موسوعة القرآن العظيم - ج ١

دكتور عبد المنعم الحفني

موسوعة القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

دكتور عبد المنعم الحفني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
ISBN: 977-208-442-2
الصفحات: ١٢٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

وفيهما الفاكهة من جميع الألوان ، جزاء لكل من خاف قيام ربّه واطّلاعه عليه ، ولمن همّ بالمعصية فتذكّره تعالى فتركها خوفا منه. وفى الجنتين فرش من الديباج ، وثمر الشجر دان عليهم ، وعلى الفرش نساء بكر محتشمات حيّيات ، شديدات الجمال والصفاء ، حتى لكأنهن الياقوت والمرجان فى الصفاء والبياض ، وهذا بعض إحسان الله للمحسنين ، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ ومن دون هاتين الجنتين جنتان أخريان ، فيهما العيون الفوّارة ، والفاكهة ، والنخل والرمان ، ونساؤهما خيّرات ، ليس أحد فى حسنهن ، فعيونهن حور ، وتسترهن الخيام ، تفرشها البسط الخضراء ذات الحواشى والرفارف ، وذلك فضل الله يؤتيه المحسنين ، فهل بعد ذلك من عذر أو حجة للتكذيب والجحود والنكران؟ وهكذا نأتى إلى ختام السورة ، بأحسن كلام فى الله تعالى وتمجيده والثناء عليه ، بقوله تعالى : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٧٨) أراد به اسمه الرحمن الذى ابتدأ به السورة ، كأنه يعلّم أمة محمد : أن كل هذا الخلق كان خروجه من رحمة الله ، فمن رحمته أنه خلقنا وخلق السموات والأرض ، وخلق الخلق والخليقة ، والجنة والنار ، وكل ذلك من اسمه «الرحمن» يثنى بكل ذلك على نفسه ، ثم قال إضافة لاسمه «الرحمن» (ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) ، لأنه الجليل فى ذاته ، والكريم فى أفعاله. فله الحمد والمنّة.

* * *

٦٣٨. سورة الواقعة

السورة مكية ، قيل : إلا الآية : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) (٨٢) ، وقيل : إلا أربع آيات ، منها الآيتان : (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) (٨٢) نزلتا فى سفره إلى مكة ، والآيتان : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) (٤٠) ، نزلتا فى سفره إلى المدينة من مكة ، والصحيح أن السورة كلها مكية ، وآياتها ست وتسعون ، وترتيبها فى المصحف السادسة والخمسون ، وفى التنزيل السادسة والأربعون ، وموضوعها : القيامة وما يتلوها ، واسم القيامة فى السورة هى الواقعة ، من استفتاح السورة بقوله تعالى : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) (١) ، أى إذا قامت القيامة ، وهى واقعة حتما ، وجواب إذا : (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) (٢) ، يعنى وليس من شىء يكذّب أنها ستقع. ولأنها واقعة سميت بهذا الاسم ، كتسميتها فى سور أخرى الصاخة لأن لها دويا يصخّ الآذان ؛ والآزفة : لأنه قد أزف موعدها وحان ؛ والطامة : لأنها تطمّ على كل شىء مفظع.

وتتكون السورة من تسعة مشاهد أو أجزاء ، تنضم معا وتكوّن وثيقة مستندية لأوصاف يوم القيامة ، فمن أراد أن يعرف عن وقائع هذا اليوم ، وفئات الناس فيه ، وأنباء أهل

٧٠١

الجنة ، وأهل النار ، وأهل الدنيا ، فهذه السورة فيها أو فى بيان ؛ واسمها كذلك الخافضة الرافعة : لأنه بالقيامة يخفض أقوام كانوا فى معصية الله فيلقون فى النار ودركاتها خفيضة ، وكان هؤلاء فى الدنيا مرفوعين ، فيخفضون بالعدل ؛ ويرفع أقوام كانوا فى طاعة الله ، وكانوا فى الدنيا مخفوضين ، فيرفعون بالعدل والفضل ، والخافض والرافع فى الحالتين هو الله ، يخفض على الحقيقة ، والخافض والرافع من أسمائه تعالى ، وهو يخفض المنكرين له إلى أسفل سافلين ، ويرفع أولياءه إلى أعلى علّيين وفى القسم الأول ترجّ الأرض رجّا ، وتزلزل يوم القيامة ، وينكسر كل شىء عليها من جبال وغير جبال ، وتبسّر وتتفتت ، وينسفها الله تعالى نسفا حتى لتصير كالهباء المنبث ، وكالغبار والشرار المتطاير. وفى القسم الثانى : نعلم أن الناس فى هذا اليوم ثلاث فئات أو طوائف : ففئة هم أصحاب الميمنة : يؤخذون ذات اليمين إلى الجنة ، ويؤتون كتابهم بيمينهم ، وهم الميامين على أنفسهم بالأعمال الصالحة ، وأهل الحسنات ، وأصحاب التقدّم ؛ وفئة أصحاب المشأمة : وهم المشائيم على أنفسهم بالأعمال السيئة ، يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار ، ويؤتون كتابهم بشمالهم ، وهم أصحاب التأخر ، وزاد فى وصف هؤلاء وهؤلاء فقال : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) (٩) ، والتكرير فى الآية الأولى للتفخيم ، وفى الثانية للتفظيع ، ولتعجيب السامع من شأن الفريقين أو الفئتين ، فى الفخامة والفظاعة ، كأنه يقال : فأصحاب الميمنة فى غاية حسن الحال ، وأصحاب المشأمة فى غاية سوء الحال ، والمقصود تكثير ما لأصحاب الميمنة من الثواب ، وما لأصحاب المشأمة من العقاب. والفئة الثالثة هى فئة السابقين : كرر الله تعالى السابقين فقال : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (١١) ، وكأن المعنى : والسابقون ويا ما شاء الله على السابقين ، أولئك المقربون إلى الله ، فى ظل جواره وفى ظل عرشه ، وفى دار كرامته ، وهم الذين إذا أعطوا الحق قبلوه ، وإذا سئلوه بذلوه ويحكمون للناس كحكمهم لأنفسهم ، وكانوا السابقين إلى الإيمان ، وإلى الصلوات ، والجهاد ، وإلى التوبة ، وهم من أمة الإسلام أمثال أبى بكر ، وعمر : (يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ) (٦١) (المؤمنون) ، (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) (التوبة ١٠٠). والناس ثلاثة : فرجل ابتدأ بالخير فى حداثة سنّه وداوم عليه حتى خرج من الدنيا ، فهذا سابق مقرّب ؛ ورجل ابتدأ عمره بالذنوب وطالت غفلته ، ثم رجع بتوبته حتى ختم له بها ، فهذا من أصحاب اليمين ؛ ورجل ابتدأ عمره بالذنوب ، ولم يزل عليها حتى ختم له بها ، فهذا من أصحاب الشمال. وفى السورة تأخر ذكر السابقين وتقدّم ذكر أصحاب اليمين ، وكان الأولى أن يتقدم ذكر السابقين ، ويذكرهم

