موسوعة القرآن العظيم - ج ١

دكتور عبد المنعم الحفني

موسوعة القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

دكتور عبد المنعم الحفني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
ISBN: 977-208-442-2
الصفحات: ١٢٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

يكون عيشها فى الحياة بحسب ما خلقها الله ، فالصانع أعرف بما صنع ، وبما يصلحه ؛ وعقر النفس : هو ذبحها بالعصيان والكفر ، واتباع الهوى ، والميل عن الحق ، والأخذ بالطغيان ، والإنسان «حرّ» إزاء الخير والشر ، والحق الباطل ، والإيمان والكفر ، وله أن «يختار» أيهما ، فحينئذ يكون قد «اختار فى حرية» ، ويصير «مسئولا عن اختياره» ، فإذا جوزى بالعقاب ، فهو عن جدارة ، وعقاب الله هو العقاب ، والله يسأل عباده ولا يسأل ، وينزل العقاب بالمسىء ولا ينزّل به عقاب سبحانه ، لأنه تعالى الحق : فلمّا كان الله كانت القيم. وفائدة السورة : أن من يطهّر نفسه عن الذنوب والعيوب ، والأعواض والأغراض ، ويبعدها عن الاعتراض ، فإنه يتطهّر ويرقى ويفوز ، وهو «الإنسان» حقا وصدقا ؛ ومن يخون قانون صنعة نفسه ، ويدنّس طبيعتها ، ويهمل المعانى ويزدرى القيم ، وتستغرقه المظالم إلى حدّ أن يغرق سفينة نفسه فى بحر الشقاء ، فهو الخائب.

ومن مصطلحات السورة : (ثَمُودُ بِطَغْواها) (١١) ذهبت مثلا ، كأن نقول : «أمريكا بطغواها» أو «إسرائيل بطغواها» ؛ وفي قوله : (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها) (١٢) وروى أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل : «أتدرون من أشقى الأوّلين؟» وأجاب «عاقر الناقة». قيل : كان اسمه قدار بن سالف ، فصار مثلا عند أهل علم النفس الإسلامى ، لأنه عقر نفسه التى هى ناقة الله ، وقلّده قومه فعقروا نفوسهم مثله لمّا وافقوه على رأيه وفعله. وفى الأدب السياسى الإسلامى يضرب بعاقر الناقة المثل للطاغية ، وقوله تعالى : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (٨) وإلهام النفس هو تعليمها التمييز بين الخير والشرّ ، وإرشادها. والآية جواب على الجبرية والقدرية الذين يقولون يأن الإنسان لا يفعل إلا ما قدّره الله له وقضى به ، وأنه مجبور عليه. وكان النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرجع إلى هذه الآية والسورة كلها فى دعائه : «اللهم آت نفسى تقواها ، وزكّها أنت خير من زكّاها ، أنت وليّها ومولاها». وفى الرواية عن عائشة أنها افتقدت النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مضجعه فلمسته بيدها فى الظلام ، فوقعت عليه وهو ساجد يدعو : «ربّ أعط نفسى تقواها ، وزكّها أنت خير من زكّاها ، أنت وليّها ومولاها» أخرجه أحمد.

وفى سورة «الشمس» تكثر المتقابلات ، ومنهج القرآن هو منهج يقوم على الجدل بالمتقابلات ، والسورة نموذج لهذا المنهج الجدلى ، أو منهج المتقابلات ، كقوله : الشمس كمقابل للقمر ، والفجور كمقابل للتقوى ، وقوله : (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) (٣) ، كمقابل لقوله : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) (٤) وقوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) (١٠) ، والله أعلم ، وله الحمد والمنّة.

* * *

٨٠١

٦٧٤. سورة الليل

السورة مكية ، ولذلك تعتنى بإثبات وجود الله ، وبيان صفاته ، كشأن السور المكية ؛ وآياتها إحدى وعشرون آية ، فتعدّ من قصار السور ، وترتيبها فى المصحف الثانية والتسعون ، وفى التنزيل التاسعة ، وكان نزولها بعد سورة الأعلى ، وموضوعها : بيان حال الإنسان فى الإيمان والكفر ، ومآله فى الحالين. ويبدأ الجزء الأول بالقسم ببعض الآيات الكونية ، بما يفيد قدرته تعالى ، والقدرة صفة فعلية من صفاته ، وتشير إلى ذاته ، وليس أوضح من آيتى الليل والنهار : كآيتين للزمان ، وآيتى الذكر والأنثى : كأصل لكل حياة ، ولتباين الأنواع والأجناس وليس ألزم للحياة من الليل والنهار ، فالليل لباس ، والنهار معاش ، وليس ألزم للحياة من أن تكون الكائنات والمخلوقات بها ذكورا وإناثا للتكاثر وصنع الأجيال ، ومع أنه لا يتشابه ليل مع نهار ولا نهار مع ليل ، ولا يتماثل ذكر مع أنثى ، ولا أنثى مع ذكر ، فقد جعل بين هذين التوالى ، وبين هذين الوفاق ، فليس عجيبا أن يكون القسم بهما قسما عظيما ، وجواب القسم هو قوله تعالى : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) (٤) ينبّه إلى حقيقة من حقائق الحياة. وبهذا الجواب يبدأ الجزء الثانى من السورة ، ويؤكد أن المساعى فى الحياة متباينة ، والأعمال شتى ، وكذلك اعتبارات كل إنسان تتباين وتتفارق عنها عند غيره من الناس ، وقد يكون أحد الناس مؤمنا بينما يكون الآخر كافرا ، وقد يكون عاصيا ، والآخر مطيعا ، وقد يكون هذا جزاؤه الجنة ، والآخر عقابه النار. وفى هذا الجزء يتضح المنهج الجدلى فى القرآن الذى قوامه المتقابلات ، فمن يعطى وينفق ويتقى ويصدّق بالحسنى تتيسر له اليسرى ، يقابله من يبخل ويستغنى ويكذّب بالحسنى فتتيسر له العسرى ، والله تعالى يهدى ويرشد ويخبر عن الطريقين : اليسرى والعسرى ، ويوضح الحالتين ، حتى إذا حاسب كان حسابه العسير ، ومن يتردّى فى النار فما يغنيه عنه ماله الذى كان يبخل به ، وهو تعالى مالك الدنيا والآخرة ، وإن يشأ يعذّب من يستحق فى الدنيا أو فى الآخرة. ثم يكون القسم الثالث من السورة : وفيه النذارة للأشقى : وهو الذى كذّب بالرسل وبالبعث والحساب ، وأعرض عن الإيمان ، فذلك له النار تلظّى ، وسيتجنّبها الأتقى : وهو الذى يؤتى ماله يتزكّى ، ليس لأن الغير لهم عنده أياد ، وإنما لوجه الله ، ولسوف يعطيه الله فى الآخرة إلى أن يرضى ، ووعده كريم لأنه ربّ رحيم. وفى الحديث : «لا يدخل النار إلا شقىّ» ، قيل : ومن الشقى؟ فأجاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الذى لا يعمل بطاعة ، ولا يترك لله معصية» ، وقال : «كل أمّتى تدخل الجنّة يوم القيامة إلا من أبى» قالوا : ومن يأبى يا رسول الله؟ قال : «من أطاعنى دخل الجنة ، ومن عصانى فقد أبى». وقيل فى السورة : إنها نزلت فى أبى

٨٠٢

بكر حينما رأى بلالا يعذّب فاشتراه ليعتقه ، فقال المشركون : إنما اشتراه ليد كانت له عنده ، فذلك قوله تعالى : (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى) (٢١).

