موسوعة القرآن العظيم - ج ٢

دكتور عبد المنعم الحفني

موسوعة القرآن العظيم - ج ٢

المؤلف:

دكتور عبد المنعم الحفني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
ISBN: 977-208-422-2
الصفحات: ١٢٤٤
الجزء ١ الجزء ٢

١٢٣٦ ـ السمع والأبصار والأفئدة

هذه الجوارح الثلاث هى أهم الجوارح فى الإنسان ، ورئيسها الفؤاد أو القلب ، وهو أشرف الثلاث ، والقلب موضع الفكر ، وقد يتأثر بالسمع والبصر لما بينها جميعا من ارتباط هو ارتباط الظاهر بالباطن ، فالقلب للباطن ، والسمع والبصر للظاهر. والسمع فى الترتيب يأتى أولا ، لأننا نسمع أولا ، فإذا سمعنا توجهنا بالبصر إلى ما نسمع ، فإذا سمعنا وبصرنا عقلنا ، والعقل بالفؤاد ، قال تعالى : (أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل ٧٨) ، فعند ما نولد لا ندرك ولا نعلم ، ثم يأتى الإدراك والعلم من بعد. وفى السمع إثبات النطق ، لأن من لا يسمع لا يتكلم ، وإذا وجد السمع وجد النطق. واستوجبت النّعم الثلاث الشكر على من يسمع ويبصر ويعقل ، فإذا لم يعقل ويشكر فإنما لفساد القلب ، وبالتالى فكأنه لم يسمع ولم يبصر : (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) (النحل ١٠٨) فتعطّل السمع والبصر نتيجة لتعطّل القلب ، وهذا هو معنى : (طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) ، كقوله : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) (البقرة ٧) ، فالختم يكون على القلوب وعلى السمع ، والغشاوة تكون على الأبصار ، ومعنى الختم على القلوب عدم الوعى بمخاطبات الله بالتفكير فى آياته ؛ ومعنى الختم على السمع عدم فهم ما يتلى عليهم من آيات الله ، أو الدعوة إلى وحدانيته ؛ ومعنى الختم على الأبصار عدم هدايتها للنظر فى مخلوقاته وعجائب مصنوعاته ، ولا أقل فى هذه الحالة من أن يوظّف السمع والأبصار ، والحسىّ عموما ، لرصد ما يصنعه كل إنسان ، كقوله تعالى : (حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (فصلت ٢٠). ويزعم المستشرقون : أن القرآن جعل الأبصار جمعا ولكنه وحدّ السمع ، وكان يجب أن يجمع الأسماع؟ والجواب : إنما وحّده لأنه مصدر يقع للقليل والكثير ، وهو اسم للجارحة المسموع بها سمّيت بالمصدر. ويأتى السمع مع الأبصار عشر مرات فى القرآن ، ولم يأت السمع مع البصر إلا مرة ، كقوله : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (الإسراء ٣٦) ، وفى المرات العشر فإن لكل قلب وبصر ما يشغله ، ولذا كان التعبير عنها بالجمع ، فإن كان السمع للجميع واحد ، نقول سمعا ولا نقول أسماعا. وفى الحديث عن هذه الجوارح باعتبارها أعضاء أوردها مفردة ، فالفؤاد فى الآية كجارحة يسأل عمّا افتكر فيه واعتقده ، والسمع والبصر عمّا رأى من ذلك وسمع ، وعبّر عن السمع والبصر والفؤاد «بأولئك» ، لأنها حواس مستقلة لها إدراك ، وجعلها فى هذه الآية مسئولة ، وجعل لها وللجلود ـ وهى من الحواس أيضا ـ شهادة. ومجىء السمع

٣٤١

فى الترتيب قبل البصر دليل فضل السمع عليه ، فالسمع يدرك من الجهات الست ، وفى النور والظلمة ، ولا يدرك البصر إلا من الجهة المقابلة ، وبواسطة من ضياء وشعاع. وفى أسماء الله الحسنى يأتى أنه «سميع بصير» إحدى عشرة مرة ، وأنه «سميع عليم» ٣٢ مرة ، وأنه «سميع قريب» وذلك دليل أكيد على فضل السمع على البصر.

* * *

١٢٣٧ ـ السحر

السحر أصله التمويه بالحيل والتخاييل ، وهو أن يفعل الساحر أشياء ومعانى ، فيخيل للمسحور أنها بخلاف ما هى به ، كالذى يرى السراب من بعيد فيخيّل إليه أنه ماء ، وكراكب السفينة السائرة حثيثا أو القطار ، يخيل إليه أن ما يرى من أشجار وجبال تسير معه. والسحر يشتق من الفعل سحر أى خدع ، والسحر خداع ، والتسحير مثله ، وقوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) (الشعراء ١٥٣) ، أى الذين وقعوا ضحية السحر حتى فسدت به عقولهم. والسحر : هو الاستمالة ، فمن يسحرك يستميلك ، وقوله تعالى : (نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) (الحجر ١٥) أى سحرنا فذهبت معارفنا وحلّت محلها تخيلاتنا. والسحر لا ينطلى إلا على أشخاص بأعينهم ، يتميزون بالاستهوائية والتجاوب السريع. ومن السحر ما يكون خفة يد كالشعوذة ، ومنه ما يحفظ كلاما كالرقى. وسمى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الفصاحة فى الكلام واللسان سحرا فقال : «إن من البيان لسحرا» ، لأن السامع يضل بكلام المتكلم عن الحق فيظن الباطل حقا ، وهو قول يخرج مخرج الذمّ للبلاغة والفصاحة إذ يشبّهها بالسحر. وقيل خرج مخرج المدح للبلاغة والتقليل للبيان ، والأول أصحّ ، بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض» ، وقوله : «إن أبغضكم إلىّ الثرثارون المتفيقهون» ، والثرثرة هى كثرة الكلام ، والثرثار كثير الكلام ، والمتفيقه مثله.

ومن السحر ما يدّعون به تغيير صور الناس ، وقطع المسافات ، والطيران فى الهواء ، وكان ذلك فى الماضى لسذاجة الناس ، والآن قد يفعله العلماء بالتكنولوچيا وليس بالكلام. وبعض أهل الدين يؤمنون بالسحر ويدّعون أن له حقيقة ، وأصحاب العقل وأولو النهى يرفضونه ويصفونه بالتمويه والتخييل ، وفى القرآن قال : (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) (طه ٦٦) ، ولم يقل تسعى على الحقيقة وإنما قال : «يخيل إليه» ؛ وقال أيضا : (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) (الأعراف ١١٦). ومن السحرة فنانون فى سحرهم ، وفى القرآن صنفان : (ساحِرٌ كَذَّابٌ) (ص ٤) ، و (ساحِرٍ عَلِيمٍ) (الأعراف ١١٢) ، والأول : هو النصّاب ، والثانى : هو هذا الفنان فى سحره ، وهناك ثالث : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) (يونس ٢) يعنى

٣٤٢

سحره ليس كالشعوذة. والقرآن مع القول بأن السحر : هو فن التأثير على الناس بالقول وخفة اليد ، وليس بالواقع كقوله تعالى : (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) (يونس ٧٧). وقيل : لو لم يكن السحر واقعا لما قال : (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) (البقرة ١٠٢) ، ولما وصف سحر سحرة فرعون فقال : (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) (الأعراف ١١٦) ، ولما نزلت سورة الفلق التى كان سبب نزولها سحر لبيد بن الأعصم ، ولما قالت عائشة : «سحر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يهودى من يهود زريق يقال له لبيد بن الأعصم» ، والحديث لم يقل إن سحر لبيد أثّر على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم تكن سورة الفلق إلا تعويذة بدلا من تعاويذ الجاهلية ، وليس معنى الاستعاذة بالله من السحرة أن فعلهم يقع ، فلو آمنا بذلك لكان هذا هو الشّرك الخفى ، لأننا نجعل لله شركاء يفعلون فى الناس ما يريدون وكأنهم آلهة؟! ومن الأكاذيب أن يقال أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سحر ، فلو كان سحر فكيف نأتمنه على الرسالة؟ وكيف يأمنه ربّه عليها؟ ومن يقل ذلك ينتقص من النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن الإسلام كديانة. ورواية عائشة عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله شفانى» لم يقل بها سواها ، ولم يشهد على صحتها أحد ، ولا يوجد ما يثبت أن عائشة قالت ذلك عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والحديث لا يثبت أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ضحية السحر ، وقوله المزعوم «إن الله شفانى» إنما لأنه تعالى الشافى دائما ، والمعافى دوما ، وهو يشفى من كل علّة ، والسحر ليس مرضا حتى يشفى منه ، وإنما السحر تغيير فى حالة الشخص ، والتغيير لا هو نفسى ولا عضوى ، فلا هو مرض نفسى ولا مرض عضوى ، فكيف يفهم أن شفاءه كان من السحر مع أن السحر ليس بمرض أصلا؟!

