موسوعة القرآن العظيم - ج ٢

دكتور عبد المنعم الحفني

موسوعة القرآن العظيم - ج ٢

المؤلف:

دكتور عبد المنعم الحفني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
ISBN: 977-208-422-2
الصفحات: ١٢٤٤
الجزء ١ الجزء ٢

بتجدد أحوالهم وظروفهم. والنسخ عند الإسلاميين قوامه أن الله تعالى يعلم من قبل بالنواسخ والمنسوخات أو الأحكام وحكمها ، وبالعباد ومصالحهم ، وأن كل ذلك كان ظاهرا لديه لم يخف عليه شىء منه ، كما فى القول المشهور : شئون يبديها ولا يبتديها. وشتّان بين النسخ المنوط بالحكمة ورعاية المصلحة وبين البداء الذى يستلزم الجهل المسبق واستحداث العلم. وتفيد الآية : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (٣٩) (الرعد) : أن البداء وثبوت النسخ بمعنى من المعانى ، فالمحو يتم بمشيئته ، والإثبات يسير على إرادته ، وهو تعالى فى الأديان يمحو شريعة ويثبت شريعة ، وفى الأحكام يستبدل مصلحة فيها الخير بمصلحة أخرى أكثر خيرا من الأولى ، والتغيير والتبديل والمحو والإثبات فى المعلوم لا فى العلم ، وفى المخلوق لا فى الخالق ، وهذا هو اعتقاد المسلم سليم الإيمان.

* * *

١٠٢٨ ـ النسخ فى القوانين الوضعية وفى الشرائع السماوية

النسخ جائز فى القوانين الوضعية عند ما يتبين للمشرّع أن قانونا من القوانين أو مادة من المواد لا تحقق المصلحة العامة ، والمشرع حين يشرّع لا يعرف إلى متى سيستمر العمل بالقانون ، ولا ما سيئول إليه إذا تغير ، وعكس ذلك فى الشرائع السماوية ، لأن الله تعالى بسابق علمه يعلم ما سيبقى من الأحكام وما سينسخ ، فالنسخ بيان الحال ، وتقرير لما ينبغى ، والنسخ جائز عقلا ولا يترتب على وقوعه محال ، وفى كل الشرائع قد ينسخ حكم لمصلحة حكم ، وبعض المسلمين قالوا بالنسخ ، وأنه نسخ فى الإسلام حكم لصالح حكم ، واعتبروا الشريعة الإسلامية ناسخة للشريعتين اليهودية والنصرانية ، وأنكر بعضهم النسخ فى الشريعة الواحدة ، واستقبحه ـ كما سبق ـ أبو مسلم الأصبهانى المتوفى سنة ٣٢٢ ه‍ ، وأنكر أن يكون فى القرآن آيات منسوخة ، واستشهد بالآية : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) (فصلت ٤٢) ، ونسب إليها أنها تقرر أن أحكام القرآن لا تبطل أبدا. وأما الذين قالوا به فكان دليلهم من القرآن قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) (البقرة ١٠٦) ، وقوله : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (٣٩) (الرعد) ، وقوله : ، (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (١٠١) (النحل). والنسخ فى اللغة إزالة شىء بشيء ، وفى الاصطلاح إزالة بعض الأوصاف من آية بآية أخرى ، وفى الحديث إزالة بعض أوصاف الحديث بحديث آخر. وقيل : إن من المصطلحات فى النسخ التقييد والتخصيص والبيان : فالتقييد ناسخ للإطلاق ؛ والتخصيص ناسخ للعموم ، والتفسير ناسخ للإجمال. ولا يقع النسخ إلا مع التعارض ، وليس كل

٢٤١

تعارض مسوغا للنسخ ، ونسخ القرآن لا بدّ أن يكون بالقرآن ، ونسخ السنّة بالسنة ، والإجماع لا ينسخ إلا بإجماع بعده ، ولا ينسخه القياس ، والقياس لا ينسخ نصا. ولا يجوز نسخ الخبر ، ولا آيات الوعد والوعيد لأنها أخبار ، ولا الأحكام الشرعية والاعتقادية ، ولا الأحكام الكلية ، ولا الأحكام التى دليلها من القياس ، ولا الحكم المؤقت ، ولا المؤبد. ولا ينسخ الحكم الشرعى بحكم شرعى معه ، ولا بحكم شرعى قبله. ولا يقبل الحكم العقلى النسخ ، ولا يعتبر نسخا لأنه ليس فيه رفع لحكم شرعى. ولا مجال للنسخ إلا إذا كان الناسخ والمنسوخ به نقيضين ، فإن كانا قطعيين فإن أحدهما ناسخ للآخر حتما ، وإن كانا ظنيين فأحدهما لا بد يرجح على الآخر.

والنسخ فى القرآن نوعان : ما نسخ حكمه وبقى نظمه ، وما نسخ حكمه ونظمه معا. والمصنفون فى النسخ كثيرون ، على رأسهم قتادة بن دعامة السدوسى المتوفى سنة ١١٧ ه‍ ، وله فيه كتاب ، حفظه عنه ابن أبى عروبة وألف بدوره كتابا فيه. وللزهرى كتاب «الناسخ والمنسوخ» رواه غيره فلم يعد لكتابة اعتبار. وكذلك لأبى النصر محمد بن السائب الكلبى ، وأبى الحسن مقاتل بن سليمان البلخى ، والحسن بن واقد المروزى ، ومحمد بن إدريس الشافعى ، وأبى نصر البصرى ، وحجّاج بن محمد الأعور ، والقاسم بن سلام ، وجعفر بن مبشر ، وأبي داود السجستانى ، وابن الجوزى ، وهبة الله بن سلامة ، والسيوطى ، وأبى عبد الله بن حزم ، وأبى جعفر النحاس ، وابن سلام ، وعبد القاهر البغدادى ، وابن هلال ، والأسفراييني ، وابن خزيمة ، والكرمى ، والأجهورى.

* * *

(الآيات التى قيل إنها منسوخة وردّ هذا الزعم

١١٢٩ ـ سورة البقرة

الآية : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٦٢) (البقرة) : قيل نسختها الآية : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (آل عمران ٨٥) ، والصحيح أن الآية محكمة ولم تنسخ ، وهى فيمن ثبت على إيمانه من المؤمنين.

والآية : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) (البقرة ٨٣) قيل : نسختها آية السيف ، والآية فى مكارم الأخلاق ، وآية السيف تنافيها ، لأن القتال أصلا لم يكتب على البشر إلا لإقرار مكارم الأخلاق.

والآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ

٢٤٢

أَلِيمٌ) (١٠٤) (البقرة) : زعموا أنها منسوخة ولم يوردوا النصّ الذى نسخها ، وقالوا إنها ناسخة لما كان مباحا قوله ، والصحيح أنها لا منسوخة ولا ناسخة.