٧٠٢

أولا ، إلا أن السورة بدأت بمشاهد يوم القيامة تخويفا للناس ، فجعلهم لذلك إما محسنين فيزدادون رغبة فى الثواب ، وإما مسيئين فيرجعون عن غيّهم ، فقدّم أصحاب اليمين ليسمعوا ويعوا ويرغبوا ، ثم ذكر أصحاب الشمال ليرهبوا ، وبعد ذلك ذكر السابقين ، لأن هؤلاء لا يرهبهم يوم الفزع الأكبر ، ولا يحزنهم ، ولا يكدّرهم ؛ ولأنهم بذكره ينبسطون ، وتنشرح له صدورهم ، وتبتهج قلوبهم ، لما ينتظرهم من جوائز الله ، وهم (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) (١٣) ممن مضى من الأمم السابقة ، (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) (١٤) من أمة محمد ، كانوا قلة بالإضافة إلى من كانوا قبلهم ، فمن سبقوا زمنيا كان أنبياؤهم كثيرين ، فكثر السابقون إلى الإيمان بهم ، فزادوا على عدد من سبق إلى التصديق من أمة محمد ، وفى الحديث : «إنى لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ، بل ثلث أهل الجنة ، بل نصف أهل الجنة ، وتقاسمونهم فى النصف الثانى» ، فالأمر سباق بين الأمم إلى طاعة الله ، وفى السباق هناك المتقدّمون والمتأخرون ، والسابقون من الأمم كافة يكونون أكثر من السابقين من أمة واحدة ، وأما أصحاب اليمين من هؤلاء وهؤلاء فهم متساوون : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) (٤٠) ، وقيل بل الثلتان من أصحاب اليمين ، ومن السابقين من أمة محمد ، فمنهم من هو فى أول أمته ، ومنهم من هو فى آخرها ، مثل قوله : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) (فاطر ٣٢). وفى الحديث : «خيركم قرنى». والثلّة : من ثللت الشيء ، أى قطعته ، فمعنى ثلة كمعنى فرقة. وتستطرد السورة فى القسم الثالث إلى وصف نعيم السابقين ترغيبا لأهل السبق ، وجنّتهم التى خصصت لهم هى جنة النعيم ، والجنات أنواع ؛ وسررهم أو مجالسهم فيها موضونة ، أى منسوجة ومرمولة بخيوط الذهب ؛ يجلسون متقابلين ويخدمهم ولدان لا يكبرون فى السن ولا يشيخون ، ويشرف على خدمتهم حور عين ، واسعات العيون ، فى غاية الجمال والبهاء ، كأنهن اللؤلؤ فى الصفاء والنقاء ، يطوفون بأكواب وأباريق وكئوس ملؤها الخمر ، يجلبونها من العيون ، فلا تستخرج بعصر وتكلّف كخمر الدنيا ، ولا تنصدع بها الرءوس ، ولا تذهب العقول ، ويقدّمون لهم الفاكهة مما يحبون ويختارون ، ولحم مما يشتهون من الطيور ، جزاء ثوابا بما كانوا يعملون. وفى جنة النعيم لا لغو ولا تأثيم ، ولا باطل ولا كذب ، إلا قيلا سلاما ، فيردّ السامع يقول : سلاما ـ فهذه تحيتهم ، وهكذا تحييهم الملائكة. وفى الجزء أو المشهد الرابع : تقارن السورة بين أحوال السابقين وأحوال أصحاب اليمين ، والأخيرون ظلّهم ممدود ، أى دائم وباق لا تنسخه شمس ؛ ويشربون الماء الجارى المسكوب ؛ وفواكههم كثيرة لا تنقطع كانقطاع فواكه الدنيا فى الصيف والشتاء ، ولا يحظر بعضها ويباح بعضها ؛

