موسوعة القرآن العظيم - ج ٢

دكتور عبد المنعم الحفني

موسوعة القرآن العظيم - ج ٢

المؤلف:

دكتور عبد المنعم الحفني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
ISBN: 977-208-422-2
الصفحات: ١٢٤٤
الجزء ١ الجزء ٢

والصفا : فى اللغة هو الحجر الأملس ، وهو جبل بمكة ؛ وكذلك المروة. وقيل سمى الصفا ، لأن آدم المصطفى وقف عليه ، ووقفت حواء على المروة ، فسمّى جبل المروة باسم امرأة وأنّث. وقيل : كان على الصفا صنم يقال له إساف ، وعلى المروة صنم يدعى نائلة. وما كان من كراهية عند المسلمين الأوائل للطواف بينهما إنما لهذا السبب ، فلما نزلت الآية رفع الحرج. وقيل : إن إسافا ونائلة كانا رجلا وامرأة ، وزنيا بالكعبة ، فمسخهما الله حجرين ، ووضعهما العرب على الصفا والمروة ، ثم نزل القرآن يجعلهما من شعائر الله ، أى من معالم الحج ، ومواضع العبادة فيه! والشعائر جمع شعيرة ، وهى المتعبّدات التى جعلها الله أعلاما للحج ، كالمواقف ، والسعى ، والنّحر. والحجّ فى اللغة : هو القصد ، والعمرة : هى الزيارة. والسعى بين الصفا والمروة إذن من أركان الحج والعمرة. وفى الحديث : «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعى» أخرجه الدارقطنى ، ولا يكون السعى إلا متصلا بالطواف ، سواء كان فى حجّ أو فى عمرة ، وهو ما أورثتنا إياه أمّنا : أم إسماعيل.

* * *

٢١٢٨ ـ الشرب من زمزم

يستحب أن يأتى الحاج زمزم فيكثر الشرب من مائه على نية ما يحب ، ويقول : «بسم الله ، اللهم اجعلها لنا علما نافعا ، ورزقا واسعا ، وريا وشبعا ، وشفاء من كل داء ، واغسل به قلبى واملأه من حكمتك». ولا بأس بالشرب فى الطواف. ولا يكره الوضوء والغسل بماء زمزم على الصحيح. والاسم زمزم من زمّ الماء أى اجتمع وتدفق ، ويقال : زمّ القربة أى ملأها ماء ، والزمزم الماء المجتمع ، ويقال للماء زمزم إذا كان بين الملح والعذب ، وهو صفة ماء بئر زمزم. وكما قلنا : فالشّرب من زمزم ليس مجلبة لنفع وإنما هو اتّباع للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتواصل بالديانات ، وإحياء لملّة إبراهيم.

* * *

٢١٢٩ ـ الخروج إلى منى

المستحب خروج الحاج محرما من مكة يوم التروية فيصلى الظهر بمنى ، ثم يقيم حتى يصلى بها الصلوات الخمس ويبيت بها. فإذا صادف يوم التروية يوم جمعة فلا يخرج من مكة حتى يصلى الجمعة.

٢١٣٠ ـ يوم التروية

هو اليوم الثانى من ذى الحجة.

* * *

٢١٣١ ـ عرفات هى الحج

عرفات علم على مؤنث ، وهو فى الأصل جمع كمسلمات ومؤمنات ، سمّيت به

١٠٤١

بقعة معينة ، لأن الناس يتعارفون بها. وفى القرآن يأتى ذكر عرفات مرة واحدة : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) (١٩٨) (البقرة) ، والخطاب للجمع ، لأن الناس كانوا يجتمعون بعرفات يوم عرفة ، وقد أتوا من أماكن بعيدة وبعد مشقة أسفار ، فيتعارفون وهم الأغراب ، فسمى يوم اجتماعهم «عرفة» ، وسمّى الموضع «عرفات». والصحيح أن الاسم مرتجل من زمن الجاهلية ؛ وعند المسلمين عرفات من العرف وهو الطيب (بكسر الطاء) ، كقوله تعالى : (عَرَّفَها لَهُمْ) (٦) (محمد) أى طيّبها ، فهى مطيّبة ، بخلاف منى التى فيها الفروث والدماء (بقايا الذبح) ، فذلك سبب تسميتها «عرفات» ، وتسمية يوم الوقوف «يوم عرفة». وقيل : إن أصل الاسمين من الصبر ، يقال رجل عارف أى صابر خاشع ، وفى المثل : النّفس عروف ، أى صبور ، وما حمّلتها تتحمل ، فسمى المكان بهذا الاسم لأن الناس فيه يخضعون ويتذللون ويصبرون على الدعاء والبلاء ، ويحتملون الشدائد من أجل أن يقيموا الشعائر. والحج هو هذه الإفاضة من عرفات ، يستوى فيها أن تفيض ليلا أو نهارا ، وفى الحديث : «من صلّى معنا (أى مع المسلمين) صلاة الغداة بجمع ، وقد أتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا ، فقد قضى تفثه وتمّ حجّه» أخرجه أبو داود والنسائى والترمذى ، وفى الحديث : «الحج عرفات» ـ قالها ثلاثا ـ «فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك». والوقوف بعرفة ركن لا يتم الحج إلا به ، والمستحب أن يقف فيها عند الصخرات وجبل الرحمة. ويستقبل القبلة ، كما يستحب أن يغتسل الحاج للوقوف. ووقت الوقوف : من الزوال يوم عرفة إلى طلوع الفجر الثانى من يوم النحر ، لأن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقف فى حجة الوداع بعد أن صلى الظهر إلى أن غربت الشمس ، وقال : «لتأخذوا عنى مناسككم». وتكون الإفاضة على مهل ، لأن فى استعجال السير إلى المزدلفة استعجال الصلاة بها ، ولا يصلّى المغرب تلك الليلة إلا مع العشاء بالمزدلفة. والمستحب للحاج أن يخرج إلى الموقف من منى إذا طلعت الشمس يوم عرفة ، وهو اليوم التاسع من ذى الحجة ، فيقيم بنمرة ـ وهو اسم الموضع الذى عليه أنصاب الحرم بعرفات ، وفيه الآن المسجد المعروف ، وإن شاء يقيم بعرفة حتى تزول الشمس. وفى الحديث : «عرفة كلها موقف». وكانوا فى الماضى يفضلون الوقوف بها راكبين لا قائمين ، ولا بأس الآن أن يستريح من وقف قائما ، وقيل : الواقف أفضل من الراكب. ويستحب له يوم عرفة الإكثار من ذكر الله ، والدعاء بما يحب أو بالمأثور ، كأن يقول : «لا إله إلا الله وحده ، لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيى ويميت ، وهو على كل شىء قدير». ويجب عليه الوقوف إلى غروب الشمس. ووقت الغروب ـ كما سبق ـ من طلوع فجر يوم عرفة أو من الزوال ، إلى طلوع الفجر يوم النحر. فمن أدرك عرفة فى شىء من هذا الوقت ـ وهو عاقل ـ فقد تمّ حجّه. وقيل : أول وقته تأكيدا زوال الشمس من يوم عرفة ، ولو وقف بعرفة نهارا وجب

١٠٤٢

عليه البقاء إلى الغروب ، فإن خرج قبل الغروب ولم يعد حتى غربت الشمس فعليه دم وحجّه صحيح ، ومن لم يدرك جزءا من النهار ولا جاء عرفة حتى غربت الشمس فحجّه تام ولا شىء عليه. ومن لم يدرك الوقوف بعرفة حتى طلوع فجر ليلة النحر فات حجّه بلا خلاف ، ويتحلل بطواف وسعى وحلق على الصحيح ، ويمضى فى حجّه الفاسد ، ويجعل إحرامه إحراما بعمرة ، ويلزمه القضاء فى العام التالى سواء كان الفائت واجبا أم تطوعا ، ويلزمه هدى على الأصح ، والهدى ما استيسر ، وإن فات القارن الحج حلّ ، ويلزمه هديان ـ هدى للقرآن ، وهدى للفوات.