والسحر بخلاف المعجزة ، وآيات موسى من إنزال الجراد والقمل والضفادع إلخ معجزات وليست سحرا ، والسحر يوهم به الساحر ، ولكن المعجزة لا يوهم بها ولا يأتيها إلا الله ، وشرطها : دعوى النبىّ والتحدّي بها.

والسحر من استخراج الشياطين ، وفى القرآن نص الله تعالى أن ما يعلمه الملائكة لا سحر فيه ، وإنما السحر يعلّمه الشياطين ، كقوله : (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) (البقرة ١٠٢) ، فنفى أن يكون الملائكة يعلّمون السحر ، بل يعلمه هاروت وماروت بدلا من الشياطين ، فالسحر من استخراجهم ، يوهمون به الناس ، وأكثر ما يتعاطاه النساء وخاصة فى أحوال طمثهن ، وفى ذلك يقول تعالى : (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) (الفلق ٤) ، فجعل النفث صناعة السحر عند النساء ، وأعطى هؤلاء اسم

٣٤٣

النفّاثات ، والتعوّذ من شرّهن يعنى من نواياهن الخبيثة وليس أن نفثهن فى العقد يفلح فى تغيير المصائر والأحوال ، وإلا فلما ذا لا نسمع فى عصر العلم بالسحرة والسحر؟ فافهم يا أخى المسلم ، ويا أختى المسلمة.

* * *

١٢٣٨ ـ الشفاعة

يأتى عن الشفاعة فى القرآن ثلاثون مرة ، والشفاعة فى الدنيا نوعان : حسنة وسيئة ، وحكمهما قوله تعالى : (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها) (النساء ٨٥). والشفاعة فى اللغة : سؤال فعل الخير ، وسؤال ترك الضرر عن الغير ، على سبيل التضرّع. وفى الآخرة لا شفاعة إلا لله : (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) (الزمر ٤٢) ، ولا شفيع من دونه : (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) (الأنعام ٥١) ، ولا شفاعة أصلا إلا من بعد إذنه تعالى : (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) (يونس ٣) ، وفى السنّة : أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هؤلاء المأذون لهم بالشفاعة ، يسألها ربّه لأمته فيقول له : «يا محمد ، ارفع رأسك وقل يسمع ، واشفع تشفع». والشفاعة فى الدنيا تقتضى حاكما مستبدا لا حاكما عادلا ، لأنها تقتضى منه أن يتخلى عن العدل من أجل الشفيع ، وأن يفسخ ما كان يتوجب عليه أن يتوجه إليه عزمه. والحاكم المستبد هو الذى يقبل أن يحكم بخلاف ما يعلم أنه الصواب والحق ، والشفاعة بهذا المعنى ظلم ومحال على الله ، لأنه تعالى يستحيل أن يغيّر إرادته ، ولا أن يحوّل عدله. وإرادته تعالى بحسب علمه الأزلى لا تغيير فيها ولا تبديل. وعلى ذلك فما ورد فى الشفاعة من الأحاديث هو من المتشابه ، والمسلمون فى هذه الأحاديث على التفويض فيما لا يعلمون ، وينزّهون الله عن الشفاعة على شاكلة ما يرونه منها فى الدنيا. وكان ابن تيمية يرى فى أحاديث الشفاعة أن ما ذكر فيها عن شفاعة الرسول ، أن الشفاعة المقصودة هى دعاؤه للمسلمين ، ولا تعنى أن المولى سيرجع بشفاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو شفاعة الملائكة والمؤمنين ، عن إرادته من أجل الشافع أو الشافعين. وما ورد فى القرآن عن يوم الحساب قاطع حاسم بشأن الشفاعة ، ومن هذا اليوم تنقطع الأسباب ، وتبطل منفعة الأنساب : (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) (المؤمنون ١٠١) ، ولا يدفع فيه بالفداء ، ولا بشفاعة الشافعين ، وتضمحل الوسائل ، إلا ما كان من إخلاص العمل قبل حلول الأجل.

وفى الشفاعة قال الإمام محمد عبده : إن الشفاعات فى إفساد الحكومات والدول والشعوب أشد فتكا من الذئاب الضارية بالغنم. وفى الحكومات التى تروج فيها الشفاعات يعتمد الناس على الشفاعة فى ظل ما يطلبون ، لا على الحق والعدل ، فتضيع فيها الحقوق ،

٣٤٤

ويحل الظلم محل العدل ، ويسرى ذلك من الحكومات إلى الناس فيكون الفساد عاما ، وهو حال بلادنا ، والاعتقاد الشائع فيها أن لا قضاء لمصلحة إلا بالشفاعة والرشوة. وبهذا المعنى تستحيل الشفاعة على الله ، لأن ما يقضى به إنما هو تابع لحكمته وعلمه وعدله والحق الذى هو اسمه. وهذه الشفاعة التى يتعلق بها السفهاء قد نفاها الله يوم الحساب ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) (البقرة ٢٥٤) ، وفى ذلك نفى تام لأى نوع من الشفاعة ، بل هو القسط والميزان : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) (٤٧) (الأنبياء ٤٧).

وقد ذهب البعض إلى القول بالشفاعة للمسلم الذى ينطق بالشهادة وإن زنا أو سرق ، وينفى القرآن ذلك البتة فى الآية : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) (النساء ١٤) ، فالعاصى إذن فى النار مخلدا ، وليس ما يقولون أنه يدخل لفترة ثم يقر فى الجنة بعد أن ينال جزاءه ؛ وكذلك القاتل : لا يعذّب لبعض الوقت وإنما هو مخلّد فى النار ولا شفاعة فيه ، كقوله : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) (النساء ٩٣). والظالمون كذلك : لا شفاعة لهم ، وهم مخلّدون فى النار : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) (غافر ١٨) ؛ وكذلك المنافقون : (وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) (التوبة ٦٨). وإذن فلا استثناء لأحد بدعوى الإسلام أو غيره ، وإنما الحساب والميزان : (ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) (الكهف ٤٩) ، (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) (يونس ٦١) ، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٨) (الزلزلة) ، رفعت الأقلام وجفّت الصحف.

* * *

١٢٣٩ ـ الصابئة فرقة نصرانية يهودية

وهم الصابئون أيضاSabeans ، ويأتى ذكرهم فى القرآن ثلاث مرات بصيغ مختلفة ضمن فرق أخرى ؛ فى الأولى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة ٦٢) ، وتنبّه الآية إلى أن الاسم لا يهم ، وإنما المهم أن هؤلاء كانوا مؤمنين بالله وباليوم الآخر ويعملون الصالحات ، وبناء عليه لهم ثوابهم عند الله ولا خوف عليهم ولا هم يصيبهم القلق على أنفسهم ؛ وفى الثانية : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ

