موسوعة القرآن العظيم - ج ٢

دكتور عبد المنعم الحفني

موسوعة القرآن العظيم - ج ٢

المؤلف:

دكتور عبد المنعم الحفني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
ISBN: 977-208-422-2
الصفحات: ١٢٤٤
الجزء ١ الجزء ٢

علمه بواقعة فلا تتجه اليمين على المنكر. وصيغة اليمين بالحلف بالله تعالى وبأسمائه الحسنى ، كالرحمن والسميع ، والعليم ، والحليم ، ونحو ذلك من أسمائه وصفاته ، كعزّته ، وقدرته ، وعلمه ، وإرادته ، وكبريائه ، وعظمته ، لأنه يمين بقديم غير مخلوق ، فكأن الحالف بها كالحالف بالذات. ومن يحلف بالله ، أو قال : والله ، أو تالله ، فحنث عليه كفّارة. وفى الحديث : «لا تحلفوا إلا بالله ، ومن حلف بالله فليصدق ، ومن حلف له بالله فليرض ، فإن لم يرض فليس من الله» ، وقال : «من حلف فليحلف بالله أو ليصمت». ولا يحلف بالقرآن ، ولا بالرسل ، والكعبة ، ولا بالمصحف ، ولا كفّارة على الحلف بذلك. والحلف بالنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قيل فيه يجوز ، لأنه حلف بما لا يتم الإيمان إلا به فتلزمه الكفّارة. والصواب أن الحلف لا يكون إلا بالله ؛ ولا يجوز الحلف بالآباء وبالأمهات ، وفى الحديث : «لا تحلفوا بآبائكم وأمهاتكم ولا بالأنداد ، ولا تحلفوا إلا بالله ، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون». ومن قال إنى برىء من الإسلام ، أو النبىّ ، أو القرآن ، تلزمه الكفارة. وقيل إن الحلف بعزة الله ، أو بحق الله ليست بيمين ولا كفّارة فيها. واليمين فى مسائل القضاء إما قضائية أو غير قضائية ، والأولى منها «اليمين الحاسمة» التى يوجهها الخصم إلى خصمه عند عجزه عن إثبات حقّه ، حسما للنزاع ؛ ومنها «اليمين المتممة» التى يوجهها القاضى من تلقائه لأحد الخصمين تتميما لما بين يديه من الأدلة. و «اليمين الحاسمة» قسمان : «يمين الإنكار» ، و «يمين الإثبات» ، فالمدّعى عليه يمكن أن يسكت ، أو يقرّ ، أو ينكر ، فإذا أنكر فللمدّعى الحقّ أن يطلب من القاضى أن يحلّفه اليمين ، فإذا حلف سقطت الدعوى ، للحديث : «ذهبت اليمين بحقّ المدّعى» ، وإن لم يحلف فإمّا أن يردّ اليمين على المدعى وهذه هى «اليمين المردودة» ، وإما أن ينكل ويمتنع عن الحلف والردّ معا ، ومن امتنع عن الاختيار فقد اختار ، ويكون الناكل هو الذى حكم بنفسه على نفسه. و «اليمين المنضمة» هى أيضا المتممة : وهى التى تضم إلى شهادة شاهد واحد ، أو إلى شهادة امرأتين ، لإثبات الحقوق المالية. و «يمين الاستظهار» : هى التى تسمع فى الدعاوى على الورثة فى دين على مورّثهم ، ولا يثبت الدين إلا بالبيّنة ويمين المدّعى معا. و «الحلف الكاذب» إثم كبير ، وقيل إنه من الكبائر.

* * *

٢٣٤٩ ـ المسلم عند شروطه

الشروط جمع شرط ، وهو ما يستلزم نفيه نفى أمر آخر غير السبب. والشرط فى البيوع إذا نافى مقتضى العقد يبطل البيع ؛ والشرط فى المهور عند عقدة النّكاح ؛ وفى الحديث : «أحق الشروط أن توافوا بها ما استحللتم به الفروج» ، وكل شرط وقع فى رفع حدّ من حدود الله فهو باطل ، وكل صلح فيه فهو مردود ؛ ولا يصحّ أن تشترط المرأة طلاق أختها ، وتصح الشروط بالقول.

* * *

١٢٠١

٢٣٥٠ ـ الباطل فى المعاملات لا يجوز

الباطل فى اللغة هو الذاهب الزائل ، وجمعه بواطل ، وتبطّل أى اتّبع اللهو ، وأبطل إذا جاء بالباطل ، كقوله تعالى : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ) (فصلت ٤٢) ، قيل الباطل هو إبليس ، وقوله : و «يمح الله الباطل» (الشورى ٢٤) ، يعنى الشرك. والبطلة والمبطلون هم أهل الباطل ، ومنهم أهل الكتاب ، سمّوا كذلك لأنهم يعلون الباطل على الحق كقوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَ) (٧١) (آل عمران). والآية : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) (البقرة ١٨٨) هى مستمسك كل مخالف للباطل فى المعاملات وفى غيرها ، وهى دليلهم على عدم جواز الباطل فى الحقوق وفى غيرها. ولا تعيين للباطل فى الآية ، ولكنه مطلق الباطل ، فكل باطل لا يجوز.

* * *

٢٣٥١ ـ الاضطرار والمضطر

الاضطرار من ضرّ ضد نفع ؛ والضرورة الحاجة ، والمشهور أن «الضرورات تبيح المحظورات» ، أى أن الحاجة قد تضطر صاحبها إلى أن يفعل ما هو ممنوع عمله ، كقوله تعالى : (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) (١١٩) (الأنعام) ، وقوله : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) (١٧٣) (البقرة) أى من اضطر إلى شىء من المحرّمات وأحوج إليها ؛ وقد لا يخلو الاضطرار أن يكون بإكراه من ظالم ، أو بجوع فى مخمصة ، كالمسلم يؤسر فيكرهه العدو أن يأكل لحم الخنزير ، أو أن يزنى ؛ والسرقة يرخّص بها للجائع المضطر الذى لا شىء معه يشترى به ، بشرط أن يأكل ما يزيل عنه الجوع ولا يأخذ شيئا فى وعاء ، فلا يحمل إلا ما كان فى بطنه ، ويباح ذلك فقط فى أوقات المجاعة والضرورة ، لأن الأصل تحريم مال الغير إلا بطيب نفس من الغير. وأباح الرسول صلى الله عليه وسلم أكل الميتة بقدر ما يسدّ الرمق ، وبشرب الخمر إن ردّت فى الشارب الجوع أو العطش ، وحتى البول قد يكره عليه أو يضطر إليه ، ولا يجوز له قتل إنسان والأكل منه. ويجوز شرب الخمر للعطش لا للتداوى. وفى قوله «غير باغ ولا عاد» أنه لا يأكل فوق حاجته ، ولا يعتدى على أحد إلا مدافعة لأذاه ؛ والعادى هو الذى يغير على الناس ، أو يقطع الطريق ، بدعوى أنه مضطر ، فيتمادى فى المعصية. وليس فعل المحرمات عند الضرورة رخصة ، بل هو عزيمة واجبة ، ولو امتنع المشرف على الموت من شدّة الجوع ، من أكل الميتة مثلا كان عاصيا ، فإن إتلاف المرء لنفسه أشد معصية من الاضطرار إلى المحرّمات. والخلاصة : أن المضطر غير باغ ولا عاد ولا إثم عليه. وإذا اشتدت المخمصة فى سنة المجاعة وأصابت الضرورة الناس ، وكان عند البعض قدر كفايته وعياله ، لم يلزمه بذله للمضطرين ، وليس لهم أخذه منه ؛ غير أن من كان عنده

١٢٠٢

مال أو طعام زائد عن حاجته ولن يضطر إليه ، يلزمه بذله للمضطر ، فإن لم يفعل فللمضطر أخذه منه ولو بالقتال ، فإن قتل المضطر فهو شهيد ، وعلى قاتله ضمانه. وهذا المبدأ هو قاعدة فى ثورات الخبز والطعام ، وحيثما كانت الفوارق الطبقية شديدة ، وتوزيع الثروة القومية مختلا اختلالا بشعا كما هو الآن فى بلادنا حيث متوسط دخل الفرد أقل من دولار ونصف بينما آخرون يزيد دخلهم فى اليوم الواحد عن الآلاف المؤلّفة. وفى مثل هذه الثورات إن قتل صاحب الطعام أو الثروة فدمه هدر. غير أنه فى الإسلام فإن أخذ المال للضرورة يلزم الآخذ عوضه عند اليسر ، ويبقى فى ذمته. والمحرم المعدم قد يضطر إلى ذبح الصيد وأكله ، ولأنه مضطر فذبحه يكون ذكيا ، والصيد يكون طاهرا.