والاجتماع فى الأمصار فى المساجد يوم عرفة ، بغير عرفة ، سنّة طيبة ، ويخطب الإمام ويجتمع الناس إليه ، وكان التابعون يشهدون المساجد يوم عرفة. وفى الحديث عن فضل هذا اليوم : «صوم يوم عرفة يكفّر السنة الماضية والباقية». والصوم المقصود هو ما كان خارج عرفة ، وأما فى عرفة ، فعن ابن عباس : أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفطر بعرفة ، ويستحب للواقف بعرفة الفطر ليتقوّى على الدعاء ، كما يستحب الدعاء فى الأمصار يوم عرفة ، فادعوا عباد الله للمسلمين لتزول عنهم هذه الغمّة التى هى اضطهاد الغربيين للإسلام والمسلمين ، وإرهاب الدولة الذى يمارسونه علينا ، وفى الحديث : «أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة ، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلى : لا إله إلا الله وحده لا شريك له».

* * *

٢١٣٢ ـ يوم النفر

أى يوم الانصراف من منى.

* * *

٢١٣٣ ـ أيام منى

هى أيام التشريق الثلاثة التى تلا يوم النحر. وسميت منى أو منى بهذا الاسم لما يمنى فيها من الدماء ، أى يراق. والمنى جمع منية ومنية وهى البغية. وقيل : سميت كذلك لأن جبريل قال لآدم فيها : تمنّ. قال : أتمنى الجنة ، فسميت منى ، والأصحّ ما ذكرناه أولا ؛ وسميت «جمعا» لأنه اجتمع بها حواء وآدم عليهما‌السلام ، والأصح لأن الحجيج يكون اجتماعهم فيها. والجمع أيضا هو المزدلفة ، وهو المشعر الحرام.

* * *

٢١٣٤ ـ المزدلفة يزدلف فيها الحجّاج إلى الله تعالى

المزدلفة : هى الجمع لأنه فيها يجمع المغرب إلى العشاء فى الصلاة ، ولا صلاة فى المزدلفة قبل أن يغيب الشفق ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الصلاة أمامك» ، ثم صلّاها بالمزدلفة بعد

١٠٤٣

مغيب الشفق. وهى المزدلفة : لأن المسلمين فيها منذ آدم يزدلفون إلى الله بالصلاة ، أى يتقرّبون. والثابت أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى المغرب والعشاء بالمزدلفة بأذان واحد وإقامتين. وقيل يصليان بأذانين وإقامتين ، وكذلك الظهر والعصر بعرفة ، والصحيح أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم سنّ فى الصلاتين بالمزدلفة أن الوقت لهما جميعا وقت واحد ، فتصلى الأولى بأذان وإقامة ، وتصلى الثانية بلا أذان ولا إقامة ، وإنما أمر عمر بالتأذين الثانى لأن الناس تفرّقوا لعشائهم فأذّن ليجمعهم ، وإذا أذّن أقام. وقال ابن عمر. جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المغرب والعشاء بجمع ، وصلى المغرب ثلاثا ، والعشاء ركعتين بإقامة واحدة. والأقوال مختلفة فى ذلك. وليس المبيت فى المزدلفة ركنا من الحج ، غير أنه سنّة مؤكدة ، وكذلك الوقوف فيها. والمستحب للحاج أن يقف بعرفة حتى يدفع الإمام ، ثم يسير نحو المزدلفة فى سكينة ووقار ، ويكبّر فى الطريق ، ويذكر الله ويلبّى. ومن بات بالمزدلفة لم يجز له الدفع قبل نصف الليل ، فإن دفع بعده فلا شىء عليه ، والمستحب له المبيت إلى أن يصبح ، فإذا كان الصبح دفع ، ويستحب تقديم الضعفة والنساء ، ثم يسير بسكينة إلى منى قبل طلوع الشمس ، ثم يسرع عند وادى محسر ، ويلبّى فى الطريق ، ولا يقف حتى يأتى منى ـ وهى بين وادى محسر وجمرة العقبة.

* * *

٢١٣٥ ـ المشعر الحرام هو المزدلفة

المشعر الحرام من مصطلحات الحج ، وهو الجمع ، لأنه فيه يجمع المغرب والعشاء ، وهو المزدلفة أيضا لأن آدم ازدلف فيه إلى الله ، وكذلك يفعل المؤمنون ، يعنى يتقرّبون بالوقوف فى هذا المكان. والمشعر من الشّعار وهو العلامة ، فهو معلم للحج والصلاة والمبيت به ، والدعاء عنده ، وكلها من شعائر الحج ، ووصف بالحرام لحرمته.

* * *

٢١٣٦ ـ حصى الجمار

يستحب للحاج أن يجمع حصى الجمار من طريقه إلى منى ، أو من المزدلفة ، ويجزئ أخذها من أى مكان شاء ، والتقاط الحصى أولى من تكسيره ، والمستحب أن تكون الحصاة صغيرة تمسك بطرفى الإبهام والسبابة ، وقيل الحصى أكبر من الحمّص ودون البندق. والجمار أو حصى الجمار : هو الحصى التى يرمى بها الحجّاج فى مناسك الحج. وعدد الحصى سبعون حصاة ، يرمى منها سبعا يوم النحر ، وسائرهن فى أيام منى.

* * *

٢١٣٧ ـ رمى جمرة العقبة

يرمى الحاج جمرة العقبة بسبع حصيات يكبّر مع كل حصاة ، ويدعو : «اللهم اجعله

١٠٤٤

حجا مبرورا ، وذنبا مغفورا ، وعملا مشكورا». ويستبطن الوادى ، ويستقبل القبلة ، ثم ينصرف ولا يقف ، ولا يجزئه الرمى إلا أن تقع الحصاة التى رماها فى المرمى ، ولا يجزئه أن يرمى الحصيات كلها مرة واحدة. ويكون الرمى فى وقت فضيلة بعد طلوع الشمس ، أو وقت جواز ، وأوله منتصف الليل من ليلة النحر ، وإن أخّر الرمى إلى آخر النهار جاز ، وإن أخّره إلى الليل لم يرمها حتى تزول الشمس من الغد ، ولا تلبية عند رمى أول حصاة من جمرة العقبة.

وجمرة العقبة : هى الجمرة الكبرى ، وليست من منى ، بل هى حدّ منى من جهة مكة ، وهى التى بايع النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأنصار عندها على الهجرة. والجمرة : اسم لمجتمع الحصى ، وسميت بذلك لاجتماع الناس بها ، ويقال تجمّر بنو فلان إذا اجتمعوا ، وتسمى العرب الحصى الصغير جمارا. وقيل : إن آدم أو إبراهيم لمّا التقى إبليس حصبه ، فجمر إبليس ـ أى أسرع ، فسمّى الحصى جمارا لأنه تسبب فى إسراعه.

* * *

٢١٣٨ ـ رمى الجمرات أيام التشريق

ترمى الجمرة الأولى فى اليوم الأول من أيام التشريق بعد زوال الشمس. والجمرة الأولى : أبعد الجمرات عن مكة ، وتلا مسجد الخيف ، فيجعلها عن يساره ويستقبل القبلة ويرميها بسبع حصيات ويرفع يديه ويدعو. ثم يتقدم إلى الجمرة الوسطى فيفعل نفس الشيء ، إلا أنه يجعلها عن يمينه ، ثم يرمى جمرة العقبة كذلك ، ويستبطن الوادى ، ويستقبل القبلة ، ثم يسير ولا يقف ، ويفعل نفس الشيء فى اليوم الثانى ، فإن أحب التعجيل بالرمى فى يومين فله ذلك على أن يخرج من منى قبل الغروب. فإن غربت الشمس قبل خروجه من منى لم يجز له الخروج حتى يرمى فى اليوم التالى بعد الزوال كما رمى بالأمس. والترتيب فى الرمى واجب. ووقت الرمى أيام التشريق بعد الزوال ، فإن رمى قبل الزوال أعاد ، وآخر وقت الرمى هو آخر أيام التشريق ، فإن مضى الوقت ولم يرم فعليه فدية. وإن ترك الرمى أو واحدة منها من غير عذر فعليه دم ، والأولى ألا ينقص فى الرمى عن سبع حصيات. ويترك السنّة من يؤخّر الرمى ، وعليه أن يرمى اليوم الأول ، ثم الثانى ثم الثالث ، ومن كان لديه عذر جاز أن يستنيب من يرمى عنه.

