موسوعة القرآن العظيم - ج ١

دكتور عبد المنعم الحفني

موسوعة القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

دكتور عبد المنعم الحفني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
ISBN: 977-208-442-2
الصفحات: ١٢٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

ونساء بين الإيمان والكفر ، وتثبت أن للنساء استقلالية كاستقلالية الرجال ، وربما كانت تظاهرة نساء النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أول تظاهرة نسائية فى التاريخ ، ولقد نسبوها لعائشة وحفصة ، وعائشة التى تظاهرت كما روت السورة ـ تطالب بالنفقة للنساء ، وإلا فكان الأحرى أن لا يتزوجهن ، هى نفسها التى تظاهرت تطالب بدم عثمان وتوجهت إلى البصرة تظاهر الحق. والسورة حافلة بصور شتّى تطالعنا بجوانب من الجهاد ، وفيها من المصطلحات الكثير ، كمصطلح «تحلة الإيمان» : يعنى تحليل اليمين ، أى كفّارته ؛ ومصطلح «السائحات» : يعنى الصائمات ، يسمّى الصائم سائحا لأن السائح «قديما» كان يمشى لا زاد معه ويأكل حيثما يجد من يطعمه ؛ و «الثيب» : سميت ثيّبا لأنها تثوب إلى بيت أبويها بعد أن يتركها زوجها ؛ و «البكر» : هى العذراء ، لأنها على أول حالتها التى خلقت بها ؛ و «الملائكة الغلاظ» : هم الملائكة الزبانية الشداد ؛ و «التوبة النصوح» : الصادقة. (انظر أيضا قصص امرأة نوح ، وامرأة لوط ، وامرأة فرعون ، ومريم بنت عمران ضمن باب قصص القرآن). ومن الدعاء الجميل المحيط فى السورة ، قوله تعالى : (رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٨). نسأل الله العافية ، وأن يحيينا ويميتنا على كتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويلحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مبدّلين. آمين.

* * *

٦٤٩. سورة الملك

السورة مكّية ، وتسمّى «تبارك» ، كما تسمى «الملك» ، لاستهلالها بقوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) ، وكان نزولها بعد سورة الطور ، وترتيبها فى المصحف السابعة والستون ، وفى التنزيل السابعة والسبعون ، وآياتها ثلاثون ، وتوصف بأنها الواقية ، والمنجية ، والمانعة ، قيل : تقى وتنجى وتمنع من عذاب القبر وتشفع لقارئها من النار ، وعذاب القبر لم ينصّ عليه فى القرآن ، ولا شفيع للناس إلا أعمالهم. وكشأن السور المكية ، فإن سورة الملك تتناول موضوعات العقيدة ، وتبيّن قدرة الله ، وتثبت له الوحدانية ، وتبرهن على وجوده ، فهو الذى يميت ويحيى ، وينشئ ويفنى ، ويرزق ، ويغنى ، وهو الذى رفع السماء طباقا ، وزيّنها بالكواكب ، وبسط الأرض وإن شاء خسف بها ، أو يرسل ريحا حاصبا تحصد المكذّبين. ومحور السورة هو : التكذيب ليوم القيامة ، فهل يكثر على الله الذى خلق الطير لا يمسكها شىء فى السماء إلا رحمته ، والذى لا مهرب من عقابه وعذابه ، أن ينشئ الخلق من جديد ويبعثهم ليوم الدين؟ وأن يسعّر نارا تحرق من يمارى فى وجوده تعالى وفى قدرته أو رحمته؟ وتضرب السورة المثل للمؤمن والكافر بمن يمشى سويا يأمن العثار ، ومن يمشى مكبّا يعتسف ولا يهتدى ، فالأحرى أن يؤمن الناس ، وما يمارون فيه

٧٤١

ـ وهو البعث ـ حقّ لا ريب فيه ، وعلم الساعة عنده تعالى لا يعلمها إلا هو ، فلا يصح أن يسأل فيها النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه ليس سوى نذير مبين ، وقد فعل وأنذر وأبان.

والسورة فيها الكثير من وجوه البيان والبديع ، كالمطابقة بين الموت والحياة ، والاستعارة فى قوله : (تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) ، والتمثيل فى قوله : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا) ، والسجع فى قوله : (كَيْفَ نَذِيرِ) ، و (كانَ نَكِيرِ) ، وفى قوله : (غُرُورٍ) و (وَنُفُورٍ) ، والكناية فى قوله : (بِيَدِهِ الْمُلْكُ) ... إلخ ، ولله الحمد والمنّة ، وبه التوفيق والعصمة.

* * *

٦٥٠. سورة القلم

سميت السورة باسم ما جاء فى ابتدائها (الْقَلَمِ) ، الذى أقسم الله تعالى به لما فيه من البيان ، وبدأها بحرف الهجاء «نون» كما فى سائر مفاتيح السور ، وقيل اسم السورة (ن) وأما (الْقَلَمِ) فهو المقسم به ، قيل : هو أول ما خلق ، والنون كانت الدواة. ومن خرافات التفسير أن يقال : النون هو الحوت الذى يحمل الأرض! وقيل : القلم لمّا خلق كتب ما هو كائن إلى يوم القيامة! وقيل : نون افتتاح أسمائه تعالى نصير ، ونور ، وناصر ، وآخر حرف من الرحمن! والصحيح أن القلم نعمة من الله ، وكذلك حروف الهجاء من أمثال نون ، لأن منها بناء الكلمات التى بها تتألف العبارات ، وبها يتعلم الناس ويعلّمون ويحفظون التراث. والسورة مكية ، وكشأن المكيات فإنها تتناول أمور العقيدة ، وتردّ على الشّبه التى أثاروها وما يزالون على الدعوة ، وعلى قيام النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها ، واستحقاقه كنبىّ ورسول ، وفيها الكثير مما يمكن أن يضرب للوعظ والإرشاد كقصة أصحاب الجنة ، وكانوا ظالمين طاغين ، فلم تنفعهم أموالهم ، ولا أنجتهم سعة عيشهم لمّا حاق بهم غضبه تعالى. والسورة تروى عن أحوال المكذّبين ، وبدأت بالقلم ، لأن ما قالوه وفعلوه بالنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أحصى عليهم وكتب وسجّل ، وما كان بالمجنون كما ادّعوا ، وما تحمّله منهم لا بد أن يؤجر عليه من ربّه ، لا منّا ولا تفضّلا وإنما عن استحقاق ، فهو صاحب الخلق العظيم ، ولسوف يبصرون يوم القيامة هل كان هو المجنون أم كان المكذّبون هم المجانين الذين فتنتهم شياطينهم؟ وما كانوا سوى منافقين لا يمشون إلا بالنميمة ، وإذا حلفوا أكثروا الحلف المهين ، واستقووا بأموالهم وأولادهم ، وقالوا عن القرآن إنه ترهات وخرافات السابقين ، وما دروا ما أعدّ الله لهم من عذاب ، وما ادّخره للمتقين من ثواب ، وليس المسلمون كالمجرمين ، يوم يكشف عن ساق ، ويدعون إلى السجود ، أى الإقرار بالحق ، ويبدو لهم وقتها العذاب الصراح. وتنتهى السورة بدعوة النبىّ صلى الله عليه وسلم إلى الصبر ، وتنهاه عن أن يكون كصاحب الحوت يونس عند ما ضجر وعجل ، وليترك أمر المكذّبين ، يستدرجون ويملى لهم من حيث لا يعلمون.

٧٤٢

والسورة حافلة بالصور البليغة الرائعة ، ومن ذلك صيغ المبالغة فى كلمات مثل حلّاف ، وهمّاز ، ومشّاء ، ومنّاع ؛ والجناس : فى مثل مجنون ، وممنون ؛ والكناية : فى مثل : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) ، كقول القائل عن الحرب : شمّرت عن ساقها ؛ والطباق : فى مثل : المسلمين ، والمجرمين ؛ والتوبيخ الفائق ، فى مثل : (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)؟ (أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ)؟ والسجع المحبوك : فى مثل : (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ). والحمد لله ربّ العالمين على نعمة القرآن ، والله سبحانه وتعالى الموفّق للصواب.

