موسوعة القرآن العظيم - ج ١

دكتور عبد المنعم الحفني

موسوعة القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

دكتور عبد المنعم الحفني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
ISBN: 977-208-442-2
الصفحات: ١٢٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

٧٨١. قصة قوم لوط برواية الملائكة

يأتى عن قصتهم بإيجاز شديد لا يخل بالقصة ولا ينتقص من شخوصها ، أن سألهم إبراهيم : (فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) (٣١) ، وأجابوه : (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٣٧) (الذاريات) ، وفى هذه العجالة أخبر الملائكة عن قوم لوط أنهم قوم مجرمون ومسرفون ، فعلوا ما يجرّمون عليه وهو اللواط ، وأسرفوا فى ذلك حتى لم يكن منهم من أحد إلا ويأتى هذا الجرم ، فكان أن قضى بأن يرجموا بالحجارة رجما ، وكانت حجارة من طين ، لوّحتها الشمس وجففتها وصيّرتها صلبة كالحجارة ، وكل حجر منها له من يستحقه بأمر الله ، وكأنها حجارة معلّمة منه تعالى ، ومخصوصة بكل واحد منهم ، وقوله حجارة من طين ليعلم أنها ليست بردا يتنزّل من السماء كأنه الحجارة ، وكان على الملائكة قبل أن تبدأ عملية الرجم أن يستعرضوا المستحقين ، فبحثوا فى البيوت عن المؤمنين ، فلم يجدوا إلا بيتا واحدا من المسلمين ـ يعنى لوطا وبنتيه ، فطمأنوه : (وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (٣٤) (العنكبوت) ، ثم كان الرجم ، حتى تمام هلاك أهل القرية ودمار بيوتها ، ولم يتركها المرسلون إلا بعد أن جعلوها عبرة وعلامة لأهل ذلك الزمان ومن جاء بعدهم ، قالوا : (وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٣٧) (الذاريات) ، كقوله : (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٣٥) (العنكبوت).

* * *

٧٨٢. موجز قصة لوط

الموجز : هو الكلام القليل البليغ ، السريع الوصول إلى الفهم ، وقصة لوط تلخصها هذه الآية وقد استوفت جلّ أحداثها ، يقول تعالى : (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) (٥٨) (النمل).

* * *

٧٨٣. المؤتفكة والمؤتفكات : قرى قوم لوط

يقال مؤتفكة ، أو مؤتفكات : يعنى الأرض تؤتفك بأصحابها ، أى تنقلب ويصير عاليها سافلها ؛ ويقال : أفكته أى قلبته وصرفته ، والمؤتفكات : هى القرى المدمّرة الهالكة ، قيل :

٩٤١

فهى مدائن قوم لوط ، كقوله تعالى : (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى) (٥٤) (النجم) ، وقوله : (وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) (التوبة ٧٠) ، وقوله : (وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً) (١٠) (الحاقة) ، فلما أدمن قوم لوط الفاحشة ، غضب عليهم ربّهم ، فأرسل رسله إليهم بالعذاب ؛ وقيل رفع جبريل قراهم أو مدائنهم وأهوى بها إلى الأرض ، أى خسف بها ، وغشتها الحجارة ، كقوله : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) (٧٤) (الحجر) ، قيل هى خمس قرى ، أسماؤها : صبعة ، وصعرة ، وعامورة أو عمرة ، وسدوم ؛ وسدوم هى أكبرها ، ودمرت جميعها (بِالْخاطِئَةِ) (٩) (الحاقة) ، أى بفعلة أهلها الخاطئة ، وهى اللواط أو إتيان الذكران. ورسل المؤتفكات : قيل هم رسل كثيرون بعثهم الله إلى كل قرية خاطئة ، فلم يقل رسولا بل قال رسلا ؛ قيل : القرى التى أرسل إليها هى ثلاث قرى ، ورسلهم ثلاثة رسل. وقيل : بل هو رسول واحد هو لوط وإنما عبّر عنه بصيغة الجمع.

* * *

٧٨٤. قصة امرأة لوط

لوط هو ابن حاران شقيق إبراهيم ، ولمّا رحل عمه من بلاد ما بين النهرين إلى كنعان رافقه لوط (تكوين ١١ / ٣١) ، وسكن لوط أرض سدوم وعمورة ، ولم يكن قد تزوج مثل عمه قبل الارتحال. وفى سدوم وعمورة تزوج من أهلها ، وأنجب ابنتين صارتا شابتين على أهبة الزواج. ولم تكن امرأة لوط على وفاق مع زوجها ، فقد كان من المتطهّرين ، ولم تكن هى كذلك ، وظلت على دين أهلها ، وفيها وفى امرأة نوح قال الله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) (١٠) (التحريم). وليس معنى الخيانة أنهما كانتا تبغيان ، وإنما كانت امرأة نوح تسخر منه ومن ديانته ، وتبلّغ قومها بالوحى كلما جاءه ، وأما امرأة لوط فكانت تخبر قومها بأضيافه ، فيهرعون إليه ليعملوا بهم السيئات ، فلما أبلغ بأمر الله أن يسرى بأهله بعد جنح الليل ، أمرهم أن لا يلتفت منهم أحد ، وخالفت امرأته الأمر ، فأصابها ما أصاب قومها ، واحترقت سدوم وعمورة ، وجعل الله عاليها سافلها (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ) (هود) ، والسّجيل هو الطين ، كقوله

٩٤٢

تعالى : (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ) (٣٣) (الذاريات) ، ونجّى الله لوطا وأهله ، إلا امرأته فكانت من الغابرين ، كقوله تعالى : (وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) (العنكبوت) ، أى من القوم المقضى عليهم ، فأخذتهم الصيحة مشرقين ـ أى وقت الشروق ، فكانت بداية الهلاك ، ثم أمطرت السماء بالعذاب. وفى التوراة أن امرأة لوط لمّا التفتت وراءها تحولت إلى نصب ملح (التكوين ١٩ / ٢٦). والدرس المستفاد : أنه لا شفاعة عند الله فى أحد مهما علت درجة الشفيع ، وزادت قرابة المشفّع فيه ، وأن ليس لكل إنسان إلا ما سعى.

* * *

٧٨٦. قصة الأسباط الاثنى عشر

قسّم الله تعالى بنى إسرائيل أسباطا ، قال : (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) (الأعراف) ، وتقسيمه لهم ليكون أمر كل سبط معروفا من جهة رئيسهم ، فيخفف الأمر على موسى ، ونظيره قوله : (وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) (المائدة ١٢). والسبط : هو الفرقة ، والأمم نعت للأسباط ، باعتبار أن كل سبط هو فرقة قائمة بذاتها كالأمة. وكلمة أسباط اصطلاح خاص بأولاد يعقوب الذى هو إسرائيل ، ومفرده فى العبرية شبط ، وفى العربية سبط ، والجمع أسباط ، وأسباط إسرائيل يعنى أحفاد إبراهيم من ابنه يعقوب (إسرائيل) ، حيث السبط هو ابن الابن ، وكانوا اثنى عشر ابنا ، فأسقطوا يوسف وضمّوا إليهم ولديه : أفرايم ومنسّى ، وأسقطوا سبط لاوى لأنهم كهنة ، فيكون عدد الأسباط اثنى عشر أيضا (تكوين ٤٩) ، فلما دخلوا كنعان قسّموها اثنى عشر قسما ، وكان الأسباط كالفرق لأنهم كانوا مستقلين عن بعضهم البعض ، ويتعاهدون معا (قضاة ١ / ٣ ، وأخبار ٤ / ٤٢ ، و ٤٣ ، و ٥ / ١٠ و ١٨ ـ ٢٢) وبقى الأسباط متحدين حتى مات سليمان ، فحدثت بينهم مشاحنات ، فتخاصم يهوذا وأفرايم ، وانقسمت المملكة قسمين : مملكة إسرائيل ، ومملكة يهوذا ، وإلى هذه المملكة الأخيرة ينتسب اليهود ، واكتسبوا اسم اليهودية منها. وكان المسيح يهودى التفكير وهو يجعل رسله اثنى عشر رسولا ، وكذلك تأثّر الشيعة بالتفكير اليهودى ، وجعلوا فرقهم اثنتى عشرة فرقة ، أعلاهم الشيعة الاثنا عشرية. واسم أسباط إسرائيل بحسب الترتيب الأبجدى : أشير ، و «أفرايم» ، وبنيامين ، وجاد ، ودان ، ورأوبين ، وزبولون ، وشمعون ، ومنسّى ، ونفتالى ، ويساكر ، ويهوذا. فأما «أشير» : فمعنى اسمه «سعيد» ، وكان فى ميلاده سعيدا ، وناجحا فى حياته ، غير أنه كان منهزما فى الحروب ، وانفصل عن الدولة ، وأخذ قومه فى السبى إلى آشور ، ومن نسله النبيّة حنّة ؛ «وأفرايم» : ويعنى الاسم