٣٤٥

مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (المائدة ٥) فاختلفت الصياغة وقدّم الصابئون على النصارى ، وزعم المستشرقون أن القرآن قد أخطأ فى النحو ورفع «الصابئون» ، وكان يجب النصب بإن ، أو أن كتبة القرآن أخطئوا ، والصحيح أنه لا خطأ هناك ، ورفع «الصابئون» محمول كما ذكرنا على تقديمها والنصارى ، وتقديره : إن الذين آمنوا والذين هادوا ، من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا ، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وكذلك الصابئون والنصارى» ، وبذلك ينحل الإشكال وتسقط دعوى أمثال المستشار العشماوى الذى يصرّ على تخطئة رفع «الصابئون». وفى الثالثة : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) (الحج ١٧) يتأكد أن هذه الفرق الست منها فرقة ضالة وبقية الفرق كانت مؤمنة ، إلا أن اعتقاداتها اختلفت ، وزاد شقة الخلاف بينها مع الزمن ، وإنما كانت اعتقادات فى أولها صحيحة ثم انحرفت وكانت على الضلال. والقرآن فى الآيات الثلاث اعتبرها وتحدّث عنها فى أوائل ظهورها وليس بعد انحرافها عن الجادة ، ومن ثم فليس هناك خطأ فيما جاء بالآيات من ثناء عليها. والصابئة من صبأ ، تقول صبأت النجوم ـ أى طلعت ؛ وصبأت ثنية الغلام إذا خرجت ؛ والصابئة على ذلك هم فرقة خرجت من فرقة أخرى ، وكانوا مندائيةMandaeans ، وعقيدتهم غنوصية أى عرفانية ، والغنوص أو العرفانية قال بها اليهود وزاد فيها النصارى ، ومن ثم كان الصابئة ـ مثلما كان المندائية ـ من الفرق اليهودية المسيحيةJudaeco ـ christian ، وهذا هو سبب تسميتهم صابئة ، أى الذين خرجوا من غيرهم من الفرق. والغنوص gnosis ، والغنوصيةgnosticism هما القول بمعارف غيبية ، وأن الله يستدل عليه بالحدس لا بالعقل ، وبالوجد لا بالاستدلال ، والصابئة والمندائية ذهبوا إلى ذلك ، وقالوا بإلهين للنور والظلام ، وقضى الإسلام على المندائية ، وما تزال فى العراق بقايا من الصابئة. وأخطأ المفسرون المسلمون الذين قالوا : إن الصابئة أهل كتاب ، لأنهم لم يكن لهم كتاب على الحقيقة ، وأخطأ المفسرون اليهود الذين ذكروا أن الصابئة أتباع يوحنا المعمدان (النبىّ يحيى) ، وأنهم هم فرقة المغتسلين أو المتطهّرين الذين مارسوا العماد ، ومنهم المسيح ، وقد عمّده يوحنا. وكان المغتسلون أو المتطهّرون فى زمن لوط واتّهمه قومه بأنه منهم. وأخطأ ماسينيون وتلميذه عبد الرحمن بدوى عند ما أرجعا صحيح الاسم إلى كلمتى «ماس بوتا» يعنى تخمّر الماء وهى عملية من الشعائر المعمودية ، فما علاقة صابئة بماس بوتا؟! والشهرستانى المؤرخ الإسلامى المشهور للفرق ، قال إن الصابئة هم عبدة النجوم ، واشتهر ذلك عنه ، وذكر أنهم كانوا يسمون أنفسهم «الروحانية» ، لأنهم

٣٤٦

اعتقدوا أن النجوم أرواح ، وأنها تؤثر فى الكون وتنهض على تصريفه ، من أرزاق ومحاصيل ، وتجارة وحروب ، ومواليد ووفيات ، وزواج وطلاق ، وقيام دول وسقوطها إلخ. واشتهر الصابئة لذلك بالتنجيم وقراءة الطوالع. وقال فيهم الإمام أبو حنيفة مقالة غريبة انحرف بها عن الصواب وجانب التاريخ ، وجعل تعظيمهم للنجوم كتعظيم المسلمين للكعبة! فلا يقال إنهم عبدة نجوم ، كما لا يقال إن المسلمين يتعبّدون للكعبة!! وقال عن ديانة الصابئة أنها ديانة نبوية ، ويبدو أنه اقتنع بمن قال إن أنبياء الصابئة اثنان هما عاذيموس وإدريس ، أو أن عاذيموس هو نفسه إدريس بالعربية ، وقال عن ملّتهم إنها الفطرة وليس الاكتساب ، وذكر أن أتباع إدريس كانوا الصابئة الأولى. وقال غيره : إن الصابئة يعبدون الملائكة ، ويصلّون إلى القبلة ، ويقرءون الزبور ، وقالوا إنهم يصلون الخمس! ولا أدرى من أين جاءوا بهذا الكلام إلا أن يكونوا يقصدون أن الإسلام أخذ منهم الصلوات الخمس! والغريب أنهم نسبوا إليهم أيضا أنهم موحّدون على دين نوح وإن اعتقدوا فى النجوم ، وأن ديانتهم خليط من اليهودية والمجوسية ، وعلى هذا الأساس حللوا ذبائحهم ومناكحة نسائهم ؛ والبعض حرّموا ذلك ، ونسبوا إليهم أن قبلتهم نحو مهب الجنوب. والغريب أيضا أن يسلّم الدكتور عبد الرحمن بدوى بقول المستشرقين : أن اسم الصابئة من الصيباوية التى ورد عنها فى قاموس أصول الدين الكاثوليكى المنشور سنة ١٨١٤ م ، وهو يعلم أن غرض المستشرقين بيان أن محمدا أخذ قرآنه من أصول يهودية مسيحية ، وأن هناك افتئاتا واضحا فى هذا الادعاء الذى لم يقدّم صاحبه دليلا واحدا عليه. والقرآن هو الأصحّ ، وفى الكويت وبين طلبة الجامعة عرفت شخصيا طالبين عراقيين ، وطالبة عراقية ، ذكروا جميعا أنهم من الصابئة الذين ذكرهم القرآن ، وكان اعترافهم ضمن اعتذار عن الخوض فى الإسلام والقرآن لجهلهم بهما ، وتبين لى من مناقشتهم أنهم مندائية ، وأن الصابئة هو اسم عقيدتهم بين إخوانهم ، ولم ينفوا وجود إله ، ولكنهم كانوا يعتقدون فى النور والظلام ، والخير والشرّ كمبادئ للوجود. والقرآن تحدّث عنهم كما كانوا فى بداية ظهورهم كحديثه عن التوراة الأولى والإنجيل كما نزلا على موسى وعيسى ، بمعنى أقوال موسى وعيسى عن الله ، وكلام القرآن فى التوراة والإنجيل لا يتصادم مع قوله إن اليهود والنصارى حرّفوا فيهما ، فالتحريف كان من بعد ، وكذلك حديث القرآن عن الحنيفية على عهد إبراهيم فى حين أنها على زمن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت قد حرّفت ، ومن ثم كان قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه جاء «بالحنيفية السمحاء» تصحيحا للحنيفية القائمة ، وإحياء للحنيفية الحقّة. وكذلك قول القرآن فى الفرق الدينية منذ نوح : (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (٢٦) (الحديد) ، وفى النصارى : (فَآتَيْنَا

٣٤٧

الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (٢٧) (الحديد) وما ذكره القرآن عن الصابئة الأولى هو هذا الثناء الذى لم يعجب الدكتور بدوى ، حتى صرح فى ختام مقاله ، بأن الصابئة مشكلة فى القرآن يصعب معها تبرير هذا الثناء ، وأنه لا يجب أن نيأس بأن نجد لها حلا ، فأوهمنا بأنها مشكلة لا حلّ لها!! يا دكتور! المشكلة فيك أنت وفى علمك المبتور بالقرآن! ولو كان ما تقوله صحيحا لكانت هناك مشكلة فى الموائمة بين امتداح القرآن للتوراة وبين جزمه بالتحريف فيه ، وبين ثنائه على الإنجيل وما جاء فيه أن عيسى ابن الله! وما أنبّه إليه إخوانى المسلمين أن كلام القرآن فى التوراة والإنجيل ، يقصد به التوراة الأولى والإنجيل الأول ، وليس هذه التوراة الثانية وهذا الإنجيل الثانى ، وكلاهما محرّف ولا يقول الحقيقة ، وعلى ذلك ينبغى الحذر من أقوال عبد الرحمن بدوى فى القرآن ، لأنها مستقاة عن المستشرقين وليس عن اعتقاد بالقرآن. وعبد الرحمن وجودى ملحد أصلا كما أقر فى كتابه الزمان الوجودى ، وكتابه عن رابعة العدوية ، وفى السيرة الذاتية ، وقد نبّه مؤلف هذه الموسوعة إلى ذلك كثيرا فى كثير من مؤلفاته ، وفى كتابه موسوعة الفلسفة ، وكتابه عن رابعة ، وفى كتابه موسوعة الصوفية.