٧٠٣

وأشجار السدر المخضود والطلح المنضود فى كل مكان ، والأول هو النبق لم يعد له شوك ، والثانى هو الموز المتراكب بعضه فوق بعض ؛ وفرشهم أو مجالسهم مرفوعة ، وتطوف عليهم جميلات ، عرب بسّامات لطيفات ، أتراب متشابهات فى السن. ثم تأتى المقارنة بين جزاء السابقين وجزاء أصحاب اليمين ، وجزاء أصحاب الشمال ، وفى الجزء أو المشهد الخامس : الأخيرون ظلهم من يحموم وهو الدخان الأسود ، وتلفحهم رياح السموم الحارة تدخل فى المسام ، ويسقون من حميم يحرق الكبد بحرارته وغليانه ، لا هو بارد ولا كريم ، كقوله : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) (الزمر ٦) ، وهؤلاء كانوا فى الدنيا مترفين ، وويل للمترفين المتنعّمين ؛ وفى القرآن تأتى المترفون ثمانى مرات ، يتوعّدهم الله فيها جميعا ، وعندهم ما ثم غير الحنث العظيم ، أى الشّرك ، وليس من مترف إلا وفى قلبه شك وكفر بالآخرة والبعث والحساب ، وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ومن بعده أصحاب البلاغ والدعوة من أمة الإسلام ـ يقسم لهم كمقابل لقسمهم أو حنثهم بالباطل ، بأنهم مجموعون لهذا اليوم المعلوم ، وعندئذ يعذّبون ، وبدلا من طعام الدنيا المترف سيكون طعامهم شجرة الزقوم ـ أنتن وأبغض أنواع الشجر ، قيل يزقم أو يزكم الأنوف من رائحته الكريهة ، وليس لهم من طعام إلا لحاء هذه الشجرة ، يعضّون عليه ويملئون منه بطونهم حتى الشبع ، فلا يجدون لظمئهم إلا ماء الحميم المغلى ، يعبّونه كالحيوانات الهيم العطاش. وهكذا تنتهى هذه الأجزاء الخمسة من السورة ، وقد استنفدت وصف المنازل الثلاثة للفئات الثلاث يوم القيامة.

ثم يكون الجزء السادس : ويعالج أدلة وبراهين وجود الله وقدرته ، يسوقها حتى لا يكون هناك عذر لمعتذر : ويبدأ الحجاج فى هذا الجزء بعبارة منطقية تحتمل التكذيب والتصديق ، فقال تعالى : (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) (٥٧) ، إلا أن منطق الحال فى الكون يقضى بصدق العبارة ، لأنه إن لم يكن لهذا الكون خالق ، فكيف إذن كان الكون؟ هل خلق نفسه؟ فلا بد من التسليم بأن الخالق هو الله ولو ادّعى آخر بأنه الخالق لتشككنا فى الله ، ولكن لم يدّع آخر بأنه الخالق ، فلم يعد إلا التسليم بدعوة الله أنه الخالق. فلو صدّقنا ذلك ، فهلا صدّقنا أيضا بالبعث ، لأن الإعادة كالابتداء ـ وتترى الآيات بالحجج أنه تعالى الخالق ، وهى خمس حجج : الأولى حجة المنىّ : فهذا المنىّ الذى نشهده يصب فى الأرحام ، كيف جاء ، ومما خلق؟ أليس الخالق هو الله؟ ثم الحجة الثانية هى : حجة الموت والخلق ، فمن يستطيع أن يميتنا فى الحقيقة؟ أليس هو الله؟ ومن يخلق من يحل محلنا ويأتى بعدنا ، أليس هو الله؟ ألا يخلق الناس جيلا بعد جيل ، ونشأ بعد نشء ولم يكونوا من قبل شيئا؟ فلما ذا لا يستطيع أن يبعثنا من جديد؟ والذى أنشأنا النشأة الأولى قادر على أن ينشأنا النشأة الثانية! والحجة

٧٠٤

الثالثة هى : حجة الزرع ، فهل نحن الذين ننبت هذا الزرع ونخرجه سنابل وثمرا؟ فإذا أقررنا بأنه الله ، فلما ذا ننكر عليه أن يخرج الأموات من القبور؟ ولما ذا لا نعتقد بوجوده وقدرته وقد أخرج لنا الحبّ والثمر ، وكان بوسعه أن يفسدهما فنندم على ما كان منا ، وما غرمنا من النفقة وحرمنا من الثمرة ، كقوله تعالى : (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) (الكهف ٤٢). والحجة الرابعة : حجة الماء : وهو الذى به حياة النفوس ، فمن أنزله من السحاب؟ ولو يشاء الله لجعله مالحا ، ولكنه صنعه عذبا فراتا ليصلح للزرع والشرب ، فلو لا نشكره تعالى على هذه النعمة؟ والحجة الخامسة : حجة النار : والنار نوقدها وقتما نشاء ، فمن أنشأ وقودها؟ ومن سبّب أسبابها ووضع قوانين عملها واندلاعها ونشوبها؟ ولنار الدنيا هذه النار الصغرى خير برهان على وجود نار الآخرة أو النار الكبرى ، ثم إن نار الدنيا فيها فوائد ، فهى تبصرة للناس من الظلام ، ومتاع لهم فى الخبز والطبخ والاصطلاء والاستضاءة. فهذه خمس حجج على عظمة الله تعالى ، فلننزّهه ولنسبّحه باسمه العظيم. ثم يقسم تعالى بمواقع النجوم فى الجزء السابع ، يقول : «لا أقسم» تأكيدا للقسم ، وإثباتا لعظمة النجوم ، بمنازلها وأماكن دورانها فى أفلاكها ، وباجتماعها وانطراحها وانجذابها ، وبما يجرى فيها من تفجيرات نووية ، وما كانت عليه قبل أن تكون نجوما ، وما آلت إليه ، وأوضاعها فى السماء ، إن كانت للزينة أو كانت مخازن للعناصر ، ومضابط للحركة فى الكون والفضاء ، فكما أن النجوم ليهتدى بها فى ظلمات البرّ والبحر فكذلك القرآن يهتدى به على ظلمات الكفر ، والضلال ، والظلم ، والجهل ومن ثم كان كتابا كريما على ربّه ، وكريما على المؤمنين ، وكريما فى ذاته ، لما فيه من كريم الأخلاق ، وعظيم القيم والمعانى ، وإنه لمكنون محفوظ الأصل ، مصان عند الله تعالى ، لا تتنزّل به إلا ملائكة كرام بررة ، فيكتب فى الصحائف ، ويصنع مصاحف تقتنى لتقرأ ويتعلمها المتعلمون ، ويعوا ما فيها ويترسمونه معاملة وخلقا ، فالمصحف أيضا كتاب كريم ، لا يمسه ولا يقرأه إلا المطهّرون ، طهّروا أنفسهم من الأحداث والأنجاس ، وطهّروها من الشرك ، وآمنوا بآياته ، يتفهمون معانيها ويهتدون بتعاليمها ، ويوحّدون ربّهم ، فالتوحيد هو رسالة القرآن ومضمونه ، ومن لم يؤمن بالله فلن يفهم تفسير القرآن ، ولن يدرك تأويله. وينبّه الله تعالى إلى أن سورة الواقعة بما فيها من أحاديث لن تعجب الكافرين والمنافقين ، فهؤلاء لا يهوون الصراحة ، وصنعتهم النفاق ، يودّون أن يدهن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أى ينافق ـ فيدهنون ، وبدلا من أن يشكروا الله على ما أولاهم من نعم ، جعلوا شكره أن ينافقوا ويكذبوا ، ويحذرهم الله أن يحين أجلهم فحينئذ تبلغ الروح الحلقوم ، والأهل من حول الميت