٩٤٣

«المبروك» ، وكان يشوع من سبط أفرايم ، وكذلك صموئيل ويربعام ، وهزموا وأسروا إلى آشور ؛ و «بنيامين» : يعنى «الأصغر» ، وكان أصغر الأسباط ، واحتال بقية اليهود على سبط بنيامين ، حتى كادوا يفنون ؛ و «جاد» : ومعنى الاسم «الجميل» ، وأولاده صادقوا داود ، وكانوا بيت موسيقى ؛ و «دان» : ومعناه «القاضى» ، ومن هذا السبط كان شمشون ، وكانوا يتّسمون بالدهاء والحيلة ؛ و «رأوبين» : بمعنى «الابن الأثير» ، وكان هذا السبط كثيرى العدد ، ولكنهم هزموا وأسروا إلى آشور ؛ و «زبولون» : ومعناه «المطمئن» ، وكان هذا السبط ضد الأنبياء ، وخالطوا الأغراب ، ومن بلادهم مدينة بيت لحم ؛ وأما «شمعون» : فمعنى الاسم «السّماع» ، وله حادثة ضد الشكيميين تدل على الخسّة والغدر ، واستولى يهوذا على معظم إقليمه ؛ و «لاوى» : ومعناه «المصاحب» ، ولعنه أبوه ، ومن سبطه الكهنة والقضاة والموسيقيون ؛ ومن الكتب اليهودية سفر اللاويين أى الأحبار ؛ و «منسّى» ، ومعناه «الذى لا ينسى» وامتزج سبطه بالأهالى ، وكانوا أول من أسر ونقل إلى آشور ؛ و «نفتالى» : ويعنى «القوى» ، وفى إقليمه ظهر المسيح ؛ وأما «يساكر» : فيعنى «الأجير» ، وكان هذا السبط من الفلاحين ، وكانت تغزوه القبائل ؛ و «يهوذا» : ومعنى الاسم «حامد» ، وسبطه من أبرز الأسباط ، وكانوا فى نزاع دائم مع سبط أفرايم ، وكوّنوا دولة يهوذا ، وإليهم ينتسب اليهود.

وفى القرآن أن الأسباط لم يكونوا هودا ولا نصارى : (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى) (البقرة ١٤٠) ، فالأسباط ـ وهم أولاد يعقوب ، ما كانت اليهودية ولا النصرانية فى عهدهم ، وإنما كانتا بعد ذلك ، وفى تقدير أهل العلم أنه بين دخول العبرانيين إلى مصر مع يعقوب ، وخروجهم منها مع موسى : أربعمائة وثلاثون سنة ، وخلال تلك المدة لم يكن الأسباط على الديانة الموسوية ، فلم يكونوا يهودا بعد وإنما عبرانيون فقط ، وهو ما أكدته الآية القرآنية. وفى القرآن أيضا : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى) (البقرة ١٣٦) ، فكأن الأسباط كان منهم أنبياء يتنزّل عليهم ، وفى التوراة من هؤلاء الأنبياء : يشوع بن سيراخ ، وأشعياء ، وإرميا ، وباروك ، وحزقيال ، ودانيال ، وهوشع ، ويوئيل ، وعاموس ، وعوبديا ، ويونان ، وميخا ، ونحوم ، وحبقوق ، وصفنيا ، وحجّاى ، وزكريا ، وملاخى ، وأيوب ، وعزرا ، ونحميا ، وطوبيا ، ويهوديت ، وراعوت ، ويشوع ، وداود ، وسليمان ، فهؤلاء الثمانية والعشرون نبيّا هم الذين يؤمن المسلمون بما أنزل عليهم من الأسباط ، يعنى أن كل أسفار العهد القديم يؤمنون بها إلا ما أصابه منها التحريف فيدعو إلى شر أو معصية أو عنف ، أو يخلو من الدعوة إلى الله وتوحيده وتقواه ، أو يمجّد الإسرائيليين على غيرهم من الأمم وينشر بينهم العنصرية والاستعلاء واعتزال الشعوب.

* * *

٩٤٤

٧٨٦. الأسباط عربية أم عبرية؟

يقول المستشرق هوروفتس : إن كلمة سبط فى القرآن : (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً) (الأعراف ١٦٠) مأخوذة من العبرية «شبط» ، والصحيح أن الكلمة العربية هى الأقرب للمعنى المقصود من الكلمة العبرية ، لأن الكلمة العربية تعنى التتابع والتسلسل ، بينما الكلمة العبرية تعنى «العصا». وفى العربية السبط هو الشجر ، ولذلك قيل عن الأحفاد أنهم أسباط بمعنى فروع العائلة ، أو شجرة العائلة ، غير أن ارتباط الأسباط فى العبرية والعربية بيعقوب جعل المستشرقين يقولون إن الكلمة عبرية ، طالما أن ارتباطها بيعقوب كان الأسبق فى العبرية عنه فى العربية. وفى كل اللغات ذات الأصول المشتركة كالسامية ، فإن الكلمات المشتركة بينها تكثر وخاصة فى مجالات كمجال العائلات وأصولها وفروعها ، والتشابه فى اللغتين العبرية والعربية ليس سرقة ولكنه توافق. وينتقد المستشرقون وخاصة هوروفتس وجايجر على القرآن أنه جعل الأسباط أنبياء ، وقالوا إن محمدا أخطأ ، فمن المعروف أن الأسباط انتهوا إلى التشاحن والتباغض ، فكانوا سببا فى سقوط مملكة إسرائيل ودمار يهوذا ، إلا أن القرآن فى قوله : (وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) (البقرة ١٣٦) كان على الصواب ، لأنه من الأسباط أحصت التوراة ٢٨ نبيا ، كداود ، وسليمان ، ويشوع ، ونحميا ، وعزرا ، وإرميا ، وحزقيال ... إلخ ، فهؤلاء هم المقصودون بالقرآن ، فما كان هناك نبى من أنبياء بنى إسرائيل إلا وينحدر من الأسباط ، حتى عيسى ابن مريم كان منهم ، وفى ذلك قال ابن عباس : كل الأنبياء من بنى إسرائيل إلا عشرة : نوحا ، وشعيبا ، وهودا ، وصالحا ، ولوطا ، وإبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، وإسماعيل ، ومحمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يكن أحد له اسمان إلا عيسى ويعقوب ، وأما محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكانت اسماؤه ستة.

* * *

قصة النبىّ يعقوب

٧٨٧. أصل تسمية يعقوب بإسرائيل

لا يأتى عن «إسرائيل» فى القرآن إلا مرتين ، فى حين يأتى عن «بنى إسرائيل» إحدى وأربعين مرة ، وبنو إسرائيل هم أولاد إسرائيل وذريته ممن صار اسمهم من بعد ذلك اليهود. والساميون ، سواء كانوا عربا أو عبرانيين ، ينسبون إلى الجد الأكبر للجماعة ، فيقال بنو إسماعيل ، وبنو قينقاع ، وبنو قريظة ، وبنو النضير. وإسرائيل هو الجد الأكبر للإسرائيليين ، وكان اسمه يعقوب لأنه أتى بعقب أخيه عيسو ، أو قابضا على عقبه ، فقد كانا توأمين ، وولد عيسو أولا ثم يعقوب : وأم عيسو ويعقوب كانت رفقه بنت بتوئيل الآرامي ، من فدّان أرام ، وأخوها لابان الآرامي ، وتزوج يعقوب ابنتى خاله لابان الآرامي : ليئة ، وراحيل