* * *

٦٥١. سورة الحاقة

الحاقة من السور المكية التى مدارها العقيدة ، وترتيبها فى المصحف التاسعة والستون ، وكان نزولها بعد الملك ، وترتيبها فى التنزيل الثامنة والسبعون ، وعدد آياتها اثنتان وخمسون آية ، وقيل فيها إنها تجير من الفتنة ، وهى نور لقارئها يوم القيامة. ومعنى الحاقة : يوم القيامة ، وهو يوم الحقّ ، لأن الأمور تحقّ فيه من غير شك ، فلأقوام تكون الجنة ، ولأقوام تكون النار ، ويصير كل إنسان حقيقيا بجزاء عمله ، من حاققته فحققنه أحقّه ، أى غالبته فغلبته ، فالقيامة حاقة لأنها تحقّ كلّ محاقّ فى الدين بالباطل ، أى كل مخاصم ، ويقال لها الحاقة ، والحقّة ، والحقّ. والسورة كل مدارها لذلك يوم القيامة أو البعث ، وصورها البلاغية عن هذا اليوم ، وفيها الوصف التفصيلى لمآل المنكرين له ، وقد أنكرته ثمود ، وعاد ، وفرعون ، وقوم نوح ، والمؤتفكات ـ أى قوم لوط ، فأخذهم الله أخذة رابية ـ أى شديدة. فإذا كان هذا اليوم ونفخ فى الصور ، فإن الواقعة تقع ، فتدكّ الجبال ، وتنشق السماء ، ويبعث الناس يعرضون على الحاسبين ، فلا تخفى منهم خافية ، فمن يؤتى كتابه بيمينه فهو فى عيشة راضية ، فى الجنة العالية ، ومن يؤتى كتابه بشماله فهو فى الجحيم يصلى نارا حامية ، استحقاقا بإنكاره لله ، وعزوفه عن الصلاح. وتثنى السورة على النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتؤكد أن ما يبلّغه من القرآن هو قول رسول كريم ، وتنفى عنه أنه شاعر أو كاهن ، أو أنه يتقوّل على الله ، وإذن لأخذ منه باليمين وقطع منه الوتين ، وقوله هو حق اليقين ، يعنى به القرآن ، لا مرية فيه ولا شك ولا ريب ، فسبحان الله العظيم الذى أنزله!

والسورة بها الكثير من وجوه البيان ، من مثل الإطناب تهويلا فى قوله : (الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ) ؛ ولجوئه للتفصيل بعد الإجمال فى قوله : (فَأَمَّا ثَمُودُ وَأَمَّا عادٌ) ؛ واستخدامه التشبيه المجمل فى قوله : (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) ؛ والاستعارة فى قوله : (لَمَّا طَغَى الْماءُ) ؛ والجناس فى قوله : (وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) ؛ والمقابلة فى قوله : (بِيَمِينِهِ) (الحاقة ١٩)

٧٤٣

و (بِشِمالِهِ) (الحاقة ٢٥) وطباق السلب فى قوله : (تُبْصِرُونَ* وَما لا تُبْصِرُونَ) ؛ والسجع المرصّع يفصل به بين الآيات ، فى قوله : «رّاضية» ، «عالية» ، «دانية» ، فغلّوه» ، «وصلّوه» ، «فاسلكوه».

ومن المصطلحات الإسلامية الخالصة فى هذه السورة : «الأذن الواعية» ، تسمع وتفهم ، وتعى وتحفظ ؛ و «النفخة الواحدة فى الصور» ، قيل هى ثلاث نفخات : الأولى «نفخة الفزع» ، ثم يعقبها «نفخة الصعق» ، تصعق من فى السموات والأرض إلا من شاء الله ، ثم «نفخة البعث» ، فيبعث الناس ويعرضون فلا تخفى منهم على الله خافية ، فهو العرض الكاشف الفاضح ، ومنه ثلاث عرضات : اثنتان منها جدال ومعاذير ، والثالثة هى : «العرض الأكبر» ، وفيه تطير الصحف فى الأيدى ، فآخذ بيمينه ، وآخذ بشماله. وفى السورة نعرف أن عرشه تعالى يحمله ثمانية ، قيل هم ملائكة يكونون «ثمانية» صفوف ، وهذا العدد من المتشابه ، وفيه أقوال كثيرة ، وأكثرها خرافات ورجم بالغيب. وفى قوله تعالى : (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ) ، يعنى أن كلام القرآن يباين صنوف الشعر ، ولم يرد بسبّ ولا قذف ولا شتم. ويروى عن عمر بن الخطاب ، أنه قبل أن يسلم خرج يتعرّض للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوجده قد سبقه إلى المسجد ، فقام خلفه ، فاستفتح النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسورة الحاقة ، يقول عمر : فجعلت أعجب من تأليف القرآن! وقال : هذا والله شاعر كما قالت قريش! فقرأ النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) (٤١) ، فقال عمر : هذا قول كاهن ، فقرأ النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤٣)! قال عمر : فوقع الإسلام فى قلبى كل موقع ، فهذا من جملة أسباب إسلام عمر.

والسورة فيها الاعتبار بمن سبقوا من المكذّبين ، والتحرر عمّا فعلوا ، وألّا يصيبنا ما أصابهم. والدرس المستفاد : أن أمة الإسلام غير الأمم الأخرى ، فأولئك عجّلت لهم العقوبة ، وأمة الإسلام أجّلت وأخّرت إلى يوم القيامة. وأما خاصة أمة الإسلام .. وهم أتقياؤها ـ فلو أضاعوا الأدب يعاقبهم برياح الحجبة ، تطيح بالاحتشام من قلوبهم ، وتعصف بأحوالهم فيمتحنوا ، ويصيروا على خطر أن يدركهم سخط الحقّ. وأما منّته على أوليائه فإنه يسلمهم فى عافية ، فلا يتنازعون ، ولا يتحاسبون ، ويسلمون من الناس ، ويسلم منهم الناس.

وبعد : فهذه هى سورة الحاقة : من أروع سور القرآن العظيم ، ولله الحمد والمنّة ، وبه التوفيق والعصمة.

* * *

٧٤٤

٦٥٢. سورة المعارج

من السور المكية ، وموضوعها لذلك : العقيدة الإسلامية ؛ ومدارها : حول القيامة وأهوالها ، وأحوال المؤمنين والمجرمين فيها ، ومن قبل ذلك فى الدنيا ، والإنسان عموما إذا مسّه الخير أو الشر ، وأوصاف الناجين فى الآخرة ، والكفّار فى مكة خصوصا ونفورهم من دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمره له بالصبر عليهم ، وترك أمرهم لله حتى يلاقوا يوم البعث الذى يوعدون.

والسورة نزلت بعد الحاقة ، وهى السبعون فى ترتيب المصحف ، والتاسعة والسبعون فى النزول ، وآياتها أربعة وأربعون ، واسمها المعارج مما جاء بها من وصفه تعالى بأنه ذو المعارج ، أى ذو العلوّ والدرجات الفواضل والنّعم ، وذو العظمة والعلاء. والمعارج : هى مراتب إنعامه على الخلق ، وهى المعروفة بمعارج السماء ، أو معارج الملائكة والروح ، تعرج إلى السماء ما بين أسفل الأرض إلى عرشه تعالى مسيرة خمسين ألف سنة ، والعدد للتمثيل لا للحصر ، بدليل أنه فى آية أخرى يقول : (يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٥) (السجدة) ، ومع ذلك فالأقوال فى هذا العدد رجم بالغيب ، فالخمسون ألف سنة يمكن أن تكون المدة التى يستغرقها نزول الملائكة والروح ـ أى جبريل ـ من السماء الدنيا إلى الأرض ، أو هى مدة رحلة الملائكة والروح من يوم خلق الله الأرض إلى يوم القيامة حين اللقاء به تعالى ، أو هى عمر يوم الحساب يستنفده الملائكة والروح محسوبا بسنين الدنيا ، وكلها اجتهادات فى التفسير عن ظن وليس عن علم ، وفى الحديث : «يحاسبكم الله تعالى بمقدار ما بين الصلاتين ، ولذلك سمّى نفسه سريع الحساب وأسرع الحاسبين» ، وكما يرزق الله الناس فى ساعة ، فكذلك يحاسبهم فى لحظة ، وإنما على قدر الفهوم تكون الظنون ، وهو تعالى القائل : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) (لقمان ٢٨). وأجمل ما يقال من التفسير فى التناقض بين أن يكون هذا اليوم ، مرة خمسين ألف سنة ، ومرة ألف سنة ، أن هذين اليومين هما من أيام الله ، يقدرهما بتقديره ، وهو أعلم بما يكونان ، ولا يحسن أن يقال فيهما بما لا نعلم ، والغالب الذى نرجّحه : أن العدد فى الآيتين لتصوير طولهما ، تصويرا نفسيا يكاد يكون كالواقع ، ويوصف بما يوصف به الواقع ، تهويلا وتقريبا للأفهام ، والعرب يصفون ما لا يقدرون على عدّه ، أو ما لا يحتملون مشقته وشدّته ـ بالطول ، كما يصفون ما يحبون أن يستمر معهم من الأوقات المرغوبة بالقصر.