* * *

ثالثا : الإسلام الجنائى

* * *

٢٣٥٢ ـ الثواب والعقاب من فلسفة الإسلام

يقول تعالى : (تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ) (٣٥) (الرعد) ، أى عاقبة أمر المتقين الجنة ، وعاقبة أمر المكذّبين النار ، جزاء وفاقا. والثواب هو الجزاء على الأعمال خيرها وشرّها ، من أثاب أى جازى ، كقوله فى الثواب على الشر : (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) (المطففين ٣٦) ، وقوله فى الثواب على الخير : (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) (آل عمران ١٤٨). والعقاب هو الجزاء بالشرّ ، والعرب يقولون : أعقبه أى جازاه بخير ، وعاقبه أى جازاه بشرّ ، فالعاقبة الجزاء بالخير ، والعقاب الجزاء بالشر. وفى القرآن : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) (النحل ١٢٦) ، ومن أسمائه تعالى أنه قوى شديد العقاب (غافر ٢٢) ، وسريع العقاب (الأنعام ١٦٥) ، وذو عقاب أليم (فصلت ٤٣). والجزاء من جزى يعنى المكافأة على الشيء ، وتستعمل بمعنى الثواب ، كقوله : (وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) (٨٥) (المائدة ٨٥) ، وبمعنى العقاب كقوله : (كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) (البقرة ١٩١) ، والثواب العقاب والجزاء فى القرآن قد يكون جسديا ، أو إلهيا ، أو شرعيا ، أو معنويا ، أو ذاتيا ، أو اجتماعيا ، وفى كل الأحوال فإن الثواب والعقاب والجزاء يكون بما يلائم الطبع كقوله تعالى : (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (النساء ٧٩). وفى نظرية القانون أن كل فعل محرّم لا بد له من عقوبة ، وفى نظرية التعلّم أن الثواب يعزّز السلوك الصائب ، والعقاب ينفّر من السلوك المشين ، وأن كل كائن حىّ بما فى ذلك الإنسان ينشد الثواب ويطلبه حثيثا ، ويتعلم من خلال توقّع الثواب واجتناب العقاب.

* * *

١٢٠٣

٢٣٥٣ ـ نظرية الحدود فى القرآن

الحدود جمع حدّ ، وهو فى اللغة ما يحجز بين شيئين فيمنع اختلاطهما ، وحدّ الدار ما يميّزها ، وحدّ الشيء وصفه المحيط به المميز له. وحدود الله : هى أحكامه الواجب مراعاتها ، وهى أوامره ونواهيه ، وسميت «حدود الله» لأنها تمنع أن يدخل فيها ما ليس منها ، وأن يخرج منها ما هو منها ، كقوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) (١٤) (النساء) ، فالحدود أحكام قد بيّنها ليعرفها الناس ويعملوا بها ، فلا يتعدّوها ، وفى آية أخرى قال فلا يقربوها : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها) (١٨٧) (البقرة) ، فقسّم الحدود قسمين ، منها حدود الأمر بالامتثال ، وحدود النهى بالاجتناب ، والأولى ، مثل الأمر بجميل العشرة وحسن الصحبة للزوجين ؛ والثانية : مثل القتل والزنا ، والسرقة ، وشرب الخمر ؛ وفى الحالتين فإن الحدود هى التى تفصل بين الحلال والحرام ، ومنها ما زجر عن فعله ، ومنها ما زجر من الزيادة عليه أو النقصان منه.

* * *

٢٣٥٤ ـ الحدود والدية والتعزير من مصطلحات القرآن دون التوراة

هذه المصطلحات القانونية الجنائية من مصطلحات القرآن ، ولا توجد مبانيها فى التوراة والأناجيل وإن كانت بعض معانيها تأتى فى التوراة عرضا ، والإسلام وحده هو الذى انفرد بهذه المصطلحات بشكل واضح وصريح ، ويحفل بها القرآن والسنّة ، ومنها مصطلحات كالحرمان ، والعزل ، والنفى ، ويوجد منها ما يشبهها فى اليهودية ، وهى من وضع الأحبار فيما يسمى عهود ما بعد التوراةPost ـ biblical ـ times ، ويسمون ذلك شريعة الأحبارrabbinic law ، فعندهم مثلا أن من لا يقدر على الدية ولا الكفّارة فله أن يصوم. والجلد كذلك عندهم ، وأقصى عقوبة جلد لا تزيد عن ٣٩ جلدة ، ويعاقب به نحو ١٦٨ ذنبا.

* * *

٢٣٥٥ ـ آية السرقة

من سرق يسرق سرقا ، وأصل اللفظ هو أخذ الشيء فى خفية من الأعين ، ومن ذلك أن تقول استرق السمع ، وسارقه النظر. وقيل : السارق هو من جاء مستترا إلى حرز فأخذ منه ما ليس له ، فإن أخذ من ظاهر فهو مختلس ، ومستلب ، من الاستلاب ، ومنتهب من الانتهاب. ومحترس ـ والحريسة هى ما يسرق ظاهرا ، فإن تمنّع بما فى يده ـ أى تقوّى ـ فهو غاصب ، وليس على أىّ من هؤلاء قطع. وتعقب الآية : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ

١٢٠٤

عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣٩) (المائدة) آية الحرابة التى تقول : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) (٣٣) (المائدة) ، فبعد أخذ الأموال بطريق السعى فى الأرض بالفساد ، كانت : آية السرقة ، وحدّ السرقة فيها هو قطع يد السارق ، وكان هذا الحدّ معروفا فى الجاهلية ومعمولا به ، فلم يكن جديدا فى الإسلام ، وقيل إن أول من حكم بقطع يده فى الجاهلية كان : الوليد بن المغيرة ؛ أما فى الإسلام فكان أول سارق قطعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الرجال : الخيار بن عدىّ بن نوفل بن عبد مناف ، ومن النساء : مرّة بنت سفيان بن عبد الأسد من بنى مخزوم ، وقطع أبو بكر اليمنيّ (من اليمن) الذى سرق عقد أسماء بنت عميس زوجة أبى بكر ، وقطع عمر ابن سمرة.

وظاهر الآية العموم فى كل سارق ، ولكن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يطبق ذلك على كل سارق ، فهناك نصاب لا يقطع من تقل سرقته عنه ، يختلف مقداره وقيمته باختلاف البلدان والأزمان. والسرقة نوعان : سرقة صغرى : كالذى يسرق ما مقداره المال القليل استغفالا ، وسرقة كبرى : وهى أخذ المال الكثير مغالبة أو احتيالا كالذين يسرقون الآن المليارات من البنوك في شكل قروض ، ثم إن من السرقة ما يوجب التعزير ، وهى التى لم تتوفر فيها شروط إقامة الحد ، ومنها ما يوجب الحدّ وهى على ظاهر الآية كل ما له قيمة وفيه إضرار شديد بالناس وبالاقتصاد الوطنى.

* * *

٢٣٥٦ ـ متى يسمى السارق سارقا؟

يسمى سارقا إذا سرق فاستوجب الحدّ ، وذلك بأن يكون بالغا ، عاقلا ، وأن لا يكون مكرها على السرقة مسلوب الاختبار ، ولا يكون فيما سرقه شبهة فلا يقطع أحد الزوجين إذا سرق أحدهما الآخر ، لشبهة اختلاط ماليهما ، وأن يكون المال المسروق غير محرّز تماما ، فذلك ما يجعل الشبهة فى المسروق فيسقط القطع. ولا يقطع الخادم الذى يعيش مع المالك فى بيته ويخدمه بنفسه ، وليس صحيحا أن من سرق من المال العام ، لا يجرّم بدعوى أن له حقّا فيه ، فالضرر فى المال العام لا يلحق بفرد وإنما بالمجتمع والأمة كلها والدولة برمتها. ويجرّم من يسرق من مال له شركة فيه ، والذى يسرق المدين المماطل فى السداد أو الجاحد للدّين ، بدعوى أنه استرداد للدين ، فربما كان الدين باطلا ولا حقّ له عند المسروق منه. ولا يجرّم من سرق طعاما يحتاجه ، وتسقط تهمة السرقة فى عام المجاعة. والشركة العامة فى الأشياء لا توجب سرقتها التجريم ، كالكلإ والماء والنار ، وهى ليست أموالا تملّك ويحل بيعها وتموّل.