٩٤٥

(التكوين ٢٥ / ٢ ـ ٢٦ ، ٢٧ / ٢٦ ، ٢٩ / ٢٣ ـ ٢٨). وأما عن تغيير اسمه من يعقوب إلى إسرائيل : فإنه كما تقول الرواية التقى برجل صارعه حتى الفجر ، ولمّا رأى الرجل أنه لا يقدر عليه أمسكه من حقّ وركه حتى خلعه ، لكى يتركه قبل الفجر ، ولكن يعقوب رفض إلا أن يباركه الرجل أولا ، وسأله الرجل عن اسمه ، فقال يعقوب ، فقال : «لا يكون اسمك بعد اليوم يعقوب بل إسرائيل» ؛ وقيل فى معنى إسرائيل كما ورد على لسان الرجل : «إذا رؤست عند الله فعلى الناس أيضا تستظهر» ، وقوله : «رؤست» لأن يعقوب كان المنتصر على الرجل ، و «تستظهر» يعنى تصبح ظاهرا ورئيسا. غير أن إسرائيل فى العبرية من أسير وإيل ، والأسير هو العبد ، وإيل هو الله ، فكأن الاسم الجديد هو «عبد الله» وليس كما يقولون : الذى أسرى بليل إلى الله ، أو الذى صارع الله بليل ، بدعوى أن الرجل الذى صارعه كان هو «الله» ، والموضع الذى صارعه فيه أسماه يعقوب فنوئيل ، وقال فى معناه «إنى رأيت الله وجها لوجه» ، والمستفاد أنه كان يصارع الله!! وأنه صرعه!! لو لا أن الله ، لكى يتركه ، أعطب له وركه عند المكان الذى يقال له عرق النّسا ، فأصابه الوجع منه بقية حياته. وتسجل التوراة ـ مجرد تسجيل ـ هذا المرض عند إسرائيل ، ولكن القرآن يروى حكاية أبعد من ذلك ، وينفرد بها ، ويربط بين الإصابة بعرق النساءnervous ischiadicus وبين عزوف إسرائيل أو يعقوب أو يأكل أى طعام فيه عروف sinews ، حتى جاء التشريع اليهودى بتحريم أكل العروق ضمن ما حرّم من الطعام ، ولم يذكر سبب هذا التحريم ، حتى نزل القرآن وشرح ذلك فصار مرجعا لليهود فى هذا الأمر ، وأخذوا عن المسلمين هذا التفسير لتحريم العرق من أنواع اللحوم ، وفى الرواية عن ابن عباس : أن يعقوب كان رجلا بطشا قويا ، فلقيه ملك ، فظن يعقوب أنه لص ، فعاجله أن يصرعه ، فغمز الملك فخذ يعقوب ، ثم صعد إلى السماء ، فهاج عليه عرق النّسا ، وعانى من ذلك البلاء الشديد ، فكان لا ينام الليل من الوجع ، ويبيت وله زقاء ـ أى صياح ، فحلف إن شفاه الله ألّا يأكل عرقا ، ولا طعاما فيه عرق ، فحرّمه على نفسه ، فجعل بنوه يتتبعون بعد ذلك العروق فيخرجونها من اللحم. وتلك إذن قصة التحريم فى الآية : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٩٤) (آل عمران). ونفهم من الآية أن التحريم كان اجتهادا من يعقوب ، وأن اجتهاده ألزم بنى إسرائيل من بعده ، وعلى عكس ذلك حرّم نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على نفسه العسل ، أو حرّم أمته مارية ، فلم يقرّ الله تحريمه وعاتبه فقال : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) (التحريم ١) ، وهذا الاستفهام الاستنكارى لا يختص بالمناسبة وحدها ولكنه على العموم ، فلا تحريم إلا ما

٩٤٦

حرّمه الله. ويعقوب لكى يشفى حرّم عليه الأطباء لحوم الإبل وألبانها ، بدعوى أنها تلهب عرق النسا ، فحرّمها بنوه بالتبعية على أنفسهم ، ونسوا السبب الذى به صارت لحوم الإبل وألبانها محرمة عليهم ، فلما سألهم النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم تحرمونها على أنفسكم؟ ذكروا أن التوراة حرّمتها عليهم ، فكذبوا ، وتحدّاهم القرآن أن يكون ذلك فى التوراة ، وأكد أن هذه مسألة خاصة بإسرائيل ، والتوراة نزلت بعده على موسى. وفى هذا دلالة على أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم موحى إليه من الله ، فقد أخبرهم بما فى كتابهم ، وبما ليس فى كتابهم ، وأنهم بالتحريم كانوا وإسرائيل نبيّهم مبتدعين ، ولم يكونوا متّبعين ، فنبّه القرآن إلى سمة أجناسية وذهنية فيهم ، وهى أنهم كلما أذنبوا ذنبا عظيما حرّموا على أنفسهم طعاما أو استجلبوا عليهم غضبه تعالى ، فذلك قوله تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) (النساء ١٦٠) ، وقوله : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (١٤٦) (الأنعام). والآية إذن تحدّ من القرآن فى أصول التحريم عند اليهود. والمستشرقون ، وخاصة هوروفتس ، على القول بأن النّسا كلمة ليست عربية ، وأنها عبرانية من nasche ، مع أن الكلمة عربية خالصة ، والتشابه مع اللفظة العبرانية هو اتفاق فى اللغات التى من أصول عرقية واحدة. والنّسا هو العرق من الورك إلى الكعب ، والجمع أنساء ، والمثنى نسوان ، والمنسو المريض بالنّسا ، ونقول نسى ينسى شكا نساه ، والأنسى عرق فى الساق السفلى ، فالكلمة إذن ليست تعريبا لأصل عبرانى ، والمرض نفسه عرفه العرب ، وكانت للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفة فى علاجه ، فعن أنس أنه قال : «شفاء عرق النّسا ألية شاة أعرابية ، تذاب ثم تجزّأ ثلاثة أجزاء ، ثم يشرب على الريق فى كل يوم جزء» ، وفى رواية أخرى : «تؤخذ ألية كبش عربى ، لا صغير ولا كبير ، فتقطع صغارا ، فتخرج إهالته فتقسم ثلاثة أقسام ، فى كل يوم على ريق النفس ثلثا».

وإسرائيل من المقصودين بالذكر فى قوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ) (مريم ٤١) ، وبدأ هذا الذكر بإبراهيم ، ونوّه بقصته مع أبيه ، وثنّى بقصة موسى ، ثم بقصة إسماعيل ، وإدريس ، ووصفهم بأنهم أنبياء منعم عليهم من ذرية آدم ، وممن حمل نوح وفى الآية : (وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ) (مريم ٥٨) ، أن ذرية إبراهيم ، هما ولداه : إسماعيل وإسحاق ؛ وأما إسرائيل فكان ابنا لإسحاق ، وذريته هم بنو إسرائيل ، ويذكرهم القرآن إحدى وأربعين مرة ، فأحيانا يثنى عليهم ، وغالبا يتوعدهم ويتهمهم بالكفر ، كقوله تعالى : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) (المائدة ٧٨) ، وأنذرهم بتدمير بلادهم ودولتهم كلما أفسدوا وطغوا واعتدوا ، قال : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا

٩٤٧

كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) (٨) (الإسراء). وبنو إسرائيل الآن أو شعب إسرائيل كانوا فى الأصل اثنى عشر سبطا ، وبدون يوسف يكون عددهم أحد عشر ، وفى الآية : (أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) (يوسف ٤) لم يحسب يوسف. والقرآن لا يذكر إسرائيل إلا بالطيّب ، ولا يتحدث عن جوانب عنصرية فيه ، بعكس التوراة. واسم إسرائيل فى التوراة يطلق على كل نسل الأسباط ، وعلى اليهود جميعا كأمة ، ثم على سكان شمال إسرائيل لتمييزها عن سبط يهوذا ، وفى سفر إشعيا (٤٩ / ٣) يشير الاسم إلى «شعب الله» ، وفى الرسالة إلى رومية (٩ / ٦) يميز بولس بين إسرائيل الأرض ، وإسرائيل كشعب الله ، وينوّه بامتياز الشعب (٩ / ٤ و ٥) ، ويفتخر بأنه ليس عبرانيا فحسب ولكنه إسرائيلى (٢ كورونتوس ١١ / ٢٢) ، ويصف المسيح نثنائيل بأنه إسرائيلى قحّ لا غش فيه (يوحنا ١ / ١١). فذلك إذن اسم «إسرائيل» فى القرآن وفى كتب العهد القديم والجديد ، وكانت عناية القرآن بالنواحى الإيمانية فى قصة بنى إسرائيل ، بينما توجّهت عناية كتب العهدين القديم والجديد بالناحية العنصرية ، وبالتفوق العنصرى ، والتفاخر العنصرى ، وشتّان بين المقصدين!