وتبدأ السورة بقوله تعالى : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) (١) ، لأن نزولها كان لدعوة الكافرين بالعذاب يقع عليهم كبرهان على صدق النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يخبرهم به عن البعث وعذاب يوم القيامة ، قيل إن السائل : هو النضر بن الحارث ، قال : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ

٧٤٥

الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٣٢) (الأنفال ٣٢) فنزل ما سأل ، وقتل وعقبة بن معيط يوم بدر صبرا ، ولم يقتل صبرا غيرهما. وقيل : إن السائل هو الحارث بن النعمان الفهرى ، فما أن قال سؤاله حتى جاءه حجر فى دماغه فقتله. وقيل : السائل هو أبو جهل ؛ وقيل السائل ـ من سياق السورة ـ هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفسه ، ولذلك قال له ربّه : (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) (٥) ، أى لا تستعجله لهم فإنه واقع بهم لا محالة.

وفى السورة الكثير من وجوه البلاغة ، كالطباق فى قوله : بعيدا وقريبا ، واليمين والشّمال ، والمشارق والمغارب ؛ والجناس فى قوله : (سَأَلَ سائِلٌ ،) وتعرج المعارج ؛ والتشبيه ، فى قوله : (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩) ، كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) ؛ والكناية ، كقوله : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) (٣٩) كناية عن المنىّ ؛ والسجع المرصّع فى قوله : (إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) (١٧) ؛ وذكر الخاص بعد العام لفضله وشرفه ، فى قوله : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ) ؛ والعام بعد الخاص فى قوله : (لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ) (١٤) ؛ والمقابلة كما فى قوله : (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) (٢١) ؛ والاستفهام الإنكارى تقريعا وتوبيخا فى قوله : (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) (٣٨).

ومن جوامع الكلم فى هذه السورة قوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) (٢١) ، وهى حكمة بالغة عن طبائع البشر. وقوله : (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) (٥) هو الصبر بالله ولحكمه ، ويجزى به العبد مرتين ، ومن مصاحباته وطقوسه التسبيح بحمد الله. والصبر والمصابرة من عزم الأمور. ومن أروع المشاهد فى هذه السورة : صور العذاب فى يوم القيامة : (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤) كَلَّا إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى) (١٨).

ومن المصطلحات المأثورة فى السورة : «الجامع الموعى» فى الآية السابقة ، وهو الذى يجمع المال ويوعيه أو يوكيه ويغلق عليه. وفى تفسير : (وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) الحديث : «شرّ ما فى الرجل شحّ هالع وجبن خالع» ، وكلاهما «الشّح الهالع والجبن الخالع» مصطلحان من تصنيفات الشحّ والجبن. ومن المصطلحات : جنة النعيم ، ويوم الدين ، واليوم الذى يوعدون. وقوله : (بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) لأن الكون ملىء بالكواكب ، ولكل منها مشرقها ومغربها ، والله تعالى ربّها جميعا. وقوله : (إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) كقوله : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) (٣٨) (محمد) فيهما

٧٤٦

نظرية الإسلام فى التولّى والاستبدال ، وهو أن يذهب الله تعالى ريح المكذّبين من الأمم ، ويأتى بأمة تطيعه ولا تعصيه. والسورة فيها الكثير مما يشدّ القارئ أو السامع ، سواء فى أسلوبها أو حكمها ، وإحالات عباراتها وألفاظها إلى مختلف العلوم والفنون. ولله الحمد والمنّة ، نحمده تعالى أن جعل القرآن كتابنا ، وجعل محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولنا ، وجعل الإسلام ديننا وملّتنا ومذهبنا فى الحياة وبعد الممات.

* * *

٦٥٣. سورة نوح

السورة مكية ، يعنى تتعلق بالعقيدة ، ويأتى ترتيبها فى المصحف وفى التنزيل الواحدة والسبعون ، وآياتها ثمان وعشرون آية ، وكان نزولها بعد النحل ، وسميت بسورة نوح لأن مدارها النبىّ نوح ، وما كان من أمره مع قومه المكذّبين له ، وقصته من بداية الدعوة إلى أن أخذهم الله بالطوفان فأغرقهم بخطاياهم ، وعذّبهم فى النار بكفرهم. وفى السورة : أن نوحا من المرسلين والمنذرين ، قيل هو أول رسول منذر ، وأحد أولى العزم الخمسة : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد. وعاش فى قومه عمرا مديدا ، ويطلق عليه لذلك شيخ الأنبياء ؛ ومدار رسالته : الإيمان بالله وتقواه ، وأن يقرّوا به نبيا مرسلا ، ويطيعوه فيما يأمرهم به أو ينهاهم عنه عن ربّه ، وأن يصدّقوه فيما يعدهم به لو عبدوا الله حقّ عبادته ، فسيغفر لهم ربّهم ويمنع عنهم العذاب ، ويكلؤهم بعنايته ، ويبارك لهم فى أعمارهم ويؤخّر آجالهم. ويفسر البعض قوله : (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) (٤) أى لا يعجّل عذابهم ، غير أن المعنى المستفاد من طول حياة نوح وبنيه ، أن تأخيره تعالى لآجالهم هو أن يطيل أعمارهم إذا اتّقوا الله ، فالتقوى والصالحات تطيل العمر ، والدعاء بطول العمر إذن جائز ، وقد طال عمر نوح وبنيه فعلا ، فعاش نوح ٩٥٠ سنة ، و «سام» ابنه قيل : عاش ٦٠٢ سنة ، وكذلك بقية أبنائه ونسائهم وأحفاده جميعا ، فلما آمنوا وأطاعوا نسئ فى أعمارهم. وفى قوله : (إِنَّ أَجَلَ اللهِ) أضاف الأجل إليه سبحانه ، فهو الذى يثبت ويمحو ، ويطيل العمر ويقصّره. وفى السورة أن الأنبياء يستنفدون كل طرق الإقناع فى الدعوة إلى الله ، ولقد دعاهم نوح ليلا ونهارا ، وكلما دعاهم أصرّوا واستكبروا ، ودعاهم جهارا وأظهر دعوته لهم وأعلنها ، وأسرّها ، أى أتاهم فى منازلهم يحادثهم سرّا ، متلطفا ومبالغا فى الإصرار على دعوتهم. ولمّا كانوا قد عانوا الجفاف ، وماتت زروعهم فقلّت أموالهم ونفقت حيواناتهم ، وتهددت المجاعة أولادهم ، وعدهم نوح لو آمنوا أن يرسل ربّه عليهم المطر ، لتنمو الزروع ويأكل الحيوان ، ويكثر المال ، فيكون بوسعهم أن يتزوجوا وينسلوا ، وتكون

