موسوعة القرآن العظيم - ج ٢

دكتور عبد المنعم الحفني

موسوعة القرآن العظيم - ج ٢

المؤلف:

دكتور عبد المنعم الحفني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
ISBN: 977-208-422-2
الصفحات: ١٢٤٤
الجزء ١ الجزء ٢

ويجمع بين كل عبد وعمله ، وبين الظالم والمظلوم ، وبين كل نبىّ وأمته ، وبين ثواب أهل الطاعات وعقاب أهل المعاصى ، وذلك (يَوْمُ التَّغابُنِ) (التغابن ٩) سمّى كذلك لأن أهل الجنة غبنوا فيه أهل النار ، واستقلّوا بالجنة دون أهل النار ، والله تعالى قد خلق الجنة لتسع الناس جميعا ، فلما انقسموا إلى أهل جنة وأهل نار ، آل ما كان من نصيب أهل النار من الجنة إلى أهل الجنة ، وما كان من نصيب أهل الجنة من النار إلى أهل النار ، فكأن كلا منهما أخذ ما يستحق بالمبادلة ، فوقع الغبن لمّا استبدل أهل النار الخير بالشر ، والجيد بالرديء ، والنعيم بالعذاب. «ويوم القيامة» هو (الْيَوْمَ الْآخِرَ) (العنكبوت ٣٦) : نسبة إلى الآخرة المقابل «للأولى» وهى الدنيا ؛ والآخرة : هى النهاية ودار البقاء ، والآخر يفيد أن هناك «أول» ، وكل ما له أول له آخر ، والحياة كانت ابتداء وآخرتها الموت ثم البعث. و «اليوم الآخر» : هو يوم ينفخ فى الصور فتموت كل الخلائق (طه ١٠٢) ، ثم ينفخ النفخة الثانية فيقومون يسعون إلى ربّهم. ويوم القيامة هو «اليوم المحيط» ، كقوله : (وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) (٨٤) (هود) : لأنه يحيط بالكفّار ؛ و (يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) (٤١) (إبراهيم) : لأن فيه الحساب الشديد والحساب اليسير ؛ و (يَوْمَ الْحَسْرَةِ) (مريم ٣٩) : لأن فيه يعطى كل إنسان كتابه فعندئذ تنتابه إما البهجة وإما الحسرة ، وهو بالنسبة للكافرين يوم الحسرة وليس يوم البهجة ؛ و «يوم الحشر» (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ) (مريم ٨٥) لأن فيه يجمع المتقون إلى الرحمن وفدا ، ويساق المجرمون إلى جهنم وردا يعنى مشاة عطاشى ؛ و (يَوْمِ الْبَعْثِ) (الروم ٥٦) لأن فيه يبعث الناس من قبورهم مع النفخة الثانية فى الصور ؛ و (يَوْمُ الْفَصْلِ) (الصافات ٢١) : وفيه يفصل المجرمون عن المؤمنين ، ويفصل بين الظالم والمظلوم ، وبين أهل الحق وأهل الباطل ، ويفصل فى أمر كل إنسان ، فإما إلى الجنة أو إلى النار ، (يَوْمَ الْآزِفَةِ) (غافر ١٨) : وسميت القيامة بالآزفة لأنها قريبة ، وكل ما هو آت قريب ، كقوله تعالى : (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) (النجم ٥٧) أى قربت الساعة ؛ و (يَوْمُ الْوَعِيدِ) (٢٠) (ق) الذى وعد الكفار أن يكون عذابهم فيه ؛ و (يَوْمُ الْخُرُوجِ) (ق ٤٢) : أى الخروج من القبور ؛ و (يَوْمَ التَّنادِ) (غافر ٣٢) : وسمّى كذلك لمناداة الناس فيه على بعضهم البعض ، فينادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم ، وينادى أصحاب الجنة أصحاب النار ، وينادى أصحاب النار أصحاب الجنة ؛ كقوله : (فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) (آل عمران ٢٥) : وهو اليوم الذى لا شك آت ؛ واليوم المشهود (هود ١٠٣) : أى الذى يشهده البرّ والفاجر ، ويشهده أهل السماء ؛ و (يَوْمَ التَّلاقِ) (غافر ١٥) : هو يوم يلتقى أهل السماء وأهل الأرض ، ويلتقى الخلق والخالق ، والعابدون والمعبودون ، والظالم والمظلوم ، ويوم يلقى كل إنسان جزاء عمله ، ويوم يلتقى

٤٠١

الأولون والآخرون ؛ واليوم المعلوم (الواقعة ٥٠) : وهو الذى حدّده الله تعالى ، ولا يعلمه سواه ؛ و (الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) (البروج ٢) : أى الموعود به ؛ واليوم العظيم (الأنعام ١٥) : هو الشاق والصعب ، والعظيمة : هى النازلة الشديدة ؛ ويوم كبير (هود ٣) : يسمى كذلك لما فيه من أهوال ؛ ويوم أليم (هود ٢٦) : لأنه يوم الألم الذى لا يتصوره إنسان ولا يخطر فى بال بشر ، والألم الموجع أشد من الألم المؤلم ؛ ويوم عصيب (هود ٧٧) : هو الشديد فى وطأته ، ومجمع الشر ؛ ويوم الفتح (السجدة ٢٩) : والفتح هو القضاء ، أى هو اليوم الذى يقضى فيه بين الناس ، فيثاب المحسن ويعاقب المسيء.

* * *

١٢٩٤ ـ يوم التناد من أسماء يوم القيامة

سمّى يوم القيامة «يوم التناد» ، لمناداة الناس بعضهم بعضا فى ذلك اليوم ، فينادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم ، وينادى أصحاب الجنة أصحاب النار : (أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا) (الأعراف ٤٤) ؛ وينادى أصحاب النار أصحاب الجنة : (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ) (الأعراف ٥٠) ؛ وينادى المنادى عند وزن الأعمال فلان قد سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا. وتنادى الملائكة أصحاب الجنة : (أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الأعراف ٤٣) وينادى كل قوم بإمامهم.

ويوم التناد أيضا هو يوم التنافر ، من ندّ يندّ ، يعنى يولى هاربا ، فإذا سمع المجرمون زفير جهنم ندّوا هاربين ، فسمّوه لذلك : يوم الفزع الأكبر (الأنبياء) ، يوم ينفخ إسرافيل فى الصور نفخة الفزع ، فترتجف الأرض ، ويميد الناس عن ظهرها ، وتذهل المراضع ، وتضع الحوامل ، وتشيب الولدان ، ويتطاير الناس هاربين مدبرين ، ينادى بعضهم بعضا ، كقوله تعالى : (يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (غافر). وقيل سمى يوم القيامة «يوم التناد» ، لأن الكافر ينادى فيه بالويل والثبور والحسرة.

* * *

١٢٩٥ ـ الطامة الكبرى من أسماء القيامة

فى قوله تعالى : (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) (النازعات) : أن الطامة الكبرى هى الداهية العظمى ، يوم ينفخ فى الصور النفخة الثانية فتكون القيامة ، سميت بذلك لأنها تطمّ على كل شىء ، وتعمّ كل شىء. والطامة فى اللغة : هى الداهية التى لا تستطاع ، حين يساق أهل الجنة إلى الجنة ، وأهل النار إلى النار ..

* * *

٤٠٢

١٢٩٦ ـ القارعة من أسماء القيامة

«القارعة» هى القيامة ، واسمها «القارعة» : لأنها تقرع الخلائق بأهوالها وأفزاعها ، فاستحقت أن يعبّر عنها بهذه الآيات : (الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) (القارعة) ، وفى اللغة يقال : قرعتهم القارعة ، وفقرتهم الفاقرة ، إذا وقع بهم السوء الشديد ، كقوله تعالى : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ) (الرعد ٣١) ، وهى الواحدة من شدائد الدهر ، وأصل القرع الضرب بشدة. وتكرار كلمة «القارعة» ثلاث مرات ، فى الآية الأولى للتذكير ، وفى الثانية للتهويل ، وفى الثالثة للاستفهام تقريرا لبيان عظم شأنها ، فهى أكبر وأخطر من أن يدركها خيال ويبلغها وهم إنسان.