* * *

٧٨٨. يعقوب تزوج الأختين ليا وراحيل

تزوج يعقوب من ابنتى خاله لابان : ليئة أو ليا ، وراحيل أو راشيل ، وكان أول وآخر نبىّ يجمع بين الأختين ويتزوج منهما ، ولم يحل لأحد بعده لقوله تعالى : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) (النساء ٢٣) وكان زواجه من ليئة أولا ، وتزوجها بحيلة أبيها ، ثم زوّجه خاله ابنته الصغرى راحيل كما أراد يعقوب ، وعمل عنده بصداقهما ، واحتال عليه يعقوب بدوره حتى صار أغنى من خاله ، وأنجب من ليئة ستة بنين ، هم : رأوبين ، وشمعون ، ولاوى ، ويهوذا ، ويساكر ، وزبولون ، وابنة اسمها دينة ، ثم ماتت ليئة بعد ما ذهب يعقوب إلى مصر (تكوين ٤٩ / ٣١). وأما راحيل فأنجب منها يوسف وبنيامين ، وماتت عند ولادة بنيامين (تكوين ٢٩ / ١ ـ ٣٠) ، فهؤلاء ثمانية أولاد من الأختين ، بالإضافة إلى أربعة أولاد آخرين ، اثنين من زلفة أمة ليئة هما دان ونفتالى ، واثنين من بلهة أمة راحيل هما جاد وأشير ، فالمجموع اثنا عشر ولدا ، فهؤلاء هم أولاد يعقوب ، وهم الأسباط ، ويكون

٩٤٨

إخوة يوسف أحد عشر ، وهم المقصودون بالآية : (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) (٧) (يوسف) ، والآية : (وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ) (يوسف ٥٨) ، والآية : (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ) (يوسف ٥) ، والآية : (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) (يوسف ١٠٠) ، والآية : (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (٤) (يوسف) ، والكواكب الأحد عشر هم إخوته ، وإن المرء ليدهش لما ذا يعتبر اليهود جاد وأشير ولدى بلهة أمة راحيل ، ودان ونفتالى ولدى زلفة أمة ليئة ، من الأسباط وورّثوهم مع أولاد راحيل وليئة ، واعتبروا إسماعيل ولد الأمة هاجر لا يرث مثل إسحاق ولد الحرّة سارة؟!!!

* * *

٧٨٩. يعقوب الحذر لأنه ذو علم ومن المتوكلين

الحذر صفة يعقوب ، وإيمانه يسبق حذره ، وإنه لذو علم ، ومن علمه أن الحذر لا يغنى من القدر ، ولقد حذّر ابنه يوسف من إخوته فقال : (يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) (يوسف) ، إلا أنه كان يعلم أن الله غالب على أمره ، وما حذره عرف ، وأطلع يوسف إخوته على الحلم. ولم يكن يعقوب يأتمن أولاده على يوسف ومع ذلك عهد به إليهم وقال : (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) (١٣) (يوسف) ، فجاءوا إليه ينعون أخاهم فعلم مرة أخرى أن أمر الله غالب وقال : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) (١٨) (يوسف) ، وبعد ذلك بسبعين سنة عادوا إلى طلب بنيامين الأخ الأصغر ليوسف ، فأذعن لطلبهم واستسلم لأمر الله وقال : (هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (٦٤) (يوسف) ، ولم يرسله معهم إلا بعد أن تعهدوا أن يأتوا به إلا أن يحاط بهم ، وقال لهم مقالته المشهورة فى الحذر : (يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (٦٧) (يوسف) ، والدخول من عدة أبواب آمن على الجماعة ، كنافقاه الفأرة ، جعلت لبيتها أبوابا عديدة حذرا ، والحذر واجب ، كقوله : (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٦٨) (يوسف) ، فكان يعلم أن أمر الله غالب ، وأنه لا حكم إلا لله وعليه فليتوكل المتوكلون ، ويعقوب كان من المتوكلين ، وإنما تحذيره لهم اقتضاه العقل ، ولا حذر مع قدر ، إلا أن ما كان فى خاطره أن يقوله لهم قاله ، والآية تدل : على أن المسلم عليه أن يحذّر أخاه مما يخافه عليه ، وأن يرشده إلى ما فيه طريق السلامة والنجاة ، فإن الدين النصيحة ، والمسلم أخو المسلم.

* * *

٩٤٩

٧٩٠. حزن يعقوب على يوسف

عند ما فقد يعقوب ابنه يوسف لم يكن يعقوب قد كبر بعد ، ولم يصدق رواية أولاده عن الذئب الذى أكل ابنه ، وأوجس منهم خيفة ، فقال : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) (١٨) (يوسف) ، وما كان بوسعه أن يفعل شيئا سوى أن يستعين بالصبر ، ويتوجه إلى الله يسأله اللطف. ولمّا سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصبر الجميل فى الآية قال : «صبر لا شكوى فيه». وقيل : ثلاث من الصبر : أن لا تحدّث بوجعك ، ولا بمصيبتك ، ولا تزكّى نفسك! ـ ويعقوب فعل الثلاثة ، وكلامه استشهدت به عائشة فى «حديث الإفك» ، فقالت : والله لا أجد لى ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ)! ـ ثم إن السنوات مرت ، وجاء أولاد يعقوب وأخبروه للمرة الثانية بما جرى لابنه بنيامين ، مثلما جرى ليوسف قديما ، وربط يعقوب بين الحادثتين ، وقوى عنده الشك فى أولاده ، لبغضهم ليوسف وبنيامين ابني راحيل ، وكان ابنه رأوبين مع بنيامين ، يكاد يفقدهما معا ، فلم يقل سوى : (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (٨٣) (يوسف) ، (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) (٨٤) (يوسف) : يعنى تولّى عن أولاده ، والكظيم هو الحزين الذى لا يشكو ؛ ورقّ أولاده لحاله وقد ابيضّت عيناه من الحزن ، فقالوا على سبيل الرفق به : (تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) (٨٥) (يوسف) أى ستظل تذكر يوسف ، حتى تضعف صحتك ، وإن استمر بك هذا الحال يصيبك الهلاك والتلف ، (قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٨٦) (يوسف) ، والبثّ هو الهمّ ، وعلمه من الله ـ أى ثقته فيه وإيمانه به. والحزن إن كان شديدا يصيب الحزين فى مقتل ، حتى أن العينين يجف بهما الدمع وتتحجّران ولا تدمعان ، وقد لا ينطق اللسان ، وقد ينقلب الحزن إلى ضده فيكون الحزين كأنه لا يبالى ، أو كأنه مبتهج بالحدث ، وعبّر يعقوب عن ذلك فقال إنه يشكو حزنه إلى الله ويبثه شجنه ، واللجوء إلى الله فى الشدائد دليل الإيمان ، وعند المصائب كثيرا ما يؤمن الكافر ، ويقر المذنب بذنبه وينوب ويتوب. وإيمان يعقوب يبلغ القمة عند ما يقول لهم : (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (٨٧) (يوسف) ، والتحسس طلب الشيء بالحواس ويكون فى الخير ، والتجسس يكون فى الشر ، وروح الله الأمل والرجاء فى الله ، والمؤمن لا يقنط ولا ييأس من رحمة الله ، والقنوط واليأس من الكبائر ، وحزن يعقوب كان حزن نبىّ ليقتدى به ويكون مضرب الأمثال : نقول : صبر أيوب ، ورجاء يعقوب!