* * *

١٢٠٥

٢٣٥٧ ـ لما ذا يقطع الذى يسرق ما قيمته ربع دينار ، ولا يقطع المختلس للملايين؟

قيل الجواب : أن الاختلاس قليل بالنسبة إلى السرقة ، وفى الاختلاس تسهل إقامة البيّنة ، واستعادة المال المختلس ، بخلاف السرقة ، فبمجرد أن يخرج السارق بالمال من حيازة المالك يصعب جدا إقامة البيّنة عليه ، ولا يمكن الاحتراز منه ، لأنه يسطو على المنازل ، ويكسر الأقفال ، ويهتك الأحراز ، وينشر الخزائن ، ولا يستعصى عليه شىء رغم كل احتياطات المالك ، وأما فى الاختلاس فالمختلس يفعل ذلك جهارا نهارا وإنما استغفالا للمالك ؛ فيمكن الاحتراز منه مع التنبّه واليقظة ، ولكثرة السرقات شدّدت عقوبتها عن أى من جرائم المال الأخرى ، وجعلت فى القليل كالكثير ، والسارق يضرّ بسرقة القليل ، فلو عوقب العقاب الرادع يمتنع عن سرقة الكثير. ومع ذلك فهذا التمييز بين السارق والمختلس من أقوال الفقهاء ، وأما فى القرآن فالسرقة يقصد بها مطلق السرقة وكل عدوان على المال ، وسرقة الأفكار من ذلك.

* * *

٢٣٥٨ ـ جاحد العارية ليس بسارق لغة ولكنه سارق شرعا

جاحد العارية هو الذى يستعير الشيء ثم يجحده ، وواقعة المخزومية مشهورة فإنها كانت تفعل ذلك مع الناس فشكوها للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقضى فيها بالقطع ، وأراد أسامة بن زيد أن يشفع فيها ، لأنه لم يعتبرها سارقة. وقيل : إن إدخال النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاحد العارية تحت اسم السارق ، كإدخال سائر أنواع المغيّبات للوعى تحت اسم الخمر ، فالجاحد للعارية إن لم يكن سارقا لغة ، فهو سارق شرعا ، والشرع مقدّم على اللغة. والمهم فى هذه الواقعة ليس ما سرقته المخزومية ، وإنما أنها كانت من أسرة كبيرة فأرادوا تمييزها ، فقضى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن الكل سواء أمام القانون.

* * *

٢٣٥٩ ـ ما حكمة بداية آية السرقة بالسارق قبل

السارقة ، وآية الزنا بالزانية قبل الزانى؟

الحكمة فى ذلك أن حب المال يغلب على الرجال فيميل بهم إلى السرقة أكثر من النساء ، فبدأت آية السرقة لذلك بالسارق قبل السارقة تنبيها إلى هذه الحقيقة ، بينما تغلب على النساء شهوة الاستمتاع ، وقد تميل بهن إلى الزنا ، ولذلك تفشّى الزنا فيهن أكثر من الرجال. وهذه حقيقة علمية. ثم جعل الله حدّ السرقة قطع اليد لتناول المال ، ولم يجعل حدّ الزنا قطع الذكر مع مواقعة الفاحشة به ، لأن السارق لديه يدان فإذا قطعت إحداهما اعتاض عنها بالثانية ، وليس للزانى مثل ذكره فإذا قطع لم يعتض بغيره. والقطع غايته

١٢٠٦

الزجر فلا يعود للجرم ، فلو قطعت يد ، انزجر السارق وحرص على يده الثانية ، ولكن الزانى إذا قطع ذكره فما ذا يفيد ذلك من الزجر؟! وأيضا فإن القطع ظاهر فى السرقة فيذكّر السارق باستمرار ، ويرى أثره على وجوه الناس ، ولكن الذكر لو قطع ، فقطعه غير ظاهر ولن يراه أحد ، وسينساه صاحبه. وأيضا فإن قطع اليد ليس فيه إبطال للعمل ، فهناك اليد الأخرى ، ولكن قطع الذكر فيه إبطال النسل وهو حياة الرجل كلها.

* * *

٢٣٦٠ ـ الحرمات قصاص

الآية : (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (١٩٤) (البقرة) أصل فى العقاب بالمثل ، وخصوص الآية أن المشركين استحلوا قتال المسلمين فى الشهر الحرام اعتمادا على أنهم ممنوعون من القتال فيه ، فنزلت الآية تقول : إن استحلّوا ذلك فقاتلوهم ، فأباح الله بالآية مدافعتهم. وعموم الآية : أن من تعدّى عليه فى مال أو جرح ، له أن يتعدّى بمثل ما تعدّى به عليه إذا ظهر له ذلك ، وليس بينه وبين الله تعالى فى ذلك شىء. والحرمات فى الآية جمع حرمة وهى ما نمنع من انتهاكه. والحرمات قصاص قال به أحبار اليهود وحكموا بمقتضاه. والقصاص هو العقاب ، والآية موجهة لعموم المسلمين ، أى للحكومات والحكام ، فإذا انتهكت الحرمة يعاقب منتهكها بقدرها أو بمثلها. وأمور القصاص فى الدولة الإسلامية وقف على الحكومات والحكام ، غير أنه فيما يتعذر إثباته بالبينة يجوز لصاحب الحق أن يتوصل إلى أخذ حقه بطريقته ما لم يعدّ سارقا ، وقيل لا يعد ذلك جرما وإنما هو وصول إلى الحقّ ، غير أن صاحب الحق قد لا يكون على حقّ فعلا ، ولكنه يظن أنه على حق. وفى الحديث أن زوجة أبى سفيان لمّا اشتكت من شحّه فسألت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل يجوز لها أن تأخذ من مال زوجها الشحيح دون علمه؟ قال لها : «خذى ما يكفيك ويكفى ولدك بالمعروف» ، يعنى لا تجور ولا تزيد ، وقوله تعالى : «فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم» قاطع فى موضع الخلاف ، إلا أن العقاب موكول للجماعة فى الآية ـ أى للدولة ـ وليس للأفراد كلّ على حدة. ومقابلة العدوان بالعدوان عدوان لا شك فيه ، ولكنه فى حالة الجماعة أو الأمة عدوان مباح.

* * *

٢٣٦١ ـ المماثلة فى القصاص

آية المماثلة فى القصاص هى الآية : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) (١٢٦) (النحل) ، والآية : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (١٩٤) (البقرة) ، وكلتاهما بمعنى واحد ، وهما أصل للمماثلة فى القصاص ، والأمر فيه وقف على الحكومات

١٢٠٧

كما ذكرنا. والقصاص البسيط قد يقوم به صاحبه ، فمن ظلمك يجوز لك أن تأخذ حقّك منه بقدر مظلمتك ، ومن شتمك يجوز لك أن تردّ عليه مثل قوله ، بشرط أن لا تتعدى إلى الأبوين أو الأسرة والأقارب ، وليس للمسلم أن يكذب على الناس وإن كذبوا عليه ، والمعصية لا تقابل بالمعصية ، فلو قال لك أحدهم : يا كافر ، جاز لك أن تقول له أنت الكافر ؛ وإن قال لك : يا زان ، فقصاصك أن تقول له : يا كذّاب. ولو قلت له يا زان ، كنت كاذبا وأثمت فى الكذب. وإن ماطلك دون عذر فى دفع ما عليه وهو غنىّ ، فيجوز أن تقول له : يا ظالم! يا آكل أموال الناس ؛ وفى الحديث : «لىّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته» واللىّ هو المطل ، والواجد الغنيّ ، والعرض ما تعلق بشرفه وليس بشرف أبويه ولا أهل بيته ، والمعنى أن الغنى المدين الذى يتهرّب من الدفع تحلّ إهانته ، وإنزال العقاب به ، وعقوبة هذا الغنى المماطل فى الدفع هى السجن ، وعلى صاحب الدين أن يشكوه إلى الجهات المختصة فتأتيه بحقه ، فعند ما توجد حكومة وقانون لا يحل لأحد أن يقتص من أحد ، والخطاب فى الآيتين لجماعة المسلمين كما ذكرنا ، أى للحكومة أو النظام الحاكم.

