موسوعة القرآن العظيم - ج ٢

دكتور عبد المنعم الحفني

موسوعة القرآن العظيم - ج ٢

المؤلف:

دكتور عبد المنعم الحفني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
ISBN: 977-208-422-2
الصفحات: ١٢٤٤
الجزء ١ الجزء ٢

١١٩٥ ـ الإخلاص

الإخلاص : هو إخلاص العبادة ، ومنه الخالص ، ومخلصون (بكسر اللام) ، كقوله تعالى : (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (الأعراف ٢٩) ، ومخلصون (بفتح اللام) كقوله : (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (الحجر ٤٠). وحقيقة الإخلاص : تصفية العقل عن ملاحظة المخلوقين ، وفى الحديث : «يا أيها الناس ، أخلصوا أعمالكم لله تعالى ، فإن الله تعالى لا يقبل إلا ما خلص له» أخرجه الدارقطنى. والإخلاص لله : هو ألا يريد صاحبه عليه عوضا فى الدارين ، وهو سرّ بين العبد وبين الله ، وفى الحديث القدسى : «سرّ من سرّى استودعته قلب من أحببته من عبادى».

* * *

١١٩٦ ـ إرم ذات العماد قبيلة من عاد

يأتى الاسم «إرم» مرة واحدة فى القرآن فى قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ) (٧) (الفجر). وقوله : (أَلَمْ تَرَ) استفهام تقريرى ، والخطاب للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمقصود به العرب جميعا ، ومن بعد ذلك المسلمون كلهم ؛ والرؤية المشار إليها ليست بصرية وإنما ذهنية ، بمعنى : ألم يبلغك ويصل إلى علمك وفهمك حكاية قوم عاد أهل إرم؟ ويتكرر عن عاد فى القرآن ٢٤ مرة ، وكثيرا ما يقرن اسم عاد باسم ثمود. وعاد أمة أو قبيلة دارسة كانت فى الغابرين (عاداً الْأُولى) (النجم ٥٠) ، إلا أن مساكنهم كانت ما تزال ترى آثارها : (وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ) (العنكبوت ٣٨) ، وهم قوم هود ، وكانت جريمتهم كقوله تعالى : (فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) (فصلت ١٥) ، وقوله : (كَفَرُوا رَبَّهُمْ) (هود ٦٠) ، وقوله : (وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) (هود ٥٩) ، فكانت عاقبتهم كقوله تعالى : (إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) (الذاريات ٤١) ، وكقوله تعالى فى وصف الريح (صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ) (الحاقة ٦). وإرم : قيل هو اسم أبيهم ، أو قبيلتهم ، أو أمّهم ، وقرئت «عاد إرم» مفتوحتين ، وقرئت بسكون الراء «إرم» كقراءتنا «بورقكم» ، وقرئت «عاد إرم ذات العماد» بإضافة إرم إلى ذات العماد ، وقرئ «أرم» بفتح الهمزة ، والسبب فى هذه القراءات المتنوعة جهل العرب بالاسم ومحاولتهم استكناه معناه ، فبحسب ما يظنون المعنى كانت محاولتهم تطويع قراءة الاسم. وعند بعضهم : أن عادا كان أحد أبناء إرم بن سام بن نوح ، كما يقول العرب عن بنى هاشم أنهم هاشميون. وقيل : إنه ربما إرم بمعنى رميم أى القديمة ، ولذلك فاسمها «عاد الأولى» ، وأما المتأخرون من عاد فهؤلاء «عاد الأخيرة». وربما كانت عاد قبيلتين بحسب مكان مساكنهم ، والأولى هى «عاد إرم» ، والثانية هى «عاد

٣٠١

ثمود» ، ولذلك قرن بينهما تسع مرات. «وعاد إرم» هى القبيلة الأم ، و «عاد ثمود» هى البطن. وكانت «عاد إرم» بالأحقاف بين عمان وحضر موت ، وهؤلاء قوم هود ، كقوله تعالى : (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ) (الأحقاف ٢١) ، وكان هلاكهم بالريح الصرصر ، بينما «عاد ثمود» هم قوم صالح ، وكانوا بوادى القرى فى الحجر بين الحجاز وتبوك ، وأهلكهم بالصاعقة. والقبيلتان ظلت آثار مساكنهم بادية للعرب حتى زمن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعاد الأولى وصفت بأنها ذات العماد ، أى ذات الطول ، فوصفهم بضخامة البنية حتى قال فيهم هود : (وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) (الأعراف ٦٩) ، وكانت مساكنهم لذلك «ذات عماد» ، أى كانت خياما عظيمة تحملها أعمدة شداد ، كناية عن أنهم كانوا قوما رحلا ، ينتجعون الغيوث ، ويطلبون الكلأ ، ويحملون خيامهم معهم بأعمدتها الطويلة ، أو أنهم لطولهم كانت أبنيتهم من الحجر ، ولها أعمدة طويلة ترفعها وتحكم قيامها. والعماد فى اللغة هى الأبنية الرفيعة. أو أن الطول كان فى سيوفهم لطولهم ، كناية عن شدّتهم وقوتهم ، حتى تفاخروا بذلك فقالوا : (وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) (فصلت ١٥). وقال بعضهم «إرم ذات العماد» هى كالمدن الكبرى ، أمثال دمشق والإسكندرية ، وكانت لعجائبها مثار دهشة عند العرب ، فجاء وصفها : (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) (الفجر ٨).

فهذه إذن «إرم ذات العماد» ضرب بها المثل فى العتو ، فكانت نهايتها ما نعرف من دمار ، وإنّ ربّك لبالمرصاد ، فلا يغرنّك من أمريكا وبريطانيا وروسيا وإسرائيل ما هى فيه من قوة ونعم ، والله يمهل ولا يهمل ، وإنه ليستدرجهم من حيث لا يعلمون ، ألا بعدا للطغاة الظالمين ، وحسبنا الله.

* * *

١١٩٧ ـ الاستخلاف

فى اللغة من خلف ، نقول إن أبا بكر استخلف عمر بن الخطاب بعده ، أى أوصى به خليفة بعده ، وفى القرآن : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) (النور ٥٥) ، أى يجعلهم خلائف ، ويمكّنهم ويمدّهم بالأسباب والقوة ، ويثبّت حكوماتهم ، وشروط ذلك أن يعبدوه ويعملوا صالحا ، وذلك قانونه فى الوجود ، سواء بالنسبة للأفراد أو الجماعات ، ومن ذلك أنه استخلف داود ، كقوله : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) (ص ٢٦) ، ومبررات خلافته أن يقيم حكومته على الحق. وكذلك الشأن مع يوسف ، قال : (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) (يوسف ٥٦) ، ومكّن للمؤمنين على أقوامهم لمّا كفر هؤلاء وطغوا فى الأرض مفسدين ،