ومن المصطلحات فى السورة : «الحسنى» فى قوله تعالى : (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) (٦) ، وقوله : (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) (٩) وهى الخلف من الله على عطائه ؛ وقيل : هى قول «لا إله إلا الله» ؛ وقيل : هى الجنة ، ودليل ذلك قوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) (يونس ٢٦) ، والحسنى هى الجنّة ، و «اليسرى» ، كقوله : (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) (٧) قيل هى الجنة ، وقيل : هى أسباب الخير والصلاح. ولمّا سألوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا رسول الله ، أفلا نتّكل ، فمن كان من أهل السعادة فإنه يعمل للسعادة ، ومن كان من أهل الشقاء فإنه يعمل للشقاء؟ قال : «بل اعملوا ، فكل ميسّر ، أمّا من كان من أهل السعادة فإنه ييسّر لعمل السعادة ، وأمّا من كان من أهل الشقاء فإنه ييسّر لعمل الشقاء» ، ثم قرأ : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) (١٠) ؛ «والعسرى» نقيض اليسرى ، فإذا كانت اليسرى هى الخير ، فإن العسرى هى الشّر ، وإن كانت اليسرى هى الجنة ، فالعسرى هى النار. وسئل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن العمل الذى يتيسر ، هل هو العمل الذى جفّت به الأقلام وجرت به المقادير؟ أم فى شىء يستأنف؟ فقال : «بل فيما جفّت به الأقلام وجرت به المقادير» ، قيل : ففيم العمل إذن؟ قال : «اعملوا فكل ميسّر للعمل الذى خلق له» ، قيل : فالآن نجدّ ونعمل. والسورة إذن تحضّ على العمل والعطاء : بأن يعمل الميسور ويعطى ويبذل للمعسر ، وأن يعمل الصادق ويعطى الصدق من قلبه ، وفى الحديث أن دعوة الملائكة : «اللهم أعط منفقا خلفا ، وأعط ممسكا تلفا». وفى قوله : (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) (١٠) قد يسأل السائل : هل فى العسرى تيسير؟ والجواب : أن ذلك كما فى قوله : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٢١) (آل عمران) ، فالأصل فى التيسير وفى البشارة أنها للمفرح والسّار ، فإذا جاء التيسير فى الكلام لحالين متقارنين أحدهما خير والآخر شر ، فمعنى ذلك أن التيسير لكليهما ، وكلاهما ميسّر لمن يطلبه ، ولكلّ أن يختار ما يشاء ، وهو مسئول عن اختياره ، نسأل الله الهداية وحسن المآل ، والحمد لله ربّ العالمين.

* * *

٦٧٥. سورة الضحى

السورة مكية ، نزلت بعد سورة «الفجر» ، وآياتها إحدى عشرة آية ، وترتيبها فى المصحف الثالثة والتسعون ، وفى التنزيل الحادية عشرة ، قيل : احتبس الوحي عن النبىّ

٨٠٣

صلى‌الله‌عليه‌وسلم مدة طالت قليلا ، فقال المشركون : إن محمدا ودّعه ربّه وقلاه! ولو كان أمره من الله لتابع عليه كما كان يفعل بمن كان قبله من الأنبياء! فنزلت هذه السورة تقول : (وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) (٥) وتتناول النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشخصيته ، وما آثره الله به ، وما أنعم عليه من الفضل فى الدنيا والآخرة. والسورة أجزاء تترى وتتكامل ، ففي الجزء الأول : يقسم الله تعالى على جلال قدر نبيّه بالضحى ، وبالليل إذا سجى ، وكلاهما من الزمان ، وهما آيتان من آياته العجيبة والعظيمة ، فربما أن المعنى : أنه تعالى على مرّ الأيام وكرّ الليالى لن يودّع محمدا ، ولن يقليه أى يبغضه ، وربما المعنى : أنه مثلما الليل الساجى ، والضحى يكون أول النهار وفيه الهدأة والسكون ، فكذلك محبة الله لنبيّه هى المحبة المستقرة. ويقال «سجا الليل» يسجو إذا سكن ودام ، وربما المعنى من قوله تعالى : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) (٨) ، هو التنبيه إلى حال من يؤمن بالله ، فإنه تعالى يضمه إليه ، ويهديه ، ويغنيه ، ويحوطه ، وينصره ، ويرفع من قدره ويوقّره ، ويكفّ عنه أذى الناس ، فهكذا فعل مع نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما نعلمه من تاريخه وسيرته ، فآواه أهله وانتصروا له ، ثم استقبله الأنصار مهاجرا فآووه ونصروه ، وكان حاله فى الدين حال الضال الحائر فهداه وأنعم عليه بالإسلام ، وحاله فى المال حال المعوز الفقير المحتاج ، فأغناه عمّن سواه ، وجمع له بين مقامى الفقير الصابر ، والغنى الشاكر. واليتيم الذى كانه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الوحيد المفرد بسبب يتمه ، والعرب يصفون كل شىء يعزّ النظير له بأنه يتيم ، كقولهم : درة يتيمة ، إذا لم يكن لها مثل ، ويكون مجاز الآية أنه تعالى وجده فريدا فى الشرف والخلق ، لا نظير له ولا مثيل ، فآواه بأصحاب يحفظونه ويحوطونه. وأما قوله : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) (٧) فهو أيضا من باب قوله : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ ...) (٥٢) (الشورى) ، فالضلال بالمعنى المعروف ما كان للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى يوم من الأيام ، فما سجد لصنم ، ولا أشرك بالله ، وكان على حنيفية إبراهيم ، وإنما الضلال أنه كان قبل البعثة يسأل متحيرا ، ويطلب المعرفة ، وأنه بالبعثة وبالقرآن عرف وتعلّم وصار يعلّم. وفى قوله : (وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) (٨) ، فبالمعنى الحسّى : ان خديجة أغنته ؛ وبالمعنى المعنوى : أنه تعالى وجده فقير النفس فأغنى قلبه ، وفقيرا من الحجج فأغناه بها ، ولم يكن عنده كتاب يرجع إليه ، فزوّده بكتاب ، وكذلك كان الجزء الثالث من السورة : وصية من ثلاثة بنود ، مقابل النّعم الثلاث التى أنعم بها عليه : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (١١) ، فكانت

٨٠٤

بها خاتمة السورة ، وختامها مسك. وفيها خصّ اليتيم بأول وصية ، لأنه إنسان لا ناصر له إلا الله ، فغلّظ فى أمره بتغليظ العقوبة على ظالمه ، وليس فى أى كتاب سماوى بخلاف القرآن مثل هذه الرعاية التى لليتيم ، ولا تكلم نبىّ سوى نبيّنا بمثل ما تكلّم به فى اليتمى ، وانظر إلى النهى القرآنى عن قهر اليتيم ، واختياره لكلمة «قهر» يعنى الشدّ عليه والتغليظ له وزجره ، فلا يجد من يشكو إليه ويحنو عليه ، فيغلب على أمره ، وينكسر قلبه ، وتعاف الحياة نفسه. وفى الحديث يعالج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قسوة القلب عند الناس فيقول ناصحا : «إن أردت أن يلين قلبك فامسح رأس اليتيم ، وأطعم المسكين» ، ولأنه كان يتيما قال : «أنا وكافل اليتيم ، كهاتين» وأشار بالسبابة والوسطى ، والكافل : هو القائم بالأمر من نفقة وكسوة وتربية وتأديب. وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم أدرى الناس بحال اليتيم ـ ولا يحدّثك مثل خبير ، فقال : «إن اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن ، فيقول الله لملائكته : يا ملائكتى ، من ذا الذى أبكى هذا اليتيم الذى غيّبت أباه فى التراب؟ فتقول الملائكة : ربّنا أنت أعلم. فيقول الله تعالى لملائكته : يا ملائكتى! اشهدوا أن من أسكته وأرضاه ، أن أرضيه يوم القيامة». وثانية الوصايا : النهى عن نهر السائل ، وفى الحديث : «لا يمنعن أحدكم السائل» ، والحديث : «ردّوا السائل ببذل يسير أو ردّ جميل» ، أو أن المراد بالسائل : الذى ينشد المعرفة والعلم ، والردّ عليه فرض على العالم ، كإعطاء سائل البرّ سواء. وثالثة الوصايا : النشر عن أنعم الله ، والتحدّث بها بالشكر والثناء. وفى الحديث : «من أعطى خيرا فلم ير عليه ، سمى بغيض الله ، معاديا لنعم الله». وقال : «من لم يشكر القليل ، لم يشكر الكثير ، ومن لم يشكر الناس ، لم يشكر الله ، والتحدّث بالنعم شكر ، وتركه كفر ، والجماعة رحمة ، والفرقة عذاب». والخطاب فى السورة حول الوصايا الثلاث للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكن الحكم عام له وللمسلمين.

