موسوعة القرآن العظيم - ج ١

دكتور عبد المنعم الحفني

موسوعة القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

دكتور عبد المنعم الحفني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
ISBN: 977-208-442-2
الصفحات: ١٢٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

وسنّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأحاديثه ؛ و «الملك العظيم» : فليس أعظم من ملك العرب واليهود فى العالم وهم آل إبراهيم ، و «الأيدى» فى الآية هى النّعم ، و «الأبصار» هى البصيرة فى الدين والحكمة والعلم ؛ و «اصطفاهم من الأخيار» يعنى أخلصهم بالعمل للآخرة ، ووهبهم الصدق فكانوا من الصالحين فى الدنيا والآخرة ، قال : (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (٥٠) (مريم). ومن أجل كل هؤلاء الأنبياء قيل فى إبراهيم : إنه «أبو الأنبياء» ، لكثرة الأنبياء فى أولاده وأحفاده ونسله ، فلم يوجد إنسان انحدر من صلبه أنبياء مؤسسين لأعظم ثلاث ديانات ، قيل فيها إنها «الديانات الكتابية» الوحيدة فى العالم ، وإبراهيم على ذلك أبو اليهودية والنصرانية والإسلام عن حقّ ، فهو أول من بشّر بتعاليمها ومهّد لها ، وأرسى قواعدها.

* * *

٧٤٣. لم يكذب إبراهيم إلا فى ثلاث

عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم يكذب إبراهيم النبىّ فى شىء قطّ إلا فى ثلاث : قوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) (٨٩) (الصافات) ، وقوله لسارة : «أختى» ، وقوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) (الأنبياء). أخرجه مسلم ؛ وفى رواية أخرى قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم يكذب إبراهيم النبىّ إلا فى ثلاث كذبات : اثنتين فى ذات الله : «قوله : إنى سقيم» ، وقوله : «بل فعله كبيرهم» ، وواحدة فى شأن سارة». أخرجه مسلم. والكذب : هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه ، وكذب إبراهيم كان من المعاريض.

* * *

٧٤٤. إبراهيم أرسل شابا

قال ابن عباس فى قوله تعالى : (قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) (٦٠) (الأنبياء) : ما بعث الله نبيّا إلا شابا ، ولا أوتى العلم عالم إلا وهو شاب. ثم تلا : (قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) (٦٠) (الأنبياء). ونقول إن ذلك كان فى حالة إبراهيم وحده ، وأما نوح فقد بعث كهلا ، وكذلك موسى ، وبعث عيسى فى نحو الثلاثين ، وبعث نبيّنا فى الأربعين!

* * *

٧٤٥. محاكمة إبراهيم أول محاكمة فى التاريخ من نوع محاكم التفتيش

محاكم التفتيش أقامتها الكنيسة الكاثوليكية ضد المسلمين فى أسبانيا بعد سقوط الدولة الإسلامية بها ، تفتش فى محاكماتها فى ضمائر الناس وخبايا صدورهم وقلوبهم ، وتنتحل التهم تستخرجها اعتسافا من أقوالهم أو أفعالهم. وفى الآية : (فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ

٩٠١

لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) (٦١) (الأنبياء) دليل على أن أول محكمة فى التاريخ من هذا النوع كانت لمحاكمة إبراهيم ، فلما رجع قومه من الاحتفالات بعيدهم رأوا تماثيل آلهتهم محطمة كالجذاذ ، وقبضوا على من قبضوا عليهم واستجوبوهم ، وخلصوا إلى أن الفاعل كان فتى يذكرهم يقال له إبراهيم ، فقبضوا عليه وعقدوا له محاكمة علنية بمرأى من الناس ، لتكون أقواله فيها حجة عليه ، وليشهد الناس عقابه فلا يقدم أحد على مثل ما أقدم عليه ، أو لعل آخرين يتقدمون ليشهدوا بأنهم رأوه يكسر أصنامهم ، وليعلموا أنه يستحق العقاب ، واستفهموه : (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ) (٦٢) (إبراهيم) ، فقال لهم على جهة الاحتجاج عليهم : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) (٦٣) ، فعلّق الجواب على اتهامه وتصديقه أو تكذيبه ، على الصنم الكبير إن كان ينطق ، فنبّه على فساد اعتقادهم ، وكأنه كان يستنطق الأصنام الصغيرة أن تشهد إن كانت تنطق ، ويستنطق الصنم الكبير أن يكذّب اتهامه ، إن كان ينطق ، فبيّن أن من لا يتكلم لا يستحق أن يعبد وأبدهتهم حجته : (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) (٦٤) (الأنبياء) ، وهؤلاء كانوا نفرا منهم ، لأنه إذا كان هناك رأى ، فلا بد أن يكون هناك رأى آخر ، ورجوع أصحاب الرأى الآخر هو رجوع المنقطع عن حجّته ، المتفطّن لحجة خصمه ، كقوله : (إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) ، ظلموا أنفسهم بعبادة من لا ينطق ، ولا يملك أن ينطق ، وكيف ينفع عابديه ويدفع عنهم البأس ، من لا يرد عن رأسه الفأس؟!! وهذا رأى كان لا بد أن يدحضه رأى آخر : (نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) (الأنبياء ٦٥) ، أى أنهم بهذا الرأى عادوا إلى جهلهم وعبادتهم ، وردّوا إلى كفرهم ، فقالوا : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) (٦٥) (الأنبياء) ، فقال يحاورهم ويردّ على مقالتهم وحجتهم : (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٦٧) (الأنبياء) ، فقطعتهم حجّته وأفحمهم فيما يتقوّلون ، فأصدروا أول حكم من نوعه فى التاريخ : (قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) (٦٨) (الأنبياء) ، وكان هذا التحريق لإبراهيم مدعاة لمزيد من أحكام التحريق عبر التاريخ ، ومن ذلك «أصحاب الأخدود» الذين ورد ذكرهم فى القرآن فى سورة البروج (انظر القصة فى باب قصص القرآن) ، واشتهر اصطلاح التحريق holocaust أوauto ـ da ـ fe ، وفى الخبر أن النمرود بنى صرحا وجمعوا فيه الحطب ثم أوقدوه حتى اشتعلت النار واشتدت ، حتى أن أيا ما يمر من فوقها ليحترق من شدّة وهجها ، وقيّدوه ووضعوه مغلولا فى المنجنيق ليرموا به فيها ، وكانت معجزة الله فى إبراهيم أن أبطل فعل النار ، قال : (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) (٦٩) (الأنبياء) ، فلم يحترق إلا وثاقه ،

٩٠٢

فاستطاع الخروج منها ، ومن يجعل فى النار هذه الطاقة على الحرق لهو القادر على أن يعطّل السبب ، وهو ما جرى مع إبراهيم ، وعلماء اليوم يفعلون من ذلك الكثير فيوقفون الأسباب ، فلا غرابة فيما فعل الله سبحانه وإن قدروا على ذلك ، فالله أقدر ، وهو تعالى مثلما يحيى فإنه يميت ، ولقد أحيا النار وباستطاعته أن يميتها ويلغى تأثيرها وفعلها. وبعد هذه الحادثة ما كان من الممكن أن يستمر إبراهيم يعايش هذا الحاكم أو أهل بلده ، وقيل : لم يكن إبراهيم قد بلغ الرشد عند ما حرّق وكان فى السادسة عشرة ، فذلك ما جعله يصمم على الهجرة من العراق ويسير إلى فلسطين.

* * *

٧٤٦. دعاء إبراهيم وهم يحرّقونه

روى عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن إبراهيم حين قيّدوه ليلقوه فى النار ، قال : لا إله إلا الله ، سبحانك ربّ العالمين ، لك الحمد ، ولك الملك ، لا شريك لك» ، قال : «ثم رموا به فى المنجنيق من مضرب شاسع ، فاستقبله جبريل ، فقال : يا إبراهيم ، ألك حاجة؟ قال : أمّا إليك فلا» ، فقال جبريل : فاسأل ربّك. فقال إبراهيم : «حسبه من سؤالى علمه بحالى». فقال الله تعالى وهو أصدق القائلين : يا نار كونى بردا وسلاما على إبراهيم».