٣٠٢

فأذهب ريحهم ، وأنجى منهم المؤمنين ، وآتاهم الملك ، وزوّدهم بأسباب القوة. وشرط لاستخلافه تعالى لأية جماعة شروطا كما فى قوله : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) (الحج ٤١) ، وقوله : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) (السجدة ٢٤). والاستخلاف إذن كمصطلح سياسى مقصور على من يجعله الله على أمر الناس فيحسن إليهم ، وأما لغير ذلك من الحكام فهى الولاية وليست الاستخلاف. والولاية من الناس وليست من الله ، وقد تتم بالاستيلاء على السلطة من قبل الوالى الغاصب ، والاستخلاف من الله أو من الناس لبعضهم البعض ، استخلافا شرعيا صحيحا. وفى ظل الخلافة الصحيحة يجرى العمل فى الدولة بوحى من القرآن والسنّة الصحيحة ، وفى خلافة السيطرة والقوة يكون القانون هو إرادة الحاكم المستبد ، والطاغية المتحكّم ؛ والاستبداد هو التفرّد بالحكم ، ونبذ الشورى ؛ والطغيان هو التجاوز إلى ما لا يجوز ، وقد يضطر الشعب إلى الثورة على الطغيان وإسقاط حكومة الجور ، وعندئذ قد تقوم حكومة الخلافة الناقصة ، ويتولى الحكم فيها أهل الصلاح الذين ينتخبون من بينهم رئيسا عليهم تجمع عليه الأمة ، ويعمل لصالح الشعب ، ويرفع الغبن عن الطبقات المضطهدة والكادحة ، ويعالج السلبيات الفاحشة كسوء توزيع الثروة ، وشيوع الأمية ، وتفشى الأمراض ، وذيوع الخرافة ، وسوء فهم الدين ، ويرفع عن الناس المظالم ، ويحارب الفساد ، وسوء الإدارة ، والبيروقراطية ، ويطرد الاستعمار ، ويؤمّن الاستقلال ، ويعلن مجانية التعليم حتى الجامعة وما بعدها ، ومجانية العلاج ، ويضمن المسكن الطيب للمواطنين ، ورغيف الخبز للجميع ، فتلك حكومة خلافة ناقصة ، لأنها لم تأت بالطريق الشرعى العادى وأتت عن طريق العنف والانقلاب والثورة ، ولأنها حكومة ناقصة الشرعية ، فإن الحاكم المسلم المستنير عليه أن يسعى ليستكمل النقص فيها ويحوّلها إلى حكومة خلافة صحيحة ، ويطلق لذلك على حكومة الخلافة الناقصة : حكومة شرعية دعت إليها ضرورة تصحيح الأوضاع السائدة وتقويم المعوج. وتستمد الثورة على الخلافة الفاسدة أو الجائرة مشروعيتها من الحديث : «من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» ؛ والتغيير باليد : بالمقاومة الإيجابية ؛ والتغيير باللسان : بالدعوة إلى الإصلاح ، وبيان بطلان استخلاف الطاغية ، وفضح أوجه الفساد فى الحكم الاستبدادى ، وتنوير الناس فيما ينبغى أن يكون عليه الحكم الصحيح ؛ والتغيير بالقلب : بالمقاومة السلبية ، وإعلان عدم التعاون مع الحكومة الفاسدة ، وإظهار الرفض لها. ولا يؤثّم الشعب المسلم الذى يثور على الأوضاع الظالمة ، ولا يعتبر خارجا على النظام ، أو إرهابيا ، لأنه ما

٣٠٣

من سبيل لخلع الوالى الجائر إلا باليد ، أو باللسان ، أو بالقلب ، وأضعف الثلاثة التغيير بالقلب ـ وهو «عدم التعاون» مع «حكومة الجور» ، و «عدم التعاون» بمثابة العزل للطاغية والإسقاط لحكومته. والمستخلفون : إذا استقاموا على أمر الله ، واجتنبوا السيئات ، ولم يستحوذوا على السلطة ، ولم ينفردوا بها ، ولم يمالئوا المستعمرين ، وسمحوا بتداول السلطة ، والنقد ، وحرية التعبير ، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، وسمحوا لمن يقوم بذلك من الشعب أن يقوم به ، كانوا كقوله تعالى فى أمثالهم : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) (الحج ٤١) ، وهذا هو المعنى الحقيقى للاستخلاف فى الأرض ، فإقامة العدل ، والعمل بالصلاح ، يترتبان على استعمار البشر للأرض بعد إنشائهم منها : (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) (هود ٦١) ، والاستعمار : هو التمكين والتسلّط بقصد الإعمار وليس التخريب ، والإعمار : قوامه زيادة فى الصلاح بقصد زيادة الانتفاع ، وكل ذلك فى حدود أوامر الله ونواهيه. و «الخليفة فى الأرض» : هو النائب عن الله فى أرضه ، لأنه لم يعرف مالك للأرض إلا الله ، ومن يملكها لبعض الوقت ويرحل عنها ليس بمالك ، المالك هو المالك الدائم ، وهو الله ، والنيابة عنه فيها لا بد لذلك أن تكون فى حدود ما سخّر الله منها للبشر ، وما سلّطهم عليه ، وما خوّلهم استغلاله ، فهو إذن ليس استخلافا مطلقا يفعلون بمقتضاه كيف شاءوا بلا قيد ولا شرط ، وإنما هو ليعبدوه ، ويوقّروه ، ويتّقوه ، ويهتدوا بهديه كما جاء فى الآيات السابقة ، وأن لا يعبدوا الشيطان ، وأن يقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر إلخ. وبديهى أنه إذا انتقض من هذه الواجبات أو الشروط بطلت الخلافة أو النيابة أو الوكالة عن الله ، وبطل أى عمل من هذا الخليفة أو النائب الذى يخرج عن حدود شرع الله ، سواء كان هذا العمل حكما من الأحكام ، أو قرارا من الإدارة ، أو له مدخلات فى السياسة ، أو الاقتصاد ، أو الثقافة ، أو التربية والتعليم ، أو له متعلقات بمسائل الشرع والدين.

* * *

١١٩٨ ـ الاستدراج والإملاء

فى تعريف الاستدراج ، الحديث : «إذا رأيتم الله يعطى العبد ما يحب وهو مقيم على معاصيه ، فإنما ذلك منه استدراج» رواه أحمد والطبرانى والبيهقى. وفى القرآن فى الاستدراج : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (٤٥) (القلم) ، وهو الأخذ على غفلة ، وإسباغ النّعم مع نسيان الشكر ، وكم مستدرج بالإحسان إليه ، وكم مفتون بالثناء عليه ، وكم مغرور بالستر عليه ، فكلما جدّد معصية جدّدت له نعمه ، كقوله

٣٠٤

تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١٥) (البقرة) واستهزاؤه بهم هو استدراجهم بمزيد النعم. والاستدراج : ترك المعالجة ، وأصله النقل من حال إلى حال كالتدرّج ، ومنه الدرجة وهى المنزلة بعد المنزلة ، واستدرجه يعنى استخرج ما عنده قليلا ، ويقال استدرجه ودرّجه أيضا. والإملاء مثل الاستدراج يكون على مهل ، يقال أملى له أطال له ، والملاوة المدة ، والملوان الليل والنهار.

* * *

١١٩٩ ـ استفتاح الرسل واستفتاح الجبّارين

الاستفتاح : هو الاستنصار أو الدعاء بالنّصرة : يقول تعالى : (وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) (إبراهيم ١٥) ، وفى الرواية : أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يستفتح بصعاليك المهاجرين ، أى يستنصر بهم ، والرسل كانوا يستفتحون ، وكذلك الجبارون والأمم الفاسدة ، كهذا الاستفتاح : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (الأنفال ٣٢) ، ومثل هذا الاستفتاح : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) (الأعراف ٨٩) ، ومثل قوله : (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٤٧) (الأعراف) إلخ.

* * *

١٢٠٠ ـ الإسراف

الإسراف : هو التبذير ، وقد نهى الله تعالى عنه فقال : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) (الأعراف ٣١) ، فما جاوز الحدّ والاعتدال فهو سرف وإسراف ، ومن كان معه جنية فأنفقه فى سبيل الله كان مسرفا ، ومن أنفق عشرة قروش فى معصية الله كان مسرفا ، وقيل : لا خير فى السرف ، ولا سرف فى الخير ، وهذا ضعيف ، لأن ثابت بن قيس لمّا جذّ نخله وقسم ثمره على الناس ، ولم يترك لأهله شيئا ، نزلت الآية : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأنعام ١٤١) ، أى لا تعطوا أموالكم كلها فتقعدوا فقراء. والأكل والشرب واللّبس حلال ما لم يكن سرفا أو مخيلة. والله قد أمر بالقصد فى كل شىء ، فقال فى النفقة : (إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) (الفرقان ٦٧) ، وقال لوليّ الدم : (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) (الإسراء ٣٣) ، وقال فى المتطيّرين : (طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) (يس ١٩). ولأن الإسراف رذيلة ، فإن من يكون مسرفا يضطر إلى مداراة إسرافه ، فيكذب ويسرف فى الكذب ، كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (غافر ٢٨) ، ومثله الشكّاك ، فأمره جميعه إلى الشك فى كل شىء ، حتى ليسرف فى