* * *

٢٣٦٢ ـ جزاء العقوبة عقوبة مثلها

فى قوله تعالى : (وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) (٦٠) (الحج) أن الظالم يجازى بمثل ما ظلم ، فسمى جزاء العقوبة عقوبة ، لاستواء الفعلين فى الصورة ، كقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (٤٠) (الشورى) ، وقوله : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (١٩٤) (البقرة).

* * *

٢٣٦٣ ـ من يعمل سوءا يجز به

هو مبدأ إسلامى عام ، فالكل سواء أمام المساءلة والجزاء : البرّ والفاجر ، والعدو والولى ، والمؤمن والكافر. وفى الآية : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) (١٢٣) (النساء) ، والسوء هو الجرم أيا كان ، والجزاء عليه قد يكون لمرة واحدة وقد يتعدد ، وقد يقتصر جزاء التّقى فى الدنيا ، وأما العصىّ فقد يتعدّد جزاؤه فى الدنيا والآخرة ويجتمع عليه الجزاء فى الموطنين. ولما نزلت هذه الآية أثار هذا النصّ جدلا عنيفا وانتاب الناس الخوف ، فقال أبو بكر : كل شىء عملناه جزينا به؟ وردّ عليه النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفسّر الآية : «ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء (يعنى الشدّة) ، فذلك مما تجزون به. أما انت يا أبا بكر والمؤمنون ، فتجزون بذلك فى الدنيا حتى تلقوا الله وليس لكم ذنوب ، وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة» ، وقال : «قاربوا وسدّدوا ، ففي كل ما يصاب به المسلم كفّارة ، حتى النكبة ينكبها ، والشوكة يشاكها».

* * *

١٢٠٨

٢٣٦٤ ـ الجزاء بالكسب

يقول تعالى : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) (١٧) (غافر) واليوم المقصود هو يوم الحساب ، والكسب إما خير أو شرّ ، والله لا يظلم أحدا. والمعنى العام أن الجزاء بالكسب ، أو بما اكتسب كلّ من الأعمال.

* * *

٢٣٦٥ ـ فى الدماء لا فرق بين مسلم وكافر

نسبوا إلى علىّ بن أبى طالب قوله عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يقتل مسلم بكافر» ، والصحيح ما رواه ربيعة قال : إن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتل يوم خيبر مسلما بكافر ، ثم إن الحديث عن علىّ ينسخ القرآن وهذا لا يجوز ، وفى القرآن : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) (٤٥) (المائدة) ، أى أن النفس مكافئة للنفس ، ويكافئ الطفل فيها الكبير ، والإجماع على قتل الرجل بالمرأة ، والمرأة بالرجل ، والمسلم بالكافر ، والكافر بالمسلم ، ويقتل الحر بالعبد ، وفى الحديث : «من قتل عبده قتلناه» ، وحتى الأب يقتل بابنه ، كما يقتل الابن بأبيه ، وجملة الآية فى ذلك : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) (١٧٨) (البقرة) ، والمراد بالقصاص قتل من قتل كائنا من كان ، وحتى الجماعة تقتل بالواحد ، وفى الحديث : «المؤمنون تتكافأ دماؤهم» ، بل إن الناس جميعا تتكافأ دماؤهم ، وفى الحديث : «القتل سواء» ، يعنى أنه : فى القتل فإن القصاص على من قتل مهما كان.

* * *

٢٣٦٦ ـ معنى التكافؤ فى القصاص

قالوا إن الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) (١٧٨) (البقرة) أصل فى اشتراط التكافؤ فى القصاص ، وذهب البعض إلى أن الحر لا يقتل بالعبد ، والرجل لا يقتل بالمرأة ، وإنما العبد يقتل بالعبد والمرأة تقتل بالمرأة. ومن قال بالتكافؤ فى القصاص احتج بالآية : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) (٤٥) (المائدة) ، فالحرّ إذن يقتل بالعبد ، كما يقتل المسلم بالكافر والذمىّ ، ويقتل الذكر بالأنثى. وقيل إن عليا ذهب إلى عدم المساواة بين الحر والعبد ، وبين الذكر والأنثى ، ولم يثبت ذلك عن علىّ.

* * *

٢٣٦٧ ـ القصاص قتل من قتل كائنا من كان

الكثيرون وخاصة فى صعيد مصر يقتلون بمن قتل من لم يقتل ، ويقتلون فى مقابلة الواحد مائة ، افتخارا واستظهارا بالجاه والمقدرة ، وكان هذا هو شأن العرب أيضا قبل

١٢٠٩

الإسلام ، وقبل نزول الآية : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) (٤٥) (المائدة) ، يعنى من قتل يقتل ، ولا يؤخذ آخر بجريمته ، وقد أمر الله فى الآية بالعدل والمساواة ، بأن يقتل من قتل لا غير.

* * *

٢٣٦٨ ـ النهى عن قتل النفس المحرّمة

القتل منهى عنه ، سواء للنفس المؤمنة ، أو لأى نفس ، إلا بالحق الذى يوجب قتلها : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) (١٥١) (الأنعام) ، والكثير من الأحاديث توجب القتل فى الردّة ، وعند منع الزكاة ، وعدم إقامة الصلاة ، وفى اللواط ، وليس فى القرآن من ذلك شىء ، كالحديث الذى يقول : «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزانى ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة» ، فليس فى القرآن أن الثيب الزانى يقتل! وليس فيه أن التارك لدينه يقتل! والحديث الذى يقول : «لا يقتل مسلم بكافر» ، يخالف القرآن مخالفة صريحة ، وهو غير مبيّن للقرآن وإنما يناقضه ، فالنفس هى النفس سواء كانت لكافر أو مؤمن ، ويحرم قتلها.

* * *

٢٣٦٩ ـ فى القصاص حياة

الآية : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) (١٧٩) (البقرة) من الوجيز البليغ ، فلما شرع الله القصاص قنع الكل به وتركوا الاقتتال ، فلهم فى ذلك حياة. والقصاص إذا أقيم وتحقق الحكم فيه ، ازدجر من يريد قتل آخر مخافة أن يقتص منه ، فحييا بذلك معا.

* * *

٢٣٧٠ ـ تحريم قتل الأولاد من إملاق

كان قتل الأولاد مخافة الفقر قبل زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقبل أن تنزل الآية : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) (١٥١) (الأنعام) ، والآية : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) (٣١) (الإسراء) ، والإملاق : هو الفقر ، والمعنى لا تئدوا ـ من الموءودة ـ بناتكم خشية العيلة ، فالله هو الرزّاق ، وجاء فى الآية الأولى أنه «يرزقكم وإياهم» ، وفى الثانية «يرزقهم وإياكم» بحسب السياق ، وفى الحالتين يرزق الجميع ، فالآباء يرزقون من أجل أولادهم ، والأولاد يرزقون فيرزق الآباء بهم ، فقد كان من العرب فى ذلك الوقت من يئد الإناث والذكور خشية الفقر ، ومنهم من كان يئد الإناث دون الذكور. ولا شك أن العزل نوع من الوأد ، والذين يعزلون يقللون من عدد الأمة الإسلامية ويشتركون فى جريمة جعل المسلمين أقلية ، وأيّما زوجين من المسلمين فإن عليهما واجب

١٢١٠

إنجاب أكثر من اثنين ، لأن إنجاب الاثنين لا يعدو إحلالا ، يحل فيه الاثنان محل الأبوين بموتهما ، فكأن عدد المسلمين يظل كما هو ، فإن قلّ الإنجاب عن اثنين قلّ عدد المسلمين بالتبعية ، وإن زاد عن اثنين زاد كذلك ، وواجب المسلمين أولا إعمار الكون بالنسل ، ومع الإعمار بالنسل الإعمار بنشر العلم وإتاحة فرص العمل وتنمية الفرد المسلم ، والأسرة المسلمة ، والجماعة المسلمة ، والأمة الإسلامية ، وبذلك تزيد أمة لا إله إلا الله زيادة كمية وكيفية ، والعزل باسم تنظيم الأسرة وأد للكم والكيف معا ، والجدير بالذكر أن حلف الأطلنطى والولايات المتحدة قد وصّفا الكثرة العددية للمسلمين بأنها خطر استراتيجى ، ولذلك تنفق دول أوروبا وأمريكا على مراكز تنظيم الأسرة فى مصر لتقليل عدد المسلمين. وقد حذرنا النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الوأد الخفى ولو كان تحت اسم جديد هو تنظيم الأسرة ، فقال : «ذلك الوأد الخفى» ، وقال : «لا عليكم ألا تفعلوا» ـ أى ليس عليكم جناح ألا تعزلوا وتنظّموا : «فإنما هو القدر» ، وقال : «وإذا أراد الله خلق شىء لم يمنعه شىء».