* * *

٧٤٧. كذبة إبراهيم حجّة له لا عليه

كذب إبراهيم حين أراد إبعاد الشبهة عن نفسه ، فردّ الاتهام على أصحابه ، ونسب لكبير الأصنام أنه الذى كسرها ، بتعليقه الفأس برقبته ليجعله فى موضع الاتهام : (قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) (٦٣) (الأنبياء) ، فبيّن أن من لا يتكلم ولا يعلم لا يستحق أن يعبد ، وكانت كذبته من «المعاريض» ، وفى المعاريض يمكن الكذب ، وأن يشهد زورا على كبير الأصنام ، وأن يسخر منهم لمّا طلب أن يسألوهم عن الفاعل ، واستنكر أن يسأل عن أحجار خرساء ، فإن كانوا ينطقون فإنهم مصدّقون ، وإن لم يكونوا ينطقون فمن باب أولى لم يقوموا بما اتّهموا به ، وفى كلامه اعتراف ضمنى بأنه الفاعل ، وهو إذن لم يكذب ولا يكذب ، ودلّ أن دفاعه خرج مخرج التعريض ، فطالما أنها لا تنطق ، فهى لا تنفع ، ولا تضر ، فلم يعبدونها إذن؟ ، كقوله : (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ) (مريم ٤٢) ، فأقام عليهم الحجة منهم. وفى فقه تعريض إبراهيم يجوز فرض الباطل مع الخصم ليرجع إلى الحق من ذات نفسه ، بأقواله هو ، وذلك أقرب فى الحجة ، وأقطع للشبهة. وهذا ما فعله إبراهيم ، وهو

٩٠٣

إذن لم يكذب ، وإنما يحاج بالمنطق. وجواب إبراهيم : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) هو نفسه سؤال يلزم بلفظ الخبر : لم ينكرون أن يكون قد فعله كبيرهم؟ أى من اعتقد عبادتها يلزمه أن يثبت لها فعلا.

* * *

٧٤٨. إبراهيم مؤسس الفتوة

كان إبراهيم عند ما كسر الأصنام «فتى» كما وصفوه : (قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) (٦٠) (الأنبياء) ـ يعنى شابا حدثا ، والحدث من سن البلوغ إلى الثلاثين تقريبا ، ورغم حداثة سنّه فقد اتّسمت فعلته بالجرأة الشديدة ، وكانت له حجج مفحمة ، ومنطق راجح يدل على أن عمره العقلى أكبر من عمره الزمنى ، وأنه ناضج فكريا نضوجا ليس لأترابه ، وله عقلية «الباحث عن الحقيقة» ، وشخصية «الفيلسوف» الراغب فى المعرفة ، واتصفت ردوده بالحدّة شأن ردود الشباب ، كقوله : (أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) (لأنبياء ٦٧). وأهل الإسلام بنوا على وصف إبراهيم «بالفتى» مذهبا يقوم على نفس سلوكياته وأخلاقه وطريقة تفكيره ، أطلقوا عليه اسم «الفتوة» ، وكان انتشار هذا المذهب ، وقيام فرق الفتوة خصوصا فى العصر العباسى. وبمفهوم هذا المذهب فإن الفتوة هى الإيمان والهداية ، وهما ما كان عليه «الفتية أصحاب الكهف» ، قال فيهم ربّهم : (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) (١٣) (الكهف) ، أى كانوا أحداثا مؤمنين كإبراهيم. والأصنام التى كسرها إبراهيم نوعان : الأصنام الحسيّة التى كانوا يتعبّدون لها ، والأصنام النفسية المعنوية التى كانت فى قلوبهم اعتقادات خاطئة ، وأخلاقيات رديئة ، وأفكارا متخلّفة. والفتوة لذلك لها شقان ، الأول : الفتوة الفكرية : وهى الخروج على العرف فيما يخالف العقل ، والجرأة فى الحق ؛ والثانى : الفتوة السلوكية : وهى الانتصار للضعفاء ، ونجدة الملهوف ، وإنصاف المظلومين ، مما يعرف فى الإسلام باسم «الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر». وإبراهيم هو المؤسس الحقيقى لهذا المذهب والمنهج معا ، وكان من «الفتيان السالكين» وقد أعلن الحرب ضد الأصنام : أصنام الهوى والشيطان والدنيا والعجب ، وصنم كل إنسان نفسه ، فمن خالف هواه فهو «فتى» على الحقيقة ، وهو «إبراهيمى النزعة» ، و «حنيفى العقيدة» ؛ و «الحنيفية» هى الأساس العقائدى لنظام الفتيان ، والحنيفية تعنى الميل عن الباطل إلى الحق ، مع التسامح فى كل الأحيان ، ولذا يؤثرون تسميتها «بالحنيفية السمحاء» ، أى غير المتزمتة. وأى شباب يحكم لهم بالفتوة فإننا نعنى أنهم «مؤمنون بلا واسطة» كما كان إيمان إبراهيم ، ولا ينبغى أن نظن أن الفتوة هى شكل من أشكال مذهب الربوبيةdeism الذى يقول أن معرفة الله ممكنة

٩٠٤

نبىّ ، وإنما الفتوة مواقف ترصد لأصحابها وتشهد لهم بالإيجابية ، وأصحابها دائما من الشباب المنفتح على الحياة. وأهل اللسان يقولون : الفتوة هى الإيمان يكون عند الشباب خاصة. وقيل : الفتوة بذل النّدى ، وكفّ الأذى ، وترك الشكوى. وقيل : هى اجتناب المحارم ، واستعجال المكارم.

* * *

٧٤٩. إبراهيم أول من هاجر أرض كفر وأول نبىّ ينزل بمصر

الذى قال : (إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (العنكبوت ٢٦) هو لوط ، وإنما قال ذلك تصديقا لعزم إبراهيم على الهجرة ، فصاحب فكرة الهجرة والذى أشرف على تنفيذها هو إبراهيم ، وهو عمّ لوط ، وقد رأى أنه يهاجر من أور الكلدانيين إلى أرض كنعان ، فجاء أولا إلى حاران برفقة لوط ابن أخيه ، وأقام هناك ، ثم تركها إلى أرض كنعان ، ثم إلى موضع شكيم ، ثم إلى بلوطة مورة ، وهناك بنى مذبحا للربّ ، وصحبته فى هجرته سارة امرأته. فكأن إبراهيم كان أول من هاجر من أرض الكفر ، وقيل : كان فى الخامسة والسبعين. وقيل : إن أول من هاجر هو لوط ، وهو الذى قال : (إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي). ويقابل ذلك فى الإسلام أن عثمان بن عفان كان أول من هاجر إلى الله فى الهجرة الأولى بصحبة زوجته رقية ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانت هجرته إلى أرض الحبشة ، وفى الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فى هجرة عثمان ورقية : «صحبهما الله. إن عثمان أول من هاجر بأهله بعد لوط» ، والحديث فيما يبدو موضوع ، وفى التوراة أن إبراهيم ولوطا سويا ، ومعهما أهلهما ، هاجروا وبصحبتهما سارة ، وذلك هو الصحيح بمنطق التاريخ : أن لوطا لم يسبق إبراهيم فى الهجرة ، ولا تعنى الآية : (إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) أنه أول من هاجر ، وإنما هو إعلان موافقة منه على ما قرره إبراهيم ، وهجرة إبراهيم كانت بدافع من منازعاته مع السلطة فى بلده ، فهى «هجرة مشروعة» يقضى بها الدين ، وأما هجرة لوط فهى «هجرة صحبة» ، لأنه لم تكن للوط قضية يهاجر بسببها.