* * *

١٢٩٧ ـ الغاشية من أسماء القيامة

قيل سمّيت النار فى الآية : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) (الغاشية ١) بالغاشية ، لأنها تغشى الوجوه ، من قوله تعالى : (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) (إبراهيم ٥٠). وقيل : الغاشية هم أهل النار يغشونها ، أى يقتحمونها. وقيل : «الغاشية» هى القيامة ، تغشى الناس بأهوالها ، وواضح من مشاهد السورة أن المقصود بالغاشية القيامة ، لأن بعض هذه المشاهد يتناول عذاب أهل النار ، وبعضها ما يلقاه المؤمن فى ذلك اليوم من وجوه البرّ والإحسان.

* * *

١٢٩٨ ـ الطبيعة يوم القيامة

فى يوم القيامة : ينفخ فى الصور فيصعق من فى السموات ومن فى الأرض (الزمر ٦٨) ، ثم ينفخ للمرة الثانية فيبعث الخلق (الزمر ٦٨) ، ويجمعون جمعا ، ويحشرون إلى ربّهم (البقرة ٢٠٣) ، وترجف الأرض (المزمل ١٤) ، وتزلزل ، وتخرج أثقالها (الزلزلة ١ / ٢) ، وتمور السماء مورا ، وتسير الجبال سيرا كأنها السراب (الطور ١٠) ، وتكون السماء كالمهل ، وتكون الجبال كالعهن (المعارج ٩) ، وتحمل الأرض والجبال فتدكّان دكة واحدة (الحاقة ١٤) ، وتنسف الجبال (المرسلات ١٠) ، وتبسّ بسّا (الواقعة ٥) ، حتى تصير كثيبا مهيلا (المزمل ١٤) ، وتنفطر السماء (الانفطار ١) ، وتشقّق بالغمام (الفرقان ٢٥) ، فكأنها وردة (الرحمن ٣٧) ، ثم تكشط (التكوير ١١) ، فتنثر كواكبها (الانفطار ٢) ، ويخسف بالقمر ويجمع بالشمس (القيامة ٨) ، وتكوّر الشمس (التكوير ١) ، وتنكدر النجوم (التكوير ٢) ، وتسجّر البحار (التكوير ٦) ، وتتفجّر (الانفطار ٣) ، وتمدّ الأرض (الانشقاق ٣) ، وتشقّق (ق ٤٤) ، ويقبضها الله جميعا (الزمر ٦٧) ، وتبعثر القبور (الانفطار ٤).

* * *

٤٠٣

١٢٩٩ ـ مشاهد يوم القيامة

مشاهد يوم القيامة رهيبة ومفزعة ، وأوصاف هذا اليوم فى القرآن إنما للإنذار والتحذير كقوله تعالى : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٥٢) (إبراهيم) ، وبلاغات القرآن للتخويف من عقابه تعالى ، وموضوعها إعلام السامعين أن الله قادر وعالم ، وأنه إله واحد ، استدلالا بالحجج والبراهين ، ولتكون مشاهد يوم القيامة ذكرى لأصحاب العقول لعلهم يتّعظون. ومن أوصاف هذه المشاهد قوله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) (٥٠) (إبراهيم). وتبديل الأرض : هو تغيير صفاتها ، وتسوية آكامها ، ونسف جبالها. ويوم القيامة تمدّ الأرض مدّ الأديم ، وتزيد سعتها. وتبديل السماء هو تكوير شمسها وقمرها ، وتناثر نجومها ، وأن تصبح مرة كالمهل ، ومرة كالدّهان. وفى الحديث : أن الأرض تزول ، فقد سأله اليهودى أين يكون الناس يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسموات؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فى الظلمة دون الجسر». وفى حديث عائشة قال لها «على الصراط» ، وإذن فتبديل الأرض والسموات هو إزالتهما ، وهو أمر منطقى ومعقول ، فقنبلة هيروشيما ونجازاكى أزالتا المدينتين تماما ، فما بالنا بأن تنسف الشمس والقمر والجبال؟ ألا تزال الأرض أيضا والسموات؟! إنه الدمار الكامل فلا يكون شىء! وفى الحديث : «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النّقى (يعنى الدقيق الخالص) ، ليس فيها علم (أى أثر) لأحد». وفى قوله تعالى (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) (٥٠) (إبراهيم) المجرمون ـ هم الكفار والمشركون ـ أعطاهم اسم «المجرمين» ، و «مقرّنين» أى مشدودين ، و «فى الأصفاد» ، أى الأغلال ، فيقرن كل كافر مع قرينه من أهل المعاصى فى الدنيا ، وقد تسربلوا بقمصان من قطران ، بينما النار تضرب وجوههم حتى لتغشيها!

* * *

١٣٠٠ ـ الصور ، والنفخ فيه يوم القيامة

المستشرقون على القول بأن محمدا سرق مصطلح «الصّور» عن اليهودية ، ويشهد الله أن الصّور مصطلح قرآنى محض ، قيل هو سريانى ، والأصح أنه إن كان فى العربية وفى السريانية فهو توافق بين اللغتين ، لأن صور منها الفعل صار ، أى صوّت ، والعامة تقول صوره بصوته ، أى أصمّه بشدّة صوته. والصّور هو البوق ، وهو القرن ، وميزة الصور عن

٤٠٤

الكلمتين الأخريين : أن البوق : للتزمير للهو ، ولجمع الناس ؛ والقرن : للاستنفار فى الحرب ، وأما الصور : فهو وحده آلة النفخ يوم القيامة ، يخترق حاجز الصوت فيميت مرة ويحيى أخرى. والبوق والقرن عند اليهود فى التوراة ، ولا يوجد فى أى من أسفار اليهود كلمة «صور» ، وعندهم «عيد الأبواق» ، يبوّقون بالأبواق فى أول أكتوبر ، ويحتفلون بجمع الثمار وزراعة البذور ، ويذبحون الذبائح ، و «أبواق الهتاف» ذات أصوات عالية. والصور فى القرآن يتكرر عشر مرات والفرق بين البوق والقرن والصور ، أن البوق والقرن أداتان يصنعهما البشر ، ولكن الصور أداة من صنع الله ، وينفخ فيه إسرافيل يوم القيامة نفخة واحدة (الحاقة ١٣) ، فيفزع من فى السموات ومن فى الأرض (الزمر ٦٨ ، والنمل ٨٧) ، ويصعق الناس ولا يبقى أحد إلا مات ، ثم ينفخ فيه مرة أخرى (الزمر ٦٨) ، فإذا هم من الأجداث إلى ربّهم ينسلون (يس ٥١) ، فيجمعون جمعا (الكهف ٦٩) ، ويحشر المجرمون زرقا (طه ١٠٢) ، أى من الخوف ، ويأتون أفواجا (النبأ ١٨) ، لا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون (المؤمنون ١٠١) ، ذلك (يَوْمُ الْوَعِيدِ) (٢٠) (ق). وفى الحديث أن الله لما فرغ من خلق السموات والأرض خلق الصور وأعطاه إسرافيل ، فهو ينتظر الأمر له بالنفخ فيه. وقال : «الصور من العظم ، كهيئة البوق ، ينفخ فيه ثلاث مرات ، فالنفخة الأولى نفخة الفزع ، والثانية نفخة الصعق ، والثالثة نفخة البعث والقيام لربّ العالمين». والحديث مختلف فيه ، وقيل هما «نفختان» لا غير ، لأن نفخة الفزع هى نفخة الصعق ، فلأنهم فزعوا ماتوا منه ، وفى النفخة الثانية يحيون فزعين يقولون (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) (٥٢) (يس). وقد يكون الفزع هو الإسراع فى الاستجابة ، أو يكون هو الخوف المعهود.