٧٠٥

ينتظرون ولا يقدرون على شىء ، والله أقرب إليه ممن حوله ولا يبصرونه ، فإن كان المنكرون غير محاسبين ، ولن يجازوا بأعمالهم ، وإن كان بوسعهم أن يمنعوا أن يحاسبوا ، فإنهم قطعا يقدرون كذلك على أن يمنعوا موت أهليهم ، حتى لا تقوم قيامتهم ويحين حسابهم وتبدأ مجازاتهم؟ ولن يستطيعوا! فلا يتبقى لهم إذن إلا أن يتركوا الأمر ، لصاحب الأمر القادر عليه ، وأن يعلنوا عن إيمانهم بربّهم.

وتعود السورة فى الجزء الثامن إلى ما قالت به فى البداية ، وهو تقسيم الناس يوم القيامة إلى فئات ثلاث : ففئة المقربين : وهم السابقون لهم الرّوح أى الرحمة ، والريحان أى طيب الاستقبال وحسن الجزاء ، قيل : يلقون بعد الموت بأغصان الريحان المعروف ، وهو النبات طيب الرائحة ؛ وفئة أصحاب اليمين : وهؤلاء سالمون من العذاب ، ومنهم آل النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وفئة أصحاب الشمال : وهم المكذّبون الضالون ، وهؤلاء مشربهم من حميم ، أى الماء المغلى ، ويصلون الجحيم.

وتختتم السورة فى الجزء التاسع بحاشية على ما سبق : (إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) (٩٥) ، أى خالص اليقين ، أضاف الحق إلى اليقين ، كقولنا «عين اليقين» ، و «محض اليقين» ، من باب إضافة الشيء إلى نفسه لتوكيده ، فأضيف المنعوت إلى النعت على الاتساع والمجاز.

واليقين ضربان : فأما المؤمن فأيقن فى الدنيا فنفعه ذلك يوم القيامة ، وأيقن الكافر يوم القيامة حين لا ينفعه اليقين! فسبحانه ربّنا العظيم ، وعظنا بها فقال : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٩٦) ، ولمّا نزلت هذه الآية قال النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اجعلوها فى سجودكم» أخرجه ابن ماجة فسبحانه ، له الحمد والمنّة ، ونسأله تعالى أن يحيينا ويميتنا على الكتاب والسنّة ، اللهم آمين.

* * *

٦٣٩. سورة الحديد

السورة مدنية ، نزلت بعد الزلزلة ، وآياتها تسع وعشرون آية ، وترتيبها فى المصحف السابعة والخمسون ، وفى التنزيل المدنى الثامنة ، وفى التنزيل عامة الخامسة والستون ، واسمها «سورة الحديد» لقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) (٢٥) ، والحديد آية من آيات الله ، وهو تعالى قد شرع القتال ولا بد أن تكون له آلة ، وآلة القتال غالبا من الحديد ، ومنافعه كثيرة فى السلم كما فى الحرب ، ومنه تصنع الكثير من العدد والآلات ، وما من زراعة أو صناعة إلا والحديد يدخلها. والحديد أحد عناصر الشمس ، وقوله «أنزلنا» فيه إعجاز علمى لا شك فيه ، لأن الحديد هو المكوّن