* * *

١٢٤٠ ـ الصّافون

من صفّ أى انتظم فى صفوف ، والصّافون : هم أهل الإسلام يصفّون لربّهم فى الصلاة صفوفا ، تشبّها بالملائكة الصافين فى قوله تعالى : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) (الصافات ١) قيل : هم الملائكة يصفّون عند ربّهم فى صلاتهم كصفوف أهل الدنيا فى الأرض ، وفى الحديث : «ألا تصفّون كما تصف الملائكة عند ربّها»؟ فسأله الصحابة : وكيف يصفّون؟ قال : «يتمون الصفوف الأول ، ويتراصّون فى الصف» أخرجه مسلم ، وكان عمر يقول إذا قام للصلاة : أقيموا صفوفكم واستووا ، إنما يريد الله بكم هدى الملائكة عند ربّها : (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) (الصافات ١٦٥) ، وكان الناس يصلون متبددين فأنزل الله : (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) (الصافات ١٦٥) ، فأمرهم النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يصطفوا. وقيل : يصطف الملائكة حول العرش ، وكذلك يفعل المؤمنون خلف إمامهم. وإقامة الصفوف من الإيمان ، ومن حسن الصلاة ، وتعنى التلاحم والتآزر والتساوى والتآخى ، وهذه صفات الصافّين الذين هم المؤمنون.

* * *

١٢٤١ ـ الصدق والصادقون والصدّيقون

الصدق ضد الكذب. والصدق فى اللغة هو مطابقة الحكم للواقع ، والإبانة عما يخبر

٣٤٨

به على ما كان ، وقول الصدق فى مواطن الهلاك التى قد لا ينجيك فيها إلا الكذب. وعوارض الصدق فى الصادق أن لا يكون فى أحواله شين ، ولا فى اعتقاده ريب ، ولا فى أعماله عيب. والصادقون : هم أهل الصدق. وعن مالك بن أنس قال : كلما كان الرجل صادقا لا يكذب ، إلّا متّع بعقله ، ولم يصبه ما يصيب غيره من الهرم والخرف. وفى قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (١١٩) (التوبة) ، يعنى على مذهب الصادقين وسبيلهم ، وهم الأنبياء ، يكونون معهم بالأعمال الصالحة ؛ أو أنهم هم المرادون بقوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) (البقرة ١٧٧) ، وقيل هم المهاجرون ، سمّاهم بالصادقين (الحشر ٨) ، وبالمفلحين (الحشر ٩). والصادقون تستوى ظواهرهم مع بواطنهم ، فلا يكون متسع للنفاق فى العقيدة أو الفعل ، ويقال لصاحب هذه الصفة أنه الصدّيق. والصدّيقون من الأنبياء فى القرآن خمسة : إبراهيم (مريم ٤١) ، ويوسف (يوسف ٤٦) ، وإدريس (مريم ٥٦) ، وإسماعيل (مريم ٥٤) ، وهارون (القصص ٣٤). وكانت مريم صدّيقة (المائدة ٧٥). والصدّيقون فى التعريف : (الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) (الحديد ١٩) ، ولهم أعلى المراتب عند الله (النساء ٦٩) ، وكان أبو بكر صدّيقا ، وقيل : وعمر وعثمان. والصادق والصدّيق كلاهما يلازم الصدق فى الأقوال ، والإخلاص فى الأعمال ، والصفاء فى الأحوال ، إلا أن الصدّيق أعلى من الصادق. وفى الحديث : «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدى إلى البرّ ، وإن البرّ يهدى إلى الجنة ، وما يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا». والكذب على الضد من ذلك ، وفى الحديث : «إياكم والكذب ، فإن الكذب يهدى إلى الفجور ، وإن الفجور يهدى إلى النار ، وما يزال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب حتى يكتب عند الله كذّابا» أخرجه مسلم ، فالكذب كفر ، وأهله لا شهادة لهم ، وقد ردّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شهادة رجل فى كذبة كذبها. والكذّاب لا يصلّى خلفه ، ولا يصلح منه جدّ ولا هزل ، ولا أن يعد ، ولا يقبل خبر الكاذب وإن صدق. والصادقون يصدقون ما عاهدوا الله (الأحزاب ٢٣) ، ويقال : صدق الله (آل عمران ٩٥) ، وصدقه تعالى لأنه يجيء بالحقّ ، والحقّ اسمه ، كقوله : (مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) (النساء ٨٧) ، وقوله : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) (النساء ١٢٢).

وقدم الصدق (يونس ٢) : هو عمل المؤمنين الصالح عند ربّهم ، كقول القائل : «له قدم

٣٤٩

فى الإسلام» يعنى له فضل ، وقول حسّان بن ثابت : «لنا القدم العليا» ، وقول ذى الرمة : «لكم قدم لا ينكر». ومبدأ الصدق» فى قوله : (بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) (يونس ٩٣) هو منزل أو مقام الصدق. و «مدخل ومخرج صدق» (الإسراء ٨٠) هو أن يكون دخول العبد فى مختلف الأمور وخروجه منها بالله ، ولله لا لغيره. ولسان الصدق فى قوله : (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ) (مريم ٥٠) : وهو الذكر الحسن ، فما أحد يذكرهم إلا بالخير العميم. و «مقعد الصدق» (القمر ٥٥) هو مجلس الصدق ، أى القربة والزلفة من الله تعالى. وقوله : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) (الأنعام ١١٥) هو ما أخبر به من الحق لا مرية فيه ، صدقا فيما قال ، وعدلا فيما حكم ، ولا معقب على ما يقول ولا على ما يحكم. وكما الصدق فى الرجال فكذلك فى النساء : (الصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ) (الأحزاب ٣٥).

* * *

١٢٤٢ ـ الصلاح كمقابل للفساد

الآيات فى الصلاح ، والإصلاح ، والمصلحين ، والصالحات ، كثيرة ، وتزيد على الآيات عن الفساد ، والإفساد ، والمفسدين. وهناك ٢٨٠ آية فى الصلاح ، بينما لم تزد آيات الفساد عن ٧٢ ، وقد تتناول الآيات الصلاح وحده ، أو الفساد وحده ، وقد تجمع بينهما ، كقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) (البقرة). والفساد ضد الصلاح ، وحقيقة الفساد العدول عن الاستقامة إلى ضدها ، تقول : فسد يفسد فسادا وفسودا ، وهو فاسد وفسيد ، والمعنى فى الآية : لا تفسدوا فى الأرض بالكفر وتأليب الناس على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانت الأرض قبل أن يبعث يشيع فيها الفساد ، وتفعل فيها المعاصى ، فلما بعث ارتفع الفساد وصلحت الأرض ، فإذا عادوا للمعاصى بعد الإصلاح ، عاد الفساد وسيطر المفسدون. وفى بلادنا عمّ الفساد ، وطمّ ، وحقّ فيها قوله تعالى : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) (٤١) (الروم) ، والفساد فى مصر من نوع «الفساد الكبير» فى الآية ٧٣ من سورة الأنفال ، ومشكلة بلادنا هى الطبقة التى تبغى الفساد (القصص ٧٧) ، والتى تعمل على ظهوره (غافر ٢٦) ، وهي الطبقة المترفة الحاكمة التى قال فيها الله تعالى : (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ) (١٢) (الفجر) ، وقال : (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (٦٤) (المائدة) ، والله يعلم المفسد من المصلح (البقرة ٢٢٠) ، وجزاء هؤلاء كما قال : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ

٣٥٠

عَذابٌ عَظِيمٌ) (٣٣) (المائدة) ، إلا من تاب وعمل صالحا ، أو أراد الإصلاح فى الأرض وبين الناس (النساء ١١٤) ، والله لا يضيع أجر المصلحين (الأعراف ١٧٠) ، ووعد من يعمل صالحا أن يحييه حياة طيبة (النحل ٩٧) ، وأن يورّث الأرض عباده الصالحين (الأنبياء ١٠٥).