والآية : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) (البقرة ١٠٩) : قيل : نسختها الآية : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (التوبة ٢٩) ؛ وقيل : الناسخ له الآية : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) (التوبة ٥) ، والصحيح أن الآية محكمة وغير منسوخة ، وكان الرسول يدعو فى مجالس اليهود والمشركين ، وأغلظ له عبد الله بن أبىّ ، فشكا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك إلى عبد الله بن عبادة ، فقال له عبد الله : بأبى أنت وأمى ، اعف عنه واصفح ، فو الذى أنزل عليك الكتاب بالحق ، لقد جاءك بالحق الذى أنزل عليك! فعفا عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونزلت الآية ، فلا تعارض إذن ولا نسخ.

والآية : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (البقرة ١١٥) : قال بشأنها ابن عباس : إن الآية منسوخة بقوله : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (البقرة ١٤٤) ، فكأنه كان يجوز فى الابتداء أن يصلى المرء كيفما شاء ثم نسخ ذلك. والصحيح أن الآية لم تنسخ ، وأنها متصلة بالآية قبلها : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) (البقرة ١١٤) ، والمعنى أن بلاد الله تسع المؤمنين ، فلا يمنعهم تخريب من خرّب مساجد الله أن يولّوا وجوههم نحو قبلة الله أينما كانوا من أرضه ، فإن له المشرق والمغرب والجهات كلها ، فإذا منعوا من أن يصلّوا فى المسجد الحرام أو المسجد الأقصى فإن الأرض لهم مسجد حيثما كانوا من شرق أو غرب ، وذلك تسلية بحلّ الذكر والصلاة فى جميع الأرض لا فى المساجد خاصة ، وفى الحديث الصحيح : «جعلت لى الأرض مسجدا وطهورا».

والآية : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) (١٥٨) : قالوا : هى منسوخة بالآية : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) (١٣) (البقرة) ، ومنشأ دعوى النسخ هو : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) ، فسّرها عروة لخالته عائشة : فما أرى على أحد جناحا ألا يطوّف بهما ، والصحيح ما ذكرته عائشة : بئس ما قلت يا ابن أختى! إن هذه لو كانت كما أوّلتها عليه كانت : لا جناح عليه ألا يطوّف بهما. وقالت : وقد سنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الطواف بينهما ، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما. وأيضا فإن قوله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) خبر مؤكد أريد به الأمر المؤكد. وقوله : (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) إشارة إلى أن السعى واجب عن تطوع بالزيادة عليه ، فإن الله يشكر ذلك له. ولم يصحّ عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الآية منسوخة ، ولا مجال لادّعاء التعارض بين الآيتين ، ولا معنى لدعوى النسخ إذن.

٢٤٣

والآية : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (١٥٩) : قيل نسختها الآية : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) (البقرة ١٦) ، وهذا غير صحيح ، لأن الآية الثانية استثناء ولا تعد نسخا ، بالإضافة إلى أن الآية خبر مؤكد لا يقبل النسخ.

والآية : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) (البقرة ١٩٦) : قيل : نسختها بقية الآية : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) ، وهذا استثناء ، ولا يعتبر نسخا ، والآية محكمة.

والآية : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) (البقرة ١٧٣) : قيل نسختها بقية الآية : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) ، وهى استثناء من الآية ، ولا يعتبر نسخا.

والآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٧٨) (البقرة) : قالوا هى منسوخة بقوله تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) (المائدة ٤٥) ؛ وقيل : هى منسوخة بقوله تعالى : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) (٣٣) (الإسراء). والصحيح أن الآية غير منسوخة ، لأن آية البقرة تقرر حكم القصاص فى الإسلام ، وآية المائدة تحكى عمّا هو مكتوب فى التوراة ، فالمعقول أن آية البقرة هى التى تنسخ آية التوراة. وأما آية المائدة فهى مكية وسابقة على البقرة ، فلا ينسخ المتأخر المتقدم. وهناك حقيقة تاريخية وهى أن الله تعالى لم يقض فى حكم القصاص قضاء ثم نسخه ، ولذلك فلا تعارض ولا نسخ.

والآية : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (١٨٠) : قيل هذه الآية نسختها آية الفرائض ، والصحيح أن آية الفرائض لم تنسخها ، لأن هذه الآية عامة ، وآية الفرائض خاصة. وقيل الحديث : «إن الله قد أعطى لكل ذى حقّ حقّه فلا وصية لوارث» نسخها ، والحديث من أحاديث الآحاد ولا يمكن أن تنسخ السنّة القرآن ، فالسنّة عملها شرح القرآن وبيانه وليس من ذلك أن تنسخه. وأوصى ابن عمر لأمهات أولاده لكل واحدة بأربعة آلاف ، وأوصت عائشة لمولاة لها بأثاث البيت ، وأهل الظاهر يمنعون الوصية بأكثر من الثلث وإن أجازها الورثة ، وأجاز ذلك الكافة إذا أجازها الورثة وهو الصحيح ، اعتمادا على الحديث : «لا تجوز الوصية لوارث إلا

٢٤٤

أن تجيزها الورثة». غير أن مقتضى آية الوصية إيجابها لكل قريب ، ومقتضى آيات المواريث منح بعض الأقربين حق خلافة الميت فى ماله دون بعضهم الآخر ، فليس بين الآيتين إذن تعارض يسوغ النسخ ، فما يزال دائما بعض الأقربين تجب لهم الوصية بمقتضى الآية.

والآية : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) (البقرة ٢٣٣) : قيل نسختها بقية الآية : (فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما ...) وهذا استثناء ولا يعتبر نسخا ، والآية محكمة.

والآية : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٢٨٠) (البقرة) : قيل الآية تتحدث عن المدين المعسر ووجوب إمهاله حتى يوسر ، ولكن ذلك فى الدين الربوى. وقيل : إن الآية تنسخ بيع المدين المعسر فى دينه وفاء به ، ويوردون قصة عن مدين أمر النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يباع فى السوق لصالح الدائن ، وهذا لا يتفق مع ما يقرره الإسلام من كراهية الرق ، والحرص على تحرير الرقيق ، فكيف يتصور أن يكون من بين أحكامه هذا الحكم الذى يجعل الحرّ رقيقا؟ فدعوى أن الآية نسخته لا أساس لها إذن ولا تقبل.

والآية : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (البقرة ١٨٣) : قيل نسختها الآية : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) (البقرة ١٨٧) ، لأنه إذا كان الصوم فى الإسلام تشبها بمن قبلنا ، فإن ذلك يقتضى موافقة من قبلنا فى تحريم الوطء أيضا بالإضافة إلى الأكل ، فلما كان الوطء قد حلّل فإن آية الرفث تكون ناسخة لتشبيه صيام المسلمين بصيام من قبلهم. والصحيح أن الآيتين محكمتان ، وأن التشبيه بين صوم المسلمين وصوم غيرهم راجع إلى أصل وجوبه ، لا فى وقته ولا فى كيفيته ، ولذلك اختلف الصيامان فى كل شىء إلا الامتناع عن الأكل والشرب عموما.