وفى التوراة كذلك أن إبراهيم لمّا نزل القحط بفلسطين توجه إلى مصر ، وعاش بها لفترة طويلة ، فكان أول نبىّ يزور مصر وينزل بها ، ووهبه الفرعون ماشية رعاها وتكاثرت عنده جدا ، فصار له الغنم والحمير والبقر ، والعبيد والإماء ، وإبراهيم نزل فى مصر فى «أرض جاسان» (محافظة الشرقية الآن) ، وكانت هذه الأرض محل صراع بين ملوك مصر والفاتحين من آشور ، وقصة إبراهيم مع الفرعون ، وكذلك قصة يوسف ، والأسباط ، وموسى ، لم تجر فى أرض مصر الحقيقيةProper Egypt ، وإنما بأرض جاسان وعاصمتها «تانيس» ،

٩٠٥

ولذلك خلت الآثار المصرية من أية حكايات عن الإسرائيليين فى مصر. وكلمة «فراعنة» ليست مصرية بل آشورية ، وتعنى الجبابرة ، وانتشارها عالميا عن مصر والحضارة المصرية القديمة هو نوع من الغزو الفكرى العالمى لورودها هكذا فى التوراة. وتقول التوراة إن فرعون أتاح له كل ذلك وأغناه ، لأن إبراهيم أعطاه امرأته سارة وكان قد ذكر له أنها أخته ، ولا نعلم ما ذا كانت تفعل سارة فى بيت الفرعون طوال هذه المدة ، إلا أنها فيما يبدو اعترفت للفرعون بأنها زوجة لإبراهيم وأنه من المستحيل أن تتزوج الفرعون ، ولام الفرعون إبراهيم ، وعابه وأرجع إليه امرأته ، وأمره بالمضى من مصر (التكوين ١٢ / ١٠ ـ ٢٠). وهذه إحدى كذبات إبراهيم الثلاث : أنه قال إن سارة هى أخته!!

* * *

٧٥٠. إبراهيم الخليل

كان إبراهيم محبا لله ، وكان محبوبا من الله ، فاتخذه الله خليلا ، كقوله : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) (١٢٥) (النساء) ، ولم يكن أحد من الأنبياء خليلا لله إلا اثنين ، أحدهما ذكره القرآن وهو إبراهيم ، ويدعى لذلك «إبراهيم الخليل» ، والآخر ذكره الحديث : «وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا» أخرجه مسلم ، يعنى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فامتنع عليه لذلك أن يكون له خليل آخر ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا» أخرجه مسلم ، فليس له خليل إلا الله. ومعنى إبراهيم خليل الله : أنه الفقير المحتاج إلى الله ، فلم يجعل فقره وفاقته إلا إليه ، كأنه الذى به إصلاح الاختلال أو الخلل فى توزيع الثروة بين الناس ؛ أو أن معنى الخليل : الذى ليس فى محبته خلل ، وإبراهيم هو خليله تعالى لأنه اصطفاه بالمحبة ، ولذا فى الرواية الإسرائيلية لمّا حرّقوه أتاه جبريل وسأله : أله حاجة؟ قال : أمّا إليك فلا! وكلامه شبيه بكلام الصوفية. وقيل بشأن تسميته بالخليل ، أنه ذهب ليحضر طعاما لأهله ـ قال من عند خليل له ، فلم يجده ، فملأ كيسا بالرمل وحمله إلى بيته ، ثم اضطجع لينام ، فلما استيقظ وجد عندهم خبزا فسأل : من أين لكم هذا؟ قالوا : فتحنا الكيس فوجدنا دقيقا فصنعناه خبزا؟ وسألهم : ومن أين الدقيق؟ قالوا : من خليلك! ألم تقل أن لك خليلا سيعطيك؟ فابتسم وقال : بلى ، هو من عند خليلى! يعنى الله تعالى ، فسمّى خليل الله بذلك. وقيل : لمّا دخلت عليه الملائكة فى هيئة رجال ، وجاء بعجل سمين فلم يأكلوا ، وقالوا : لا نأكل شيئا بغير ثمن ، قال لهم : أعطوا ثمنه وكلوا. قالوا : ما ثمنه؟ قال : أن تقولوا فى أوله باسم الله ، وفى آخره الحمد لله ، فقالوا فيما بينهم. حق على الله أن يتخذه خليلا ـ فاتخذه الله خليلا. وفى الحديث : «اتخذ الله إبراهيم خليلا لإطعامه الطعام ، وإفشائه

٩٠٦

السلام ، وصلاته بالليل والناس نيام». والخلّة إذن ليست مسألة إيثار ولكنها استحقاق عن جدارة.

* * *

٧٥١. دليل إبراهيم الكونى على وجود الله

هذا الدليل يسميه القرآن : (مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فى قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (٧٥) (الأنعام) ، فاليقين فى حالة إبراهيم يتأتى بالدليل ، وإبراهيم كان إيمانه عقليا استدلاليا ، وبداية تفكيره كانت السؤال المعهود عند أصحاب الفكر من الفلاسفة : كيف خلق هذا الكون ، ومن خلقه؟ والسؤال البسيط يناسب المرحلة الطفولية بالنسبة له كإنسان ، وجوابه عليه يلخص تاريخ الديانات منذ البداية : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) (٧٨) (الأنعام) ، ففي التاريخ تعبّد الناس للكواكب ، وبدءوا بأكبرها وانتهوا إلى القمر ثم الشمس ، فإذا ارتقوا فى التفكير انتقلوا إلى التجريد والتوحيد ، واعتقدوا فى الله فاطر السموات والأرض ، وكانت ديانة التوحيد الأولى فى التاريخ هى الحنيفية ، عنى بها إبراهيم الميل إلى الحق ومجانبة الشّرك. والملكوت فى الآية اصطلاح كالرغبوت والرهبوت والجبروت ، وهو الملك ، زيدت عليه الواو والتاء للمبالغة. وأفول الكواكب فى منطق إبراهيم أقوى من ظهورها فى الاستدلال ، واستدلاله يتميز بمهلة النظر ، وقوله : هذا ربّى» ليس إشراكا ، لأنه على قولهم وليس على قوله ، ولأنهم كانوا يعبدون الكواكب. فلما بلغ اليقين بطريقته كان عليه أن يدعو إلى معتقده ويجادل عنه : (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) (٨٠) (الأنعام) ، والمحاجاة : جدل ومقارعة الحجة بالحجة ، والحجة العقلية تناسبها حجة من نوعها ، والإيمان فى منطق إبراهيم ، فطرى ، ومن يرد التثبّت يثبّته الله ويجلّى بصيرته ، وأكثر ما يظهر الإيمان على الوجه فخصّه بالذكر ، قال : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٧٩) (الأنعام) ، ولم يبد أى خوف لأن ما كانوا يعبدونه من دون الله لا يضر ولا ينفع ، وحجّته التى ينوّه بها القرآن هى قوله : (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ

٩٠٧

عَلِيمٌ) (٨٣) (الأنعام) ، وهى حجة إنكار ، فقد أنكر عليهم تخويفهم إياه بما يعبدون من أشياء ولا يخافون الله عزوجل ، فأيهما أولى أن يخاف : الموحّد أم المشرك؟ وأيهما أولى أن يؤمنوا به : الأصنام التى لا حول ولا قوة لها ، أم الله العلىّ الكبير؟ فكانت هذه هى الحجة التى خاصمهم بها وغلبهم عليها ، وأبان من خلالها أنه مجادل عظيم ، ومفكر كبير ، وصاحب علم ومنطق وفهم ، ويستحق بهذه الصفات أن يؤتى الدرجة الرفيعة ، وأن تنعقد له الإمامة.

