك لم تتكرر فيه ، وأكثر استخدامنا لها فى اللغة بمعنى الثبات ، ونقول ثوب محبوك أى لابس على صاحبه فلا زيادات فيه ، والخياط حبك الثواب أى فصّله على الجسم حسنا ، والقصّاص حبك القصة أى أجادها وأحكمها. وقيل فى السماء ذات الحبك : أنها أحسنت صنعتها ، وأحكمت أطرافها ، واحتبكت ما فيها ، أى احتوته واستوعبته ، وفى الحديث أن عائشة كانت تحتبك تحت الدرع فى الصلاة ، أى تشدّ الإزار وتحكمه ، وعلى ذلك فالسماء ذات الحبك هى المشدودة الأطراف على نفسها. والحباك هو الطريقة فى الرمل إذا أصابته الريح فيكون جعدا ، وجمع الحباك حبك ، وجمع الحبيكة حبائك ، وقرئ والسماء ذات الحبك ، والحبك. وقيل ذات الحبك : المراد ذات الزينة ، أو ذات النجوم ، أو ذات الطرائق. والطّرق هى المجرات التى فى السماء ، سميت بذلك لأنها كأثر الجرّ ، وقد أقسم بها لأنها قد خلقت على هيئة عظيمة ، والعلم أثبت لها هذه العظمة ، فهذه السماء مصنوعة بشكل محكم دقيق ، والجزء الذى ندركه منها ونستطيع أن نتحدث عنه يتكون من مائتى بليون مجرة على الأقل! وما خفى كان أعظم! وتختلف أشكال مجراتها وأحجامها وكتلتها وسرعتها ، ومنها مجرات عملاقة يصل طول قطرها ٠٠٠ ، ٧٥٠ سنة ضوئية ، وتتجمع فى مجموعات محلية ، ثم فى مجموعات مجرية أكبر ، ثم فى مجموعات أعظم وأضخم ، «والتجمّع الأعظم» الذى تنتسب إليه مجرتنا به مائة من التجمعات المجرية على هيئة قرص ، قطره نحو مائة مليون سنة ضوئية ، وتشكل هذه التجمعات ما يسمى «الحائط الأعظم» ، وتحيط بمركز الانفجار العظيم نطق ، منها «نطاق الانفجار العظيم» أو «نطاق كرة النار» ، وقطره حوالى بليون سنة ضوئية ، و «نطاق السحب البيضاء» حول الانفجار العظيم ، وسمكه نحو بليونى سنة ضوئية ، ونطاق سحابى آخر سمكه نحو الثلاثة بلايين من السنين الضوئية ، «ونطاق أشباه النجوم السحيقة» وسمكه نحو خمسة بلايين سنة ضوئية ، «ونطاق أشباه النجوم القديمة» ، وسمكه حوالى سبعة بلايين سنة ضوئية ، و «نطاق المجرات» وسمكه نحو أربعة بلايين سنة ضوئية ، وبذلك يبلغ قطر هذا الجزء المدرك من السماء نحو ٢٣ بليون سنة ضوئية! فكأن مجرّتنا ـ مجرة درب اللبّانة ـ وسط هذه المتاهة من السماء التى ندركها لا تعتبر شيئا مذكورا ، وكأنها ذرة وسط هذا الاتساع الهائل والمجرات العظمى ، ومع ذلك فإنها تضم نحو تريليون نجم تتباين أعمارها! ومنها «الشمس» ، وما يسمى «العماليق الحمر» ، «والعماليق الكبار» ، و «النجوم الزرقاء» ، «والأقزام البيض» ، و «النجوم النيوترونية» ، و «النجوم الخانسة» التى هى «الثقوب

٤٥٩

السوداء» إلخ. ويبلغ طول قطر قرص مجرتنا نحو مائة ألف سنة ضوئية ، وسمكها عشرة آلاف سنة ضوئية ، ولها توابع من الكواكب والأقمار والمذنبات ، لها أقطارها المهولة ، ولها توابعها هى الأخرى إلخ. وتبلغ كتلة مجرتنا قدر كتلة الأرض بحوالى ٠٠٠ ، ٣٣٣ مرة ، ودورانها حول مركزها يستغرق ٢٥٠ مليون سنة من سنينا ، وهى بالنسبة لها كاليوم بالنسبة لنا! فهذا وغيره هو صورة السماء التى ندركها ، وهو بناؤها المحكم المشدود المتين المقصود بقوله تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) (٧) ، وما يمسك هذا النظام ، وهذا الملك الكبير الضخم إلا الله ؛ وما يقدره ويحفظه إلا هو ، سبحانه ، كقوله : (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (٦٥) (الحج).

* * *

١٣٧٠ ـ (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ)١ البروج

يقسم الله تعالى بالسماوات ذات البروج ، والبروج هى منازل الكواكب والشمس والقمر ، وهى اثنا عشر برجا ، وسير القمر فى كل برج يومين وثلث يوم ، فذلك ثمانية وعشرون يوما ، ثم يستسر لليلتين ؛ وتسير الشمس فى كل برج منها شهرا ، وهى : الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والعذراء ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدى ، والدلو ، والحوت. والعرب ببركة القرآن وتنبيهاته المستمرة لعظمة السماء وما فيها هم الذين أبطلوا خرافات علم الفلك وجعلوه علما استقرائيا يعتمد على المقايس والحسابات الرياضية والهندسية ، وعرفوا منازل الشمس بالنسبة للبروج ، وقسموها إلى أربعة منازل تمثل فصول السنة : الربيع ، والصيف ، والخريف ، والشتاء ، وخصّصوا لكل منزل ثلاثة بروج : الحمل والثور والجوزاء للربيع ؛ والسرطان والأسد والعذراء للصيف ؛ والميزان والعقرب والقوس للخريف ؛ والجدى والدلو والحوت للشتاء ، والقرآن هو أول كتاب سماوى ينبّه إلى أهمية البروج ، فيقول تعالى : (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ) (١٦) (الحجر) ، فهى لعمارة السماء ، وبرزت فيها الناحية الجمالية ، ومن ثم ارتبط فن العمارة بفن الجمال. والبروج نجوم رتبت فى مجموعات من الكواكب ، وبها تتحدد الاتجاهات الأربع الأصلية كقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) (٩٧) (الأنعام) ، ومن ذلك النجم القطبى ، وهو نجم ثلاثى ، وألمع نجم فى كوكبه الدّبّ الأصغر ، ويبعد عنا مسافة ٦٥٠ سنة ضوئية ، وبالنظر إلى دوران الأرض حول محورها من الغرب إلى الشرق ، فإن القبة السماوية تبدو وكأنها تتحرك من الشرق إلى الغرب فى حركة ظاهرية

٤٦٠