* * *

٢١٣٩ ـ أيام التشريق والأيام المعدودات وحكم الجمار

الأيام المعدودات فى الآية : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللهَ) (٢٠٣) (البقرة) للقليل والكثير ، وتقال لأيام

١٠٤٥

منى من أيام الحجّ ، وهى «أيام التشريق» ، و «أيام رمى الجمار» ، وهى أيام ثلاثة يتعجّل الحاج منها فى يومين بعد «يوم النحر». وقيل : «الأيام المعدودات» هى أيام التشريق ، بينما «الأيام المعلومات» (الحج ٢٨) : هى «الأيام العشر» (البقرة ١٩٦). وفى الحديث : «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله» ، يعنى لا صيام فيها. وعن عائشة قالت : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صوم أيام التشريق ، قيل : هى ثلاثة : يوم النحر ، ويومان بعده ، يذبح الحاج فى أيهن يشاء ، وأفضلها أولها ، والأصح ما دلّ عليه ظاهر الآية وهو ثلاثة أيام بعد النحر ، وفى أيها يمكن التضحية. ووقت الذكر فيها من صلاة الصبح يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق وهو آخر النّفر الآخر. وفى الحديث : «الحج عرفة ، فمن جاء ليلة جمع (وهى المزدلفة) قبل طلوع الفجر ، فقد أدرك أيام منى ثلاثة ، فمن تعجّل فلا إثم عليه» ، أخرجه الترمذى ، أى من تعجّل من يومين من أيام منى صار مقامه بمنى ثلاثة أيام بيوم النحر ، ويصير جميع رميه بتسع وأربعين حصاة ، ويسقط عنه رمى اليوم الثالث ، ومن لم ينفر من منى إلا فى آخر اليوم الثالث حصل له بمنى مقام أربعة أيام بما فيها يوم النحر ، واستوفى العدد من الرمى. وأيام الرمى على ذلك هى الأيام المعدودات ، وأما الأيام المعلومات فهى أيام النحر. وقيل إن الأيام المعدودات والمعلومات يجمعها أربعة أيام ، هى : يوم النحر ، وثلاثة أيام بعده ، فيوم النحر معلوم ولكنه غير معدود ، واليومان بعده معلومان معدودان ، واليوم الرابع معدود وليس معلوما. وقيل : إن النحر فى اليوم الأول وهو الأضحى ، وفى الثانى والثالث ، وليس فى الرابع نحر ، فكأن الرابع لا يدخل فى الأيام المعلومات ، لأنه لا ينحر فيه وإنما يرمى فيه ، فصار معدودا لأجل الرمى ، وغير معلوم لعدم النحر فيه : والإجماع على أن وقت رمى الجمرات فى أيام التشريق يوم النحر بعد الزوال إلى الغروب. فإذا مضت أيام الرمى فلا رمى. وقيل وقت الرمى من طلوع الشمس إلى زوالها. ولا تكون البيتوته بمكة أو بغيرها أيام التشريق إلا فى منى ، إلا لمن يؤدون الخدمات ، ومن ترك المبيت ليلة من ليالى منى من غير هؤلاء فعليه الفدية. وأيام التشريق أيام رمى كلها ، ويرمون يوم النحر ـ يعنى جمرة العقبة ، ثم لا يرمون من الغد ، وهو الثانى من أيام التشريق الذى يتعجّل فيه النفر من يريد التعجيل أو من يجوز له التعجيل كقوله : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) (٢٠٣) (البقرة) ، فيرمى اليومين لذلك اليوم ولليوم الذى قبله ، لأنه يقضى ما كان عليه. وثبت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رمى جمرة العقبة يوم النحر على راحلته. ويرمى الحاج فى كل يوم من الثلاثة إحدى وعشرين حصاة ، ويكبّر مع كل حصاة ، ويوجه وجهه فى حال الرمى إلى الكعبة ، ويرتب الجمرات ، ويبدأ بالجمرة الأولى فيرميها بسبع حصيات ، واحدة واحدة ، فإذا فرغ منها تقدّم أمامها فوقف يدعو ، ثم يرمى الثانية ـ وهى الوسطى ـ

١٠٤٦

وينصرف عنها ذات الشمال ويدعو ، ثم يرمى الثالثة من أسفلها ولا يقف عندها ، ويكبّر فى ذلك كله مع كل حصاة يرميها ، وسنّة الذكر فى رمى الجمار : التكبير ، ويرميها ماشيا بخلاف جمرة يوم النحر. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا رمى الجمرة الأولى يرميها بسبع حصيات ، يكبّر كلما رمى بحصاة ، ثم يتقدم أمامها فيقف مستقبلا القبلة ، رافعا يديه بالدعاء ، وكان يطيل الوقوف ، ثم يأتى الجمرة الثانية فيرميها بسبع حصيات ، يكبّر كلما رمى حصاة ، ثم ينحدر ذات اليسار فيقف مستقبلا القبلة رافعا يديه ثم يدعو. ثم يأتى الجمرة التى عند العقبة فيرميها بسبع حصيات ، يكبّر كلما رمى بحصاة ، ثم ينصرف ولا يقف عندها. وحكم الجمار أن تكون طاهرة غير نجسة ولا مما رمى به ، وتؤخذ استحبابا من المزدلفة من حصى المسجد ، ولا يغسل ، ولا يجزئ فى الجمار غير الحجر أو الطين اليابس ، وكل شىء من الأرض فهو يجزئ. والحصى أصغر من الأنملة طولا وعرضا ، ويجوز الرمى بأى حجم طالما اسمه حصاة ، والغلو فى الدين منهىّ عنه. ويرمى عن المريض والصبى اللذين لا يطيقان الرمى. ومن أراد من النفر الأول الخروج من منى شاخصا ، إلى بلده ، خارجا عن الحرم ، أن ينفر بعد زوال الشمس إذا رمى فى اليوم الذى يلى يوم النحر قبل أن يمسى ، فلينفر فى النهار ولا إثم عليه.

* * *

٢١٤٠ ـ الأيام المعلومات فى الحج

الأيام المعلومات فى قوله تعالى : (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) (٢٨) (الحج) ، هى الأيام العشر من أول من ذى الحجة ، وآخرها يوم النحر. وفى الحديث : «ما من أيام أعظم عند الله ولا أحبّ إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر ، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد». والمراد بالتكبير الحجّاج وغيرهم وخصوصا فى أوقات الصلوات ، فيكبّر عند انقضاء كل صلاة ، سواء كان المصلى وحده أو فى جماعة ، تكبيرا ظاهرا فى هذه الأيام ، ويكبّر النساء كذلك دبر كل صلاة ، وصيغة التكبير : «لا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولله الحمد». وقيل هى : «الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر ولله الحمد». وكان رسول الله يصوم الأيام المعلومات ، ومنها : يوم عرفة فكان يصومه فى غير عرفة ، ويوم النحر الذى هو يوم الحج الأكبر. وقيل إن الأيام المعلومات هى أفضل أيام السنة. وأما الليالى العشر فهى الأيام العشرة الأخيرة من رمضان التى يكون فيها الاعتكاف ، ومنها ليلة القدر التى هى خير من ألف شهر. وفضل الأيام العشر أن فيها الحج ، وفضل الليالى العشر أن فيها رمضان شهر الصوم. وعن ابن عمر : الأيام المعلومات هى يوم النحر ويومان بعده ـ يعنى هى ثلاثة أيام. وعن ابن عباس : هى يوم النحر ـ وثلاثة أيام بعده ـ يعنى هى أربعة أيام. وقيل : الأيام المعلومات : عشر ذى الحجة وأيام التشريق ـ يعنى اليوم الثانى والثالث

١٠٤٧

والرابع من أيام عيد الأضحى ، فأما اليوم الأول فهو يوم النحر. وسميت أيام التشريق : لأن الناس فيها يشرقون لحوم الأضاحى شرائح يجففونها.