* * *

٧٥٢. إله إبراهيم

قال إبراهيم عن ربّه : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (٨٢) (الشعراء) ، فهو إله : بمنظور الواقع والنفع له ؛ على عكس إله موسى : فإنه إله الخلق والكون ، ومنظور موسى أشمل. وهدايته تعالى لإبراهيم أنه أرشده إليه ، فبعد أن عبد الكواكب والقمر والشمس ، هدى إلى الله ، وهو بالنسبة له كل شىء ، فهو المطعم ، والساقى ، والشافى ، والمميت والمحيى. وهو الرزّاق ، وخالق كل نبات وزرع ، ويخلق المرض ويجعل له الشفاء ، وأوجده من العدم ، وأحياه ، ثم يميته ثم يحييه ويبعثه ، وكان قومه ينسبون الموت إلى الأسباب ، فبيّن أن الله هو الذى يميت ويحيى. وهو يطعمه لذة الإيمان ، ويسقيه حلاوة القبول. وإذا مرض بمخالفته شفاه برحمته. وإذا مرض بمقاساة الخلق شفاه بمشاهدة الحق. وإذا مرض بالذنوب شفاه بالتوبة ، وهو يميته بالمعاصى ويحييه بالطاعات ، ويميته بالخوف ويحييه بالرجاء ؛ ويميته بالطمع ويحييه بالقناعة ؛ ويميته بالعدل ويحييه بالفضل ؛ ويميته بالفراق ويحييه بالتلاق ؛ ويميته بالجهل ويحييه بالعقل. وإبراهيم إن كان يرجو مغفرته تعالى يوم الدين ، فإنه على اليقين فى حقّه ، وعلى الرجاء فى حقّ المؤمنين سواه. وخطيئة إبراهيم فى الآية ربما يوم أن كذب وقال : (إِنِّي سَقِيمٌ) (٨٩) (الصافات) ، أو عند ما ذكر أن سارة أخته كما فى التوراة ، أو عند ما قال : (هذا رَبِّي) (الأنعام ٧٦) وقصد القمر أو أيا من الكواكب. والأنبياء بشر ويجوز أن تقع منهم الخطيئة ، ولا تجوز عليهم الكبائر وقد عصموا منها. وفى حديث عائشة أنها قالت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ابن جدعان كان فى الجاهلية يصل الرحم ، ويطعم المسكين ، فهل ذلك نافعه؟ قال : «لا ينفعه! إنه لم يقل يوما ربّ اغفر لى خطيئتى يوم الدين» أخرجه مسلم ، والدعاء فى الحديث إشارة إلى قول إبراهيم : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (٨٢) (الشعراء).

* * *

٩٠٨

٧٥٣. آزر أبو إبراهيم

يشنّع المستشرقون على القرآن بخصوص اسم «آزر» ، كتشنيعهم على توصيف مريم بأنها (أُخْتَ هارُونَ) (مريم ٢٨) ، وأن (إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) (الأنعام ٨٤ ، وهود ٧١ ، ومريم ٤٩ ، والأنبياء ٧٢ ، والعنكبوت ٢٧) ولدا إبراهيم ، والقرآن برىء مما يلصقه به هؤلاء المستشرقون الجهلة ، فإن مريم أخت هارون يعنى أنها من بيت عمران ومن ثم من بيت هارون ، وأنها متدينة مثل أهل هذا البيت ، وهارون بن عمران ، ومن بيت هارون كان كل كهنة بنى إسرائيل. وليس صحيحا أن مريم من بيت داود ، فالذى من بيت داود هو يوسف النجّار زوجها ، والدليل على أن مريم من بيت هارون أنها قريبة اليصابات أم يوحنا المعمدان (النبىّ يحيى) ، واليصابات من سبط لاوى ومن بيت هارون كما فى الأناجيل والرسائل (لوقا ١ / ٣٢ ـ ٦٩ ، ورومية ١ / ٣ ، و ٢ تيمو ٢ / ٨ ، وعبرانيين ٧ / ١٤) ، ومن ثم فالقرآن لم يخطئ ولكنه صحّح خطأ النصارى. هذا من جهة مريم ؛ وأما من جهة يعقوب وإسحاق ، فإن إبراهيم أنجب إسحاق ، وإسحاق أنجب يعقوب ، فى حياة أبيه دون أمه التى كانت قد ماتت ، فكأن الله آتى إبراهيم : إسحاق ثم يعقوب نافلة ، يعنى كحفيد! وبحسب التوراة كان إبراهيم ابن مائة سنة لمّا ولدت سارة له إسحاق ، وكانت سارة ابنة تسعين ، ولما ماتت كان عمرها ١٢٧ سنة ، يعنى حتى سنّ ٣٧ سنة لم يكن إسحاق قد تزوج ، وبعد وفاة أمه بثلاث سنوات تزوج رفقه بنت ابن عمه ، كما تزوّج إبراهيم قطورة ، وولدت قطورة لإبراهيم ستة أولاد ذكور ، وأنجب إسحاق فى سن الستين ولديه عيسو ويعقوب ، وكان عمر إبراهيم وقتها ١٦٠ سنة ، ومات إبراهيم فى سنّ ١٧٥ ، فكأنه ظل مع حفيده يعقوب ١٥ سنة. والقرآن إذن لم يخطئ عند ما قال إن الله رزقه بإسحاق ثم يعقوب نافلة. وأما بخصوص «آزر» كاسم لوالد إبراهيم ، فإن المستشرقين يتعجبون : من أين أتى محمد بهذا الاسم وهو لم يذكر فى التوراة؟ ومن التحامل البشع على القرآن أن كثيرين من المستشرقين وعلى رأسهم ماراكى وفرانكل ، ذهبوا إلى الرأى بأن القرآن بتسميته والد إبراهيم باسم آزر ، قد خلط بينه وبين اليعازر خادمه للتشابه بين الاسمين! وواضح أن هؤلاء البحّاثة إما أنهم يتعمّدون الخطأ ، أو أنهم يعانون من جهل مستحكم ، فاسم آزر لا يلتبس مع اليعازر ، لأنه من الفعل يؤازر يعنى يعين ، والأزر يعنى القوة ، ومن ثم كان الاسم شائع لا يلتبس بغيره ، والقرآن لم يخطئ ، وكان آزر اسم صنم ، ومن يخدم الصنم يمكن أن يطلقوا عليه آزر أيضا. وكان أبو إبراهيم هو القيّم على الصنم آزر ، وفى الآية الوحيدة التى يأتى فيها هذا الاسم ما يفيد هذا المعنى ، تقول : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٧٤) (الأنعام) قيل إن آزر صفة ذم ، وتفيد فى الآية تخطئة الأب

٩٠٩

لاتخاذه الأصنام آلهة من دون الله ، فيكون المعنى : أتتخذ يا مخطئ أصناما آلهة من دون الله؟ وربما آزر اسم لصنم ، فيكون المعنى : أتتخذ الصنم آزر إلها من دون الله؟ وقيل : إن الآية : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (١١٤) (التوبة) تفسّر كلمة «آزر» فى الآية السابقة باعتبارها كلمة سبّ وعيب ، ومعناها فى العبرية المعوّج ، فيكون المعنى : إذ قال إبراهيم لأبيه يا أعوج ، أتتخذ آلهة أصناما من دون الله؟ وهى أشد كلمة يمكن أن يقولها ابن لأبيه ، وهذا نفسه هو تفسير الآية : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ). وربما آزر بمعنى المؤازر لقومه على عبادة الأصنام ، أو أنها مشتقة من الأزر يعنى القوة كما قلنا سابقا ، فيكون المعنى : أللقوة تتخذ أصناما من دون الله؟ وبعض المقرئين يقرأ : «وإذ قال إبراهيم لأبيه» يتوقف هنيهة ، ثم يقول : «آزر ، أتتخذ أصناما آلهة من دون الله»؟ يعنى أن إبراهيم يقول : «آزر» دهشة واستغرابا ، وبلهجة التوبيخ ، بمعنى أف لك ، وكل هذه المعانى السابقة تعتمد على أن آزر كلمة عبرية ، والقرآن ليس كتابا لنشر اللّغة العبرية ، ونزوله بالعربية إنما ليفهمه العرب ، فلا بد إذن أن آزر هى اسم للأب ، ولكن الأب اسمه تارح بفتح الراء كما يجيء فى التوراة ، وهى فى العبرية بمعنى عنزة ، وأما آزر فبمعنى القوى الصلب الشديد القاسى الذى لا يرحم ، فيكون أن الاسم الحقيقى للأب هو تارح ، ولأنه اسم لا يحبه صاحبه لنفسه ولا يشتهى أن يناديه الناس به ، فإنه اختار لنفسه «آزر» وهو المقابل «لتارح» ، لينادى به فى دائرة أصحابه ومعارفه ، وهو تغيير مشروع ، وكثيرا ما يلجأ إليه ، وعندنا فى مصر قرية كان اسمها ميت خنازير فغيّر أهلها الاسم إلى ميت السباع ، وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يغيّر الاسم القبيح إلى اسم مقبول ومحبوب ، فكان رجل اسمه مضطجع فسمّاه منبعثا. ولا يعيب ورود اسم آزر فى القرآن أنه غير وارد فى التوراة ، فالكثير الغالب من القرآن فى الموضوعات الواحدة لا مثيل له فى التوراة ، كما فى قصص آدم ، ونوح ، وهود ، وشعيب ، ويوسف ، وموسى ... إلخ ، وكذلك يورد القرآن أشياء عن عيسى لا وجود لها البتة فى الأناجيل الأربعة مجتمعة ، وعلى ذلك يكون آزر اسم جنس ، وجائز أن يستخدمه القرآن كاسم ، ولا تثريب أن يكون للأب اسمان ، فإبراهيم نفسه كان له اسمان بالعبرية ، الأول : أبرام ، بمعنى الرفيع الشأن ، والثانى : إبراهيم ، بمعنى «أبو رهام ، أى «أبو الجمهور» ، أى أبو الناس (تكوين / ٥ ١٧) كما فى القرآن : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) (النحل) ، يعنى كان وحده يساوى أمّة ، أو أنه أمة وحده ، وتتمثل فيه وحده أمة. وكان ليعقوب اسمان ، أحدهما يعقوب يعنى التوأم المولود عقب أخيه ، والثانى إسرائيل أى عبد الله. وكان للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسماء كثيرة وكنى كثيرة. فلا خطأ فى الآية موضوعنا ، وتعالى الله العظيم عن الزلل والنقص ، والحمد لله ربّ العالمين.