* * *

٩٥٠

قصة النبىّ يوسف

٧٩١. يوسف : الاسم والنسب

الاسم «يوسف» عبرىّ ، ويعنى «يزيد» ، وكان يوسف هو الابن الحادى عشر ليعقوب من زوجته راحيل أو راشيل ، أولدها يعقوب ولدين كان يوسف أكبرهما ، ولما ولدته وحولها زوجات يعقوب وأولاده ، والسن الكبيرة التى عليها يعقوب ، قالت فى نفسها : هذا ابني يزيدنى قوة ويثبّت أقدامى ، ولذلك سمّته يوسف يعنى «يزيد». وأهل العرفان يقولون هو «يزيد» لأن حياته كلها اتسمت بالزيادة ، فزاد عنده العلم والحكمة ، وزادت مكانته وأمواله. وقيل : بل الاسم يوسف أصله يؤسف ، بكسر السين أو فتحها ، من الأسف ، وهو فى اللغة الحزن ؛ ثم أن الأسيف هو العبد ، واجتمعت الصفتان فى يوسف ، فمنذ ولادته والوسط العائلى الذى نشأ فيه يكنّ له العداء ، وفارق السن ضخم بين إخوته وبينه ، وأمه ضعيفة مسكينة ، ويوسف نفسه رغم جمال سمته إلا أن الرجال يحتاجون للجلال وليس للجمال ، وجمال الرجال فى الإجلال لهم ، وكان تركيبه ضعيفا ، ولكن مخايله تدل على شدة الذكاء ، وكان لشخصيته حضورها حتى أنه ليستلب اهتمام من حوله ، فلا يسعهم إلا أن يحبوه ويصاحبوه ويثقوا فيه. ولعل السبب الأكيد هو هذا الحزن فى عينيه وملامح وجهه ، أملته الغربة ، والبعد عن الأهل ، واليتم فى مقتبل العمر ، وافتقاد الأب والأم ، والأسف الشديد على ما كان من إخوته معه ، وعلى ما يكون مع أبيه إذ يبلغ أنه قتل. وأما العبودية فإن قانون الآسيويين ، سواء بالنسبة ليوسف ، أو للتجار الإسماعيليين الذين التقطوه من البئر واشتروه بثمن بخس ، يقضى باسترقاق اللقيط ، ولذا باعوه بدورهم لعزيز مصر ، فحياة الرق ، وذلك العبودية ، مع صغر السن ، طبع كل ذلك يوسف بالحزن الشديد ، فكان اسمه يوسف أو يؤسف ، اسما على مسمى ، وكثيرا ما تكون الأسماء بشارة بما يحدث لأصحابها ، وقد توجز حياتهم المستقبلة.

* * *

٧٩٢. يوسف فى القرآن أرقى وأفضل وأسمى منه فى التوراة

تقول التوراة (التكوين ٣٩ / ١) أن الذى اشترى يوسف من مصر هو فوطيفار ، خصىّ فرعون ، وكان رئيس شرطته ، وله امرأة هى التى حاولت أن تفسق بيوسف ، ولسنا ندرى كيف يكون خصيا وله امرأة؟ ولكن هكذا تقول التوراة! والأمر الثانى أن امرأة فوطيفار هذا لمّا ادّعت على يوسف ، أودعه زوجها ـ وهو رئيس الشرطة ـ الحصن حيث سجناء الملك ، وظل قيد الحصن ، ولكنه نال الحظوة لدى رئيس الحصن ، فجعله القيّم على كل شىء فى

٩٥١

الحصن ، فلم يكن وجود يوسف فيه كسجين. (التكوين ٣٩ / ٢٠ ـ ٢٣). والأمر الثالث : أن حاكم مصر يشار إليه أحيانا باسم ملك مصر ، وغالبا باسم الفرعون ، ويختلط ذلك على القارئ ، والمعهود اسم «فرعون» ، وهو اسم آشورى ويعنى الجبّار ، ولا يوجد فى اللغة الهيروغليفية اسم الفرعون ، والفراعنة إذن تعنى الجبابرة وهم ملوك أرض جاسان أو جاشان من أقاليم مصر (محافظة الشرقية الآن مسرح القصص العبرى كله عن إبراهيم ويعقوب ويوسف وموسى) ، وأما اسم الملك إذا جاء فى المتن ، فيعنون به أيضا الفرعون ، ولكنهم قصروه كلقب على الحكام الرعاة الذين يعرفون بالهكسوس ، وفى الحالتين فإن الفرعون والملك ما كان من المصريين. والأمر الرابع : أن زوجة فوطيفار وهى آشورية كزوجها (ونعرف ذلك من اسمه) لمّا انبهرت بيوسف أمسكت بثوبه وطلبت منه مضاجعتها ، فتركه وراءه وفرّ هاربا ، فصرخت بأهل بيتها تتهم يوسف العبرانى وتثبت اتهامها بردائه ، وانتظرت قدوم زوجها لتقص عليه القصة ، فكان أن غضب منه وسجنه بالحصن (التكوين ٣٩ / ١١ ـ ٢٠). والأمر الخامس : أن يوسف كان رجلا يافعا لمّا باعه التجار إلى فوطيفار ، ووصفته امرأة فوطيفار فقالت : «جاءنا برجل عبرانى» (التكوين ٣٩ / ١٠). والأمر السادس : أن إخوة يوسف شربوا معه الخمر حتى سكروا (التكوين ٤٣ / ٢٤). والأمر السابع : أن جميع الأنفس من العبرانيين الذين دخلوا مصر من آل يعقوب من الذكور ، بما فيهم يوسف وولداه ، كانوا سبعين نفسا وهذا العدد نشك فيه ، لأن دأب العبرانيين أن يتباركوا بالعدد سبعة ومضاعفاته ، فيحتمل أنهم قالوا سبعين من هذا المنطلق. الأمر الثامن : أن الفرعون أعطى هؤلاء أرض جاسان (محافظة الشرقية) ليرعوا فيها باعتبارهم رعاة غنم ، فسكنوا هذه الأرض وتكاثروا (التكوين ٤٧ / ٦). الأمر التاسع : أنه لا موعظة ولا إبراز لأخلاقيات فى القصة.

ونلاحظ أولا : أن القصة فيها أخطاء لا تعدّ ، ففي القرن السادس عشر قبل الميلاد عند دخول العبرانيين مصر كان عددهم سبعين ، وعند خروجهم من مصر سنة ١٤٤٠ ق. م ، وبعد إقامتهم سنة فى الصحراء ، أجرى موسى إحصاء لعددهم ، فكان عدد الشبّان الصالحين لحمل السلاح والقتال. ٥٥٠ ، ٦٠٣ عدا اللاويين وهم المخصّصون للكهنوت ، وكان عدد الذكور فقط من ابن شهر فصاعدا ٢٢ ألفا ، وإجمالى عدد اليهود ٥٥٠ ، ٦٢٥ ، فهل يعقل أنه خلال ١٦٠ سنة ، أو أربعة أو حتى ثمانية أجيال ، يتضاعف السبعون نفسا إلى هذا العدد : ٥٥٠ ، ٦٢٥!!! بينما كان ينبغى رياضيا أن يكون ١٧٩٢٠ ، وحتى إذا سايرنا بعض المؤرخين من اليهود وقلنا معهم إن الخروج جرى سنة ١٢٩٠ ق. م ،