٧٠٦

الرئيسى فى رماد النجوم ، ومنه ومن النيكل تكونت النيازك والشّهب ، وتكونت الأرض من حديد هذه النيازك ، وجوفها يسيل بالحديد والنيكل ، ويتألف كوكب عطارد من الحديد ، ويسمى لذلك الكوكب الحديدى. والحديد مفيد للصحة ، ويتحد بالبروتين ويكون هميوجلوبين الدم ، فالحديد إذن نعمة كبرى. وفى الآية أن الله تعالى أنزل على الإنسان أربع نعم كبرى : الأولى : الرسل أرسلهم بالشرائع ، ولو لا ذلك لعاش الإنسان بشريعة الغاب ، ولمّا عرفنا الحرام من الحلال ، ولا الجميل من القبيح ، ولكانت الحياة للأقوى والأشرس وليس للأصلح. ولو لا الرسل لما عرفنا عن الأخلاق والتربية ، ولا عرفنا عن الله ربّ الأكوان ؛ وما وحّدناه تعالى ؛ والثانية : الكتب السماوية التى نزلت بالحق ، وتعلّم الإنسان أن يكتبها صحائف ، ويصنعها مجلدات ، وتعلم القراءة ، والكتابة والحروف ؛ والثالثة : الميزان والعدل ، وبالميزان يمكن للعقل أن يزن الأمور ، وتأسس الاجتماع على العدل ، وقامت عليه المدنيات والحضارات ، ويرمز للعدل بسيدة معصوبة ، يعنى لا تعرف المحاباة. والعدل أساس الملك ؛ والرابعة : الحديد ، أنشأه وكل ما هو من جنسه من المعادن ، وأنزله الله إلى الأرض ، واكتشفه الإنسان. فلما كانت قوة القيم : بالرسل والكتب والميزان ، كانت القوة المادية لتظاهر قوة القيم وتدفع عنها ، والحديد فيه البأس ، أى الردع الشديد لمن يأبى الحق ويعانده ، وحينئذ يكون القتال والحرب ، فهما من شرعة الله ، وأساسهما الحديد ، ولذا كانت حقبة التاريخ التى تم فيها اكتشاف الحديد لاحقة لثبوت القيم ، فصنع الإنسان منه الفأس للزراعة ، والسندان والمطرقة للصناعة ، والسيف للقتال وجميعها قيم مادية تظاهر القيم معنوية فأى نعمة كبرى هى نعمة الحديد؟! فلا غرابة أن تسمّى به سورة كاملة. (انظر الحديد فى باب القرآن والعلم). وسورة الحديد من السور المسبّحات التى تستفتح بقوله تعالى : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١) والمسبّحات ثلاث سور ، هى : الحديد ، والحشر ، والصف. والحديد أولاها ، والتسبيح تذكير به تعالى ، ولفت للانتباه إلى أن الكون كله خاضع له ، يدبّره ويصرّفه ويسيّره على مقتضى إرادته. والتسبيح من السباحة وهى الانبساط والانتشار والإبعاد فى السير ، والمسبّح يمعن فى التفكير فيه تعالى ، فلا يملك إزاء عجائب ملكوته إلا أن يقول : سبحان الله!! تعجبا وتنزيها له تعالى عن كل نقص. والتسبيح ضربان : تسبيح دلالة ـ تقول : سبحان مالك الملك! سبحان الذى رفع السماء بلا عمد! سبحان مقلّب القلوب! تدلّ على صنعته تعالى ؛ وتسبيح مقال ـ تقول : سبحان الله وبحمده! سبحان ربّى العظيم! والتسبيح فى السورة من النوع الأول ، ويأتى فى ست آيات ، فيها : أنه تعالى العزيز الحكيم ، الذى له ملك السموات والأرض ، والذى يخلق من عدم ،

٧٠٧

فكان الله ولم يكن الكون ، وهو يميت ، والموت من عالم الشهادة ، ويبعث ، والبعث نشهده فى الأرض يحييها الماء ، فتضج بالمخلوقات والنباتات. وهو تعالى الأول : ليس قبله شىء ، والآخر : ليس بعده شىء ، والظاهر : لم يظهر عليه شىء ، والباطن : فليس وراءه شىء ، وهو وراء كل شىء ، وحقيقة كل شىء ، خلق السموات والأرض فى ستة أيام ، واليوم هو الوقت الاصطلاحى ، أو الوقت مطلقا ، من يمّم أى قصد وتوخّى ، فهو الوقت الذى يستغرقه إتمام القصد ، والأيام الستة قد تكون من أيام الأرض ، كناية عن سرعة خلقه تعالى للكون بقوله كن ، وقد تكون من أيام الآخرة ، كل يوم بألف سنة من سنين الأرض ، والعدد ألف يقال مجازا عن طول المدة ، والحقيقة أنه لا علم لنا بالمدة التى استغرقها الخلق ، فكلها أقوال تقريب الخلق العظيم من أفهام المخلوقين ، وهو فى الأول والآخر الخالق المبدع والعالم القادر ، سبحانه. والعرش هو الكون بأسره ، ما نعرف منه وما لا نعرف. والاستواء : هو التمكّن والسيطرة ، فصار الكون إليه ، وصار تدبيره عليه ، وتحقق علمه به ، وبما يلج ويعرج فيه ، وبما يتنزّل منه ، وهو فى كل مكان ، ومع كل إنسان ، والزمان من إبداعه ، والليل والنهار من اختراعه ، وخلق لهما أدواتهما من شمس وقمر ، وأرض وسماء ، وشروق وغروب ، وأحاط علمه بكل شىء ، ولا يخفى عليه ما فى الصدور ، ولا ما تتحدّث به النفوس ، وتحتشد له النوايا والسرائر. وبمثل ذلك بدأت السورة ، فكانت قمة فى التسبيح والتمجيد لله ، فأرشدت المؤمن الحائر ، ودلّت القلب الواعى ، فكأن هذا الجزء من السورة هو مقدمة للجزء الثانى عن دعوة الإسلام ، فى مثل قوله تعالى : (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) (٧) ، ليس لأن الله يحتاج إلى من يشهد له ، وإنما لأن فى الإيمان بالإسلام صلاح للبشرية وللأحوال فى الأرض ، والصلاح قوامه المال ، والمال يؤتيه الله من يشاء ويستخلفه فيه ، لينفقه صاحب المال فى الخير ، وربطت السورة بين الإيمان والإنفاق ، بقوله تعالى : (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) (٧) ، ونظرية الأجر من نظريات القرآن ، والأجر هو الثواب والعقاب على العمل ، ومن يجحد الثواب والعقاب جاحد لله ولتعاليم القرآن. والإنفاق من ركائز اشتراكية الإسلام ، وأساس هذه الاشتراكية أن المال لله ، وأن الإنسان مستخلف عليه ووكيل عن الله فيه. وقوله تعالى : (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٨) استفهام للإنكار والتوبيخ ، والآية فيها أن النبوة ضرورية لمعرفة الله ، ولسدّ حاجة الإنسان للشرائع ، وأن الإيمان طبع مركوز فى الإنسان ، وهو الميثاق : شدّ الله به وثاق الإنسان بنصب القدرة فيه على الاستدلال ، وأن يتفهم الحجج والبراهين فيتأكد من وجوده تعالى ، ويتوثّق من وحدانيته. والآية تحضّ