٩١٠

٧٥٤. دعاء إبراهيم لنفسه وأبيه

هو قوله : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (٨٩) (الشعراء) ، يدعو الله أن يهبه المعرفة به وبحدوده وأحكامه ، وأن يؤتيه الفهم والعلم ، والنبوّة والرسالة ، ويلحقه بالنبيين من قبله ، وبأهل الجنة ، وأن يجعل له لسان صدق فى الآخرين ، فتجتمع عليه الأمم ، وتتمسك به وتعظّمه ، وقد استجاب له الله ، فجعله على الحنيفية التى أحياها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويعمل بها المسلمون فى كل أرجاء الدنيا ، وهم يصلون عليه كصلاتهم على نبيّهم ، وخاصة فى الصلوات وعلى المنابر ، والصلاة عليه دعاء له بالرحمة. واللسان الذى يسأله إبراهيم من الله تعالى هو القول ، وأصله جارحة الكلام ، وموضع اللسان هو موضع القول على الاستعارة ، ولسان الصدق أن يمدح ويثنى عليه ، والمؤمن يحب أن يعرف أن عمله يقابل بالثناء لا بالذم ، وأنه عمل صالح بالفعل لا بالقول ، استحبابا لاكتساب ما يورث الذكر الجميل ، والذكر الجميل هو حياة ثانية لصاحبه ، كقول القائل : قد مات قوم وهم فى الناس أحياء. ومن دعوة إبراهيم أن يورثه جنة النعيم ، وفى ذلك ردّ على من يدّعى أن المؤمن لا ينبغى أن يسأل الله جنّة ولا نارا. وقيل إن إبراهيم كان قد وعده أبوه فى الظاهر أن يؤمن ، فاستغفر له لهذا السبب ، فلمّا بان أنه لا يفى بما وعد تبرّأ إبراهيم منه ، ولذلك قال فيه : «إنه كان من الضالين» أى المشركين. ولم يحب إبراهيم أن يفضحه الله به يوم القيامة على رءوس الأشهاد ، فدعا أن لا يخزيه يوم البعث ، وفى الحديث : «إن إبراهيم يرى أباه يوم القيامة عليه الغبرة والقترة» أخرجه البخارى ، والغبرة هى القترة ، وفى الحديث : «يلقى إبراهيم أباه فيقول : يا ربّ إنك وعدتنى ألّا تخزنى يوم يبعثون ، فيقول الله تعالى : إنى حرّمت الجنّة على الكافرين» أخرجه البخارى. ويوم البعث : يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ، وإنما ينفعه أن يأتى ربّه سليم القلب ، وخصّ القلب لأنه إن سلم سلمت الجوارح كلها ، وإن يفسد فسدت سائر الجوارح. والقلب السليم : هو الخالى من الشك والشّرك ، وأما الذنوب فليس يسلم منها أحد. وقيل : القلب السليم الصحيح هو قلب المؤمن ، لأن قلب الكافر والمنافق قلب مريض ، كقوله تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) (البقرة ١٠). ولا يكون القلب سليما إلا من آفة المال والبنين. والقلب السليم كاللديغ من الخوف من الله ، ويعلم أن الله حق ، والساعة قائمة ، والبعث حق ، وفى الحديث : «يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير» يريد أنها مثلها خالية من كل ذنب ،

٩١١

وسليمة من كل عيب ، ولا خبرة لها بأمور الدنيا ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أكثر أهل الجنة من البلة» وهم البله عن المعاصى ، والأبله بهذا المعنى هو المطبوع على الخير ، والغافل عن الشر ، وغلبت عليه سلامة الصدر وحسن الظن بالناس.

* * *

٧٥٥. قصة إبراهيم مع النمرود الذى حاجّه فى ربّه

هى القصة التى يوردها القرآن دون أن يذكر فيها أن طرفها الآخر اسمه النمرود ، تقول : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٢٥٨) (البقرة). واسم النمرود غير موجود فى كتب اليهود الخمسة المسماة بالتوراة ، وليس فى التوراة قصة لإبراهيم مع النمرود. واسم النمرود إضافة على القصة القرآنية ، مما أثبتته لها الإسرائيليات ، وقالوا فيه إنه : النمرود بن كوش بن حام ، مؤسس الأسرة الحاكمة فى بابل وشنعار وأكاد (تكوين ١٠ / ٨ ـ ١٠) وبانى البرج المشهور بها ، وكان من الملوك الجبّارين (يعنى الفراعنة) وادّعى الألوهية. والمستشرقون على القول بأن قصة النمرود وإبراهيم مأخوذة من الهجادا العبرية ، أى المرويات اليهودية الشعبية الشفهية ، وروّجها فى كتب التفسير : الطبرى ، والثعالبى ، والدميرى ، وابن الأثير. وكان النمرود يختزن الطعام ويبيعه لقومه ، فدخلوا عليه وسجدوا له إلا إبراهيم ، فلمّا سأله : ما لك لا تسجد لى؟ قال : أنا لا أسجد إلا لربّى! فقال النمرود : ومن ربّك؟ قال إبراهيم : ربّى الذى يحيى ويميت. فأمر النمرود برجلين ، وأمر بقتل أحدهما ، وقال : ها أنا قد أحييت هذا وأمتّ هذا! فردّ عليه إبراهيم بحجّة الشمس ، فبهت. وقيل : كان يمكن لإبراهيم أن يردّ عليه لمّا أحيا وأمات ، بأنه لا يحيى من عدم بينما الله تعالى يحيى من عدم ، ومع ذلك ما كان يمكن لإبراهيم أن يبرهن على صدق قضيته عمليا ، لأن الإحياء والإماتة لهما حقيقة ومجاز ، وإبراهيم قصد الحقيقة ، فى حين أن النمرود قصد المجاز ، وموّه على قومه. ولو لا أن إبراهيم أدرك أن خصمه سيحاجى بالباطل ، لما ترك «مثل الموت» ليحل محله «مثل الشمس». ولقد سلّم إبراهيم للنمرود جدلا ، وضرب المثل الثانى بما لا مجاز فيه ، وبما ليس بوسع النمرود أن يلعب فيه بالألفاظ. قيل هو «مثل الشمس» التى تأتى من المشرق ، فليأت بها النمرود من المغرب لو استطاع ، فأفحمه وألجمه وأبهته ، لأن حجة الكافر انقطعت. وهذه القصة يستدل بها على ضرورة اللجوء فى الدعوة إلى المحاجاة ، والمناظرة ، والمجادلة وإقامة الحجة ، من مثل قوله تعالى : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ

٩١٢

(١١١)) (البقرة). وكل الأنبياء جادلوا أقوامهم ، لأنه لا يظهر الحق فى أمور الدين إلا إظهار الفرق بين الحق والباطل. ولقد جادل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل الكتاب وطلب إليهم المباهلة. وما لم يكن طرفا المناظرة متساويين من حيث العلم والعقل والفهم ، فإن المناظرة تصبح مراء ومكابرة.

