موسوعة القرآن العظيم - ج ٢

دكتور عبد المنعم الحفني

موسوعة القرآن العظيم - ج ٢

المؤلف:

دكتور عبد المنعم الحفني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
ISBN: 977-208-422-2
الصفحات: ١٢٤٤
الجزء ١ الجزء ٢

تنقص حسناتى يوم القيامة! ولقد سمعت الله يقول فى أقوام : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) (٢٠) (الأحقاف)». وفى الرواية أن جابرا اشترى لحما لأهله اشتهوه ، فمر بعمر ، فسأله عمّا بيده ، فأخبره ، فقال : «أو كلما اشتهى أحدكم شيئا جعله فى بطنه! أما يخشى أن يكون من أهل هذه الآية : «أذهبتم طيباتكم»؟ ـ فهذا مثال مما ينبغى أن يكون عليه السلوك المسلم القويم ، ويسمون ذلك بلغة العصر «السلوك الاشتراكى» ، وأهل الحكمة يقولون إنه مقتضى الحكمة للحاكم والمحكوم ، فالناس سواء ، والثروة الاجتماعية لا بد أن توزّع بالعدل ، ولم تكن الثورات والقلاقل فى المجتمعات إلا بسبب سوء توزيع الثروة. وبلغة العلم : فإن الغنى إذا اعتاد البذخ ، استحال أن يمنع عنه ، والذى يضبط سلوك الأفراد والمجتمعات هو القاعدة الإسلامية أو الاشتراكية : على المرء أن يأكل ويلبس وينفق ويعيش ما وجد طيّبا من طعام أو شراب ، فإن لم يجد فعليه الزهد والتقشف ، ولا يتكلّف الطيّب ـ أى المترف ـ فيصبح عنده عادة. وقد كان النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشبع إذا وجد ، ويصبر إذا عدم ، ويأكل الحلوى إذا قدر عليها ، ويشرب العسل إذا اتفق له ، ويأكل اللحم إذا تيسر ، والبصير من تحكّم فى نفسه ولا تتحكم فيه شهواته ، والفارق بين الاشتراكية العلمية وبين اشتراكية الإسلام : أن الأولى غير إيمانية ولا تحفل بالإنسان ، واشتراكية الإسلام إيمانية وإنسانية أولا ، وفردية وجماعية ثانيا ، ولنا فى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسوة ، وفى الصحابة قدوة. واليوم غلب الحرام فى اقتصاد الخصخصة ، وتمر بلادنا التى تذهب مذهب الخصخصة وتتابع أمريكا وسياسة العولمة ، وتطبّق الانفتاح الليبرالى ، وفصل الدين عن الدولة ، بأسوإ فترات تاريخها ، حتى أن الفساد عمّ وطمّ ، وبات الخلاص عسيرا ، ولم يعد ثم منجاة لأحد إلا من رحم ربّك!

* * *

٢٢١٣ ـ الصدقة والزكاة

لفظ الصدقة يعمّ الفرض والنفل ، كقوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ) (التوبة ١٠٣) ؛ والزكاة كذلك تعمّ الفرض والنفل ، لكن الزكاة لا تطلق غالبا إلا على الفرض دون التطوع ، فهى أخصّ من الصدقة من هذا الوجه ، كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) (٤) (المؤمنون) ، وقوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) (٨٣) (البقرة). ولفظ الصدقة من حيث الإطلاق على الفرض مرادف للزكاة ، والأحاديث كثيرة وفيها لفظ الصدقة على الفرض ، كقوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) (٦٠) (التوبة) والأغلب التفرقة.

* * *

٢٢١٤ ـ آية الصدقة

هى الآية : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ

١١٠١

وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١٠٣) (التوبة) ، قيل : هى صدقة الفرض ، وقيل : صدقة التطوع ، لأن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ منهم ثلث أموالهم وليست هذه هى الزكاة المفروضة ، وفى التطوع للمرء أن يتصدّق بثلث ماله لو أراد. والمال الذى يستوجب الصّدقة هو كل ما تموّل وتملّك ، لقوله فى الحديث : «يقول ابن آدم مالى مالى ، وإنما له من ماله ما أكل فأفنى ، أو لبس فأبلى ، أو تصدّق فأمضى» أخرجه مسلم. ولا تبيّن الآية مقدار المأخوذ ، ولا المأخوذ منه ، وبيان ذلك فى السنّة والإجماع. وأما الزكاة فتؤخذ من جميع الأموال ، وأوجبها النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى المواشى والحبوب والعين وهو ما كان معروفا فى زمانه ، وهى الآن تجب فى كل شىء مما يكون مالا أو يقيّم بالمال. والصدقة مأخوذة من الصدق ، مثلما الزكاة مأخوذة من التزكية أى التطهّر ، ومعنى ذلك أن الصدقة دليل صدق إيمان المتصدّق ، وأن الزكاة هى المطهّرة لنفسه وماله. وكل إمام ، أو حاكم ، وجامع لزكاة ، أو صدقات ، يمكنه أن يدعو للمتصدّق بالبركة ، لقوله : «وصلّ عليهم» ، والصلاة على المتصدّق أصل فى أخذ الصدقة أو الزكاة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال : «اللهم صلّ عليهم» ، وأتاه ابن أبى أوفى بصدقته فقال : «اللهم صلّ على آل ابن أوفى» أخرجه مسلم. والصلاة على المتصدّق تسكّن قلبه. والصلاة هى الرحمة والترحّم ، وهى فى كلام العرب الدعاء. ولما نزلت آية الصدقة لم يكن المسلمون يجدون ما يتصدّقون به ، فكانوا يمتهنون مهنا يتكسّبون منها ليتصدّقوا ، وكانوا ينطلقون إلى الأسواق يحاملون ـ أى يتكلفون الحمل بالأجرة ـ فكان الفتى يأتى إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويتصدّق بالكثير فيقولون فيه : مرائى ، ويأتى الفقير فيتصدّق بصاع فيقولون : إن الله لغنىّ عن الصاع هذا ، فنزلت : (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٧٩) (التوبة).

* * *

٢٢١٥ ـ الصدقات على وفق الشرع تزكو

الصدقات لله طلبا لمرضاته : (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ) (٢٦٥) (البقرة) ، وقوله : «وتثبيتا» أن المتصدّقين يتثبّتون أين يضعون صدقاتهم؟ فكانوا إذا همّوا بالصدقات تثبّتوا ، فإن أيقنوا أمضوها ، وإن خالطهم شك أمسكوا. والآية تشبّه نمو نفقات المخلص الذى يربّى الله له صدقاته ، بنمو نبات الجنة بالربوة ، بخلاف الصفوان الذى انكشف عنه التراب فبقى صلدا فشبّه به إنفاق المرائى. والصدقة فيما يستطاع.

* * *

١١٠٢

٢٢١٦ ـ شرط الصدقة الكسب الطيب

لقوله تعالى : (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) (١٨) (الحديد) ، والقرض لا يكون حسنا إلا لأنه من كسب طيب ، وكان مصرفه فى الوجوه الطيبة ، وكل ما فى القرآن من «قرض حسن» فهو صدقة التطوع والنفقة فى سبيل الله ، وفى الحديث : «من تصدّق بعدل تمرة من كسب طيب ـ ولا يقبل الله إلا الطيب ـ فإن الله يتقبّلها بيمينه ، ثم يربّيها لصاحبها كما يربّى أحدكم فلوّه حتى تكون مثل الجبل» ، والفلو هو المهر ، أو كل فطيم من ذات حافر ، وضرب به المثل لأنه بالتربية يزيد بسرعة ، ولأن الصدقة نتاج العمل ، وأحوج ما يكون إلى التربية إذا كان فطيما ، فإذا أحسنّا العناية به انتهى إلى حدّ الكمال ، وكذلك الصدقة إذا كانت من كسب طيب ، لا يزال الله راضيا عنها يضاعفها إلى الحدّ الذى تصبح بالمقارنة كالتمرة إلى الجبل ، كقوله : (وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) (٢٧٦) (البقرة).