والآية : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١٨٤) : قيل الآية : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) منسوخة ، ونسختها الآية بعدها : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ). والصحيح أن آية : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) ليست بمنسوخة ، وتخصّ الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما ، فيطعما مكان كل يوم مسكينا. وقوله : (يُطِيقُونَهُ) فيه رأيان ، فيجوز أن يعود الضمير فى (يُطِيقُونَهُ) على الصيام ، ويصبح المعنى وعلى الذين يطيقون الصيام أن يطعموا إذا أفطروا لأى سبب ، وعلى ذلك فإن : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) نسختها ؛ والصحيح أن : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) فيها تخيير ، والخير أن تصوموا طالما تطيقون

٢٤٥

الصوم ، فكأنه لا نسخ هناك وإنما شرح وتفسير وبيان. ويجوز أن يعود الضمير فى (يُطِيقُونَهُ) على الفداء ، فيصبح المعنى وعلى الذين يطيقون الفداء فدية ، قيل : فنسختها الآية : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة ١٨٥) ، والصحيح أنها لم تنسخها ، حيث الأصل فى رمضان الصيام ، وإنما يرخّص للشيوخ والعجزة خاصة ، أن يفطروا وهم يطيقون الصوم. والإجماع على أن المشايخ والعجائز الذين لا يطيقون الصيام أو يطيقونه على مشقة شديدة ، أن يفطروا وعليهم الفدية ، وهؤلاء ليس حالهم كحال المرضى والمسافرين ، كقوله : (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) (البقرة ١٨٥) ، والمريض والمسافر يقضيان ، وأما الشيوخ والعجزة فلا يقضيان وعليهم الفداء كل يوم بإطعام مسكين.

والآية : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة ١٩٠) : قالوا إن الآية منسوخة فى موضعين ، أولهما : الأمر بقتال من يقاتلوننا دون غيرهم ، وقد نسخته الآية : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) (البقرة ١٩١) ، والآية : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) (التوبة ٢٩) ، والآية : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) (التوبة ٣٦) ، والآية : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (التوبة ٥) ، وهى المعروفة بآية السيف ؛ وثانيهما : النهى عن الاعتداء ، والناسخ له الآية : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (البقرة ١٩٤) ، والصحيح أنه لا تعارض ولا نسخ ، فقد أمرنا فى هذه الآيات أن نقاتل من يقاتلنا ، ونهينا عن مقاتلة غيرهم ، وهو المراد من قوله تعالى «لا تعتدوا» ، فالقتال مسموح به لمن يقاتلوننا فحسب ، وقتال غيرهم اعتداء وتجاوز للضرر المسموح به. والنهى جاء عن قتل النساء والصبيان والرهبان والشيوخ من الأعداء ، لأن قتلهم لا يسوغ من المؤمنين. والمراد بالذين يقاتلوننا هم الذين يشتركون فى القتال ، والنهى هو نهىّ عمّن سواهم ، وهم الذين ليس من شأنهم أن يحملوا السلاح أو يشتركوا فى المعارك ، ومن ثم فإن القول بعدم قتل المدنيين من اليهود هو تفسير خاطئ ، لأن كل يهودى وإن كان مدنيا فإنه جندى احتياطى فى الجيش اليهودى ضد المسلمين. وتعبير الذين يقاتلونكم لا يعنى أنهم قد قاتلوا بالفعل ، ولا يعنى أننا لا نقاتل إلا إذا بدءونا بالقتال ، فطالما هو عدو فقتاله واجب ، ومباغتته أوجب. والنهى عن الاعتداء هو أن لا نقتل النساء غير المحاربات ، يعنى العجائز ، لأن نساء إسرائيل الشابات جميعهن فى الجيش. والذى تأمر به الآية ليس اعتداء ، وإنما هو انتصار للحق والعدل ، وردّ على الاعتداء ، وسمى اعتداء من باب المشاكلة ، وعلى ذلك فالآية غير منسوخة ، والآيات الأخرى تفسّرها وتكمّلها.

٢٤٦

والآية : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) (البقرة ١٩١) : قيل : الآية منسوخة بآية السيف التى تقول : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (التوبة ٥) ، والآية : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) (البقرة ١٩١) ، والصحيح أنه لا نسخ ، لأن الآية تنهى عن مقاتلة الكفّار عند المسجد الحرام إلا إذا بدءوا بالقتال ، والآية الثانية والثالثة تعنيان أنهم إذا بدءوا بالقتال فاقتلوا المشركين أنّى وجدتموهم سواء فى المسجد أو فى غير ذلك. ثم إن آية : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) خاصة ، وآية : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) عامة ، والعام لا ينسخ الخاص.

والآية : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (البقرة ١٩٤) : قيل : إن المنسوخ فيها هو «الحرمات قصاص» فليس لأحد أن يقتص من أحد إلا بالسلطان ، غير أن السياق ليس فيه هذا المعنى ، وقد قيل إن ابن عباس هو الذى قال به ، ولم تعرف صحة هذا الكلام ، والمعنى الصحيح للآية أن المسلمين وقد منعوا فى الحديبية من دخول الحرم قد عوّضهم الله عنه بدخولهم فى المرة الثانية عوضا عمّا منعوا فى مثله فى العام الماضى ؛ والحرمات هى : حرمة الشهر ، وحرمة البلد الحرام ، وحرمة الإحرام ، والآية إذن ليست منسوخة. وقيل : إن الآية نسختها الآيات التى تأمر بالقتال ، كقوله تعالى : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) (التوبة ٣٦) ، وقوله : (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) (التوبة ١٢٣) ، وقوله : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ) (التوبة ٢٩) ، والصحيح أن حكم الآية لا يقبل الإلغاء ، ولا يعارض ما تقرره تلك الآيات ، ولا معنى للنسخ.

والآية : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) (البقرة ١٩٦) : قيل : إن الآية تنسخ ما كان يعتقده الناس فى الجاهلية ، من أن العمرة لا تجوز فى أشهر الحج ، والصحيح أن الآية لم تنسخ شيئا ، لأنها تشرّع حكما فى الحج لم يسبق ، بحكم يخالفه ، وما دام للشارع فى الموضوع حكم واحد ، فكيف يكون ناسخا؟ وما الحكم الذى نسخ بهذا الحكم؟

والآية : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (البقرة ٢١٥) : قالوا : الآية فى الزكاة المفروضة ثم نسخ منها الوالدان. وقيل : الزكاة غير هذا الإنفاق ، فعلى هذا لا نسخ فى الآية لأنها مبينة لمصارف صدقة التطوع.