٧٤٧

لهم الجنات والبساتين والأنهار ، ومن فقه ذلك : أن الاستغفار يستنزل به الرزق والأمطار. ويلجأ نوح فى منهج الدعوة إلى المنطق والحوار ، ويستخدم الحجة والبرهان ، ويسوق الأدلة على وجود الله ، ووحدانيته وقدرته ، ومن ذلك خلقه للناس أطوارا ، يعنى نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، إلى تمام الخلق ؛ وخلقه كل شىء أطوارا : فالحضارات والمدنيات دول وأدوار ، وحتى التعلم والفهم والوعى على مراحل ، والأطوار قانون الوجود كله ، وهى فطرة الله فى خلقه وسنّته التى لا مبدّل لها. وحتى السماوات والأرض كانت أطوارا طباقا. وذلك من دلائل قدرته ووحدانيته. ومن ذلك خلقه للشمس والقمر. وقوله : (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَ) ، قال المستشرقون : إن القرآن أخطأ حيث جعل الشمس والقمر لكل السموات والأرض ، وهما للسماء الدنيا وحدها ، ولأماكن من الأرض دون أماكن؟! والخطأ هو خطأ المستشرقين ، أو أنه بالأحرى مغالطة منهم وفساد فى الاستنتاج ، لأنه فى اللغة العربية قد يقال : إن القمر جعله تعالى فى السموات نورا ، والمقصود فى إحدى السماوات وليس كل السماوات ، كقول القائل : أعطنى الثياب وهو يقصد الجلباب فقط دون كل الثياب. وفى السورة من دلائل قدرته تعالى : إنباته للناس من الأرض ثم يعيدهم فيها ، ومعنى إنباتهم أنه ينمّيهم فيكبرون بعد الصغر ، ويطولون بعد القصر ، ومن كان يستطيع ذلك فبوسعه أن يميتهم ثم يعيدهم بعد موتهم ، أى يبعثهم. ولم يقتنع قوم نوح وعصوه ، واستمعوا للأغنياء منهم ، أصحاب المال والبنين ، وعبدوا آلهتهم : ودّ ، وسواع ، ويغوث ، ويعوق ، ونسرا ، ووضعوا لها التماثيل والصور ، ومكروا المكر الكبّار ، أى الشديد ، و «المكر الكبّار» من المصطلحات القرآنية ، وكانت هذه الأسماء للآلهة من قبل نوح ، لأناس من واقع الحياة اشتهروا بالأذى بما جعل الناس تخشاهم ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن الأغنياء كان من صالحهم أن يستذلوا الناس بهم ، ويستنزفوا دخولهم لصالحهم ، وقد نبّههم نوح إلى هذا ، وتوجه إلى الفقراء يحذرهم وينذرهم ، والفقراء تابعون دائما ، وما لم يتقدمهم الأغنياء ينكصون أن يخاطروا بالتسليم لنوح ، فدعا عليهم جميعا : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) (٢٧) ، وينبّه إلى الوراثة الروحية ، فالكافر يلد الكفّار مثله ، وهو الفاجر الفاسق. وكان لا بد أن يستغفر لنفسه بعد أن دعا على قومه ، فقال دعاءه الخالد : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) (٢٨) ، والبيت هو المسجد الذى ابتناه لعبادة الله ، وقوله : (لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) يعم الأحياء منهم والأموات ، فاستحب هذا الدعاء اقتداء بنوح ، وختمه بالدعاء الذى يردده كل المظلومين : (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) والتبار هو الهلاك والخسار فى الدنيا والآخرة.

٧٤٨

ومن صور البيان فى هذه السورة العظيمة : الطباق كما فى قوله : «أعلنت لهم وأسررت» ، و «جهارا وإسرارا» ، و «ليلا ونهارا» ، و «يعيدكم ويخرجكم» ؛ والمجاز فى مثل قوله : (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) ؛ والاستعارة فى مثل قوله : (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) ؛ وذكر المصدر للتأكيد : (وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) و (أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) ، وهو إطناب أيضا ، ومن باب الإطناب : ذكر الخاص بعد العام ، كما فى قوله : (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) ، وعكسه ذكر العام بعد الخاص ، كما فى قوله : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ). ومن صور البيان أيضا السجع المرصّع لرءوس الآيات كما فى قوله : («مِدْراراً) ، و (أَنْهاراً) ، و (وَقاراً) ، و (أَطْواراً»).

وقيل : إن الآية : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) فيها الدليل على عذاب القبر ، فبرغم أنه لم يرد به نصّ صريح فى القرآن ، إلا أنه مصرح به فى هذه الآية فى قوله : (فَأُدْخِلُوا ناراً) ، فلمّا كانت القيامة لم تقم ، وعذاب الآخرة لم يحن ، فإن إدخالهم النار لا يعنى إلا عذاب القبر ، وينفى هذا الرأى أن عذاب القبر وقتى ، وإدخالهم النار أبدى ، ولا يكون إلا فى الآخرة ، وقيل : قد يجوز الإدخال إلى النار فى الدنيا كما فى الآية عن قوم فرعون : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) (غافر ٤٦) ، غير أن هذا العذاب لقوم فرعون ليس عذاب قبر ، وإنما هو عذاب أكبر وأشمل وأطول ، ولذا فهو عذاب آخرة. ومع ذلك فتفسير الآية بخلاف كل ذلك ، ولا يعنى إلا أن قوم نوح عذّبوا بالنار مع الغرق ، فالمطر الشديد الذى أغرقهم كان معه برق ورعد تندلع بهما الحرائق ، ويشتعل الماء ، كما فى قوله تعالى : (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) (٦) (الطور) ، أى الذى يوقد ماؤه وذلك يكون يوم القيامة ، كقوله تعالى : (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) (٦) (التكوير) أى أضرمت فتصير نارا تتأجج وتحيط بأهل الموقف ، فبمثل ذلك كان عذاب قوم نوح بالنقيضين : الماء والنار ، والله أعلم ، وهو على كل شىء قدير وهو سبحانه الموفّق للصواب.

* * *

٦٥٤. سورة الجن

السورة مكّية ، وترتيبها فى المصحف الثانية والسبعون ، وبحسب النزول هى الأربعون بعد الأعراف ، وككل السور المكية فإن سورة الجن تتناول مسائل من العقيدة ، وتروى حكاية عن الجن استمعوا للقرآن يتلوه النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فعجبوا له ، وما فيه من حكمة ، وما اتّسم به من نظم وحبكة. وكان سبب إنصاتهم للقرآن أنهم قبل ذلك كانوا يتنصّتون على السماء ، يخطفون ما يصادف سمعهم من أنبائها فيزيدون عليه ، ويروونه للناس كحقائق

٧٤٩

من الغيب ، والناس تطاوعهم فيما يروون ، وتصدّقهم ، لعل حياتهم تتيسّر بما نبّئوا به ، فلا ينالهم منه إلا الرّهق. وحارت الجن فيما صارت إليه السماء من الحرس الشديد والشّهب ، فانتشروا يتلمسون السبب ، ووجدوه فى ظهور هذا النبىّ الجديد الذى يبشّر بالحقّ من ربّه ، فعرفوا أن عملهم إلى تبار ، ونفوذهم على الناس إلى الزوال ، وكان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذى يستمعون إليه يتلو القرآن العجب ويصلّى بالمسلمين ، والأرض لهم مسجد ، وما كان يدعو إلا الله ، وله وحده يسجد المسلمون ، والمساجد بيوت الله ، ولا ذكر فيها لغيره تعالى. وقوله : (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) (١٩) الإشارة إلى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو عبد لله كما أن كل الرسل عباد له تعالى ، وكل المؤمنين من عباده ، وقيل إن «عبد الله» من أسماء النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفى الآية فإن عبد الله داعية لله ، والشأن مع الدعاة أن يجتمع الناس عليهم ، ويزدحموا يحرصون على الاستماع لهم ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمسلمون من بعده ، دعاة إلى الله ، ودعوتهم ليست إلا له تعالى ، وهو الواحد الأحد ، لا يشركون به ، وما كان محمد فى اعتقاده واعتقاد المؤمنين بالله ، إلا بشرا رسولا ، لا يملك للناس ضرّا ولا رشدا ، ولمّا قيل له : اترك ما تدعو إليه ونحن نجيرك ، قال : (إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) (٢٢) أى ملتجأ ألجأ إليه ، ونصيرا ووليا ، وحرزا ، ومذهبا ، ومسلكا ، وما كان له أن يتقوّل على الله من نفسه ، فما أمر إلا أن يبلّغ ما يوحى إليه ، ولو عصى الله لكانت النار مأواه ، وكيف يعصاه والملائكة من بين يديه ومن خلفه ترصد ما يقول وتسجله عليه؟ والله يحيط بما لديه ولديهم ، ويحصيه عددا ، إن قولا أو فعلا؟ ولو تقوّل عليه بعض الأقاويل لأخذ منه بالوتين! وما كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلم عن الساعة ما يلحّون أن يعرفوه عن ميقاتها ، فالله وحده هو عالم الغيب ، ولا يدرى أقريب موعدها أم بعيد ، لأنها غيب ، وهو تعالى لا يطلع رسله على الغيب إلا بما يخدم رسالاتهم ويثبت لهم الدعوة ، ويظهر لهم المعجزات يصدّقهم بها الناس ، ومن ذلك قول عيسى لقومه : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) (آل عمران ٤٩) ، وقول يوسف : (لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) (يوسف ٣٧) ، قيل ذلك هو العلم اللّدنّى ، أى من لدن الله. وربما كان المراد بقوله تعالى : (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ) (٢٨) أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد تحصّل له العلم بأن الرسل قبله قد أبلغت عن الله ، أو ليعلم أهل الشرك أن الأنبياء قد أبلغوا رسالات ربّهم ، أو ليعلم الله تعالى أن الرسل قد أبلغوها ، كقوله فى آيات أخرى : (وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) (١١) (العنكبوت) ، وهذا التفسير الأخير ، بجعله الضمير يعود إلى الله تعالى ،

٧٥٠

فإن الله يجعل علمه تعالى بهم علم ظهور ، أو علم مشاهدة ، لا علم بداء ، ولكنه تعالى يعلم بما كان وبما سيكون ، ولا يخفى عليه شىء من أمور الكون : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٥٩) (الأنعام) ، ولذلك كان هذا التفسير قاصرا ولا يصح.