٣٠٥

الشك : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) (غافر ٣٤) ، والارتياب : هو الشك ، وهو من الأمراض النفسية المقيتة ـ إن لم يكن أشدها جميعا ، ويصيب من يأتيه بالبارنويا ، وهى مرض الشك ، وكان فرعون موسى مثلا قرآنيا لهذا النمط المسرف من أنماط الشخصية المريضة : (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) (٨٣) (يونس ٨٣) ، وعلوّه ترفّع عن عباد الله ، وكان مسرفا فى ترفّعه واستكباره واستعلائه. والمسلمون مأمورون أن لا يسرفوا ، والإيمان يمنع من الاستكبار ، ويحول بين المسلم وأن يسرف ، والإسراف رذيلة كما أن الاستكبار رذيلة ، والذى يوغل فى الإثم ويرتكب المعاصى حتى السرف ، ثم يتوب ويستغفر ويعمل صالحا ، ولا ينبغى أن ييأس من إسرافه السابق ، بقوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر ٥٣) ، وليس فى القرآن أوسع ولا أرجى من هذه الآية ، وفيها كل الأمل لمن أسرف على نفسه ، فلا يأس مع رحمة الله ، والقنوط فى الآية معناه اليأس ، إلا أن اليأس أشد درجة من القنوط ، فاليأس قطع الأمل بالكلية ، بينما فى القنوط يصاب المرء بالإحباط وينتابه القلق ، ويعذّبه ضميره ، ولكنه ما يزال يرجو عفو الله ، ولذا كان قوله تعالى للمسرفين : (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) (الزمر ٥٣) فالأمل فى الله أكبر من كل رذيلة!

* * *

١٢٠١ ـ الأسماء والأسمائية فى القرآن والفلسفة

الأسماء منّة الله على آدم وبنيه ، والأسماء هى الأحجار التى كان بها الصرح الفكرى للحضارات والمدنيات ، وتتركب الأسماء من الحروف الأبجدية ، وتكتمل منّته تعالى على الإنسان بأن يعلّمه القراءة والكتابة ، قال : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) (٥) (العلق) ، فلمّا خلقه تعالى من علقة مهينة ، أكرمه حتى صار عاقلا ، فعلّمه أن يقرأ وأن يكتب ما لم يكن قد علم ، فذلك هو آدم بذرة الخلق ، يتكرر دوما فى كل ابن وبنت له ، كصورة منه ، فلو لا فطرة الله فى آدم ، أورثها چينات بنيه ، لما كان كل ما نعرفه من العلوم والفنون والآداب والصنائع ، حفظها الله تعالى فى الكتب فلا تندرس المعارف ، ويتكرر فى القرآن اسم الكتاب بهذه الصفة ٢٣٠ مرة ، وهو ما لم يأت فى أية ديانة ، وكان من إعلاء القرآن للقراءة والكتابة أنه أطلق عليه اسم «القرآن» و «الكتاب». وأطلق على اليهود والنصارى «أهل الكتاب». وتتكون كل اللغات من الأسماء والأفعال والحروف ، والأسماء هى الأصول ، والأفعال والحروف أوصاف وأحوال لها ، ولو لا أن علّم آدم الأسماء لكان أعجز

٣٠٦

من الملائكة فى الإخبار عنها عند ما أمره الله بذلك. وأهمية الاسم أن له مسمى ، وما ليس له مسمى فهو اسم باطل : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) (النجم ٢٣) ، والاسم الحقيقى هو ماك ان له مسمى حقيقى ، واسمه تعالى : «الله» حقيقى ، بدليل أن ليس له شبيه له اسمه ، كقوله تعالى : (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (مريم ٦٥). وهذه الأسماء التى نوّه القرآن بها لتعليم آدم ونقله من الحيوانية إلى الإنسانية ، ومن الجهالة إلى العلم ، هى التى جعلت الفلاسفة من رهبان النصارى يتساءلون حولها فى العصور الوسطى ، لمّا ازدهر بينهم تعلّم اللغة العربية وترجمة معانى القرآن ، فقالوا بفلسفة سمّوها الأسمائية أو الاسميةnominalism ، من الأسماءnominae ، وقالوا فى تعريفها : هى إشارات المعانى فى العقل ، وليست سوى أصوات تخرج مع النّفس flatus vocis ، فإذا جرّدت المعانى من إشاراتها لم يتبق منها فى العقل شىء ، وإذن فالأفكار هى الأسماء ، والاستدلال هو الاستخدام الصحيح للأسماء فى مواضعها ، وليس هو الانتقال من معان إلى معان أخرى ، وعلى ذلك فالأسمائية فى القرآن كأنها «وضعية منطقيةlogical positivism» أو «واقعيةrealism» ، والفرق بين وضعية القرآن وبين «الوضعية المحدثة» أن الأخيرة تنفى وجود الله باعتبار أن اسم الله لا يقابل شيئا موجودا فى الواقع ، وهو قصور ذهنى واضح عند الوضعيين المحدثين من أمثال بلومبرج ، وفايجل ، وزكى نجيب محمود ، وآير ، ورايل ، وكارناب ، فالله قد ثبت وجوده بالخبرة ، وبالتجربة ، وبالواقع ، أو بالدليل والمنطق والبرهان. ولقد أفلست الأسمائية لمّا انحرف بها الأسمائيون إلى القول بأنه «لا وجود إلا للأسماء» ، سواء فى العقل أو خارجه ، وهو النقيض الكامل لما جاء به القرآن ، فكل اسم تعلّمه آدم له مسمّى ، أطلعه عليه الله تعالى ، وأشهده على عين مسمى الاسم ، فليس اسم إلا وله المسمّى ، وهذه هى الوضعية المنطقية التجريبية الإسلامية ، كقولك زيد قائم ، فالاسم هو المسمى ، أى يراد به المسمى ، ومع ذلك فقد يراد بالاسم التسمية ، كقولك أسد ثلاثة أحرف ، فلم نرد بأسد المسمى ؛ وأما قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣١) (البقرة ٣١) فإنّ «كلها» للإحاطة والعموم وليس للتعديد والخصوص ، ونفهم من الآية : أن اللغة تعلمها الإنسان فطرة من الله ، وهو معنى قولنا إن اللغات توقيف من الله ، وأن الإنسان أول ما يتعلم عن الأشياء أسماءها ، وأن هذه الأسماء لا تكون أسماء لها إلا إذا كانت توصيفا لمنافع الأشياء ، وأنه فى تعلّم الأسماء ، فإن ما ييسره أن تصنّف الأسماء بحسب أجناس الأشياء ، وباعتبار منافعها. ونفهم من قوله تعالى : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) أن تعلّم الأشياء لا يصلح له إلا إذا كانت

٣٠٧

نماذجها موجودة ويكون التعلم عليها. وقوله تعالى : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) هو أمر بالإنباء ليس على جهة التكليف وإنما على جهة التقرير والتوقيف. ولمّا كان آدم قد تعلم الأسماء ، واللغات أسماء ، فإنه يكون أول من تعلم اللغات ، وذلك من فضل آدم على الملائكة ، فقدّمه الله تعالى عليهم لهذا الفضل ، وأسجدهم له ، وجعلهم تلاميذه ، وأمرهم أن يتعلموا منه ، وجلّله بالعظمة بأن جعله مسجودا له لمّا خصّه بعلم الأسماءnomology.

* * *

١٢٠٢ ـ الأسوة الحسنة

الأسوة من مصطلحات علم التربية ، وهو القدوة الذى يقتدى به فى الخصال والفعال والأقوال ؛ ومعنى يتأسّى به : يتعزّى به فى جميع أحواله. والأسوة فى القرآن هم كل الأنبياء ، وخصّ منهم إبراهيم ونبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال تعالى فى إبراهيم : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) (الممتحنة ٤) ، ومن سيرته أنه كان يتبرّأ من الكفّار ، والخطاب لجماعة المسلمين ، فأمروا أن يقتدوا به ، «والذين معه» هم أصحابه من المؤمنين ، فكان على أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتأسّوا بإبراهيم ، ويبرءوا من المشركين مثله. ونفيد من الآية أن شرع من قبلنا هو شرع لنا كذلك فيما أخبر الله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الممتحنة ٦) ، فكرر ذلك مرتين تأكيدا وتنبيها ، وهو من منهج القرآن : أن يكرر المواعظ والأوامر المهمة. وقال فى نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) (الأحزاب ٢١) ، والآية عتاب للمتخلفين عن الجهاد يوم الخندق وعند أى استنفار ، وإن كان الخطاب للمؤمنين. وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسوة فى كل أحواله ، فلقد شجّ وجهه ، وكسرت رباعيته ، وقتل عمّه حمزة ، وعانى الجوع وشظف العيش ، فكان مع ذلك الصابر المحتسب ، والشاكر الراضى. وفى الحديث عن أنس عن أبى طلحة ، قال : شكونا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجوع ، ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر ، فرفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن حجرين. ولمّا شجّ دعا لقومه ولم يدع عليهم ، وقال : «اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون». وكما ترى فالأسوة به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبإبراهيم عليه‌السلام ، وبالأنبياء والصحابة ، على الإيجاب فى أمور الدين ، وعلى الاستحباب فى أمور الدنيا.