وفى سفر المقابيين الثانى من أسفار اليهود ، شبيه للنمرود ، هو نكانور ، أراد أن يحرج يهوذا فى ربّه ، فسأله عن السبت ، فقال له إنه يوم حرّمه القدير على كل شىء ، فسأله : وهل فى السماء قدير أمر بحفظ يوم السبت؟ فقال يهوذا : إنه الربّ الحىّ القدير ، فقال : وأنا أيضا قدير فى الأرض (١٥ / ٣ ـ ٦).

* * *

٧٥٦. قصة الذى مرّ على القرية الخاوية

يقول تعالى : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٥٩) (البقرة) وهذه الآية متصلة بالآية التى قبلها فى التعجب : (أَلَمْ تَرَ) (البقرة ٢٥٨) ، وفى العطف بأو ، حمل على المعنى ، والتقدير : هل رأيت الذى حاج إبراهيم فى ربّه ، أو الذى مرّ على قرية؟ وأيضا فإن الآية متصلة بالآية التى بعدها والتى تقول : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) (البقرة ٢٦٠) ، فمدارهما الشك ، وكلاهما إبراهيم «والذى مر على القرية الخاوية» يشكّان فى قدرة الله على الإحياء بعد الموت. فلو لا أنه يرد ضمن الآية : (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) ، لقلنا إن القصة ليست سوى مثل يضربه الله تعالى لمن يتشكك ، وما أكثر الشكّاكين فى كل عصر ، فعموم القصة وارد. وقوله : (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) ، يعنى يجعل منها قصة حقيقية ، وهى بهذا الاعتبار محل الكثير من الإسرائيليات ، وخاصة من أمثال وهب بن منبّه الذى كان يهوديا وأسلم ، ومن المتأسرلين أمثال : ابن عباس ، وعكرمة ، والضحّاك ، وقتادة ، وناجية بن كعب ، وسليمان بن بريدة ، وعبد الله بن عبيد بن عمير ، وعبد الله بن بكر بن مضر ، وهؤلاء قالوا : «إن الذى مرّ على قرية وهى خاوية» هو أحد ثلاثة : إما أنه عزير ، وإما أنه إرميا ، وإما أنه الخضر ، ولا دليل على أى من ذلك ، ولا يوجد مرجع واحد يؤيده ، والقصة نفسها ليست من قصص التلمود ، ولا من القصص اليهودى الشفاهى ، وهى قصة قرآنية بحتة ، وترد ضمن القصص التعليمى فى القرآن إثباتا للبعث ،

٩١٣

وتنويها بقدرة الله عليه. وكما نرى فإن «الذى مرّ على القرية الخاوية» لمّا رأى حالها وكيف هى ساقطة على سقفها ، ومتهاوية الحيطان ، وخالية من الناس ، والبيوت مع ذلك قائمة ، تساءل وكيف يمكن أن تعمر هذه بعد خرابها؟ وكأنه وهو الواقف المعتبر على قريته التى عهد فيها أهله وأحباءه ، يتلهف على أن يعرف ما يمكن أن يئول إليه أمرها ، وما إذا كان من الممكن أن يبعثوا بعد الموت ، فضرب الله له المثل فى نفسه بما هو أعظم مما سأل عنه ، وقوله شك لا ريب فيه فى قدرة الله على الإحياء والبعث ، فلذلك ضرب له المثل فى نفسه ، وأماته مائة عام. والقصة بها شبه من قصة أصحاب الكهف ، ولكنها تختلف عنها فى المغزى والدرس والمحتوى ، وأصحاب الكهف أصابهم السبات ثم بعثهم الله تعالى ، وأمّا «الذى مرّ على القرية الخاوية» فأماته عن حق ثم بعثه ، فلمّا سئل كما سئل أصحاب الكهف : كم لبثت؟ قال : لبثت يوما أو بعض يوم ، قاله مما فى ظنه ، فلم يكذب فيما أخبر به. و «الذى مرّ على القرية الخاوية». لم يكن نبيّا كما يقول المفسرون ، وإلا فكيف سيفسّر لقومه غيابه مائة سنة؟ وعندنا أنه من أولياء الله ، ومن النمط المفكر وليس من النمط المتعبّد ، والأوّل كثير السؤال مثل إبراهيم ، والثانى كثير العبادة ولا يطرأ الشك على قلبه أو عقله من قريب أو بعيد ، مثل نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : كان طعام «الذى مرّ على القرية الخاوية» من التين ، وشرابه الماء ، ولم يتسنّه الطعام ولا الشراب ، أى لم تغيّرهما السنون المائة ، ولم يتغير طعمهما ولا رائحتهما ، من أسن الماء إذا تغيّر. وقال وهب بن منبه : إن حماره صار عظاما نخرة ، فأحياه الله جزءا جزءا ، ليريه كيف يكون البعث ، وليعاينه بنفسه فى غيره ، لأنه لم يعاينه فى نفسه ، فأولا وصلت العظام ببعضها البعض ، ثم كسيت لحما حتى كمل الحمار ، ثم كان أمر الله فقام الحمار ينهق. وقيل : بل إنه عاين الإحياء فى نفسه ، وكانت العظام هى عظام نفسه ، فأحياه الله أولا ، واستكمل رأسه ولم يستكمل جسمه ، فكانت بقية جسمه عظاما ، فأراه كيف تكسى باللحم ويكتمل له الشكل الآدمى ، فكان شابا كما كان منذ مائة عام ، فجعله آية للناس ، وبحث عن أهله فوجد أبناءه ، ولكنهم كانوا شيوخا. والمفسرون يكادون يجمعون على أن هذا «الذى مرّ على القرية الخاوية» هو عزيز الذى هو عزرا فى التوراة ، واليهود يعتبرونه وليّا وينزلونه منزلة أكبر من منزلة موسى ، ويلقبونه بالكاهن ، وبالكاتب ، ويدينون له بالفضل كل الفضل ، لأنه الذى كتب التوراة وعلّمها الأوائل ، ونشرها بين اليهود بالخط الأشورى أو الحروف الآرامية المربعة ، ولم يدّع عزير أو عزرا أنه يكتب التوراة ، ولكنه كان مثل كل مؤرخى اليهود ، يحاول أن يصنع تاريخا لبنى إسرائيل فى المنطقة ، ولم تكن دعوته لله وإنما لشعب إسرائيل ، وذلك ما

٩١٤

يجعلنا لا نعتقد أن «الذى مرّ على القرية الخاوية» هو عزير ، فعزير اهتماماته مختلفة ، وهذا اهتماماته دينية ، وعزير لم يختف مدة مائة سنة. وقيل : «الذى مرّ على القرية الخاوية» كانت له أم ، فلمّا عاد إليها كانت عجوزا ، فأبلغها أنه عزير ، فقالت : عزير كان يشفى المرضى ، فاشف عينىّ! فوضع يده على عينيها فأبصرت وصدّقت ، وذهبت تخبر الناس ، وكان له ابن بلغ من العمر مائة وثمانية وعشرين عاما ، فقال له إن أباه كانت له شامة فى كتفه ، فاطّلع عليها وصدّق أنه أبوه. والمهم فى القصة ليس ما يرد عنها من الإسرائيليات ، وإنما الدرس المستفاد المستخلص منها ، فإنه بعد أن اتضح له عيانا ما كان مستنكرا فى قدرة الله عنده قبل عيانه ، قال : (أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٥٩) (البقرة) ، ولم يقلها إقرارا بما كان من قبل ينكره ، بل هو قول منه دفع إليه الاعتبار ، فلولا أنه اعتبر ، ما كان قال ما قال ، وقوله كقول إنسان مؤمن يرى شيئا غريبا من قدرة الله فلا يملك إلا أن يقول : لا إله إلا الله! أو ربما يعنى : أجل ، الآن أنا على يقين مما كنت أعلمه من قبل ظنا ، فأخبر عن نفسه عند ما عاين من قدرة الله فى إحياء الموتى ، فتيقن ذلك عنده بالمشاهدة ، فأقرّ بأنه يعلم أن الله على كل شىء قدير ، وقصته كقصة الطير عند ما جعله إبراهيم أجزاء على قمم الجبال ، ثم دعاهن ، فإذا هى قد تحولت طيرا جاء إليه ، والفرق بين قصة إبراهيم مع الطير وبين قصة «الذى مرّ على القرية الخاوية» : أن درس هذا كان لنفسه فقال : أعلم أن الله على كل شىء قدير ، بينما كان إبراهيم بعد أن عاين إحياء الموتى ما يزال يحتاج إلى التعليم ، فقال له الله تعالى : «واعلم أن الله عزيز حكيم!!».