* * *

٢٢١٧ ـ الصدقة الواجبة وصدقة التطوّع

الصدقة : تمليك للمحتاج فى الحياة بغير عوض على وجه القربة إلى الله ، كقوله تعالى : (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) (١٩٦) (البقرة) ؛ وأمّا إن كانت قربة إلى إنسان فهى هدية ؛ و «الصدقة الواجبة» : هى التى تؤخذ من مال المسلم ، لا على وجه القربة ، وإنما تطهيرا للمال ، كقوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) (١٠٣) (التوبة) وتخصّ باسم الزكاة. وأما «صدقة التطوع» : فالأمر فيها اختيارى ، وتستحب فى جميع الأوقات وليس كالزكاة فى آخر كل عام ؛ و «صدقة السرّ» أفضل من صدقة العلانية ، لقوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) (٢٧١) (البقرة) ؛ ويستحب الإكثار من «صدقة السرّ» وقت الحاجة ، وخاصة على ذى القرابة ، وعلى من اشتدت حاجته. والأولى أن تكون الصدقة من «الفاضل» عن كفاية المتصدّق ومن يعولهم ، فإن تصدّق بما ينقص من كفاية من تلزمه نفقتهم ولا كسب لهم ، أثم ؛ وإن لم يكن له من يعولهم وأراد التصدّق بكل ماله ، واثقا من صبره على نفسه ، ومن توكله وتعففه ، فله ذلك ، وإلّا فهو مكروه ؛ ومن نذر التصدّق بماله كله أجزأه الثلث. ويجوز للمرأة أن تتصدّق من مال زوجها بالشىء اليسير دون إذنه ، ويجوز ذلك بكل من يعولهم. وإذا دفع الزوج لزوجته نفقتها ، فلها أن تتصرف فيها بما أحبّت من الصدقة ، ما لم يعد ذلك عليها بالضرر ؛ وإن دفع إليها كسوتها ، فلها كذلك أن تتصدّق بها. ولا تحلّ الصدقة على النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآله. ويجوز دفع صدقة التطوع لكل من تحرم عليه صدقة الفرض ؛ ولا يجوز دفع الصدقة الواجبة لغير المسلم ، وأما صدقة التطوع فتجوز. ولا يجبر

١١٠٣

المفلس على قبول الصدقة. وكل ما له فيه شبهة وجب التصدّق به. وإذا لم يطلب الرهون أصحابها ، وما من سبيل إلى معرفتهم ، فالأولى أن تباع ويتصدق بثمنها. والمتصدّق فى كل الأحوال لا يجوز له الرجوع فى الصدقة.

* * *

٢٢١٨ ـ لا صدقة من غلول

الغلول هو الخيانة ، وفى قوله تعالى : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١٦١) (آل عمران) ، ويغل : يعنى يخون ويختلس ويأخذ الشيء فى الخفاء ، فمن الخيانة يقال أغلّ يغلّ ، ومن الحقد يقال غلّ يغلّ. وفى الحديث : «لا إغلال ولا إسلال» ، أى لا خيانة ولا سرقة ، والآية فى النهى عن الغلول ، وفى الحديث : «لا يقبل الله صلاة إلا بطهور ، ولا صدقة من غلول» ، ولا يقبل الله الصدقة بالحرام ، لأن الحرام غير مملوك للمتصدّق.

* * *

٢٢١٩ ـ المبادرة بالصدقة قبل أن يأتى الموت

فى الوصايا لمّا سئل النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أى الصدقة أفضل؟ قال : «أن تصدّق وأنت صحيح شحيح ، تخشى الفقر وتأمل الغنى ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت : لفلان كذا ولفلان كذا ، وقد كان لفلان ...». وتمهل يعنى تتريث. وفى القرآن : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) (١٠) (المنافقون) ، وفى ذلك تحذير من التسويف بالإنفاق استبعادا لحلول الأجل ، واشتغالا بطول الأمل ، وفيه ترغيب فى المبادرة بالصدقة قبل هجوم المنية وفوات الأمنية. وفى الحديث : «وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى ، وابدأ بمن تعول». والدّين أحقّ أن يقضى من الصدقة ، وليس للمتصدّق أن يتصدّق بكل ماله فيضيّع أموال الناس بعلّة الصدقة ، وفى الحديث : «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك».

* * *

٢٢٢٠ ـ فمن لم يجد الصدقة؟

فى القرآن : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) (٢٦٧) (البقرة) ، فإن لم يجد المسلم ما يكسب ولا ما يتصدّق به ، فعليه بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «على كل مسلم صدقة» ، فسألوه : «فمن لم يجد؟ قال : «يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدّق» ، قالوا : فإن لم يجد؟ قال : «يعين ذا الحاجة الملهوف» ، قالوا : فإن لم يجد؟ قال : «فليعمل بالمعروف ، وليمسك عن الشرّ ، فإنها له صدقة». والحديث فيه : أن الصدقة أعمّ من إنفاق المال ، ولو بإغاثة الملهوف ، والأمر بالمعروف ؛ والإمساك عن الشرّ ـ وهو من الخير ، فإن كان شرّه لا يتعدّى نفسه فقد تصدّق

١١٠٤

على نفسه بمنعها من الإثم. وأعمال الخير تنزل منزل الصدقات فى الأجر ، والشفقة على خلق الله ـ وهى مقصود الصدقة ـ تكون إما بالمال أو بغيره ، والمال إما حاصل أو مكتسب ، وغير المال إما فعل كالإغاثة ، وإما ترك وهو الإمساك. فإذا عجز المرء عن التصدّق بالمال ندب إلى ما يقوم مقامه وهو الإغاثة ، وعند عدم ذلك ندب إلى فعل المعروف كإماطة الأذى ، وعند عدم ذلك ندب إلى الصلاة ، فإن لم يطق فترك الشرّ وذلك آخر المراتب.

* * *

٢٢٢١ ـ الوقف صدقة

الوقف : معناه تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة ، وصيغته أن يقول الواقف : «وقفت كذا صدقة موقوفة ، أو محبوسة أو مسبّلة ، أو محرّمة ، أو مؤبّدة» ، أو يقول : «وقفت كذا صدقة لا تباع ، ولا توهب ، ولا تورث». وشرط الوقف : النية ، ويحصل بالفعل مع القرائن الدالة عليه ، مثل أن يبنى مسجدا ويأذن للناس بالصلاة فيه. ويجوز وقف ما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه كالعقار ، وأما ما لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه كالمال السائل فلا يصحّ وقفه ، وكذلك ما يسرع الفساد إليه. وفى الوقت الصحيح تنتقل منافعه للموقوف عليه ، ويزول عن الواقف ملكه وملك منافعه ، ويصحّ أن يشترط فيه أن ينفق منه على نفسه مدة أو مدى الحياة ، وأن ينفق منه على أهله فينتقل منه عند الموت إلى ورثته. ويصحّ أن يقف لورثته ، كولده وأقاربه ، أو على جهة البرّ لبناء المساجد والقناطر وكتب العلم. ويصحّ الوقف على أهل الذّمة ، وإذا وقف الواقف على أولاده ثم أولادهم وعقبهم ونسلهم ، كان الوقف بينهم ، وإن خصّ بعضهم دون بعض كان الوقف كمقتضى لفظه ، وإن كثروا كثرة تخرج على الحصر ، يعمم الوقف عليهم ما أمكن ذلك ويسوّى بينهم. و «الوقف فى مرض الموت» كالوصية فى اعتباره من الثلث ، وإذا خرج عن الثلث جاز من غير رضا الورثة ولزم فى الوقت إلى أقارب الواقف ، أو بيت المال. وإن حصل للموقوف عليهم نصاب ففيه الزكاة. و «ناظر الوقف» يسميه الواقف ، ثم وزارة الأوقاف من بعده ، وتكون نفقة الوقف من الجهة التى عيّنها الواقف.

