موسوعة القرآن العظيم - ج ٢

دكتور عبد المنعم الحفني

موسوعة القرآن العظيم - ج ٢

المؤلف:

دكتور عبد المنعم الحفني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
ISBN: 977-208-422-2
الصفحات: ١٢٤٤
الجزء ١ الجزء ٢

القفو البهت والقذف بالباطل ، وفى الحديث أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «هل ترى الشمس؟ على مثلها فاشهد أو دع».

ويشترط فى الشاهد : أن يكون عاقلا ، فيميز المشهود به ، والمشهود عليه ، والمشهود له ؛ فلا تجوز شهادة المجنون ؛ ولا تجوز شهادة الفاسق ؛ والفسوق نوعان : الأول : فسوق من حيث الأفعال ، ولا خلاف فى ردّ شهادته ؛ والثانى : فسوق من جهة الاعتقاد ، فيوجب ردّ الشهادة. وقد قال تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) (الطلاق ٢) ، وقال : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) (البقرة ٢٨٢) ، فلا تجوز شهادة الظالم ؛ والشهود نوعان : فنوع لا يرضى لأنهم غير محمولين على العدالة ، ونوع يرضى وهم العدول ؛ و «منكم» فى الآية الخطاب فيها للمسلمين ، وشهادة العدول تقتضى أن معنى العدالة زائد على الإسلام ضرورة ، لأن الصفة زائدة على الموصوف ، فينبغى أن لا يكتفى فى الشاهد بأن يكون على ظاهر الإسلام ، وإنما يختبر حاله ليكون مما يرضاه الناس للشهادة. والعدالة فى الدين هى الاعتدال ، بأن يكون المسلم مجتنبا للكبائر ، ومحافظا على مروءته على ترك الصغائر ، وظاهر الأمانة وغير مغفّل. ولما كانت الشهادة ولاية عظيمة ، ومرتبة منيفة ، وهى قبول قول الغير على الغير ، شرط تعالى فيها الرضا والعدالة ، فمن حكم الشاهد أن تكون له الصفات النفسية والعقلية التى ينفرد بها ، والفضائل التى يتحلّى بها ، حتى تكون له المزية على غيره ، فتتوجب له رتبة الاختصاص بقبول شهادته. وقد أمرنا تعالى بأن لا نغتر بقول القائل أنه مسلم ، ففي الشهادة لا يقتصر على كون الشاهد مسلما ، فربما انطوت شخصيته على ما يوجب ردّ شهادته ، مثل قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) (البقرة ٢٠٤) إلى قوله : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) (٢٠٥) (البقرة ٢٠٥) ، وقال : (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) (المنافقون ٤).

ولا تجوز شهادة أهل الذمة إلا على أهل ملّتهم ، وللمسلم إذا كان فى سفر ، ولم يكن عنده أحد من المسلمين ، فله أن يشهد اثنين من أهل الكتاب ، ويستحلفان بعد الصلاة بحضور جمع من الناس ، أنهما ما خانا ، ولا كتما ، كقوله تعالى : (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) (المائدة ١٠٦) وقيد السفر فى الآية على الغالب ، وتجوز شهادة غير المسلمين فى الوصية فى غير السفر ، طالما لم يجد الموصى شاهدين مسلمين يشهدان على وصيته.

ولا تقبل شهادة ذى شحناء ، وتردّ شهادة الظنين ، والمتهم ، والخصم ، والخائن والخائنة ، والعدو ، ومن يكثر غلطه وسهوه ، والمغفل الذى يغلب عليه البله ، والطفيلى ، والمتسوّل الذى يسأل فى كفه ، فإذا أعطى رضى ، وإذا منع سخط ، والوكيل فيما هو وكيل فيه ، والشريك

١١٤١

فيما هو شريك فيه ، وشهادة الوالدة أو الوالد لولده ، والولد لوالدته أو والده وإن سفل ، سواء فى ذلك أولاد البنين وأولاد البنات ، والأخ لأخيه وعليه ، وأحد الزوجين للآخر وعليه ، وتجوز شهادة الولد لوالده ، والوالد لولده ، والأخ لأخيه إذا كان مرضيا ، وتجوز شهادة الرجل لامرأته ، والمرأة لزوجها إذا كان معها غيرها ، والصديق لصديقه. وقيل : لا تجوز شهادة الولد على والده لأنها عقوق للوالد ، والصحيح أنها تقبل ، لقوله تعالى : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) (النساء ١٣٤). وتجوز شهادة العم وابنه ، والخال وابنه ، وسائر الأقارب ، وبعض الورثة على بعض ، والوصى على من هو موصى عليهم.

ولا تقبل شهادة تجرّ نفعا للشاهد ، وشهادة الدافع عن نفسه ضررا. وإذا تاب القاذف قبلت شهادته ، وتقبل شهادة ولد الزنا فى الزنا وغيره ، وشهادة الأعمى والأخرس فيما يمكنهما العلم به ، ويشهد الأخرس بالإشارة مع وجود مترجم ، كالترجمة من لغة إلى أخرى. وتجوز شهادة المرأة فى إثبات هلال رمضان ، والطيب الواحد تجزئ شهادته ، وتقبل شهادة رجل وامرأتين فى المال ، كقوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) (البقرة ٢٨٢). والاستشهاد هو طلب الشهادة ، والشهادة بشاهدين فى الحقوق المالية ، والبدنية ، وفى الحدود ، وفى كل فن إلا فى الزنا ؛ وأدخلت شهادة النساء مع الرجال فى الأموال خاصة ، وتجوز شهادتهن منفردات فيما لا يطّلع عليه غيرهن للضرورة ، وشهادة المرأة الواحدة فى عيوب المرأة التى يثبت بها فسخ النكاح ، وإثبات الحمل ، والرضاع ، إذا كانت مرضية ؛ ولا تقبل شهادة المرأة لبنتها أو أمها برضاع مع زوج ؛ وقد تقبل شهادة أم الزوج أو ابنته ، ولا يثبت القتل بالشهادة إلا إذا كان تعبير الشاهدين لا شبهة فى دلالته ، نحو : نشهد أنه ضربه فقتله ، أو فأوضحه. وإن شهد أحد الشاهدين أنه أمّر بقتله عمدا ، وشهد الآخر أنه أمر بقتله ولم يقل عمدا ولا خطأ ، ثبت القتل ولم تثبت صفته ، وإن تعارضا فى الشهادة لا تثبت. ولا تقبل شهادة رجل وامرأتين فيما أوجب القصاص فى النفس ، كالقتل العمد ونحوه ، إلا شهادة رجلين عدلين ، وأما ما كان موجبه المال من الجنابات ، كقتل الخطأ ، والجائفة ، ونحو ذلك ، فيقبل فيه شهادة رجل وامرأتين ، وقيل لا يثبت إلا بشهادة عدلين ، ولا تسمع فيه شهادة النساء. وجعل الله تعالى الشهادة على السحاق ـ وهو اللواط الأنثوى ـ بأربعة شهود عدول ، فقال : (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) (النساء ١٥) ، وعلى القذف كذلك ، فقال : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) (النور ٤) ، وقد لا يتوفر الشهود كما فى اللعان ، كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ

١١٤٢

فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٩) (النور). ولا يقبل فى الزنا أقل من أربعة شهود ، وقيل اثنين ، ويشترط كونهم رجالا مسلمين ، عدولا ، ظاهرا وباطنا ، وسواء كان المشهود عليه مسلما أو ذميا ، ولا تقبل شهادة النساء ، وإن لم يكمل عددهم فعليهم حدّ القذف ، وعليهم أن يصفوا ما شاهدوه ، والزانى والزانية ، ومكان الواقعة ، وإن رجعوا فى شهادتهم ، أو رجع واحد منهم ، أو اختلفوا فى الشهادة ، حدّوا جميعا ، وإن شهدوا على امرأة بالزنا ، فشهدت ثقات من النساء أنها عذراء ، فلا حدّ عليها ولا على الشهود. والشهادة فى الحرابة لا تجوز إلا بشاهدين. وتثبت الردّة بشهادة عدلين. والسنّة على اليمين مع الشاهد الواحد. ويثبت المال لمدّعيه بشاهد ويمين ، ويثبت الحق بيمين المدعى أو المرأة مع شاهد واحد. وإذا مات الشاهد بعد أن أدى شهادته حكم القاضى بها. وإذا تاب شاهد الزور ، ومضت على توبته مدة ، وتبين صدقه وعدالته ، قبلت شهادته. والخطأ فى الشهادة يجوز فيه الرجوع على الشاهد بالضمان. وإذا رجع فى شهادته أو أقرّ بالخطإ وكان ذلك فى مال عزّر وغرّم. ومن تردّ شهادته لفسق لا تقبل مرة ثانية. ويغرّم شاهد الزور ويحبس. ولا يقبل الجرح والتعديل للشهود إلا من اثنين ، وإن عدل الشاهد اثنان وجرحه اثنان ، فالجرح أولى. ويكفى فى التعديل أن يقال : أشهد أنه عدل ؛ وقيل الأفضل أن يقول : هو عدل علىّ ولى ، أى أن الشاهد مقبول علىّ ولى ، ولا يقبل التعديل إلا من أهل الخبرة بالشاهد والمعرفة المتقادمة به. وأما الجرح للشاهد فلا يسمع إلا مفسّرا ، فيقول مثلا : إنه يتعاطى الخمر وشاهدته بنفسى يفعل ذلك ، أو سمعته يقذف الناس ، ولا بد أن يذكر الواقعة ويعيّنها. وربما يقبل القاضى الجرح المطلق وهو أن يشهد أنه فاسق وليس بعدل. ولا يقبل الجرح والتعديل من النساء ، ولا من الخصم.