* * *

٢٣٧١ ـ من قتل له قتيل فله أن يقتل أو يعفو أو يأخذ الدية

هذا حديث لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويعنى أن ولى المقتول بالخيار إن شاء اقتصّ ، وإن شاء أخذ الدّية ـ وهى من مصطلحات القانون الجنائى الإسلامى ، من ودى ، يدى ، وديا ، ودية القاتل القتيل ، وأصلها ودىّ ، والتاء عوض الواو المحذوفة كما فى عدّة. والدية لم تعرفها الأمم الأخرى إلا أمة الإسلام. وقوله تعالى : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) (١٧٨) (البقرة) ، أى من العفو أن يترك المسلم لأخيه دمه ويرضى بالدية ، وعلى القاتل أداءها بإحسان من غير مماطلة ، وفى الحديث : «من قتل له قتيل فهو بخير النّظرين ، إن أحب أخذ العقل (أى الدية) ، وإن أحبّ فله القود (أي القصاص)» أخرجه أبو داود ، فكأنه قال : من بذل له شىء من الدّية فليقبل وليتّبع بالمعروف : (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) (٤٥) (المائدة) فندب إلى رحمة العفو والصدقة.

* * *

٢٣٧٢ ـ القتل الخطأ والدية

من أمهات الأحكام فى القرآن الآية : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ) (٩٢) (النساء) ، فلم يجز الله تعالى أن يقتل المؤمن إلا خطأ ، تحريما للقتل ونهيا عنه ، وإعظاما للقتل العمد ، وإبرازا لبشاعة

١٢١١

شأنه ، فإن كان لا يجوز لمؤمن أن يقتل مؤمنا ، فأحرى أنه لا يجوز البتة لكافر أن يقتل مؤمنا ، وإنما خصّ المؤمن بالذكر تأكيدا لحنان المؤمن على المؤمن وإكبارا لأخوّتهما. والخطأ : اسم من أخطأ خطا إذا لم يصنع من عمد ، وحكم المؤمن يقتل خطأ هو الدية ، ولم يفرق الله تعالى بين مؤمن ومؤمن فالجميع سواء ، وفى الحديث : «المسلمون تتكافأ دماؤهم» ، والكفّارة واجبة ، وكانت تحرير رقبة مؤمنة ، ولا رقيق اليوم ـ وبدلا من ذلك تكون الكفّارة مالا يوزع على المسلمين المحتاجين ، والدّية المسلّمة إلى أهل المقتول هى ما يعطى عوضا عن دمه إلى وليّه أو ورثته ، صلحا وتسديدا ، ويعجّل بها تأليفا ، إلا أن يبرئ ورثة المقتول ، القاتل مما أوجب الله ؛ وأما الكفّارة فهى لله فلا تسقط ، وإنما تسقط الدية التى هى حق للورثة إذا أسقطوها. والدية والكفّارة كلاهما يدفعان من مال الجانى ، فإن كان القتيل مؤمنا ولكنه من قوم من الأعداء ، استحق الكفّارة فقط من غير دية ؛ وإن كان من قوم بينهم وبين المسلمين ميثاق ـ وهذا فى الذمى والمعاهد يقتل خطأ ، فتجب الدية والكفّارة. وليس بصحيح أن المرأة ديتها نصف دية الرجل لأن لها نصف ميراث الرجل ، فذلك ما لم تتضمنه الآية ، فالمرأة والرجل على السواء فى القتل الخطأ ، وكذلك فى القصاص ، كقوله تعالى : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) (٤٥). وكذلك فإن دية أهل العهد كدية المسلم ، لا تبالى مؤمنا كان أو كافرا. وإن لم يكن للقاتل مال تستقطع منه كفارة ، فعليه صيام شهرين متتابعين ، إلا من اضطر أن يفطر من عذر أو مرض أو حيض فيقضى ما أفطره. وإذا اشترك جماعة فى قتل إنسان خطأ ، فعليهم كلهم الدية والكفّارة ، وإن كانوا لا يجدون فعلى كل واحد منهم صوم شهرين متتابعين.

* * *

٢٣٧٣ ـ وجوب الدية وقيمتها

العقوبات إما أدبية أو مادية ، والأدبية : تشمل عقوبة الزنا ، والقذف بالزنا والسرقة والسّكر ، وقطع الطريق ، واللواط ، والسحاق ، والقيادة ، والارتداد ، ونصّ الشارع على عقوبة هذه الجرائم عقوبات مقدرة ومنصوصة ، وتسمى حدودا. والعقوبات على الكبائر غير المقدّرة من العقوبات الأدبية ، وهى عقوبات مفوضة وغير منصوصة ، كالعقوبة على التزوير ، أى لم ينصّ عليها ، وعهد أمر تقدير عقوباتها إلى القاضى ، وتسمى تعزيرا. والقصاص من العقوبات الأدبية ، ومعناه : معاقبة الجانى على جريمته فى حالات القتل ، أو القطع ، أو الجرح ، عمدا ، مثلا بمثل ، ولا تشمل الضرب والشتم. والديات من العقوبات المادية ، ومعنى الدية : المال الواجب بسبب الجناية على النفس أو غيرها ، ومنه ما قدّره الشرع ، كدية النفس وأكثر الأعضاء ، ومنه ما فوّض تقديره إلى القاضى.

١٢١٢

والأصل فى الدية قوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (٩٢) (النساء). وحكم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، فإن شاء أولياء المقتول أن يعفوا عن القاتل فعلوا ، وإن شاءوا قبلوا الدية. والجناية ثلاثة أنواع : عمد محض ، وخطأ محض ، وشبه عمد ، وتسمى كذلك عمد الخطأ. والأصل فى جناية العمد : القصاص ، ولا يثبت المال إلا بالتراضى ، ويجوز أن يكون بقدر الدية أو أقل منها. وأما القتل الخطأ المحض ، وشبه العمد ، فالأصل فيهما الدية ، ونصّ الشارع على الدية فيهما وفى قتل العمد. ودية المسلم ألف دينار ـ يعنى ثلاث كيلوات ونصف و ٢٩ جراما من الذهب ، مقوّمة بسعر اليوم أى نحو ٠٠٠ ، ٣٠٠ جنيه مصرى ، تدفع لأهل المقتول ، كبيرا كان أو صغيرا ، عاقلا أو مجنونا ، سليم الأعضاء أو مفقودها ، عملا بإطلاق النص. والفرق بين الدية فى جناية العمد وجناية شبه العمد ، أن الجانى فى الأولى يمهل سنة للوفاء ، وفى الثانية يمهل سنتين ، ويمكن تقسيط الدية ، ومن لا يستطيع الدية يتحملها عنه المجتمع ممثلا فى الدولة. ودية ابن الزنا كدية غيره من المسلمين. ويتساوى الرجل والمرأة قصاصا ودية. وتجب الكفّارة فى القتل العمد ، والقتل الخطأ ، وشبه العمد. وكل ما لا تقدير فيه فى الدية ، ففيه الأرش المسمى بالحكومة ، لأنه تعويض يختلف عليه ، ويتحاكم فيه للحكومة ولأهل الخبرة ، لتقدير مبلغ الضرر ، والأرش هو الدية ، والتقدير فى الآية : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) (المائدة ٤٥) ، فكأن الدية تكون لخمسة أعضاء ، وأهل الشرع جعلوها قياسا ثمانية عشر عضوا من أعضاء الإنسان ، هى : الشعر لمن يتسبب فى إزالته بحيث لا ينبت أبدا وفيه الدية الكاملة ؛ والعين : وكل ما يكون فى الإنسان اثنان ففي التسبيب فى تلفهما الدية ، وفى واحد منهما نصف الدية ؛ كالأنف ومنخريها ، ؛ والأذنين ، وفى كل واحدة منهما النصف ، ولا فرق بين الأذن الصحيحة والصماء ؛ والشفتين ؛ وفى اللسان : الدية كاملة ؛ وفى الأسنان جميعها : الدية كاملة ، وفى بعضها دون بعض كالثنيتين ، والرباعيتين ، والنابين ، والأضراس ؛ والعنق إذا كسر فمال ، أو تعذر عليه البلع ، فعليه تمام الدية ؛ واللحيان : فيهما الدية كاملة ، وفى الواحد نصف الدية ؛ وكذلك اليدان ؛ والأصابع العشر : سواء فى اليدين أو القدمين ؛ والظهر : فيه الدية كاملة إذا كسر ؛ والنخاع ؛ والثديان : فيهما الدية كاملة ، وفى أحدهما نصف الدية ؛ وفى الخصيتين والقضيب وشفرتى فرج المرأة : فيهما الدية كاملة ، وفى الواحدة النصف ؛