* * *

٢١٤١ ـ الليالى العشر هى أيام الحج

قيل الأيام العشر : من أول يوم ذى الحجة إلى عشرة منه وهو يوم النحر ، وهى أيام الحج المشار إليها بالأيام المعلومات كقوله تعالى : (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) (٢٨) (الحج) ، وأما الليالى العشر فى الآية : (وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) (٣) (الفجر) فالمقصود بها ليالى رمضان العشر الأخيرة التى فيها الاعتكاف ، ومنها ليلة القدر خير من ألف شهر. وقيل أيضا إن الليالى العشر هى ليالى ذى الحج من أوله إلى اليوم العاشر وفيه النحر ؛ وقيل هى الأضحى ، لأن ليلة النحر داخلة فيها ؛ وقيل هى العشر التى ذكرها الله فى قصة موسى : (وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) (١٤٢) (الأعراف) ؛ وقيل هى العشر الأولى من المحرّم ؛ وقيل إنها عشر ذى الحجة لأنه تعالى فى الآية قبلها اقسم بالفجر ، وهو فجر يوم النحر خاصة ، وهو خاتمة الليالى العشر ، ويقصد بالفجر صلاة الفجر ، وأقسم لذلك بعدها بالشفع والوتر ، والوتر يوم عرفة لكونه التاسع ، والشفع يوم النحر أو ليلة الأضحى لكونه العاشر.

* * *

٢١٤٢ ـ الحج الأكبر والحج الأصغر

يأتى هذا المصطلح ـ الحجّ الأكبر ـ مرة واحدة فى الآية : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) (٣) (التوبة) ؛ وقيل هو يوم عرفة ، وفى الحديث : «يوم الحج هو يوم عرفة» ، وقيل هى أيام منى كلها ؛ وقيل : يوم الحج الأكبر يوم النحر ، فقد سأل النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أى يوم هذا»؟ فقالوا : يوم النحر. فقال : «هذا يوم الحج الأكبر» أخرجه أبو داود والبخارى. وقيل إنه «الأكبر» من أجل قول الناس : «الحج الأصغر» ، وفيه ـ أى فى يوم الحج الأكبر ـ يهراق الدم ، ويوضع الشّعر ، ويلقى فيه التّفث (أى الوسخ) ، وتحلّ فيه الحرم ، وفى هذا اليوم ـ يوم النحر ـ الحج كله ، لأن : الوقوف فى ليلته ، والرمى ، والنحر ، والحلق ؛ والطواف فى صبيحته. وقيل الحج الأكبر : الذى فيه الوقوف بعرفة ، والحج الأصغر : هو العمرة. وقيل إنما هذا اليوم من السنة قبل حجة الوداع ، أذن فيه للمشركين لآخر مرة أن يطوفوا بالبيت عراة ، وسمّى يوم الحج الأكبر ، لأن المسلمين والمشركين حجّوا فيه معا ، وفيه اتفقت يومئذ أعياد الملل : اليهود ، والنصارى ، والمجوس ، والمسلمين ؛ وقيل : إنه الأكبر لأنه نبذت فيه العهود مع المشركين والكفّار ؛ وقيل : سمّى الأكبر لأنه كان فى العام الذى حجّ فيه النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حجة الوداع ، وحجّت معه فيه الأمم.

* * *

١٠٤٨

٢١٤٣ ـ الهدى وما يجوز منه ومتى ينحره

الهدى : ما يهدى من بهيمة الأنعام ، وأفضلها الإبل ، ثم البقر ، ثم الغنم ، والضأن أفضل من المعز ، والشاة الواحدة أفضل من اشتراكه مع غيره فى بدنة بسبعها ، والذكر والأنثى فى الهدى سواء. ويحصل الإيجاب للهدى بقول المهدى : «هذا هديى» ، أو تقليده ناويا به الهدى ، ويسنّ تقليد الهدى بأن يجعل فى أعناقها النعال أو أى علّاقة. والسنّة إشعار الإبل والبقر ، أى أن يشق صفحة السنام الأيمن للإبل حتى يدميها ، ولا يسن إشعار الغنم. وينحر الهدى متى فرغ الحاج من رمى جمرة العقبة يوم النحر ، والسنّة النحر بمنى ، ويجزئه حيث نحر من الحرم ، ويستحب للمهدى أن يشهد النحر ، ويجوز أن يشترك السبعة فى البدنة والبقرة. وإن عجز المتمتع عن الهدى يصوم ثلاثة أيام فى الحج بعد إحرامه آخرها يوم عرفة ، وسبعة إذا رجع إلى بلده ، وله أن يصوم العشرة أيام جميعها بين أهله وفى بلده.

* * *

٢١٤٤ ـ الفداء والفدية

من فدى ، تقول : فدى الرجل من الأسر ، أى استنقذه بمال أو سواه ، كقوله تعالى : (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ) (٨٥) (البقرة) ، يعنى تقبلون الفدية فى الأسرى ، والفدية : هى ما يعطى عوض المفدى. والفدية والفداء والفدى بمعنى واحد ؛ وفاديت نفسى إذا أطلقتها بعد أن دفعت شيئا كقوله تعالى : (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ) (١٨) (الرعد) ، ومنه قول العباس للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فاديت نفسى وفديت عقيلا ؛ والعرب تقول : جعلت فداك. ومن نذر ذبح ابنه يفديه بكبش كما فدّى إبراهيم ابنه ، كقوله تعالى : (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (١٠٧) (الصافات) ، وقيل : ينحر مائة من الإبل كما فدى عبد المطلب ابنه! وفى الأحوال الشخصية يقال : فدت المرأة نفسها من زوجها : أى أعطته مالا حتى تخلصت منه بالطلاق ، كقوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) (٢٢٩) (البقرة) ، وفى الآية جواز أن يخلع الزوج زوجته نظير أن تعطيه ما أنفقه عليها ، وقيل : يجوز أن تفتدى منه بما يتراضيان عليه سواء كان أقل مما أعطاها أو أكثر منه ، وكان الناس فيه لا يأخذون من النساء أكثر مما يعطونهن ، وقد رفض النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الزيادة فقال : «أما الزيادة فلا ولكن حديقته» ، والحديقة هى ما دفعه لها فافتدت بها المرأة نفسها ، وقيل : الفداء فى العينى لا فى المال. وقد تكون الفدية الطعام عن الإفطار فى رمضان ، كقوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) (١٨٤) (البقرة) ، والآية نزلت رخصة للشيوخ والعجزة خاصة ، والمرضى والحوامل والمرضعات ، إذا أفطروا لعدم قدرتهم على الصوم ، ولقدرتهم على أن يطعموا إذا أفطروا ، أن يطعم كل منهم عن نفسه مسكينا عن كل يوم.

١٠٤٩

والفداء فى الحج كقوله تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) (١٩٦) (البقرة) وذلك لمن أراد أن يحلق ، فلا يفتدى حتى يحلق ، وشعر الرأس وغيره فى وجوب الفدية سواء ، وإذا حلق المحرم رأسه ثم حلقه ثانية فعليه فدية واحدة ؛ وجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدية الأذى : أن يفدّى ستة مساكين ويعشّيهم ، أو يهدى شاة أو يصوم ثلاثة أيام. والنسك هى الذبيحة ينسكها العبد لله تعالى. وقصّ المحرم أظفاره كالحلق ، فيه الفدية عن كل ظفر ، والمرأة إذا لبست القفاز. والفدية فى الحج الفاسد بالجماع حال الإحرام بدنة ـ أى ناقة أو بقرة مسمّنة ، على كل من الواطئ والموطوءة. والدم فدية لبس المخيط عامدا ، والقميص يستديم لبسه ، والمنطقة ، والقباء ، وكذلك الذى يتطيّب ثم ينزع ثوبه ثم يلبسه. ولا يتقيد صيام الفدية بالحرم. وجزاء ما كان من الصيد ولو كان طيرا ، نظيره من المال يفديه به ، وإذا أتلف جزءا من الصيد وجب ضمانه ، وحتى بيض الصيد وفراخه يفتدى. ولا فدية على قتل الحيوان المؤذى والأهلى.