* * *

٢٢٨٩ ـ الاحتكار

الاحتكار من أبواب الاقتصاد ويتبع البيع والشراء ، وشأنه شأن الربا فهو حرام بالقواعد الشرعية : لا ضرر ولا ضرار ، ودفع المفسدة أولى من جلب المصلحة ، والأهم مقدّم على المهم. والاحتكار تقوم عليه الرأسمالية العالمية ، وهو أساس الإمبريالية ، ومحور نظام العولمة ، وأصله احتكار كبار التجار ، وكبريات الشركات ، والاتحادات التجارية ، والشركات الكبرى عابرة القارات ، للتجارة المحلية والدولية ، وللسلع الغذائية ، والصناعات الاستراتيجية. وكان الاحتكار سببا رئيسيا لتفشّى الاستعمار ، واندلاع حروب التجارة

١١٤٣

والأسواق ، واستعباد الشعوب ، وقتل الملايين ، وإيقاظ الفتن ، وانتشار البدع فى الدين والفتاوى الظالمة ، وحبس الناس عن الاكتساب ، والجور فى اقتسام الأرزاق ، وإنفاق ميزانيات الشعوب على شراء آلات الحرب والدمار. وفى القرآن قوله تعالى : (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) (٧) (الحشر) ، والدّولة هو ما يتداول من الأموال وما شابهها ، وهو الاسم القرآنى للاحتكار ، وحذر النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مغبة احتكار الطعام ، ونهى عنه ، وأنذر من يحتكر بالموت بالأمراض العضال ، والإفلاس ، وروى أن فى جهنم واد خاص بالمحتكرين ، وقال : «إن جالب الطعام مرزوق ، والمحتكر ملعون» ، وقال : «أيّما رجل اشترط طعاما ، فحبسه أربعين صباحا ، يريد الغلاء ، ثم باعه ، وتصدّق بثمنه ، لم يكن كفّارة لما صنع». ولا يختص الاحتكار بسلعة دون أخرى ، فكل ما يحتاجه الناس مهما كان نوعه دون استثناء ، يحرم احتكاره. وإذا تجاوز المحتكرون الحدّ فى الثمن كان التسعير الجبرى ضرورة ، ولا تثريب على الحكومات أن تلجأ إليه منعا للغلاء. وعلّة تحريم الاحتكار حاجة الناس ، ولا يجوز أن يقال إن الدين منع الاحتكار فى الطعام دون غيره ، فمن غير المعقول أن يكون الكلام عن الاحتكار للشعير والنبيذ ويترك أمر الكهرباء مثلا ، أو الغاز ، بلا تسعير ، بدعوى أن الأحاديث لم تشملهما ولم يتحدث القرآن فيهما!؟ وكذلك احتكار السلاح ، والتعليم الجامعى ، والعلاج وأهل العلم على الاتفاق بإجبار المحتكر على عرض سلعته ، وقد أجبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تاجرا أن يخرج الطعام ليبيعه للناس لما تهددتهم المجاعة ، وللحاكم أن يسعّر على المحتكر إن أجحف فى الثمن لرفع الضرر عن الناس ، وفى الحديث : «مجارى الأمور والأحكام بأيدى العلماء» ، فإن رأى أهل العلم والذكر التسعير وجب على الحاكم الانصياع.

* * *

٢٢٩٠ ـ الهبة

الهبة من مصطلحات القرآن ، وتتكرر مشتقاتها فيه ٢٥ مرة ، واسمه تعالى الوهّاب من الهبة ، لأنه الذى يهب فى الأول والآخر ، وفى الدعاء : (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (٨) (آل عمران) ، (وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (٣٥) (ص). والهبة فى المصطلح الاقتصادى القرآنى : تمليك فى الحياة بغير عوض ، وشرطها : الإيجاب والقبول ؛ والقبض من لوازمها ، وهى فيما ينقل بالنقل ، وفيما لا ينقل بالتخلية ، ولا يصحّ تعليقها على شرط ، وإلا كان وعدا ، وتصحّ هبة المشاع ، ويجوز للزوجة أن تهب

١١٤٤

نفقتها لزوجها ، ولا يصحّ أن يهب الصبى ؛ وإن مات الواهب أو الموهوب له قبل القبض بطلت الهبة ، ويجب التسوية بين الأولاد فى الهبة إن كانوا متساويين فى المواهب وتقوي الله ، ولا يجوز الهبة للسفيه أو المجرم أو الكافر ، أو العاصى لأبيه. والرقبى : نوع من الهبة ، وهى أن يقول الواهب : هذا لك عمرك ، فإن متّ قبلى رجع إلىّ ، وإن متّ قبلك فهو لك ، أى أنها لآخرهما موتا ، وسميت «رقبى» ، لأن كل واحد منهما يرقب صاحبه. وهبة الثواب : هى الهبة المشروطة بعوض معلوم ، وحكمها حكم البيع. وإن وهب الموهوب هبة فاسدة ، ثم وهب هو بدوره تلك العين أو باعها بعقد مستوف شروط الصحة مع علمه بفساد العقد الأول ، صحّ العقد الثانى. ولا يحل لواهب أن يرجع فى هبته ، ولا لمهد أن يرجع فى هديته ، ما عدا الوالد أو الوالدة فيما يعطى ولده ، وأما ما أعطى على وجه الصدقة فلا رجوع فيه بحال. وللرجوع فى هبة أن يقول الأب أو الأم : قد رجعت فيها ، أو ارتجعتها أو نحو ذلك.

* * *

٢٢٩١ ـ العطية

العطية تمليك فى الحياة بغير عوض ، وتشمل الهبة ، والصدقة ، والهدية ، فإن أعطى المسلم شيئا يتقرّب به إلى الله فهو صدقة ، وإن أعطى شيئا لإنسان يتقرّب به إليه فهو هدية ، وجميع ذلك مندوب إليه ، ولا تجوز هدية المقترض إلى المقرض قبل الوفاء. والعطية فى اللغة : ما يعطى ، والجمع عطايا وعطيات ، والفعل عطا أى تناول الشيء ، وأعطى ، وتعطّى ، وتعاطى ، واستعطى أى سأل العطاء ، والمعطاء كثير العطاء. والعطاء من البرّ ، كقوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) (٧) (الليل). ومن عطاء أبى بكر ، أنه كان يشترى العجائز ليعتقهم ، وأعطى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثرة أمّته بديلا عن وفاة ابنه وعوضا عن قول القائل : صاحبكم صار أبتر ، أى لا ولد له ، فكان قوله تعالى : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) (٣) (الكوثر) فجعل أمة الإسلام منذ أن كان الإسلام وحتى تحين الساعة ، أولادا للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو معنى «الكوثر» أى الكثرة العددية والنوعية للمسلمين. وفى قوله : (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) (٢٠) (الإسراء) ، وقوله : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (١٠٨) (هود) ، فإن «عطاء ربّك» هو الرزق يرزق من يشاء بغير حساب ، ويرزق الكافر والمؤمن رزقا لا ينقطع ، ولا يحبسه على أيهما وإن فضّل بعض الناس على بعض (انظر أيضا الهبة والهدية ، والصدقة). ولا تجوز العطية إلا بإيجاب وقبول ، والقبض شريطة اللزوم فى

١١٤٥

جميع أنواعها ، ويجب على العاطى السوية بين أولاده فى العطية ، ما لم يختص أحدهم بمعنى يبيح التفضيل ، والأم كالأب فى المنع من المفاضلة بين الأولاد ، والتسوية المستحبة أن يقسم بينهم بحسب قسمة الله فى الميراث ، ويجوز للأب أن يعطى ماله قبل موته لأولاده ، وتثبت العطية بموت الوالد وإن فاضل بين ولده فى العطايا ، أو خصّ بعضهم بعطية وليس لبقية الورثة الرجوع عليه ، وأما سائر الأقارب كالإخوة والأخوات فلا يشترط مساواتهم فى العطية ، وهى فى مرض الموت وما فى حكمه بمنزلة الوصية ، أى من الثلث إذا كانت لأجنبى ، ولا تنفّذ فى حق الوارث.