٩٥٢

أو حتى سنة ١٢٢٠ ق. م ، فهل يتضاعف السبعون إلى هذا الرقم المهول خلال عشرة أجيال ، أو حتى خمسة عشر!! والأمر الثانى : أن القصة وقد جرت فى أرض جاسان أو جاشان ـ محافظة الشرقية ـ يصدق فيها ما ذكر من أن الفراعنة الأشوريين الذين حكموا من بعد وفاة يوسف ، أذلوا العبرانيين لمّا رأوهم يتكاثرون ، واستخدموهم كعمال سخرة ، يعنتوهم بالأثقال ، فبنوا لهم مدينتى فيتوم ورعمسيس ، بالطوب اللبن من طمى النيل ، والمدينتان تقعان فى شرق الدلتا ، يعنى حيث كانت مملكة الهكسوس. ورعمسيس هى تانيس ، ومن رعمسيس كان خروج موسى من بعد ، وتانيس كانت أفاريس عاصمة الهكسوس ، وفى تانيس دفن شيشنق الذى تزوج ابنته سليمان ، ودفن منبتاح وآخرون ، وليس فيهم تحتمس الثالث ولا أمنوفيس الثانى وهما المرشحان زورا وجهلا لحكاية الخروج. والمسألة إذن كلها تكهنات وأهواء وأغراض. والحقيقة هى ما ذكره القرآن وأولاه الاهتمام ، وقصة القرآن برمتها مختلفة فى تفاصيلها اختلافا كاملا عن قصة التوراة ، فيوسف فى القرآن : صغير عند ما دلّاه إخوته فى البئر ، بينما هو فى التوراة تصفه امرأة رئيس الشرطة فتقول إنه رجل ؛ ورواية الذئب فى القرآن ، والدم على القميص جديدة تماما ؛ والذى اشتراه من مصر كما جاء فى القرآن قام بتربيته واشتد عوده عنده ، وعندئذ راودته زوجته ، ولم يرد أنه خصى كما فى التوراة ، وورد أن يوسف استعاذ بالله من المرأة ، وأنهما استبقا الباب فقدّت قميصه من دبر ، وكان زوجها عند الباب فروت كذبا أن يوسف حاول الاعتداء عليها ، وأدرك الزوج براءة يوسف ، وكلها تفاصيل جديدة ؛ ومنها مثلا حكاية النسوة واجتماعهن وتقطيعهن لأيديهن لدى رؤيته ، وكل ذلك يبين بجلاء تقوى يوسف ، فكان يوسف وأبوه فى كل ما جاء عنهما فى القرآن آيتين من آيات العظمة فى الأخلاق والحكمة ، وذلك عكس ما فى التوراة تماما!! والقصة كلها دروس فى الحكمة والأخلاق ، وتفاصيلها غاية فى الحبكة ، وأسلوبها رفيع وراق وشديد البلاغة ، وطابعها الإيمان الشديد ، والموعظة ظاهرة فيها ، وتنتهى بالدعاء لله والحمد له والثناء عليه ، والتنبيه إلى أن هذه القصص فى القرآن إن هى إلّا للعبرة ولتقوية إيمان المؤمنين. فشتّان بين رواية التوراة ورواية القرآن ، والفرق بينهما أن سفر التكوين كتبه مؤرخون متتابعون ، ولم يعوا الدرس : أن المراد بهذه الكتب المقدّسة الدعوة إلى الله ، فكان اهتمامهم إبراز إسرائيل كشعب حامل للوعود ، والتأكيد على العهد كضمانة للوعد ، واختيار إسرائيل كشعب الله ، وأما اهتمام القرآن فكان التنبيه إلى آيات الله ، وسبيله التى يدعو إليها هى التقوى ، والدرس المستفاد منها أن النصر بيد الله يؤتيه عباده كلما استيأسوا ، وأن القرآن هو تصديق لما سبقه ، وتفصيل له ، وهدى ورحمة لمن يؤمنون. والحمد والمنة لله ، وهو المستعان.

* * *

٩٥٣

٧٩٣. فى التوراة أسوأ صورة ليوسف

صورة يوسف فى التوراة ، بالنسبة لقارئ مصرى قاتمة شديدة السواد ، وبخلاف صورته فى القرآن ، كاختلاف الأسود والأبيض ، وأخلاقه فى أرض جاسان من مصر شديدة الغرابة ، فقيل إنه بعد تفسير حلم فرعون عيّنه واليا على البلد ، حتى أنه نزع خاتم الملك الذى كان فى إصبعه وجعله فى إصبع يوسف ، وأركبه مركبته الثانية ، وأمر الناس أن تركع له ، وأقامه على كل الأرض ، وسمّاه «مخلّص العالم» ، وهذا الاسم دليل على أن الفرعون لم يكن مصريا ، وكان بالأحرى آشوريا ، وذلك أن مصطلح «المخلّص» أو «مخلّص العالم» ليس من المصطلحات المصرية ، وهو مصطلح آسيوى خالص ، ويكثر عند الأشوريين والعبرانيين بخاصة ، فملوك آشور اسمهم «المخلّصون» ، والمسيح فى الثقافة العبرية هو المخلّص ، وهو «مخلّص العالم» (التكوين ٤١ / ٤٤). ولا يبدو يوسف عادلا فى أحكامه ، فقد اتهم إخوته فى مصر بأنهم جواسيس جاءوا ليتجسسوا ثغور الأرض ، وحبسهم ثلاثة أيام ، ودبّر لهم تهمة سرقة جامه الذى يشرب به (التكوين ٤٤) ، وكان دائم التذكير لإخوته بمنصبه ، فهو ـ كقوله أب لفرعون ، وسيد لجميع أهله ، ومتسلّط على جميع الأرض ، وسيد لجميع المصريين! وحابى يوسف إخوته على حساب الناس ، فأعطاهم كما تقول التوراة (التكوين ٤٥) خير أرض مصر ، وقال لهم إن جميع الأرض لهم (التكوين ٤٥) ، وأجرى لهم الطعام على حسب أعدادهم ، ولم يكن خبز فى جميع الأرض ، لأن الجوع اشتد بالناس جدا حتى جهدوا ، وجمع يوسف كل الفضة من الناس بما يبيعهم من الطعام ، فلما نفدت الفضة ، اشترى منهم كل ماشيتهم بالطعام ، ثم اشترى جميع الأرض ، وباع الناس له حقولهم ، ثم باعوا له أنفسهم ، فسخّرهم على الأرض نظير أن يستولى على خمس غلتها ، فيكون بذلك أول من أدخل مصر النظم الاحتكارية ، ونظام السخرة ، وآليات ونظم السوق ، والإقطاع ، ولم ينج من تخطيطه سوى أراضى الكهنة ؛ لأنها كانت ملكية عامة ، وذلك دليل على أن الملكية الفردية شرّ ، وأنها سرقة ، وأن الملكية العامة هى الحلّ لمشاكل الأرض ، وأطماع ومفاسد طبقة الملاك. ومنذ يوسف صارت ضريبة الأطيان الزراعية الخمس ، ومن الواضح أنه أعفى أهله منها ، لأنه ابتداء أقطع أهله أرضا لم تكن لهم أصلا ، وعيّنهم فى الوظائف المختلفة ليحكم قبضته بهم على البلد جميعها. ومن الغريب أن يوسف وهو المذكور فى القرآن بأنه نبىّ كان يشرب الخمر طبقا لرواية التوراة ، فلما التقى إخوته واحتفل بهم ظل يشرب معهم حتى سكروا (التكوين ٤٣)!

* * *

٩٥٤

٧٩٤. دليل نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سورة يوسف

قيل فى أسباب نزول الآية : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٢) (يوسف) أن الآية والسورة كلها ـ سورة يوسف ـ تنزّلتا بعد سؤال اليهود للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحدّثهم عن يوسف ويقصّ عليهم قصته ، وكان ذلك بمكة ، فأوعزوا بالسؤال لكفّار مكة ، فأنزلت السورة ، قيل وافقت التوراة فى جملتها وفيها زيادة ليست فى كتب اليهود ، وهذا صحيح ، والزيادة كانت معجزة ، وما ورد موافقا للتوراة كان تعديلا لما جاء به وليس موافقا له ، فكانت هذه التصويبات والزيادات فى القرآن مما يحسب له لا عليه ، ودلّلت على أن القرآن كتاب منزّل من عنده تعالى ، وأن محمدا الذى تنزّل عليه القرآن ، رسول من لدنّه تعالى فقد أنبأهم بما يجهل ويجهلون ، ولم يكن يقرأ كتابا ، ولو كان قد قرأ التوراة فإن القصة بما اشتملت عليه فى القرآن مختلفة فى مرامبها ومعانيها وأهدافها ودروسها المستفادة وأحداثها عما فى التوراة ، وما كان ما اشتملت عليه قصة القرآن مذكورا ولا مسطورا فى كتاب ، ولا معروفا شفاهة.

* * *

٧٩٥. رؤيا يوسف كانت رؤيا نبىّ

رؤيا يوسف أن إخوته أحد عشر كوكبا ، وأمه شمس ، وأباه قمر ، من الرؤى التنبؤية ، وتشملها سورة يوسف ، تقول : (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٥) وليس شرطا أن يحلم الأنبياء وحدهم بالرؤى ، والرؤى أحلام تنبئية ، والمؤمن والكافر يحلمان أحلاما تنبئية ؛ إلا أن الناس تتفاضل فى ذلك ، وكلما كان المرء صافى النفس ، تقيّا ، ورعا ، مخلص النية ، كانت رؤياه أميل إلى الصدق ، وأكثر وضوحا ، وأقرب أن تفسّر نفسها بنفسها ، ومن أقواله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا» ، يعنى أن صدق الرؤى يتناسب تناسبا طرديا مع صدق صاحبها فى أحاديثه عموما ، والنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصف الرؤى بأنها من «المبشّرات» ، وأنها «الصالحة الصادقة» ، واشترط أن : «يراها الرجل الصالح أو ترى له» ، وروى أنه قال إن الرؤيا : «جزء من كذا جزء من النبوّة» ربما من سبعين جزءا ، أو خمسين ، أو ستة وأربعين ، أو أربعة وأربعين ، وإنما كانت الرؤيا جزءا من النبوّة لأن فيها ما يعجز ويمتنع ، فتبشّر أو تنذر بشيء من الغيب ، وإذا صدقت الرؤيا كانت أقرب إلى النبوّة ، ولذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الرؤيا من الله والحلم من الشيطان» ، والشيطان هو هوى النفس ورغباتها ، والبغض أو الحب تستشعرهما