* * *

٢١٤٥ ـ أعمال النحر

فى قوله تعالى : (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) (٢٨) (الحج) ، أن ذكر اسم الله هو التسمية عند الذبح والنحر ، كقولك : (إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٦٢) (الأنعام) ، فكل ما نؤدّيه كعبادة ، لله وباسم الله. وفى الجاهلية كان الناس يذبحون على أسماء أصنامهم ، فبيّنت الآية أن الذبح لا يكون إلا على اسم الله ، لأنه الذى يرزق بهيمة الأنعام. ووقت الذبح هو انصراف الإمام ، وفى عهد النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن ينحر إلا بعد نحر النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفى الحديث : «من ذبح بعد الصلاة فقد تمّ نسكه وأصاب سنة المسلمين» أخرجه مسلم. وأيام النحر ثلاثة أو أربعة : يوم النحر ويومان بعده ، أو ثلاثة أيام بعده. ويوم النحر هو العاشر من ذى الحجة. والنحر فى الأمصار يوم واحد ، وفى منى ثلاثة أيام. والأيام المعلومات هى هذه الأيام الثلاثة. ويوم النحر لا يرمى فيه غير جمرة العقبة ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يرم من الجمرات غيرها يوم النحر. وأعمال يوم النحر أربعة أعمال : الرمى ، ثم النحر ، ثم الحلق ، ثم الطواف. والسنّة ترتيبها هكذا ، وإن أخلّ الحاج بالترتيب فلا شىء عليه.

* * *

٢١٤٦ ـ الأضحية وتوزيع لحمها

المرخّص بذبحه فى الحج هى الأنعام كقوله تعالى : (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) (٢٨) (الحج) ، وهى : الإبل ، والبقر ، والغنم. ويستحب لمن يذبح أن يقوم بذلك بنفسه ، وأن يأكل من هديه وأضحيته ، ويدّخر منها ويتصدّق بالأكثر ، وفى

١٠٥٠

الحديث : «فكلوا وادّخروا وتصدّقوا» ، والأكل فى الذبائح لا يحلّ فى أربع : الكفّارات ، والصيد ، والنذر ، وفدية الأذى. وفى الجاهلية كانوا يحرّمون الأكل من لحوم الضحايا ؛ وفى الإسلام أمرنا بالأكل منها : (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا) (الحج ٢٨) ، وفى الحديث : «من ضحّى فليأكل من أضحيته». ويستحب التصدّق بالثلث ، وإطعام الثلث ، وإهداء الأهل من الثلث ؛ وقيل يأكل النصف ويدّخر منه ، ويتصدّق بالنصف ، لقوله : (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) (٢٨) (الحج) ، وقوله : (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) (٣٦) (الحج) والفقير يوصف بالبؤس من شدّة الفقر ؛ والقانع هو السائل ، ويقنع يعنى يسأل ؛ والمعتر الذى يتعرض لمن يذبح يسأله منه ، من اعتراه وعراه ، يعنى يطيف بصاحب الأضحية وقد يسأله ، وقد يظل ساكتا. والسنّة فى النحر أن تنحر الإبل قياما مقيدة ، وتنحر البدن قياما ، ولا يعطى الجزّار أجره من الهدى ، وقد يعطى من الهدى صدقة أو هدية أو زيادة على حق. ولا يباع لحم الهدى ولا جلودها ولا جلالها ـ أى كسوتها ، ويتصدّق بها.

* * *

٢١٤٧ ـ البدن من شعائر الله

البدن هى الإبل ، ومفردها بدنة ، مأخوذة من البدانة وهى الضخامة ، وقيل البدانة فى الإبل والبقر ، وقيل البقر لا يقال عليها بدنا ، وقيل البدن تهدى إلى الكعبة ، والهدى فى الإبل والبقر والغنم ، وفيها قوله تعالى : (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ) (٣٦) (الحج). والخير فى البدن هو منافعها ، ونحرها لا يكون إلا على اسم الله ؛ وصواف أى تصفّ قوائمها ، والبعير إذا أرادوا نحره تعقل إحدى يديه ، فإذا وجبت جنوبها ، أى سقطت بعد نحرها ، فعندئذ يستحب أن يأكل الإنسان من هديه ، وفيه أجر وامتثال ، وأن يطعم القانع وهو السائل ، والمعتر الذى يطيف بالضحية ولا يسأل.

* * *

٢١٤٨ ـ النحر عام الحديبية

نحر المسلمون مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الحديبية سنة ست هجرية فى ذى القعدة : البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة ، واشتركوا معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الحج والعمرة كل سبعة فى بدنة ، ونحروا يومئذ سبعين بدنة ، ونحر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدنة ، وحلق رأسه. وقيل إن الذى حلق رأسه يومئذ خراشى بن أمية بن أبى العيص الخزاعى ، وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمين أن ينحروا ويحلّوا ، ففعلوا بعد توقّف أغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت له أم سلمة : لو نحرت لنحروا ، فنحر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هديه ، ونحروا بنحره ، وحلق رأسه ودعا للمحلقين ثلاثا ، وللمقصّرين مرة.

١٠٥١

٢١٤٩ ـ نحر الهدى حيث حلّ صاحبه

عن الهدى فى الآية : (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) (١٩٦) (البقرة) أن التحلل من الإحرام حتى ينحر الهدى ـ وهذا فى أحوال السلم والظروف العادية ؛ والمحل : الموضع الذى يحلّ فيه الذبح ، فإذا كان هناك حصر من العدو أو من مرض يقعد بصاحبه ، فالمحل حيث موضع الحصر ، اقتداء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زمن الحديبية ، كقوله تعالى : (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) (الفتح ٢٥) ، والمعكوف هو المحبوس فى حالة الحصر ، ممنوعا من الوصول إلى البيت الحرام ، وقوله : (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (٣٣) (الحج) ، والمخاطب بكل ذلك : الآمن الذى يجد الوصول إلى البيت ، بدليل أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أحصر وأصحابه نحر الهدى بالحديبية وليست من الحرم.

* * *

٢١٥٠ ـ المنحر منى ومكة

المنحر للحاج : منى ، والمنحر للمعتمر : مكة ، وإذا نحر الحاج بمكة ، والمعتمر بمنى لم يحرج واحد منهما ـ أى لم يأثم.

* * *

٢١٥١ ـ الإحصار فى الحج

الإحصار : هو المنع من الوجه الذى تقصده بالعوائق بأى عذر كان ، كأن يكون الحصر بالعدو ، أو بالمرض ، أو بالفقر ، أو بمنع السفر إلى الحج من حكومة جائرة ، وفى حالة العدو نقول حصر بالعدو كما فى حالة فلسطين ومنع اليهود للمسلمين من الحج ، وفى حالة المرض أو الفقر نقول أحصر بالمرض أو بالفقر ، ويصح أن نقول : أحصر بالعدو ، وحصر بالفقر أو المرض ، والغالب أنه فى العدو نقول : حصر ، وفى المرض أو الفقر نقول أحصر. والمحصر الذى نيته الحج ولا يستطيعه للأسباب السابقة ، فعليه الهدى ، كقوله : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) (١٩٦) (البقرة) ، ويحلّ المحصر حيث أحصر ، وينحر هديه فى مكانه إن كان ثمّ هدى ، ويحلق رأسه ، أو يبعث بهديه إن أمكن ، وليس على الفقير هدى. وكل من منع من الوصول إلى البيت الحرام ، سواء بعدو يحاصر بلاده ، أو بعدو يحتل أرضه ويتحكم فيه ، أو بمرض يمنعه من السفر ، أو بالفقر يعوقه عن الحج والوفاء بالتزاماته ، أو يكون قد فقد ماله فى بداية السفر ، فإنه يقف مكانه على إحرامه ، ويبعث بثمن هديه إن كان معه مال ، وحينئذ يستطيع أن يحل فى وقت الحل ، وأن يشترط فى تلبيته فيقول : لبيك اللهم لبيك ، ومحلى حيث حبستنى من الأرض ، كما قال النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب بنت عمّ النبىّ ، وكانت زوجة للمقداد بن الأسود ، حين