* * *

٢٢٩٢ ـ البيع

البيع فى اللغة مصدر باع ، أى دفع عوضا وأخذ معوضا ، ويقتضى بائعا وهو المالك ، ومبتاعا وهو الذى يبذل الثمن ، ومبيعا وهو المثمون ، وهو الذى يبذل فى مقابله الثمن ؛ وأركان البيع إذن أربعة : البائع ، والمبتاع ، والثمن ، والمثمّن. والمعوّض إذا كان لسلعة سميت المعاوضة بيعا ، وإن كانت مهرا سميت نكاحا ، وإن كانت لمنفعة سميت إجارة ، وإن كانت عينا بعين فهى بيع النقد ، وإن كانت بدين مؤجل سميت سلما.

والبيع قبول وإيجاب ، ويقع باللفظ المستقبل والماضى ، وبالصريح والكناية. وفى الآية : (قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) (٢٧٥) (البقرة) بيان بأن البيع بخلاف الربا ، وكانوا يقولون إن الربا هو بيع ، وعقد الربا مفسوخ ولا يجوز بحال ، والبيع جائز بالكتاب والسنّة والإجماع ، والحكمة تقتضيه دفعا للحاجة ، وله شروط ، منها ما هو من مقتضى العقد كاشتراط التسليم ، ومنها ما تتعلق به مصلحة العاقدين ، كالأجل ، والخيار ، والرهن ، والكفيل ، والشهادة ، أو اشتراط صفة مقصودة فى المبيع ، كالصناعة ، ومنها ما ليس من مقتضاه ولا من مصلحته. ويستحب الإشهاد فى البيع فيما له أهمية ، وأما الأشياء القليلة الأهمية ، كحوائج البقالة والعطارة وما شابهها ، فلا يستحب ذلك فيها ، وفى التنزيل : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) (٢٨٢) (البقرة) ، قيل : لا يحل لمسلم إذا باع أو اشترى إلا أن يشهد ، فإن كان البيع الى أجل فعليه أن يكتب ويشهد إن وجد كاتبا ، وقيل :

الكتابة والشهادة على الندب والإرشاد وليس على الحتم ، وقد اشترى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورهن ولم يكتب ولم يشهد ، وإنما عدم الكتابة وعدم الإشهاد للمسائل الصغيرة والدقائق ، لصعوبة كتابتها والإشهاد عليها ، وقد يستحى التاجر أن يشهد على أحد المشترين لمعرفة بينهما ، أو لمكانته. والبيع قد يكون بكتاب ، أو بالرهن ، وقد يكون بالإشهاد ، وقد يكون بكتاب وإشهاد. والبيع بشرط الرهن أو الكفيل صحيح ، ويصح عقد بيع المريض مرض الموت

١١٤٦

من غير محاباة. ولا يجوز بيع ما تجهل صفته ، ولا أن يبيع شخص ما لا يملك ، ولا أن يبيع السمك فى الماء ، ولا ما تجهل ذاته ، ولا ما يحرم أو يقصد به حرام ، ولا ما يعرف المشترى أنه من مال حرام أو غصب ، فإن علم أنه من الحرام فشراؤه حرام ، ويكره بيع أرض المسلم لغير المسلمين. والبيع الصورى ـ بيع التلجئة ـ باطل ، وبيع التولية جائز ، وهو بيع السلعة بمثل ثمنها المشتراة به من غير نقص ولا زيادة ، يوالى البائع المشترى ، أى يتودد إليه أو يؤثره ، وعكسه بيع المرابحة : كما سيأتى من بعده.

ومن البيوع : بيع السّلم : وهو البيع بالسلف ؛ وبيع الصبرة : والصبرة هى الكومة من الأشياء كأن يكون حبّا ، فيجوز بيعها جزافا مع جهل البائع والمشترى بقدرها ؛ وبيع الصرف : وهو بيع النقد بالنقد ، وتقوم به مكاتب الصرف ؛ وبيع النجش : وهو أن يزيد فى السلعة من لا يريد شراءها ليغرر بالمساوم فيقتدى به ، وهذا حرام وخداع ، وإن اشترى المغرر به فالشراء صحيح ، ولكن إن كان فى البيع غبن لم تجر العادة بمثله ، فله الخيار بين الفسخ والإمضاء. وروى أن البيع من أصله باطل ، وبيع الرجل على بيع آخر والشراء على شراء آخر : غير جائز. ومن البيوع بيع المرابحة ـ الذى سبق التنويه به : وهو أن يبيع البائع الشيء برأس ماله مع هامش ربح مقداره مثلا عشرة فى المائة ، ويخبر المشترى ، فإذا قامت عليه البينة أو الإقرار أن رأس ماله كان تسعين وليس مائة ، فالبيع صحيح ، وللمشترى الرجوع على البائع بما زاد فى رأس المال وهو العشرة ، بالإضافة الى حظها من الربح وهو ١ خ ، فيبقى المبيع على المشترى بتسعة وتسعين وليس بمائة وعشرة ، وللمشترى حينئذ أن يأخذ المبيع برأس ماله من الربح ، أو يتركه ، ولا خيار للبائع. وفى بيع المرابحة يشترط علم المتعاقدين برأس المال والربح ، وعلى العكس فى بيع التولية وهو أن تباع السلعة بمثل ثمنها من غير نقص ولا زيادة ، ويخبر المشترى بذلك ويعلن عنه.

* * *

٢٢٩٣ ـ توابع البيع : المساومة ، والتولية ، والوضيعة ، والمرابحة

البيع من حيث إخبار البائع للمشترى بثمن السلعة ـ أربعة أنواع : بيع المساومة ، وبيع التولية ، وبيع الوضيعة ، وبيع المرابحة. والمساومة من قولهم سام السلعة أى عرضها بثمن حدّده لها ؛ وساوم بالسلعة أى عرضها بثمن غال فنزل به المشترى الى أن يتفقا على الثمن ، ويقال تساوما السلعة أى جرت بينهما مقاولة فى بيعها ، ومثل ذلك فى القرآن : (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) (٢٠) (يوسف) ، وقوله : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) (٤١) (البقرة) ، فالمشترى يعرض الثمن القليل ، ويبخس السلعة ثمنها ، والبائع يعرض الثمن المرتفع ويغالى فيه ، ويكون الأمر بينهما شدّا وجذبا حتى يتفقا. ويفضل بيع المساومة سائر البيوع ، لأن

١١٤٧

البائع لا يحتاج فيه إلى أن يذكر للمشترين ثمن شرائه للسلعة وغالبا ما يكذب فيه. ومن شأن بيع المساومة أن يخفض الثمن ، والربح القليل هو البيع الحلال ، والكثير أقرب إلى الربا ، كقوله : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) (٢٧٥) (البقرة) ، وربح المؤمن على المؤمن ربا إلا أن يبيع ويرفق بالناس ، وأسوأ البيع ما كان الربح فيه الجنية جنيها. ويدخل بيع المزايدة ضمن بيع المساومة ، وهو أن ينادى البائع على سلعته طلبا للزيادة فيها.

والتولية هى أن يصدق البائع مع المشترى ويطلعه على الثمن الذى اشترى به السلعة ، وما يرجوه من ربح عند بيعها يعوّضه عن نفقاته من غير زيادة ولا نقصان ، فكأنه جعل المشترى وليه ، يلى أمره ويقوم بكفايته ، كقوله تعالى : (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) (١١٥) (النساء) ، فإذا ظهر كذب البائع لا يبطل البيع ، لأنه عقد على شىء معلوم ، بثمن معلوم ، مع التراضى. وأما الكذب بالثمن فيستدرك بالخيار ، كشراء المعيب مع الجهل بالبيع ، والخيار هنا بين فسخ العقد وإلغاء البيع ، أو الإمضاء بالثمن المسمى. وليس للمشترى أن يمسك المبيع ويخفض من الثمن الزيادة ، لأن البيع وقع على الثمن الذى أخبره به البائع ، فإما أن يرضى بالثمن المسمى ، وإما أن يردّ السلعة ، ولا شىء على البائع سوى الإثم.