* * *

١٣٠١ ـ الصيحة يوم القيامة

الصيحة : هى الصوت الشديد كالصاعقة ، عوقب بها قوم صالح فى الدنيا ، فصاح فيهم جبريل صيحة واحدة (هود ٦٧) ، فتقطّعت بها قلوبهم وصاروا هلكى هامدين كغثاء السيل (المؤمنون ٤١) ، وجعلتهم كالهشيم المحتظر (القمر ٣١) ؛ وقوم شعيب (هود ٩٤) أصبحوا بالصيحة جاثمين فى ديارهم ، كأن لم يغنوا فيها ؛ وقوم لوط (الحجر ٧٣) ، أخذتهم الصيحة مشرقين ، يعنى وقت شروق الشمس ؛ وأصحاب الأيكة (الحجر ٨٣) ، أخذتهم الصيحة مصبحين ، أى وقت الصبح ؛ وأصحاب القرية (يس ٢٩) ، قضت عليهم الصيحة وخمدت بها أنفاسهم ؛ وكل هؤلاء ما أصابتهم إلا صيحة واحدة ما كان لهم منها رجوع (ص ١٥). فإذا كان يوم القيامة أوكلت الصيحة بإسرافيل ، وصيحته يومئذ صيحتان ، فى الأولى : يكون الموت يأتى الناس بغتة وهم يخصمون ، فلا يستطيعون توصية ولا

٤٠٥

يرجعون إلى أهلهم (يس ٤٩ / ٥٠) ، وفى الثانية : يخرجون من الأجداث ينسلون (يس ٥٣). وفى يوم القيامة ينادى جبريل ، وينفخ إسرافيل ، فإذا كانت الصيحة الثانية ـ صيحة البعث يكون الخروج ، أى الاجتماع للحساب ، وتشقّق الأرض عنهم سراعا ، ويحشرون (ق ٤١ / ٤٤).

* * *

١٣٠٢ ـ يوم القيامة فى سورة التكوير

من سرّه أن يرضى نزعته للمعرفة ، وأن يرى يوم القيامة كأنه رأى عين ، فليقرأ : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) (١) ، ففيها المشاهد المذهلة ، والصّور المبهرة ، مما يقشعر له الجلد ، ويصيب القارئ الخاشع بالخوف الشديد يأخذ بمجامع النفس ، فالنجوم فى هذا اليوم تنكدر ، والجبال تسيّر ، والعشار تعطّل ، والوحوش تحشر ، والبحار تسجر ، والنفوس تزوّج ، وتسأل الموءودة عن الذنب الذى به قتلت ، وتنشر الصحف ، وتكشط السماء ، وتسعّر الجحيم ، وتزلف الجنة ، فهذه بعض بانوراما هذا اليوم الذى لا نعلم حقيقة : هل هو يوم؟ وكيف يكون يوما كأيامنا والشمس فيه قد كوّرت ، أى تظل تلف إلى أن تنمحى أو تسقط ، وأصل التكوير من كار العمامة يكوّرها أى ينكّسها. وانكدار النجوم يوم القيامة هو : تناثرها وتهافتها وسقوطها. وتسيير الجبال أن تقلع من الأرض فتتطاير فى الفضاء. وتعطيل العشار : أن لا تلد ، وخوطب العرب بأمر العشار ، لأن مالهم وعيشهم أكثر من النوق العشار ، إلا أنهم يوم القيامة يشهدون الوحوش والدواب محشورة بعشارها ، فلا يعبئون بها. وحشر الوحوش : يعنى جمعها. وتسجير البحار : أى امتلاؤها حتى لتفيض على بعضها البعض ، ويرسل عذبها على مالحها ، ومالحها على عذبها ، وتصير بحرا واحدا ويرفع البرزخ بينها. وسؤال الموءودة عن الذنب الذى به وئدت ، أى دسّت فى التراب ، وقرئ سألت بالفتح ، أى تسأل هى من وأدها ، وسؤالها سؤال توبيخ وتبكيت ، لأن قتلها لا يصح إلا بذنب ، فبأى ذنب فعلوا بها ما فعلوا ، وفى ذلك دليل على أن التعذيب لا يستحق إلا بذنب ، ومن ثم كان السؤال هل يعذّب أطفال المشركين بشرك آبائهم؟ والجواب كلا ، لأنهم لا ذنب لهم فى شرك الآباء.

وهذه المظاهر المادية ليوم القيامة يقول الصوفية إن مثلها يحدث لهم عند استيلاء الأحوال عليهم ، وحينئذ تكون قيامتهم ، فتتجلى مثل هذه المشاهد معان فى قلوبهم ، ومع تراوحهم بين البسط والقبض ، تنكسف شموسهم ، وتنكدر نجوم علومهم.

* * *

٤٠٦

١٣٠٣ ـ للساعة زلزلة

فى الآية : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) (١) (الحج) ، أن للساعة أو القيامة زلزلة ، وهى شدّة الحركة ، كقوله تعالى : (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ) (٢١٤) (البقرة) ، وأصلها من زلّ عن الموضع ، أى زال عنه وتحرك ، وتزلزلت قدمه أى تحركت ، والزلزلة فى الاصطلاح : إحدى شرائط الساعة ، ومن إرهاصات يوم القيامة ، يقول البعض رجما بالغيب تكون فى النصف من شهر رمضان ، ومن بعدها طلوع الشمس من مغربها إن كانت تطلع!!

* * *

١٣٠٤ ـ الساعة من يوم القيامة

يتكرر هذا المصطلح فى القرآن : «الساعة» ٤٨ مرة ، وليس فى اليهودية ولا النصرانية شبيه به. وقيل الساعة هى يوم القيامة ، وقيل : الساعة ليست هى هذا اليوم بطوله مهما كان هذا الطول ، ولكنها من يوم القيامة ، وفارق بين أن نقول ساعة ونقول يوما. ويوم القيامة يوم ينفخ فى الصور فيصعق الناس ، فليس من أحد إلا ويموت ، ثم ينفخ فى الصور مرة ثانية فيبعث من فى القبور ، ينسلون إلى ربّهم زرافات ، فهذه هى الساعة : ساعة البعث والهرولة إلى حيث الحساب ، سمّيت كذلك لسرعة مجرى الأحداث فيها ، وسرعة الحساب ، ولأننا يومئذ لا نرى إلا أننا قد عشنا فى الدنيا بمقدار ساعة ، فإذا حانت الساعة ، أى حان الحين ، ووقعت واقعة القيامة جهارا (الأنعام ٤٧) ، فلا نشعر بها (الأعراف ٩٥) ، ونبهت فلا نستطيع ردّها (الأنبياء ٤٠) ، ويبلس منا المجرمون (الروم ١٢) ، ويتحسّرون على ما فرّطوا (الأنعام ٣١) ، ويتفرّقون (الروم ١٤) ، ويخسر المبطلون (الجاثية ٢٧). وكان الكفار يحتجّون بأنهم لا يعرفون بالساعة ، وأن معرفتهم بها ظنية لم يستيقنوها (الجاثية ٣٢) ، وتساءلوا : أيّان مرساها؟ (الأعراف ١٨٧). ولم يكن المسئول عنها ـ وهو النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بأعرف عنها من السائلين ، فكان جوابه : (عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) (الأعراف ١٨٧) ، وقال للسائل عنها : «ولكنى سأخبرك عن أشراطها : إذا ولدت الأمة ربّها ، وإذا تطاول رعاة الإبل البهم فى البنيان». وقال «أشراط الساعة فى خمس لا يعلمهن إلا الله» ، والخمس التى لا يعملها إلا الله هى المشار إليها بمفاتيح الغيب (الأنعام ٥٩) ، وفى الحديث : «مفاتيح الغيب خمس ، لا يعلمها إلا الله ـ لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ، ولا يعلم ما فى غد إلا الله ، ولا يعلم متى يأتى المطر إلا الله ، ولا تدرى نفس بأى أرض تموت إلا الله ، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله» أخرجه البخارى. ومعنى «أن تلد الأمة ربّها» أى يكثر العقوق فيعامل الأولاد أبويهما معاملة دنيا ، بالإهانة ، والسب ، والضرب ، والاستخدام ، ويحدث ذلك إذا فسدت البيوت ، وساءت