والجن فى هذه السورة جنس كالبشر ، من جنّ أى خفى واستتر ، فهم المستترون أو المختفون ، استتروا على الإنسان وخفوا عنه. وسفيههم الذى يحكون عنه فى السورة هو إبليس ، وقوله فى الله هو الشطط. والجن لمّا سمعت القرآن آمنوا ، وإيمانهم تقريع للعرب أنهم لم يؤمنوا بعد ، وذلك فى زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعد زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن الآية تقريع للناس جميعا أنهم لا يؤمنون وعندهم كتاب الله حجّة عليهم. وعند الجن فإن أكبر فرية افتراها الإنسان فى حق الله أن جعل له تعالى صاحبة وولدا ، يعرّضون بديانة النصارى الذين عبدوا المسيح ونسبوا إليه أنه ابن الله من مريم. ونعلم عن الجن أنهم مثلنا ، منهم المسلمون ، ومنهم القاسطون ، والمسلمون لمّا سمعوا الهدى آمنوا به وأسلموا ، فهؤلاء هم الصالحون ، لا يخافون بخسا ولا رهقا ، وأما القاسطون ، أى الظالمون لأنفسهم ، فهؤلاء دون الصالحين ، وهم فرق وطرق ومذاهب ، ظنوا أنهم يعجزون الله فى الأرض ، ولو قد أسلموا ونهجوا الطريقة المثلى ، أى الإيمان ، لسقاهم ربّهم ماء غدقا ، يعنى لوسّع فى رزقهم ، وهذا هو الغدق المادى ، ولرضى عنهم وأرضاهم وأنزل سكينة وطمأنينة الإيمان على قلوبهم ، وهذا هو الغدق الروحى أو النفسى ؛ والماء الغدق هو نعمة الأخذ بالقيم ، كقوله تعالى فى آيات أخرى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) (الأعراف ٩٦) ، وقوله لأهل الكتاب : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) (المائدة ٦٦) ، والبركات جمع بركة وهى الزيادة ، يبارك الله لهم فى أرزاقهم ، ويزيدهم من أفضاله ونعمه ، ويوسّع عليهم ، وهذا هو الغدق المادى والروحى معا ، لا يتحصّلونه إلا بالإيمان. وفى قوله تعالى : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) (١) رواية عنهم فيها الدليل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشر من بشر ، ولم يرسل إلا للبشر ، وأنه ما رأى الجن ولا خاطبهم ، وما كان يمكن أن يعلم بقصتهم لو لا أن أوحى إليه بها. والإسلام كما هو واضح فى السورة ضد اللجوء للجن وما شابه الذى يروّج له البعض ويأخذون به. وتحفل السورة بوجوه البلاغة ، كما فى الوصف بالمصدر فى قوله :

(قُرْآناً عَجَباً) ، وفيها من بدائع البيان الطباق والجناس والاستعارة والسجع ، والأول كما فى قوله : (فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ) ، و (الْإِنْسِ) و (الْجِنِ) ، و (ضَرًّا) و (رَشَداً) ، و (الْمُسْلِمُونَ

٧٥١

والْقاسِطُونَ) ؛ وأما الجناس فكما فى قوله : (نَقْعُدُ مَقاعِدَ) ؛ وأما الاستعارة فكما فى قوله : (كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) ؛ وأما السجع فكما فى قوله : «أحدا ، وولدا ، ورصدا ، ورشدا ، وصعدا ، وعددا» ويسمونه السجع المرصّع ، لأنه يرصّع رءوس الآيات ، ومن أجمل التعابير قوله : (يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) يعنى يكلّف المكذّب أن يرتقى الصّعود ، وهو الجبل الأشم على قمته صخرة ملساء ، فإذا بلغها بعد جهد انزلق فينحدر من حالق إلى أسفل ، فيضرب ليصعد من جديد ، لينزلق مرة أخرى وثالثة ورابعة ... إلخ ، وذلك هو العذاب الذى ما بعده عذاب ، وعلى منواله فى الأدب العالمى ، أسطورة سيزيف اليونانية ، فإنه بلعنة من الآلهة صار على سيزيف أن يصعد الجبل بالحجر ، حتى إذا شارف القمة تدحرج بالحجر من عل إلى أسفل لينهض ويحاول من جديد بلا نهاية ، وهذه الصورة للعذاب مما يضرب به المثل ، وتتكرر فى القرآن مرة أخرى فى سورة المدّثر فى الآية : (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) (١٧). فهذا بعض ما فى هذه السورة المباركة من الكمال والجمال والحق والخير ، والحمد لله على نعمة القرآن والإسلام.

* * *

٦٥٥. سورة المزمل

رقمها الثالثة والسبعون فى المصحف ، وترتيبها فى التنزيل الثالثة ، وتأتى بعد القلم ، وآياتها عشرون آية ، وهى من السور المكية ، إلا الآيات ١٠ و ١١ و ٢٠ فمدنية ، وتتناول جانبا من حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى تبتّله وقيامه الليل ، وفى تلاوته للقرآن ، وصبره على المكذّبين ، ومن ثم كان اسم السورة «المزمّل» ؛ والمزمل أصلها المتزمّل ، قيل زمّل الرسالة ، أو النبوة ، أو القرآن ، أى حمّلها ولكنه فتر عنها ، أو أن المعنى أنه المزمل زمّل نفسه بالثياب ، فكان ـ كما تقول عائشة ـ يتزمّل بمرط ، لا هو خزّ ، ولا قزّ ، ولا شعر ماعز ، ولا إبريسم (أى حرير) ، ولا صوف : سداه الشّعر ، ولحمته الوبر» ، ومن قول عائشة هذا اعتبروا السورة مدنية ، لأن عائشة لم تكن معه إلا فى المدينة ، غير أن كلام عائشة رواية لما سمعته ولكنها لم تشاهده ، والجمهور على أن السورة مكية إلا من بعض آياتها ، وقيل : إنه حتى فى المدينة كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبلغه سوء قول المشركين فيه ، فيشتد عليه ، فيتزمّل فى ثيابه ويتدثّر ، ولذا كانت السورة التى تليها فى النزول تخاطبه بنفس الطريقة : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) ، والصحيح أن السورتين نزلتا فى ابتداء ما أوحى إليه ، فلما جاء الملك ، واستمع إليه ، ارتعد وارتجف ، وأتى أهله فقال الكلمة المشهورة : زمّلونى ودثّرونى ، وذلك هو التفسير المادى ، وإنما هناك التفسير الرسالى ، وهو أبعد من أن يتصل بالأغطية والدثر ، أو بما طرأ عليه من

٧٥٢

عوارض نفسية كالخوف وغيره ، فإنه لمّا نزلت هاتان السورتان : المزمل والمدثر ، كان قد تزمّل أو تدثّر عن تبليغ الرسالة ، يعنى كان قد فتر عن التبليغ ، ولم تكن المزمل أو المدّثر من أسمائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال البعض ، ولا يصحّان اسمين له ، وإنما هما اسمان مشتقان من حالته التى كان عليها حين الخطاب. ومن دأب العرب أن تسمى الناس عند مخاطباتهم ـ إذا أرادوا ملاطفتهم ـ بأسماء مشتقة من أحوالهم ، والاسمان المزمل والمدثر هما للتأنيس والملاطفة ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعل ذلك مع علىّ ، فناداه : «يا أبا تراب» ، ونادى حذيفة : «يا نومان» فأشعرهما أنه غير معاتب لهما. على أن السورتين كسورتين من السور أو الآيات التى تخاطب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقصد بهما كل مسلم ، وخاصة بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمّة الإسلام أمة شاهدة ومكلّفة بالتبليغ ، وهى أمة بلاغ ، والمسلم إنسان رسالى ، أى صاحب رسالة هى الإسلام ، وكل مسلم بما أنه كذلك فهو مكلّف بما كلّف به النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن ذكرت له صلى‌الله‌عليه‌وسلم صفة ، أو وصفت له طريقة ، فإنّ المعنىّ بها الآن ـ بعد وفاة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو المسلم أو المسلمة ، والمزمل والمدثر مخاطب بها كل مسلم ، وتأمرانه بأن لا يفتر عن التبليغ فكل مسلم (وكل مسلمة) هو خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو المؤتمن على رسالته. والسورة على ذلك تعهد إلى المسلمين أن يبلّغوا القرآن للناس ، وقبل ذلك أن يستعدوا بدنيا وروحيا ، ومن ذلك إحياء الليل فى العبادة ، كما فى قيام شهر رمضان ، نصفه ـ أى نصف الليل ، أو أقل من النصف ، أو زيادة عليه ، ومن فقه ذلك أن صلاة الليل أو آخر الليل مستحبة على أوله. وقوله : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) أى ساعاته وأوقاته ، وكل ساعة منه ناشئة ، وأشد وطأة ، وأقوم قيلا ، يعنى أجمع للخاطر من قيام النهار ، لأن النهار وقت السبح الطويل ، أى السعى طلبا للقمة العيش وسدّ الحوائج. وقالوا إنّ حكم الآية : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) نسخه حكم الآية : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) ، وكانوا فى أول عهدهم بالإسلام يقومون الليل لا أقل من ثلثه ، ولا أكثر من ثلثيه ، حتى ورمت أقدامهم وسوقهم ، فنسخ القيام الطويل هذا بقوله : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) مثل قوله : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) (الإسراء ٧٩) ، وبذلك تكون آخر السورة قد نسخت أولها ، ولا نرى أن فى ذلك نسخا ، لأن آية (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) خاصة بصلاة الليل ، وأما آية (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) فخاصة بقراءة القرآن وحده دون أن يكون ضمن صلاة. وفى السورة : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) (٢٠) أى أن هذه الصلاة ، كان يقوم بها النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطائفة من المؤمنين ، يعنى أنها من النوافل يأتيها البعض دون الآخرين ، وهو المعنى فى الآية : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً) (الإسراء