* * *

٢٢٢٢ ـ المنفق له الخلف

المنفق ينفق مما عنده ، و «الإنفاق الممدوح» ما كان فى الطاعات ، وعلى العيال ، والضيفان ، والتطوّعات ، والواجبات ، والمندوبات ، كقوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى

١١٠٥

(٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) (١٠) (الليل) ، والحسنى هى الخلف من الله على عطائه ؛ والعسرى هى التلف ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم أعط منفقا خلفا ، وأعط ممسكا تلفا» ، وقوله : «مثل البخيل والمتصدّق كمثل رجلين عليهما جبّتان من حديد ، فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت ـ أى وفرت ـ على جلده حتى تخفى بنانه وتعفو أثره ، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئا إلا لزقت كل حلقة مكانها ، فهو يوسّعها ولا تتسع» ، والمراد أن الجواد إذا همّ بالصدقة انفسح لها صدره ، وطابت نفسه ، فتوسّعت فى الإنفاق ؛ والبخيل إذا حثّ نفسه بالصدقة شحّت فضاق صدره وانقبضت يداه ، فالمنفق مستور فى الدنيا والآخرة ، والشحيح مفضوح فيهما.

* * *

٢٢٢٣ ـ الزكاة واجبة كالصلاة

يأتى عن الزكاة فى القرآن ٣٩ مرة ، منها ٢١ مرة جمعت إليها الصلاة ، كقوله : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (٥٥) (المائدة) ، وفى الحديث أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالزكاة قال : «وتؤدّى الزكاة المفروضة». والزكاة فى اللغة : هى النماء ، يقال زكا الزرع إذا نما ، وزكا المال ؛ وترد بمعنى التطهير ، كقوله : (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) (١٨) (فاطر). وفى الاصطلاح الزكاة بالاعتبارين معا ، فإخراجها سبب لنماء المال ، ويكثر بها الأجر ، ومتعلقها الأموال ذات النماء كالتجارة والصناعة والزراعة ، ودليله قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما نقص مال من صدقة» ، وقوله : «إن الله يربى الصدقة». وكذلك فإنها مطهّرة للنفوس من البخل والذنوب. والزكاة هى الركن الثالث من الأركان التى بنى عليها الإسلام ، وتطلق على الصدقة الواجبة ، والمندوبة ، والنفقة ، والعفو ؛ وتعريفها : إعطاء جزء من النصاب إذا مرّ عليه عام ، إلى فقير يستحقه ؛ وشرطها : الإخلاص ؛ وحكمها : العمل بأمر الله ؛ وحكمتها : التخفيف عن الناس وإزكاء التكافل بينهم. والزكاة هى «حقّ المال» ، وكان فرضها بعد الهجرة فى السنة الأولى ، وقيل فى السنة الثانية قبل فرض رمضان ، وقبلها جاء أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصدقة الفطر. والزكاة شرط لبيعة الإسلام ، بقوله تعالى : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) (١١) (التوبة) ، ومن يمنع الزكاة أو لا يأتيها ناقض لعهد البيعة.

* * *

٢٢٢٤ ـ من تجب عليه الزكاة؟

تجب على المسلم ، تام الملك ، متى ملك نصابا خاليا عن الدّين عند تمام حوله ، سواء كان كبيرا أو صغيرا ، عاقلا أو مجنونا ، كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) (٤) (المؤمنون) ، وقوله : (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ

١١٠٦

(٣٧)) (النور) ، ويقوم ولى الصبى والمجنون مقامهما فى أداء ما عليهما ، وتعتبر نيّة الولى فى الإخراج كما تعتبر النية من ربّ المال. ولا يجزئ إخراج الزكاة إلا بالنية ومحلها القلب ، كقوله : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (٣) (النمل) ، واليقين محله القلب ، ولا يقيم الصلاة ولا يؤتى الزكاة إلا من كان عنده اليقين.

* * *

٢٢٢٥ ـ الأعيان التى تجب فيها الزكاة

الزكاة تجب فى كل شىء يقيّم بالمال ، وسنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الزكاة فى تسعة أشياء تحتاج إلى التأويل لتناسب العصر ، هى : الذهب ، والفضة ، والإبل ، والبقر ، والغنم ، والحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، وعفا عمّا سوى ذلك. وهذه التسعة هى مناط الثروات فى عهده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهى بشكل عام : ما يكال ويوزن من الحبوب ؛ وأموال التجارة ؛ والعقارات التى تستثمر وتؤجر لأنها تدخل فى مال التجارة ؛ وفى كل مال مهما قلّ طالما أنه أوفى النصاب. ويشترط «الحول» فى أموال التجارة وفى المال عموما ، ولا يشترط فى الزروع. ويعتبر وجود النصاب فى جميع الحول. ولا زكاة فى غير بهيمة الأنعام وبشرط أن تبلغ النصاب ، ولا زكاة قديما فيما دون الثلاثين من البقر ، ومثلها الجواميس ، وزكاة الغنم شاة على كل أربعين منها إلى عشرين ومائة ، فإذا زادت واحدة ففيها شاتان إلى مائتين ، فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه ، فإذا كانت أربعمائة فتجب واحدة فى كل مائة شاه ، وروى أنها إذا زادت على ثلاثمائة وواحدة ففيها أربع شياه ، فإذا كانت خمسمائة فتكون شاة فى كل مائة. ولا يجزئ من الضأن إلا الجذع وهو ما له ستة أشهر ؛ ومن الماعز الثنى وهو ما له سنة. وتضم عروض التجارة والذهب والفضة إلى بعضها البعض فى تكميل النصاب ، وليس فى حلىّ المرأة زكاة. وزكاة المال المكنوز ربع العشر ، وزكاة التجارة فى النصاب ، ونماؤه يوجب الزكاة فى الأصل مع النماء. ويجب العشر على مستأجر الأرض دون مالكها فى النبات الذى يسقى بالمطر والأنهار والترع ، ونصف العشر فيما يسقى بغير ذلك كالآبار الارتوازية والسواقى والمواتير ، وكل زرع وثمر فيه العشر إذا بلغ النصاب وكان يسقى عاديا ، ونصف العشر إذا كانت السقيا بروافع.

* * *

٢٢٢٦ ـ الحلى وزكاتها

الحلىّ : ما يتحلّى به من المصوغات المعدنية أو الحجارة الكريمة ، من حلى المرأة حليا أى جعل لها حليّا تتزيّن بها. وفى القرآن : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) (١٤٨) (الأعراف) ، ويقال حليّهم بضم الحاء ، وحليهم بكسرها ، وحليهم بفتحها ،

١١٠٧

جمع حَلىّ وحُلىّ وحِلىّ ، مثل ثَدى ، وثُدى ، وثِدى ، والأصل «حلوى» ثم أدغمت الواو فى الياء. والحلىّ ما أخذه بنو إسرائيل من قوم فرعون واعتبروه غنيمة ، وجمعه السامرى وأساله بالنار ، وصاغ منه عجلا مصمتا له خوار. ومن ذلك قوله تعالى : (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ) (١٧) (الرعد) ، وقوله : (وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) (١٤) (النحل) ، وقوله : (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) (١٨) (الزخرف) ، والحلية المقصود بها حلية الذهب والفضة ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم اتخذ خاتما من الذهب فقلّده الناس ، فرمى به وقال : «لا ألبسه أبدا» ، واتخذ خاتما من فضة ، فاتخذ الناس خواتيم الفضة ، ولبس الخاتم بعد النبىّ أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان. والتختّم بالورق ، (أى الفضة) على الجملة للرجال ، وكره للنساء لأنه زىّ الرجال ، ولهن الذهب ، فإن لم يجدن فليصفّرن الفضة. وتنشئة النساء فى الحلية ـ أى فى الزينة ، لأن زيّهن غير زىّ الرجال ، ورخّص لهن فى الذهب والحرير ، وفى الآية دليل على إباحة الحلىّ للنساء ، وجرى العرف بذلك فى السوار ، والخاتم ، والعقد ، والحلق ، والقلادة ، والسلسلة ، والخلخال وغير ذلك ، وما لم تجر به العادة فهو محرّم. ويباح للمرأة قليل الحلى وكثيرة ؛ وعلّاقة المصحف ذهبا أو فضة ؛ وللرجال ما دعت الضرورة إليه : كطاقم الأسنان من الذهب حتى لا تسقط ، وتحلية المصاحف به وبالفضة. والمرأة فى الحداد ليس لها الحلىّ حتى الخاتم ، ولا زكاة عليها طالما هى تلبسها ولو فى المناسبات ، فإذا كانت تدّخر المال بشراء الحلى لتبيعها وقت الحاجة ، فعليها زكاة متى بلغت النصاب ، وهو قيمة ٨٥ جراما ذهبا ، وفيه ربع العشر من قيمته.