والوضيعة : هى أن يخبر البائع المشترى عن الثمن الذى اشترى به السلعة ، ثم يتفقان على البيع على أن يخفض له قدرا من الثمن الذى اشترى به البائع ، وذلك معنى الوضيعة : أنه يضع له الثمن ، أى يخفضه ويبيع له بأقل من رأس المال ، فإذا تبين للمشترى من بعد أن البائع كذب عليه ، وأنه اشترى بأقل من ذلك ، وباع له بأكثر منه ، فله أن يرجع فى البيع ويردّ له السلعة ويأخذ ماله ، أو يرضى بالأمر الواقع ، وفى هذه الحالة يأثم البائع الكذّاب.

وأما بيع المرابحة فهو عكس الوضيعة ، فيحدد البائع لنفسه ربحا معينا يضيفه الى رأس المال ويخبر به المشترى ، فإذا تبين للمشترى أن البائع كذب عليه ، وإن ربحه أكثر مما حدّده ، وأن الثمن الذى اشترى به أقل مما ذكر ، وذلك مؤثم كقوله تعالى : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) (١٦) (البقرة) ، فللمشترى الخيار ، فإما أن يعيد السلعة إليه ويتقاضى ما دفع ، وإما أن يرضى ، وإما أن يتفقا على أن يخفض البائع له الثمن ويكون ربحه على الحقيقة وليس كذبا.

وفى بيوع التولية والوضيعة والمرابحة لا بد أن يعلم المشترى الثمن الحقيقى الذى اشترى به البائع السلعة قبل أن يعرضها للبيع ، وما تكلّفه فيها ، ومقدار ربحه بعد إضافة التكاليف.

* * *

١١٤٨

٢٢٩٤ ـ السّلم هو الدين المؤجل

السّلم : قيل هو البيع المعلوم فى الذمة ، المحصور بالصفة ، بعين حاضرة أو ما هو فى حكمها ، الى أجل معلوم. وقيل : هو أن يسلّم عوضا حاضرا فى عوض موصوف فى الذمة الى أجل ، ويسمى سلما ، وسلفا ، وهو نوع من البيع ينعقد بما ينعقد به البيع ، وبلفظ السلّم أو السلف ، وشروطه هى شروط البيع. ومن شروطه أن يكون مؤجلا ، والأجل معلوما ، وأن يكون فيما ينضبط بالصفات التى يختلف الثمن باختلافها كالثمار مثلا ، وأما الجواهر فلا يصحّ فيها السّلم لأن صفاتها لا تنضبط ، وأن يكون الاختلاف فى الصفات ظاهرا ولا تستقصى كل الصفات ، وأن يكون المسلّم فيه مكيلا ، أو موزونا ، أو معدودا ، وأن يكون عام الوجود فى زمن حلوله ، وإذا لم يتواجد جاز فسخ عقد السّلم ، وإذا أفلس المسلّم إليه يحق للمسلّم أن يحصل على بضاعته المسلّمة.

* * *

٢٢٩٥ ـ الحوالة من العقود

الحوالة : مشتقة من التحويل ، كقوله تعالى : (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) (٤٣) (فاطر) ، و «التبديل» هو التغيير والتعويض فى الشيء ، و «التحويل» هو النقل من حال الى حال ، ومنه الحوال وهو التغير والانقلاب ؛ والحوالة : وهى نقل الدين وتحويله من ذمّة الغريم الى ذمّة المحال عليه ، ومنها حاليا «الحوالة المسطّرة» التى لا يقبضها إلا صاحب مصرف ؛ و «الحوالة المعتمدة» التى تحمل إمضاء صاحبها وتؤكد أن مئونتها المالية موجودة وتجمدها أيضا ؛ و «الحوالة لأمر» هى التى يمكن لحاملها أن يحوّلها لغيره ؛ و «الحوالة لمسمّى» هى التى لا يمكن تحويلها إلا بالتخلى عنها للمديون. وقيل : الحوالة فى الإسلام من البيوع ، فإن المحيل يشترى ما فى ذمته بماله فى ذمة المحال عليه ، والصحيح أنها عقد للإرفاق بالناس ، وتلزم بمجرد العقد ، ويعتبر فى صحتها رضا المحيل ، والثلاثة : الحوالة والمحيل والمحال عليه هم أطراف الحوالة ، وتصحّ بمال معلوم ، ودين مستقر ، ومن أحال رجلا فى دين على زيد ، فأحاله زيد به على عمرو ، فالحوالة صحيحة. وإذا كان لرجل على آخر دين ، فأذن لآخر فى قبضه ، ثم اختلف هو والمأذون له ، فقال : وكلتك فى قبض دينى ـ بلفظ التوكيل ، فقال : بل أحلتنى بدينى عليك بلفظ الحوالة ، أو كان الأمر بالعكس فقال : بل وكلتنى ، فإن كان لأحدهما بيّنة حكم بها. وتبرأ ذمة المحيل بصحة الحوالة متى رضى بها المحال عليه ولم يشترط اليسار.

* * *

٢٢٩٦ ـ الخيار فى العقود وحكم الأرش

الخيار فى اللغة : هو المفاضلة بين أمرين وانتقاء أحدهما ، ويقال : أنت بالخيار ، وأنت بالمختار : أى اختر ما شئت. والخيار ملك إمضاء العقد ، وأصله إفساح المجال

١١٤٩

للمتعاقد ليتروى ويتدبّر مدة الخيار ، ويفعل ما يراه خيرا له ، ويثبت باشتراط المتعاقدين وهو خيار الشرط ، وبحكم الشرع والقانون كخيار البيع. والخيارات فى مجال العقود كثيرة ومتنوعة ، ومنها : عقد الزواج ، ولا يقبل الخيار والإقالة ؛ والعارية : والعقد فيها جائز من غير خيار ولو اشترط اللزوم ؛ وعقد البيع : والأصل فيه اللزوم. وقيل فى عدد الخيارات أربعة عشر خيارا ، منها : خيار المجلس : فلكل واحد من المتبايعين فسخ البيع ما داما مجتمعين لم يتفرقا ، فإذا تفرّقا من غير فسخ ، لم يكن لأحدهما ردّ البيع إلا لعيب أو خيار ، والحديث المشهور : «البيعان بالخيار ما لم يفترقا» ، والحديث الآخر : «المؤمنون عند شروطهم» ، فلو اشترى رجل بيعا من رجل ، فهما بالخيار ما لم يفترقا ، فإن افترقا وجب البيع. وإن اشترطا ضمن العقد وفى المجلس أنه لا خيار لأحدهما فى ردّ البيع سقط الخيار. وفى «خيار الشرط» : يشترط أحد المتعاقدين أو كلاهما الخيار فى فسخ العقد أو إمضائه أمدا محددا يرفع الغرر ، ويبعد الاشتباه المفضى الى التنازع ، وإذا انقضت المدة ، ولم يردّ البائع الثمن يبطل الخيار ، ويصير المبيع ملكا للمشترى. وهناك «خيار الاشتراط» : والفرق بين الخيارين أن الشرط هو الخيار نفسه فى خيار الشرط ، وأما فى خيار الاشتراط فهو أن يشترط المشترى أو البائع أمرا معينا غير الخيار. و «خيار الغبن» : هو أن يشترى المشترى بأكثر من قيمة السوق ولا يعرف ، أو يبيع البائع بقيمة أقل عن جهل بالقيمة الحقيقية ، وعندئذ يكون لأى منهما أن يرجع فى البيع ، وأما إذا كانا عالمين بالزيادة أو النقص وأقدما على التعاقد فلا خيار لهما ، والدليل على ذلك قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) (٢٩) (النساء) ، وبديهى أن المغبون ـ أى المخدوع ، والغبن ـ هو الخداع ـ لو علم بالتفاوت الفاحش لم يرض بالتعامل ، وأكل ماله يكون حينئذ أكلا للمال بالباطل ، من قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) (١٨٨) (البقرة) ، وغبن المؤمن حرام ، والمسترسل ـ أى الذى يثق بك ـ لا ينبغى أن يغبنه مؤمن ، وغبنه سحت. و «خيار التأخير» : هو أن يكون للمشترى والبائع الخيار فى فسخ البيع ، إذا لم يسلم المشترى ما باعه ، أو لم يقبض البائع الثمن كاملا ولم يشترط التأجيل. ويقوم «خيار الرؤية» على مشاهدة المبيع ، ومطابقة أوصافه فى العقد مع أوصافه فى الواقع ، فإن لم يتطابقا فللمشترى الخيار ، فإن شاء أمضى البيع ، وإن شاء طلب فسخ العقد. وفى «خيار العيب» : فإن العيب المقصود به هو العيب الموجب للفسخ ، وإطلاق العقد يقتضى سلامة المبيع ، لأن الأصل فيه أن يكون سالما من العيوب ، وإن اشترط السلامة فى متن العقد فإن ذلك يكون توضيحا للمعنى الذى اقتضاه العقد لا تأسيسا بمعنى جديد ، وفى الحديث : «من غشّنا فليس منا» ، فلا يحلّ لمسلم أن يبيع مسلما سلعة وهو يعلم أن فيها عيبا قلّ أو كثر ،