* * *

١٢٤٣ ـ الطاغوت والطاغية

الطاغوت اصطلاح قرآنى ، والكلمة مؤنثة ، من طغى يطغى ، ويطغو إذا جاوز الحدّ ، ووزنه طاغوت وفعلوت ، وقيل هو اسم مذكر مفرد يقع للقليل والكثير ، وهو مصدر لرهبوت وجبروت ، ويوصف به الواحد والجمع ، وأصله من الطغيان ، ولم أقرأ كتابا ضد الطغيان مثل القرآن ، ويأتى فى القرآن عن الطغيان وما يتعلق به ٣٩ مرة ، وعن الطاغوت وحده ٨ مرات ، وفيها جميعا تقبيح للطغيان ، وقد يأتيه الفرد : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) (طه ٢٤) ، أو الجماعة : (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) (الذاريات ٥٣) ، وقوله تعالى فى الطاغين أن لهم : (لَشَرَّ مَآبٍ) (ص ٥٥) ، وليس فى أمم العالم من هو أطغى من اليهود : (كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) (النجم ٥٢) وفيهم الآية : (وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) (الإسراء ٦٠). والطاغوت هو الكاهن ، وهو الشيطان ، وهو الجبّار فى الأرض ، والحاكم المستبد ، وطواغيت أمة الإسلام كثيرون ، ومن مصطلحات القرآن فيهم أنهم الجبّارون والفراعنة ، وكلمة فرعون تعنى الجبّار ، والفراعنة هم الجبارون ، وهذه لغة آشور ، فقد كان من يحكم أرض جاسان فى مصر (محافظة الشرقية) هم هؤلاء الفراعنة ومعهم جرت قصص إبراهيم ويوسف وموسى ، وانتشر عن ملوك مصر أنهم الفراعنة وأن تاريخهم هو التاريخ الفرعونى ، وذلك نتيجة الغزو الفكرى اليهودى لمصر وللثقافة المصرية ، ولم يذكر تاريخ مصر القديمة أى شىء عن اليهود ولا الفراعنة ، لأنهم كانوا جميعا من الأغراب وحكاياتهم وقعت بعيدا على أطراف حدود مصر الشرقية. والجبروت كالطاغوت ، ومن يمارس الجبروت قد يكون فردا ، كقوله تعالى : (كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) (هود ٥٩) ، أو جماعة ، كقوله : (قَوْماً جَبَّارِينَ) (المائدة ٢٢). وجمع الطاغوت الطواغيت ، والتحاكم إلى الطاغوت فى الآية : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا) (النساء ٦) هو التحاكم إلى قوانين يفصّلها أذناب الطواغيت تفصيلا ، ومن أقوال أحد رؤسائهم : «إن كل شىء فى بلادنا بالقانون» ، غير أن القانون هو الذى تضعه زبانيته ، وهم الذين يوافقون عليه بإيعازه ، ثم يكون الخروج عليه جرما ، وفى الأول والآخر هو الطاغوت أو هو قانون الطاغية.

* * *

٣٥١

١٢٤٤ ـ طور سيناء

يتكرر اسم الطور فى القرآن عشر مرات ، منها مرتان ـ واحدة بالإضافة إلى سيناء ، وواحدة بالإضافة إلى سينين. والطور اسم الجبل الذى كلم الله عليه موسى ، وأنزل عليه فيه التوراة ، كتبها ألواحا. والطور فى سيناء من أرض مصر ، وكانت سيناء منذ الأزل أرضا مصرية ، ولا بد أن اسم سيناء لذلك اسم مصرى ، فلما ذا يذهب المفسرون بعيدا ويزعمون أن الطور اسم سريانى وكذلك سيناء؟ وفى التوراة أن جبل الطور اسمه حوريب ، ويتكرر اسم سيناء فيها ٣٥ مرة ، وفى ١٧ مرة يسمى حوريب ، وبحسب التوراة ـ ولا شىء مما تقوله مثبوت تاريخيا ـ أن العبرانيين قضوا سنة على جبل الطور. وقيل إن جبل الطور أو حوريب هو جبل سربال فى وادى فيران ، وهذا كذب إذا قلنا إن العبرانيين كانوا من الكثرة فلا يمكن أن تستوعبهم برية جبل سربال لمدة سنة. وقيل إنه جبل موسى ، إلا أن ذلك كذب أيضا ، لأن جبل موسى شديد الارتفاع ومن المستحيل تسلقه ، لأنه حاد الصخور وشديد الانحدار وشدّة الضوء فيه مؤلمة للعينين. وأسفل جبل موسى يوجد وادى اشتهر باسم وادى الراحة ، باعتبار أن موسى وجماعته ارتاحوا فيه ، ولا يمكن أن يستوعبهم الجبل ولا الوادى بأعدادهم التى ذكرها التوراة ـ كان العدد ستمائة ألف وثلاثة آلاف وخمسمائة وخمسين! يعنى نحو ستة ملايين نسمة! وهذا العدد هو للذكور فقط من ابن عشرين سنة فصاعدا ، يعنى بدون الأطفال والنساء ، فيكون العدد الكلى نحو خمسة عشر مليونا!! فكيف بالله تم الخروج بهؤلاء ، وكيف عاشوا على الجبل أو فى الوادى الضيق؟! (بصرف النظر عن الخطأ فى الجمع فى التوراة) ؛. وقيل إن طور سينين فى الآية الثالثة من سورة التين ، أصلها سينيم التى ذكرها النبىّ إشعيا ، قال : يأتون من أرض سينيم ، يعنى البلاد البعيدة ، قيل إنها حيث برية سين ، إلا أنها ليست بلادا بعيدة ، وقيل هى أرض عيلام وكانوا يطلقون عليها أرض سينيم أى الأرض المرتفعة. وهناك أيضا أرض سين قرب عرفة عند سفح جبل لبنان. ونقول للمستشرقين الذين زعموا أن محمدا هو مؤلف القرآن : أكان محمد يعرف كل هذه الاختلافات التى لم يحسمها اليهود فيما بينهم للآن؟ وهل كان عنده العلم بالفرق بين سيناء ، وسينين ، وسين؟!! وكأنى بمحمد عالم بالچيولوچيا والجغرافيا والتاريخ واللغات؟ ألا يتّقى هؤلاء الله؟!

وقوله تعالى : (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) (البقرة ٦٣) يعنى كظلّة ؛ (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) (مريم ٥٢) يعنى يمين موسى مقبلا ، لأن الجبال لا يمين لها ولا شمال ؛ (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) (المؤمنون ٢٠) هو الجبل الذى كلم الله عليه موسى وهو

٣٥٢

بأرض مصر كما سبق ، وذلك أن كثيرا من كتب التفسير تكتب أنه من أرض الشام ، وهذه الشجرة هى شجرة الزيتون وتميز أرض وجبال سيناء. وفى سورة الطور يقسم الله تعالى بجبل موسى هذا فيقول (وَالطُّورِ) (١) ، كما يقسم بالتين والزيتون كآيتين تميزان طور سيناء ، ويسميه أيضا طور سينين ، يقول : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ) (٢) (التين). والقسم بالجبال كالقسم بالبلاد والنجوم والكواكب من مناهج القرآن ، ويتكرر الجبل والجبال فى القرآن تسع وثلاثون مرة ، تعظيما وتشريفا لها ، وحضّا على توقيرها ، وتعبّدا لخالقها ومبدعها سبحانه.

* * *

١٢٤٥ ـ الطيرة والزّجر وأثارة العلم والأزلام

فى القرآن : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (الأعراف ١٣١). والتطيّر : هو التشاؤم ، والأصل يطيّروا ، من الطّيرة وزجر الطّير ، ومن كثرة استعمال المصطلح صار عاما فاستعير للتشاؤم ، وكانت العرب تتيمن بالسّانح : وهو الذى يأتى من جهة اليمين ، وتتشاءم بالبارح : وهو الذى يأتى من جهة اليسار. ويتطيّرون أيضا بصوت الغراب ويتأوّلونه إنذارا بالبيّن والفراق. وكانوا يستدلون بمجاوبات الطيور بعضها بعضا ، وبأصواتها فى غير أوقاتها. وكان العربى يقول : من لى بالسانح بعد البارح ، يعنى يتمنى الفأل الطيب بعد الفأل السيئ. وفى التّطيّر قال النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أقرّوا الطير على وكناتها» يعنى دعوها فى أعشاشها ، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يأتون بالطيور من الأعشاش ثم ينفرونها لكى تطير ، فإما ناحية اليمين ، وإما ناحية اليسار. واليمين هو السانح ، واليسار هو البارح. ونهى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن التّطيّر وقال : «الطّيرة شرك» ، وقال : «من رجعته الطيرة عن حاجته فقد أشرك». وقوله تعالى : (طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) (الأعراف ١٣١) أى ما قدّر لهم وعليهم.