* * *

٧٥٧. قصة إبراهيم وإحياء الطير

هذه القصة فى الشك فى قدرة الله على الإحياء بعد الموت ، ومشكلة الناس أيام النبوّات أنهم كانوا يشكّون فى البعث ، وإبراهيم لم يكن استثناء منهم ، والقصة تصوّره شاكا ولكن شكّه ليس كشك الناس ، فهو يعرف أن الله يبعث الموتى ، وسؤاله عن الكيف ـ كيف يحيى الموتى؟ فأراد أن يعرف الطريقة ويعاينها مشاهدة. يقول تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢٦٠) (البقرة) ، فالبعث شىء يقرّه إبراهيم ، وسؤاله : ربّ أرنى كيف تحيى الموتى؟ مثل قولك : كيف علم زيد؟ وكيف نسج الثوب؟ فأنت تعرف بدأة ذى بدء أن زيدا علم ، وأن الثوب نسج ، وتسأل الآن عن كيفية نسجه ، أو كيفية علمه. وفى هذه الآية فإن الكيف

٩١٥

استفهام عن هيئة الإحياء ، لا عن الإحياء نفسه ، فالإحياء متقرر ، إلا أن الله تعالى جعل سؤاله أنه لم يسلّم جدلا بالإحياء ، فقال له «أو لم تؤمن؟ قال : بلى ولكن ليطمئن قلبى» ، فعلّل سؤاله بالطمأنينة وليس بالشك. وقال ابن عباس : هذه أرجى آية فى القرآن : لأن إبراهيم بها انشرح صدره بالطمأنينة لمّا عرف إجابة سؤاله ، وترسّخ إيمانه. وفى هذه القصة جاء عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله : «نحن أحق بالشّك من إبراهيم ، إذ قال ربّ أرنى كيف تحيى الموتى؟ قال : أو لم تؤمن؟ قال : بلى ولكن ليطمئن قلبى» ، فلو كان إبراهيم شاكا لكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولى بالشك منه ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يشك ، وإبراهيم أحرى به كذلك أن لا يشك ، وحديثه صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفى للشك عند إبراهيم ، وسؤال إبراهيم إذن كان من باب الإيمان ، وبتعبير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن إبراهيم كان «محصن الإيمان» ، وأما الشك : فهو التوقف بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر ، وما كان حال إبراهيم من هذا النوع ، وما كانت سيرته إلا سيرة إنسان مؤمن شديد الإيمان ، وقد امتحن بالتحريف فما ارتد ، والشك مستبعد فى حق من تثبت قدماه فى الإيمان ، فكيف به لو كان نبيا كإبراهيم؟ وإنما حال إبراهيم هو حال «الباحث عن الحقيقة» ، وطلبه من ربّه كان المعاينة ، فقال : أرنى كيف تحيى الموتى؟ والنفوس مجبولة على أن تطلب رؤية ما تخبر به ، وفى الحديث : «ليس الخبر كالمعاينة» ، وذلك ما تمنّى إبراهيم لو يراه ، فلم يرد رؤية بالقلب ، فالقلب كان عامرا بالإيمان ، ولكنها لرؤية التى طلبها بالعين ، وعندئذ لو كان إيمانه قيراطا فإنه سيصبح قيراطين ، وإذن فالذى كان عند إبراهيم هو «شك الفلاسفة» وليس مجرد الشك ، وشكّ الفلاسفة يزداد به إيمانهم ، وعبّر عنه إبراهيم بقوله : «ليطمئن قلبى» ، بحصول الفرق بين المعلوم برهانا والمعلوم عيانا ، والطمأنينة التى ينشدها كانت أن يسكن فكره فى الشيء المعتقد ، والتفكير فى الإحياء فيه عبر وعظات ودروس ، وكان ما يشاهده إبراهيم فى الدنيا كيفية تفريق أجزاء المخلوقات عند الموت ، ولكنه لم يعاينها فى تجمعها فأراد أن يطمئن قلبه برؤية كيفية الجمع ، فأمر لذلك أن يأخذ أربعة من الطير من مختلف الأصناف ، وقطّعها قطعا صغيرة ، وخلطها إلى بعضها البعض ، ثم وزّعها أجزاء على قمم الجبال ، ثم أمرها أن تجتمع بإذن الله ، فانصاعت للأمر ، وتمت مشاهدته لما تمنى ، ولذا ختم الله تعالى القصة بالتأكيد على إبراهيم ، يقول : (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) : أى أنه تعالى عزيز لا يغلبه غالب ، ولا يقدر عليه قادر ، وما شاء يكون بلا مانع ، وهو القاهر ، والحكيم فى كل ما يفعل ويقول ، وفى شرعه وقدره سبحانه.

* * *

٩١٦

٧٥٨. «لا إله إلّا الله» ميراث إبراهيم فى عقبه

إبراهيم : هو نبىّ الله وخليله ، وإمام الحنفاء ، وأبو الرسل والأنبياء ، وإليه ينتسب المسلمون انتساب نسب ومذهب ، فأما النسب فلأنهم من نسل إسماعيل بن إبراهيم ، وأما المذهب فإنهم أحناف كإبراهيم ، كقوله : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (١٣١) (البقرة) ، وقوله : (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٢٨) (الزخرف) ، والذى فطره هو الله ، وكلمة «لا إله إلا الله» هى الكلمة الباقية فى عقبه ، فكل كلام يزول ويضحى ، ويموت ويندثر ، إلا كلمة «لا إله إلا الله» ، جعلها الله تعالى أبدية فى ذرية إبراهيم ومن نهج على ملّته ، ولا تزال فى عقبه وفيمن يعبد الله تعالى إلى يوم القيامة. وقيل الكلمة الباقية هى قول إبراهيم : (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) (الزخرف ٢٦) ، فتبرأ من كل عبادة إلا الله الذى فطره والذى يهديه. والعقب : هم ولده وولد ولده إلى يوم القيامة ، توارثوا البراءة عن عبادة غير الله ، ويدعون له وحده ، فكانوا الدعاة ، فصارت النبوّة فيهم ، فكانوا أصل التوحيد وغيرهم فيه تبع.