* * *

١٢٠٣ ـ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

الصاحب : الملازم والمعاشر ، والجمع صحب ، وأصحاب ، وصحاب ، وصحابة ، وصحابة ؛ والصحابة : أصحاب النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والواحد منهم صحابىّ ، وصاحب ، كقوله تعالى : (إِذْ

٣٠٨

أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) (التوبة ٤٠) ، وصاحبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنصّ القرآن هو أبو بكر الصدّيق ، وفى الآية جعل الصاحب أولا لإيمانه واعتقاده ، والله معهما فى الصّحبة بالنصر والرعاية والحفظ والكلاءة ، وخصّ أبو بكر بقوله «لا تحزن» ، فبقى بها مهتديا ، موحدا ، جازما ، قائما بالأمر ، لم يتطرق إليه اختلال.

وصحابته صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المهاجرين والأنصار على اختلاف طبقاتهم وأصنافهم : هم كل مسلم رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو صحبه على خلاف ، قال البعض : إن الصحابى هو كل من أقام مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم سنة أو سنتين ، وغزا معه غزوة أو غزوتين. والأصح أن الصحابة من المهاجرين والأنصار : هم الذين صلّوا إلى القبلتين ، أو بايعوا بيعة الرضوان وهى بيعة الحديبية ، وكانوا ضمن أهل بدر ، وأفضلهم الخلفاء الأربعة ، ثم الستة الباقون إلى تمام العشرة ، ثم البدريون ، ثم أصحاب أحد ، ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية.

* * *

١٢٠٤ ـ (أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْيَمِينِ)

هم إحدى الفئات الثلاث التى ينقسم إليها الناس يوم القيامة : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) (١٠) (الواقعة) ؛ وقوله : (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) (٢٧) (الواقعة) : هم الذين يؤخذ بهم يوم القيامة جهة اليمين إلى الجنة ، ويقابلهم أصحاب المشأمة أو أصحاب الشمال : وهم الذين يؤخذ بهم جهة الشمال إلى النار. وأصحاب الميمنة أو اليمين : هم من أوتى كتابه بيمينه ، وهم أهل الحسنات ، الميامين على أنفسهم ، أصحاب التقدم. والتكرار فى قوله : «ما أصحاب الميمنة» و «ما أصحاب اليمين» للتفخيم والتعجيب ، كقوله تعالى : (الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ) (٢) ، و (الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ) (٢) ، والمقصود تكثير ما لأصحاب اليمين من الثواب ، وعدهم ربّهم الجنة فيها السدر المخضود ، والطلح المنضود ، من الفواكه ذات الألوان والطعوم ، لا تنقطع طول الوقت ، وليست ممنوعة على أحد ، وفيها الظل الممدود ، فلا حرّ ولا حرور ، والماء المسكوب البارد ، والمجالس المرفوعة ، ويطوف عليهم أبكار عرب أتراب ، أنشأهن إنشاء لهم ، وكلهن لطيفات جميلات من سن واحد ، لم يمسهن من قبل إنس ولا جان (الواقعة ٢٨ / ٣٧) جزاء وفاقا لأصحاب اليمين : (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) (الواقعة ٩١) ، والخطاب للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو لقارئ القرآن حينما يصل إلى آيات أصحاب اليمين ، يطلب له السلام والسلامة كما وعد به هؤلاء ومن

٣٠٩

تبعهم ، فهم سالمون ويعيشون فى سلام ، ولقد سلموا من عذابات الحشرجة عند الموت وفى القبر ، وعند العرض ، وبعد الحساب ، فعسى أن يكون غيرهم من المسلمين مثلهم.

* * *

١٢٠٥ ـ الاصطفاء فى القرآن والتوراة والإنجيل

الاصطفاء : هو الاختيار ، والمصطفى هو المختار ، من أسماء النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وفى النصرانية يقولون هو لقب بولس الرسول ، وقالوا اسمه عبد الله ؛ والصفوة من كل شىء هى خالصه وخياره. والاصطفاء فى اليهودية من عند الله ، وبلا سبب يبرره ويفهمه الناس ، والنصارى اعتنقوا نظرية اليهود فى الاصطفاء ، وعندهم أن الله يختار من عباده من يستصفيه لنفسه من جنس البشر ، ولا معقب على اختياره ، وعند اليهود قد يرى الله أنه أساء الاختيار ، ويأسف على أنه أصفى أحدهم ، وسمّوا ذلك «البداء» ، ويعنى أنه تعالى «بدا له» ، أى تراءى له ثم رجع فيه. وفى الإسلام بخلاف ذلك تماما ، فالاصطفاء يأتى بكثرة فى القرآن واستخدمه ١٣ مرة ، وفى الآية : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) (آل عمران) ، أى اختارهم على سائر أهل الأرض ، وهو اختيار مبرّر وليس بلا سبب ، وفى حالة إبراهيم مثلا يأتى فيه : (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا) (البقرة ١٣٠) ، أى اخترناه للرسالة ، فلما اخترناه أصفيناه ، أى فجعلناه صافيا من الأدناس ، فكان ذلك مبررا لاختياره : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (البقرة ١٣١) ، فيكون المعنى : اصطفيناه لمّا قال له ربّه أسلم ، فقال أسلمت لربّ العالمين ، ومعنى أسلم أخلص دينك لله بالتوحيد ، فكان إبراهيم من المصطفين ، باختياره الإسلام لنفسه دينا. وآدم اصطفاه ، فخلقه بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وأسجد له الملائكة ، وعلّمه الأسماء ، وأسكنه الجنة وأهبطه منها ، وحكمة ذلك كله كانت أبلغ الحكم ، وكان بها خلق العالم والناس ، فكان التاريخ ، وكانت الحضارات ، وعرف الإنسان العلوم والفنون والآداب ، والمعارف واللغات ، والصنائع ، فكان مبرر اصطفاء آدم أن كان وذريته أهلا لكل ذلك. ونوحا اصطفاه وجعله أول رسله لمّا عبد الناس الأوثان وأشركوا ، وظل يدعوهم ليلا ونهارا ، وسرّا وجهارا ، فلم يزدادوا إلا فرارا ، فدعا عليهم ، فأغرقهم الله ، ولم ينج منهم إلا من تبعه على دينه. وكان مبرر اصطفاء نوح أنه صاحب حكمة ، ترى أن لا يذر على الأرض من الظالمين ديّارا ، أى واحدا ، لأن الضالين سيضلّون غيرهم لو استمروا فى البقاء ، ولن ينسلوا إلا فجّارا وظلمة مثلهم. وأما آل إبراهيم فكان منهم : إسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، والأسباط إلخ ، فثبتت لهم الوراثة الروحية ، فاصطفاهم كذريّة للمصطفين ، يحملون بعدهم