والفأل : هو الاستدلال بما يسمع من الكلام على ما نريد من الأمر إذا كان حسنا ، فإذا سمعنا مكروها فهو تطيّر. ومن ذلك أيضا «الاستقسام بالأزلام» ، كقوله تعالى : (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ) (المائدة ٣) ، وهو قداح الميسر ، واحدها زلم والجمع زلم ، وعددها ثلاثة ، على أحدها يكتبون افعل ، وعلى الثانى لا تفعل ، والثالث مهمل لا شىء عليه ، فإذا أراد أحدهم فعل شىء ، أدخل يده إلى جراب فيه القداح ، فيأتمر بأمر ما يخرجه منها. و «استقسام الرزق» استدعاؤه. وهناك غير هذه «قداح النوازل» وهى سبعة ، و «قداح الحظوظ» وهى سبعة أيضا ، وكانوا يضربون بها مقامرة ، لهوا ولعبا. و «الاستقسام» هو طلب القسمة والنصيب. ومثل ذلك «السهام على الطرقات» والفأل أو التطيّر بها ، ومنها «رقاع الفأل».

٣٥٣

وأما «أثارة العلم» فى قوله : (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) (الأحقاف ٤) ، فإن الأثارة هو خط كانت تخطه العرب فى الأرض أو الرمل ، فمن وافق خطه فذاك ، وهو نوع من ضرب الرمل والودع ، فيخط الخط ثم يلقى الودع ، فإن جاء على يمين الخط فخير ، وإن جاء على يساره فشر ، ثم إن كل ودعة لشىء ، فواحدة معروفة بشكلها للحظ ، وثانية للمرض ، وثالثة للعدو ، وهكذا ـ ومثل ذلك «قراءة الفنجان» ، و «قراءة خطوط اليد».

* * *

١٢٤٦ ـ الظلم والظالمون

الظلم لغة : هو وضع الشيء فى غير محله ؛ وفى الشريعة هو التعدّى عن الحقّ إلى الباطل ، ويقال : ظلمه أى جار عليه وفعل له الظلم ، والجور من الظلم ، تقول : جار عن الشيء أى مال عنه ، وجار عليه ظلمه ، والجائر هو الظالم ، وفى التنزيل : (وَمِنْها جائِرٌ) (النحل ٩) أى حائد عن الحقّ ، وهؤلاء هم أهل الأهواء وملل الكفر. والفرق بين الظلم والجور أن الظلم جور أشد ، وهو طمس لنور الحق ، ومنه كانت الظلمات ، بمعنى ذهاب النور ، كقوله : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ) (٢٠) (فاطر). وقيل : الظلم : هو البطش والاستيلاء ، والأخذ بغير حق ، ومجاوزة الحدّ ، وهو درجات ، ومنه الأشد ، كقوله : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان ١٣) ، وقوله : (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) (النجم ٥٢) ؛ والظلّام : هو الكثير الظلم كقوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (آل عمران ١٨٢) ، لأن الظلم يستحيل على الله ، فلا ملك ولا حقّ لأحد معه ، بل هو الذى خلق المالكين وأملاكهم وتفضّل عليهم بها ، وعهد لهم الحدود ، وحرّم وأحلّ ، فلا حاكم يعقبه ، ولا حقّ يترتب عليه. وقيل : الظلم نقيض العدل والقسط والحق ، والله تعالى وصف نفسه بالعدل وبالحق ، وقال عن نفسه : (قائِماً بِالْقِسْطِ) (آل عمران ١٨) ، والعادل والحقّ من أسمائه تعالى وليس الظالم ، والإنسان مركوز فيه الظلم ويوصف به : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) (الفرقان ٢٧) ، وتوصف به الجماعة كما فى الدعاء : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها) (النساء ٧٥) ، وفى قوله : (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ) (الحج ٤٥). والظلوم : هو الكثير الظلم ، مثله مثل الظلّام ، كقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (إبراهيم ٣٤) ، وقوله : (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (الأحزاب ٧٢). وظلم الإنسان للغير قد يكون له ما يبرره ، وإنما غير المبرر ظلمه لنفسه ، كقوله : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) (الأعراف ٢٣) ، وقوله : (إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) (النمل ٤٤) وظلمه لنفسه أن يعميها فلا تبصر الحق ، ويصمها فلا تسمعه ، ويوردها موارد الهلكة. والظالم

٣٥٤

لنفسه له عذاب بئيس ، ويظل ظلمه يتابعه ويلاحقه ، ويطلق النفسانيون على ذلك اسم الندم ، وعذاب الضمير. ولا معذرة للظلم ، ولا فداء به ؛ والظلم من شيم الطغاة وهو أنسب لهم ؛ والهجرة من حق المظلوم. ويؤذن له أن يقاتل بأنه ظلم ، وأن ينتصر من بعد. ومن الظلم : العدوان ، والزور ، وهضم الحقوق ، والعلو ، وقد يأتيه الفرد كما تأتيه الجماعة ، ولا يورث ، وقد ينجب الظالم محسنا. ومن دأب الظالمين الشقاق البعيد ، وبعضهم أولياء بعض ، ولا يزدادون إلا خسارا وتبارا.

والآيات فى الظلم كثيرة فى القرآن ، ويتكرر وروده بها ٣٠٨ مرة ، وفى الحديث : «أنصر أخاك ظالما أو مظلوما» ، وقيل : يا رسول الله ، هذا تنصره مظلوما ، فكيف تنصره ظالما؟ قال «تأخذ فوق يديه» ، فكنّى به عن كفّه عن الظلم بالفعل إن لم يكفّه القول ، وعبّر بالفوقية إشارة إلى اللجوء إلى الشدّة معه. وفى رواية قال : «يكفّه عن الظلم ، فذاك نصره إياه». ونصر الظالم ، بمنعه من الظلم. من تسمية الشيء بما يئول إليه ، وهو من وجيز البلاغة. وفى قوله تعالى : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) (النساء ١٤٨) ، وقوله : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) (الشورى ٣٩) ، أن للمظلوم أن ينتصر بمثل ما ظلم وليس عليه ملام ، وله أن يجهر بالسوء : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣) وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) (الشورى) ، وكأنه يدعو المظلوم أن يعفو عن الظلم : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى (٤٠) أو أن يردّ الظلم بالمثل : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (الشورى ٤٠). وفى الحديث : «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة» ، يعنى أن ظلمات الظالم تكتنفه وتحيط به يوم القيامة فلا يغنى عنه ظلمه. وقد ينتصر المظلوم بالدعاء على الظالم ، وفى الحديث : «اتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب» ، وفى دفع الظلم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قتل دون ماله فهو شهيد» ، وفى رواية : «من أريد ماله ظلما فقتل فهو شهيد» ، وفى الحديث عند مسلم قيل : أرأيت يا رسول الله ، إن جاء رجل يريد أخذ مالى؟ قال : «فلا تعطه» ، قال : أرأيت إن قاتلنى؟ قال : «فقاتله» ، قال : أرأيت إن قتلنى؟ قال : «فأنت شهيد» ، قال : أفرأيت إن قتلته؟ قال : «فهو فى النار» ، والحديث فيه : أن للإنسان أن يدفع الظلم عن نفسه وماله ، ولا شىء عليه ، وهو شهيد إذا قتل ، وإذا قتل فلا قود ـ أى قصاص ـ عليه ، ولا دية ـ أى تعويض. وقصاص الظالمين يوم القيامة أن يأتيهم العذاب : (فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى

٣٥٥

أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦) فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ) (إبراهيم). وأما المؤمنون فكما جاء بالحديث : «يحبسون يوم القيامة بقنطرة بين الجنة والنار ، فيتقاضون مظالم كانت بينهم فى الدنيا ، حتى إذا نقّوا وهذّبوا أذن لهم بدخول الجنة».