* * *

٧٥٩. صحف إبراهيم وموسى

يأتى عنها فى سورتين ، فى الأولى يقول تعالى : (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (٣٧) (النجم) ، وفى الثانية يقول : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) (١٩) (الأعلى) ، وليس فى التوراة أنه كانت لإبراهيم الخليل صحف ، والمقصود غالبا الروايات عنه وهى كثيرة ، وتحفل بها التوراة الشفهية المتداولة بين الأحبار بخلاف التوراة المكتوبة. وصحف موسى هى أيضا التوراة الشفهية وليست المكتوبة التى يعطونها اسم أسفار موسى الخمسة. وصدق الحديث عن نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أبو ذر ، قال : قلت يا رسول الله ، فما كانت صحف إبراهيم؟ قال : «كانت أمثالا كلها : أيها الملك المتسلّط المبتلى المغرور! إنى لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض ، ولكن بعثتك لتردّ عنى دعوة المظلوم ، فإنى لأردّها ولو كانت من فم كافر. وكان فيها أمثال : وعلى العاقل أن يكون له ثلاث ساعات : ساعة يناجى فيها ربّه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، يفكر فيها فى صنع الله عزوجل ، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب. وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه ، مقبلا على شانه ، حافظا للسانه. ومن عدّ كلامه من عمله قلّ كلامه إلا فيما يعنيه». قال : قلت : يا رسول الله ، فما كانت صحف موسى؟ قال : «كانت عبرا كلها : عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح؟ وعجبت لمن أيقن بالقدر كيف ينصب؟! وعجبت لمن رأى الدنيا وتقلّبها بأهلها كيف يطمئن

٩١٧

إليها؟! وعجبت لمن أيقن بالحساب غدا ثم هو لا يعمل؟!» قال : قلت يا رسول الله : فهل فى أيدينا شىء مما كان فى يدي إبراهيم وموسى ، مما أنزل الله عليك؟ قال : «نعم ، اقرأ يا أبا ذر : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) (١٩) (الأعلى). فكأن ما فى صحف إبراهيم وموسى يوافق ما فى القرآن كما فى سورة الأعلى ، والأسلوب فى أمثال وعبر الصحف «الأولى» يتمشى مع أسلوب القرآن فى سورة الأعلى فيما أورده الحديث. وفى سورة النجم يرد أيضا ما يماثل ذلك ، فبعد المقدمة عن صحف إبراهيم وموسى ، يأتى مباشرة عمّا بها فيقول : (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ) (أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) (٥٥) (النجم) ، وثنّى على ذلك فقال : (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) (٥٦) ، يعنى أن هذه الآيات جميعها حكم وأمثال وعبر ونذر كالتى كانت بالكتب أو الصحف الأولى ، وما دامت هناك صحف أولى فلا بد أن هناك صحف ثانية ، وهى التوراة الشفهية غير المحرّفة ، وربما يمكن القول أن أحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقصص عن الصحابة ، من هذه الصحف الثانية.

* * *

٧٦٠. ضيف إبراهيم

ذكر عن ضيوف إبراهيم أربع مرات فى أربع سور ، هى : هود ، والحجر ، والذاريات ، والعنكبوت ، بحسب ترتيب النزول ، وذلك ضمن القصص الأخرى عن الأنبياء والصالحين والأمم من السابقين ، ولنا فيها عظة وعبرة للمؤمنين ، وكانت نذيرا لأهل مكة من الكافرين والمشركين ، والروايات الثلاث ليست تكرارا ولكنها من زوايا مختلفة ، وفيها لقطات متباينة للحدث الواحد ، باعتبار سياق كل سورة والمعنى العام الذى تندرج تحته. يقول تعالى : (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ

٩١٨

عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (٧٦) (هود) ؛ ويقول : (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (٥٦) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) (٦٠) (الحجر) ؛ ويقول : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٣٧) (الذاريات) ؛ ويقول : (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) (٣٢) (العنكبوت) ، فكما ترى فإن الروايات الأربع مختلفة كل الاختلاف ، ففي سورة هود : كان مجىء الرسل له خاصة لتبشّره ، وكانوا فى مهمة إلى قوم لوط ، وأبدت سارة تعجبها أن تلد وهى عجوز ، ثم تكون العبارة الرئيسية وحجر الزاوية فى القصة ، بأن ردّوا عليها : (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) (٧٣) (هود). وأخبروه عن قوم لوط ، فجادلهم ، فأمروه أن يعرض عن الجدال فيما نفذ فيه القضاء. وفى سورة الحجر : أسفر إبراهيم عن تخوّفه منهم منذ البداية ، وأنهوا إليه خبر البشارة مباشرة ، ولم يقدّم لهم طعاما ، ولم يحيّهم التحية الواجبة ، ولم تشارك امرأته فى الحفاوة بهم ، ولم تسمع بشارتهم ، ونهوه أن يكون من القانطين. وسألهم عن وجهتهم فأخبروه أنهم مرسلون إلى قوم لوط ، وسينجونه وأهله إلا امرأته. وكانت العبارة الرئيسيةtipic sentence فى القصة : (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) (٥٦) (الحجر). وفى سورة الذاريات : تأتى التقدمة : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) (٢٤)؟ والاستفهام للتشويق والتفخيم ، ثم إن إبراهيم سارع يكرمهم فجاء بعجل سمين (الذاريات ٢٦) ، وكان

٩١٩

العجل فى سورة هود حنيذا ، أى مشويا ، يعنى وصف بعد مرحلة تجهيزه ، وضحكت امرأته للبشارة ، ولطمت وجهها تعجّبا ، وكان جوابهم مختلفا عن جوابهم فى رواية سورة هود. وفى تلك الرواية كانت مهمتهم فى قريتي لوط قد انتهت على عكس الروايتين السابقتين ، يعنى أن البشارة كانت من بعد وليس من قبل ، أى فى عودتهم وليس فى ذهابهم. غير أن الملائكة ضيوف إبراهيم فى الرواية الأخرى من سورة العنكبوت تابعوا رواية سورة الذاريات فقالوا : (هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ) (٣١) (العنكبوت) ، فنفهم أن البشارة كانت قبل أن يرسلوا إلى قوم لوط ، وكأن مجيء الرواية عن قوم لوط من قبل ، قد صار من بعد عند التحقق ، بمعنى أن عقابهم كان من قضاء الله السابق والنافذ ، وأنه سطر من قبل ، ثم نفّذ من بعد ، ومن ثم فلا تعارض بين الروايات والعبارة الرئيسية فى هذه الرواية : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ) (هود ٧٥) ، يعنى أنه ما كان يغضب ، وكان يسأل الله العفو والرحمة. وقد يبدو لغويّا أن الضيف تقال للواحد ، إلا أنها تأتى فى الروايتين اللتين وردت فيهما كلمة «ضيف» فى الجمع وليس المفرد ، والضيف يصلح للواحد والجمع ، والتثنية ، والمذكر ، والمؤنث ، فيحتمل إذن أن الملائكة كانوا اثنين ، أو كانوا ثلاثة ، وكان إبراهيم مضيافا ، يستضيف الواحد كالاثنين أو الثلاثة ، وكان يكنّى لذلك : أبا الضيفان. فلو جمعنا الروايات الأربع معا نلم بجميع أركان القصة التى نحن بصددها ، ونعرف أن الله يثيب المحسنين ويعاقب المجرمين ، وذلك هو الدرس المستفاد أو المورال morale كما يقول أهل الأدب الروائى.

فما ذا تقول التوراة فى هذه القصة؟ من ذلك أن ضيوف إبراهيم كانوا ثلاثة فى الفصل الثامن عشر من سفر التكوين ، العبارة ٢ ؛ وفى الفصل التاسع عشر العبارة ١ يأتى أنهم اثنان فقط ، ولم يأت فى الرواية أى تأثّر على إبراهيم لدى سماعه البشرى ؛ بينما نجد سارة فى قصة القرآن لا تبدى تعجبا ، ولكنها استهزأت بما سمعت ، وجادلها الملائكة فى ضحكها ، وأنكرت ما تحصّل لفهمها. والمهم فى لقاء إبراهيم بالملائكة أنه صار يجادلهم فى الحكم الصادر من الله فى قوم لوط ، ومثله الذى يستشهد به : أتهلك البار مع الأثيم؟ فلما قالوا له : لو كان فيهم خمسون بارا لعفونا عنهم ، فاستسمحهم إبراهيم فى إنقاص العدد إلى خمسة وأربعين ، ثم أربعين ، ثم ثلاثين ، ثم عشرين ، حتى عشرة ، وانتهت القصة على هذا ، فلما كان الصباح توجه إبراهيم ليشهد ما حدث لسدوم وعمورة. فهذه هى القصة وأغلبها عن سدوم وعمورة ، وأقلها عن إبراهيم وأهله ، وليس فى قصة التوراة عبارة واحدة يمكن استخلاصها كعظةmorale. وميزة قصة القرآن أنها ضمن أربع سور فتنوعت الرواية والكلام ، وتباينت الرؤى ، وكثرت التفاصيل. والحمد لله ربّ العالمين.

* * *

٩٢٠