٩٥٥

النفس تجاه شىء بعينه يكون المدار عليه فى الحلم. والرؤيا الصادقة إذا رآها غير المؤمن تكون على الندور والقلة ، وإنه لأمر ذو بال أن تأتى أحلام فرويد ـ وكان كافرا حتى بإله اليهود ـ خالية من أية رؤى ، وكذلك تلاميذه جميعهم. والرؤيا لكى تضاف إلى الله وتحسب كرؤيا نبوية لا بد أن تخلص من الأضغاث والأوهام ، والضّغث الشيء المتضاد ، والرؤيا العادية ثلاثة أصناف : فبعضها أهاويل نفسية عن رغبات مكبوتة ، وبعضها رغبات صريحة من النهار لم تتحقق فى اليقظة فكان النوم فرصة لها تتحقق فيه ، وبعضها أجزاء من النبوّة تتفاوت الرؤيا عن الرؤيا فيها ، ومن ولى إلى ولى. والرؤيا مصدر «رأى» فى المنام ، وأكثر ما تكون فى آخر الليل لقلة غلبة النوم فيه ، ولذلك لا يرى الرائى إلا ما يصح إدراكه أو تأويله ، كأن تكون صورة محسوسة ، وأمثلة موافقة لواقع النائم أو لواقع الوجود ، وتارة تكون لمعانى معقولة غير محسوسة ، وفى الحالتين تكون مبشّرة أو منذرة ، ومنها ما يظهر معناه أولا فأول ، ومنها ما لا يظهر إلا بعد التفكّر ، وقد رأى يوسف الكواكب والشمس والقمر تسجد له فأوّلها بإخوته وأبويه ، ورأى الفرعون البقر والسنابل ، فأوّلها يوسف بالسنين أى الجدب. ولا يعتدّ بأن يوسف كان صغير السن وقت تأويل هذه الرؤيا وغيرها ، فالرؤيا تكون من الصغير كما تكون من الكبير ، والإدراك فيها كالإدراك فى اليقظة ، والاختلاف فى نضج الإدراك بحسب السن. ولا ينبغى أن يعبّر الرؤيا إلا من يحسن تعبيرها ، وآيات رؤيا يوسف كلها تنبئ بأنه نبىّ ، وأن رؤياه وتفسيرها هى رؤيا وتفسير نبىّ ، وذلك لجلائها ، ولأنها عن حق ولا تقول إلا الحقّ.

* * *

٧٩٦. إخوة يوسف يتهمونه بالسرقة

لما اتّهم بنيامين أخو يوسف بسرقة صواع الملك ، دافع إخوة يوسف عن أنفسهم ليبرءوا من فعلة أخيهم ، فنسبوا فعلته إلى اقتدائه بأخيه الشقيق يوسف ، لأن بنيامين كان أخوهم من الأب فقط ، وقالوا : (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) (٧٧) (يوسف) ، يعنى أنه إن كان قد سرق فالسرقة تجرى فى دمه من أخيه ـ يقصدون يوسف ، لأن الاشتراك فى الأنساب يشاكل فى الأخلاق. وما كان يوسف سرّاقا كما ادّعوا ، ولكنهم اعتسفوا اتهامه تبريرا لبغضهم له ولأخيه الشقيق ، وكانوا جميعا أولاد ضرائر ، وداء الضرائر هو البغض والتحاسد. وقيل : إن عمة يوسف أرادته فى صغره أن يكون فى صحبتها ، فدبّرت أن يبدو كما لو كان قد سرق بعض ما يخصّها وأخفاه فى ملابسه ، وتبعا لشريعتهم فإن السارق يسترقه المسروق منه ، فضمنت أن يلحق بها يوسف ويستمر فى العيش معها. وقيل إنهم قالوا فى يوسف

٩٥٦

ذلك لأنهم اعتبروه قد سرق منهم محبة أبيهم لهم ، واستحوذ على أبيهم دونهم ؛ وقيل كان يوسف إذا جلس على المائدة ليأكل مع إخوته لا يجد ما يشبعه ، لكثرتهم وقوتهم ، ولضعفه وصغر سنه ، فكان يحتال ليفوز لنفسه ببعض الطعام ، فكانوا يضبطونه ويعيّرونه به. ومن أجل ذلك قالوا : إن أخاه يقتدى به ويسلك على نهجه.

* * *

٧٩٧. الحب المتبادل بين يعقوب ويوسف

قصة يوسف من أحسن قصص القرآن كما قال تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) (يوسف ٣) ، والقصة فى جزء منها تحكى عن حبّ يعقوب لابنه يوسف ، وحبّ الابن لأبيه ، وفى الجزء الآخر تبرز القصة انتصار الفضيلة عند شاب مثل يوسف فى مقتبل عمره ، كان قد عزف عن الرذيلة ، واستمسك بالدين ، واعتصم بالإيمان. وفى القصة يتناجى الولد مع أبيه : (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ) (يوسف ٤) ، فيقول الأب : (يا بُنَيَّ) ولا يمل الأب تعليم ابنه فى كل المواقف ، ويتعهده بالتربية ، فلمثل ذلك يكون الآباء ، يقول يعقوب ليوسف : (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ) (يوسف ٦) ، يذكّره بأجداده ، وبالرسالة التى كلّفوا بها ويرثها عنهم ، والإيمان وما يعود عليه من الخير والنّعم والعلم. وقيل إن محبة يعقوب ليوسف لأنه كان ابن الزوجة الجميلة الأثيرة عند زوجها ، وقيل لأنه بكر أولاده منها ، وإنما السبب الحقيقى أن يوسف كان وريث بيت النبوّة ، وآل إليه أمر الدعوة ، وكان ما ينفك يدعو إلى الله ، فدعا إليه «العزيز وامرأته» ، ورئيس السجن ، وزميليه فيه ، ثم الفرعون وآله ، فلما جاء موسى من بعد ، ودعا فرعون ، كان من بين بلاطه رجل من آله يؤمن بالله قال : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) (غافر ٣٤) ، يعنى أن دعوة يوسف كانت ما تزال آثارها باقية كل هذه السنوات ، فلذلك أحب يعقوب ابنه يوسف ، لأنه كان الحريص على الدعوة ، والحفيظ عليها ، والقائم بها ، وهذه الوشيجة الروحية بين يعقوب وابنه يوسف هى التى صرفت عن يوسف خواطر السوء والفحشاء فى «مشهد الغواية» ، واصطلح عليها القرآن باسم «برهان ربّه» ، أى البرهان على أن الله كان مع يوسف ، وأنه تعالى لا ينسى أولياءه ، فكذلك مكّن له فى الأرض يتبوأ منها حيث يشاء ، وأصابته رحمة الله ، ولم يضع أجره وجعله من المحسنين ، ورفعه درجات ، وفوق كل ذى علم عليم ، ولمّا كاد يعقوب ييأس ، لم ينجه من اليأس غير إيمانه وصبره «الصّبر الجميل» ، وتأسّف يعقوب

٩٥٧

على يوسف ، وكان كثير البكاء ولم ينسه أبدا ، وكلما رأى أولاده كظم حزنه ، حتى رقّ له أولاده بعد أن هرم وبلغ من الكبر عتيا ، وخافوا عليه الهلاك والتلف ، وما شكا لهم حاله ، وإنما توجّه بشكايته إلى الله ، يبثه حزنه ، ويزيده الإيمان قناعة بأن الله لا يمكن إلا أن يجمعه يوما بابنه ، وأن يعود إليه الغائب ، قال : (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٨٦) (يوسف) ، يعلم عنه الإحسان وخير الجزاء ، وهل جزاء الإحسان عند الله إلا الإحسان ، وللذين أحسنوا الحسنى وزيادة ، والزيادة أن يعود إليه ولده ويجتمع الشتيتان. وإنه لشىء يدمى القلب أن يقول يوسف لإخوته بعد كل هذا الدمار الذى ألحقوه بنفسه : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (٩٢) (يوسف) ، ثم يعطيهم قميصه ليلقوه على وجه أبيهم ، ليشفى من العمى الذى أصابه من كثرة البكاء عليه ، فلمّا كان قميصه الذى رآه ملطخا بالدم ، بزعم أن الذئب أكله ، هو الذى أبكاه ، فظل يبكى حتى ابيضّت عيناه ، فإن قميصه أيضا هو الذى سيبهجه ويعيد إليه بصره ، وذلك دليل على أن عمى يعقوب كان هو «العمى النفسى» psychic blindness وليس «العمى العضوى» organic blindness ، والعمى النفسى هو العمى الذى يتحصّل نتيجة الصدمات النفسية ، ويشفى صاحبه بصدمة نفسية مماثلة نقيض الأولى ، وعلم يوسف بهذا «العلاج النفسى» من علم النبوّة ، وقول يعقوب : (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) (٩٤) (يوسف) هو أيضا من بركات وحدس النبوّة ، وكانت ليعقوب فراسة وحدس الأنبياء لمّا قال لأولاده : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) (يوسف) ، ثم كانت بركات النبوّة أن يتشمم وحده دون غيره رائحة ابنه فى قميصه فكأنه استروح الجنة ، وما كان ذلك عن فند ـ وهو جنون كبار السن ، وإنما كان محبة يعقوب ليوسف ، ومحبة يوسف لأبيه يعقوب ، ذرية طيبة بعضها من بعض ، أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين.