٤٠٧

التربية ، وانهار التعليم. ومفاده أن الساعة يقرب قيامها عند انعكاس الأمور : بحيث يصير الولد كأنه الأب ، والبنت كأنها الأم ، بينما الأب والأم لا حول لهما ولا طول ، ويعملان للأولاد كالأجراء لتحصيل المال لهم ، ففي مثل أحوال مقلوبة كهذه ، أن يصبح السافل عاليا ، والعالى سافلا ، والجاهل يصير ملكا ورئيسا للدولة ، بينما العلماء مغمورون. وقوله «البهم» يعنى لا أحد يعرف عن أنساب هؤلاء الذين يتولون الحكم فى بلادنا شيئا ، فلا أصل لهم ولا فصل ، فكأنهم حفاة عراة ، حفوا عن كل علم ، وتعرّوا عن كل فضيلة ، فكانوا طغاة مستبدين ، جمعوا كل مقاليد الحكم فى أيديهم ، والثروة فى خزائنهم. والحديث إشارة إلى أنه فى أوقات التردّى يتحكم قلة فى رءوس الأموال ، ويملكون البلاد ، قهرا واحتيالا ، فينسون القوانين ، لأن من يملك هو الذى يحكم ، فإذا حكموا احتكروا لأنفسهم ولأولادهم وأنسبائهم وأصهارهم كل شىء ، فتكثر أموالهم ، وتنصرف همّتهم إلى بناء الفيلات ، وإنشاء العمارات والمدن والمصايف والمشاتى ، للهوهم وراحتهم ، وليتفاخروا بها. ومن ذلك الحديث الآخر : «لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع ابن لكع» ، ونحن نشهد ذلك فى بلادنا هذه الأزمان ، فمن يكون هذا أو ذاك ممن نسمع عنهم؟ ومع كل ذلك هل كان بوسع النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعرف أشراطها أو علاماتها؟ فمن يعرف الأشراط والعلامات بوسعه أن يعرف التوقيت ، وما كان النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرف أيهما : الأشراط والتوقيت! وقوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) (١) (القمر) ، أنه حين تحين الساعة ينشق القمر ، وفى آية أخرى تكوّر الشمس : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) (١) (التكوير) ، يعنى ينهدم صرح العالم ، ولكل إنسان ساعته ، كقوله تعالى : (قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) (٣٠) (سبأ) ، والميعاد الميقات ، مثله مثل الأجل ، كقوله : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (٣٤) (الأعراف) ، فمثل ما الأجل علمه عند الله ، فكذلك الساعة علمها عنده تعالى. والساعة مدة من الوقت ، كقوله : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ) (٤٥) (يونس) ، استقصروا طول مقامهم فى القبور لهول ما يرون من البعث ، ومثل ذلك قولهم : (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) (١١٣) (المؤمنون).

* * *

١٣٠٥ ـ الساعة علمها عند الله وتأتى بغتة

سأل اليهود النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الساعة ، وسأله المشركون لفرط الإنكار : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا

٤٠٨

تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (١٨٧) (الأعراف). والسؤال يثقل عن المسألة ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يعلم الساعة ، ولا يظهر علاماتها إلا الله تعالى ، ولا تأتى إلا بغتة ، وما كان لهم أن يسألوا النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكأنما هو يعلمها ، وأنه الحفىّ العالم بها ، والمستقصى فى السؤال عنها ، وكان إلحاحهم فى سؤاله لأنهم قالوا بيننا وبينك قرابة ، فأسرّ إلينا بوقت الساعة. وكان الجواب : (عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) ، تأكيدا لما سبق : (عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) ، ليس من باب التكرار ، وإنما أحد العلمين لوقوعها ، والآخر لكنهها.

* * *

١٣٠٦ ـ علامات الساعة عشر

فى التنزيل : (يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) (٦٣) (الأحزاب) ، والآية إثبات بأنه لا يعلم الساعة إلا الله ، وقيل إن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلم علاماتها ، وقيل من يعلم علاماتها فقد علم وقتها. وهذا مخالف للآية ، وليس فى ذلك طعن فى نبوته ، لأنه ليس من شرط النبىّ أن يعلم الغيب ، كقوله : (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) (الأنعام) ، وقوله : (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) (الأعراف). وقوله تعالى : (وَما يُدْرِيكَ) أى وما يعلمك ، يعنى أنه لا يعلم الساعة يقينا ، إلا أنها ربما تكون قريبة ، كقوله : (لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) ، أى فى الزمان القريب. غير أن بعض أحاديث آخر الزمان فيها أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرف علامات الساعة ، وأبو هريرة هو ناقل هذا الحديث ، يقول : «لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان تكون بينهما مقتلة عظيمة ، دعوتهما واحدة ؛ وحتى يبعث دجّالون كذّابون ، قريب من ثلاثين ، كلهم يزعم أنه رسول الله ، وحتى يقبض العلم ، وتكثر الزلازل ، ويتقارب الزمان ، وتظهر الفتن ، ويكثر الهرج ـ وهو القتل ، وحتى يكثر فيكم المال فيفيض ، يهمّ ربّ المال من يقبل صدقته ، وحتى يعرضه عليه فيقول : لا أرب لى به ؛ وحتى يتطاول الناس فى البنيان ، وحتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتنى مكانه! وحتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون ، فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ، أو كسبت فى إيمانها خيرا. ولتقومن الساعة ، وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ؛ ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن نفحته فلا يطعمه ؛ ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقى فيه ؛ ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها» ، وكل هذه العلامات عادية ومتوقعة ، ولا تدّعى العلم بالغيب أو العلم بالساعة ، والحديث على ذلك ضعيف لأنه لا يضيف جديدا ولا يخبر عن غيب. وفى الرواية عن أبى هريرة

٤٠٩

أيضا أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حضر أصحابه يتذاكرون الساعة فقال : «إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات» ، فذكر : الدخان ؛ والدجّال ؛ والدّابة ؛ وطلوع الشمس من مغربها ؛ ونزول عيسى بن مريم ؛ ويأجوج ومأجوج ؛ وثلاثة خسوف : خسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب ؛ وآخر ـ ذلك نار تخرج من اليمن فتطرد الناس إلى محشرهم. وهذه أقل من عشر آيات! وكلها رجم بالغيب ، والنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يعلم الغيب ، والحديث يعارض حديثا آخر لأنس ، فيه : «أن أول أشراط الساعة نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب» ، وفى هذا الحديث أن النار هى آخر الأشراط. وحديث آخر لابن مسعود ، يقول : «لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس» وفى رواية «حثالة الناس». وحديث لحذيفة بن اليمان يقول : «ويبقى طوائف من الناس : الشيخ الكبير ، والعجوز ، يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة «لا إله إلا الله فنحن نقولها». وكل هذه الأحاديث مستشكلة لأنها تنفى بعضها البعض وتعارض القرآن! والغالب أنها من الإسرائيليات يقينا!