٧٠٨

الإنسان على أن يؤمن حالا وليس مستقبلا ، فإن كان به ميل للإيمان ، فليؤمن الآن وليس غدا ، والآن أحرى الأوقات لاستكناه الدلائل واستنباط البراهين ، ومهمة النبىّ : هى تبديد ظلمة الجهل بالله ودحض إنكاره ، وما يتلوه النبىّ من كتاب هو نور لأصحاب البصر والبصيرة. وليس لجحود الإنسان بالله من سبب سوى أن للإيمان تكاليف ، والإنسان لا يريد ديانة مكلّفة تستنفد منه المال ، مع أن هذا المال سيتركه إذا مات ليرثه غيره ، وكان الأولى به إذن أن ينفقه لصالح نفسه فى الدنيا والآخرة. وشتّان بين أن تؤمن وتنفق والإسلام لمّا ينتصر بعد ، ولا مطمع لك فى شىء ، ومنطق الحال يجزم أنك تنفق على قضية خاسرة وغير مضمونة ـ وبين أن تؤمن وتنفق بعد انتصار الإسلام وأنت متأكد مما سيأتيك من المغانم ، وكلا وعد الله الجنة ـ الذى أنفق من قبل والذى أنفق من بعد ، ولكن مع تفاوت الدرجات. وسمّى الله الإنفاق قرضا من الإنسان لله ، يردّه له مضاعفا يوم القيامة ، والنور يسعى بين أيدى المؤمنين والمنفقين فى طريقهم إلى جنة الخلد. وفى السورة وصف لجانب مما فى الآخرة من تمييز بين الجنة والنار يفصل بينهما سور ، باطنه من جهة المؤمنين المنفقين رحمة ، وظاهره من جهة المنكرين الأشحاء من قبله العذاب. وتحذر السورة المؤمنين أن يكون حالهم حال اليهود ، فلمّا نسوا الله قست قلوبهم وشاع بينهم الفسق ، وتحضّهم على التزوّد بتعاليم الله من القرآن ، وباتباع سنّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لتظل قلوبهم حيّة فلا تموت عنها الرحمة ، ومثل ذلك المطر ينزل على الأرض الميتة فيحييها ، وكذلك الإقبال على العلم والأخذ بالدين. وأبلغ ما تدعو إليه هذه السورة هو الإنفاق ، وإن شئت تصنيفها فهى سورة الإنفاق ، فكما أن هناك سورا فى التعبئة العسكرية ، وسورا فى القتال ، وسورا فى التوحيد ، وهكذا ، فكذلك هذه السورة فإنها فى اشتراكية الإسلام ، ومدارها : أن المال لله ، وأن الأغنياء وكلاؤه ، وأنه بشرع الله ينبغى أن يكون دولة بين الناس جميعا ، فلا تستأثر به طبقة دون طبقة ، بل يستطرق فى كل الطبقات. وتعرّف السورة المصدّق والمصدّقة : بأنهما اللذان يقرضان الله قرضا حسنا. والقرض اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء ، وما يسلف من العمل الصالح ، ويكون فى المال يقرض للناس ، أو يقرض لله ، وتمثيل الصدقة بالقرض ، تأنيس وتقريب للناس بما يفهمونه ، وتشبيه لعطاء المؤمن فى الدنيا بما يرجو به الثواب فى الآخرة ، وكنّى الله عن الفقير المتلقى للصدقة بنفسه العليّة المنزّهة عن الحاجات ، فقال : إن الصدقة قرض لله ، ترغيبا فى الصدقة. وهى قرض حسن ، لأن نيّة التصدّق بالصدقة نيّة حسنة ، وليس فيها منّ ولا أذى ، وجزاء القرض : (يُضاعَفُ لَهُمْ) (١٨) أى كقوله : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) (الأنعام ١٦٠) ، وقوله : (فَيُضاعِفَهُ