وقد يقال فى اهتمام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم باليتيم كما يقول التحليل الطبى النفسى : أن دافعه إليه كان يتمه هو نفسه ، فقد نشأ يتيما خالص اليتم ، سواء من الأب أو من الأم ، فالأب مات وهو بعد فى بطن أمه ، والأم ماتت وهو فى نحو السادسة ، وكفله جدّه ، وكان من الممكن أن يعوّضه عن أبويه ، فالجدود بهم حنان وعطف على أحفادهم خاصة ، ولكنه مات كذلك والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الثامنة ، فصار إلى عمّه أبى طالب يكفله ، وكان بيته يعجّ بالنساء والأولاد ، والكل مشغول بنفسه ، والنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعيش فى وحدة ، ويفتقد أن يحادثه أحدهم ، أو يقول له كلمة حب ، أو يرعاه بكساء أو طعام ، حتى تعقّدت نفسه من اليتم ، وتحصّلت له منه «عقدة نفسية» ، دار حولها سلوكه ، وكان يتصرّف بدافعها. غير أن العقد النفسية تجعل من أصحابها شخصيات جامدة ، وتصنع منهم مرضى نفسانيين ، وما

٨٠٥

كانت أقواله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا أفعاله تتسم بشيء من الشذوذ ، والعقد مجال بحث علم نفس الشواذ ، وفى حالة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن مجال البحث فى شخصيته هو علم النفس التكاملى ، وهو فرع الطب النفسى المعنىّ بدراسة العظماء والأولياء والأنبياء ، وجميعهم من الشخصيات السوية ، بل إن استواءها ليزيد عن استواء الحدّ العادى ، حتى وصف بأنه استواء يتجاوز الطبيعى super normal ، ونقيضه الشاذabnormal ، أو شبه الشاذsubnormal. وهذه التفرقة هى التى لم يدركها المستشرقون ، وما علموا بها ، فاتسمت كتاباتهم فى «العقدة النفسية» عند الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالسطحية ، والجهل الشديد ، والتعنّت والتحريف البغيض ، ولعل هذه السورة خير الردود عليهم ، وإنى لأعتبرها مثلا حيّا فى نوع الكتابة عن الشخصية المتكاملةintegrated personality. وتكامل شخصية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذى جعله يتحدث عن نعم الله عليه ويشكرها ، وفى الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «واجعلنا شاكرين لنعمتك ، مثنين بها عليك ، قابليها ، وأتمّها علينا». وما علمنا فى تاريخ الطب النفسى عن إنسان معقّد شاذ يشكر على النعمة ويدعو للشكر عليها. ومن هذه السورة المباركة تعلّم المسلمون : أن من شكر النّعم أن يحدّثوا بها ؛ ولما نزلت سورة الضحى وفيها : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (١١) كبّر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ربّه فرحا وسرورا ، ومن ثمّ يستحب عند قراءة السورة التكبير فى آخرها ، والحمد لله ربّ العالمين.

* * *

٦٧٦. سورة الانشراح

السورة مكية ، نزلت بعد سورة «الضحى» ، وآياتها ثمان ، وترتيبها فى المصحف الرابعة والتسعون ، وفى التنزيل الثانية عشرة ، وهى سورة «الانشراح» وسورة «الشّرح» أيضا ، من استهلالها بقوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (١) ، وهو تقرير وإن كان فى شكل استفهام. و «لم» فى الآية جحد ، وفى الاستفهام طرف من الجحد ، وإذا وقع الجحد ، رجع إلى التحقيق ، كقوله تعالى (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) (٨) (التين) ، يعنى أنه تعالى أحكم الحاكمين ، وكذا قوله : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) (٣٦) (الزمر) ، يعنى أنه تعالى يكفى عبده.

وتعدّد السورة نعمه تعالى على النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتذكر منها ثلاث نعم كبرى ، الأولى : أنه تعالى شرح صدره للإيمان ، أو للإسلام ، كقوله : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) (٢٢) (الزمر) ، أو شرحه للعلم والحكمة والعرفان ؛ والثانية : أنه وضع عنه وزره الذى أنقض ظهره ، وحطّ عنه ذنوبه ، ورفع عن كاهله عبء معاناتها ، وأسقط عنه

٨٠٦

الخطأ والنسيان ؛ والثالثة : أنه رفع له ذكره ، فلا يذكر اسمه تعالى إلا وذكر معه اسم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سواء فى التشهّد ، أو الأذان ، أو الإقامة ، أو يوم الجمعة على المنابر ، أو أيام الفطر ، والأضحى ، والتشريق ، وعرفة ، وعند رمى الجمار ، وعلى الصفا والمروة ، وفى خطبة النكاح ، وعند النسيان ، وعند الغضب ، إلخ ، كقوله الشاعر :

وضمّ الإله اسم النبىّ إلى اسمه

إذا قال فى الخمس المؤذن أشهد

وشقّ له من اسمه ليجلّه

فذو العرش محمود وهذا محمد

وهذه النعم الثلاث قدّمت للسورة ، تسلية وتأنيسا للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لتطيب بها نفسه ، ويقوى رجاؤه ، وليؤكد له أنه وقد أكرمه كل هذا الكرم ، لا يمكن أن يتخلّى عنه ، وسيظهره على أعدائه ، وسينصر دينه ، ويبدّل العسر الذى هو فيه ، بيسر قريب ، كقوله : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (٦) ، وقيل : العسر الأول هو نفسه الثانى ، وأما اليسر فتعدّد ، والعسر الواحد لا يغلب يسرين ، وهذا المعنى مدخول ، لأنه يجيء على منوال ذلك إذا قال أحدهم : «الجندى معه سلاح ، الجندى معه سلاح» ، فقد يظن أن هناك جنديا واحدا وسلاحين! وإنما معنى التكرار للآية ، أن العسر الأول : متعلقة بالدنيا ، وله يسره الذى يرفعه ، والعسر الثانى : عسر الآخرة ، وله أيضا يسره الذى يغلبه. ويسر الدنيا قد يكون لغير المؤمن وقد يكون للمؤمن ، وأما يسر الآخرة فهو للمؤمن فقط ؛ ومع أن الخطاب فى السورة للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. إلا أن معناه يصبح قضية عامة تخصّ جميع المؤمنين فى أى مكان وزمان. وصارت الآية القرآنية مما يضرب به المثل فى الملمّات والشدائد انتظارا للفرج من الله. فاستحق أن يأتى ختام السورة بوصيّة أخرى للمؤمن أيضا ، كما هى للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تقول : (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) (٨) ، يعنى أن نعطى الدنيا الاهتمام الواجب لها ، ولكننا إذا فرغنا منها ، فلنتفرغ لأعمال الآخرة من الصلاة والعبادة ... إلخ ، وبعد أن يفرغ من أمور الخلق ، فلنتفرّغ لفروض الخالق. ورحم الله من قال :

صبرا جميلا ما أقرب الفرجا

من راقب الله فى الأمور نجا

من صدّق الله لم ينله أذى

ومن رجاه يكون حيث رجا

* * *

٦٧٧. سورة التين

السورة مكية ، نزلت بعد سورة «البروج» ، وآياتها ثمان ، وترتيبها فى المصحف الخامسة والتسعون ، وفى التنزيل الثامنة والعشرون ، وقوامها أربعة أقسام ، والأول عبارة عن قسم ،