١٠٥٢

أتته تقول : يا رسول الله ، إنى أردت الحج ، أشترط؟ قال : «نعم». قالت : فكيف أقول؟ قال : «قولى لبيك اللهم لبيك ، ومحلى من الأرض حيث حبستنى» أخرجه أبو داود والدارقطنى وغيرهما. وهذه بشرى للفقراء والمرضى حيثما كانوا ، فما عليهم إلا أن ينووا الحج لله ويتابعوا شعائره فى وسائل الإعلام ، ويلبّوا مع الملبين وإنما حيث حبسهم الله ، وهو تعالى ذو الفضل ، وله الحمد والمنّة. وكانت ضباعة سمينة ولا تستطيع أن تسافر للحج ، وجاءت إلى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما يقول ابن عباس وقالت له : إنى امرأة ثقيلة وإنى أريد أن أحج ، فكيف تأمرنى أن أهلّ؟ قال : «أهلّى واشترطى أن محلى حيث حبستنى». وعذر ضباعة قائم ولن يتغير ، وقول القائلين أنه يتوجب على من أحصر قضاء الحج أو العمرة ، ولا قضاء فى مثل ذلك إلا إذا تغيرت الأحوال ، كأن يجلو العدو ، أو يشفى من المرض ، أو تتغير أحواله المالية ، فحينئذ يتوجب القضاء ، وفى الحديث : «من عرج أو كسر فقد حلّ وعليه حجة أخرى» أخرجه الدارقطنى ، فذلك شأن من يصاب بمرض مفاجئ أو حادث طارئ. وفى عام الحديبية حلّ النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون حيث هم ، ثم قضوا فى العام المقبل ، ولذلك قيل لعمرة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من العام التالى لعام الحديبية : «عمرة القضاء» أو «عمرة القضية» ، وإنما لم يأمر النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحدا من أصحابه أن يقضوا شيئا ، ولا حفظ ذلك عنه ، ولا قال فى العام المقبل : إن عمرتى هذه قضاء عن العمرة التى حصرت فيها ، ولم ينقل ذلك عنه ، والصحيح أن اسم «عمرة القضاء» أو «القضية» لم يكن لأنها تقضى عن العمرة السابقة التى لم تتم ، وإنما لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاضى قريشا وصالحهم فى ذلك العام على الرجوع عن البيت على أن يقصده من قابل ، فسميت بذلك عمرة القضية». والخلاصة : أن من أحصر يحلّ بالنية ويفعل ما يتحلل به ، ولا قضاء عليه ، والله أعلم.

* * *

٢١٥٢ ـ حلق الشّعر والتقصير

الحلق والتحليق والتقصير جميعا للرجال ، ولذلك يغلب المذكر على المؤنث فى الآية : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) (٢٧) (الفتح). والحلق أفضل ، وليس للنساء إلا التقصير. وفى الصحيح أن معاوية أخذ من شعر النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المروة وهذا كان فى العمرة لا فى الحج ، لأن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حلق فى حجته.

* * *

٢١٥٣ ـ الحلق بعد النحر

لقوله تعالى : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) (١٩٦) (البقرة) ، فعلى المحرم أن لا يحل قبل أن ينحر هديه ، وكذلك المحصر ؛ والموسر ينحر ، والمعسر ينحر عنه ؛ وأقل الهدى شاة ؛ والمحصر بمرض أو بعدو ينحر مكانه ؛ وإن لم يجد هديا فعليه الإطعام أو

١٠٥٣

الصيام ، وإن لم يجد لا الهدى ، ولا الإطعام ، ولم يستطع الصيام ، فلا شىء عليه ؛ وليس عليه أن يحلق لأنه قد ذهب عنه النّسك ، فلمّا سقطت عنه بالإحصار جميع المناسك كالطواف والسعى ، سقط عنه سائر ما يحل به المحرم من أجل أنه محصر ، وليس عليه تقصير ولا حلاق ، وإن حلق فلا شىء أيضا ، والحلق أفضل لأنه من النسك الذى يقدر عليه ، فإن لم يقدر عليه من مرض أو ضعف أو غيره فلا شىء. والحلاق أحسن من التقصير ، لأن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا ثلاثا للمحلّقين ، ودعا مرة واحدة للمقصّرين ، وفى ذلك دليل على أن الحلق فى الحج والعمرة أفضل من التقصير ، وهو مقتضى قوله تعالى : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ) (١٩٦) (البقرة) الآية ، فلم يقل تقصّروا. ولا تدخل النساء فى الحلق ، والتقصير للنساء سنّة ، وفى الحديث : «ليس على النساء حلق إنما عليهن التقصير» أخرجه أبو داود. وتقصّر المرأة من كل ضفيرة مثل الأنملة ، أو ثلاثة أصابع مقبوضة ، أو الثلث أو الربع ، والشابة خلاف القاعدة.

* * *

٢١٥٤ ـ فما ذا لو أضطر أن يحلق وهو فى الحلّ؟

الحلاق بعد نحر الهدى ، فمن يضطر أن يحلق أو يأتى بشيء من الحل قبل الهدى ، فعليه فدية : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) (١٩٦) (البقرة) ، ولما رأى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كعب بن عجرة وقد تفشّى القمل فى رأسه أثناء الإحرام ، وقمله يتساقط على وجهه ، أمره أن يحلق وهو فى الحديبية قبل أن ينحر الهدى ، وأنزل الله الفدية ، فأمره أن يطعم ستة مساكين ، أو يهدى شاة ، أو يصوم ثلاثة أيام ، والموجب للفدية الحلق للأذى والمرض. وفى الرواية أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لكعب : «أحلق واهد هديا» فقال : ما أجد هديا. قال : «فأطعم ستة مساكين» ، فقال : ما أجد. قال : «صم ثلاثة أيام». وظاهر الحديث الترتيب ، أى الاختيار أولا فأولا ، وأن المحرم ممنوع من حلق رأسه أو جزّه أو إتلافه بحلق أو نورة أو غير ذلك إلا فى حالة العلّة ، وعليه الفدية حينئذ ، ومثل ذلك من لبس المخيط ، أو غطى رأسه أو بعضه ، أو لبس الخفّين ، أو قلّم الأظافر ، أو مسّ الطيب ، أو حلق شعر جسده ، أو اطّلى ، أو حلق مواضع المحاجم ، والمرأة مثل الرجل ، وعلى الرجل الفدية ، وعلى المرأة مثل ذلك فى الحلق ـ وإن لم يكن فيه طيب ، وعلى المرأة الفدية إذا غطّت وجهها أو لبست القفازين ، وأكثر أهل العلم يساوون فى الفدية بين العامد والناسى ، إلا الشافعى فلا يجعل فدية على الناسى ، وفى الحديث أن الناسى معفى فلا شىء عليه. والفدية تكون فى أى مكان ، وما يذبح كفدية سمّاه القرآن نسكا ولم يسمه هديا ، فلا يقاس على الهدى ، ولا يعتبر هديا ، ولما أمر النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كعبا بالفدية لم يكن بالحرم. والنّسك : جمع نسيكة وهى الذبيحة ينسكها العبد لله تعالى ، ويجمع أيضا على

١٠٥٤

نسائك. والنّسك : العبادة فى الأصل ، ومنه قوله تعالى : (وَأَرِنا مَناسِكَنا) (١٢٨) (البقرة) أى متعبّداتنا.