١٢١٣

وكذلك فى الأليتين ؛ والقدمين ؛ وإذا دخل رجل على امرأة أجنبية عليه ، وتسبب لها فيما يسمى الإفضاء ، وهو أن يصبح مسلك البول والغائط واحدا من فرجها ، فتجب عليه الدية ؛ ولكل ضلع من الأضلاع فى الصدرية إذا كسر ، وكذلك كل عظم من عضو له دية مقدرة خمس دية ذلك العضو ؛ وهناك دية فى الظفر ؛ وفى الترقوة إذا كسرت ؛ وفى المخ إذا أصيب بأذى دية كاملة ؛ وكذلك السمع ، والبصر ، والشم ، والتذوق ، والنطق ، وجميعها يطلق عليها اسم المنافع ؛ وتجب الدية الكاملة فى الجناية على رجل بحيث يتعذر عليه إنزال المنى حين الجماع ، أو يتسبب له فى الإصابة بسلس البول ، وهو رشحه لعدم القوة الماسكة له. والقصاص فى الشجاج ـ جمع شجّة ـ وهى الجرح بالرأس ، أو الوجه ، إذا كان القصاص ممكنا ، وإلا فالدية ، وشجاج الرجل والمرأة سواء ، ومن أنواع ذلك : الخارصة : التى تقشر الجلد وتخدشه ؛ والدامية : التى تقطع الجلد ؛ والباضعة : التى تنفذ فى اللحم ولا تصل إلى العظم ؛ والسمحاق : هى الجلدة الرقيقة على العظم ، وقد يبلغها الجرح ؛ والموضحة : وهى الجرح الذى يكشف عن العظم ويوضّحه ؛ والهاشمة : وهى التى تهشم العظم وتكسره ؛ والمنقّلة : وهى التى تنقل العظم ؛ والمأمومة وهى التى تبلغ أم الرأس. وإذا جنى رجل أو امرأة على امرأة حامل فأسقطت فلها دية كاملة إذا كان الجنين قد نفخت فيه الروح ، ونقل الدية إذا كان تام الخلقة ولم تلجه الروح ، أو كان عظما ، أو مضغة ، أو علقة ، أو نطفة. والاعتداء على الميت له دية. وفى الضرب على الوجه فيكون للضربة أثر أسود ، أو أزرق ، أو أحمر ، تكون الدية مختلفة فى كل حالة ؛ وللضرب فى البدن نصف دية الضرب على الوجه ، وتختلف إذا كان أثر الضرب أسود ، أو أزرق ، أو أحمر.

* * *

٢٣٧٤ ـ الدية فى الأعضاء والجروح

نزلت الآية : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) (٤٥) (المائدة) فى اليهود وأوجبت عليهم العقاب بالمثل ، وأخطأ من جعل نفس العقاب على المسلمين ، لأن الآية توجب أن تؤخذ العين بالعين ، والسن بالسن ، والأذن بالأذن والجروح قصاص ، وهذا ما لا يتيسر إطلاقا ، فالاستيفاء من الجانى بما يماثل الضرر الواقع على المجنى عليه مستحيل ، لأنه فى إنزال العقاب لا يجوز له أن يتعدّى إلى غيره ، وهو نفس ما ذهب إليه قاضى تاجر البندقية لشكسبير ، عند ما طلب منه اليهودى تنفيذ العقد بينه وبين غريمه ، وكان يقضى باستقطاع رطل من اللحم من جسمه ، فاشترط القاضى عليه أن يكون استقطاع الرطل مرة واحدة بلا زيادة ولا نقصان وإلا انقلب الأمر عليه ، وكان اليهودى يطمع أن يطبق شريعته

١٢١٤

على غريمه ، وبالمثل فى هذه الآية يستحيل المماثلة فى العقاب ، ولذلك استنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الدية فى العينين ، وفى الأنف ، والأذن ، والسن ، والشفتين ، والأصابع ، واليدين وسائر عظام الجسد ، وفى الجروح ، أخذا بعموم القرآن وهذا أولى ، وحتى اللطمة لها الدية ، والمرأة فى ذلك كالرجل ، فمن تصدّق بالقصاص فعفا فهو كفّارة له ،. وقيل إن ذلك مقصود به اليهود ، وقيل إن الآية عن اليهود تنتهى عند «والجروح قصاص» ، والباقى مقصود به أمة الإسلام ، غير أنه فى التلمود يوجد نفس الشيء ، حيث يمكن دفع الدية ، وأيضا العفو فيكون كفّارة.

* * *

٢٣٧٥ ـ القسامة والدية

القسامة لم ترد فى القرآن ، والمقصود بها الأيمان ، من أقسم يقسم إقساما ، وقسامة ، وهى أن يوجد قتيل لا يعرف قاتله ، فتجرى القسامة على المشتبه فيهم أنهم قتلوه ، بشرط أن يتوافر دليل أو أثر يدل على القاتل ، أو يبرر أن يشتبه فيه ، كأن تكون بين القتيل وبين المشتبه فيهم عداوة ، أو أن يقتل بين ظهرانيهم وفى حيّهم أو بلدهم ، أو بالقرب من بيوتهم ، ووجه القسامة : أن يختار ولى المقتول خمسين رجلا من أهل هذه القرية أو الناحية ليحلفوا أنهم ما يعرفون من قتله ، وأنه من معرفتهم ببلدهم متأكدون أن أحدا منها لم يقتله ، وحينئذ تسقط عنهم الدية ، فإن رفضوا أن يقسموا وجبت ديته عليهم ، ونظام القسامة هذا لم يقل به الإسلام وإنما كان من الجاهلية. وكان رجل من الأنصار فى زمن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد جاء إليه يشكو أن نفرا من قومه انطلقوا إلى خيبر وتفرّقوا فيها ، فوجدوا واحدا منهم قد قتل ، ولم يعرف قاتله ، وأنكر اليهود قتله أو العلم به ، فعندئذ سأل النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم صاحب الشكوى : «تأتون بالبيّنة على من قتله؟ قالوا : ما لنا بيّنه؟ فقال : «فيحلفون»؟ يقصد اليهود ، فلم يرضوا بأيمان اليهود ، فكره النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك ، فودّاه مائة من إبل الصدقة. وهذا الحلف الذى سألهم أن يحلفه اليهود هو القسامة. وقيل إن القسامة فى الجاهلية أخذ بها أبو طالب ، وفرض أن يقسم خمسون من أهل المتهم بالقتل ، أنه ما قتلوه. وهؤلاء الخمسون هم الشرط فى القسامة ، وعمر بن عبد العزيز لم يجد أن القسامة شىء ، فما لم يقدم أصحاب القتل بيّنة على اتهامهم ، فإنه لا يستطيع أن يظلم الناس بأن يجعلهم يقسمون ، وهم لم يروا شيئا أصلا ليقسموا عليه ، وقال فى هذا النوع من القتل غير المعروف فيه القاتل : أنه قتل لا يقضى فيه إلى يوم القيامة. والرأى فى القسامة رأيان : فجماعة قالوا إن للناس فى القسامة حياة ، وأنها تجعلهم يخشون أن يقتل عندهم قتيل فيكون اتهامهم به ؛ وجماعة رأت أن القود بالقسامة جور ، وأنه يخالف أصول الشرع ، حيث الأصل أن لا يحلف على شىء إلا

١٢١٥

ما علم قطعا ، والمقسمون لم يروا القتيل يقتل ، وربما كانوا فى بلد آخر وقت أن قتل ، ولو كان الرسول قد قبل القسامة لفرضها على الناس ، ولكنه لم يرض بها ، وأعطى دية القتيل من مال الصدقة منعا للفتنة ، والخلاصة : أن القسامة لم يقل بها القرآن ، ولا الرسول ، وهى ليست من الإسلام فى شىء.