٨٠٧

يقول تعالى : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) (٣) ، والتين والزيتون شجرتان مباركتان ، ففضلا عن أن التين فاكهة من فواكه الجنة ، فإن آدم وحواء خصفا عورتيهما بأوراقه (الأعراف ٢٢) ؛ وأما الزيتون فقد قال تعالى فيه : (شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ) (٣٥) (النور) ، وقال : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) (٢٠) (المؤمنون) ، ودهن الزيتون زيته ، وهو من أحلى الزيوت وأنفعها ، ويصطبغ به الأكل ، وفى الحديث : «كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة» ، ومن دهنه علاج للأمراض ، كأوجاع الظهر ، والركبتين ، واليدين ، ووجع الرقبة والجروح والقروح ، والبرد فى الصدر. وخصّ طور سينين ـ أى سيناء ـ بالتين والزيتون لأنهما أول ما نبتا كانا فى طور سيناء. وقيل ربما الزيتون إشارة إلى مدينة بيت المقدس التى بعث الله تعالى فيها عيسى ، والتين إشارة إلى طور سيناء أو سينين ، وهو الجبل الذى كلّم الله عليه موسى ، وأما و «البلد الأمين» فهو مكة ، ومن دخله كان آمنا ، وفى مكة أرسل صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهبط عليه الوحى بالقرآن ، وفيها بنى إبراهيم وإسماعيل الكعبة ، فهذه ثلاثة أماكن مقدسة ، رتبت بحسب معانيها الرسالية ومكانة أنييائها الوجودية ، فأقسم بالأشرف ، ثم الأشرف منه (وهو الزيتون أو بيت المقدس) ، ثم بالأشرف منهما (وهو مكة) ، وفى ذلك المعنى من أقوال أسفار اليهود : جاء الله من طور سيناء (حيث كلم موسى) ، وأشرق من ساعير (يعنى جبل بيت المقدس) ، واستعلن من جبال فاران (ويأولها المسلمون بأنها جبال مكة حيث أرسل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم). والقسم الثانى من السورة به جواب القسم ، يقول : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (٦) ، يخبر بأن الإنسان أحسن خلق الله باطنا وظاهرا ، فهو الجميل الهيئة ، البديع التركيب ، ولا شىء من المخلوقات أجمل منه ولا أحسن ، والله خلقه عالما ، قادرا ، مريدا ، متكلما ، سميعا ، بصيرا ، مدبّرا ، حكيما ، وهذه من صفات الربّ سبحانه ، وعنها جاء القول المشهور : «إن الله خلق آدم على صورته» ، يعنى على صفاته تعالى ، فإن قيل على هيئته وشكله وسمته ، فإنا نقول : ومن أين تكون لله صورة متشخّصة؟ فلا يتبق إلا أن تكون «على صورته» يعنى أنه على صفاته. ثم إن الله يردّ الإنسان إلى أرذل العمر ، أو أنه بحكم وجوده فى الدنيا تثقله الخطايا ، ويتدنس ويتنجّس ـ وهو معنى «أسفل سافلين» ، أو أن معناها أنه يردّ إلى الضلال كما فى قوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) (٣) (العصر) ، أى إلا هؤلاء فلا يردّون إلى أسفل سافلين. وفى الجزء الثالث والأخير من السورة ، يتوجّه الخطاب إلى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،

٨٠٨

يتساءل : فمن بعد ذلك يمكن أن يكذّبك بالدين يا محمد ، أو يا أيها الإنسان؟ يواسى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين عبر الأزمان ويسليهم ، يقول : استيقن مع ما جاءك من الله ، أنه تعالى أحكم الحاكمين ، قضاء بالحق ، وعدلا بين الخلق. ومع أن «ليس» للنفى ، إلا أنها مع ألف الاستفهام : «أليس» ، يصبح المعنى بالإيجاب ، يعنى هو أحكم الحاكمين فعلا. وقيل : إن «فما يكذّبك بعد بالدّين» مجرد نفى لأن يستطيع أحد تكذيبه فى القول بالبعث والحساب ، وقيل : إن هذه الآية نسخت بآية السيف ـ هكذا أطلقوا عليها ، وهى التى تقول (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (٥) (التوبة) ، غير أن آية التكذيب لها معناها ومجالها ، وآية القتال لها أيضا معناها ومجالها ، ولا تنسخ إحداهما الأخرى.

* * *

٦٧٨. سورة العلق

وهى أيضا سورة «اقرأ» ، قيل آياتها الخمس الأولى (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) (٥) ، وهى أول ما نزل من القرآن فى مكة على النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأول أمر إلهى يصدر للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بأن يذكر التسمية فى ابتداء كل سورة ؛ وأول علم لدنىّ يتعلّمه من السماء ؛ وأول إعلان عالمى يصدر إلى بنى البشر يأمر يمحو أمّيتهم ، ويأمر بأن يتعلموا المسلم القراءة والكتابة ؛ وأول بلاغ يدحض كذب المدّعين من اليهود والنصارى بأن الإنسان لا يعدو أن يكون حيوانا كقول أرسطو مثلا أو دارون. ولقد رفض إبليس أن يطيع أمر الله بأن يسجد لآدم ، لبديع صنعه تعالى فيه ، بدعوى أن آدم من تراب ، والتراب أخسّ العناصر ، فيكون آدم وبنوه أخسّ المخلوقات! والسورة تردّ على إبليس صاحب هذه الدعوى وعلى العلماء من حزبه ، وهى أول بلاغ علمى بأن الإنسان مخلوق من حيوان منوى (علقة) ، وما كان الناس أيام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (القرن السادس الميلادى) يعرفون هذه الحقيقة ، وما كانوا يبصرونها أصلا ، وما علموا بها إلا بعد اختراع الميكروسكوب فى القرن التاسع عشر ، وهذا الإعلان الذى تضمنته السورة هو أول إعجاز علمى يطرحه القرآن ، وكأنه يعلن على البشرية أن الكتب السماوية قبله كانت أساطير بسبب تحريفها ، وأن هذا الكتاب ، أى القرآن ، ابتداء من هذه السورة ، سيكون كتابا للعلوم لسائر العصور ، ولكل الأزمان. وهذه الآيات الخمس الأولى تؤسّس لعلم الحضارة ، وتقيمه على القراءة والكتابة والعلوم ، وبهذه النعم الثلاث يكون الله تعالى بكرمه وإحسانه ، قد أكرم الإنسان كل الكرم ، وأخرجه من حالة الخسّة إل حالة الرفعة ، وهو ما حسده عليه إبليس ، وهذه الرفعة فى الإنسان هى ما استوجب أن تسجد له

٨٠٩

الملائكة ، وما كانت تسجد لآدم كآدم ، فمن اسمه أنه من الأديم أى التراب ، ولكنها سجدت للعلم ، كقوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (٣٣) (البقرة) ، فكأن آدم تعلّم مباشرة عن الله ، وهو تعالى العليم الحكيم ، فصار هو أيضا عليما حكيما بالتبعية ، فذلك ما سجدت له الملائكة فى آدم ، وهو أول درس يتعلمه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكأنه آدم آخر ، وشتّان بينهما ، فآدم الأول عهد الله إليه : (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (١١٥) (طه) ، وآدم الثانى ـ نبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عهد إليه فأوفى ، وكان من أولى العزم ، وأول الآيات التى تنزلت عليه كانت للعلم ، وكانت بمثابة المقدمة الضرورية ، وتلتها أربع عشرة آية (السورة كلها ١٩ آية) نزلت من بعد الخمس ، وتشكّل أول تعاليم الرسالة المحمدية ، فإن كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيتعلم العلم عنه تعالى ، فإنما ليعلّمه بدوره وليس ليختزنه ، فالعلم المختزن هو العلم العقيم. ورسالة الإسلام : إذن : هى التعليم ونشر العلم ، ومن يعلم العلم الحقّ يعبده تعالى ويوحّده عن حقّ. وأول سطر فى الرسالة : أن الإنسان بعد أن خلقه الله وأضفى عليه من النّعم وكرّمه ، استكبر على ربّه وطغى ، فقد صار غنيا وذا مال ، فأشر وبطر ، ونموذجه فى السيرة أبو جهل ، يقابله أبو بكر فقد تعلم ووعى الدرس فآمن وتواضع لله وأنفق ماله فى سبيل الله ، وشتّان بين النموذجين.

فلما أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتبليغ قام خطيبا فى عشيرته الأقربين ومنهم أبو جهل ، فسخر من النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسخّفه ، ولما رآه يصلى نهاه ، والآية : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى) (١٠) تعجب من حال أبى جهل ، ويصفه تعالى بالطغيان ، وكان يتباهى ويقول : لئن رأيت محمدا يصلى لأطأنّ عنقه! ـ وكان الأولى بهذا الدعىّ أن ينظر فيما أتى به النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما ذا تعنى صلاته؟ وما ذا يقول فيها؟ وهل كان يحضّ على التقوى؟ ولكنه أعرض عن أن يفكر ، وآثر إلا أن يكذب ، ورفض أن يسمع وتولّى ، وكل ذلك فى أبى جهل ولكنه أيضا يسرى على كل من يؤذى المؤمنين ويعطل الدعوة ويقبّح الإسلام ، ويسجن الداعين ، ويحظر على المسلمين أن يأخذوا بالجانب الإيجابى من دينهم ، ويريدهم أن لا يروا فى الإسلام إلا الجانب الطقوسى أو العبادى ، وأن يسقطوا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، والنصح بالتى هى أحسن ، والجهاد بالحوار والكلمة الطيبة ، إلا إذا أخرج المسلمون من ديارهم وأوذوا فى دينهم فعندئذ فقط يتوجب عليهم أن يقاتلوا فى

٨١٠

سبيل الله. والله ينذر الطاغية إن لم ينته سيأخذه أخذ عزيز مقتدر ، ومهما استنفر ناديه وعسكره وأنصاره فمآله الخسران. وتختم السورة بالأمر للنّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم خصوصا والمسلمين عموما ، فى حالات الاضطهاد ، أن لا يطيعوا ما يدعوهم الطاغية إليه ، وأن يتوجهوا لربّهم دائما مصلّين ساجدين ، ويتقرّبوا إليه بالدعاء ، لعل الله يأتيهم بالفرج والخلاص. والحمد لله دائما وأبدا.