* * *

٢٢٢٧ ـ الدّين والزكاة

الزكاة لا تجوز إلا بالنية ، ومحل النية القلب ، ولو تصدّق الإنسان بجميع ماله تطوعا ولم ينو به الزكاة لم يجزئه ؛ ومانع الزكاة كمنكرها ؛ وزكاة الرهن على الراهن ويخرجها من غير الرهن ؛ وعلى المهر الذى تقتضيه الزوجة ويمر عليه حول ؛ ويمنع الدّين وجوب الزكاة إذا كان يستغرق النصاب أو ينقصه ؛ وتسقط الزكاة بتلف المال قبل التمكّن من الأداء.

* * *

٢٢٢٨ ـ وقت دفع الزكاة

يجب إخراج الزكاة على الفور بعد التمكّن من الأداء ، وبحلول الحول ، وإن أخّرها تأخيرا يسيرا ليدفعها إلى من هو أحوج إليها فلا بأس ، ولا يجوز تأخيرها كثيرا. وتسقط الزكاة بتلف المال قبل التمكّن من الأداء على الصحيح ، ولا تسقط بموت ربّ المال ، وتخرج من ماله وإن لم يوص بها.

* * *

١١٠٨

٢٢٢٩ ـ مصاريف الزكاة

عدّدتها الآية ثمانية أصناف : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) (٦٠) (التوبة) ، بعضها لم يعد قائما ، والأمر يحتاج لتأويل الآية تأويلا جديدا يناسب العصر والحاجات فيه. وتؤخذ الصدقات من أغنياء المسلمين لتردّ على فقرائهم ، وفى الحديث : «إن الله فرض على أغنياء المسلمين فى أموالهم ، بقدر الذى يسع فقراءهم ، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا أو عروا إلا بما يصنع أغنياؤهم». والفقير أحسن حالا من المسكين ؛ والعاملون عليها هم السعاة والجباة ؛ وكانت المؤلفة قلوبهم لضعف يقينهم يتألفون بدفع سهم من الصدقة إليهم ، ولا شىء من ذلك الآن ؛ وكذلك لم تعد حاجة لفكّ الرقاب لإبطال الرق بالكلية ؛ والغارمون هم المدينون الذين أضاعوا أموالهم فى الطاعات ؛ وابن السبيل هو المسافر الذى انقطعت به الأسباب عن بلده وماله. ويعطى الغارم قدر دينه ، والفقير والمسكين يعطيان كفايتهما وكفاية عيالهما. وترد الزكاة على الفقراء حيث كانوا ، ووصفتهم الآية : (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) (٢٧٣) (البقرة) وحاصلها أن شرط إعطاء الفقير الصدقة أن يكون مجاهدا ، فمنعه ذلك من الاشتغال بالكسب ، وعلامته التعفف ، وفى الحديث : «من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار». والغنى هو من ملك نصابا فيحرم عليه أخذ الزكاة ، وفى الحديث : «لا تحل الصدقة لغنى». والمحروم فى الآية : (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (١٩) (الذاريات) أنه المتعفّف الذى لا يسأل ، وفى الحديث : «ومن يستعفف يعفّه الله ، ومن يستغن يغنه الله» ، والعفيف له أن يأخذ الصدقة وهو لم يسأل ولا تعرّض ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا جاءك من هذا المال شىء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه». وفى الزكاة على الأقارب أجران : أجر صلة الرحم وأجر الصدقة. ويجوز للمرأة أن تنفق على أولادها اليتامى من مال صدقتها ، وعلى زوجها الفقير. وتختلف الزكاة فى الأنعام عنها فى الزروع ، والعقارات ، والتجارة ، وهى ربع العشر فى الأموال.

* * *

٢٢٣٠ ـ زكاة الفطر واجبة

لا نصّ فى القرآن على زكاة الفطر ، إلا ما تأوله مالك ، قال فى قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) (١٤) (الأعلى) قال الزكاة هى زكاة الفطر ، وقد فرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زكاة الفطر فى رمضان فأضافها إلى رمضان. والجمهور على أن الآية : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) (١٥) (الأعلى) نزلت فى زكاة الفطر ، والمعنى أنه بعد ما أخرج زكاة

١١٠٩

الفطر ، يصلى العيد. وقيل إن الآية : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) (٤٣) (البقرة) عن «زكاة الفطر» ، والمراد بصدقة الفطر : «صدقة النفوس» ، وتسمى «زكاة الأبدان» ، و «زكاة الرقاب» ، وتجب بالفطر من رمضان ، مأخوذة من الفطرة التى هى أصل الخلقة ، وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أمر بها قبل أن تنزل الزكاة ، فلما نزلت لم يأمرهم ولم ينههم فظلوا يفعلونها ، وأمر أن تؤدّى قبل خروج الناس إلى الصلاة ، وفرض على كل مسلم ذكرا أو أنثى ، فقيرا أو غنيا ، صغيرا أو كبيرا ، صاعا من حنطة أو تمر أو شعير ، يعنى نحو ثلاثة كيلوجرامات ، أى ما يقرب من خمسة جنيهات أو أكثر بحسب الأسعار ، وهى على الأب مطلقا ، وعن كل من يعول ، كالأبوين ، والإخوة والأخوات ، والأقارب ، والأولاد ، والزوجة ، والخدم ، وكان ابن عمر يعطيها للذين يقبلونها ، وتفرّق فى البلد الذى فيه المكلف ، سواء كان ماله فيه أم لم يكن ، بنية التقرّب إلى الله ، لأنها عبادة ، ويستحب اختصاص ذوى القرابة ممن لا يعودهم ، فلا صدقة وذو رحم محتاج ، ثم الجيران ، ويرجّح أهل الفضل فى الدّين والعلم والعقل.

* * *

٢٢٣١ ـ الزكاة على غير المسلمين

كانوا يسمون زكاة غير المسلمين الجزية ، لأنها تجزى عنها ، والجزية تجبى قسرا ، وأما الزكاة فهى عن تطوّع ، ولا يأتيها إلا من يؤمن بالله واليوم الآخر وليست كذلك الجزية ، ولذا قال تعالى : (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) (٧) (فصلت) ، فعلامة كفرهم أنهم لا يأتون الزكاة ، ولا يؤمنون باليوم الآخر ؛ فإن قيل ولم خصّ من بين أوصافهم منع الزكاة وقرنه بالكفر بالآخرة؟ فالجواب : لأن أحب شىء إلى الإنسان ماله ، وهو شقيق روحه ، فإذا بذله فى سبيل الله فذلك أقوى دليل على إيمانه وثباته واستقامته ، وصدق نيته ، ونصوع طويته. وقد يتصدّق الكافر وينفق ولكنه لا يؤمن باليوم الآخر ، ولا يشهد أن لا إله إلا الله ، وزكاته هى زكاة الأنفس ، وشرط الزكاة أنها من مؤمن ، وفى سبيل الله ، كقوله : (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (٢٦٥) (البقرة) ، فهم ينفقونها ليثبّتوا بها أنفسهم ، ويدلّوا بها على إيمانهم وثباتهم ، بإنفاق الأموال لمرضاته تعالى.