١١٥٠

حتى يبيّن ذلك لمبتاعها ويقفه عليها ، وإذا علم المشترى بالعيب من بعد الخيار إليه ، إن شاء ردّ ، وإن شاء أخذ ، ويوجب ظهور العيب فى المبيع تسلّط المشترى وأخذ الأرش بلا خلاف ، وهو فى اللغة الدّية ، والمال المأخوذ عوضا عن نقص مضمون ماديا ، وتجوز المطالبة به لكل من تملّك عينا يعوض وثبت أنها كانت معيبة قبل القبض ، سواء كانت مهرا فى عقد زواج أو عوضا فى عقد الصلح أو عقد الإجارة ، ويسقط خيار العيب لمن علم بالعيب قبل التعاقد ، وإذا حدث عيب بعد استلام العين ثم تبين العيب فيها ، وأنه سابق على التسلّم ، ثبت الأرش دون الردّ ، ويسقط خيار العيب بكلا شقيه : الردّ والأرش ، بإسقاطه بعد العقد ، وباشتراط سقوطه فى متن العقد ، ومنه أن ينصّ فى العقد أن المشترى قد اشترى العين على الزيادة والنقصان. وكل مبيع يتلف قبل قبضه فهو من مال بائعه.

* * *

٢٢٩٧ ـ الصّرف

الصّرف بيع بنقد ، والصرافة حرفة الصرّاف ، والجمع صيارفة ، من صرف ردّ ودفع ، ومن ذلك تصريف الكلمات وهو تغيير صيغتها بإلحاق الجر والتنوين ، وتصريف الرياح تحويلها ، وكل ذلك بمعنى واحد ؛ وفى القرآن : (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (التوبة ١٢٧) بدّلها وغيرها ، والصّرف فى المصطلح : هو تغيير العملة بعملة مثلها وفى قيمتها ، وهو جائز شرعا ، ومن شرط المصارفة أن يكون العوضان معلومين ؛ ولا يجوز البيع الربوى فى الصرف ، ولا يصحّ بيع دين بدين ، وتصحّ المصارفة بالوديعة ، ولا بد من اعتبار سعر السوق عند قضاء الدين بنقد مغاير ، ويصحّ قضاء الدين المؤجّل بنقد آخر مع الالتزام بسعر السوق.

* * *

٢٢٩٨ ـ القرض

القرض ، بالفتح ، وبالكسر أيضا ، وهو ما تعطيه غيرك من المال بشرط أن يعيده لك بعد أجل معلوم ، وهو نوع من السلف ، ويجوز بالكتاب والسنّة والإجماع ، كقوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) (٢٤٥) (البقرة) ، كما فعل عثمان فى جيش العسرة الذى أعدّه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لغزوة تبوك ، وسمى بذلك لأن الناس كانوا فى عسرة من العيش والجدب والقيظ ، فجاء عثمان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بثلاثمائة بعير ، وبألف دينار ، فنثرها فى حجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يضر عثمان ما فعل بعدها»! والحديث كأنه مفصّل على ما لحق من أحداث في حياة عثمان

١١٥١

وتمييزه لأقاربه ، وكأنه يعفيه من ذنوب ذلك! ولما نزلت الآية تصدّق أبو الدحداح بماله ابتغاء ثواب ربّه.

والقرض فى الشرع : اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء ، من أقرض : أى أعطى المقترض ما يتجازاه ؛ ونقول : استقرضت من فلان ـ أى طلبت منه القرض فأقرضنى ، واقترضت منه أى أخذت منه قرضا. والقرض فى اللغة : البلاء الحسن. وأصل الكلمة : القطع ، ومنه المقراض ؛ وأقرضته : أى قطعت له من مالى قطعة ، والمراد بالآية : الحثّ على الصدقة ، وإنفاق المال على الفقراء والمحتاجين والتوسعة عليهم. وفى الخبر : «النفقة فى سبيل الله تضاعف الى سبعمائة ضعف وأكثر» ، كقوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٢٦١) (البقرة) ، وفى هذه الآية يجيء الثواب : (فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) ، يعنى أنه لا نهاية له ، وسمّته القرض الحسن ، لأن المحسن يقرض محتسبا ، طيّبة به نفسه ، لا يمنّ ، ولا يؤذى ، ولا يطلب فى قرضه عوضا. والمضاعفة للقرض من لدن الله ، أما قرض الآدمى للواحد فواحد ، أى يردّ عليه مثل ما أقرضه ، واشتراط الزيادة فى السلف ربا ، ولكن يجوز أن يردّ أفضل مما يستلف من باب المعروف ، كما فى الحديث : «إن خياركم أحسنكم قضاء» أخرجه البخارى ومسلم وغيرهما. ولا يجوز أن يهدى من استقرض هدية للمقرض ، ولا يحل للمؤمن قبولها ، فبهذا جاءت السنة ، وفى الحديث : «إذا أقرض أحدكم أخاه ، فأهدى له ، أو حمله على دابته ، فلا يقبلها ، ولا يركبها ، إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك» ، يعنى كان قد سبق له أن جامله ، كأن يكون قد ركب معه ، أو سبق له أن أهداه قبل القرض.

والقرض مندوب إليه فى حقّ المقرض ، ومباح للمقترض ، ولا إثم على من يسأل القرض فلم يقرض. ولا يصحّ القرض إلا من حائز التصرف ، وحكمه فى الإيجاب والقبول حكم البيع ، ويصحّ بلفظ السلف ، وبلفظ القرض ، أو بغير ذلك من الألفاظ مما يؤدى المعنى. ويجوز إقراض كل ما يثبت فى الذمة سلما (يعنى بالأجل) ، ويمكن تحديد مقداره. ويثبت ملك المقترض بمجرد قبض القرض ، وهو عقد لازم فى حق المقرض ، وجائز فى حق المقترض.

* * *

٢٢٩٩ ـ النسيئة والنقد

النسيئة والنسيء فى قوله تعالى : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ

١١٥٢

وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (٣٧) (التوبة) وكانوا فى الجاهلية يحرّمون القتال فى المحرّم ، فإذا احتاجوا الى ذلك حرّموا صفرا بدله وقاتلوا فى المحرّم ، فكانوا كذلك شهرا شهرا حتى استدار التحريم عن السنة كلها ، فالنسيئة والنسيء إذن هو التأخير ، مشتق من نسأه وأنسأه إذا أخّره ، فهو منسوء ، ثم يحول المنسوء إلى نسيء ونسيئة ، كما يحول مقتول الى قتيل وقتيلة ، ومنه أنسأ الله فى أجلك أى أخّره. والنسيئة عن البيع والشراء : هو أن تشترى الشيء بثمن مسمى وتؤجل الدفع ، وينص عليه صراحة فى العقد ، ويضبط الأجل بما لا يقبل الزيادة والنقصان ، ولا تحديد لطوله أو قصره ؛ ويجوز له التصرف فى المبيع قبل تسلمه. وقيل تأجيل الثمن لا يزيد على ثلاث سنوات ، لأن المال يذهب ويضيع بالتأجيل الطويل ، وأن من باع بثمن حالا ، وبأكثر مؤجلا بطل البيع ، وأن الدّين لا يباع نسيئا ولا يصحّ إلا نقدا ، ويسمون ذلك بيع الكالى بالكالى ومعناه ، لغة المراقبة ، لأن كلّا من الغريمين فى هذه الحالة يرتقب صاحبه من أجل دينه.