* * *

٦٧٩. سورة القدر

السورة مكية ، وآياتها خمس ، وكان نزولها بعد سورة «عبس» ، وترتيبها فى المصحف السابعة والتسعون ، وفى التنزيل الخامسة والعشرون ، وتتحدث عن نزول القرآن فيها ، وكأنما القرآن تنزّل سورة واحدة ، ويأتى فى الآية : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (١٨٥) (البقرة) ، أنه تنزّل فى رمضان ؛ وفى الآية : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) (٣) (الدخان) : أنه تنزّل فى ليلة واحدة وكانت لذلك ليلة مباركة ؛ وفى الآية : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (١) (القدر) : أن هذه الليلة كانت ليلة القدر ، وقيل : كان نزول القرآن كالسورة الواحدة أو الجملة الواحدة ، من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ، ثم كان جبريل ينزّله على النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم نجوما نجوما ، وكان بين أوله وآخره ثلاث وعشرون سنة. وفى سورة القدر تتكرر «ليلة القدر» ثلاث مرات تشريفا وتعظيما لها ، وسمّيت «ليلة القدر» ، لأن الله تعالى يقدّر الأمور فيها إلى مثلها من السنة القابلة ؛ أو لأن الطاعات فيها لها قدر كبير وثواب جزيل ؛ أو لأن القرآن نزل فيها وهو الكتاب ذو القدر ، ونزل به ملك ذو قدر ، على رسول ذى قدر ، وأمّة ذات قدر ؛ أو لأن الله تعالى يقدّر فيها الرحمة على عباده. وقوله فيها : (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) (٢) فكل (وَما أَدْراكَ) فى القرآن يعنى «هو يدرى به» ، وهى استفهام بغرض التفخيم والتعظيم ؛ وفى أسباب نزولها ، قيل : إن رجلا من بنى إسرائيل لبس السلاح وجاهد فى سبيل الله ألف شهر ، يعنى أكثر من ثلاث وثمانين سنة! وهو قول يتّضح من أوله أنه من الإسرائيليات ، قيل : وعجب النبىّ والمسلمون من القصة ، وتمنّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأمته مثل ذلك العمر الطويل ، فقال : «يا ربّ ، جعلت أمتى أقصر الأمم أعمارا وأقلها أعمالا» ، وهذا قول آخر يثبت أن الحكاية ملفقة ومزوّرة على الإسلام! قيل : فأعطاه الله ليلة القدر! يسأل المسلمون الله فيها ما يشاءون! يعنى يكون لهم ما يشاءون بالدعاء وليس بالكسب والتحصيل وصالح الأعمال ، وهو معنى ليس حسنا. ومع كلّ فإن ليلة القدر على الصحيح من أكثر الليالى بركة لما اختصت به من الفضل من ثلاثة

٨١١

أوجه : فهى أولا : خير من ألف شهر ، يعنى هى بكل أعمار الأمم الأخرى ، والعمل الصالح فيها بكل الأعمال الصالحة بها فى ألف شهر ، يعنى أن يكون المسلم فيها فاعلا نشيطا إيجابيا ، وليس سلبيا يأخذ من غير استحقاق. وقوله ألف شهر لأن العرب تذكر الألف فى غاية الأشياء ، كما فى قوله تعالى : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) (٩٦) (البقرة) ؛ وهى ثانيا : تتنزّل الملائكة والروح فيها بكل الأمور التى يقدرها الله ؛ وهى ثالثا : سلام على كل الناس من أول الليل حتى طلوع الفجر. وفى موعدها قيل : هى الليلة السابعة والعشرون أو التاسعة والعشرون ، أو أنها فى العشر الأواخر من رمضان ، وفى وتر ، ربما فى الليلة الثالثة والعشرين ، أو الخامسة والعشرين ؛ وقيل هى تنتقل فى العشر الأواخر ؛ وقيل : لا تنتقل. وكان النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعتكف فى العشر الأواخر ؛ وسألته عائشة : إن وافقت ليلة القدر ، فما أدعو؟ قال : «قولى : اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنى» أخرجه أحمد والترمذى والنسائى وابن ماجة.

وليلة القدر من خصائص أمة الإسلام ، ولا وجود لمثلها فى اليهودية ولا النصرانية ، وما ذكر شىء يقارنها فى التوراة أو الأسفار أو الأناجيل ، ووجودها فى رمضان لا غير وليس فى كل السنة ، ورمضان هو الشهر الكريم ، وفى العشر الأواخر من أيام وداعه وليس فى كل رمضان ، وفيها الاعتكاف ، وهو خصيصة أخرى من خصائص أمة الإسلام ، وما أكثر خصائص هذه الأمة وما أعظمها!

* * *

٦٨٠. سورة البيّنة

السورة مدنية ، نزلت بعد سورة الطلاق ، وترتيبها فى السور المدنية الرابعة عشرة ، وفى المصحف الثامنة والتسعون ، وفى التنزيل عموما المائة ، وآياتها ثمان ، وسميت «البيّنة» يعنى الدليل والبرهان ، من بان بيانا وتبيانا يعنى اتضح وظهر ، والبيان هو المنطق المعبّر ؛ وسمّيت السورة كذلك سورة «لم يكن» ، والتسميتان من قوله تعالى فى بدايتها : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) (١) ، والبيّنة التى اشترطوها ليؤمنوا ويتركوا الكفر هى القرآن ، بمعنى أن يكون للنّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتاب مثل كتابهم ، فهذا هو دليل نبوته ، ولقد جاءهم بالكتاب ، صحفه مطهّرة من الدنس ، لا ضلال فيها ، وكتبه أى السور التى اشتمل عليها ، والأحكام والمواعظ والقصص والعلوم والبراهين التى تضمّنها ، جميعها قيّمة ، فما آمنوا ، وعبر تاريخ أهل الكتاب فإنهم كانوا كلما بعث إليهم نبى كذّبوه واختلفوا فيه ، وكلما تنزّل عليهم كتاب افترقوا حوله ، فلما جاءهم النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٨١٢

مصدّقا لما معهم أنكروه ، وما كان مطلوبه منهم إلا أن يعبدوا الله مخلصين له العبادة ، وأن ينصرفوا عن الزيغ والهوى ، ويتركوا المذاهب الباطلة ، والملل الضالة ، وأن يقيموا الصلاة وهى التى يصدق بها إيمانهم ، ويؤدّوا الزكاة التى تطهّرهم وأموالهم ، وتلك مقتضيات الديانة الحقّة. وتختم السورة بنذارة وبشارة ، فأما النذارة فللكافرين ، بأن مآلهم لجهنم ، لأنهم بكفرهم صاروا شرّ خلق الله ، وأما البشارة فللمؤمنين ، رضوا عن الله ورضى عنهم ، فمآلهم جنة الخلد ، وذلك جزاء كل من يخشى الله ويتّقيه حقّ تقاته.

ومن مصطلحات السورة : «أهل الكتاب» : وهم اليهود والنصارى ؛ و «المشركون» : قيل هم كفّار قريش بمكة ، والكفار عموما فى المدينة ؛ وقيل المشركون وصف لأهل الكتاب ، لأنهم لم ينتفعوا بكتابهم وتركوا التوحيد ، فالنصارى مثلّثة ، وعامة اليهود مشبّهة ، والنصارى يعبدون على الحقيقة المسيح فسمّوا المسيحيين ، لأنهم المؤمنون به ، وسمّوا النصارى لأنهم أتباع عيسى الناصرى ، أو لأنهم أنصاره ؛ واليهود ألّهوا شعبهم وأعظموا قدر أعراقهم ، وقالوا إنهم شعب الله المختار ، وحرّفوا التوراة ، ليمجّدوا فيها أنفسهم ، فهم عبدة أنفسهم ، وكل هؤلاء مشركون ؛ والحنيفية : هى ملّة إبراهيم ، الذى مال عن الضلال إلى التوحيد ، فأطلق عليه قومه اسم الحنيف ، أى الزائغ عن الحق ، كما أطلق كفّار مكة على النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم اسم «الصابئ» ؛ ودين القيمة : اصطلاح أضاف الدين إلى القيمة من باب إضافة الشيء إلى نفسه ؛ وخير البرية وشرّ البرية : فيهما طباق وهو من وجوه البديع ، ومن ذلك المقابلة بين نعيم الأبرار وعذاب الفجّار. جعلنا الله من خير البرية وأثابنا جنات الخلد ، اللهم آمين.