٧٥٣

٧٩) يعنى زيادة على الصلوات المعتادة ، ومع ذلك فإن قيام الليل إطلاقا من الفروض ، وإنما فرضه كان فرض كفاية لا فرض عين ، وأراد به الله تعالى أن يمارس المسلمون مشقة القيام ، فتكون لهم التربية البدنية والروحية التى تؤهلهم لما سيناط بهم من بعد من مهمة التبليغ إلى الأمم ، وما سيواجهونه من مشاق فى ذلك ، وقد يجبرون على القتال ، وقد يعانون الحصار والجوع وتنالهم الهزائم ، فلا محيد لهم عن أن يصبروا ، ومن أين يأتى الصبر إن كانت أبدانهم لم تعتد الشدائد ، وكانت نفوسهم لما تعان الضغوط والضوائق ، فكان فرض قيام الليل ليخلق أجيالا من المسلمين الأشداء ، وكان الصيام ليتمرّسوا بكل ما يمكن أن يجرّه عليهم الإسلام من العناء ، وليس أشد عناء من الجوع ، ولا أشد ابتلاء من أن يقاتل المسلم ، ويخرج من داره ، ويطرد من بلاده ، ويمنع من التعبّد لله. وليس صحيحا إذن أن قوله : (ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) مرتبط بقيام الليل أى بالصلاة ، وإنما هى خاصة بقراءة القرآن فى غير الصلاة ، وأمّا قيام الليل فهو فرض وإنما على القادر عليه ، ولذلك قيل فى مدة القيام ربما نصف الليل ، أو أقل أو أكثر ، وربما الثلثان أو الثلث ، فعلى الموسع قدره ، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، وقد يصلى ثلاث ركعات ، أو أربعا ، أو خمسا ، أو ستا ، أو سبعا ، أو ثمان ، أو تسعا ، وقد صلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل ذلك حتى إحدى عشرة ركعة ، وثلاث عشرة ... إلخ. ويروى عن عائشة قولها : كنت أجعل للنّبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حصيرا يصلى عليه من الليل ، فتسامع الناس به ، فلمّا رأى جماعتهم كره ذلك ، وخشى أن يكتب عليهم قيام الليل ، قال : «أيها الناس اكلفوا من الأعمال ما تطيقون ، فإن الله لا يملّ من الثواب حتى تملوا من العمل ، وإن خير العمل أدومه وإن قلّ» ، يعنى فمن كان يستطيع أن يقوم الليل فليفعل ذلك بأى عدد يقدر عليه ، فالمهم أن يأخذ نفسه بما تستطيعه ، وأن يداوم عليه ، والله تعالى يثيب كلا على قدر تعبّده. وأما قراءة القرآن فنفهم أنها فرض كذلك ، ولكل أن يقرأ على قدره ، والمهم أن يقرأ (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) ، ومطلق الأمر فى السورة على وجوب القراءة ، ووجوب القراءة ، يعنى وجوب حفظ ما يتيسر منه ، وبذلك يعى المسلم لما ذا القرآن معجز ، وأنه كتاب محيط ، ويلمّ بدلائل وجود الله ، ودلائل قدرته ومنصرفات هذه القدرة ، ومعنى أسمائه ، ويعرف عن رسالات الرسل ، وأقل ما يجب على المسلم أن يحفظه ثلاث آيات ، وهو مقدار أقصر سورة منه ، ليمكنه أن يقيم بها صلاته ، والوجوب إطلاقا أن يكون بوسعه أن يقرأ القرآن كله وأن يعاود القراءة بانتظام ، لأن الله قد يسّره على العباد ، أو أن يتمرّس بقراءة ثلثه ، أو أكثر من ذلك أو أقل. ومن فقه ذلك أن الأمىّ الذى لا يقرأ ولا يكتب ، إيمانه ناقص ، لأنه لن يستطيع أن يقرأ القرآن أو بعض آياته ، ولن يكون بوسعه أن يرتله ترتيلا

٧٥٤

كما جاء فى السورة. وربما يفهم أن التلاوة تكون فى الصلاة ، والقراءة تكون فى غير الصلاة ؛ والتلاوة والقراءة كلاهما له أصوله ، والتلاوة تكون عن تمهل وفهم وتدبّر ، وربما كان المقصود بالقراءة ، المصاحبة للصلاة ، وكانت عائشة تقول : كان النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ السورة فيرتلها ، حتى تكون أطول من أطول منها. وعن أنس عن قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : كانت مدا ، ثم قرأ «بسم الله الرحمن الرحيم» يمدّ بسم الله ، ويمدّ الرحمن ، ويمدّ الرحيم. وعن أم سلمة عن قراءته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالت : كان يقطّع قراءته آية آية ، يقول مثلا : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (٤). وفى الحديث عن تحسين الصوت بالقراءة : «زيّنوا القرآن بأصواتكم» ، و «ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن». وعن ابن مسعود قال : «لا تنثروه نثر الرمل ، ولا تهذوه هذّ الشعر. قفوا عند عجائبه ، وحرّكوا به القلوب ، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة». وفى قوله : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) (٥) هو العمل به ، أو أن القرآن له عظمة تثقل به وقت نزوله ، وعن زيد بن ثابت قال : أنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفخذه على فخذى ، فكادت ترضّ فخذى. وفى قوله : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) (١٠) ، «ما يقولونه» هو السبّ والاستهزاء فلا يجزع من قولهم ، ولا يمتنع من دعائهم ، ولا يتعرض لهم ، ولا يشتغل بالتفكير فى محاربتهم. و «الهجر الجميل» هو الذى لا عقاب معه. وقوله : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ) (١١) فيه أن المكذبين هم الأغنياء ، وفى القرآن يأتى التكذيب لله تعالى مترافقا مع «الترف» ثمانى مرات ، ويأتى التحذير من الغنى الذى يحرّض على الإنكار والمكابرة ست مرات.