والآية : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) (البقرة ٢١٦) : قيل : هى ناسخة لحظر القتال عليهم وما أمروا به

٢٤٧

من الصفح والعفو بمكة. وقيل : هى منسوخة بالآية : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) (التوبة ١٢٢) ، وهذا ليس صحيحا ، لأنه ليس فى هذا القول نسخ لفرض القتال. والآية من المنسأ لا من المنسوخ ، والمنسأ : ما أمر به لسبب ثم يزول السبب ، كالأمر حيث الضعف والقلة ، بالصبر والمغفرة ؛ وأما المنسوخ : فهو ما أزيل حكمه حتى لا يجوز امتثاله أبدا ؛ فالحكم المنسأ هو الذى يدور مع علّته وجودا وعدما ، كالنهى عن ادخار لحوم الأضاحى من أجل المجاعة ، وأما الحكم المزال أبدا فهو المنسوخ. وهذه الآية ليست منسوخة الحكم ، ولا هى ناسخة لحكم قبلها.

والآية : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) (البقرة ٢١٧) : قيل : نسختها الآية : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) (التوبة ٣٦). وقيل : نسخها غزو النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثقيفا فى الشهر الحرام وإغزاؤه أبا عامر إلى أوطاس فى الشهر الحرام. وقيل : نسختها بيعة الرضوان على القتال فى ذى القعدة. وهذا غير صحيح لأن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما سمع عن موقف المسلمين فى مكة ، بايع المسلمين على دفع الكفّار لا على الابتداء بقتالهم. وآية الشهر الحرام تؤكد على أن الشهر الحرام حرام فيه القتال كما كان ، غير أن ما يستحلونه من المسلمين أكبر من ذلك ، من صدّهم عن سبيل الله حين يحبسونهم ويعذّبونهم حتى لا يهاجروا ، وصدّهم للمسلمين عن المسجد الحرام ، وإخراجهم أهل المسجد الحرام وهم سكانه من المسلمين ، وفتنتهم إياهم عن الدين ، فنزلت : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١) (التوبة) والآية لذلك محكمة ، والقتال غير جائز فى الأشهر الحرام.

والآية : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) (البقرة ٢١٧) : وقد ادّعوا النسخ على هذه الآية بقوله تعالى : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) (التوبة ٣٦) أو بآية السيف (التوبة ٥) ، أو بآية القتال لأهل الكتاب حتى يعطوا الجزية (التوبة ٢٩). والشهر الحرام فى الآية هو رجب ، والقتال محرم فيه ، والآيات التى قيل إنها ناسخة للآية لم تشرّع القتال فى كل زمان ، فلا تعارض بينها وبين الآية التى تحرّم القتال فى الأشهر الحرام ، فلا نسخ.

والآية : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) (البقرة ٢١٩) : قيل : نسختها آية الزكاة المفروضة ، ونسخت كل صدقة أمروا بها ، والصحيح أنها محكمة ، فلا تعارض بين هذه الآية ـ وبين آية الزكاة المفروضة ، ففي المال حق سوى الزكاة.

والآية : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) (البقرة ٢١٩) : قيل : نسختها الآية : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) (المائدة

٢٤٨

٩٠) ، كما نسخت الآية : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) (النساء ٤٣) والصحيح أنها لم تنسخ لأن هاتين الآيتين لا يتعارضان معها.

والآية : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) (البقرة ٢٢١) : قيل نسختها الآية : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) (المائدة ٥). وقيل : آية البقرة هى التى نسخت آية المائدة وهذا خطأ ، لأن آية البقرة عامة ، وآية المائدة خاصة ، ولا يجوز أن ينسخ العام الخاص ؛ وأيضا فإن سورة المائدة لا حقة على سورة البقرة ، ولا يجوز أن ينسخ السابق اللاحق ؛ وآية سورة البقرة عن نكاح المشركات ، وآية سورة المائدة عن نكاح الكتابيات. والمهم أن الآيتين لا يتعارضان ، وكلاهما له موضوعه ، والمشركة ليست هى الكتابية ، ومن الصحابة كثيرون تزوجوا كتابيات ، ومنهم النبىّ نفسه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تزوج صفية بنت حيّى ، وكذلك : عثمان ، وطلحة ، وابن عباس ، وجابر ، وحذيفة ، ومن التابعين : سعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، ومجاهد ، وطاوس ، وعكرمة ، والشعبى ، والضحّاك. وإذا كان عمر قد فرّق بين طلحة وحذيفة وبين الكتابيتين ، إلا أنه لم يكن يعتبر الزواج من الكتابية حراما ، ولكنه كما قال : «أخاف أن تتعاطوا المومسات منهن» ، والآية فيها من ذلك الخوف التحذير من غير المحصنة ، ومن التى لها خدن أى صاحب ، فكأن ذلك الداء فى الكتابيات من زمن بعيد وليس ابن الحاضر.

والآية : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) (البقرة ٢٢٢) : قيل : إنها منسوخة بالسنّة ، وكانت الآية تقتضى مجانبة الحائض على الإطلاق كما يفعل اليهود ، والنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أباح الاستمتاع بالحائض دون الإزار أى أحلّ كل شىء إلا النكاح ، والصحيح أن السنة لا تنسخ القرآن ، والآية ليست منسوخة بآية أخرى من القرآن ، والمقصود بهذه الآية تغيير ما كان عليه اليهود من عدم مساكنتهم الحائض ، وعدم مؤاكلتها ومشاربتها ، وما كان حكما يناقض شريعة اليهود ليس نسخا ، لأن ما كان عليه اليهود ليس حكما إسلاميا قد كلّف به المسلمون وأزالته الآية.

والآية : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) (البقرة ٢٢٨) : قيل : نسخها قوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) (البقرة ٢٣٠) ، وهذا غير صحيح ، لأن الآية الثانية فيها تخصيص وليست نسخا ، فخصّصت الذين يحقّ

٢٤٩

لهم أن يراجعوا زوجاتهم ، بأنهم الذين طلقوا مرتين أو واحدة ، بعد أن كان عموم قوله : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ) شاملا لكل مطلق ولو ثلاثا.

والآية : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) (البقرة ٢٢٩) : قيل : نسختها بقية الآية : (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) ، وهى استثناء ولا يعتبر نسخا ، والآية محكمة.

والآية : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) (البقرة ٢٣٣) : قيل : الوارث هو الذى تئول إليه مسئولية الصبى إذا مات أبوه ، من الرجال أو من النساء ، ويلزمهم نفقة إرضاعه وإعالته ، والمراد بهم عصبة الأب ، ومن رأى البعض أن الآية منسوخة بوفاة الأب فلا تجب النفقة على الوارث ، لأن ماله يوزّع على الورثة بوفاته ، وينال الطفل نصيبه منه ، فتكون إعالته على نفسه من ماله ، وماله أولى به ، والصحيح أن الآية لم تنسخ ، فمع أن النفقة تكون من مال الصغير ، إلا أنه وأمه لو كانا محتاجين ، فإن ما يحتاجانه يجب على كل ذى رحم ، وهو الوارث أى عصبة الأب ، وصرف النفقة إلى ذى الرحم أولى ، وفى الحديث : «اجعلها فى الأقربين».