* * *

٦٨١. سورة الزلزلة

السورة مدنية ، وآياتها ثمان ، نزلت بعد سورة «النساء» ، وترتيبها فى المصحف التاسعة والتسعون ، وفى ترتيب تنزيل السور المدنية هى السابعة ، وسميت «الزلزلة» ، يعنى ارتجاف الأرض واهتزازها ، لاستهلالها بقوله تعالى : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) (١) ، وزلزال الأرض أكبر ما يكون يوم القيامة ، وبه تخرج الأرض ما فى جوفها ، والإنسان يعجب مما يحدث ويشاهد ويجرى تحت سمعه وبصره ، ويعجب لاضطراب الأرض كل هذا الاضطراب ، والرجفة التى تأخذ كل شىء ، والناس ينسلون من بطونها ، ويسرعون أشتاتا إلى الحساب ، فمن يعمل مثقال ذرة من خير يره مرصودا ، ومن يعمل مثقال ذرة من شرّ يبصره مكتوبا. وموضوع السورة ومشاهدها وأسلوبها ، كموضوعات ومشاهد وأسلوب

٨١٣

السور المكية. ولمّا نزلت واستمع لها أبو بكر بكى ، فقال له النّبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو لا أنكم تخطئون وتذنبون ويغفر الله لكم ، لخلق أمة يخطئون ويذنبون ويغفر لهم ، إنه هو الغفور الرحيم».

* * *

٦٨٢. سورة العاديات

السورة مكية ، وآياتها إحدى عشرة ، وكان نزولها بعد سورة «العصر» ، وترتيبها فى المصحف المائة ، وفى التنزيل الرابعة عشرة ، وفيها يقسم الله تعالى بخيل المجاهدين يغزون عليها ،. والعاديات جمع عادية ، من عدا يعدو عدوا ، يعنى جرى وركض. وقيل : أقسم الله تعالى بنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : (يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) (٢) (يس) ، وأقسم بحياة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (٧٢) (الحجر) ، وفى هذه السورة يقسم بخيله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى القتال ، فقال : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) (٥) ، والسورة تنبيه إلى الروح الجهادية عند المسلمين ، وتهييج لها عند الزحف ، والمستشرقون على أن الساميين ليسوا حربيين ، والسورة عكس ذلك تماما ، والأحرى أن يقال : إن المسلمين جهاديون. ومحبة الجهادى أو الحربى لفرسه كمحبته لروحه ، ووصف الخيل خلال الغزو صورة سينمائية بانورامية فريدة ، ولنا أن نتصور الخيل تعدو بالفرسان وتضبح ـ أى تتنفس بقوة بلا صهيل حتى لا يحذرها العدو ، وتضرب بحوافرها الأرض ، فينقدح الشرار ، ويثار الغبار ، ثم إنها لتسرى فى الليل ، وتغير على العدو صبحا ، وتقتحم صفوفه وتتوغل فى بلاده ، ويفاجأ بها وبفرسانها وقد صاروا وسط جمعهم. والسورة تذكير بهذه النعمة الجلىّ ، نعمة الخيل فى الحرب ، ولكن أنّى للإنسان أن يتفكّر ويتدبّر نعمه تعالى فى كل مجال ، ليشكره ويعبده وحده؟

وإن الإنسان لكفور بربّه ، كنود جاحد ، ولو سألته لأقرّ بكفره ، وشهد على نفسه ، فهو يعرف ما فيه وما جبل عليه. والسورة بدأت بذكر الجهاد ووسيلته الكبرى ـ وهى الخيل ـ فى الغزو ؛ والجهاد والغزو يكونان عن إيمان يحدوه الشكر والحمد لله والثناء عليه. وفى الجهاد تضحية بالنفس والمال ، ورباط الخيل جهاد بالمال ، والإنسان مفطور على الحب الشديد للمال ، يحوزه ويكتنزه. وختام السورة يذّكر بأن الآخرة لا ينفع فيها مال مما فى الجيوب ، ولن تعثر فى بقايا الأجداث فى القبور على أى مال ، إلا ما كان فى الصدور من نوايا وأسرار وأعمال ، يعرفها الله عن أصحابها معرفة المطّلع الخبير ، لا يخفى عليه منها خافية. وآيات السورة ـ وما فيها من صور ومشاهد ، صارت مأثورات تضرب بها الأمثلة كقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (٨)

٨١٤

وهى ثلاث حكم متتابعة ، وكان نزولها بشارة للنّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن السرية التى بعث بها إلى بنى كنانة حققت المطلوب منها ، ونجحت فى غزوها ، وأن فرسانها كانوا أبطالا ، وخيلهم كانت آية من آياته تعالى ، وكانت أخبار هذه السرية قد أبطأت حتى أن المنافقين روّجوا أنها أبيدت عن آخرها. والكنود صفة عامة من صفات الإنسان ، وتعنى أنه كفور بنعم الله ، ومن دأبه أن يعدّ المصائب وينسى النّعم ، وأنه يشهد على ذلك بنفسه ويقرّ به ، ويظهر كنوده فى أقواله وأفعاله ، وقوله تعالى : (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) (٧) كقوله : (شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) (١٧) (التوبة) ، والكفر هو كفر النّعم ، ومنه أن يشهد الإنسان على نفسه بحبه الشديد للمال ، والخير فى الآية ، كقوله : (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (٨) هو المال ، يحبه حبّا جمّا ، ويجهد فى جمعه ، ويحرص عليه ويبخل به ولا ينفقه فى سبيل الله. وهذه الحكم الثلاث تعقيب على حال الذين نكصوا عن القتال ولم يسهموا فيه. والجهادية أو الحربية فى السورة لها شقان ، أحدهما المشاركة فى القتال والغزو بالنفس والبدن ، والثانى المساهمة بالمال لمن لا يقدر على القتال لمرض أو عجز أو زمانة ، والمسلم الجهادى هو من يضحى بالنفس والبدن والمال معا. والآيات الخمس الأولى من سورة العاديات فيها البشارة بالنصر ، والفرحة بالعزة ، بينما الآيات الست الأخيرة فيها التوبيخ للمنافقين الذى يبخلون أن ينفقوا فى سبيل الله ، والإخبار بأنه تعالى يعلمهم فيجازيهم أوفى الجزاء يوم القيامة. نسأل الله العافية ، وله الحمد والمنّة.

* * *

٦٨٣. سورة القارعة

السورة مكية ، وترتيبها فى المصحف الواحدة بعد المائة ، وفى التنزيل الثلاثون ، وكان نزولها بعد سورة قريش ، وآياتها إحدى عشرة آية ، وموضوعها : القيامة بأهوالها ، والآخرة بأفزاعها ، وتستهل بسؤال عن القارعة : ثم يأتى التعريف بها من خلال الجواب. وطريقة التعليم بالسؤال والجواب Katechismus (D.) ;Catechese) F. (;Catechism) E. (من الطرق التعليمية للقرآن ، وقوله (الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) (٣) أبلغ استهلال لبيان عظم شأن هذا الحدث الذى لا يمكن أن يتصوره خيال. وتكرار القارعة ثلاث مرات من باب التهويل والتشويق لمعرفة ما يكون عن الكون والناس بسببها ، فأما الناس : فعند نزول القارعة ينسلون من الأجداث متفرقين فزعين كأنهم الفراش المبثوث. والفراش هو الهمج الطائر من هوام وجراد وغيرهما ، شبّه الناس بّه يوم الحشر ، لأنهم يبعثون يموج بعضهم فى بعض : (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) (٧)