* * *

١٣٠٧ ـ يوم التغابن هو يوم القيامة

سمّى كذلك للآية : (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) (٩) (التغابن) ، وهو اليوم الذى يغبن فيه أهل الجنة أهل النار ، أى أن أهل الجنة يأخذون الجنة ، وأهل النار يأخذون النار على طريق المبادلة ، فيقع الغبن لأجل مبادلتهم الخير بالشر ، والجيد بالرديء ، والنعيم بالعذاب ، يقال : غبنت فلانا ، إذا بايعته أو شاريته ، فكان النقص عليه والغلبة لى. وكذا أهل الجنة وأهل النار. وغبن المؤمن بتقصيره فى الإيمان ، وكذا الكافر ، غبنه بترك الإيمان. ومن ارتفعت منزلته فى الجنة فقد غبن من كان دون منزلته. وتمثيل الغبن بالشراء والبيع فى قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (١٦) (البقرة) ، فلما ذكر أن الكفّار اشتروا الضلالة بالهدى وما ربحوا فى تجارتهم بل خسروا ، ذكر أيضا أنهم غبنوا ، ومع ذلك فإن أهل الجنة اشتروا الآخرة بترك الدنيا ، واشترى أهل النار الدنيا بترك الآخرة. والله تعالى خلق فريقا للجنة وفريقا للنار ، ومنازل كلّ موضوعة فى الجنة والنار ، وقد يسبق الخذلان على العبد فيكون من أهل النار ، فيحصل الموفّق على منزل المخذول فى الجنة ، ويحصل المخذول على منزل الموفق فى النار ، فكأنه وقع التبادل فحصل التغابن. وقد يقع التغابن فى غير ذلك ، والمراد فى الآية التغابن الذى لا جبران لنهايته. ومن أمثلة التغابن فى الدنيا : الرجل يعلم العلم ، فيعلّمه للناس ليعملوا به ويضيّعه هو ولا يعمل به ، فيشقى به ويعمل به من تعلّمه ؛ والرجل يكسب المال ويشحّ عليه ، وبسببه يفرّط فى طاعة ربّه ، ولا يعمل بماله خيرا ، ويتركه للورثة فيعملون به الطيب ، فكسبوا وخسر هو ؛ والرجل له الزوجة يتعسّف لها النفقة من الحلال والحرام ، وتأكله الزوجة حلالا ، فيدخل النار وتدخل هى الجنة!

٤١٠

والغبن فى الدنيا محرّم لأنه من باب الخداع ، والفرق بين غبن الدنيا وغبن الآخرة ، أن غبن الدنيا يمكن أن يستدرك ، بينما غبن الآخرة لا يستدرك أبدا.

ويقول بعض أهل الصلاح : إن الغبن مكتوب على الخلق أجمعين ، ولا يلقى العبد ربّه إلا مغبونا ، لأن أى عمل لا يستوفى له ليحصل على ثوابه مستوفى ، وفى الحديث من ذلك : «لا يلقى الله أحدا إلا نادما ، إن كان مسيئا أن لم يحسن ، وإن كان محسنا أن لم يزدد».

* * *

١٣٠٨ ـ عند البعث الناس طبقات ثلاث

الخلق عند الموت وعند البعث على درجات أو طبقات ثلاث : (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) (٩٤) (الواقعة) ، فالطبقة الأولى : هى طبقة المقرّبين : وهم المحسنون السابقون بالدرجات العلا ، وهؤلاء لهم الرّوح ، أى يروّح عنهم ويرحمون سواء عند الموت أو عند البعث ؛ والريحان هو النبت المعروف ، يراح لهم به برائحته الطيبة ؛ والطبقة الثانية : طبقة أصحاب اليمين : وهؤلاء عليهم‌السلام : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٣٢) (النحل) ، أى يسلّم عليهم الملائكة ، ويسلمون من العذاب ، ولنا منهم السّلام ، وعلينا لهم السّلام ، وذلك لهم إكرام بعد إكرام ؛ والطبقة الثالثة : هى طبقة المكذّبين الضالين : وهم الذين يكذّبون بالبعث وقد ضلّوا عن الهدى والحق ، فإنهم يعنتون عند الموت ، وفى الآخرة يستضافون بالحميم ، وهو نقع النار يشوى البطون ، ثم يصلون الجحيم.

* * *

١٣٠٩ ـ الناس فى الآخرة إما أشقياء وإما سعداء

يوم الآخرة (يَوْمٌ مَشْهُودٌ) (١٠٣) (هود) ، يشهده البرّ والفاجر ، والناس فيه صنفان : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (١٠٧) (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (١٠٨) (هود) ، فالشقىّ يوم القيامة هو الذى كتبت عليه الشقاوة ، والسعيد الذى كتبت عليه السعادة. وفى الرواية أن عمر بن الخطاب لمّا نزلت هذه الآية : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) ، سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يا نبىّ الله ، فعلام نعمل؟ على شىء قد فرغ منه ، أو على شىء

٤١١

لم يفرغ منه؟ فقال : «بل على شىء قد فرغ منه وجرت به الأقلام ، ولكن كلّ ميسر لما خلق له» أخرجه الترمذى ، يعنى : أن كلّ إنسان له حدوده ، وقدراته ، وإمكاناته ، وذكاؤه ، ومواهبه ، وطاقته ، ووسعه ، وفهمه ، واستيعابه ، وهذه أشياء معروفة له تعالى قبل أن يخلقه ، فإذا خلقه فى هذا النطاق ، فما هو ميسر له يأتيه ربما بالخير وربما بالشر ، وله حرية أن يختار ، وهو لذلك مسئول ، ومن ثم كان عليه أن يحاذر فيما يأتيه ، فلا يتصادم مع آخرين ، ومع القانون أو المجتمع ، أو مع الشريعة ، والله تعالى يعلم ما يمكن أن نأتيه ، لأنه الذى خلقنا بهذه الإمكانات ، وأهّلنا بها لأدوار إن نشأ نجعلها أدوار شر ، وإن نشأ نجعلها أدوار خير ، والسعيد هو من كان على وفاق مع أوامر ونواهى الله ، والشّقي من كان على غير وفاق معها وساير الشرّ والأشرار.

* * *

١٣١٠ ـ فى الحشر : هل تزوج النفوس؟

فى الآية : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) (٧) (التكوير) ، قال النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقرن كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون كعمله» ، وقال عمر بن الخطاب : يقرن الفاجر مع الفاجر ، ويقرن الصالح مع الصالح. وقال ابن عباس : يقرن كلّ شكل بشكله من أهل الجنة وأهل النار ، فيضم المبرّز فى الطاعة إلى مثله ، والمتوسط إلى مثله ، وأهل المعصية إلى أمثالهم ، فالتزويج : أن يقرن الشيء بمثله ، والمعنى : وإذا النفوس قرنت إلى أشكالها ، سواء إلى الجنة أو إلى النار. وفى الآية : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ) (٢٢) (الصافات) ، جعل لهم أزواج على أشباه أعمالهم ، ليس بتزويج حقيقى ، ولكنه تزويج معنوى ، فأصحاب اليمين هؤلاء زوج يعنى جماعة ، وأصحاب الشمال زوج ، والسابقون زوج.

* * *

١٣١١ ـ الدار الآخرة هى الحيوان

هى الجنة ، سميت دارا لأنها للإقامة فيها والسكنى ، كقوله تعالى : (الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) (٣٥) (فاطر) ، وحددها فقال : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) (٣٣) (فاطر) ، والجنات ـ كقول ابن عباس ـ سبع ، هى : جنة عدن ، وجنة المأوى ، وجنة الخلد ، وجنة الفردوس ، وجنة النعيم ، وجنة الوراثة ، وجنة المتقين. وسميت الدار الآخرة : دار المتقين ، كقوله : (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ) (٣١) (النحل) ،

٤١٢

وقوله : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (٢٤) (الرعد) ، فالدار غدا داران : دار للتقيّ المطيع ، ودار للفاجر العاصى. والعقبى آخر كل شىء ، وعقبى الدار : هى الدار الآخرة ؛ وأما عاقبة الدار : فهى دار الجزاء وهى سوء الدار ، كقوله تعالى : (رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (٣٧) (القصص) ، ونقيض ذلك قوله : (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (٢٥) (الرعد) ، وسوء الدار هى جهنم ، وهى أيضا دار البوار ، كقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) (٢٨) (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) (٢٩) (إبراهيم) ، والبوار : هو الهلاك ؛ والقرار : هو الإقامة ، وبئست الإقامة فى جهنم ، مقارنة بالإقامة فى الجنة ـ وهى الدار الآخرة للمؤمنين : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (٦٤) (العنكبوت) : أى دار الحياة الباقية التى لا تزول ولا موت فيها ، والحيوان : بمعنى الحياة ، ويقال لكل شىء حىّ أنه حيوان ، والدار الحيوان وعدها الله للمتّقين : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (٨٣) (القصص).