* * *

٢٢٣٢ ـ الخمس

من أكبر الكبائر أن يذهب المغرضون إلى تفسير الفيء والغنائم والأنفال ، بأن الخمس فيها للحكام المسلمين وللأئمة! وقيل : الخمس نصّت عليه الآية : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ

١١١٠

أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (الحشر) ، والآية : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (الأنفال) ، فلما توفى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم خصّ الحكام أنفسهم والأئمة بخمس الله والرسول؟! وهذا هو المعمول به فى دول الخليج ، وفى الدولة الإسلامية التى لرؤساء الجمهورية فيها ميزانيات مفتوحة لا حدّ لها. والمتأمل للآيتين يتبين أن كل دخل الدولة ، سواء كان فيئا ، أو مغانم ، أو ضرائب وزكاة ، هو لأبنائها من المسلمين وغيرهم ، وكلهم سواء ، ولهم نصيب من هذا الدخل ، ومما ينفق عليه منه من أوجه الصرف ، كالتعليم وفرص العلاج والعمل ، ولا بد أن يتساوى فيها الناس ، لأنهم جميعا مواطنون. وفى الآية : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) (١) (الأنفال). والفيء هو عائد الغزوات ، بالصلح أو الجزية أو بالعشور أو بالخراج ، بينما المغانم هى العائد بالقتال ، والأنفال هى الأراضى التى تضم للدولة بالصلح ، وكل أرض خربة باد أهلها. وهذا التقسيم الخماسى للفيء والمغانم ، كان معمولا به زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتوقف العمل به الآن ، لاتساع رقعة الدولة ، وتشابك اقتصادها ، وعظم مواردها ، والرسول فى حياته ما كان يكنز المال ، ولا يتأثّله ، وكان لا يأخذ من مال الزكاة ـ وهى التى تضاهى الآن الضرائب على الأموال إلا ما يحتاج إليه فى معيشته وأهله ، وهذا المبدأ هو نفسه المبدأ الاشتراكى الذى يقضى بأن يعطى الفرد بقدر جهده ثم يأخذ بقدر حاجته ، وكان يقول : «ليس لى من غنائمكم إلا الخمس ، والخمس مردود عليكم». وعند الشافعى فإن خمس الرسول كان ينبغى أن يردّ بعد وفاته إلى الدولة ويدخل فى مواردها وفى الميزانية العامة ، ويصرف منه على مصالح المسلمين. ولم يورّثه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحاكم ، ولا لإمام ، ولا لقرابة له كما يقول الشيعة ، وقال : «إنّا لا نورث ؛ ما تركناه صدقة».

* * *

٢٢٣٣ ـ الفقير شريك للغنى فى العين بحصته من الزكاة

هل الفقير شريك للغنى فى العين ويملك فيها بمقدار حصته من الزكاة ، تماما كما يملك الغنى ، أو أن الفقير صاحب حق فى العين دون أن يملك شيئا منها ، تماما كصاحب الرهن؟ وهل الغنى مسئول عن الزكاة تجاه الفقير ، كما أن صاحب العين مسئول تجاه صاحب الرهن؟

وأهل الإسلام على أن الزكاة تتعلق بالعين ، والفقير شريك للغنى فى العين ، ويملك منها بمقدار حصته على النحو الذى يملكه الغنى ، وليس للغنى أن يتلف ماله كما يحب ، لأن فى ذلك ضياع لحق الفقير فيه. والمقصود بذلك أن الله تعالى قد جعل للفقراء حقا فى أموال الأغنياء كحقّ غرماء الميت المتعلق بتركته ، بحيث إذا امتنع الأغنياء عن أداء هذا الحق

١١١١

كان للدولة أن تتدخل من باب الحسبة ، وأن تستوفى هذا الحق قهرا عن الأغنياء ، وفارق بين القول بأن الفقير شريك الغنى حقيقة ، وبين أن يقال أنه شريكه واقعا. وهذا هو الإسلام! وهذه هى اشتراكية الإسلام!

* * *

٢٢٣٤ ـ المؤلفة قلوبهم

هؤلاء كانوا فى صدر الإسلام ممن يظهرون الإسلام ، ويتألّفون بدفع سهم من الصدقة إليهم لضعف يقينهم ؛ وقيل : هم من أسلم من اليهود أو النصارى وإن كان غنيا ؛ وقيل : هم صنف من غير المسلمين يعطون ليتألّفوا على الإسلام ، ورأى المسلمون فيهم أنهم يسلمون بالعطاء والإحسان ؛ وقيل : هم الذين أسلموا فى الظاهر ولم تستيقن قلوبهم ، فيعطون ليتمكن الإسلام فى صدورهم. وهذه الأقوال متقاربة ، والقصد بجميعها الإعطاء لمن لا يتمكن إسلامه إلا بالعطاء ، أو ليمنع أذاهم عن المسلمين ، وتقصر ألسنتهم عن الإسلام ، وقد يكون ذلك من باب الرشوة ، إلا أنها تشبه اليوم ـ المخصصات لبعض الدول تعطى كمعونات ، أو لبعض الكتّاب والمسئولين ، لتأليفهم على رأى الحكومات ، أو اتجاهات الأحزاب ، أو سياسات الدول ، وقد يكون من تعطى له هذه الأموال أو الخدمات من نفس الدولة أو من دول إسلامية أو غير إسلامية ، فذلك كله جائز ، وهو ضرب من الجهاد. والدول والناس ثلاثة أصناف : فصنف يجدى معه الحوار وإقامة البرهان ، وصنف ينفع معه الإحسان ، وصنف لا يدفع أذاه إلا أن تتناوله وسائل الإعلام بالذّم ، وتنبّه إليه وإلى مخازيه ، وما من أحد من هؤلاء إلا وله مخاز يمكن البحث عنها ، وتحرّى أمرها ، ونشرها على الملأ ، لتهتز صورة هذا العدو للإسلام ، فلا يؤبه لكلامه من بعد ، ولا يعود مطاعا فى قومه. ولنا فى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسوة ، وقد أعطى أبا سفيان بن حرب مائة بعير (يعنى نحو نصف مليون جنيه) ؛ وحكيم بن حزام ، والحارث بن هشام ، وسهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزّى ، وصفوان بن أمية ، ومالك بن عوف ، والعلاء بن جارية ، مائة بعير لكلّ منهم ، وهؤلاء هم أصحاب المئين ، وأعطى آخرين دون ذلك ، منهم : مخرمة بن نوفل الزهرى ، وعمير بن وهب الجمحى ، وهشام بن عمرو العامرى ، وسعيد بن يربوع ، وعباس بن مرداس السلمى ، وهذا الأخير لم يرض واستمر يهجو المسلمين ، فقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اذهبوا فاقطعوا عنى لسانه» ، يعنى زيدوا له ، فأعطوه حتى رضى ، فكان ذلك قطع لسانه ، ولعل ذلك كان يجدى أكثر مع سليمان رشدى ، ونيبول ، وكثير غيرهما من الصحفيين والروائيين والسياسيين ، سواء فى إسرائيل ، أو تركيا ، أو بريطانيا ، أو أمريكا ، أو كندا ، أو مصر نفسها ، فالمسألة سواء ، وقد ذكر فى المؤلفة قلوبهم : النضر بن الحارث ، ومالك بن عوف ، وحكيم بن حزام ، وعكرمة بن أبى جهل ، وسهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى ، ومالك بن

١١١٢

عوف ، وبعض هؤلاء كان على اليهودية ، وبعضهم على النصرانية ، وبعضهم من أقطاب الشرك ، وكان منهم شدّة العداء للإسلام ، فهدءوا بعد أن أعطوا ، وقد اجتمعت الصحابة فى حكم أبى بكر على توقّف الدفع لهم ، وإسقاط سهم المؤلفة قلوبهم ، وفعل عمر ذلك ، إلا أن هذا المصرف من الإنفاق تحتّمه الضرورة وحسن السياسة ، وكما أجراه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحاجة المسلمين إلى تأليف أعدائهم ممن يخشى أن تلحق المسلمين منهم آفة ، فكذلك ينبغى أن نستمر على العمل به ، ولنا الدافع إلى ذلك من الحديث الصحيح : «بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ» أخرجه مسلم ، فكما فعل رسولنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأمس ، نفعل اليوم.