٣١٠

الرسالة والنبوة. ومنهم مريم بنت عمران ، قال فيها : (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) (آل عمران ٤٢) ، ومبرر اصطفائها : أنها كانت صدّيقة ، وشهد لها بالصدّيقية (المائدة ٧٥) ، (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) (١٢) (التحريم). واصطفى كذلك طالوت على قومه ، وبيّن لهم مبررات اصطفائه ، وهى بسطته فى العلم ، والعلم ملاك الإنسان ، وبسطته فى الجسم ، وهو معينه على شدائد تزعّمهم ، والقيادة لهم فى السلم والحرب ؛ ومن فقه ذلك عند المسلمين كانت نظريتهم فى الإمامة ، أن كل رئيس أو أمير ، أو إمام ، ليس له أن يتبوأ مكانته من قومه إلا إذا كان مستحقا لها بأمرين ؛ هما : العلم والقوة ، والعلم يشمل سائر المعارف والدين ، والقوة بدنية ، ونفسية وعقلية ، ولا حظ للنسب مع العلم والقوة ، ومع الفضائل النفسية والعقلية ، واللياقة البدنية ، وعند المسلمين تتقدم هذه الصفات على النسب ، وقد أخبر تعالى أن اختيار طالوت كان لعلمه وقوته ، وإن كان غيره أشرف انتسابا ، وأكثر مالا ، وأحظى اجتماعا. وقال تعالى فى المصطفين تبريرا لاصطفائه لهم ، إنهم أولو أيد وأبصار (ص ٤٥) ، وأولو الأيدى : يعنى أولى القوة ، وأولو الأبصار أى أصحاب علم وعقل وبصبرة فى الحق ، ومن أجل ذلك اختارهم ، وقال فيهم : (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) (ص ٤٧) أى المختارين المجتبين الأخيار ، فلأنهم أخيار كانوا مختارين ، ومنهم كما قال : (وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ) (ص ٤٨). والاختيار ، والاصطفاء ، والاجتباء بمعنى واحد ، يقول تعالى : (هُوَ اجْتَباكُمْ) (الحج ٧٨) أى اختاركم واصطفاكم ، غير أن الاختيار من الخيرة ، وفيه أن يتوافر الخير فى المختار ، بينما الاصطفاء هو اختيار من يصافيك وترى فيه الإخلاص والود ؛ والاجتباء : هو أن تختار الأصلح ترى فيه أنه تجتمع له أحسن وأفضل الخصال لما تختاره له ؛ وأى هذه المصطلحات يأتى فى القرآن فهو لما يناسبه ؛ وأما فى اليهودية والنصرانية ، فالطاعة لله لم تكن قبل الاصطفاء بل كانت بعده ، فلما اصطفاهم أطاعوا ، على عكس الإسلام ، فإن المسلمين كانوا أولا من أهل الطريقة ، وفيهم الخير والفضيلة ، فاختارهم الله وفى الحديث أن خير الناس فى الإسلام كانوا أيضا خير الناس فى الجاهلية .. وأما اليهود فيقولون مثلا أنهم «شعب الله المختار» : اختارهم واصطفاهم وعاهدهم أن يعطيهم من بعد إبراهيم جميع أرض كنعان ملكا مؤبّدا (تكوين ١٧ / ٧ ـ ٨) ، فمهما فعلوا من آثام فالعهد معهم قائم لا ينفصم ، بينما المسلمون يذهبون إلى أنه لا عهد مع الله إلا للمتقين ، وفى القرآن : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) (البقرة ٤٠) ، فما هو عهده لهم؟ والجواب من القرآن ومن جماع التوراة : ١ ـ أن يرهبوا الله تعالى ٢ ـ ويؤمنوا بما أنزل

٣١١

مصدّقا لما معهم. ٣ ـ ولا يكونوا أول كافر به. ٤ ـ ولا يشتروا بآياته ثمنا قليلا ـ يعنى أن يتقوا الله فيما أنزل عليهم من التوراة ، ولا يحرّفوها لفوائد يحصّلونها ومطامع يجتنوها ٥ ـ ولا يلبسوا الحق بالباطل ، ويكتموا الحق وهم يعلمون ٦ ـ وأن يقيموا الصلاة التى تركوها. ٧ ـ ويؤتوا الزكاة التى أهملوها. ٨ ـ ويركعوا مع الراكعين ، فلا يستكبرون. ٩ ـ ولا ينسوا أنفسهم وهم يأمرون الناس بالبر. ١٠ ـ وأن يستعينوا على طلب الآخرة بالصبر والصلاة ، والصبر هو الصيام والكفّ عن المعاصى. فلم يرقب اليهود فى الناس إلّا ولا ذمة ، ونقضوا العهد والميثاق ، واشتروا بهما ثمنا قليلا ، وادّعوا أنهم لن تمسهم النار إلا قليلا ، وقالوا على الله ما لا يعلمون ، وسفكوا الدماء ، وقتلوا النبيين ، وسمعوا وعصوا ، فهل هؤلاء مصطفون؟ وهل يمكن أن يقع عليهم اختيار واصطفاء؟ وتفسير اليهود للاصطفاء لذلك مغلوط ، فالمصطفون متّقون أولا ، ومتقون آخرا ، ثم يكون اصطفاؤهم بناء على ما يظهرون من الإخلاص ، وبقدر ما لهم من الصلاح.

وأما النصارى فصاحبهم بولس ، الذى وصفوه بأنه المصطفى ، يقول عن نفسه «حدث لى انجذاب» (أعمال الرسل ٢٢ / ١٧) ، وكان فريسيا ابن فريسى (أعمال الرسل ٢٣ / ٦) ، يعنى كان من المنافقين ، وقالوا فيه «مفسد ومثير فتنة وإمام لشيعة الناصريين» (الفصل ٢٤ / ٥) ، وكان عنصريا شديد العنصرية ، فكانت دعوته لليهود أولا ، فلما فشل دعا الأمم (رومية ١ / ١٦) ، وهو الذى نشر الفرية أن المسيح ابن الله (رومية ٥ / ١٠) ، وسنّ التشريع بتحريم طلاق النساء ، (رومية ٧ / ٢) ، واستن عدم الزواج (كورنتس ٢٩) ، ودعا أن تكون المرأة للبيت (تيموتاوس ٥ / ١٤) ، وأن تخضع النساء لرجالهن كما للربّ (إفسس ٥ / ٢٢) ، وأطلق على نفسه رسول الأمم (رومية ١١ / ١٣) ، وقال لا أخوّة مع الكفرة بالمسيح ، ولا تتخذوا إخوانا من الكفرة (كورنتس ٦ / ١٤) ، وأمر باعتزال كل منكر لألوهية المسيح ، ووصف المنكرين بالنجاسة (كورنتس ٦ / ٧٧) ، وحذّر من الفلسفة إذا كانت على غير مقتضى المسيح ، يعنى أرادها فلسفة دعائية (كولسى ٢ / ٨) ، وقال عن النصارى أنهم أبناء الموعد ، وفرّق بين أبناء الأمّة هاجر وأبناء الحرّة سارة ، وأبناء الأمة هم غير النصارى ، وأبناء الحرة هم النصارى ، ونادى اطردوا الأمة وابنها فإن ابن الأمة لا يرث مع ابن الحرة! والطرد كأمر للنصارى يعنى طردهم من البلاد ، ولا ميراث لهم فى السماء ، مع أن النصارى ـ وهم ليسوا يهودا ـ هم أبناء أمّة بالوراثة الجسدية ، إلا أنه قال إن المسيح حرّرهم (غلاطيه ٤ / ٢٥ ـ ٣١)!! ـ فهل هذا كلام مصطفين؟ وإنما الاصطفاء عند النصارى ـ ومن قبلهم اليهود ـ أن الاختيار لهم غير مبرر ، فهذه إرادة الله ومشيئته ، حتى لو كان اختياره عن غير حق.

٣١٢

وتلك إذن نظرية الاصطفاء عند هؤلاء وأولئك وعند المسلمين من بعدهم ، والله تعالى لا يمكن أن يختار إلا المتّقين والصالحين والأخيار ، وذلك من معانى الإسلام. واللافت للانتباه أن إبراهيم لمّا أراد أن يجعل النبوة فى ذريته ، دعا ربّه بها لهم ، فقال تعالى فى جواب دعائه : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة ١٢٤) ، واليهود والنصارى لا عهد لهم مع الله لأنهم ظلموا ، ولا يصلح الظالمون للاصطفاء أو الاختيار أو الاجتباء ، لأنه مقصور عقلا وعرفا وشرعا على أهل العدل والإحسان والفضل.