* * *

١٣١٢ ـ الجنة

الجنة فى القرآن لها دلالات ، بعضها يعنى أنها البستان كقوله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ ...) (٣٢) (الكهف) ، وقوله : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ) (١٥) (سبأ) ، وقوله : (إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ) (١٧) (القلم) ، وقوله : (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) (١٢) (نوح). وأكثر دلالات الجنة أنها دار الجزاء تكون بعد الموت ، وهذه هى الدلالة الاصطلاحية. وعند الصوفية الجنة ثلاث جنات : جنة الأفعال : وهى الجنة الصورية من جنس المطاعم اللذيذة والمشارب الهنية والمناكح البهية ، ثوابا للأعمال الصالحة ، وتسمى جنة الأعمال ، وجنّة النفس : فلأن الصالح فى هذا الاعتبار مادى ، فالجنة مادية فى مظهرها وإن كانت نفسية فى مخبرها ، وهى جنة الوراثة : وراثة الأخلاق الحاصلة بحسن متابعة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأهل التّقى والصلاح ، باعتبار الصالح هو الوارث للصالحين ، وصلاحه أخلاقى ، وسبب صلاحه كان صلاح من حوله كبيته ، وأهل جيرته ، وبلده ، فالصالح يتحقق به فى المكان جنة ، حيثما ظهر صلاحه وأثمرت دعواته ؛

٤١٣

وجنّة الصفات : وهى الجنة المعنوية ، من تجليات الصفات والأسماء الإلهية ، وهى كذلك جنة القلوب وجنة الذات : وهى ما يكون عليه الموحّد من سعادة ، وهو يشاهد فى الكون وفى نفسه دلائل وجوده تعالى ، ويخلص منها إلى صفاته ، ثم إلى ذاته تعالى ، كواحد أحد له مطلق العلم والقدرة.

والجنة فى اللغة من الجنّ والجنين ، لاستتارهما ، لأن الجنة ليست هى ما نشاهد ولكنها ما ندرك مما نشاهد ، وما يتحصل فينا من مشاعر لما نشاهد ، وهى مسائل مستترة تظل كذلك ما لم نبح بسرّها.

والجنة فى القرآن جنّات : جنات عدن ـ وهى جنات الإقامة ؛ وجنّات الفردوس : وهى أعلى الجنان جميعها ؛ وجنة الخلد : وهى التى وعد المتقون ، وكانت لهم جزاء ومصير (الفرقان ١٥) ؛ وجنات النعيم : جعلت للذين آمنوا وعملوا الصالحات ، كقوله : (لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ) (٢١) (التوبة) ؛ و (رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ) (٢٢) (الشورى) : هى أعاليها وتمتاز بالخضرة والجمع رياض وروضات ، وفى الآية : (فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) (١٥) (الروم) أى فى روضة من رياض الجنة ينعمون ، والحبرة هى السرور والفرح ، والحبور هو السرور ، وحبور أهل تلك الرياض هو التسبيح ؛ وجنة المأوى : عند سدرة المنتهى (النجم ١٤) ، وهى «جنة المبيت» ، قيل إنها الجنة التى آوى إليها آدم إلى أن أخرج منها ، وقيل هى فى السماء السابعة ، وسميت كذلك لأن أرواح المؤمنين تأوى إليها ، أو لأن جبريل وميكائيل يأويان إليها ؛ وجنات الخائفين (الرحمن ٤٦) ، يخافون أن يعصوا الله : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) (٤٦) (الرحمن) ، أى خاف قيام ربّه واطّلاعه عليه ، أو خاف مقامه بين يدىّ ربّه للحساب فترك المعصية ، وهما بستانان فى عرض الجنة ، (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) (٦٢) (الرحمن) ، فهذه أربع جنان ، يقال لهن «جنات من خاف مقام ربّه» ، جنتان منهما للسابقين المقرّبين ، وجنتان لأصحاب اليمين ، وفى الأوليين من كل فاكهة زوجان ، فعمّ ولم يخصّ ، وفرش من الديباج ، وحور حسنهن كحسن الياقوت والمرجان ؛ وفى الأخريين فاكهة ونخل ورمان ولم يقل من كل فاكهة ، والفرش لها رفارف خضراء ووشىّ حسن ، وحور خيّرات حسان لا يرقى حسنهن إلى حسن الياقوت والمرجان. والجنتان الأوليان كثيرتا الأغصان ، والأخريان كثيرتا الخضرة. فهذا بعض ما فى هذه الجنات للمؤمنين ، وما خفى كان أعظم : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٧) (السجدة) ، وفى الحديث فى معنى الآية أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : قال الله عزوجل : «أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر» قيل ذلك لأعلى أهل الجنة منزلا.

٤١٤

١٣١٣ ـ فى القرآن : كلما تذكر النار ذكرت الجنة

يتعاقب ذكر المؤمنين والكافرين فى القرآن ، وإذا ذكر جزاء الكافرين يتلوه جزاء المؤمنين ، وكل عقاب يأتى بعده الثواب ، ولا يذكر الضلال إلا إذا ذكر الهدى ، يترافق التبشير والتحذير ؛ وطريقة القرآن هى الطريقة الجدلية ، بأن يعرض الشيء ونقيضة ، ونقول عن ذلك : طريقة المتقابلات ، ومنها أنه كلما تذكر النار ذكرت الجنة ، فالأولى للتخويف ، والثانية للترغيب ، كقوله تعالى : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) (٤٧) (القمر) ، و (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) (٥٤) (القمر) ، أو كقوله تعالى : (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) (٧) (الحجرات) ؛ أو كقوله : (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) (٥) (الفتح) ، و (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) (٦) (الفتح) ؛ أو كقوله : (إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) (٧٥) (الأعراف) و (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) (٧٦) (الأعراف).

* * *

١٣١٤ ـ الحسنى من أسماء الجنة

يقول تعالى : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) (٩٥) (النساء) : و «الحسنى» هى الجنة وتأتى بهذا المعنى فى القرآن إحدى عشرة مرة ، وهى للذين أحسنوا (يونس ٢٦) ، وللذين استجابوا لربّهم (الرعد ١٨) ، ويجزى بها المؤمنون الصالحون (الكهف ٨٨) والمصدّقون (الليل ٦) ، وعكسها «السّوأى» ، وهى جهنم ، كقوله : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى) (١٠) (الروم).

* * *

١٣١٥ ـ الجنة مقام أمين

يقول تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) (٥٢) (الدخان) ، والمقام هو المكان ، وهو الإقامة أيضا ، والأمين الذى يؤمن فيه من العذاب ، والجنات العيون بدل من المقام الأمين ، يعنى أن الجنات والعيون مقام أمين لهم.

* * *

١٣١٦ ـ جنات عدن بين القرآن والتوراة

يتكرر هذا المصطلح ـ (جنات عدن» فى القرآن إحدى عشرة مرة ، وتأتى عدن متقارنة بجنات بالجمع ، والمفسرون على القول بأنها هى جنات الإقامة ، يعنى من يدخلها يتوطّن فيها فتصبح كوطنه ، من قولهم فى العربية عدن المكان أى توطّن فيه. وقيل : جنات عدن هى قصبة الجنة ، أى أحسن ما فيها ، كالمدينة تكون قصبة للقرى. وقيل : هى بطنان الجنة ،