* * *

٢٢٣٥ ـ ابن السبيل

السبيل هى الطريق ، وينسب المسافر إليها لملازمته إياها ومروره عليها ، والمراد بابن السبيل : المسافر الذى انقطعت به الأسباب فى سفره عن بلده ومستقره وماله ، فإنه يعطى من الزكاة وإن كان غنيا فى بلده. وابن السبيل لا يلزمه وهو فى دار الإسلام ، أن يشغل ذمّته بالسلف ، ولا أن يدخل تحت منّة أحد وقد وجد منّة الله تعالى. وإن أخذ ابن السبيل من مال الزكاة فلا يلزمه ردّه إذا صار إلى بلده ، ولا أن يخرجه. ويأتى ذكر ابن السبيل فى القرآن ثمانى مرات ، كقوله تعالى : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) (١٧٧) (البقرة) ، وقوله : (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (٢١٥) (البقرة) ، وفيها جميعا يوصى الله تعالى بابن السبيل ويجعله من وجوه الإنفاق للزكاة ، شأنه فى ذلك شأن المسكين والفقير واليتيم ، إلا أنه لم يعد هناك اليوم أبناء سبيل ، وإنما هناك فقراء ومرضى تقطّعت بهم الأسباب كأبناء السبيل فى الماضى ، وصاروا بذلك يستحقون هذا المصرف ـ مصرف ابن السبيل ـ للتخفيف عنهم وإعانتهم على الحياة ومواجهة المصاعب والأمراض.

* * *

٢٢٣٦ ـ العاملون عليها

«العاملون عليها» فى الآية : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) (٦٠) (التوبة) : هم كل موظفى الدولة ، وينفق عليهم بيت المال المسلمين ، وهو الآن وزارة المالية ، أو الخزانة العامة للدولة ، وقيل لهؤلاء الثمن كما فى الآية ، باعتبار مصارف الزكاة ـ وهى الدخل العام للدولة ـ تشمل هذه الفئات الثمانية ، وروى البخارى أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم استعمل رجلا من

١١١٣

بنى الأسد على صدقات بنى سليم ، يدعى ابن اللتيبة وكان يعطيه الثّمن ، وكذلك يعطى موظفو الدولة قدر عملهم من الأجرة ، وهى كفايتهم من المال ، وفلسفة ذلك : أن حق موظف الدولة فى الأجرة كحق الزوجة ، تكون نفقتها ونفقة أتباعها من خادم أو خادمين على زوجها ، ولا تقدّر بالثّمن ، بل تعتبر الكفاية ثمنا ، ومن ذلك أجرة القاضى ، ونفقات ملاجئ الأيتام ، وبيوت المسنين ، والمستشفيات العامة ، والمساجد ، وأئمتها ، والمدارس والجامعات ، وسائر موظفى الدولة وخدمها ، وقيل : يشترط ألّا يزيد الإنفاق العام على كل الأجور عن ثمن الدخل العام ، غير أن الثمن فيه إجحاف وتقصير ، فهذه الفئات المذكورة فى الآية للتمثيل وليست للتعديد والحصر ، والمسألة فى الإنفاق العام بحسب الميزانية العامة ، ولم يعد دخل الدولة قاصرا على الصدقات ، فهو أوسع من ذلك كثيرا ، والكلام فى الآية قاصر على ثمن الصدقات لمّا كان كل دخل الدولة هو هذه الصدقات ، ولما كانت هذه الفئات الثمانى هى فقط الفئات القائمة ولا يوجد غيرها ، وضربت الآية بها المثل لما يستجد من فئات ، كما ضربت المثل للدخول بالصدقات ، وكما ضربت المثل للإنفاق الشرعى بهذا الإنفاق. والمبدأ فى الإسلام : أن كل ما كان من فروض الكفايات ، فالقائم به يجوز له أخذ الأجرة عليه ، ولا جرم فى ذلك ، يعنى أنه لا بد من الأجر لكل عمل ، حتى لو كان هذا العمل من هوامش الأعمال ، كما فى حالات موظفى الضرائب. وإلى مثله أشار النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «ما تركت بعد نفقة نسائى ومؤنة عاملى فهو صدقة» ، فقرر للعاملين على جمع الزكاة أجرا واجبا.

* * *

٢٢٣٧ ـ فى المال حقّ سوى الزكاة

فى الحديث عن فاطمة بنت قيس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن فى المال حقا سوى الزكاة» ، ثم تلا الآية : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ) (١٧٧) (البقرة) ، وفيها تقرن الصلاة بالزكاة ، وهو دليل على أن المراد بقوله : «وآتى المال على حبه» ليس المقصود بها الزكاة المفروضة وإلا كان تكرارا. والقاعدة : أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة فإنه يجب صرف المال إليها ، وهذه هى صدقة التطوع.

* * *

٢٢٣٨ ـ توصية القرآن بالمستضعفين من المجتمع

يوصى القرآن بالفئات المحتاجة من الشعب ، كاليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل ، وهؤلاء يضرب بهم المثل لما يستجد من الفئات ، كقوله : (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ

١١١٤

وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (٢١٥) (البقرة) ، وأشرك الوالدين فى الإنفاق لأنه من غير المعقول أن يستوفى المنفق حاجات المجتمع ويترك أبويه يتسولان الناس. ومن شروط الإنفاق أن لا يتبعه منّ ولا أذى ، وأن يؤتى فى السراء والضراء ؛ وفى السرّ والعلن ، والأفضل أن يكون خفية ، وأن لا يكون عن إسراف ولا تقتير ، ولا تكون مصادره خبيثة وأصله حرام ، وأن ينفق كل ذو سعة من سعته ، ومما فضل بعد استيفاء حاجاته وأسرته ، ومثّله الله تعالى بالحبّة تنبت سبع سنابل ، وفى كل سنبلة مائة حبة ، فهكذا أجر المنفق عند الله ، وهو الذى لا ينفق رياء ، ولا وهو كاره ، ولا يؤثر أن يكنز ماله عن أن ينفقه فى سبيل الله والمستحقون للإنفاق عليهم فى الآية خمس فئات ، على سبيل المثال لا على سبيل الحصر والتعداد.

* * *

٢٢٣٩ ـ حدّ الفقر فى الإسلام

اختلف فقهاء المسلمين فى الفقراء والمساكين فى آية مصارف الصداقات ، فى قوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٦٠) (التوبة) ، وفى الآية أن الله تعالى خصّ بعض الناس بالأموال دون بعض ، نعمة منه عليهم ، وجعل شكر ذلك منهم إخراج سهم يؤدونه إلى من لا مال له ، نيابة عنه سبحانه ، بقوله : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) (٦) (هود) يعنى أن الرزق يكفى العالم حاليا ومستقبلا وإنما سبب الكوارث والمجاعات والفروق الاجتماعية فيه ، أن البعض ـ وهم القلّة ـ يستولون غصبا على رزق الغالبية ويحوزونه لأنفسهم ، فيختل الميزان الاجتماعى وتخلق طبقة الفقراء والمساكين والمستضعفين إلخ. والفقراء والمساكين هم الذين يستحقون الصدقة أكثر من غيرهم ، والفقير عند العرب من نزعت فقار ظهره من شدة الفقر ، فلا حال أشدّ من هذه ؛ والمسكين أحسن حالا منه ، وكان النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يؤثر أن يكون مسكينا على أن يكون فقيرا إن كان الاختيار بين أن يكون هذا أو ذاك ، فكأنه يتعوّذ من الفقر وهو يقول : «اللهم أحيني مسكينا وأمتنى مسكينا» أخرجه الترمذى ، فلو كان المسكين أسوأ حالا من الفقير لتناقض الخبران ، إذ يستحيل أن يتعوّذ من الفقر ثم يسأل ما هو أسوأ منه. والمسلمون مختلفون فى حدّ الفقر الذى يجوز معه أن يعال الفقير من أموال الزكاة ، وفى مصر مثلا هناك أكثر من ٨٨ خ من السكان تحت خط الفقر ، ويبلغ متوسط دخل الفرد من طبقة العمال والفلاحين دولارا ونصف فى اليوم ، ومن طبقة الموظفين من خريجى الجامعات نحو ذلك ، وهناك ١٢ مليون