* * *

٢٣٠٠ ـ الدّين

آية الدّين فى القرآن هى الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢٨٢) (البقرة) ، ومدارها على الأمر بالإشهاد فى الدين المؤجل وهو السّلم. وحقيقة الدين : عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقدا ، والآخر فى الذمة نسيئة. و «الدين» عند العرب ما كان غائبا ، ونقيضه «العين» وهو ما كان حاضرا ، وبيّن ذلك قوله تعالى : (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ، فلا يجوز الدين إلى الأجل المجهول ، وفى السنّة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أسلف في تمر فليسلف فى كيل معلوم ، ووزن معلوم ، وإلى أجل معلوم» ، وفى حديث آخر قال : «بدنانير أو دراهم معلومة» ، فاشترط المعلومية فى كل شىء. والسلف يقال على القرض. وأمر الله تعالى بكتابة الدّين : (فَاكْتُبُوهُ) يعنى الدين والأجل ، وأمر بالإشهاد عليه ، لأن الكتابة بدون شهود لا تكون حجة ، إلا أن يأمن الدائن

١١٥٣

المدين ، كقوله تعالى : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) (البقرة ٢٨٣) ، والأمر بالكتابة ندب إلى حفظ الأموال ، وإزالة الريب ، فإذا كان الغريم تقيّا فما تضرّه الكتابة ، وإذا كان غير ذلك فالكتابة ثقاف فى دينه ، أى إثبات ، فيطمئن صاحب الحق ، وفى الأثر : إن أشهدت فحزم ، وإن ائتمنت ففي حلّ وسعة». ويشترط فى كاتب الدين أن يكون عدلا فلا يكتب ما فيه مصلحة لأحد الغريمين ، ولا يكون فى قلبه مودّة ، ولا فى قلمه موادّة لأحدهما على الآخر ، وأوجب الله تعالى الكتابة على من يعرف الكتابة إذا طلب منه الغريمان ذلك ، كما أوجب الشهادة على الشاهد. والناس يتعاملون ومنهم من يكتب ومن لا يكتب ، فأمر الله تعالى أن يكتب بينهم كاتب بالعدل حتى لا يشذ أحدهم عن المعاملة ، ولا يأبى الكاتب أن يكتب إذا طلب منه ذلك ، ولا يضار بكتابته ، وليفضل الكاتب كما أفضل الله عليه ، وليملل المديون مقرا بما عليه بلسانه ، فإن كان سفيها لا يدرى ، أو كبيرا أو ضعيفا لا يدرك ، أو لا يستطيع أن يمل لعجز بلسانه ، أو عدم دراية بالصيغة القانونية ، فليملل وليّه ـ وهو الذى يوكّله عنه وله خبرة أكثر بهذه المسائل ، ويشهد على صك الدّين شاهدان من الرجال ، أو رجل وامرأتان من عدول المسلمين ، ممن يرضى بهما الدائن والمدين. ولا يأبى الشاهد إذا دعى لتحصيل الشهادة ، ولا إذا دعى إلى أدائها. ولا يأبى الدائن أن يكتب الدين قليلا كان أو كثيرا ، فلا يمل كتابته ، فالكتابة أعدل عند الله ، وأصحّ وأحفظ ، وأدعى أنه لا يرتاب الدائن ولا المدين. ومن أحكام الإسلام فى الدّين أن قضاء دين الميت لا يجب على الولى ، وإنما يتعلق بالتركة ، كقوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) (النساء ١١) ، فإذا مات المدين أخرجت من تركته الحقوق المعينات ، ثم ما يلزم من تكفينه وتقبيره ، ثم الديون على مراتبها ، ويكون الباقى ميراثا للورثة. ويصير الدين المؤجل حالا بموت المدين ، لأن الميت لا ذمّة له ، والوارث غير مسئول ، ولا يؤاخذ الإنسان بموت غيره ، ولذلك يتعلق الدين بأعيان التركة بوفاة المدين ، وإذا مات الدائن ينتقل المال الذى اشتغلت به ذمة المدين إلى الورثة. ويجوز تقسيط الدين على أقساط ، تستوفى فى أوقات معينة ، وهو ما يسمى «التنجيم». ولا يسقط الدين بترك المطالبة به مهما طال الزمن ، لأنه متى ثبت بسبب شرعى لا يسقط إلا بمسقط شرعى ، ومرور الزمن ليس من الأسباب المسقطة فى الشريعة ، وإذا كان لأحدهم دين على آخر فيجحده ، ثم يظفر من ماله بقدر الذى جحد ، فإن الفقهاء يسمون هذا «مقاصة». وتحرم المماطلة بالوفاء مع القدرة ، كما تحرم مضايقة المدين مع الإعسار بقوله تعالى : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) (البقرة : ٢٨). وفى الحديث : «لىّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته» ، واللىّ المماطلة. وإذا لم تجز المماطلة مع العسر فبالأولى عدم جواز الحبس مع العسر ، ومن المشهور : المفلسون لا يحبسون». وعلى المدين أن يسعى فى قضاء ديونه

١١٥٤

كما عليه أن يسعى من أجل قوته. وفى الحديث : «من أقرض مؤمنا ينتظر به ميسرة كان ماله زكاة ، وكان هو فى صلاة الملائكة حتى يؤدى إليه» ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مكتوب على باب الجنة الصدقة بعشرة ، والقرض بثمانية عشر» ، وإنما صار القرض أفضل من الصدقة ، لأن المستقرض لا يستقرض إلا من حاجة ، بينما الصدقة قد تطلب من غير حاجة إليها.

* * *

٢٣٠١ ـ العارية من الأمانات

فى الحديث : «العارية مؤدّاة» ، والعارية أمانة ، والأمانات مؤدّاه بمقتضى الآية : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) (٥٨) (النساء.) والعارية لغة : من عار الشيء إذا ذهب وجاء ، واصطلاحا : هى إباحة الانتفاع بعين من الأعيان. ولأن العارية أمانة ، والأمانة إذا تلفت يلزم المؤتمن غرمها ، فكذلك العارية إذا تلفت من غير تعدّ ، لأنه لم يأخذها على الضمان ، فإذا تلفت بتعديه عليها لزمته قيمتها لجنايته عليها. وقيل العارية نوعان : مضمونة ، ومؤدّاه ، لسؤال صفوان للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا السؤال لمّا استعار منه الأدراع ، فقال له : «بل عارية مؤدّاة». والعارية مندوب إليها وليست بواجبة ، وتنعقد بكل لفظ وفعل يدل عليها. وكل عين يمكن أن ينتفع بها يباح إعارتها ، فإن استعار المستعير مالا لينفقه فهو قرض وليس عارية ، ولا تكون العارية فى المال ، ولا إعارة للزوجة ، ولا للبنت ، ولا تصحّ العارية إلا من جائز التصرّف. والمستعير لا يؤخّر ما استعار ، ولا ينتفع به فى غير الغرض الذى استعاره بسببه. وتجوز العارية مطلقة ومؤقتة ، وللمعير أن يرجع فى العارية فى أى وقت ، ويجب ردّها إن كانت باقية ، ويجب ضمان العارية إن تلفت سواء تعدّى فيها المستعير أو لم يتعدّ ، إلا لو شرط المستعير إسقاط الضمان ، أو أذن له المعير بالإتلاف ، وإن تلفت منها أجزاء مع الضمان وجب تكملة النقص. وفى الحدود لا تقطع يد جاحد العارية.

* * *

٢٣٠٢ ـ الوديعة من الأمانات

الوديعة : من ودع الشيء إذا تركه ، والوديعة هى المتروكة عند الوديع ، ويد الوديعة يد أمانة ، والوديع أمين ، والوديعة «أمانة» مردودة إلى أهلها بنصّ الآية : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) (٥٨) (النساء). وقبول الوديعة : مستحب لمن يعلم من نفسه الأمانة ، فإن أراد الوديع ردّها على صاحبها لزمه قبولها ؛ ولا يصحّ الإيداع إلا من جائز التصرّف ، فإن أودع طفل أو معتوه إنسانا وديعة ضمنها الوديع بقبضها. والوديع : هو المودع لديه الذى استودع المال. ولا يزول الضمان عن الوديع بردّ الوديعة إلى المودع الطفل ، ويزول بدفعها إلى وليّه الناظر فى ماله ، فإن كان الصبى مميزا صحّ إيداعه لما أذن له فى التصرف فيه. وإذا