٤١٥

أى وسطها. وقيل : هى قصور من ذهب ، لا يدخلها إلا نبىّ ، أو صدّيق ، أو شهيد ، أو حكم عدل. وقيل : عدن أعلى درجة فى الجنة ، وفيها عين التسنيم ، والجنان حولها محفوفة بها ، ينزلها الأنبياء ، والصدّيقون ، والشهداء ، والصالحون ، ومن يشاء الله. وبالاختصار فإن جنة عدن ، «مدينة الله» ، وهى «الطوبى» أو «اليوتوبيا الربّانية» ، فهى أصل الخير ومنبته. ومدينة عدن أو عدن فى اليمن على ذلك المعنى ، فهى مدينة الخير ، ويقولون أنها مدينة الذهب ، والذهب أنزله الله من السماء ، مثله مثل المعادن الأخرى ، وتكوّن بالانفجارات النووية فى النجوم العماليق. ومثلما أن الأرض هى كوكب الحديد حيث لب الأرض تصل نسبة الحديد فيه إلى ٩٠ فى المائة ، فإن جنة عدن هى كوكب الذهب. وفى القرآن : (الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ) (٣٥) (فاطر) ، فأطلق عليها اسم «دار المقامة» ، ويحرّفها البعض إلى «جنات الإقامة» ، وهى كما يأتى عنها فى القرآن : (خالِدِينَ فِيها) (٧٦)؟ (طه). والأحاديث فى نعيم أهل هذه الجنان لا تحصى ، وأكثرها تناول النعيم المادى ، وفى الجانب النفسى يصف القرآن أهل هذه الجنات بأن الحزن قد ذهب عنهم (فاطر ٣٤) ، والحزن هو الوحشة والخوف والحذر ، وأنهم ما عادوا يعانون نصبا ولا لغوبا (فاطر ٣٥) ، والنصب : هو تعب الأبدان فى العبادات والسعى لتحصيل الأرزاق ؛ واللغوب : هو التعب النفسى الروحى ، وفى الحديث : «ليس على أهل لا إله إلا الله له وحشة فى الموت ، ولا فى القبور ، ولا فى النشور ، وكأنى أنظر إليهم عند الصيحة ينفضون رءوسهم من التراب ، يقولون : الحمد لله الذى أذهب عنا الحزن إن ربّنا لغفور شكور». ولهذه الجنات أبواب (ص ٥٠) ، وفى الأحاديث أنها ثمانية أبواب ، وهى مفتّحة للمتّقين ، فهؤلاء روادها ، وهى لذلك (دارُ الْمُتَّقِينَ) (٣٠) (النحل) ، وأوصافهم فيها أنهم محلّون بأساور من ذهب ولؤلؤ ، ويلبسون الثياب الخضر من السندس والإستبرق والحرير ، ويتكئون على فرش ، يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب ، وعندهم قاصرات الطرف أتراب (ص ٥١) ، والكهف ٣١ ، وفاطر ٣٣) ، والأنهار تجرى من تحتهم ، ومساكنهم فيها طيبة ، ويزيدهم منها ما يشاءون (ص ١٢ / ١٣) ، وفى الحديث : «إن فى الجنة لغرفا ترى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها». وفى توصيف المتّقين أصحاب هذه الجنات : أنهم يوفون بعهد الله ، ولا ينقضون الميثاق ، ويصلون ما أمر الله به أن يوصل ، ويخشون ربّهم ، ويخافون سوء العذاب ، ويصبرون ابتغاء وجه الله ، ويقيمون الصلاة ، وينفقون مما رزقهم سرّا وعلانية ، ويدرءون بالحسنة السيئة ، فأولئك لهم عقبى الدار ، يعنى عاقبة الآخرة ، وهى الجنة بدل النار ، إذ الدار غدا داران : الجنة للمؤمنين ، والنار للكافرين (الرعد ٢١ / ٢٥) ، وهؤلاء

٤١٦

«الطيبون» إذن هم الذين يدخلون جنات عدن ، ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ، تحيّيهم الملائكة من كل باب ، يقولون لهم قبل الدخول : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٣٢) (النحل) ، ويقولون لهم بعد الدخول : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (٢٤) (الرعد).

والمستشرقون على القول بأن جنة عدن أخذها محمد من التوراة ، من سفر التكوين ، الفصل الثانى ، العبارة ٨ ، ولا أجد مناسبة إطلاقا بين ما فى التوراة عن هذه الجنة وما فى القرآن ، فجنة التوراة بمعنى «بستان» ، جعله الله لآدم فى الدنيا ، وعلى الأرض ، ليزرع فيه ويأكل من زرعه ، وأنبت له من كل الثمرات ، ويخرج منه نهر يسقيه ويتشعب إلى أربعة أنهر ، أحدها فى الحويلة ، والآخر فى الحبشة ، والثالث فى آشور ، والرابع هو الفرات!!!

والكلام ـ كما ترى ـ غير علمى ، ويتصادم بشدة مع حقائق الجغرافيا ، وكما ترى فإن جنة أو بستان عدن ـ كما يجيء فى التوراة ـ هى جنة واحدة ، يعنى بضعة قراريط من الأرض بوسع آدم وزوجته أن يفلحها وتكفيه لطعامهما! وأما جنات عدن فى القرآن فهى بصيغة الجمع فى الإحدى عشرة مرة التى أتت فيها فى مختلف سوره ، ومكانها الآخرة ، وأما مفسرو التوراة ، فلمّا صدّقوا أن جنة عدن فى الأرض ، ذهبوا كل مذهب يبحثون أين كانت وفى أى مكان ، قالوا : إنها كانت فى تركيا ، لأن الفرات والدجلة ينبعان منها ؛ وقال غيرهم : كانت فى جنوب العراق حيث يتفرّع الفرات والدجلة ويصبان فى شط العرب ؛ وقيل : إن سهل بابل كان قديما يسمى عدنو ، والحويلة جزء من الجزيرة العربية يجاور العراق ، فمن المحتمل أن جنة عدن هى عدنو هذه. وسبب تكهنات اليهود حول الاسم عدم اعتقادهم بوجود زمان ومكان خارج التاريخ ، وما قاله هايدجر فى ذلك هو بتأثير الثقافة اليهودية فيه ، وما أخذه عنه الدكتور عبد الرحمن بدوى هو ذلك الجانب من اليهودية المتعلق بنفى الآخرة زمانا ومكانا ، وفى كتابه «الزمان الوجودى» يشرح ذلك بإسهاب ، فهو ابن الثقافة اليهودية بلا منازع ، وكذلك معلمه هايدجر الألمانى! والمسلمون على الاعتقاد بوجود زمان ومكان خارج هذا الزمان وهذا المكان ، واصطلحوا عليه باسم الآخرة ، والجنة والنار ، ولذلك قالوا بأن جنّات عدن هى دار المقام بالآخرة ، وأما اليهود فقالوا إن عدن معناها البهجة والسرور ، وجنة عدن هى حديقة الله لآدم على الأرض ، فانظر إلى مقصد اليهود والمسلمين من تفسير كلمة عدن ، والتفسير العربى هو المنطقى ، لأن المعادن والمعدن وفعل عدن كلها مشتقة من الإقامة ولا تشتق من السرور. وما كانت جنة عدن العبرية دار سرور وبهجة ، بل كانت دار نحس ورزء ، لأن فيها عصى الله آدم فكان ما كان ، وفى القرآن أن

٤١٧

آدم لمّا غوى وعصى أمر أن يهبط ومن معه إلى الأرض ، والهبوط نزول من الأعلى إلى الأسفل ، يعنى أنها فى السماء وليست فى الأرض كقول اليهود. وكما ترى : هناك اختلاف شديد بين مصطلح عدن العربى والمصطلح العبرى ، وهو اختلاف لغوى ، وإيتيميلوچى ، وإيديولوجى ، وفلسفى ، وغائى ، فكيف يقال إن محمد سرق الاسم من التوراة؟! وإنى لأحسب أننا بإزاء الملّة اليهودية كأننا إزاء بناء متواضع ، بسيط كل البساطة ، وفقير كل الفقر ، بالمقارنة بصرح الإسلام ، الغنى فى دلالاته ، والثرى فى معانيه. ولله الحمد والمنة.

* * *

١٣١٧ ـ جنات الفردوس

هى جنات وليست جنة واحدة ، كقوله تعالى : (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ) (آل عمران ١٥). وقوله : (لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ) (٨) (لقمان) ، وقوله : (فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى) (السجدة ١٩) والجنة درجات ، أعلاها جميعا جنّات الفردوس ، فهى الأفضل والأرفع والأعلى ، وهى سرّة الجنان ، وليس فيها ما هو أعلى منها ولا أزكى ، وأهلها من شروطهم أنهم : الحافظون على صلواتهم وفروجهم ، والخاشعون كلما كانوا فى صلاة ، والمعرضون عن اللغو ، والفاعلون للزكاة ، والمراعون لأماناتهم وعهودهم ، فأولئك هم ورثة هذه الجنات. وقيل الفردوس فارسية أو رومية أو حبشية وعرّبت ، فإن كان الأمر كذلك فالأغلب أنها توافق بين اللغات ، وجمعها فرادس ، والصحيح أنها عربية ، وكان العرب يطلقون على الكروم اسم الفراديس ، وعلى الكرم اسم الفردوس ، وفى اليمامة مكان يدعى هكذا ، وأيضا فى الشام. وفى الشعر عند أمية بن الصلت (المتوفى ٥ ه‍) :

كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة

فيها الفراديس والفومان والبصل

وأمية جاهلى ، واستخدامه لكلمة فراديس فى الجمع يجزم بشيوع الكلمة. وفى الحديث عند مسلم : «فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة ، ومنه تفجّر أنهار الجنة» وقيل : الفردوس جبل الجنة الذى تنفجر منه أنهار الجنة.