وتحفل سورة المزمل بالمواعظ والدروس والعبر ، وتثير الكثير من الأسئلة ، ومن ذلك الآية : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (١٩) ، فليست سورة المزمل وحدها التذكرة وإنما القرآن كله تذكرة ، والقرآن كله كالسورة الواحدة ؛ و «السبيل» : هى طريقة الإسلام التى بها ينال رضا الله ورحمته ؛ وقيل إن هذه الآية ، وكذلك قوله : (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) (المدثر ٥٥ ، وعبس ١٢) ، نسختها «آية السيف» التى تقول : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (التوبة ٥) ، والصحيح أنه لا نسخ هناك ، لأن آية المزمل خاصة بالإيمان ، وتخيّر الناس بين التصديق أو الإنكار ، بعد أن أظهر الله لهم الحجج والدلائل ، وأما «آية السيف» التى أطلقوا عليها ذلك الاسم بهتانا ، فتحضّ على قتال المشركين بعد الأشهر الحرم ، بعد أن ثبت أنه لا عهد لهم ولا أمان معهم. وفى سبب تسمية «آية السيف» بذلك الاسم ، أن ابن عباس قال فيها : أمر الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يضع السيف فيمن عاهد إن لم

٧٥٥

يدخلوا فى الإسلام». فبسبب التعبير «يضع السيف» سميت بآية السيف. ودليل بطلان القول بأن قتلهم كان على إطلاقه ، ولم يكن له أسبابه من نقضهم العهود ، أن الآية : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) (محمد ٤) جاءت بعدها وتحضّ على قتال الكفار ، ولكنها تقرّ بأن يكون هناك أسرى ، وللمسلمين بعد الحرب ، إن شاءوا منّوا عليهم وأطلقوا أسرهم مجانا ، وإن شاءوا فادوهم بالمال ، وإن شاءوا قتلوهم ، وهذا الحكم مشرّع لحالة الحرب وحدها إلى أن تضع الحرب أوزارها. وعلى ذلك فإن آية سورة المزمل التى تقول : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (١٩) لم تنسخها آية أخرى كما يدّعى البعض ، يعنى أن سورة المزمل تؤكد حرية الناس أن يؤمنوا أو يكفروا ، فلا إكراه فى الدين. وكغيرها من سور القرآن لها جمالياتها ، ففيها من السجع المرصّع ، أمثال : «قليلا ، وترتيلا ، وثقيلا ، وقيلا ، وطويلا ، وتبتيلا ...» إلخ ؛ ومن الطباق ، أمثال : «المشرق ، والمغرب ، واللّيل والنّهار» ؛ ومن الجناس ، أمثال : أرسلنا الرسولا ؛ ومن التأكيد للتبيين والإيضاح ، أمثال : «رتّل ترتيلا ، وتبتّل تبتيلا» ؛ ومن الاستعارة أمثال : (وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) ولله الحمد والمنّة ، وهو الموفّق للصواب.

* * *

٦٥٦. سورة المدّثر

السورة مكية ، نزلت بعد المزمل ، وترتيبها فى المصحف الرابعة والسبعون ، وفى التنزيل الرابعة ، وعدد آياتها ست وخمسون ، وتتحدث عن بعض أمور الرسالة فى ابتدائها ، واعتراضات المعترضين عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما ينتظرهم من العقاب والعذاب ، فكل نفس بما كسبت رهينة ، ولا تنفع شفاعة الشافعين. وفى مناسبة تسمية السورة أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بعد تكليفه فى حراء (بكسر الحاء) ، فتر عنه الوحى لمدة ورآه بعدها عند ما كان يهبط يوما إلى بطن الوادى ، فتملكه الخوف لدى رؤيته ، وذهب إلى زوجته خديجة يقول لها : «دثّرونى وصبّوا علىّ ماء باردا». فنزلت : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) (٧). وفى رواية أخرى أن الوليد بن المغيرة ، أحد زعماء قريش وزنادقتها ، وكان يعادى الإسلام ويبغض الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، جمع قريشا على طعام وقال لهم : إن الناس يأتونكم أيام الحج فيسألونكم عن محمد ، فتختلف أقوالكم فيه ، فيقول هذا : كاهن. ويقول هذا : شاعر. ويقول هذا : مجنون. وليس محمد يشبه واحدا مما يقولون ، ولكن أصلح ما يقال فيه : «ساحر» ، لأنه

٧٥٦

يفرّق بين المرء وأخيه ، والزوج وزوجته! ـ وفى رواية أخرى أن قريشا لمّا سألها المغيرة عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال بعضهم هو «ساحر» ، ونفى بعضهم أن يكون ساحرا. وقال بعضهم هو «كاهن» ، ونفى بعضهم أنه كاهن. وقال بعضهم : هو «شاعر». ونفى بعضهم أنه شاعر ، وقال بعضهم : هو «مجنون». ونفى بعضهم أنه مجنون. واجتمعوا آخر الأمر على أنه ساحر يؤثر ، وحضّهم المغيرة أن لا يقولوا إلا ذلك. وسمع النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما دبّروا وأجمعوا ، فحزن ، وقنّع رأسه ، وتدثّر ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) (٧). ومعنى (قُمْ فَأَنْذِرْ) : لا تفكر فى قولهم وبلّغهم الرسالة. وكان رفضهم لكل الصفات إلا صفة السحر ، لأنهم علموا أن كل هذه الصفات لا يمكن أن تجتمع لشخص واحد ، فسمّوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم باسم واحد يجتمعون عليه وتأخذه العرب عنهم. وقيل : إن الذى جمع العرب هو عتبة بن ربيعة ، وهو الذى أذاع عنه أنه ساحر. وقيل : إن المجتمعين كانوا : أبا لهب ، وأبا سفيان ، والوليد بن المغيرة ، والنضر بن الحارث ، وأمية بن خلف ، والعاص بن وائل ، ومطعم بن عدىّ. وكان اعتراض الوليد أن كلام محمد لا يشبه كلام أحد من الشعراء ، ولا يشبه كلام الكهنة ، وقال : لأن الكاهن يصدق ويكذب وما عرفنا أن محمدا قد كذب من قبل ، ولا يشبه كلام المجانين ، لأن المجنون يخنق الناس ، وما خنق محمد أحدا قط.

والمدّثّر من دثره بالثوب ، وتدثّر وادّثر ، يعنى اشتمل به وتلفف ، فهو متدثّر ومدّثّر ، والدثار هو الثوب الذى يستدفأ به ويتغطّى به النائم. والمدثر فى الآية تعنى : أنه تدثّر بالنبوة وركن إلى تكليفه بها دون أن يبذل جهدا فى إبلاغ الناس بمضمونها ، فما كان قد نهض بعد بالرسالة ، وكان فى بداية عهده بها ، ولم يتمكن من فهم أبعادها ولا مراميها ، فكان يحتاج إلى مثل هذه السورة يتفهم عنها ما سيبلّغه. والمقصود بالخطاب هو النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وليس المدثر اسما من أسمائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينادى به ، ولكنه وصف لحاله ، ونودى به على سبيل الملاطفة والمؤانسة ، كندائه فى سورة المزمّل فى الآية : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) (١) ، وكما فى نداء النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلىّ بن أبى طالب : «يا أبا تراب» ، وكان قد غضب من زوجته فاطمة فنهض مسرعا يريد الخروج ، فانسدلت عباءته من فوق كتفيه على الأرض وأصابها التراب ، فناداه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا النداء ليستشعر اللين. ومثله نداؤه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حذيفة : «يا نومان» لمّا استغرقه النوم ولم يدر بنفسه ، فأيقظه بهذا النداء إشعارا لترك العتب والتأنيب. وقوله تعالى : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) (٣) أى عظّم ، وقد صار هذا اللفظ بعرف الشرع فى تكبير العبادات بقوله : «الله أكبر» ، وقام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا نزلت : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) (٣) وقال :

٧٥٧

«الله أكبر» ، فكبّرت خديجة. وقوله : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) (٤) المراد بالثياب على الظاهر : الملابس ، وعلى المجاز العمل ، أو القلب ، أو النفس ، أو الجسم ، أو الأهل ، أو الخلق ، أو الدين ، أو ذلك كله. وقوله : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) (٦) يعنى لا تمتن على ربّك أو على الناس ، تستكثر من الخير ، أو الأجر ، أو الثواب ، أو تستكثر بعملك. وقوله : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) (١١) من أكمل العبارات فى الوعيد والتهديد ، ومعنى «وحيد» أنه لم يكن شيئا حين خلقه ، ولم يكن له مال ولا ولد ، ثم أعطاه كل ذلك فما شكر ولا حمد. والآيات من ١١ حتى ٢٩ كلها عن الوليد بن المغيرة ، وماله الوفير ، وأولاده الكثر وكانوا ثلاثة عشر ، ومنهم خالد بن الوليد ، وأطماعه فى الزيادة ، وعناده ، وكفره ، وما ينتظره من العذاب ، وكان وصفه تعالى فى الآيات من ١٨ حتى ٢٥ من أروع ما قيل فى التفكير والتبييت ، قال : (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) (٢٥) ، فالوليد فكّر فى شأن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهيّأ فى نفسه ما يقول عنه ، ولقد قدّر ما قدّر ، قاتله الله ولعنه ، وتدبّر ما يردّ به الحق ويدفعه ، وقطّب بين عينيه فى وجوه الناس ، وكلح وجهه ، ووقف لا يتقدم ولا يتأخر ، ثم ولّى وأعرض ، وتعظّم أن يؤمن ، واستكبر على النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال : إن هذا الدين ليس إلا سحرا يؤثر» ، و «السحر» إظهار الباطل فى صورة الحق ، و «يؤثر» يعنى يرويه الناس عن بعضهم البعض ، و «ما هو إلا كلام بشر» ، يقصد بذلك أنه من وحى من يدعى سيارا ، كان عبدا لبنى الحضرمى ، وكان يجالس النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنسبوا إليه أن سيارا كان يعلّمه ، وقيل كان الكاهن عدىّ الحضرمى هو الذى يلقنه.