* * *

١٢٠٦ ـ الأعراب والعرب

العرب هم الجنس العربى الذى لغته وقوميته العربية ، ومنهم العرب العاربة : وهم العرب الخلّص ، ويقابلهم العرب المستعربة أو المتعرّبة وهؤلاء لم يكونوا عربا فى الأصل ، ثم سكنوا بلاد العرب ، وتكلموا العربية ، ويقال تعرّبوا : أى تشبّهوا بالعرب. والعرب عموما ينسبون إلى يعرب بن قحطان ، أو أنهم سمّوا عربا لأنهم من ولد إسماعيل بن إبراهيم ، ونشئوا فى عربة من تهامة فنسبوا إليها ، وكثيرا ما ينسب الناس إلى الأماكن مثلما ينسبون إلى الجدود. وكانت قريش تسكن عربة وهى مكة ، وانتشر سائر العرب فى الجزيرة العربية. وأما الأعراب : فهؤلاء هم العرب الرحّل ، وثقافتهم أقل ، ويعيشون فى بداوة وجهالة. والموجود بالقرآن مصطلحان : «عربى ، وأعراب» ، ويتكرر الأول إحدى عشرة مرة ، ويوصف به اللسان : (لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (النحل ١٠٣) ، وينعت به القرآن : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) (يوسف ٢) ، وينسب إليه الحكم : (أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا) (الرعد ٣٧). والنسبة به للثقافة والحضارة وليس للانتماء السلالى أو الوراثى الجينى. وكذلك مصطلح «الأعراب» ، فإنه يتكرر عشر مرات ، ويدل على فئات من العرب أقل حضارة وثقافة ، وهؤلاء عانى منهم المسلمون بسبب ضحالة معارفهم وانحطاط ثقافتهم الدينية والأخلاقية والاجتماعية ، والإشارة بالمصطلح «الأعراب» تحديدا إلى فئة من كان يسكن من البدو حول المدينة فى زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فرغم أنهم اعتنقوا الإسلام ، إلا أنهم لم يعرفوه حق المعرفة ، ولم يمارسوه كما ينبغى ، وكان من الواضح أن اعتناقهم له كان طلبا للسلامة ، وطمعا فيما يمكن أن يعود به الإسلام عليهم من المكاسب ، كالمنعة والصدقة والفيء ، وجاء فى وصفهم فى القرآن : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) (التوبة ٩٧) ، فكانوا الأشد كفرا ونفاقا من المنافقين ، والأشد جهلا فى أمور الدين ، وكان أذاهم الأكثر ، لأنهم كانوا الأقسى قلبا ، والأجفى قولا ، والأغلظ طبعا ، والأبعد عن سماع التنزيل ،

٣١٣

ونبّهت الآية إلى نقص علمهم ، وتدنّى إيمانهم عن المرتبة الكاملة ، وسوء فهمهم ، وقلة درايتهم ووعيهم ، فكلما نادى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجهاد تعلّلوا وتخلّفوا ، وما كانوا يكلّفون أنفسهم أن يعتذروا ، فانطبقت عليهم أحكام ثلاثة : فأولا : لم يعد لهم حقّ فى الغنيمة والفيء ، لأنهم لم يجاهدوا كالمسلمين ؛ وثانيا : لم يعد جائزا أن تسمع لهم شهادة ، لأن الله قد وصفهم بالكفر والنفاق ، وقال فى أيمانهم : (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) (التوبة ٩٦) ، فوصفهم بالفسق ولبئس الصفة. وثالثا : لم يعد مناسبا أن يؤم أى أعرابى المسلمين فى الصلاة ، لأنهم لا يعلمون حدود الله وجهلوا الدين. واستتبع كل ذلك أن غالبتهم ضنّوا أن ينفقوا فى سبيل الله ، وتمنوا البوار للمسلمين ، وترقبوا فيهم الاندحار ، كقوله تعالى : (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) (التوبة ٩٨) ، فجمعوا إلى الجهل بالدين ، الجهل بالإنفاق والحكمة فيه ، وسوء الدخيلة وفساد الطوية وخبث النية. وما كانوا جميعا بهذا السوء ، فلكل قاعدة استثناء ، والناس فيهم الصالح والطالح ، والخيّر والشرير ، ولا بد أن يكون من الأعراب من هو على الإيمان ، كقوله تعالى : (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ) (التوبة ٩٩) ، فكان من الأولين منهم ، قبائل : مرينة ، وجهينة ، وأسلم ، وغفّار ، وأشجع ، والدّيل ، وبنى أسد بن خزيمة ، وكان من الثانين : بنو مقرّن من مزينة ، فكان المؤمنون قلة والأكثرية منافقين ، وفيهم نزل القرآن : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ) (التوبة ١٠١) ، والمنافقون هم الذين سمّاهم مخلّفين : (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) (الفتح ١١) ، وما كان لهم أن يتخلفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا أن يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ، ولكن التخلّف دأبهم ، ففي الخندق لم يحضروا وتعلّلوا حتى قلّدهم غيرهم : (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ) (الأحزاب ٢٠) ، يعنى تمنّوا لو فعلوا مثلما فعل الأعراب ونأوا بأنفسهم عن الجهاد حذر القتل وتربصا للدوائر. وفى تبوك اعتذروا الاعتذارات الواهية المبتذلة فقالوا : شغلتنا تجارتنا وخفنا على أهالينا ، وزادوا بأن طلبوا أن يسامحهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويدعو لهم بالمغفرة ، ولم يجر بخاطرهم أن المغفرة لا تكون إلا لمن كان ظاهره كباطنه ، وهؤلاء كان اعتقادهم بخلاف ظاهرهم ، ففضحهم الله بقوله : (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) (الفتح ١١) ، فكأن نفاقهم كان «النفاق المحض». ولقد تخلّفوا فى الحديبية ، وفى حنين ، فكان تخلّفهم نكوصا ، وينبئ عن خوف وشح بالنفس والمال ، فإذا كان ذلك حالهم وعدوهم هو ما هو عليه من ضعف باد ، فكيف مع عدو أقوى

٣١٤

يلقونه فى قابل الأيام : (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) (الفتح ١٦) ، وفى الآية إشارة إلى من يكون على أمة الإسلام أن تدفع عن نفسها أذاهم من الأمم المعادية ، أمثال : الفرس ، والرومان ، والإنجليز ، والروس ، والفرنسيين ، والأسبان ، والأمريكان ، وغيرهم ، فأما والأمر كذلك مع هؤلاء المتقاعسين ، وأى متقاعسين من بعد ، فالأولى أن لا يكون الاعتماد عليهم ، وأن يسقطوا من الحساب عند كل لقاء مع أعداء الله : (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) (التوبة ٨٣). وفى الحديث أن المسلمين لا يستعينون فى قتالهم بكافر ، فهذه حربهم وليست حرب غيرهم ، والذى يقاتل مجاهدا إنما قتاله من أجل بيضة الإسلام ، وكى تعلو كلمة الله ، والقتال يستلزمه الإيمان ، وما كان الأعراب على شىء من الإيمان : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (الحجرات ١٤) ، فلما نطقوا بالشهادتين أسلموا ولكنهم لم يؤمنوا ، فالإيمان يتطلب أكثر من الشهادتين : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (١٥) (الحجرات) ولم يكن إسلام الأعراب إلا قولا بلا عمل ، فلمّا استنفرهم للقتال والإنفاق جهارا فى سبيل الله ، تخلّفوا ، وزادوا على ذلك بادّعاء الإيمان ، فصحّحت الآية دعواهم ، وجعلوا يمنّون على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى المسلمين ، فجادلهم بالحسنى : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (الحجرات ١٧) ، فلمّا حلفوا أنهم صادقون فى إيمانهم قال تعالى : (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الحجرات ١٦).