٨١٥

(القمر) ، ويركب بعضهم بعضا كالغوغاء فى يوم زحام ، ولا تقرع القارعة الناس وحدهم ، ولكنها تقرع الكون كله أى تضربه ، فهى القارعة لأنها تقرع بالدواهى ، وتصيب بالنوازل ، فالجبال الصلبة تتداعى تحت قرعاتها ، فتصبح كالعهن المنفوش ، أى الصوف المندوف المتطاير والمنتثر. وفى ذلك اليوم ينقسم الناس قسمين ، ويكونون صنفين ، فمن ترجح أعماله الصالحة وتثقل موازينه ، فقد فاز بالعيشة الراضية ، وكانت له جنة النعيم خالدا فيها ، ومن تقلّ حسناته وتخفّ موازينه ، فأمّه هاوية ، والهاوية هى جهنم ، سماها «أمّا» لأنه يلتصق بها وتضمه إليها وكأنها أم تضم صغيرها ؛ وسميت «هاوية» لأنه يهوى فيها ، كالذى يهوى من حالق إلى القاع. ويتساءل تهويلا : وما الهاوية؟ ويجيب : هى النار الحامية التى لا تقارن بها نار الدنيا. وفى الحديث : «إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم» ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «سبعين» إنما للتمثيل ، والعرب تتمثل بالأعداد سبعة ، وسبعين ، وألف. وفى حديث آخر ، قال عن نار جهنم : «أوقد على النار ألف سنة حتى احمرّت ، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضّت ، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودّت ، فهى سوداء مظلمة» ، والحديثان لتقريب صورة النار ، وإلّا فلا شىء يشبهها من نار الدنيا! والسورة عموما لبيان قدر الحق والباطل ، فإنما يثقل ميزان من يثقل ميزانه ، لأنه يضع فيه الحق ؛ ويخف ميزان من يخف ميزانه ، لأنه يضع فيه الباطل ، وحقّ لميزان يكون فيه الباطل أن يكون خفيفا ، وحقّ لمن خفّ ميزانه أن يكون مصيره النار!!

* * *

٦٨٤. سورة التكاثر

السورة مكية ، وآياتها ثمان ، نزلت بعد الكوثر ، وترتيبها فى المصحف الثانية بعد المائة ، والسادسة عشرة فى التنزيل ؛ وموضوعها انشغال الناس بالدنيا وانصرافهم إليها ، إلى أن يأتيهم الموت بغتة فينقلهم من القصور إلى القبور كقول القائل :

الموت يأتى بغتة

والقبر صندوق العمل

والتكاثر فى قوله تعالى (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) (٢) : المباهاة بالمال والأولاد والأهل ؛ وتكاثر الأموال هو جمعها من غير حقّها ، ومنعها من حقها ، واكتنازها فى الأوعية. وفى الحديث فى معنى «ألهاكم التكاثر» : «يقول ابن آدم مالى مالى ، وإنما له من ماله ثلاث : ما أكل فأفنى ، أو لبس فأبلى ، أو تصدّق فأمضى ، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس» صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يهرم ابن آدم ويبقى معه اثنتان : الحرص والأمل» ، وعنه أيضا قال : «يتبع الميت ثلاثة ، فيرجع اثنان ويبقى معه واحد : يتبعه أهله وماله ، يبقى عمله». ولم يأت

٨١٦

فى القرآن ذكر المقابر إلا فى هذه السورة. وسياق السورة يزهّد فى زيارة القبور فلا شىء فيها إلا التراب ، وأما الأحباب فعند الله ، فما كان من تراب فمآله للتراب ، وما كان من الله فإليه يعود ، والثياب إذا بليت ألقى بها ، فكذلك الأجساد ، وذلك دليل على أن الإنسان روح وليس جسدا. فإذا كانت زيارة القبور للاتّعاظ والاعتبار ، ولوجه الله تعالى ، وإصلاح فساد القلب ، فذلك أليق وأنسب ، ومن يرد علاج قلبه من القساوة ، فعليه أن يكثر من التفكّر فى الموت ، والتفكير فيه يميّز الإنسان عن سائر الموجودات ، وكذلك مشاهد المحتضرين ، وعيادة المرضى فى مرض الموت ، والسير فى الجنازات ، وزيارة القبور ، فهذه أربعة أمور تؤتى كعلاج نفسى دينى. وليس كذكر الموت تنبيه للغافل بما إليه المصير ، وليس كمشاهدة المحتضرين مدعاة للتفكير ، وليس كزيارة القبور موعظة للقلب اللاهى ، والخبر ليس كالمشاهدة والمعاينة. والتكرار فى قوله تعالى : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) (٤) : فى الأولى يتأتى العلم عند معاينة الموت ، وفى الثانية يتأتى العلم عند البعث ؛ وقيل : فى الأولى يتأتى عند انتزاع الروح ، وفى الثانية عند دخول القبر وسؤال منكر ونكير ؛ وقيل : إن علىّ بن أبى طالب قال : كنا نشك فى عذاب القبر حتى نزلت هذه السورة ـ يشير إلى قوله تعالى : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) يعنى فى القبور ، والحديث مشكوك فيه ، لأن السورة مكية! ووقتها لم يكن علىّ قد أدرك بعد ، وإنما متعلق القسم فى السورة بما بعدها : (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) (٧) ، والخطاب للكفار الذين وجبت لهم النار. فلما نزلت : (لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) (٨) قيل إن أبا بكر سأل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أكلة أكلوها معا ، وكانت مجرد تمر وماء ، هل هى من النعيم الذى يسألون عنه؟ فأجاب : «ذلك للكفار» ، ثم قرأ : (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) (١٧) (سبأ) ، يعنى : لن يسأل عن النعيم إلا أهل النار ، فلمّا كفروا يسألون عن كل شىء كان من النعيم حتى الماء والهواء! وهؤلاء يرون الجحيم مرتين : مرة بعين قلوبهم تصوّرا وتخيّلا ، ومرّة بعين رءوسهم مشاهدة ومعاينة ، فما كان «علم يقين» يصير «عين يقين». والنعيم المسئول عنه فى السورة : يتراوح بين الضروريات والكماليات ، فعن أبى هريرة أن الناس تساءلوا : أى نعيم نسأل عنه؟ فإنما هما الأسودان : التمر والماء ، يعنى ما كان إلا شظف العيش ، فقال الرسول : «إن ذلك سيكون» ، يعنى حتى الأسودان تسألون عنهما ، أو يسأل عنهما كل جاحد كافر بأنعم الله ، وأما المؤمن فهو مقرّ بنعم الله وشاكر حامد عليها ، ويتحدّث بها دوما ثناء على الله. ومضمون سورة التكاثر : أن النعيم هو نعيم المتكاثرين المتباهين المترفين ، وفى القرآن أن الإنسان لا يسأل يوم القيامة عمّا كان يسد به جوعه ، ويروى عطشه ، ويستر عورته ، ويحتمى

٨١٧

تحت سقفه ، بدليل أن آدم أسكنه الله الجنة وقال له : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) (١١٩) (طه) فكانت هذه الأشياء الأربعة مضمونة له ولأبنائه من بعده ، وليست من النعيم ، ولا يسأل عنها ، ولا يحاكم أو يقاضى بها لو حصّلها من أى طريق : ما يسدّ به الجوع ؛ وما يدفع عنه العطش ؛ وما يقيه سقفه الأعين والبرد والحرّ ؛ وما يستر عورته من اللباس. فهذه هى الضروريات التى تقوم على القول بها الفلسفة الاشتراكية للإسلام ، وأضيف إليها خمسة أشياء : ما يتعلمه ويقيه الجهل ؛ وما يعمله ويقيه البطالة ؛ وما يتداوى به ويقيه المرض ؛ وما يعيله فى شيخوخته ويقيه الحاجة ؛ وأن تكون له زوجة وأولاد. فهذه أشياء لا بد منها ، وما زاد عليها فهو من النعيم حقا. وفى اشتراكية الإسلام لا بد أن توفر الحكومة ، أو الدولة ، أو المجتمع ، أو النظام العام ، هذه الأشياء للجميع ، لأن فيها الحدّ الأدنى لإنسانية الإنسان ، ولن يكون الإنسان إنسانا إلا بها ، وفى الحديث : «ليس لابن آدم حق فى سوى هذه الخصال : بيت يسكنه ، وثوب يوارى عورته ، وجلف الخبز (أى الخبز وإن كان بلا إدام) ، والماء» وفى الحديث الآخر : «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ» ، فنعلم : أن ما يحتاجه الإنسان فى شطر منه ضروريات ، وفى شطر منه لوازم ، وفى شطر منه كماليات. ومضمون السورة يتحدث عن الكماليات التى هى مدار التكاثر عند الأغنياء. على أن الجميع من النعم : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (٣٦) (الإسراء) وفى الحديث : «يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول له : ألم نجعل لك سمعا وبصرا ومالا وولدا؟» فهذه جميعا من النعم تكون للمؤمن والكافر ، فأما المؤمن فيستخدمها فى الصلاح فلا يسأل عنها ، وأما الكافر فاستعماله لها فى الفساد فهو عنها مسئول. والسورة على ذلك فيها الكثير من التعليم وفلسفة الاجتماع والفلسفة الاشتراكية ، وفيها الوعظ ، والتوبيخ ، والتهديد ، والإنذار.