والآية : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) (٢٣٦) (البقرة) : قيل : إنها منسوخة ، وقيل فى الردّ على ذلك أن الأمر بالمتعة للوجوب يقضى بها فى مال المطلق لكل مطلقة ، وقيل ليس عاما فى كل مطلقة ، لأن التى لم يدخل بها لا متعة لها ، وقيل هى حق لكل مطلقة ، ولكن منها ما يقضى به عليه ، ومنها ما لا يقضى به عليه ويلزمه فيما بينه وبين الله ؛ وقيل : الأمر بالمتعة ندب وليست المتعة واجبة ؛ وقيل المتعة واجبة للمطلقة قبل الدخول إذا لم يكن قد سمّى لها صداق ، فإن سمّى لها فلها نصف المسمّى ، وإن دخل بها فلها مثلها ، ولا تجب لها فى الحالين متعة ، فأين هو النسخ إذن؟

والآية : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) (البقرة ٢٣٨) : قيل عن البراء بن عازب : إن هذه الآية نزلت أولا بهذه الصيغة : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) وصلاة العصر» ، فظل الناس يقرءونها ما شاء الله ، ثم نسخها الله فنزلت : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) ، فقال رجل : هى إذن صلاة العصر؟ ولا دليل على هذا القول مع أنه اختيار «مسلم» وأتى به فى آخر الباب ، ولو كان صحيحا لما تعارضت الأدلة ، ولما كان عدم الترجيح ، فلا يبقى إذن إلا أن نقول إنها الصلوات جميعها ، فيجب المحافظة عليها جميعها ، وأداؤها فى أوقاتها.

٢٥٠

والآية : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) (البقرة ٢٤٠) : قيل : نسختها الآية قبلها : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) (البقرة ٢٣٤) ، ولا يوجد فى القرآن ناسخ يتقدم المنسوخ ، هذا أولا ، ثم ثانيا : الآية الأولى خاصة بعدّة المتوفى عنها زوجها ، والثانية خاصة بإخراج التى يتوفى عنها زوجها من بيت الزوجية ، فلا تعارض بين الآيتين ولا يوجد ناسخ ومنسوخ. وقيل : نسختها آية الميراث : (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ) (النساء ١٢) ، وهذه الآية فى الميراث ، وأما الآية الأخرى فعن النفقة ، وآية الميراث لا تنسخ آية النفقة ، فالميراث والنفقة كلاهما حق ثابت للمرأة.

والآية : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (٢٤١) : قيل : إنها محكمة ، فالمتعة حق لكل مطلقة ، وليس لها حدّ ، واستثنى المطلقة التى لم يدخل بها فليس لها متعة لأن لها نصف صداقها ، فإن لم يكن قد سمّى فمتعتها أقل من صداق المثل أو أكثر.

والآية : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) (البقرة ٢٥٦) : قيل : نسختها الآية : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) (التوبة ٢٩) ، والصحيح أنه لا تعارض بينهما ، ولم تنسخ أىّ منهما الأخرى ، فالآية الأولى تحرّم إكراه الناس على الدخول فى الإسلام ، وفى أى دين أو معتقد ؛ والآية الثانية نزلت فى قتال المشركين وغيرهم ممن كان لهم حق دخول المسجد الحرام للتجارة أو لغير ذلك ، فحظرت عليهم أن يقربوا المسجد من بعد ، وأمرت بقتالهم إذا عادوا لذلك ، وتعرضت لأهل الكتاب وأوجبت قتالهم إذا أصروا على الاستعلاء على المسلمين ولم يدينوا بدين الحق ، فقد حرّفوا دينهم ، وانحرفوا عن الجادة فيه وأرادوا معايشة المسلمين بلا كلفة أمن منهم ، ففرضت عليهم الجزية مقابل ما يتكلفه المسلمون حماية لهم ، ومقابل ما يدفعه المسلمون من زكاة لم تفرض إلا على المسلمين ، والجزية إذن هى المقابل للزكاة وكلفة الأمن ، ومقدارها أقل بكثير من الزكاة ومن كلفة الأمن. والمبدأ العام فى الإسلام أنه لا إكراه فى الدين ، والعبرة فى النصّ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ولفظ الآية عام فى نفس جنس الإكراه ، وتقرر الآية مبدأ لا ينبغى أن يدّعى عليه النسخ ، لأنه من المبادئ التى يعتز بها الإسلام ، وهو الدين الذى حرر الناس ، وخلّصهم من الهوى والتقليد ، وعلّمهم أن يلجئوا إلى العقل.

والآية : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) (البقرة ٢٧١) : قيل : إن الآية (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) (البقرة ٢٧٤) نسخت هذه الآية ، وليس ذلك بصحيح فالآية ٢٧٤ عامة ، والآية ٢٧١ فيها تخصيص أكثر.

٢٥١

والآية : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (٢٧٢) (البقرة) : قيل : نسختها آية الصدقات : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٦٠) (التوبة) ، والآيتان لا تتعارضان وليس ثمة نسخ إذن.

والآية : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) (البقرة ٢٨٢) : قيل : نسختها الآية التى بعدها : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) ، وهذا لا معنى له ، لأن حكم الآية الأولى بخلاف حكم الآية الثانية ، وحكم الأولى الكتابة ، وحكم الثانية من لم يجد كاتب ، بقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) (البقرة). وقيل : إن قوله تعالى : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) وردت مع الأمر بالإشهاد : (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) ، ولا يجوز أن يرد الناسخ والمنسوخ معا جميعا فى حالة واحدة.

والآية : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) (البقرة ٢٨٤) : قالوا : اشتكى الصحابة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية ، وأن يحاسبوا على الوسوسة ، فنزلت آية : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) (البقرة ٢٨٦) تنسخ الآية السابقة. والصحيح أن الآية لم تنسخ ، فلا يلزم من المحاسبة المعاقبة ، والله قد يحاسب ويغفر ، وقد يحاسب ويعاقب ، وتشرحها الآية الثانية التى مفادها أن العباد لا يحاسبون إلا على ما كان فى وسعهم ، وأعمال القلب يصدق عليها الحديث : «وإن همّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة» ، والحساب إذن على ما يهمّ به من سيئات ويعمله أو يقصر عن عمله قسرا عنه لظروف خارجة عن إرادته ، وفى الحديث : «إن الله تجاوز لأمتى عن ثلاث : عن الخطأ ، والنسيان ، والاستكراه» ، وفى القرآن : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) (٣٩) (النجم) يعنى ما انتواه وجهد إلى تحقيقه ، فهذا ما يحاسب عليه ، وإن انتوى شيئا ولم يجهد إلى تحقيقه فقد يحاسب عليه ويسأل ولكن لا يعذّب ، وكذلك ما يملك دفعه من وسوسة النفس وحديثها ويكرهه منها فهذا لم يكلف به ، والحساب لا يكون إلا عن الأعمال التى تدخل تحت التكليف. وعلى ذلك فالآية من المحكم ولم تنسخها آية أخرى.