وتلخيصا لما سبق فإن المصطلحين «عربى» ، «وأعراب» من مصطلحات الحضارة والثقافة ، ومصطلح «الأعراب» كما وصف به المنافقون من البدو ، ما يزال من الممكن أن يوصف به أصحاب الثقافة الضحلة والتبعية الغربية من المستشرقين العرب من تلاميذ المبشّرين ، ومن دعاة العولمة والأخذ بالأسلوب الأمريكى فى الحكم والأخلاق والاقتصاد والسياسة والاجتماع والأدب ، فهؤلاء رعاع المثقفين ، وبهم جفاء فى الطبع ، وشك مريب ، والحذل والحقد يملأ قلوبهم على كل ما هو مسلم ، ودوافعهم فى السلوك فردية ولا يؤمنون بالقومية العربية ، وهم الذين يدلّسون علينا إمكان ولاء مزدوجى الجنسية ، وخصخصة الأملاك العامة ، وإلغاء مجانية التعليم ، وقصر التعليم العالى على الأغنياء ، وتشجيع

٣١٥

التعليم الأجنبى ، وإلغاء الطبقة الوسطى ، ودعم الأغنياء واقتصاد المترفين ، وتحديد عدد وقدرات الجيوش الوطنية ، إلى آخر ما ينبئ عن سوء الطوية وخبث النية وجفاء الطبع مما كان للأعراب قديما.

* * *

١٢٠٧ ـ الأعراف وأصحاب الأعراف

الأعراف : جمع عرف ، وهو كل عال مرتفع ، فبظهوره يعرف من المنخفض. والله تعالى أعلم بما يعنى بالأعراف ، والمصطلح إسلامى محض ، ولذا حار المستشرقون فى ترجمته ، ومن هذه الترجمات أن الأعراف Height أى المرتفعات ، وهى ترجمة مضحكة ، ومنها ترجمة دانتى أنهاPurgatory ، أى المطهر ، فتجاوزت الترجمة المعنى. وفى اللغة يقال عرف الفرس ، وعرف الديك ، فالأعراف سور له عرف كعرف الديك ، أى له شرفة. وفى الآية : (وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) (الأعراف ٤٦) ، فالأعراف هم الذين يعرفون أصحاب النار من أصحاب الجنة ، ويفرزون كلا بسيماهم ؛ وقيل : الأعراف حجاب بين أصحاب النار وأصحاب الجنة (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ) (الحديد ١٣) ، فالسور هو الحجاب ويتوسط بينهما ، وحرّاس السور هم «أصحاب الأعراف». وقيل : أصحاب الأعراف هم من استوت حسناتهم وسيئاتهم ، فلم يدخلوا الجنة ولا النار. وقيل : هم فضلاء المؤمنين والشهداء من الصالحين والعلماء ، عرفوا مكانتهم ، ووقفوا يطالعون حال غيرهم ، فيتعوّذون ممن يلقى فى النار ، ويسرّون لمن يدخل الجنة. وقيل : هم عدول القيامة ، يشهدون على الناس من أصحاب الجنة وأصحاب النار بأعمالهم. وقيل : هم ملائكة مكانهم هذا السور ليميّزوا من يدخل الجنة ومن يدخل النار. فإن قيل : ولكن الآية تقول إنهم «رجال» ولا يجوز تسمية الملائكة بالرجال؟ قيل : ولكن الله تعالى سمّى الجن بالرجال : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً) (الجن ٦) ، فلما ذا لا تسمى الملائكة بالرجال؟ وقيل : الأعراف جبل أحد يمثل فى الجنة والنار ، ويحبس عليه أقوام يعرفون كلا بسيماهم. وفى الحديث : «إن أحدا على ركن من أركان الجنة» ، قيل الركن المقصود به الأعراف ، يتعرّفون على أصحاب الجنة وأصحاب النار ، ويميزونهم بسيماهم. والأصح الاقتصار على القول فى مسائل الغيب بنصوص الآيات دون زيادة ولا نقصان. «وسورة الأعراف» سميت كذلك باعتبارها السورة الوحيدة التى تتضمن تعريفا بالأعراف وتذكر هذا المصطلح ، وهى مكية إلا من ثمانى آيات ، من الآية ١٦٣ إلى غاية الآية ١٧٠ فإنها مدنية ، وآياتها ٢٠٦ نزلت بعد ص ، وهى التاسعة والثلاثون فى النزول ، والسابعة فى المصحف (انظر عرفات).

* * *

٣١٦

كذلك باعتبارها السورة الوحيدة التى تتضمن تعريفا بالأعراف وتذكر هذا المصطلح ، وهى مكية إلا من ثمانى آيات ، من الآية ١٦٣ إلى غاية الآية ١٧٠ فإنها مدنية ، وآياتها ٢٠٦ نزلت بعد ص ، وهى التاسعة والثلاثين فى النزول ، والسابعة فى المصحف (انظر عرفات).

* * *

١٢٠٨ ـ الإعصار والريح والزوبعة

الإعصار فى اللغة هو الريح الشديد التى تهب من الأرض إلى السماء كالعمود ، كقوله تعالى : (فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ) (البقرة ٢٦٦) ، وسرعة الريح تولد الطاقة ، والطاقة تولّد النار ، فهذا نوع من الإعصار ؛ والثانى : أن الإعصار هو الزوبعة ، وأم الزوبعة ريح تثير الغبار وترتفع إلى السماء كأنها عمود ؛ والثالثة : أن الإعصار ريح تثير سحابا ذا رعد وبرق ، ويقال لها إعصار : لأنها تلتف كالثوب إذا عصر ، أو أنها إعصار لأنها تعصر السحاب : (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً) (النبأ ١٤) ، والسحاب معصرات : لأنها حوامل فهى كالمعصر ـ أى البنت التى بلغت عصر شبابها بإدراك المحيض. أو أن السحاب معصرات لأنها تتعصّر بالرياح. وقيل الإعصار : ريح عاصف وسموم شديدة. والسموم هى الريح الحارة نهارا والباردة ليلا. وقيل : الريح السموم بالنهار ، بينما الريح الحرور بالليل ـ أى التى تكون ليلا حارة. والريح أنواع ، فالطيبة كقوله : (بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) (يونس ٢٢) ، وهى أيضا الريح الرخاء ، ونقيض ذلك الريح العاصف (يونس ٢٢) : وهى الشديدة العصف ، يقال عصفت الريح وأعصفت ، فهى عاصف ، ومعصف ومعصفة ، أى شديدة. وفى قوله : (فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً) (الإسراء ٦٩) ، والقاصف هى التى تقصف الأشياء أى تكسرها ، ومن ذلك قصف الرعد ، والقصيف هو هشيم الشجر. والريح الصرر (الحاقة ٦) لها صوت عات من شدة ما تحرق ، «والصرّ» (آل عمران ١١٧) هو صوت لهب النار. والريح العقيم (الذاريات ٤١) : قيل لها ذلك لأنها لا تلقّح سحابا ولا شجرا ، ولا بركة فيها ولا منفعة. وفى الحديث : «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدّبور» ، وريح الصبا هى التى مهبّها من الشرق ، وريح الدّبور هى التى مهبّها من الجنوب ـ وهى ريح عقيم.

* * *

١٢٠٩ ـ الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر

يتكرر «الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر» فى خمس سور ، هى : آل عمران ، والأعراف ، والتوبة ، والحج ، ولقمان ، كقوله تعالى (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران ١٠٤) ، وقوله : (كُنْتُمْ