١١١٥

عاطل ، وأكثر من ذلك من النساء ، وكل هؤلاء فى حاجة إلى أن يعانوا من أموال الزكاة ، وعلماء المسلمين متفقون على أن : من له سكن وزوجة وأولاد ، ودخله أقل من عشرة دولارات فى اليوم ، فله أن يأخذ من الزكاة ، وفى الحديث : «لا تحلّ الصدقة لرجل له خمسون درهما». وكان هذا المبلغ ربما يكفى فى الماضى. ووجه الحديث على المسألة ، فإذا كان الرجل قويا ، وعلى علم ، وذا خبرة ، ولكن لا يكفيه دخله ، ولا يسد حاجة أولاده ، فهو فقير ، ولكل واحد من أفراد الأمة ، أنثى أو ذكرا ، نصيب من الزكاة ، وله أن يأخذ منها ، فيما لا بد منه. وقد حرّم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الزكاة على من كان عنده «ظهر غنى» ، وهو «عشاء ليلة» ، ومن كان دخله وأولاده دولارا ونصف فى اليوم ، هل يكون عنده «عشاء ليلة»؟!

* * *

٢٢٤٠ ـ العمل أصلح ما يأتيه المسلم

كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «عمّال أنفسهم» ، لأن العمل أشرف ما يأتيه المسلم ، وبالعمل يبلو الله الناس أيهم أحسن عملا ، ومن أحسن عملا لا يضيع أجره ، وأحسن العمل هو العمل الصالح ، وليس أصلح من عمل اليد ، والأنبياء كانوا عمالا : فآدم كان حرّاثا ، وداود زرّادا ، ونوح نجّارا ، وإدريس خيّاطا ، وإبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، وإسماعيل رعاة : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) (٩٠) (الأنعام) ، وفى الحديث : «ما أكل أحد طعاما خير من أن يأكل من عمل يده ، وإن نبىّ الله داود عليه‌السلام كان لا يأكل إلا من عمل يده» ، وفى كتب اليهود داود كان راعى أغنام (صمويل ١٦ / ١١) ، ويجيء أيضا أن شاول عيّن داود على السلاح (صمويل ١٦ / ١٩) ، يعنى أنه كان من صنّاع السلاح. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه» ، فإن الكسب أعمّ من أن يكون عملا باليد أو بغيرها ، وقيل أصل المكاسب ثلاثة ، هى المكاسب الأصول : الزراعة ، والتجارة ، والصناعة ، والأمة التى يمهر أبناؤها فى التجارة تراها تمتهن أطيب الأعمال ، لأن التجارة شطارة وحركة وعلم وإدارة وعلاقات عامة ، وعلاقات مع الدول والأفراد والحكومات ؛ والتى يمهر أبناؤها فى الزراعة إنما لأن الزراعة هى الأصل ، والتى يشتغل شعبها بالصناعة تراها تمتهن أمهر الأعمال ، وفى الخبر أن علماء بعض البلدان عابوا على أهلها أن براءات اختراعاتهم صارت أقل من غيرها للأمم الأخرى ، وعاب بعضهم على تدنّى مستوى التعليم ، وتوجهات الشباب للدراسات النظرية دون العملية والتطبيقية ، والانصراف عن تكنولوجيا المعلومات. والصواب أن أطيب الكسب ما كان عن تقوى الله ، فى أى من المجالات ، سواء كانت تجارية أو زراعية أو صناعية ، وما تعدّى فيه النفع ، والنفع المتعدّى من مبادئ الإسلام ، وتعدّيه لأنه يتجاوز النفع لصاحبه إلى الناس وما

١١١٦

يحتاجونه ، وفى ذلك تكون المجتمعات والأمم والأفراد والدول مراتب ، وتختلف باختلاف الأحوال. وعمل المؤمن يفضل سائر الأعمال ، ومن شرطه أن لا يعتقد أن الرزق من الكسب بل من الله تعالى بهذه الواسطة. ويعلّمنا الإسلام أن نرضى بالمباح من الأعمال حتى يتهيأ الأحسن والأنسب ، وأن نقبل على المباح عن أن نتبطّل ، أو ننصرف إلى اللهو. والعمل أمان ضد كسر النفس ، وذلّ الحاجة ، وفيه تعفّف عن السؤال. والجزاء عند الله بالعمل ، كقوله : (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٦) (الطور) ، وقوله : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) (١٣٢) (الأنعام). وبالعمل تعلو الأمم ويستخلفهم الله ، كقوله : (وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) (١٢٩) (الأعراف) ، وبعض الأمم تشتهر بالمفاسد فى الكون كشأن الأمم الاستعمارية واليهود فى العالم ، وهؤلاء قال الله تعالى فى أشباهها : (وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ) (٧٤) (الأنبياء) ، وليس أخبث منها أمم لا همّ لها إلا أسلحة الفتك والدمار.

* * *

٢٢٤١ ـ للعامل أن يأخذ من عرض المال الذى يعمل فيه قدر حاجته

فعل ذلك أبو بكر وأكل من مال المسلمين قدر حاجته ، وكان الصحابة قد فرضوا له ما يحتاجه بقدر مطلبه. ولما استخلف عمر أكل هو وأهله من مال المسلمين بقدر ما يحتاج ، وكان أبو بكر وعمر قبل أن يستخلفا يحترفان لتحصيل مئونة أهلهما ، ويتّجران فى مالهما حتى يعود عليهما من ربحه بقدر ما يتكلف هو وعياله أو أكثر. ونفهم أن الأجور لا بد أن تكفى العمال لقاء عملهم ، وتكفى احتياجات أولادهم وعائلاتهم ، إعالة ، وتعليما ، وتطبيبا ، وسكنا ، ورعاية ، وإلا فالقاعدة فى الإسلام : أن يأخذ العامل من عرض المال الذى يعمل فيه قدر حاجته ، إن لم يقطع له صاحب العمل أو الحكومة أجرا معلوما متزايدا يكفيه وأهله.

* * *

٢٢٤٢ ـ مصارف الإنفاق ومقاديره

الإنفاق فى الإسلام هو التصرّف عن طواعية ، كقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (٢١٥) (البقرة) ، يعنى أن الإنفاق الاجتماعى ينبغى أن يتوجه إلى مواضع الضعف فى تكوين المجتمعات ، ويقال لها مواضع التخلخل الاجتماعى ، فحيثما كانت الحاجة إلى الإنفاق لعلاج آفة اجتماعية ، توجب الإنفاق ، سواء على الدولة أو المجتمع أو الأفراد ، ومن ذلك إعالة الأرامل ، ومصارف التعليم ، والعلاج ، والتدريب على الصنائع ، ومحو الأمية المهنية. فلمّا سألوا

١١١٧

عن مصارف الصدقة نزلت الآية بالجواب فيما ينبغى تجاه هذه الطبقات المستضعفة فى المجتمع كمثال ، وليس على سبيل العدّ والحصر ، ثم كان سؤالهم مرة ثانية وإنما هذه المرة عن مقدار النفقة ، وهو قوله : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) (البقرة ٢١٩) ، فلمّا عيّن لهم مصارف النفقة فى الآية الأولى ، سألوا فى الآية الثانية : كم ينفقون؟ فنزلت : «قل العفو» أى مما فضل عن حوائجهم ، وفى الحديث : «خير الصدقة ما أنفقت عن غنى».

* * *

٢٢٤٣ ـ الفرق بين إنفاق المسلم وغير المسلم

المسلم ينفق لله كقوله : (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (٢٦٥) (البقرة) ، وغير المسلم ينفق رياء ، أو بوازع سياسى أو اجتماعى : (كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (٢٦٤) (البقرة) ، والأول تهمّه مرضاة الله ، ويتثبت لذلك أين يضع صدقته ، وأما الذى ينفق لغير ذلك من الأسباب فهو لما ذهب إليه من الإنفاق ، كما فى الحديث عن الذى يحج ، فحجّه لما ذهب إليه ، إن كان لله ، أو للتجارة والمنافع ، أو لامرأة ينكحها. والمسلم ينفق تصديقا ويقينا واحتسابا من نفسه.