٧٠٩

لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) (البقرة ٢٤٥) ، يعنى قد تكون الحسنة بعشرة أمثالها ، أو بأكثر من ذلك حتى سبعمائة ضعف ، كقوله : (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) (البقرة ٢٦١) ، وإذن فالمصدّقون والمصدّقات هم حقا الصدّيقون ، أى الذين صدّقوا وأخلصوا حتى الشهادة. ثم تنتقل السورة إلى وصف الدنيا وتسمّيها دار لعب ولهو وزينة ، وتفاخر وتكاثر فى الأموال والأولاد ، وتدعو الناس أن يتسابقوا فى الإنفاق ، لتكون لهم الجنة. واللهو بالنسبة للصدّيق هو ما يلهى عن الآخرة ؛ والزينة هى ما يرضى غرور الجهلاء من فاخر الثياب والرياش ؛ والتفاخر هو المباهاة بالأحساب والأنساب والأموال والأولاد. والله يعلم حقائق الناس ، ويعرف ما يمكن أن يصيبهم من مكاره ، وما يحدث فى الأرض من مصائب ، وكلّ تصيبه المصائب وتأتيه النّعم بقدر وسعه ، فلا ينبغى أن نحزن على ما يفوتنا ، ولا نغتر بما نحصّله ، ولنترك القنوط تركنا للأشر والبطر ، ولننفق ونوسّع على الناس ، ولا نبخل ولا نأمر بالبخل. وما أرسل الله تعالى الرسل ، ولا نزّل الكتب ، ولا الميزان ، ولا الحديد ، إلا لتوضيح الحق ولنصرة الدين. والرسل تتابعت منذ نوح وإبراهيم ، ومن بينهما وبعدهما حتى عيسى بن مريم ، وجميعهم يدعو بدعوة واحدة ، فاهتدى بهم من اهتدى وفسقت الكثرة عن أمر ربّها ، والمهتدى ـ كأنصار عيسى ، كانت بهم رأفة ورحمة ، وابتدعوا الرهبنة ابتغاء رضا الله ، وأما من ضلّ فهؤلاء أفسدوا كل شىء حتى الرهبنة التى ابتدعوها. وتختتم السورة بالدعوة إلى تقوى الله ، والإيمان برسوله ، فيكون للمؤمنين المتّقين نصيبان من الرحمة ، نصيب كأجر للتقوى ، ونصيب كأجر للإيمان. ومن مزايا الإيمان أنه نور لصاحبه يهديه السبيل ، وبالإيمان يغفر له. ورسالة محمد ليست إلا الإخبار بكل ذلك والوعد به ، والنبوة لم تكن وقفا على اليهود كما يدّعون ، ولكنها فضل الله يأتيه من يشاء من عباده.

والسورة فيها الكثير من المصطلحات ووجوه البلاغة ، كقوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ) (١١) وهو تعبير جميل فيه ندب إلى الإنفاق فى سبيل الله ؛ وفى قوله تعالى : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) (٦) دليل على كروية الأرض ، فما كان من نصف الأرض مواجه للشمس كان نهارا ، والآخر البعيد يكون فى الظلام ، وبدوران الأرض حول نفسها ودوراتها حول الشمس يصبح النهار ليلا ، والليل نهارا ؛ وفى قوله : (ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها) (٤) دليل على أن باطن الأرض يستقبل ما ينزل من السماء ، ولقد استقبل الحديد والنيكل ونفذا إلى باطن الأرض ، فكان هذا الباطن كله منهما. وأما قوله عن السماء : (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها) (٤)

٧١٠

دليل على أن كل ما فى الأرض أصلا من السماء ، والسماء ليست واحدة ولكنها سبع سماوات ، والطريق بينها علميا معرّج ، وكل هذه الآيات من معجزات القرآن العلمية ؛ وقوله : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ) (١٦) عتاب للإدلال ، وفى الآية أن المؤمنين لم تخشع قلوبهم بعد لذكر الله ، وأنه تعالى يستبطئهم بالخشوع ، وكان ذلك بعد الهجرة بسنة ، وهؤلاء آمنوا فى العلانية باللسان ولكن كانت ما تزال بهم آثار كفر ، وبعضهم مال إلى المزاح والضحك لمّا أترف فى المدينة ، فكان التحذير من أن يكون مصيرهم مصير أهل الكتاب ، فلمّا طال عليهم الأمد قست قلوبهم ، حتى اخترعوا كتابا من عند أنفسهم ، ليشبع فيهم غرورهم ، ويرضى نزعاتهم إلى الاستعلاء والاستكبار اللذين نشهدهما فيهم الآن. وهذه الآية كانت سبب إيمان كثيرين ، ومنهم عبد الله بن المبارك ، والفضيل بن عياض ، فكان ابن المبارك يحب أن يجالس أصحابه ، ويضرب العود ويستمتع بالطعام والشراب ، فسمع مقرئا يقرأ الآية ، فكسر العود ، وصرف من كان عنده ، فكان ذلك أول زهده وتشميره. وأمّا الفضيل ، فكان يعشق جارية فواعدته ليلا ، فبينما هو يرتقى الجدران إليها ، إذ سمع قارئا يقرأ الآية ، فرجع القهقرى يقول : بلى والله قد آن! ؛ وفى قوله تعالى : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) (١٧) الدليل على البعث ، فبعد أن تموت الأرض ـ أى نباتها وحيوانها فى الشتاء ومع الجدب ، إذا بالمطر ينزل فيخرج النبات وتنشق الأرض بالمخلوقات ، وإذن يمكن البعث بعد الموت ، والحمد لله ربّ العالمين ، والله سبحانه الموفّق للصواب.