٣١٧

خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) (آل عمران ١١٠) ، وقوله : (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) (آل عمران ١١٤). والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر هم أهل الصلاح ، والفضل من الأمة ، فطالما هم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فأمتهم خير الأمم ، فإذا تركوا المعروف ، وتواطئوا على المنكر ، زال عنهم اسم المدح ، ولحقهم اسم الذمّ ، فهلكت الأمة. والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى الأمم جميعها قديمها وحديثها ، وفى الحديث «من أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر فهو خليفة الله فى أرضه ، وخليفة رسوله ، وخليفة كتابه» ولمّا سئل صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من خير الناس؟ قال : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) (التوبة ٦٧) ، ثم قال : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (التوبة ٧١) ، فالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو الفرق بين المؤمنين والمنافقين ، وأخصّ أوصاف المؤمن لذلك هو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، ولكنهما لا يليقان بكل أحد ، وإنما يقوم بهما المصلحون ، وأهل الفكر ، ودعاة الأمة وعلماؤها. والفرق بين الحاكم الجيد والحاكم السيئ هو قدرة كلّ على القيام بهما كقوله تعالى : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) (الحج ٤١) ، ومع ذلك فإن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من شأن كل الناس ، وواجب على كل من يقدر عليهما ، والاستطاعة هى شرط القيام بهما ، وبحسب من لا يستطيع ذلك أن يكون قلبه مع محبة المعروف وكراهية المنكر ، وتدل الآية : (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) (لقمان ١٧) على جواز الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مع خوف الأذى ، وربما السجن ، أو القتل. وفى الحديث : «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان». والأمر بالمعروف باليد ، يعنى بالقوة ، على أهل السلطة وحدها ، وباللسان على الدعاة والعلماء وأهل الفكر ورجال الصحافة والإعلام وأساتذة الجامعات ، وبالقلب على عوام الناس ، ولذلك قال أهل الحكمة : كل بلدة يكون فيها أربعة ، فأهلها معصومون من البلاء : حكومة عادلة : لا تظلم ، وتنشر العلم ، وتوفر الخدمات الصحية ، ولا يصدر مجلسها التشريعى قوانين لمصلحة الأغنياء ، ولا تسمح بالفساد ، وتساوى بين الناس فى الحقوق والواجبات بحسب قدرة كلّ ؛ وأهل علم وطنيون غيورون ؛ وصحافة شعبية قومية ؛ ومصلحون : يستنهضون الأمة ويحرضونها على الصلاح والإصلاح.

* * *

٣١٨

١٢١٠ ـ الأنصار : المصطلح ومضمونه

جمع ناصر ، كأصحاب وصاحب ، أو جمع نصير ، كأشراف وشريف ، واللام فيه للعهد أى أنصار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد بالأنصار الأوس والخزرج ، وكانوا قبل ذلك يعرفون ببنى قيلة ، بقاف مفتوحة وياء تحتانية ساكنة ، وهى الأم التى تجمع القبيلتين ، فسمّاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الأنصار» ، وكان ذلك ليلة العقبة لمّا توافقوا مع النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند عقبة منى فى الموسم ، فصار ذلك علما عليهم ، وأطلق أيضا على أولادهم وحلفائهم ومواليهم ، وخصّوا بهذه المنقبة لإيوائهم للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه ، والقيام بأمرهم ، ومواساتهم بأنفسهم وأموالهم ، وإيثارهم على أنفسهم فى كثير من الأمور ، فكان صنيعهم لذلك موجبا لمعاداتهم جميع الفرق الموجودين من عرب وعجم ، والعداوة تجر البغضاء. وما اختصوا به أوجب لهم الحسد ، والحسد يجرّ البغضاء كذلك ، فاستوجب أن ينبّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ذلك وقال حديثه المشهور عن أنس : «آية الإيمان حبّ الأنصار ، وآية النفاق بغض الأنصار» ، وحديثه عن البراء بن عازب : من أحبّ الأنصار فبحبى أحبّهم ، ومن أبغض الأنصار فببغضي أبغضهم» ، وحديثه عن أبى سعيد : «لا يبغض الأنصار رجل مؤمن بالله واليوم الآخر» ، وحديثه عند أحمد : «حبّ الأنصار إيمان ، وبغضهم نفاق» ، فحذّر من بغضهم ، ورغّب فى حبّهم ، حتى جعل ذلك آية للإيمان والنفاق ، لما لهم من عظيم الفضل ، وكريم العقل.

وكانت بين الأنصار مع بعضهم البعض حروب ، لم تكن من جهة الإسلام ، ولكنها كانت لأمور طارئة اقتضت المخالفة ، فلم يكن ذلك بغضا من نوع البغض الذى قال به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذى يستوجب النفاق ، وحالهم فى حال الخلافات التى كانت بينهم حال المجتهدين فى اختلافاتهم فى الأحكام ، فللمصيب منهم أجران ، وللمخطئ أجر واحد.

وفى المصطلح القرآنى فإن الأنصار تستدعى المهاجرين فى قوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (التوبة ١٠٠) ، ثم فى قوله تعالى : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) (التوبة ١١٧) فنبّهت تلك الآيات إلى أن من المهاجرين ، ومن الأنصار ، سابقين وتابعين ، وكلاهما محسن قد رضى الله عنهم ورضوا عنه ، وهؤلاء السابقون من الأنصار هم أصحاب بيعة الرضوان عام الحديبية ، وهم الذين صلّوا إلى القبلتين مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والمهاجرون هو المصطلح المقابل للأنصار. وأهل السنّة على تبجيل هؤلاء وهؤلاء ، على عكس الشيعة الدائبين على سبّهم ، والمستمرين على بغضهم. والأنصار : اسم إسلامى خالص ، قيل

٣١٩

لأنس بن مالك : أرأيت قول الناس لكم : «الأنصار» ، اسم سمّاكم الله به ، أم كنتم تدعون به فى الجاهلية؟ قال : بل اسم سمّانا الله به فى القرآن. وكانت توبة الله تعالى على المهاجرين والأنصار لمّا تشككوا فى غزوة تبوك ، فقد كانت السنة مجدبة ، والحرّ شديدا حتى زاغت قلوب البعض الذين تشككوا ، وارتابوا للذى نالهم من المشقة والشدّة ، فهذه توبة الله عليهم من هذه الريبة وذلك الشك ، فلما تاب عليهم رزقهم الإنابة إلى ربّهم. وتوبته على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى إذنه للمنافقين فى التخلّف عن الجهاد ، وأما المتشككون فالشك فى الضمير والنية ولكنه ظهر فى حالتهم بأن همّوا بالانصراف ، وتوبته عليهم أن تدارك قلوبهم فلم تزغ ، فكذلك سنّة الله تعالى مع أصفيائه : إذا أشرفوا على العطب ، وقاربوا من التلف ، واستمكن اليأس من قلوبهم من النصر ، ووطّنوا أنفسهم على مذاقة البأس ، أمطر عليهم سحائب الجود ، فتشرق الشمس بعد مغيب ، ويرتوى الزرع بعد يبس ، وتدبّ الحياة فيما كاد يموت ، ويردّ الأنس بعد أن كان قد انمحى ، وتصير أحوالهم كما قال شاعرهم :

كنا كمن ألبس أكفانه

وقرّب النعش من اللحد

فجال ماء الرّوح فى وحشة

وردّه الوصل إلى الورد

تبارك الله سبحانه : وفى المصطلح القرآنى «أنصار الله» : (قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) (آل عمران ٥٢ ، والصف ١٤) ، وفى الآية أن عيسى لما استشعر الكفر قال : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) (آل عمران ٥٣) ، و «الأنصار إلى الله» هم الذين يناصرونه فى الطريق إلى الله ، أو مع الله ، أى فى الدعوة إلى الله ، ومن ذلك قول نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من رجل يؤوينى حتّى أبلّغ كلام ربّى». و «الحواريون» مصطلح قرآنى آخر يعنى أيضا الأنصار ، ويختص به عيسى ، وهم تلاميذه ، من حار بمعنى مراجعة الكلام ومجاوبته ، وكان الحواريون أنصارا للمسيح ، ولكل نبىّ حواريون أى أنصار يؤمنون به ، ويدعون بدعوته ، وهم لذلك أنصار الله ، يساعدون النبىّ على التجرّد لحقّه ، والخلوص فى قصده.

وشاع مصطلح الأنصار فاستخدمه أتباع المهدى فى السودان ، وفى مصر أنصار السنّة المحمدية ، وفى أوروبا اقترح المسلمون على تيتو مصطلح الأنصارPartisans ، والمسلمون كشعب كانوا ضمن شعوب يوغوسلافيا ، وهم سكان البوسنة والهرسك وكوسوفا ، وهذا بعض فضل القرآن والسنّة على الناس.

* * *

١٢١١ ـ الأنعام وبهيمة الأنعام

فى قوله : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) (المائدة ١) ، البهيمة : اسم لكل ذى أربع ، سميت بذلك لإبهامها من جهة نقص نطقها وفهمها ، وعدم تمييزها وتعقلها ، ومن ذلك قولنا باب

٣٢٠