* * *

٦٨٥. سورة العصر

السورة مكية ، وآياتها ثلاث ، نزلت بعد الشرح ، وترتيبها فى المصحف الثالثة بعد المائة ، وفى التنزيل الثالثة عشرة ، وتعتبر وسورة التكاثر أصغر سورتين فى القرآن ، وموضوعها سعادة الإنسان وشقاوته ، ونجاحه وخسرانه ، وفيها قسم بالعصر ، أى الزمان الذى دأبه النقصان ، فينصرم بسرعة ولمّا يستعد الإنسان لآخرته ، ويفجؤه الموت ولم يلحظ أن عمره ينقضى ، وحياته إلى زوال ، وأنه الخسران فى نهاية المطاف ، فلا هو كسب الدنيا ، ولا فاز بالآخرة ، كقول القائل :

إنا لنفرح بالأنام نقطعها

وكل يوم مضى نقص من الأجل

٨١٨

والخسران : هو الذى يفضّل العاجلة على الآجلة ، وليس صحيحا أن القسم فى السورة بصلاة العصر ، كقسمه تعالى بالضحى ، وبالفجر ، فالسياق العام لا يتفق مع هذا التفسير ، وإنما القسم بالزمان ، لأن وجود الإنسان فى العالم وجود زمانى ، ووجوده تعالى لا زمانى ، ولا يجرى الزمان عليه ولا يتعين وجوده به. والزمان هو أخطر وأهم ما فى وجود الإنسان ، فالإنسان يعيش فى الزمان ، والزمان يطبق عليه ، ولا يوجد الإنسان بدون الزمان ، ولذلك يقسم الله تعالى به. والسورة من الإعجاز الفلسفى والنفسى للقرآن ، لأن الزمانية فيها ليست مجرد ماض وحاضر ومستقبل ، وليست زمانية ستاتيكية ، لأن الزمان فى السورة سيّال ، ومجراه مستمر ، وزمانيته ديناميكية ، وشعورنا بالزمان الذى يجرى هو ما أسميه الزمانية النفسية ، ودليلها الاستثناء فى السورة من الخسران بأربعة أشياء : بالإيمان ؛ والعمل الصالح ؛ والتواصى بالحق ؛ والتواصى بالصبر ؛ فنجاة الإنسان تكون بأن يعيش الزمان لا كميا وإنما نفسيا. بالإيمان والعمل الصالح ، يكمّل بهما نفسه ، وينصح الغير بطلب الحقّ والصبر عليه ، فيكون قد جمع بين حقّ الله وحقّ العباد ، وهذه هى الزمانية المعاشة كأعمق ما يمكن أن تعاش ، وهى زمانية المؤمن ، وهى زمانية سرمدية ، فمن يريد ألا يخسر الزمان ، وأن يحياه عن حق ، فليؤمن.

* * *

٦٨٦. سورة الهمزة

السورة مكية ، وترتيبها فى التنزيل الثانية والثلاثون ، وترتيبها فى المصحف الرابعة بعد المائة ، وآياتها تسع ، وكان نزولها بعد سورة القيامة ، وموضوعها أخلاقى : يتناول المشّائين بالنميمة ، وفى الحديث : «شرار عباد الله : المشّاءون بالنميمة ، المفسدون بين الأحبّة ، الباغون للبرآء العيّب» ، والهمزة : الذى يغتابك من ورائك ؛ واللّمزة : الذى يغتابك فى وجهك ، كقول القائل :

تدلى بودّى إذا لاقيتنى كذبا

وإن أغيب فأنت الهامز اللّمزة

وقيل : السورة نزلت فى الأخنس بن شريق وكان يلمز الناس ويعيبهم ، ولكنها مرسلة على العموم من غير تخصيص ، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

وتذمّ السورة الذين همّهم الأكبر فى الحياة جمع المال وتكديسه ، يحسبون أنهم بالمال سيخلّدون فى الدنيا ، وتختم السورة بتحذيرهم وتوعّدهم بأقسى النار عذابا ، وهى الحطمة : التى تحطم من يلقى فيها ، وتكسر عظامه ، وتحرقه فيكون حرقه كالفرقعات ، فيه تهشيم وتحطيم وتكسير ، ولا يستطيع الإفلات منها ، لأنها تحيط به ، وتحبسه داخلها ، وتربطه إلى

٨١٩

أعمدتها ، وبقدر ما فى قلبه من عصيان بقدر ما يلقى فيها من عذاب ، لأنها نار تطّلع على الأفئدة ، وتعرف ما بداخلها من أسرار ونوايا وخفايا ، نسأل الله العافية ، ونعوذ به من هذا العذاب المهين.

* * *

٦٨٧. سورة الفيل

السورة مكية ، وآياتها خمس ، وكان نزولها بعد «الكافرون» ، وترتيبها فى المصحف الخامسة بعد المائة ، وفى التنزيل التاسعة عشرة والسورة من النّعم التى امتنّ بها الله على قريش ، وتحكى عن قصة أصحاب الفيل ، وتستفتح باستفهام تقريرى : (أَلَمْ تَرَ) ، وهو من أساليب القرآن المكررة ويأتى ٣١ مرة ، والخطاب خاص للنّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكنه عام لكل المسلمين ، تقول السورة : ألم تروا ما فعل الله بأصحاب الفيل؟ ولقد رأى العرب حدث الفيل وعاينوه ، وكانت ولادة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الفيل ، وقيل : يوم الاثنين ، لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان ؛ وقيل : يوم الاثنين الثانى عشر من ربيع الأول ؛ وقيل : إن عام الفيل كان قبل مولده صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأربعين سنة ، وقيل بثلاث وعشرين سنة. وروى عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله : «ولدت عام الفيل» ، أو قال «يوم الفيل» ؛ وقيل : كانت ولادته يوم عاشوراء من شهر المحرم. ومناسبة هذه الاجتهادات والاختلافات ، قوله تعالى فى السورة (أَلَمْ تَرَ)؟ يعنى يا محمد ، وهو لم ير ، ولكنه سمع وفهم ووعى ، والرؤية هنا المقصود أنها : بالبصيرة. ولقد أكرم الله قريشا بسبب بيته «الكعبة» ، فكان وجود الكعبة فى مكة نعمة لم تقدّرها قريش ، فبسبب البيت حفظت من العدوان ، ومن كراماته أن دعا لهم إبراهيم ، لأنهم حوله ، قال : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ) (١٢٦) (البقرة) ، فكان الحجاج يأتون من كل فجّ ومعهم من كل الثمرات ، وبورك لهم فى رحلتى الصيف والشتاء ، فكأن سورة قريش هى المكملة لسورة الفيل ؛ والفيل : حيوان ضخم الجثة ضعيف العقل ، وكذلك أصحاب الفيل ، كانوا كثرا ، ولكن قيادتهم كان بها حمق وبله ، والعرب تقول : رجل فيل الرأى ، أى ضعيف الرأى ، والجمع أفيال ، ويقولون : فال ـ أى ضعف عقله. وأصحاب الفيل كانوا على الحقيقة يتخذون الفيل سلاحا يخيفون به العرب ، وكانوا أيضا مجازا ضعاف العقول ، يظنون أن الكثرة والقوة سبب للنصر ، ولم يعوا أن النصر بيده تعالى ، يعزّ من يشاء ، ويذلّ من يشاء ، فمن تكون له عزّة يعزّ بها الناس ، وينتصف بها للمظلوم من الظالم ، ويمنع بها استقواء المستقويين ، أعزّه الله ؛ ومن تكون العزّة فيه تجبّرا وطغيانا وظلما وعسفا بالناس ، أذلّه الله ، وأصحاب الفيل كانوا جبابرة ، ويرأسهم أبرهة ، وكان من الطواغيت ،

٨٢٠