* * *

٢١٥٥ ـ استحباب تقليم الأظافر

من حلق أو قصّر يستحب له تقليم أظافره ، والأخذ من شاربه.

* * *

٢١٥٦ ـ طواف الزيارة

طواف الزيارة من أركان الحج ، كطواف القدوم ، سوى أنه ينوى به طواف الزيارة ، ويسمى أيضا طواف الإفاضة ، لأنه يأتى بعد الإفاضة من منى. ولا رمل فيه ولا اضطباع ، ووقته المفضّل يوم النحر بعد الرمى والنحر والحلق ، ووقته الجوازى منتصف ليلة النحر ، ولا حدّ لآخره. والمفرد أو القارن ، إذا رمى ونحر وحلق ، أفاض من منى إلى مكة فطاف طواف الزيارة ، ولا يحل من إحرامه حتى يفعله. والمتمتّع يطوف بالبيت سبعا ، وهو طواف القدوم لأنه لم يطفه قبلا ، وإنما طاف وسعى للعمرة ، ويسعى بين الصفا والمروة سبعا كما فعل فى العمرة ، ثم يعود فيطوف بالبيت طوافا آخر ينوى به الزيارة.

* * *

٢١٥٧ ـ خطبة الإمام ووصية النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أمته

خطبة منى يوم النحر ، يسنّ أن تكون لتعليم الناس مناسكهم من النحر والإفاضة والرمى. وخطبة اليوم الثانى من أيام التشريق ، يستحب أن تكون لتعليم الناس حكم التعجيل بالخروج من منى وتوديع الكعبة بالطواف. وعن ابن عباس أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب الناس يوم النحر ـ أى خطبة منى ، فقال : «يأيها الناس ، أى يوم هذا»؟ قالوا : يوم حرام. قال : «فأىّ بلد هذا»؟ قالوا : بلد حرام. قال : «فأى شهر هذا؟» قالوا : شهر حرام. قال : «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، فى بلدكم هذا ، فى شهركم هذا». فأعادها مرارا ، ثم رفع رأسه فقال : «اللهم هل بلّغت؟ فليبلغ الشاهد الغائب. لا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض». قال ابن عباس : فو الذى نفسى بيده إنها لوصيته إلى أمّته. وفى رواية أخرى قال النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، فى شهركم هذا ، فى بلدكم هذا ، إلى يوم تلقون ربّكم. ألا هل بلّغت؟ اللهم أشهد ، فليبلّغ الشاهد الغائب ، فربّ مبلّغ أوعى من سامع ، فلا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» وقيل : لمّا سمع الناس خطبته صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : هذه خطبة الوداع ، وهذه حجّة الوداع.

* * *

١٠٥٥

٢١٥٨ ـ الصلاة فى مسجد الخيف

يستحب الصلاة فيه بمنى مع الإمام ، أو مع رفقة.

* * *

٢١٥٩ ـ الحج عن الغير

قيل : يجوز الاستئجار على الحج ، ولا يجوز الحج أو العمرة فرضا أو تطوعا عن إنسان حىّ إلّا بإذنه ، وليس للزوج منع امرأته من الحج ، وإن لم يأذن لها خرجت بغير إذنه ، ولا تخرج المعتدّة إلى الحج فى عدّة الوفاة ، ولها أن تخرج فى عدّة الطلاق ، وإن كان الصبى مميزا وأحرم بإذن وليّه صحّ حجه. ولا يجوز للمحرم أن يتزوج أو يكون وكيلا ولا وليا فيه عن غيره طالما هو محرم ، ولا يجوز تزويج المحرمة ، وتكره الخطبة للمحرم والمحرمة ، وأن يشهد على زواج. وله أن يتّجر ويصنع الصنائع.

* * *

٢١٦٠ ـ التحلّل من الإحرام

إذا فرغ المتمتع الذى أحرم بالعمرة من الميقات ، من الطواف والسعى ، قصّر أو حلق شعره ، فيحل من عمرته إن لم يكن معه هدى ، فإن كان معه هدى فليس له أن يتحلل ، ويقيم على إحرامه ، ويدخل الحج على العمرة ، ثم لا يحل إلا إذا أحل منهما جميعا. ويقصر المتمتع عند حله من عمرته ليبقى الحلق للحج ، وإن أحرم بالحج قبل التقصير فقد أدخل الحج على العمرة فيصير قارنا. وأما المعتمر غير المتمتع فإنه يحل سواء كان معه هدى أو لم يكن ، وسواء كان فى أشهر الحج أو فى غيرها ، وإذا كان معه هدى له أن ينحره حيثما كان. والمفرد أو القارن ، إن كان معه هدى فليس له أن يحل من إحرام الحج ، وإن لم يكن معه هدى يستحب له إذا طاف وسعى أن يفسخ نيته بالحج وينوى عمرة مفردة ، فيقصر ويحلّ من إحرامه ليصير متمتعا إن لم يكن وقف بعرفة. والتحلل من الإحرام لا يقع إلا بإتمام الحج ، أو التحلل عند الحصر ، أو العذر.

* * *

٢١٦١ ـ الصلاة بالأبطح

يستحب عند النفر من منى إلى مكة إذا أتى الحاج المحصب وهو الأبطح ، فيصلى به الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، ثم يستريح ، ويتوجه إلى مكة.

* * *

٢١٦٢ ـ دخول الكعبة بعد الحج

يستحب لمن حجّ أن يدخل الكعبة فيكبّر فى نواحيها ، ويصلى ركعتين ، ويدعو الله ، ولا يدخلها بنعليه ، وللحجر حكم ذلك لأنه من البيت.

* * *

١٠٥٦

٢١٦٣ ـ طواف الوداع

سمّى أيضا الصّدر ، أى الرجوع ، ومنه الصادر أى العائد ، ويقابله الوارد أى القادم.

وهو يجب على الحاج الذى يريد الخروج من مكة ، فليس له أن يخرج حتى يودّع الكعبة بالطواف سبعة أشواط ، ويصلى ركعتين ، ووقت هذا الطواف بعد تمام فراغه من كل أموره ، إلا من كان منزله بالحرم فليس عليه طواف وداع ، وإن خرج من مكة ثم دخل إليها لحاجة فيستحب ألا يدخل إلا محرما. وإذا حاضت المرأة قبل طواف الوداع فلا وداع عليها ولا فدية.

* * *

٢١٦٤ ـ حجّ النساء

المرأة تسافر وحدها للحج أو لأى سبب آخر إذا كان الطريق آمنا ، وكذلك فى الضرورة ، وسفر الضرورة لا يقاس عليه الاختيار ، وكذلك السفر الذى يدفع ضررا متيقنا بتحمل ضرر متوهم ، وفى زمن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لا بدّ من المحرم مع المرأة ، ولذا قال : «لا تحجّنّ امرأة إلا ومعها محرم» ، أو يكون معها زوج أو نسوة ثقات فيسافرن صحبة ، وتكفى امرأة واحدة ثقة. والمرأة عموما لها أن تسافر فى غير الفرض إذا تواجدت فى دار حرب فلها أن تخرج ، أو إذا أخذوها أسيرة ، أو معتقلة ، فلها أن تتخلّص ، وإذا انقطعت من الرفقة. والآية : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) (٣٣) (الأحزاب) تنهى المرأة عن خروج التبرّج وليس الخروج مطلقا ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر النساء أن يخرجن لقضاء حوائجهن ، ولم يمنعهن المساجد ، فقال : «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» ، وهو قول عام فى المساجد ، ومنه المسجد الحرام ، وليس للزوج منع امرأته من حجّ الفرض ، وقال ابن حزم بجواز سفر المرأة بغير زوج ولا محرم لكونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يأمر بردّها ولا عاب سفرها.