* * *

١١٣٠ ـ سورة آل عمران

الآية : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ

٢٥٢

اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (٢٨) (آل عمران) : قيل : إن دعوى النسخ على قوله عزوجل : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً). وقيل : إنها نسخت بآية السيف ، فلا تقاة من مشركين بل قتال معهم. وقيل : إن المراد من الآية جواز اتقاء العدو إذا أكره المؤمن على الكفر ، بالقول الذى لا يعتقده ، وهذا الحكم باق غير منسوخ ، فالتّقيّة باللسان من حمل على أمر يتكلم به وهو معصية لله ، فتكلم به مخافة الناس ، إلا أن قلبه مطمئن بالإيمان ، فإن ذلك لا يضرّه. وقيل : التّقيّة لم تنسخ ، وهى جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة.

والآية : (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) (آل عمران ٤١) : قيل : إن الحديث : «لا صمتّ يوما إلى الليل» قد نسخ هذه الآية ، ونسخ إباحة الصمت ، ولا تنسخ السنّة القرآن ، ثم إن الآية خبر ، والخبر لا يقبل النسخ ، وما تقرره الآية إنما هو ما قضى الله به على نبيّه زكريا : أنه سيرزقه بيحيى رغم أن امرأته عاقر ، فكيف يكون هذا منسوخا؟.

والآية : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) (آل عمران ٨٦) : قيل : نسختها الآية بعدها : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) (آل عمران ٨٩) ، وهى استثناء ولا تعتبر نسخا ، والآية على ذلك محكمة.

والآية : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (آل عمران ٩٧) : قيل : تدل الآية على وجوب الحج على جميع الناس ، الغنى والفقير ، والقادر والعاجز ، ثم نسخ ذلك فى حق عديم الاستطاعة ببقية الآية : «من استطاع إليه سبيلا» وهذا غير صحيح ، لأن تقدير الآية : ولله على من استطاع من الناس الحج ـ أن يحج ، وإذن فلا نسخ.

والآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١٠٢) : قيل : لمّا نزلت هذه الآية قالوا : يا رسول الله ، من يقوى على هذا؟ وشقّ عليهم ، فأنزل الله عزوجل : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (التغابن ١٦) فنسخت هذه الآية ، وليس فى آل عمران من المنسوخ شىء إلا هذه الآية. والصحيح أن آية سورة التغابن بيان لآية سورة آل عمران ولم تنسخها ، والمعنى : فاتقوا الله حقّ تقاته ما استطعتم. وإذن فالآيتان يمكن الجمع بين معنييهما ، وما كان من الممكن الجمع بين معانيه فليس فيه نسخ ، لأن النسخ لا يكون إلا عند ما لا يمكن الجمع بين الناسخ والمنسوخ.

والآية : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) (١٢٨) : قيل : إن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى أحد لمّا كسرت رباعيته وشجّ فى رأسه فجعل يسلت الدم ، قال :

٢٥٣

«كيف يفلح قوم شجّوا رأس نبيّهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله؟». والرباعية : السن التى بين الثنية والناب. فهمّ أن يدعو عليهم ، فأنزل الله الآية ، فلمّا نزلت الآية علم أنهم سيسلمون من بعد ، وقد أسلموا ، ومنهم خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، وعكرمة بن أبى جهل. ولمّا أطمع فى ذلك قال : «اللهمّ اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون». وقيل : إن هذه الآية ناسخة للقنوت الذى كان النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلعن فيه بعض أعدائه بعد الركوع فى الركعة الأخيرة من الصبح. وليس هذا موضع نسخ ، وإنما نبّه الله تعالى نبيّه على أن الأمر ليس إليه ، وأنه لا يعلم من الغيب شيئا إلا ما أعلمه به الله ، فلا نسخ.

والآية : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (آل عمران ١٥٩) : قيل : نسختها آية السيف ، وهذا غير صحيح ، لأن الآية عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع المؤمنين بعد أحد ، ولا قتال مع المؤمنين ، والكلام مع هؤلاء بالقول الحسن. والآية فى وصف أخلاق النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا ينافيها ما تأمر به آية السيف من القتال ، فإنما شرّع القتال لإحقاق الحق وإعلاء الفضائل والقيم ومكارم الأخلاق.

والآية : (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (١٨٦) : قيل : إن آية القتال نسخت هذه الآية ، والأظهر أنها ليست بمنسوخة ، فإن الجدال بالأحسن ، والمدارة أبدا ، مندوب إليهما ، وكان النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع الأمر بالقتال يوادع اليهود ويداريهم ويصفح عن المنافقين. ثم إن الصبر المطلوب فى الآية والذى يقال إنه نسخ هو صبر على سماع الأذى ، فهل ذلك خطأ؟ أليس القتال محتاجا دائما للصبر؟

* * *

١١٣١ ـ سورة النساء

الآية : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) (النساء ٢) ، قيل : إن النهى فيها عن أكل أموال اليتامى بضمها إلى أموالهم قد نسخ ، وأن ناسخه قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) (البقرة ٢٢٠). وقيل إن الآية : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) نزلت عند ما نزلت آيتان أخريان هما قوله : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (الأنعام ١٥٢) ، وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (١٠) (النساء) ، فهل نسخت هاتان الآيتان أيضا بآية البقرة؟ وقيل : الآية لا يجوز فيها ناسخ ولا منسوخ ، لأنها خبر ووعيد ونهى عن الظلم

٢٥٤

والتعدى ، فمحال نسخ ذلك. وجميع هذه الآيات لا يراد بها عزل طعام اليتيم وشرابه عن طعامهم وشرابهم ، وإنما التأكيد على أن المخالطة بقصد الإصلاح ليست محرمة عليهم ، وأن فيها توسعة من حرج ، وفيها ترخيص وتيسير عليهم ، فهل تبدو شبهة تعارض بين هذه الآيات الأربع مع أنها كلها تلتقى عند وجوب رعاية اليتيم وحفظ أمواله؟

والآية : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) (٣) (النساء) : قيل : إنها نسخت ما كان الناس يفعلونه فى الجاهلية وفى صدر الإسلام ، حيث كان لهم ما يشاءون من الحرائر ، فنسخ الله ذلك بالقرآن والسنّة والعمل ، فلم يعد يحلّ لأحد فوق أربع من النساء ؛ والسؤال الذى استوجب نزول الآية كان عن اليتامى وليس عن عدد النساء ، فالآية لم ترفع حكما شرعيا سابقا ، وما دام الإسلام لم يشرّع حكما قبل هذا الحكم ، فلا يعتبر ذلك نسخا.

والآية : (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) (النساء ٦) : قيل : إنها منسوخة بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) (النساء ٢٩) ؛ وقيل : نسختها الآية : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (١٠) (النساء) ؛ وقيل : «فليأكل بالمعروف» منسوخة بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً ...) ، فكيف ينسخ الظلم المعروف؟ وأين من الأكل بالمعروف ، الأكل ظلما؟ والآية لذلك محكمة لا تعارضها آية أخرى ، وحكمها لم يرفع.