١١٥٥

تلفت الوديعة بغير تفريط من الوديع فليس عليه ضمان ، سواء ذهب معها شىء من مال المستودع أو لم يذهب ، وفى رواية : إن ذهبت الوديعة من بين ماله غرمها. وإن تعدّى المستودع عليها ، أو فرّط فى حفظها فتلفت ، فإنه يضمنها. وإذا شرط ربّ الوديعة على المستودع ضمان الوديعة فقبله ، أو قال أنا ضامن لها ، فلا شىء عليه إن سرقت ، ما لم يكن متهاونا فى حفظها. وإذا ضمن الوديعة بالاستعمال ، ثم ردّها إلى صاحبها ، زال عنه الضمان ، فإن ردّها إليه صاحبها كانت بداية استئمان ، وإن لم يردّها إليه الوديع ولكن جدّد له صاحبها الاستئمان ، أو أبرأه من الضمان ، بري. وإذا أودعت وديعة عند وديع ، فأودعها عند غيره لغير عذر فعليه الضمان ، وإن أودعها لعذر كما لو كان مسافرا ، أو خاف من حريق أو سرقة ، وجب عليه ردّها إلى صاحبها ، فإن لم يكن متواجدا دفعها إلى وكيله ، أو أودعها خزينة المحكمة أمانة ، أو أحد البنوك ، وودائع البنوك مضمونة من البنك ، والبنك مضمون من البنك المركزى. وإذا كانت الوديعة بهيمة مثلا ، واضطر إلى الإنفاق عليها ، فله الحق أن يطالبه بنفقاتها ، وإن اختلفا فالقول فى مقدار النفقة للوديع بالمعروف ، وإن ادّعى أكثر لم يثبت له. وإذا أودع وديعة بنكا من البنوك وجعله وكيله أثناء سفره ، فنقلها من البنك إلى غيره ، فإنه يضمنها. وتردّ الوديعة فى كل الأحوال عند طلبها وبدون ضرر. وجحد الوديعة خيانة للأمانة وإنكار للحق ، فإن لم تكن هناك كتابة ولا شهود يلزم المنكر الحلف ، ولا تثبت الوديعة إلا بإقرار الوديع أو ورثته ، أو ببيّنة تشهد بها. وإذا مات الوديع وعنده وديعة لا تتميز عن ماله ، فهى دين عليه يغرم من تركته ، وإن كان عليه دين سواها فهى والدين سواء ، والوصية واجبة على من عنده وديعة ، وعلى الورثة إعلام صاحبها بموت الوديع ، وليس عليهم إمساكها عنه.

* * *

٢٣٠٣ ـ اللقطة واللقيط

يقال لقط الشيء : بمعنى أخذه من الأرض بلا تعب ؛ والتقط الشيء : عثر عليه من غير قصد ولا طلب ؛ واللاقط : هو الذى يلقط أو يلتقط ، والمؤنثة اللاقطة ، وفى الأمثال : لكل ساقطة لاقطة : أى لكل كلمة سقطت من فم الناطق نفس تسمعها فتلتقطها فتذيعها ؛ واللّقطة واللّقطة (بسكون القاف أو فتحها) ما تجده ملقى فتلتقطه ، أو هو الشيء المتروك لا يعرف له مالك. وفى القرآن : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (٨) (القصص) ، إشارة إلى عثور آل فرعون على موسى طفلا لقطة ، وكان يوسف كذلك لقطة كما فى قوله تعالى : (وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) (١٠) (يوسف). والملقوط إما آدمى ـ كموسى ويوسف ، وإما حيوان ، وإما مال. والآدمى يسمى لقيطا : وهو الذى نبذه أهله

١١٥٦

ورموه وأعرضوا عنه لسبب من الأسباب ، ولذا سمّى منبوذا. وأما الطفل «الضائع» الذى فقده أهله ولم ينبذوه ، فليس لقيطا ، ويسلّم إليهم فى حال العثور عليه. واللقيط هو من اجتمع فيه النبذ وعدم الكافل ، وأن يكون غير مميّز ، لأن الصبى المميّز لا يسمى لقيطا فى نظر العرف ، لأنه غنىّ عن الحضانة والتعهّد ، ولأن الالتقاط يقتضى الولاية الشرعية للملتقط على اللقيط فى الحفظ والتربية ، والأصل عدم ولاية إنسان على إنسان ، فإن كان الطفل مميزا وغير مجنون لم تجب لأحد الولاية عليه ، وإنما تنبغى الولاية فى حالة الطفل الضائع ، ويقتضى الأمر ، من باب الحسبة ، أن يبلغه مأمنه من يجده ، وذلك شىء آخر عن الالتقاط ؛ وإجمالا تتبع أحكام اللقيط صدق هذا الاسم ، لأن الأحكام تتبع الأسماء ، وليس كل ضائع ، ولا كل من احتاج أن يدله آخرون ، يقال له لقيط ، ولا يصدق ذلك إلا على الطفل غير المميّز الذى نبذه أهله ولا يعلم لهم مكان.

والتقاط الطفل المنبوذ واجب على الكفاية ، وإن تركه الجماعة أثموا ، وإذا كان الملتقط أمينا أقرّ اللقيط فى يده ، وفى كل الأحوال يجب إبلاغ الشرطة وتحرير محضر بذلك ، ويصحّ للشرطة أن تدفعه إلى آخر ، أو إلى جمعية خيرية أولى منه ، وليس لكافر التقاط مسلم ، وإن وجد مع اللقيط مال فهو له ، وينفق عليه منه ، وتلزم الدولة بالإنفاق عليه إن تعذّر ذلك على الملتقط ، أو تجب نفقته فرض كفاية على المسلمين. ولقيط دار الإسلام مسلم ، ولا توارث بينه وبين الملتقط ، وإن ترك ميراثا فهو لبيت المال. وإن ادّعى نسب اللقيط واحد ينفرد بدعواه ، فإن كان مسلما لحق نسبه به إذا أمكن أن يكون منه ، وفى هذه الحالة يتوارثان ، وإن كان المقرّ به هو نفسه ملتقطة ، أقرّ فى يديه ، ولا حقّ للذمّى فى حضانته ، وتقبل دعوى المرأة بنسبه بإقرار زوجها أو إخوتها ، وإن ادّعته امرأتان فهو لمن كانت لها البيّنة ، وإن ادّعاه رجل وامرأة فهو لهما ويلحق بهما ويكون ابنهما بمجرد دعواهما ، وإذا جنى اللقيط جناية فحكمه حكم غير اللقيط ، فإن كانت توجب القصاص وهو بالغ عاقل ، اقتصّ منه ، وإن كانت موجبة للمال ، وله مال ، استوفى منه ، وإلا كانت فى ذمته حتى يوسر. وإن جنى أحد على اللقيط فى النفس جناية توجب الدية فهى للدولة ، وإن كانت الجناية عمدا فللقاضى أن يستوفى القصاص أو يعفو على المال أيهما أحسن للقيط. وإن كانت الجناية عليه دون النفس وبما يوجب الأرش ، قبل بلوغه ، فلوليه أخذ الأرش.

وأما لقطة الحيوان فجائزة على كراهية ، والحيوان الضائع يسمى ضالة ، وفى الحديث : «لا يأوى الضالة إلا الضال» ، وترتفع الكراهة إذا كانت الضالة فى معرض الهلاك ، فيكون التقاطها أفضل من تركها ، فإن كانت مما لا يخشى هلاكه لم يحلّ أخذها ، وإن أخذها فليسلمها للشرطة ، وقد تبقيها الشرطة فى يده أمانة ، والشرطة نائب الغائب

١١٥٧

صاحبها ، وهى المنصوبة لحفظ مصالح الناس ، فإن حفظها للمالك ثم تلفت دون تعدّ أو تفريط فلا ضمان عليه ، لأنه أمين محسن. وقد روى عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا سئل عن الرجل أصاب شاة فى الصحراء ، هل تحلّ له؟ فقال : «هى لك ، أو لأخيك ، أو للذئب ، فخذها وعرّفها حيث أصبتها ، فإن عرفت فردّها إلى صاحبها ، وإن لم تعرف فكلها وأنت ضامن لها إن جاء صاحبها يطلب ثمنها أن تردّها عليه» ، يعنى أن الملتقط عليه قبل أن يتصرّف فيها أن يعى أوصافها جيدا ويعرّضها ، حتى إذا جاء صاحبها وأقام البيّنة على ملكيته وفقا للأوصاف دفع إليه قيمتها. ولا يشترط فى ملتقط الضالة شروط كملتقط اللقيط ، لأن الالتقاط فى اللقيط يوجب نوعا من الولاية على اللقيط ، وبديهى أن فاقد الأهلية يحتاج إلى من يتولى أمره ، وأما من يلتقط الحيوان فلا يشترط فيه شىء من ذلك ، فالتقاطه اكتساب للمال ، ويصحّ من العاقل والمجنون ، والكبير والصغير ، والرشيد والسفيه ، والمسلم وغير المسلم ، ولذا قيل فى لقطة الحيوان : لا يشترط فى الآخذ إلا الأخذ ـ أى لا يشترط فيه إلا أن يلتقط. وفى كل الأحوال لا يجوز التقاط الحيوان فى العمران ، وليس من اللقطة الطيور والدواجن كالدجاج والحمام ، وعلى الملتقط أن يبحث عن المالك المجهول ، فإن لم يجده تصدّق بها أو بثمنها عن المالك. وقيل يجوز التقاط الحيوان من العمران ، وعلى الملتقط احتباسه ثلاثة أيام ، ويسأل عن صاحبه ، فإن لم يجده باعه وتصدّق بثمنه.