وفى السورة تأتى أوصاف «سقر» الموعود بها الوليد وأصحابه ، وفتنة العدد تسعة عشر ، وهو عدد خزنة جهنم ، وقال أبو جهل لقريش استهزاء : «أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم! وقال أبو الأسود بن كلدة الجمحى : لا يهولنكم التسعة عشر! أنا أدفع بمنكبى الأيمن عشرة من الملائكة ، وبمنكبى الأيسر التسعة ، ثم تمرون إلى الجنة. وقال الحارث بن كلدة : أنا أكفيكم سبعة عشر واكفونى انتم اثنين! ـ والحق أن هذا العدد قيل اختبارا لتصديق المؤمنين ليستوثقوا من كتابهم القرآن ، وليتأكد أهل الكتاب أن القرآن من لدن الله ، وما كان هذا العدد تسعة عشر إلا مثلا ، والأمثال يجد فيها الكافرون فرصتهم فى التقوّل ، ويطمئن بها المؤمنون ، والقول فى عدد خزنة جهنم من الغيب ، وجنود الله لا يعرف عددهم إلا هو ، وما جعل الله هذا العدد تسعة عشر إلا فتنة للذين ضلّوا ليزدادوا ضلالا ،

٧٥٨

والفتنة ذكرى للناس وعظة لهم وتذكرة ، وهؤلاء الضالون أعرضوا عنها كالحمر النافرة ، يريد كل منهم أن يؤتى بكتاب وحده ليقتنع ، وفى الرواية أن أبا جهل قال للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا محمد! ايتنا بكتب من ربّ العالمين مكتوب فيها : إنى قد أرسلت لكم محمدا!! وقال ابن عباس : كان أهل قريش يطلبون من النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن كان صادقا أن يأتى كل رجل منهم صحيفة فيها براءته وأمنه من النار! فلم يكونوا يقدرون على الاتّعاظ والتذكّر ، ولو فعلوهما لوجدوه تعالى أهلا للتقوى والمغفرة ، وفى الحديث عند الترمذى : «قال الله تبارك وتعالى ، أنا أهل أن أتّقى ، فمن اتّقانى فلم يجعل معى إلها فأنا أهل أن أغفر له».

وفى السورة الكثير من وجوه البيان والبديع ، ومن ذلك الاستفهام للتهويل كقوله تعالى : (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ) ؛ والسجع المرصّع فى مثل قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) ، و (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) ؛ وقوله : (إِذْ أَدْبَرَ) يرجّح كثيرون أنه (إِذْ أَدْبَرَ) لأنه أكثر موافقة للحروف التي تليه : (إِذا أَسْفَرَ) ، فكيف يكون أحدهما (إِذْ) والآخر (إِذا)؟ وليس فى القرآن قسم تعقبه (إِذْ) وإنما يتعقبه (إِذا). ومن وجوه البيان بخلاف ما سبق : الطباق كما فى : «عسير ويسير» ، و «تقدّم وتأخّر» ؛ والمقابلة كما فى : (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) ؛ والتقريع الجميل ، كما فى الآية : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) ؛ والتشبيه كما فى قوله : (مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) ؛ والجناس كما فى (نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) إلى آخر ذلك من وجوه جمال الأسلوب القرآنى ؛ وأسلوب التأكيد فى قوله : (كَلَّا وَالْقَمَرِ) ، وجاءت الصورة فى القسم بالقمر فى ساعات الليل الأخيرة ، والصّبح يقارب الإسفار ، غاية فى الجمال ، ولها التأثير الوجدانى المطلوب للإحساس بهول النار بعد ذلك مباشرة ووصف القرآن لها بأنها إحدى الكبر ، أى العظائم. وأصحاب اليمين مصطلح قرآنى ، وهم أصحاب الحقّ وأهل الإيمان ، وغيرهم «المرتهنون» ، وهو مصطلح آخر ، يعنى بهم الذين يدخلون فى «الرهن» ، كقول تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (٣٨) أى «مرتهنة» بكسبها ومأخوذة بعملها ، فإما يخلّصها عملها وإما يوبقها ، باستثناء أصحاب اليمين ، فهؤلاء لا يرتهنون بذنوبهم ، وفى قوله : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) (٤٨) يقصد بهم المرتهنون ، وقيل إن هذه الآية دليل على صحة الشفاعة للمذنبين من أهل التوحيد ، ولا شفيع يشفع للمكذّبين. فذلك وأمثاله كثير ، هو بعض ما فى هذه السورة العظيمة من معان كبيرة ، ووجوه للجمال رائعة.

* * *

٧٥٩

٦٥٧. سورة القيامة

السورة مكّية ، وآياتها أربعون ، وترتيبها فى المصحف الخامسة والسبعون وفى التنزيل الواحدة والثلاثون ، وكان نزولها بعد القارعة ، ومثلها مثل الكثير من السور المكّية تتناول وصف يوم القيامة ، ولذا كانت تسميتها سورة القيامة ، وهو يوم من أيام الله الكبرى ، بل هو قمة هذه الأيام ، ولذا أقسم به مع أنه غيب ، وقرن الغيب بالحاضر ، وأقسم بالنفس اللوامة وهى أخصّ خصائص الإنسان ، ورمز للأخلاق ، وهى حاضر الإنسان ، وفى الطبوغرافية النفسية هى الضمير أو الأنا الأعلى ، فإن قلنا إنها الضمير فإنها من ضمر أى ستر ، لأن النفس مستورة تدرك عقلا ولا ترى بصرا ، وإن قلنا إنها الأنا الأعلى ، فلأن الجهاز النفسى أقسام ، أدناه الهوId المنوط به الغرائز ، وأوسطه الأناEgo المنوط به الحاضر ، وأعلاه الأنا الأعلى Superego ، وهو هذه النفس اللوامةThe upbraiding self ، تلوم صاحبها على الخير لم لم يستكثر منه ، وعلى الشر لم فعله؟ وقيل اللوامة بمعنى اللائمة وهى صفة مدح ؛ أو بمعنى الملومة ، أى المذمومة ، وهى صفة ذمّ ، وهذا المعنى الأخير هو الذى أخذ به المستشرقون من أمثال : مكدونالد ، وفريد لاندر ، ولا نداور ، وقد أخطئوا وترجموهاthe commanding ـ to ـ evil ـ self ، يعنى النفس الأمّارة بالسوء ، وهى بخلاف النفس اللوّامة! والأولى : شرّيرة ؛ والثانية : مؤمنة ، وتوّابة ، ومنيبة ، وشتّان ما بين الاثنتين! ولكنه جهل المستشرقين فما ذا نقول فيه؟! والسورة من أكثر السور احتفالا بالتحليل النفسى ، وبها الكثير من وجوه جمال الأسلوب وبديع البيان ، ومن ذلك الاستفهام الإنكارى كقوله تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) (٣) ، يقصّد به التوبيخ والتقريع ، وهو جواب القسم بيوم القيامة وبالنفس اللّوامة ، يقول سنجمع عظامه للبعث. والآية نزلت فى عدىّ بن ربيعة ، قال للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : حدّثنى عن يوم القيامة متى يكون؟ وكيف أمر القيامة وحالها؟ وقال : لو عاينت ذلك اليوم يا محمد لم أصدقك ، ولم أو من به! وقال : أو يجمع الله العظام؟! ولهذا كان النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو : «اللهم اكفنى جارىّ السوء ـ عدىّ بن ربيعة ، والأخنس بن شريق». وقيل : بل نزلت فى أبى جهل حين أنكر البعث بعد الموت. وكانت الآية : (بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) (٤) هى الردّ على سؤال عدىّ ؛ وقوله «بلى» من جماليات السورة ، وهى وقف حسن بمعنى نحن قادرون ؛ وتسوية البنان حجة على قدرة الله ، ونبّه بالبنان على بقية الأعضاء ، والبنان أصغر عظام الإنسان ، يقول : بلى قادرين على أن نعيد السلاميات على صغرها ونؤلف بينها حتى تستوى ، ومن يقدر على هذا فهو على جمع العظام الأكبر منها أقدر. وفى العلم الحديث : كشف أن البنان به تجاويف وخطوط على شكل أقواس أو عراو أو دوامات ، وبهذه التجاويف لا يشبه

٧٦٠