* * *

١٢٤٧ ـ العتيق والمكاتب والمدبّر

العتق فى اللغة : هو الخلوص ، وفى القرآن : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (٢٩) (الحج ٢٩) ، وهو البيت الحرام ، قيل سمى كذلك لأن الله أعتقه من أن يتسلّط عليه جبّار بالهوان إلى انقضاء الزمان ، أو أن الله عزوجل يعتق فيه رقاب المذنبين من العذاب ، أو لأنه بيت العبادة لأمة جعلت من أهدافها عتق الفاسق من العبودية لغير الله. ولم توجد ديانة ، ولا ملّة ، ولا مذهب سياسى قال بتحرير الرقيق كما جاء فى الإسلام ، والرقّ اليوم هو الاستعمار الجديد ، والإمبريالية الرأسمالية ، والتسلّط اليهودى على العالم ، ولا فرق بين استيراد الزنوج إلى أمريكا وغيرها قديما غصبا عنهم ، واستيراد الزنوج الجدد من أصحاب المؤهلات من مختلف البقاع تحت اسم الهجرة. وفى اليهودية أن الإسرائيلى إذا ابتاع عبدا إسرائيليا فله أن يخدمه ست سنوات ، وفى السابعة يخرج حرا مجانا ، وإن كانت له زوجة تخرج زوجته معه ، وإن زوّجه مولاه فولدت له فالمرأة وأولادها ملك سيده ، ويخرج هو وحده ، وإن رفض أن يخرج وحده وآثر أن يظل مع أسرته ، ثقب له مولاه أذنه ، فيخدمه أبد الدهر. ويمكن للإسرائيلى أن يبيع ابنته أمة ، وليس لمن يشتريها أن يبيعها لقوم غرباء ، وإن تزوّجها أو زوّجها لابنه ، فعليه أن يعاملها معاملة بناته فلا ينقصها طعامها ، ولا كسوتها ، ولا أوقاتها التى يبيتها معها ، فإن أخلّ واحدة منها فليس له عليها سلطان ، وتخرج من بيته مجانا بلا ثمن (الخروج ٢١ / ٢ ـ ١١). ويمكن للأخ أن يبيع نفسه لأخيه رقيقا ، وعلى الأخ أن لا يعامله كرقيق بل كأجير ، ويظل هكذا إلى سنة اليوبيل ، ثم يعود حرا (الأحبار ٢٥ / ٤٠ ـ ٤١). وللإسرائيليين أن يستعبدوا من الأمم من حولهم ، ومن أبناء الغرباء المقيمين فى إسرائيل ، ويكونون لهم ملكا ، ويورثونهم لبنيهم من بعدهم إرث الملك ، ويستخدمونهم أبدا ، وإذا ابتاع أجنبى إسرائيليا ، فعلى قومه أن يحرروه شراء من الأجنبى (الأحبار ٢٥ / ٤٧ ـ ٤٩). وإذا أبق عبد إسرائيلى إلى الإسرائيليين ، فعليهم ألا يسلّموه (تثنية الاشتراع ٢٣ / ١٥).

٣٥٦

وفى الإسلام : أن العتق هو التحرير ، وفى القتل الخطأ ، واليمين المنعقدة ، والظهار ، والوطء فى رمضان كفّارة تحرير رقبة كقوله تعالى : (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ) (النساء ٩٢) ، وقوله : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) (المائدة ٨٩) وقوله : (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) (المجادلة ٣). والعتق إذن كان من أفضل القرب إلى الله ، وكان المستحب عتق الذكر عن الأنثى ، وعتق من له دين وكسب فينتفع بالعتق ، فإن لم يكن له كسب وسيتضرر بالعتق ويصير كلّا على الناس ، فلا يستحب عتقه. وإن كان من يخشى عليه الفساد ، كالجارية يخاف منها الزنا ، فكان يكره إعتاقها. والعتق يشترط فيه النية ، والتلفظ بما يفيد العتق ، كأن يقال صراحة : أنت حرّ ، أو محرّر ، أو عتيق ، أو معتق ، أو يقال كناية : لا سبيل لى عليك ، أو أنت سائبة ، أو لا رقّ لى عليك ولا ملك ، وأنت لله. وكل من جاز تصرفه فى ماله ، وكان بالغا ، عاقلا ، رشيدا ، فله أن يعتق ، ولا يصحّ من مجنون أو صبى ، أو سفيه محجور عليه ، أو سكران ، أو مكره. ولا يصحّ إلا من مالك. ومثلما يحصل العتق بالقول ، فإنه يحصل بالملك ، والاستيلاء. وإذا اتفق السيد وعبده على أن يؤدى له مالا يعتق عليه ، كان عليهما أن يكتباه ويكون العقد بينهما عقد معاوضة ، ولو أبرأه السيد عتق ، ولا ينفسخ العقد بموت السيد ، والعبد حينئذ يسمى مكاتبا ، ولا يصحّ بيع المكاتب ولا هبته. ومن ملك ذا رحم محرّما ـ أى ذا قرابة يحرم بها النكاح ـ عتق عليه ، وولاؤه له ، وهو ما سمّيناه العتق بالملك. وإذا كان العبد لأكثر من واحد فأعتقوه فى نفس الوقت ، فإنه يصير حرا ، وولاؤه بينهم على قدر حقوقهم فيه. وإذا استثنى فى العتق ، كأن يقال له : أنت حرّ إن شاء الله ، يقع العتق ولا ينفعه الاستثناء. ومن الجائز عتق الأمة واستثناء ما فى بطنها ، وعتق الحمل (دون أمّه) ، وعتق الأمة صداق لها. والمملوك نفقته على سيده بقدر كفايته من الطعام والكسوة ، ويجب عليه إعفاف مملوكه وتزويجه إذا طلب الزواج ، وتسأل الأمة لو جاءها من يطلبها للزواج. وإذا كاتب عبد سيده لزمته نفقة نفسه ، وتجب نفقة الرقيق المرهون على الراهن ، ونفقة العتيق على معتقه إذا كان فقيرا ولمولاه يسار.

والمكاتبة : فى الشرع هو أن يكتب الرجل عبده على مال يؤدّيه ، فإذا أدّاه فهو حر ،

٣٥٧

كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) (النور ٣٣). وشرط المكاتبة : أن يكون العبد قادرا على الكسب وحده. والكتابة عقد معاوضة فلا تصحّ إلا عن تراض. ومن لا حرفة له لا يصحّ مكاتبته. والكتابة تكون بقليل المال وكثيره ، وتكون منجّمة أى على أقساط ، وسميت كتابة لأنها تكتب ويشهد عليها ، ويظل المكاتب عبدا ما بقى عليه من مال الكتابة شىء ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المكاتب عبد ما بقى عليه من مكاتبته درهم». وقيل : إذا أدّى الثلاثة أرباع وبقى الربع فهو غريم ، أى مديون ، ولا يعود عبدا ، وقيل : إنه يصير بعقد الكتابة حرا ، ويصبح غريما بالكتابة ، ولا يرجع إلى الرق أبدا ، ويعتق معه ولده الذين ولدوا فى كتابته ، والإسلام على سياسة منع الرق والاستعباد ، ولذلك يأمر الله تعالى أصحاب المال أن يعينوا المكاتبين بأموالهم ، بأن يعطوهم شيئا مما فى أيديهم ، أو يحطّوا عنهم شيئا من مال الكتابة ـ قيل ربع الكتابة ، وقيل الثلث ، وقيل العشر ، والقرآن يعطى ذلك اسم الإيتاء ، والخطاب فى الآية «وآتوهم» للناس أجمعين أن يتصدّقوا على المكاتبين ، وأن يعينوهم فى فكاك رقابهم. وكانت صفة عقد الكتابة أن يقول السيد لعبده : كاتبتك على كذا وكذا من المال ، فى كذا وكذا قسطا ، إذا أدّيته فأنت حر. ويقول العبد : قد قبلت ، ونحو ذلك من الألفاظ. والكتابة الفاسدة أن يكاتبه على عوض مجهول ، أو عوض حالّ ، أو محرّم كالخمر والخنزير. وكتابة المريض صحيحة ، وإن كان من مرض الموت اعتبر من ثلثه ، وتصحّ الوصية بالكتابة. وإذا علّق السيد عتق عبده بموته ، كأن يقول : أنت حرّ ، أو أنت محرّر ، أو عتيق ، أو معتق ، بعد موتى فإنه يصير مدبّرا ، وكذا إن قال : أنت مدبّر ، أو قد دبّرتك ، فإنه يصير مدبّرا بنفس اللفظ من غير افتقار إلى نيّة. والتدبير كمصطلح يعنى : التعليق للعبد فلا يصبح محررا إلا بعد موت السيد ، ويصحّ مطلقا ، أى من غير شرط إلا الموت ، أو مقيّدا ، كأن يقول : إن مت فى سفرى هذا فأنت حر. وقد يعلق التدبير على صفة ، كأن يقول : إن شفى ابني فأنت حر مدبّر. وإذا كان للعبد سيدان يشتركان فيه ، فتدبير أحدهما لنصيبه لا يسرى على نصيب الشريك الثانى. وإذا دبّر الصبى المميز صحّ تدبيره ، ولا يصح تدبير المجنون. ولا يبطل التدبير بالرجوع فيه. وكسب المدبّر لسيده أثناء التدبير ، وله أن يطأ أمته أثناء التدبير ، وإذا دبّر السيد عبده ثم كاتبه جاز. ويجزئ عتق المدبّر فى الكفّارة. وديته قيمته. وقيل المدبّر طلاقه اثنتان ، وقيل ثلاث طلقات وهو الصحيح ، وخلعه لزوجته صحيح ، وتعويض الخلع لسيده ، وخلع الأمة صحيح سواء كان بإذن سيدها أو بغير إذنه ، وطلاقها على عوض طلاق بائن ، والخلع معها كالخلع مع الحرة. وإن اجتمع العتق فى المرض والتدبير ، قدّم العتق ،