* * *

٢١٦٥ ـ التجارة فى موسم الحج

التجارة فى الحج حلال ، وكانت ذو المجاز ، وعكاظ ، ومجنة ، متاجر للناس فى الجاهلية ، فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك ، حتى نزلت الآية : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) (١٩٨) (البقرة) عن البيع والشراء فى موسم الحج ، والموسم سمى بذلك لأنه معلم يجتمع إليه الناس ، مشتق من السمة وهى العلامة. وهذه الأسواق كانت بناحية عرفة إلى جانبها ، أو كانت بمنى ، وقيل : كانت عكاظ وراء قرن المنازل ، وقيل بين نخلة والطائف فى بلد يقال له الفتق. وقيل : مجنة كانت بمر الظهران ، أو بأسفل مكة غربى البيضاء. وهذه الأسواق هى التى كانت تقام فى مواسم الحج ، وفى غير ذلك كان هناك أسواق أخرى

١٠٥٧

كسوق حباشة على طريق مكة اليمن ، وتقام فى شهر رجب ، وظلت أسواق مواسم الحج فى الإسلام إلى أن زالت سوق عكاظ فى زمن الخوارج سنة ١٢٩ ه‍ ، وكانت أعظم هذه الأسواق جميعها ، وتقام صبح هلال ذى القعدة إلى أن يمضى عشرون يوما ، ثم يقام سوق مجنة عشرة أيام ، إلى هلال ذى الحجة ، ثم يقام سوق ذى المجاز ثمانية أيام ، ثم يتوجهون إلى منى للحج ، وقد ظل النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشر سنين يتبع الناس فى مواسم الحج ، فى أسواق مجنة وعكاظ ، يبلّغ رسالات ربّه. والتجارة التى أمر بها المسلمون فى هذه المواسم لم تكن بمنى ، ولكن إذا أفاضوا من عرفات. وكان المنع فى الأول بدعوى أن أيام الحج أيام ذكر ، ولا يرون أن يدخلوا التجارة فى حجّهم ، إلى أن نزلت الآية.

* * *

٢١٦٦ ـ ما يقوله الحاج إذا رجع

يستحب لمن حجّ وعاد أن يكبّر عند وصوله إلى بلده ويقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شىء قدير. آئبون تائبون عابدون ، لربّنا حامدون ، صدق الله وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده.

* * *

٢١٦٧ ـ باب الزكاة

انظر الزكاة ضمن الإسلام الاقتصادى من المعاملات فى الباب الثامن عشر

* * *

وينتهى باب الحج والعمرة ، وبانتهائه ينتهى باب العبادات ، وهو الباب السابع عشر ،

ويبدأ الباب الثامن عشر عن القرآن والمعاملات ، ونسأل الله التوفيق.

* * *

١٠٥٨

الباب الثامن عشر

المعاملات

* * *

أولا : الإسلام السياسى

* * *

القرآن والسياسة

٢١٦٨ ـ الأساس الموضوعى للدولة الإسلامية

الآية : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (النساء ٥٨) ، من أمهات الأحكام ، وتتضمن جميع الدين والشرع ، والخطاب فيها لحكّام المسلمين خاصة ، ولمن يدرّسون القانون فى الجامعات ، والآية وإن كانت لها أسباب النزول ، إلا أنها عامة فى جميع الناس ، فهى تتناول مختلف الولاة فيما لديهم من الأمانات فى الحكم ، وفى القضاء ، وفى تعاملات الشرطة ، وتحقيقات النيابات ، وعلاجات المرضى ، والتدريس لطلاب العلم ، والتربية للأولاد ، وتأدية الوظائف ، والتعاملات العائلية بين الأزواج والأبناء والآباء ، وعلاقة الدولة بالمواطنين ، وعلاقات الدول ببعضها البعض إلخ ، فكل شئون الناس ودائع فى أيدى المتصرّفين ، وكذلك الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والإفتاء ، كل ذلك أمانات. والأمانة تكون فى كل شىء ، وتردّ إلى أصحابها ، سواء الأبرار أو الفجّار ، فالآية شاملة لكل أمانة ، وفى الحديث : «عهد الله أحق ما أدّى» ، والمسئولية فى الحكم من نصيب الجميع ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» ، فالأب والأم ، والمرأة والرجل ، والحاكم والمحكوم ، والناس جميعا رعاة وحكّام على مراتبهم ، والحكم من أكبر الأمانات.

* * *

٢١٦٩ ـ الإسلام ضد الترف والبذخ

يأتى عن الترف فى القرآن ثمانى مرات ، وفيها جميعا تدين الآيات المترفين وتسفههم ، وتحطّ من شأن الترف. والترف هو التنعّم المبطر المفسد المطغى ، يقال : أترفه المال يعنى أبطره وأفسده وأطغاه ؛ وأترف الرجل ، أى أصرّ على البغى ؛ واستترف : بغى وطغى وتغطرس ؛ والمترف : المتنعّم ، يصنع ما يشاء ولا يمنع ، وهو الجبّار. يقول تعالى : (وَإِذا

١٠٥٩

أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) (١٦) (الإسراء) ، يعنى هلاك الأمم إنما بمترفيها ، وهم الفسّاق فى كل شعب ، والظالمون به ، والسماح لهؤلاء بأن يتلقفوا سدّة الحكم ، وأن تكون بأيديهم مقاليد الدولة ، هو إعمال لدمار الدولة بإرادة الشعب ، لأنه الذى انتخبهم ، أو لأنه لم يعترض عليهم ، فسبّب الأسباب وساقها إلى غاياتها ليحق على الشعب الوعيد. والمترفون يشكّلون الطبقة الغنية فى كل شعب ، وهم شراره ، وتأميرهم على الشعب هو أن يصبحوا فيه أمراء ، أى حاكمين مسلّطين ، وفى قراءة أخرى للآية : «أمّرنا مترفيها» يعنى أكثرناهم فى الدولة فصارت لهم السلطة ، وفى قراءة أخرى للآية : «أمرنا مترفيها» يعنى مكّناهم أن يملكوا ثروة البلد ويقبضوا على زمام الحكم فيه ، وما فاز شعب كان الحكم فيه للمترفين ، وهم المسرفون ، جباة المال ، وفارضو الضرائب ، وأصحاب القوانين الجائرة ، وفى معنى ذلك قول القائل فى الآية : إذا أراد الله أن يهلك أمة أو دولة ، غضبا منه تعالى على أهلها ، مكّن لأكابر مجرميها فمكروا فيها ، فحقّ عليها الوعيد ، كقوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها) (الأنعام ١٢٣). وتدميرها هو استئصالها بالهلاك ، وفى رواية لزينب بنت جحش : أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج يوما فزعا محمر الوجه ، يقول : «لا إله إلا الله ، ويل للعرب من شرّ قد اقترب» ، قالت له : يا رسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال : «نعم ، إذا كثر الخبث» ، والخبث هو فساد الحكم ، وظهور طبقة المستغلين دعاة الإلحاد والإباحية ، وبظهورهم تظهر المعاصى ، فإذا لم يرفضها الشعب ويغيّرها ، كانت مدعاة لهلاك الجميع ، الطالحين والصالحين على السواء.

والترف ـ يعنى الاشتغال بالمال واللذات ، يقول تعالى : (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ) (١١٦) (هود) ، فالترف يؤدى إلى ارتكاب المظالم ، وما ظلم الظالمون إلا لأنهم يريدون المال ليترفوا ، فلما آل المال إليهم ارتكبوا الجرائم فصاروا مجرمين.

والمترفون دائما وأبدا مع الباطل ضد الحق ، ومع الشرّ ضد الخير ، ومع الكفر ضد الدين ، ومع الشيطان ضد الله ، وحزبهم هو حزب الشيطان ، وهم طغمة من الطغاة ، وما كان نبىّ ولا مصلح ، ولا داعية حق أو خير أو إصلاح ، إلا خرج المترفون ضده ، وألغوا فيه ، يقول تعالى : (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) (٣٤) (المؤمنين) ، فانظر إلى منطقهم المغلوط ومذهبهم المادى الخائب ، وتأمل احتفالهم بالأكل والشرب كالبهائم ، فما أن يحلّ بهم عذاب الدنيا إذا هم

١٠٦٠