* * *

٢٣٧٦ ـ الدية فى الإسلام وليست فى اليهودية ولا النصرانية

القصاص فى التوراة ، وليست فيها الدية ، وإنما الدية عند الأحبار ، وأما فى القرآن فقد اختص بها الله تعالى أمة الإسلام فقال : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) (١٧٨) (البقرة) ، والعفو هو أن يقبل الدية فى القتل العمد ، وإذا قبلت الدية حرم الدم وارتفع القصاص ، وعلى الولىّ أن يتّبع بالمعروف ، وعلى الجانى الأداء بالإحسان ، وذلك تخفيف منه تعالى ورحمة كما قال : (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) (٤٥) (المائدة) ، فندب إلى رحمة العفو والصدقة ، كما ندب إلى قبول الدية إذا بذلها الجانى. والتخفيف والرحمة فى الآية لأن أهل التوراة كان لهم القتل ولم تكن لهم الدية ، ولا العفو ، وأهل الإنجيل كان لهم العفو ولم يكن لهم قود ولا دية ، فجعل الله ذلك تخفيفا لأمة الإسلام ، فمن شاء ترك الحكومة تأخذ له حقه بالقتل ، ومن شاء قبل الدية ، ومن شاء عفا.

* * *

٢٣٧٧ ـ الحمالة

من حمل يحمل وهو أن يرفع الشيء ، ومنه استحمل أى قوى على الحمل ، والحمالة : هى أن يقع بين بعض الناس عداوة وضغائن ، تتلف فيها الأنفس والأموال ، ويتوقف صلحهم على من يتحمل ذلك ، ويسعى فى الإصلاح بينهم ، ويتحمل ما خسروا ، فيسمى ذلك حمالة ، ومن ذلك قوله تعالى : (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) (١٣) (العنكبوت). وكانت العرب تعرف الحمالة ، وكان بعضهم يرى أنها تجب عليهم فيخرجون إلى القبائل يؤدونها عنهم ، فورد الشرع بإباحتها وجعل لها نصيبا من الزكاة ، واعتبر من يحملها من الغارمين ، فى قوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) (٦٠) (التوبة) ، والغارمون : هم الذين ركبهم الدين ولا وفاء عندهم ، ويعطى المتحمّل فى الصلاح والبرّ من الصدقة ما يؤدى به ما تحمّل به وإن كان غنيا ، إذا كان ذلك فوق طاقة ماله ويجحف به فيصبح كالغريم ، ومن هؤلاء كان قبيصة بن مخارق ، قال : تحملت حمالة فأتيت النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسأله فيها ،

١٢١٦

فقال : «أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها» ، ثم قال : «يا قبيصة : إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة ، رجل تحمل حمالة فحلّت به المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ؛ ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله ، فحلّت له المسألة حتى يصيب قواما من العيش ، ورجل أصابته فاقة حتى ليقول ثلاثة من ذوى الحجا من قومه : لقد أصابت فلانا فاقة فحلّت له المسألة ، حتى يصيب قواما من عيش ، فما سواهن من المسألة يا قبيصة : سحتا يأكلها صاحبها سحتا» ، فجعل المتحمّل للحمالة الذى تحل له المسألة بسببها من الغارمين الذين يحل لهم مال الصدقة تعويضا لهم.

* * *

٢٣٧٨ ـ العاقلة

العاقلة : هم الذين يتحملون العقل ـ أى الدّية ، وسميت الدية التى يتحملون دفعها عقلا لأنها تعقل لسان ولى المقتول ؛ والعاقلة هم عصبة الرجل ، سموا عاقلة لأنهم يمنعون عن القاتل ، وغير العصبة ليسوا من العاقلة ، كالإخوة لأم ، والزوج ، وذوى الأرحام. وتحمّل العاقلة دية الجناية كان فى الماضى ، وكانوا لا يضمنون القاتل إذا كانت جنايته متعمدة ، والعاقلة إذن مصطلح مهجور.

* * *

٢٣٧٩ ـ القتل وأنواعه وعقابه

القتل : مصدر قتل ، ويقال «قتله الله» ، و «قاتلة الله» فى مقام الدعاء عليه ، أى لعنة الله ، أو فى مقام المدح والثناء والاستحسان. وقاتل : يعنى حارب ، والقتل : هو الإماتة ، ومجازا الضرب الشديد ؛ والمقتل : موضع القتل. والقتل يجيء فى القرآن على أقسام ، ومنه : القتل العمد ، والقتل شبه العمد ؛ والقتل الخطأ ؛ والقتل القضاء : نحو أن ينقلب النائم على شخص فيقتله أو يقع عليه من علو ؛ والقتل بالسبب : كحفر بئر يتسبب فى قتل إنسان ؛ والقتل من غير المكلّف. والقتل بغير حق محرّم ، لقوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) (١٥١) (الأنعام) ؛ وكذلك القتل العمد ، كقوله تعالى : (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) (٩٥) (المائدة) ، كأن يضرب الجانى القتيل ضربا مبرحا فيه موته ، فيجب فيه القصاص ، أو أن يضربه ضربا خفيفا ولكنه يموت به لضعفه ، ففيه القود ؛ وإن كانت الوفاة لغير ذلك فهو عمد الخطأ وفيه الدية ؛ إلا أن يصغر الضرب جدا ، كأن يكون مجرد صفعة على الوجه ، أو وكزة يموت بها كما جرى مع موسى والأشورى فى مصر ، كقوله تعالى : (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ) (١٥) (القصص) ، فذلك اعتداء لا يتوهم القتل فيه ، ويسمى قتلا شبه عمد ، أو قتلا عمدا خطأ ، وقتلا خطأ عمدا ، وفيه الدية ولا قود فيه. ويجب الضمان فى القتل بالسبب. ولا قصاص على من يقتل من وجده يزنى بامرأته ، ولا دية عليه ،

١٢١٧

وإن كانت المرأة مطاوعة فلا ضمان عليه فيها ، وإن كانت مكرهة فعليه القصاص. ولا يثبت القتل بالشهادة ، إلا إذا كان تعبير الشاهدين لا شبهة فى دلالته. وفى قتل العمد لا تقبل إلا شهادة رجلين عدلين ، وفى القتل الخطأ والجائفة ونحوهما ، تقبل شهادة رجل وامرأتين. ولا تقبل شهادة ورثة المجنى عليه. ومن قدر على إحياء نفس ففرّط فى ذلك ، كأن يمنعه الطعام والشراب مع غناه ، فعليه الضمان ، وكذلك من رأى إنسانا فى مهلكة فلم ينجه منها مع قدرته. وإذا أرسل وكيل النيابة إلى امرأة يطلبها للتحقيق أو فى تهمة ، وكانت حاملا فأسقطت خوفا وفزعا ، وجبت ديتها على الدولة. ومن يروّع إنسانا فيتسبب فى موته فعليه الضمان. ولو زنى رجل بامرأة مكرهة ، فحملت فماتت من الولادة ، ضمنها ، وعاد أهلها بالتعويض على ماله. وإن شهد رجلان على رجل بما يوجب قصاصا ، أو حدّا ، فأقيم عليه ، فأفضى إلى موته ، ثم رجعا عن الشهادة ، لزمهما ضمانه. وإن ضرب معلم تلميذه فمات ، فعليه ضمانه ، وفيه القود ، إلا إن كان الضرب بسيطا ولكن الولد لم يحتمله لأسباب أخرى ففيه الدية. وإن جنى اثنان على شخص ، فالقاتل منهما هو من ضربه بحيث أخرجه من حكم الحياة. ولا يقبل القول بالدفاع المشروع فى القتل إلا إذا أثبت القاتل ذلك بالبيّنة ، فإن ثبت مثلا أن من دخل بيته لم يدخله بسلاح ، وأنما يقصد السرقة ، ولكنه مع ذلك قتله ، فعليه القصاص ، وإن كان معه سلاح فقتله به ، فدمه هدر ، ولا قصاص ولا دية عليه. والدفاع عن النفس ، أو العرض ، أو المال ، لا يكون إلا بأسهل ما يعلم أنه يمكن أن يدفع به ، فإن استخدم أداة لا تناسب ذلك فعليه ثلث الدية ، وإن لم يتيسر له مدافعة إلا بالقتل ، أو خاف أن يبدره بالقتل إن لم يقتله ، فله قتله ودمه هدر. وإن أراد رجل امرأة على نفسها ، فقتلته ، فلا شىء عليها ، ويجب أن تدفع عن نفسها ولو تأدّت إلى قتله. وأما من أريدت نفسه أو أريد ماله ، فلا يجب عليه قتال المعتدى ، فإن أمكنه الهرب وجب عليه ، وإن لم يمكنه واضطر إلى قتله فله ذلك. ولا قصاص على قاتل المحارب ، ولا دية ، ولا كفّارة ويجب القصاص على السكران إذا قتل حال سكره. ولا قصاص على المجنون ، ولا على كل زائل العقل بسبب يعذر فيه ، كالنائم ، والمغمى عليه. والدماء أحق ما احتيط له فى الإسلام ، والأصل صيانتها فلا تستباح إلا لأمر بيّن لا إشكال فيه. والقتل فى القرآن يقصد به القتل الخطأ والقتل العمد ، وقال الفقهاء بقتل شبه عمد ، مثل الضرب المفضى إلى الموت الذى لا يقصد به الضارب القتل إلا أن الموت يتحقق به. وقيل فى القتل شبه العمد ، أنه ضرب يتردد بين العمد والخطأ ، فحكم له بشبه العمد فالضرب مقصود والقتل غير مقصود وإنما وقع بغير القصد ، فيسقط القود وتغلّظ الدّية. ومثله القتل فى مشاجرة يتحارج فيها قوم مع آخرين ، فيقتل بعضهم بعضا ، ولا يعرف القاتل تحديدا ، فذلك هو «القتل فى عمية» كما