* * *

٧٩٨. نهاية قصة يوسف فى التوراة وفى القرآن

فى قصة التوراة أن يوسف ذهب ليلاقى أباه عند مقدمه إلى جاسان ، فلما ظهر له ألقى بنفسه على عنقه ، يقول : دعنى أموت الآن بعد ما رأيت وجهك لأنك بعد باق (التكوين ٤٦ / ٢٩ ـ ٣٠) ، فاللقاء درامى عنيف وفيه البكاء والأحضان والكلمات الطيبة الرقيقة.

وفى قصة القرآن : (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي

٩٥٨

وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (١٠١) (يوسف) ، يضمّ يوسف أبويه إليه ، ويطمئنهم أنهم فى مصر سيكونون فى أمان ، ورفعهما إلى العرش ، فخرّوا جميعا له ساجدين ، والسجود كان تحيتهم ، وسنّتهم ، وذكّرت الآيات بالرؤيا التى رآها يوسف فى طفولته ، وعدّد نعم الله عليه بخروجه من السجن ومجيئهم من البدو ، مكافأة له على معاناته وصبره ، وقيل إنه بكى وأبوه ، والبكاء أربعة : بكاء من الخوف ، وبكاء من الجزع ، وبكاء من الفرح ، وبكاء الرياء ؛ وبكاء يعقوب بكاء فرح لأن ربّه أقرّ عينيه بعد الهموم والأحزان ، وكان عمره ووقتذاك مائة وثلاثين سنة ، كلها بؤس وشقاء ، وعاش بعد ذلك فى كنف ابنه سبع عشرة سنة ، والدرس المستفاد كان من يوسف وليس من يعقوب ، فقد أوجز حياته فى دعائه ، فشكر الله على ما أعطاه من خير عميم وعلم كريم ، وأقرّ به إلها واحدا ، ودعا أن يتوفاه مسلما ويلحقه بالصالحين ، فلم يتمن الموت ولكنه تمنى الوفاة على الإسلام ، وقيل «الصالحين» هم آباؤه الثلاثة : إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، تمنى أن يلحق بهم ويكون معهم ، عليهم وعليه‌السلام كلّ السلام.

* * *

٧٩٩. ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين

هذه دعوة يوسف لأبويه لمّا دخلا عليه فى قصره فى جاسان ، ويقول المستشرقون والمفسرون : كيف يقول يوسف : (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) (٩٩) (يوسف) وهم فى مصر فعلا وقد دخلوها؟! والجواب : أنهم وإن كانوا قد نفذوا عبر حدودها إلا أنهم لم يعرفوها بعد ، ودعوته لهم بدخولها آمنين ، أى أن يعايشوا الناس فيها ، ويتعرّفوا على حضارتها ، فالحياة فى الحضر بخلاف الحياة فى البدو ، وسكنى القصور والمنازل مختلف عن سكنى الخيام ، والشرب من مياه الآبار غير الشرب من مياه الأنهار ، وطعام سكان المدن ليس كطعام سكان الصحراء ، فهذه دعوة يوسف لأبويه أن يدخلوا مصر آمنين ، أى يهنئوا بالعيش فيها آمنين ، لا يخافون غدرا ولا ذلة ، ولا حاجة ولا مسغبة ، ولا جدبا ولا جوعا.

* * *

٨٠٠. دعاء يوسف

قيل : إن يوسف فى هذا الدعاء تمنى الموت ، وهو ما لم يحدث لنبىّ ولا لغير نبىّ من قبل ، وهذا غير صحيح بالمرة ، وإنما سأل يوسف ربّه أن يتوفاه عند ما يحين أجله على الإسلام ، وفى الحديث : لا يتمنّين أحدكم الموت لضرّ نزل به ، فإن كان لا بد متمنيا فليقل : اللهم

٩٥٩

أحيني ما كانت الحياة خيرا لى ، وتوفنى إذا كانت الوفاة خيرا لى» أخرجه مسلم. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يتمنى أحدكم الموت ، ولا يدع به من قبل أن يأتيه ، فإنه إذا مات أحدكم انقطع عمله ، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا» أخرجه مسلم. وكان دعاء يوسف : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (١٠١) (يوسف) ، وقوله : «من الملك» للتبعيض ، لأنه كان الوزير الأول فى بلاط الفرعون ولم يكن الفرعون ، فبعض السلطات كانت ليوسف دون أغلبها ؛ وقوله : «تأويل الأحاديث» هو علم تعبير الرؤيا ، أو علم تفسير الأحلام ، وهو بعض العلم وليس كل العلم ؛ وقوله : «فاطر السموات والأرض» يردّ بها الكون كله إلى الله ، ويوحّده ، فهو منشؤه ومخترعه على الإطلاق من غير مثال سابق ؛ وقوله : «وليّى» أى ناصرى ومتولّى أمورى دنيا وآخرة ؛ وقوله : «الصالحين» هم آباؤه الثلاثة : إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب. وتوفاه الله فى أرض جاسان (محافظة الشرقية) حيث كان يحكم فدفن بها ، تقول التوراة : إنهم حنّطوه وجعلوه فى تابوت. ويقول اليهود إن يوسف أوصى إخوته أن ينقلوا عظامه إلى فلسطين ، وعند ما خرج موسى من مصر نقل رفاته معه (تكوين ٥٠ / ٢٥). وقيل : دفنت موميته نهائيا بالقرب من شكيم (خروج ١٣ / ١٩) بجانب بئر يعقوب. وقيل : نقلت جثته بعد ذلك إلى الخليل فى مقبرة إبراهيم. وهذا كلام فارغ ، أولا : لأن موسى خرج بسرعة من مصر ولم يتهيأ لإخراج الجثة معه ؛ وثانيا : لأنه ما كانت هناك فرصة لدفنه فى شكيم فى عهد موسى فموسى لم يدخل شكيم ، وإنما هو التحريف والتأليف والتزوير فى التاريخ ، والتعصب ، وكأنما جثة يوسف وعودتها إلى أرض فلسطين رمز لعودة اليهود إلى فلسطين ، يذكّرون الأجيال بذلك حتى لا ينسوا ، ويستنّون لهم سنّة ، هى ضرورة أن يوارى جسد كل يهودى تراب فلسطين ؛ فإذا كان ذلك هو الشأن مع الموتى ، فما ذا عن الأحياء!!

* * *

٨٠١. قصة امرأة العزيز ويوسف

فى هذه القصة الكثير من اللبس ، فينبغى التزام نصّ سورة يوسف ومراجعة القصة على سفر التكوين من التوراة ، الفصل التاسع والثلاثين. والقصة تبدأ فى القرآن بانتشال يوسف من البئر الذى ألقاه به إخوته ، ولم يكن يوسف طفلا وقتها ، وإنما كان شابا فى السابعة عشرة من عمره بحسب الرواية اليهودية ، وذلك سن معقول جدا ويناسب الأحداث ، والذين انتشلوه كانوا إسماعيليين ـ أى من نسل إسماعيل ـ من أهل مدين ، وأسرّوه بضاعة ضمن ما لديهم من بضائع نزلوا بها مصر ، إلى أن باعوه لعزيز مصر.

٩٦٠