والآية : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) (٧) : قيل : إنها منسوخة بالآيات الثلاث بعدها ١١ و ١٢ و ١٧٦ من السورة ، والصحيح أن هذه الآيات تفصّل الإجمال الذى قررته الآية الأولى ولا تنسخها.

والآية : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (٨) (النساء) : قيل : نسختها آيتا الميراث والوصية ، والصحيح أنها محكمة وليست بمنسوخة ، وتعطى أولى القربى واليتامى والمساكين الحاضرين لقسمة التركة شيئا منها ، وهذا الحكم باق على وجه الندب ، ولا تعارض ولا نسخ.

والآية : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) (٩) : قيل : الخطاب فى الآية لأولياء اليتامى ، وتأمر بإجراء الوصية على ما

٢٥٥

رسم الموصون دون تعديل ولو كان فيها جنف أو إثم ؛ وقيل : الآية لذلك ينسخها قوله : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) (البقرة ١٨٢) ، وهذا التأويل متكلّف فإن الخوف من عدم تنفيذ الوصية كما هى لا يماثل الخوف على الأولاد الضعاف يخلفهم المورث وراءه.

والآية : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (١٠) (النساء) : قيل : إنها منسوخة بقوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) (البقرة ٢٢٠) ، والحقيقة أنها لم تنسخها ، فآية سورة البقرة تتحدث عن معاملة اليتامى المعاملة الواجبة ، وآية سورة النساء تتوعد من يأكل أموالهم ظلما ، ولا تعارض بين الآيتين.

والآية : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) : قيل : نسختها آية الزنا : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) (النور) ، والصحيح أنه لا نسخ ولا تعارض ، لأن (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ) عن السحاق بين الإناث ، وكذلك الآية : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما) عن اللواط بين الذكور ، وكلّ من السحاق واللواط ليس بزنى ، وحكم السحاق مختلف عن حكم اللواط ، والاثنان يختلف حكمهما عن حكم الزنى.

والآية : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) (النساء ٢٢) : قيل : نسختها بقية الآية : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) ، وهى استثناء ولا تعتبر نسخا.

والآية : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ) (النساء ٢٣) : قيل : نسختها بقية الآية : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) ، وهى استثناء ولا تعتبر نسخا.

والآية : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) (النساء ٢٤) : قالوا : نسختها الآية الأولى من سورة الطلاق ، أو آية ميراث الزوجين ، أو نسختها السنّة ، أو نسختها تلك الآيات والسنة جميعا. وفسّروا الاستمتاع بأنه زواج المتعة ، وهو أن يقول لها : أتزوجك يوما أو ما أشبه ذلك ، على أن لا عدّة لها ، ولا ميراث بينهما ، ولا طلاق ، ولا شاهد يشهد على ذلك ، وهذا هو الزنا بعينه. وأهل العلم على أن الاستمتاع فى الآية هو الوطء فى النكاح الصحيح ، فيؤتيها مهرها إذا دخل بها ، كقوله : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) (النساء ٤) ، والأجور والصدقات كلاهما هو المهور ، والآية لم تنسخ وهى محكمة ، ولا علاقة لها بنكاح المتعة ، وإنما هى تتكلم عن الدخول بالزوجة.

٢٥٦

والآية : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) (النساء ٢٤) : قيل : المشار إليه فيها هو المحرّمات من النساء ، قالوا : الآية منسوخة بالحديث : «لا يجمع بين المرأة وعمّتها ، ولا بين المرأة وخالتها» ، والقرآن لا تنسخه السنة ، لأنها ليست فى الثبوت متواترة اللفظ والمعنى مثله ، إلا أن الحديث تخصيص لعموم الآية وليس نسخا لها.

والآية : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) (النساء ٢٥) : قيل : نسختها الآية نفسها بقوله تعالى : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) (النساء ٢٥) ، وهذا ليس نسخا ، لأنه شرط لنكاح الإماء المؤمنات.

والآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) (النساء ٢٩) : قيل : نسختها بقية الآية : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) (النساء ٢٩) ، وهى استثناء ولا تعتبر نسخا.

والآية : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) (النساء ٣٣) : قيل : لما نزلت : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ) نسختها (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ). وقيل : إن الآية الناسخة لقوله : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) قوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) (الأنفال). وقيل الآية : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) محكمة وليست بمنسوخة ، وإنما أمر الله تعالى أن يوصى لهم ؛ والجمع ممكن بين الآيتين ومن ثم فلا ناسخ ولا منسوخ.

والآية : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) (٦٣) : قيل : نسختها آية السيف ، مع أن الكلام عن المنافقين ولا يجب قتالهم لأنهم مسلمون بحسب الظاهر ، وإنما يجب أن يوعظوا ويذكّروا بعذاب الله ، فإن أصروا على أفعالهم وجب الإعراض عنهم وترك الانتقام منهم إلى الله تعالى ، فالأمر بقتال المشركين بآية السيف لا علاقة له بوعظ المنافقين ثم الإعراض عنهم فى حالة إصرارهم.

والآية : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (٦٤) (النساء) : قيل : نسخها قوله تعالى : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) (التوبة ٨٠) ، وهذا غير صحيح ، لأن معنى آية التوبة أنهم لا يغفر لهم لنفاقهم ، وأما معنى آية النساء أن استغفارهم واستغفار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم يرفع عنهم الإصر ، فلا وجه للنسخ.

والآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) (٧١) (النساء) : قيل : نسخها قوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) (التوبة ١٢٢) ، وهذا غير جائز ، لأن الآية

٢٥٧

الأولى عن النفير العام ، والآية الثانية عن النفير لطلب العلم لا للقتال. وقيل إن الآية : (فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) (٧١) (النساء) منسوخة بقوله تعالى : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) (التوبة ٤١) ، وبقوله : (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ) (التوبة ٣٩) ؛ وقيل : إن الآية : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) (التوبة ١٢٢) ، تنسخ الآية الأخرى : (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ) (التوبة ٣٩) ، والصحيح أن الآيات جميعها محكمة ، فالأولى : المقصود بها أن ينفروا فى شكل سرايا الواحدة تلو الأخرى ، أو فى شكل جيش عام ؛ والثانية : أن ينفروا خفافا وثقالا من جهة الإعداد العسكرى بالعتاد والمؤن والسلاح والأنفار وغير ذلك ؛ فإما يكونون فى شكل وحدات خفيفة ، أو وحدات مزوّدة بمعدات ثقيلة ؛ والآية الثالثة : يتوعد الله تعالى من لا يخرج للقتال بالعذاب سواء فى الدنيا أو فى الآخرة ؛ والآية الرابعة : تسقط الخروج للقتال عن الكافة وتجعله لمن تحتاجه المعركة من أعداد للمقاتلين ، وكفاءاتهم ونوعية القتال الذى سيدخلونه.