ولقطة المال : هى كل مال ضائع ولا يد لأحد عليه ، والفرق بين المال اللقطة ، والمال مجهول المالك ، أن اسم الضياع ينطبق على المال الأول ، وأمّا المال المجهول المالك كأن يجلس أمامك إنسان وينسى حافظته ، فأنت تعرف صاحبها ، وهذا إذن ليس مالا ضائعا. والمال فى مكة لا يحل للقطة ، ويباح أن تأخذه لتسلمه للشرطة أو لتبحث عن صاحبه ، أو قد تبقيه فى يدك أمانة فى حرز أمثالها ، كالوديعة ، أو قد يتصدّق به عن المالك ، فإن حضر المالك كان عليه أن يدفع عوضه من المثل أو القيمة. وقيل يعرّفه حولا وإلا تصدّق به. وإذا التقط الملتقط ما يسرع إليه الفساد كاللحم والفاكهة ، فله أن يتملكه بقيمته ويأكله ، أو يبيعه ويحفظ ثمنه أمانة شرعية لصاحبه. ولا يشترط فى ملتقط المال العقل ، ولا البلوغ ، ولا الرشد ، ولا الإسلام ، لأن التقاط المال مجرد اكتساب. وأما الكنز بلا صاحب من أهل هذا الزمان ، وفى المكان الخرب ، أو الأرض تملكها الدولة ، فهو للدولة يجرى عليه حكم اللقطة. ومن اشترى سمكة فوجد فى جوفها لؤلؤة فهى له بالحيازة. وفى الحديث أن اللقطة من المال : «إن جاء ناعتها فعرف عقاصها ـ أى الخيط الذى ربطت به ـ وعددها ، فادفعها إليه» ، وإذا مات الملتقط قام ورثته مقامه ، وعرّفوا باللقطة ، ويجوز لهم أن يتملكوها بشرط ضمان المالك إن وجد.

* * *

١١٥٨

٢٣٠٤ ـ القسمة

القسمة اسم من الاقتسام وهو النصيب ؛ وفى الشرع هى تمييز الأنصبة ، وليست بيعا ولا صلحا ، ويجب فيها أن يكون كل نصيب بقدر الآخر دون زيادة أو نقصان. والقسمة فى القرآن كقوله تعالى : (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) (٨) (القمر) وكانت بين قوم ثمود والناقة ، فكان لهم يوم وللناقة يوم ، وعن ذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيها الناس لا تسألوا فى هذه الآيات ، هؤلاء قوم صالح سألوا نبيّهم أن يبعث الله لهم ناقة فبعث الله عزوجل إليهم الناقة ، فكانت ترد من ذلك الفجّ فتشرب ماءهم يوم وردها ، ويحلبون منها مثل الذى كانوا يشربون يوم غبّها. (والغبّ هو أن تأتيهم يوما وتغيب عنهم يوما). والقسمة فى الميراث ، كقوله تعالى : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (٨) (النساء). والقسمة الضّيزى فى قوله تعالى : (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) (٢٢) (النجم) هى الجائرة عن العدل ، ويقال ضاز فى الحكم أى جار. والقسمة فى الرحمة والرزق ، كقوله تعالى : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) (٣٢) (الزخرف) يعنى أنه مايز بين الناس ليكون بعضهم سببا لمعاش بعض. والنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قسم خيبر. والمسلمون أجمعوا على جواز القسمة ، وهى على ضربين : قسمة إجبار وقسمة تراض. فأمّا قسمة الإجبار : كأن يطلب أحد الشركاء التخارج عن الشركة ، فيرفض الثانى ، فإن كانت القسمة سهلة ميسرة بينهما ويمكن فيها تعديل السهام من غير ضمّ شىء آخر مع بعضها ، يجبر الممتنع عن القسمة ، وتقسّم الشركة ليعطى كل ذى حقّ حقّه متى طلبه ، ولا يجوز منعه عنه. وأمّا قسمة التراضى : فهى التى لا يمكن تعديل السهام فيها إلا بأن يجعل مع بعضها عوض مالى ، فهذه لا إجبار فيها ، وكذلك سائر ما لا تجب قسمته ، وما يدخل الضرر على الشركاء بقسمته ، وأشباه ذلك. فإذا تمت القرعة فى قسمة التراضى فإنها تلزم كقسمة الإجبار ، وقيل : لا تلزم لأنها بيع طالما فيها عوض مالى ، وليست القرعة فى هذه الحالة إلا لتعريف البائع من المشترى. ولو تراضى الشركاء أن يأخذ كل واحد منهم من السهام بغير قرعة ، جاز ؛ ولو خيّر أحدهم أصحابه فاختاروا ، جاز أيضا ، فإذا كان بينهم أرض ، واتفقوا على أن يكون بعضها فى يد أحدهم ، والبعض الباقى فى يد الآخر ، أو أن يستثمر كل منهما العين كاملة لمدة سنة بالتناوب ، فتسمى هذه «قسمة بالمهاياة» ، أى بالموافقة ، وإذا طلبها أحد الشريكين وامتنع الآخر فلا يجبر الممتنع ، لأنها بمنزلة المعاوضة التى يعتبر فيها التراضى. وتلزم القسمة ولا يجوز العدول فيها إذا اقتسم الشركاء فيما بينهم من غير قاسم ولا قرعة ، فيرضى كل منهم بقسم معين يلزم به ، ولا يجوز له العدول بعد الرضا. وكذلك إذا اختار الشركاء قاسما يميز الحصص ، وأجروا

١١٥٩

القرعة برضا الجميع ، فإذا رفعوا الأمر إلى القضاء فعيّن لهم قاسما ، فيجب العمل بقوله بمجرد خروج القرعة ولا يشترط رضا الشركاء بالقسمة ، لا قبل القرعة ولا بعدها.

والقسمة على قدر الملك ، فإذا بيع الملك المشترك قسّم الثمن على قدر ملكهم فيه. والحكم فى المياه المشتركة كالحكم فى الحائط المشترك ، وتكون الأولوية فى الرى لمن هو فى أول الترعة ثم الذى يليه وهكذا ، وإن كان مصدر الماء لجماعة ، فالماء بينهم بحسب النفقة والعمل ، ولا يتصرف أحدهم فى نصيبه إلا بإذن الشركاء. وفى الشركة الفاسدة يقسّم الشركاء الربح على قدر أموالهم ، أو يقتسمون الربح على ما اشترطوا. وللأب والوصى قسمة مال الصغير مع شركائه ، ويجوز لهم قسمة التراضى. ويجوز للمشتركين أن يقتسموا بأنفسهم ، ولكل منهم كافة الحقوق الارتفاقية فيما آل إليه من القسمة. وإذا ادّعى أحد المتقاسمين أنه أعطى دون حقه فلا تقبل دعواه إلا ببيّنة ، إلا أن تكون القسمة بالتراضى فلا تسمع دعواه. وإن ظهر فى نصيب أحد المقتسمين عيب فى نصيبه لم يعلمه قبل القسمة ، فله فسخ القسمة أو الرجوع بأرش (تعويض) العيب. وإن ظهر حق للغير فى نصيب أحد المقتسمين بطلت القسمة. وإن قسّم مال المفلس بين غرمائه ، ثم ظهر غريم آخر رجع على الغرماء بقسطه. وتقسّم التركات على مصحّ المسألة ، فما خرج فهو حصة السهم من التركة ، فيضرب فى سهام كل وارث. وإذا بان للغير حق على التركة بعد اقتسامها ، يقسّم الدين عليهم بحسب أسهمهم ، فإن أجاب أحدهم لوفاء نصيبه من الدين وامتنع الآخرون ، بيعت أنصبة الممتنعين وحدهم ، وبقى نصيب المجيب بحاله ، وإذا كانت هناك وصية لم يعلم بها ثم ظهرت بعد القسمة ، فحكمها حكم الدين.

* * *

٢٣٠٥ ـ القسم

القسم هو اليمين ، كقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) (٧٦) (الواقعة) ، وقوله : (هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) (٥) (الفجر) والقسامة هى الأيمان تقسم على أولياء القتيل إذا ادّعوا الدم ، ويقال : حكم القاضى بالقسامة ـ أى بالأيمان ، وهو اسم من أقسم ، وضع موضع المصدر ، كقوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) (١٠٩) (الأنعام) ، أى حلفوا به ، ومثل ذلك التقاسم بالله ، كقوله : (قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) (٤٩) (النمل) ، أى التحالف به. والاستقسام به هو طلب الحلف به ، كقوله تعالى : (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) (٣) (المائدة) وهى أقداح الميسر يستقسمونها ، أى يسألونها النصيب والرزق ، كحال المنجّمين الذين يقرءون الطالع والكف والفنجان ويضربون الرمل والودع ، وكل ذلك ضرب من التكهن والتعرّض لدعوى علم الغيب. (انظر اليمين).

* * *

١١٦٠