* * *

١٣١٨ ـ جنة المتقين

المتّقون وعدو الجنة ، فما هى هذه الجنة؟ وما شكلها؟ وما أوصافها؟ وما ذا يميزها عن الدنيا ، وعن النار؟ يضرب الله لها مثلا فى الآية : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ)

٤١٨

(١٥) (محمد) ، يضرب الله للجنة مثلا يرسم لها به صورة تقريبية يمكن أن تعبّر عنه لغة الناس من خبراتهم مما يشاهدونه فى الدنيا ، وبوسعهم أن يتصوروه مقارنا بما فى الجنة ، ففي الجنة ثلاثة أشياء يوجد مثلها فى الدنيا وتعد من نعمها ، هى : الماء والخمر ، والعسل ، ولكن شتّان بين نعم الدنيا ونعم الجنة ، فماء الجنة غير آسن : أى غير متغيّر الرائحة ، والآسن من الماء مثل الآجن ، ويقال للماء تتغير رائحته أسن ؛ وأنهار الجنة من اللبن لا يتغير طعم لبنها : أى لا يحمض بطول المقام كما تتغير ألبان الدنيا ؛ وبها أنهار من الخمر ، بها لذة للشاربين : أى لم تدنسها الأيدى كخمر الدنيا ، فهى لذيذة الطعم ، طيبة الشرب ، لا ينكرها الشاربون ، كقوله تعالى : (لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) (٤٧) (الصافات) ، فنفى الله عزوجل عن خمر الجنة الآفات التى تلحق فى الدنيا من خمرها ، من الصداع والسكر ؛ وبالأنهار من العسل المصفّى : والعسل هو ما يسيل من لعاب النحل ، ومصفّى ليس به شمع ولا قذى ، ولم يطبخ على نار ، ولا دنّسه النحل ، ولم يخرج من بطونها ، وقوله تعالى : (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) : يعنى : أفمن يخلد فى هذا النعيم كمن يخلد فى النار؟ ومثل أهل الجنة فى النعيم المقيم كمثل أهل النار فى العذاب المقيم ؛ فلمّا وعد المتقين بأنهار الماء غير الآسن واللبن والخمر ، وقارن ذلك بشراب أهل النار ، قال : (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً) : أى حارا شديدا يقطع الأمعاء.

* * *

١٣١٩ ـ أصحاب الجنة

الصحبة : هى الاقتران بالشىء فى حالة ما ، فإن كانت الملازمة والخلطة فهى كمال الصحبة. وهكذا فى صحبة أصحاب الجنة ، وأصحاب النار. وأصحاب الجنة : هم أهلها المستحقون لنعيمها ، ويطلق أيضا اسم أصحاب الجنة على الملائكة المشرفون عليها وعلى سكانها من الحور والولدان وغيرهم.

وأصحاب الجنة من المؤمنين هم : (١) : عباد الله المخلصون (الصافات) ، (٢) : الذين آمنوا وعملوا الصالحات (البقرة ٢٥) ؛ (٣) : والذين ينفقون فى السرّاء والضرّاء ، والكاظمون الغيظ والعافون عن الناس (آل عمران ١٣٤) ؛ (٤) : والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون (آل عمران ١٣٥) ؛ (٥) : والذين يتّقون ربّهم (آل عمران ١٩٨) ؛ (٦) : والمطيعون لله ورسوله (النساء ١٣) ؛ (٧) : والصادقون (المائدة ١١٩) ؛ (٨) : والذين يعون كلام الله ويذكرونه (الأنعام ١٢٦) ؛ (٩) : والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا فى سبيل الله بأموالهم

٤١٩

وأنفسهم (التوبة ٢٠) ؛ (١٠) : والذين يقاتلون فى سبيل الله فيقتلون ويقتلون (التوبة ١١١) ؛ (١١) : والذين أحسنوا (يونس ٢٦) ؛ (١٢) : والذين أخبتوا إلى ربّهم (يونس ٢٣) ؛ (١٣) : وأولوا الألباب (الرعد ١٩) ؛ (١٤) : الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق (الرعد ٢٠) ؛ (١٥) : والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربّهم ويخافون سوء الحساب (الرعد ٢١) ؛ (١٦) : والذين صبروا ابتغاء وجه ربّهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقهم الله سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة (الرعد ٢٢) ؛ (١٧) : يدخلونها ومن صلح من آبائهم وآباء المؤمنين وأزواجهم وذرياتهم من الصالحين (الرعد ٢٣) ؛ (١٨) : والذين تتوفاهم الملائكة طيبين (النحل ٣٢) ؛ (١٩) : والذين تابوا وآمنوا وعملوا صالحا (مريم ٦٠) ؛ (٢٠) : والذين يتزكّون (طه ٧٦) ؛ (٢١) : والذين صبروا وعلى ربّهم يتوكلون (العنكبوت ٥٩) ؛ (٢٢) : والذين قالوا ربّنا الله ثم استقاموا (فصلت ٣٠) ؛ (٢٣) : والذين آمنوا وكانوا مسلمين (الزخرف ٦٩) ؛ (٢٤) : وكل أواب حفيظ (ق ٣٢) ؛ (٢٥) : ومن يخشى الرحمن بالغيب ، وجاء بقلب منيب (ق ٣٣) ؛ (٢٦) : والذين كانوا قبل ذلك محسنين وكانوا قليلا من الليل ما يهجعون ، وبالأسحار يستغفرون ، وفى أموالهم حق للسائل والمحروم (الذاريات ١٦ ـ ١٩) ؛ (٢٧) : وذرية الذين آمنوا واتبعتهم بإيمان (الطور ٢١) ؛ (٢٨) : والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان (التوبة ١٠) ؛ (٢٩) : والمقتصدون والسابقون بالخيرات (فاطر ٣٢) ؛ (٣٠) وأصحاب اليمين (الواقعة ٢٧) ؛ (٣١) : ومن يؤتى كتابه بيمينه (الحاقة ٩) ؛ (٣٢) : والمصلون ، الذين يصدّقون بيوم الدين ، ومن عذاب ربّهم مشفقون ، ولفروجهم حافظون ، ولأماناتهم وعهدهم راعون ، وبشهاداتهم قائمون (المعارج ٢٢ / ٣٤) ؛ (٣٣) : والأبرار الذين يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شرّه مستطيرا ، ويطعمون الطعام على حبهم مسكينا ويتيما وأسيرا (الإنسان ٥ / ١٠) ؛ (٤٣) : والذين يخافون مقام ربّهم وينهون النفس عن الهوى (النازعات ٤٠) ؛ فهؤلاء هم أصحاب الجنة ، طوبى لهم وحسن مآب (الرعد ٢٩) ؛ وطوبى هى الجنة ، والجنة هى حسن المآب وعقبى الدار.

* * *

١٣٢٠ ـ أحوال أصحاب الجنة

الأحوال : هى صفات الشيء وهيئاته وكيفياته ؛ وأحوال أصحاب الجنة : هى ما هم عليه من ظروف وطرق معيشة وحاجات ؛ والجنة هى يوتوبيا الدين ، واليوتوبيا فى اصطلاح أهل الحكمة هى المكان المثالى ، وعند حكماء اليهود هى مدينة الله ، غير أن اليهود يجعلون

٤٢٠