٣٥٨

وإن اجتمع التدبير والوصية بالعتق ، تساويا ، وقد يقدّم التدبير. ويعتق المدبّر بعد الموت من ثلث المال ، والمدبّر لا يرث ولا يورث لأنه لا مال له ، وأما المكاتب فإن مات وله ما يورث ، ورثه ورثته بعد أداء بقية كتابته لسيده إن كان عليه منها شىء. وفى الإسلام الآن لا يوجد رقّ ولا رقيق ، ولا مكاتب ، ولا عتيق ، ولا مدبّر ، وصار الناس جميعا أحرارا ، إلا ما تحاول الرأسمالية أن تحييه باستغلال العمال وطبقة الفلاحين والطبقة المتوسطة ، واسترقاق هؤلاء جميعا لمصلحة الاستعمار الجديد والإمبريالية العالمية. والله المستعان.

* * *

١٢٤٨ ـ العقل والتعقّل والمتعقلون

يخاطب القرآن أصحاب العقول ، ولذا يأتى فيه دائما «أفلا تعقلون» مثلما فى الآية (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٤٤) ، والآية (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٧٣) من سورة البقرة. والعقل يأتى فى القرآن ٤٩ مرة ، وفى اللغة يقال عقال البعير لأنه يمنع عن الحركة ، والمعقل هو الحصن المنيع. والعقل نقيض الجهل. والمسلمون على القول بأن العقل ليس بقديم ولا معدوم ، فلو كان معدوما لما اختص بالاتصاف به الإنسان دون غيره ، ولما تباين الناس بشأنه ، وقد ثبت وجوده ، ولكن يستحيل القول بقدمه ، لأنه لا قديم إلا الله. والعقل mind خلاف الذهن brain ، وخلاف المخ cerebrum ، فالعقل هو قوة الإدراك ، والذهن قوة الفهم فى العقل ، والمخ قطعة اللحم فى الدماغ بها خصائص الإدراك والحسّ ، وهو مكان العقل والذهن. ومن الفلاسفة من يقول إن الذهن فى المخ ، والعقل فى القلب ، أو أن العقل بخلاف القلب ، فالعقل يدرك ، ولكن القلب يفقه ، والعقل لا يقسو ، وإنما الذى يقسو ويرحم ويشفق هو القلب. وقد يقال للعقل النفس ، وهى التى مناطها الفجور والتقوى ، ومنها النفس اللّوامة ، والمطمئنة ، والراضية ، والأمّارة بالسوء. والعقل الذى هو مناط التكاليف الشرعية : هو العلم بوجوب الواجبات العقلية ، واستحالة المستحيلات ، وجواز الجائزات والضروريات ، ويمتنع أن يقال عاقلا من لا علم له أصلا ، أو عالما من لا عقل له أصلا. والقرآن عند ما يوجه الخطاب لذوى العقول ، إنما للحضّ على إدراك الحقائق ، وأحيانا يخاطبهم باسم (أُولُوا الْأَلْبابِ) (١٩) (الرعد) ، واللّب هو العقل الخالص من الآفات والجهل ، وكل لبّ عقل ، وليس العكس. وأحيانا يخاطبهم القرآن باسم «أولى النّهى» كقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) (٥٤) (طه) ، والنّهى هو العقل عند ما يكون عمله النّهى عن القبيح وكل ما ينافى العقل. وتنفرد العربية باسم «النّهى» حيث لا نظير له فى اللغات الأوروبية ، وقد يماثله عندهم السوبر إيجوSuperego أو الأنا الأعلى ، وعند كنط هو

٣٥٩

هو الآمر الخلقى The moral imperative. وكل قضايا القرآن بلا استثناء من المعقولات ، يعنى أنها تطابق العقل ، على عكس قضايا التوراة فإنها قضايا إلزامية قسرية تنافى العقل. وأيضا فإن قضايا الأناجيل ورسائل الرسل كلها فوق العقل ، يعنى ليست من المعقولات ، ولذلك لا يمكن أن تلزم العقلاء ، وانظر مثلا إلى وعد التوراة لليهود وعدا ملزما مع عدم استحقاقهم له ، وإلى إصرار النصارى على القول بأن المسيح ابن الله ، وأن له طبيعة إلهية مع أنه عاش كبشر. وهذا الفارق بين الديانات الثلاث هو الذى يجعل للعقل مكانة خاصة عند المسلمين ، وهو عندهم آلة تمييز ، وغريزة ، وقوة على المعرفة ، ونور ، وبصيرة ، وصفة يتأتّى بها درك الله تعالى من أسبابه فى الكون ، ونستنبط كل ذلك من آيات القرآن ، كآية التوحيد مثلا التى تقول : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) (البقرة ١٦٣) ، قيل لمّا نزلت هذه الآية ، تساءل كفّار قريش ، قالوا : هل من دليل على ذلك؟ فأنزل الله : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة ١٦٤) ، وكأنهم طلبوا دليل التوحيد بعد آية التوحيد ، ويخاطب الدليل العقل ، ويتوجه إلى العقلاء ، فإن هذا الكون المعجز ، لا بد له من خالق بان صانع ، وأن كل ما خلقه وبناه وصنعه لهو الدليل على وحدانيته وقدرته ، ولذلك كان الحديث : «ويل لمن قرأ هذه الآية فمجّ بها» ، أى لم يتفكّر فيها ويعقلها ويعتبرها. وفى القرآن كلما جاء «انظروا» أو «أفلا تنظرون» ، أو «أولم ينظروا» ، فاعلم أن الخطاب إلى العقلاء ، والنظر دعوة للتعقّل والتفكّر والتدبّر. فهذه إذن هى مكانة العقل فى القرآن ، ومكانة الدعوة إلى التعقّل. ولله الحمد والمنّة.

* * *

١٢٤٩ ـ العورة

عورة الرجل : ما بين السرّة والركبتين ، وليست السرّة والركبتان من العورة. وعورة المرأة : المرأة كلها عورة إلا الوجه والكفين ، ولذا يجيء فى القرآن : «إن بيوتنا عورة» ، يقصد بالبيوت من بها من النساء ، وفى آية الاستئذان لذلك : (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَ) (النور). والمرأة وإذا صلّت خمّرت رأسها. ويجب ستر العورة عند الاغتسال ، وأن تستر عورة الميت ، ويباح لكل من الزوجين النظر إلى جميع بدن صاحبه ولمسه ، ولكل رجل أن ينظر إلى

٣٦٠