١٢١٨

فى الحديث ، أى القتل الذى يعمى أمره ويلتبس فلا يعرف القاتل ، وفيه الدّية المغلّظة. والدية تلزم الجانى فى ماله فى القتل العمد ، وشبه العمد ، وفى قتل العمية تلزم الجماعة التى تسبب أفرادها فى قتل القتيل. والقاتل عمدا عليه الكفّارة إذا عفا أهل القتيل عنه فلم يقتل بمن قتل ، كقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) (١٧٨) (البقرة) ، فأما إذا اقتصّ منه بالقتل فلا كفارة عليه ، لأن الكفّارات لا تجب إلا حيث أوجبها الله ، وفى القتل العمد وشبه العمد لم يوجب الكفارة. وفى توبة قاتل العمد ـ قال البعض ـ إنه لا توبة له ، والصحيح أن له التوبة لأنه تعالى يقول : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (٤٨) (النساء) ، ويقول : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) (١١٤) (هود) ، ويقول : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) (٢٥) (الشورى) ، وحلّ هذا الإشكال يكون بالجمع بين المعنيين : فجزاء القتل العمد كذا ، إلا من تاب فهو فى المشيئة ، إن شاء عاقبة الله تعالى ، وإن شاء عفا عنه.

* * *

٢٣٨٠ ـ الجنون والمسئولية

الجنون : زوال العقل ؛ والمجنون هو فاسد العقل ، والجمع مجانين ؛ والجنون المطبق هو التام ، ومعنى ذلك أن هناك جنونا غير تام ، كأن يكون فساد العقل فى مجال دون بقية المجالات ، كما فى البارانويا وهى جنون الاضطهاد أو العظمة. والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم اتهموه بالجنون ، فقد اعتبروا الإغماءة التى كانت تأتيه عند ما يوحى إليه نوعا من الصرع ، وقالوا فى الوحى إنه من الهلاوس ، وما يزال اليهود والنصارى يزعمون ذلك حتى اليوم ، كقوله تعالى : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) (٦) (الحجر) ، والحق أن هذا الزعم لم يقتصر على نبيّنا بل تعدّاه إلى كل الرسل ، كقوله تعالى : (كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (٥٢) (الذاريات). وما كانوا مجانين ، ولا كهنة ، ولا سحرة ، وإنما كانوا أنبياء من لدن عليم حكيم ، قال تعالى : (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) (٢٢) (التكوير) ، وكيف يكونون مجانين وهم مشرّعون ، وحكماء ، وأطباء نفوس وأبدان ، ومبشّرون ، ومنذرون؟! والمجنون إن أسلم أو تنصّر أو تهوّد لا يصحّ منه أىّ من ذلك ، وفى القرآن من حالات المجنون : (يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) (٢٧٥) (البقرة) ، والمسّ أو الخباط حالة من حالات الجواز ، ولم يكن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم به شىء من أعراضه. والمجنون لا يؤاخذ بالردّة ، ولا يجب عليه الصيام ، ولا الصلاة ، ولا الزكاة ، لأنها جميعا لا تجب إلا على العاقل ، وليس له أن يتزوج ولا أن يزوّجه الناس ، ولا يصحّ منه طلاق ، ولا حق لمجنونة فى طلب الخلع ، ولا فى حضانة طفلها ، ويحجر على المجنون ، ولا تصح وصيته ، وعمده خطأ ، ويكفّر من ماله إذا جنى بقتل إنسان ، ولا تقبل شهادته.

* * *

١٢١٩

٢٣٨١ ـ القصاص والقود

القصاص : هو الجزاء على الذنب ، تقول قاص قصاصا يعنى أوقع به القصاص ، وجازاه وفعل به مثلما فعل ، والقود : القصاص ، وقتل القاتل فى مقابل القتيل. ونصّ الشارع على القصاص فى الكتاب والسنّة ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) (البقرة ١٧٨) ، وقال : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) (البقرة ١٧٨) ، وقال : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) (المائدة ٤٥) ، وقال : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) (٣٣) (الإسراء ٣٣) ، وقال : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) (الشورى ٤٠) ، وقال : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (البقرة ١٩٥) ، وفى الحديث : «لو اجتمعت ربيعة ومضر على قتل امرئ مسلم قيدوا به» ويجب القصاص فى حالتين : قتل النفس ، وما دون القتل كقطع عضو كالأنف أو الأذن أو الجروح. ويجب القصاص فى القتل العمد ، وأما قتل الخطأ وشبه العمد فيوجبان الدية. واشتراك أكثر من واحد فى القتل يوجب الحكم عليهم بالقتل ؛ وقيل لا يقتل أب ولا أم بولدهما. ولا قصاص على المجنون ، والصبى وإن كان مميزا. ويسقط القصاص فى حالات الدفاع المشروع ، وعند العفو ، وإن عفا بعض الورثة صحّ عفوهم وسقط القصاص ، ويبقى لبقية الورثة الدية. ويصحّ عفو المقتول قبل موته عن الجانى ، وعفو المريض مرض الموت ، وعفو المفلس ، والمحجور عليه لسفه ، والعفو عن بعض المشركين فى القتل دون البعض ، وعفو ولى الصغير والمجنون ، ويقبل الصلح عن القصاص بالمال ، وبأكثر من الدية. ولا قصاص على شريك القاتل خطأ ، ولا على حامل قبل وضعها ، ولا على من قتل أحدا من أهل البغى ، ولا يقتص الشخص من نفسه.

* * *

٢٣٨٢ ـ القصاص فى العين والأنف والأذن والسن

فى قوله تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِ) (٤٥) (المائدة) دلالة على جريان القصاص فيما ذكر ، فإذا كانت الإصابة عن خطأ ففي ذلك الدية ، ولا خلاف بين أهل الطب على أن المماثلة فى القود مستحيلة ومن ثم تكون عن الجانى الدية ، ويختلف فيها ، والأولى أن تتوسط فيها الحكومة ـ أى أن يؤخذ فيها التحكيم. وفى الآية النصّ على أمهات الأعضاء وتركت بقية الأعضاء للقياس عليها ، فكل عضو فيه قصاص إذا أمكن ولم يخش عليه الموت ، فإذا خشى فيه الموت ، أو اضطراب العقل ، أو أن يصاب عضو آخر من أعضائه ؛ وما إلى ذلك ، ففيه الدية.

* * *

١٢٢٠