* * *

٢٢٤٤ ـ المنّ والأذى يبطل الصدقة

فى الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ) (٢٦٤) (البقرة) يشبّه الله تعالى المنّ والأذى بالصدقة ، بإنفاق الكافر المرائى ، وفى الأمثال : ومن منّ بمعروفه سقط شكره ، من أعجب بعمله حبط أجره ، ويقال عن يد من يمنّ : «يده سوداء» ، ولمن يعطى من غير مسألة : «يده بيضاء» ، ولمن يعطى عن مسألة : «يده خضراء». وفى الحديث : «إياكم والامتنان بالمعروف فإنه يبطل الشكر ويمحق الأجر» ، ثم تلا : «لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى».

* * *

٢٢٤٥ ـ الإنفاق من الطيبات

المأمور به فى الإنفاق أن يكون من الطيبات ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) (٢٦٧) (البقرة) ، والمراد بالإنفاق الزكاة المفروضة وكذلك التطوع ، والآية خطاب لجميع أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتعم الوجهين ، والأمر فى الزكاة على الوجوب ، وليس كذلك فى التطوع ، وفى الحالتين تنهى الآية عن الإنفاق من المال الخبيث ، وهو نقيض المال الطيب ، وأى كسب فى الإسلام ينبغى أن يكون من الحلال ، ويتوجه إلى الحلال ، وإنفاقه

١١١٨

هو الإنفاق الحلال ، ونقيضه الإنفاق الحرام. ويذهب البعض إلى أن الآية فى الزكاة فقط ، وليست فى الإنفاق ، لأنها ذكرت ما يخرج من الأرض وهو النبات والمعادن ، وفى كلّ نصيب مفروض من الزكاة ، ولذلك فهى آية زكاة وليست آية إنفاق ، ولذا قلنا إن المراد بالإنفاق فيها الزكاة المفروضة وكذلك زكاة التطوع.

* * *

٢٢٤٦ ـ الدّين والدولة

يقول الله تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (٦) (الأحزاب) فأزال الإسلام بهذه الآية أحكاما كانت فى صدر الإسلام ، منها : أنه لا يصلّى على ميّت عليه دين ، إلا أن ذلك نهى عنه بهذه الآية ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقالة ربّه : «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فمن توفى وعليه دين فعلىّ قضاؤه ، ومن ترك مالا فلورثته» أخرجه الصحيحان ، والدّين هو القرض المؤجّل ، وأهل العلم على الرأى أن الحاكم عليه أن يقضى دين الفقراء من مال الحكومة اقتداء بالنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه قد شدّد بوجوب ذلك فقال «فعلىّ قضاؤه» ، وفى حديث آخر قال : «فأيكم ترك دينا أو ضياعا فأنا مولاه» أخرجه البخارى ، والضياع بفتح الضاد ـ مصدر ضاع ، جعل اسما لكل ما هو بصدد أن يضيع من عيال وبنين لا كافل لهم ، ومال لا قيّم له ، والأرض سميت ضيعة لأنها معرضة للضياع ، والحديث تأكيد آخر بمعنى أوسع ، فقد يترك الميت عيالا لا عائل لهم ، فالحكومة أولى بهم ، وقد يتركهم ولهم مال ولا قيّم له ، فتكون الحكومة هى القيّمة عليه. فهذا هو الإسلام الاجتماعى!

* * *

٢٢٤٧ ـ بيت المال

بيت المال فى الإسلام يعادل وزارة المالية أو الخزانة العامة للدولة ، وهو المنوط به جمع الزكاة ، والمكوس والضرائب ، ويرث من لا ورثة له ، وتئول إليه دخول أملاك الحكومة إلخ ، ويدفع أجور موظفى الدولة والحكام ، ويدفع الدية فى حالة إعسار المحكوم عليه بها ، ومن لم يثبت على أحد قتله ، وينفق على التعليم ، وإيواء اللقطاء ، والأرامل ، والأيتام ، والمسنين ، ولا يرد ذكر بيت المال فى القرآن ، وأكثر وروده ضمن تفسير آياته فى الدّين ، وفى البيوع ، والمعاملات إلخ ، وفى الآية : (وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) (٦٠) (التوبة) فإنهم من مصارف الزكاة ، وهم كل موظفى الدولة ، من سعاة ، وجباة وقضاة ، وكتبة ، والولاة والجنود إلخ ، ولذا لزم التنويه به.

* * *

١١١٩

٢٢٤٨ ـ الخراج

الخراج من ألفاظ القرآن ، كقوله تعالى : (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) (٧٢) (المؤمنون) ، والخرج هو الجعل ، وما تبرعت به ، ويؤدّى عن الأموال ؛ والخراج هو العطاء ، ويؤدّى عن الأرض ، وهو من المصطلحات المهجورة بإبطال النظام الذى يدلّ عليه ، وكان المعمول به فى الدولة الإسلامية القديمة أن البلاد إذا فتحت صلحا وصولح أهلها كانت الأرض لهم ، يؤدون عنها خراجا معلوما ، وحكمه حكم الجزية ، ومتى أسلموا سقط عنهم ، وتظل الأرض فى كل الأحوال ملكا لهم يتصرفون فيها بالبيع والرهن والهبة. وإذا فتحت البلاد عنوة صارت أرضها وقفا على المسلمين ، ويضرب عليها الخراج كأجرة لها تؤخذ كل عام ، سواء كان أهلها مسلمين أو ذميين ، ولا يسقط خراجها بإسلام أهلها ولا ببيعها إلى مسلم. ولم تقسم أرض فتحت عنوة إلا خيبر ، والمعوّل عليه فى ذلك المصلحة العامة ، فإن رؤى أن تقسيمها بين المسلمين خير ، كان ذلك ، وإن رؤى وقفها على الصالح العام كان. والزكاة واجبة على غلّة الأرض المفتوحة عنوة التى يملكها مسلم ، بعد دفع الخراج ، متى بلغ المتبقى النصاب ، فإن لم يبلغ النصاب ، أو كانت الأرض لغير مسلم فلا زكاة عليها. وزكاة الأرض العشر ، فإن كان فيها ثمر أو خضروات مما لا زكاة فيه ، كان يجعل خراجها من التمر والخضروات ، بينما تجعل الزكاة على الزروع متى استوفت غلّتها النصاب. وكان يكره بيع أرض المسلم من ذمّى وإجارتها منه ، لأن ذلك كان يؤدى إلى إسقاط زكاتها ، إلا أن البيع والإجارة يصحّان.

* * *

٢ ـ البيع والربا

* * *

٢٢٤٩ ـ تحليل البيع وتحريم الربا

البيع : نقل ملك إلى الغير بثمن ، والشراء قبوله. والإجماع على جواز البيع ، وتقتضيه الحكمة. والربا : هو الزيادة ، إما فى نفس الشيء ، كقوله تعالى : (اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) (٥) (الحج) ، وإما فى مقابله كجينية بجنيهين. والربا فى الأشياء حقيقة ، وفى المال مجاز وحقيقة شرعية. وكان الربا فى الجاهلية أن يكون للرجل على الرجل حقّ إلى أجل مسمّى ، فإذا حلّ قضاه أخذه وإلا زاده فى حقّه ، وزاده الآخر فى الأجل. والربا من ربا يربو. وفى التنزيل : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) (٢٧٥) (البقرة) ، والربا الذى حرّمه هو ما قصد إليه يوم عرفه لمّا قال : «ألا إن كل ربا موضوع ، وإن أول ربا أضعه ربانا ، ربا عباس بن عبد المطلب ، فإنه موضوع كله» أخرجه مسلم ، فبدأ بعمه وأخصّ الناس به. وهذا من سنن العدل أن يفيض

١١٢٠