والآية : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) (النساء ٨١) : قيل : الآية نسختها آية السيف ، إلا أنها محكمة وتتحدث عن المنافقين وكيدهم ، فلا ينسخها الأمر بالقتال ، لأنهم لا يقاتلون وإنما يوعظون ويعرض عنهم ويترك أمرهم لله تعالى.

والآية : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) (النساء ٨٤) : قيل : نسختها آية السيف ، والذى قال ذلك فهم الآية أن لا تكلف أن تقاتل أحدا ، وليس المعنى كذلك ، وإنما المعنى : لا تكلف فى الجهاد إلا فعل نفسك.

والآية : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) (٩٣) : قيل : نسختها الآية : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (النساء ١١٦) ، والصحيح أنها محكمة ولم تنسخ ، لأن القتل العمد موضع تخصيص ، والمغفرة موضع عموم ، والعام لا ينسخ الخاص ، ثم إن آية القتل العمد الجزاء فيها لمن لم يتب وأصرّ على الذنب حتى وافى ربّه على الكفر بشؤم المعاصى ، والجمع بين الآيتين ممكن فلا نسخ ولا تعارض ، فيحمل مطلق آية النساء على مقيد آية الفرقان ، فيكون المعنى : فجزاؤه كذا إلا من تاب.

والآية : (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا

٢٥٨

أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً) (٩١) (النساء) : قيل : نسخت الآيتان بقوله تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) إلى قوله : (فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥) (التوبة) وهى المشهورة بآية السيف. والصحيح أن الآيتين نزلتا فى بنى خزيمة وبنى مدلج ، وهؤلاء عاقدوا حلفاء المسلمين من خزاعة ، فنهى عن قتلهم. ونزلت آية السيف بعد ذلك بعد إسلام الذين ذكرناهم ، فلا مجال للقول بنسخها. ونزلت آية السيف أيضا فى قوم مخصوصين ، ولم تنبذ كل المعاهدات ، والآيتان محكمتان إذن.

والآية : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) (النساء ١٠١) : المراد بها المنع من قصر الصلاة إلا فى الخوف ، وقيل : هى منسوخة بالسنّة ، لأن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قصر فى غير الخوف ، وفعله إذن ناسخ للآية. والآية ليس فيها منع للقصر فى الأمن ، وإنما فيها إباحة القصر فى الخوف فقط. والقصر سواء فى الخوف أو فى الأمن أجازه النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال فيه : «صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوها» ، ولم يقل قد نسخ ذلك ، وإنما نسبه إلى الرخصة ، فصحّ قول من قال : قصر صلاة السفر بالسنّة ، وقصر صلاة الخوف بالقرآن.

والآية : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) (١٤٥) : قيل : نسختها الآية بعدها : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) (النساء ١٤٦) ، وهى استثناء ولا تعتبر نسخا.

* * *

١١٣٢ ـ سورة المائدة

الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ ...) (المائدة ٢) : قيل : نسختها الآية : (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) ؛ وقيل : لم ينسخ من ذلك شىء إلا القلائد التى كانت فى الجاهلية يتقلدونها من لحاء الشجر. وقيل : النسخ بالنظر إلى أنه قد أحلّ قتال أهل الشرك فى الأشهر الحرم وغيرها من شهور السنة ، ولو قلد المشرك عنقه أو ذراعيه لحاء جميع أشجار الحرم لم يمنع ذلك من قتله إذا لم يكن قد عقد ذمة من المسلمين أو أمانا. غير أنه قد ورد عن عائشة أن سورة المائدة لم ينسخ منها شىء وهى آخر سورة نزلت ، ويبطل القول أن الآية فيها منسوخ ، أو أن سورة المائدة كلها فيها منسوخ.

والآية : (وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) (المائدة ٥) : قيل : نسختها آية

٢٥٩

السيف : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (التوبة ٥) ، والهدى ما أهدى إلى بيت الله من ناقة أو بقرة أو شاة ، والقلائد كل ما علق على أسنمة الهدايا وأعناقها ، وهى سنّة البقر والغنم ، والصحيح أن الآية لم تنسخ لأن الذى يهدى ويقلّد مسلم ، فلما ذا يحسب ضمن المشركين؟ وإن كان المقصود الكفار القاصدين البيت الحرام على جهة التعبّد والقربة فإنه لم يعد لمشرك أن يدخل المسجد الحرام ، بقوله تعالى : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) (التوبة ٢٨) ، والصحيح أن الآية محكمة ولم تنسخ ، وهى فى المسلمين ، وقد نهى الله عن إضافة من يقصد بيته الحرام من المسلمين ، والنهى عام فى الشهر الحرام وفى غيره ، وخصّ الشهر الحرام بالذّكر تعظيما وتفضيلا.

والآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) (المائدة ٦) : قالوا : إنها توجب الوضوء عند كل صلاة ، ثم نسخ بالسنّة عام الفتح فلم يعد الوضوء واجبا وإنما إذا أحدث ، وهذا غير صحيح ، لأن الآية توجب الوضوء على الذين ليسوا على وضوء وليس على من هم على وضوء. وقيل : الوضوء فرض بعد حدث ، وهو ندب لمن كان على طهر ، ولذلك كان النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوضأ لكل صلاة قبل فتح مكة ، ثم صلى يومئذ الصلوات كلها بوضوء واحد ، ليعلّم أمته أن ما كان يفعله من تجديد الطهر لكل صلاة ، إنما كان منه أخذا بالأفضل ، لا على أنه كان فرضا واجبا.

والآية : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) (المائدة ١٣) : قيل : نسختها آية السيف التى تقول : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) (النساء ٩١) ، أو الآية : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ) (الأنفال ٥٨) ، والصحيح أنها لم تنسخ ، ولا تعارض بين الآيتين ، ولكل آية معناها ومجالها. وهذه الآية تدعو إلى العفو عن اليهود من بنى النضير الذين همّوا أن يقتلوا النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حينما جاءهم يستعينهم فى دية العامريين ، فأطلعه الله على ما بيّتوا النية عليه ، وبيّن أن هذه هى طريقتهم فى الغدر والخيانة فى أولهم وآخرهم ، ولا تزال تطّلع منهم على الخيانة والغدر ونقض العهد. والعفو والصفح هو عين الظفر كقول القائل : ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه ، لعل ذلك يؤلف قلوبهم ويهديهم إلى الإسلام. وهل كان يمكن حينئذ فعل شىء أكثر من ذلك ، وخاصة أنه لم يؤمر وقتها بقتالهم؟ فلا موجب إذن للنسخ ، فإن اختلفت الأمور من بعد واستوجبت معاملة مختلقة معهم فليس هذا بنسخ للآية ، لأنها متوافقة مع ظرفها ، وكل آية فى مجالها وسياقها صحيحة ومحكمة ، وللرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعفو عنهم فى غدرة فعلوها طالما أنهم لم ينصبوا حربا ، ولم يمتنعوا عن أداء الجزية.

٢٦٠