* * *

٦٤٠. سورة المجادلة

السورة مدنية إلا من قول البعض أن العشر آيات الأولى منها مدنية والباقى مكية ؛ وقيل : كلها مدنية إلا قوله تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) من الآية السابعة. والصحيح أن آياتها جميعا مدنية ، وعددها اثنتان وعشرون آية ، وترتيبها فى المصحف الثامنة والخمسون وفى التنزيل المدنى التاسعة عشرة ، وفى التنزيل بعامة الخامسة بعد المائة. وتتناول موضوعات كثيرة ، منها : أحكام الظهار والكفّارة عليه ، وأصول التناجى ، وآداب المجالس ، والصدقة عند مناجاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحزب الشيطان من المنافقين أولياء اليهود ، ممن يحادّون الله ، وحزب الله من المؤمنين ، ممن لا يوادّون من حاد الله ورسوله. والسورة نزلت استجابة لحاجة يومية ، وتشريعاتها أملتها ضرورات من حياة الناس ، فالإيلاء مثلا والظهار كانا يكثران فى الجاهلية ، ويعتبران طلاقا ، وظاهر فى عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٧١١

كثيرون وكان أولهم أوس بن الصامت شقيق عبادة بن الصامت ، وامرأته خولة أو خويلة ، وقيل جميلة بنت ثعلبه بن مالك ، وقيل : بنت حكيم ، أو بنت دليج ، أو بنت خويلد ، والأصح أنها خولة بنت ثعلبة ، وكان زوجها أوس قد حلف عليها فقال : «أنت علىّ كظهر أمى» ، فخشيت أن يكون ذلك طلاقا ، فأتت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، إن أوسا ظاهر منى وإنّا إن افترقنا هلكنا ، وقد نثرت بطنى منه وقدّمت صحبته! وشكت إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهى تبكى ، وجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لها : «يا خويلة ، ابن عمك شيخ كبير فاتقى الله فيه». ولم يكن قد نزل فى القرآن شىء عن الظهار ، وما برحت المرأة تجادل عن نفسها وتقسم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتقول : والله ما ذكر أوس طلاقا! ثم قالت : أشكو إلى الله فاقتى ووحدتى ووحشتى ، وفراق زوجى وابن عمى وقد نفضت له بطنى! وقالت : يا رسول الله ، قد نسخ الله سنن الجاهلية ؛ وما طلّقنى زوجى ولكن ظاهر منى! فقال لها : «ما أوحى إلىّ فى هذا شىء؟» فقالت : يا رسول الله ، أوحى إليك فى كل شىء وطوى عنك هذا؟! فقال : «هو ما قلت لك» ، فقالت : إلى الله أشكو لا إلى رسوله! فأنزل الله صدر سورة المجادلة : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (١) ، وتسمّى آية الظهار ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأوس تكفيرا : «اعتق رقبة» ، فقال أوس : ما لى بذلك يدان ، يعنى أنه فقير لا أرقاء عنده. فقال له : «فصم شهرين متتابعين» ، فقال : أما أنى إذا أخطأنى أن آكل فى يوم ثلاث مرات يكلّ بصرى ـ يعنى أنه أضعف من أن يصوم. فقال له : «فأطعم ستين مسكينا» ، فقال : ما أجد إلا أن تعيننى منك بعون أصله. فأعانه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخمسة عشر صاعا (مكيالا).

والظهار من الظهر ، والموجب لحكم الظهار تشبيه الظهر المحلّل بظهر محرّم ، فمن قال لزوجته : أنت علىّ كظهر أمى ، صار مظاهرا. والرجل لا يركب ظهر المرأة وإنما يركب بطنها ، ولكن كنّى عن ركوب البطن تأدّبا ، بركوب الظهر ، لأن ما يركب من الحيوانات فإنما يركب ظهره ، فكنّى بالظهر عن الركوب وليس عن النساء بالحيوان. ومعنى «أنت علىّ كظهر أمى» ، أن المرأة صارت محرّمة عليه ولا يحلّ له ركوبها إلا بعد كفّارة والظهار لذلك على الرجال ، وليس على النساء ظهار. والمظاهر لا يقرب امرأته ولا يباشرها حتى يكفّر ، ولا يصحّ ظهار غير المدخول بها. والظهار ضربان : صريح وكناية ، فالصريح بقوله : أنت علىّ كظهر أمى ؛ والكناية كقوله : أنت علىّ كأمى ، أو مثل أمى. وقوله : (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) (٣) ، لا يعنى أن كفارة الظهار لا تكون إلا إذا ظاهر الزوج امرأته للمرة الثانية ، وإنما يعنى العود والعزم على مواصلة

٧١٢

الحياة الزوجية ، ومن ثم تكون الكفارة واجبة قبل العود. وحكم الظهار ناسخ لما كانوا عليه فى الجاهلية من كون الظهار طلاقا ، ولا ظهار الآن ، وإن حدث مثله بين الزوجين فلا يحق لهما كتمانه ، كما لا يحق لهما الانتقاص من الكفّارة عنه طالما فى استطاعتهما. والكفّارة على الزوج ، وواجب المرأة أن تعينه بحسب قدرتها ، ويسمّى القرآن العمل بغير حدود الله محاداة ، أى مخالفة الحدود ومعاداتها ورفضها. والمحاداة : من حدّ ، وأصلها الممانعة ، ومنها الحديد : وهو المعدن المنيع ، والحدّاد : والله تعالى يحصى على المحادين محاداتهم ، وهو المطّلع والشهيد.

وتتطرق السورة إلى النجوى : وهى ما يكون من خلوة ثلاثة : يسرّون شيئا ويتناجون به ، كأن يكون الظهار مثلا أو كفارة الظهار ، ولا يريدون التصريح به ، ويؤثرون أن يسرّوه ، والسّرار : ما كان بين اثنين. وأصل النجوى من النّجوة ، وهى ما ارتفع من الأرض ، فالمتناجيان يتناجيان ، ويخلوان بسرّهما كخلو المرتفع من الأرض عمّا يتصل به ، والله يعلم ما يقول الواحد لنفسه ، ويعلم ما يتناجى به الاثنان ، والثلاثة ، والأربعة ، والخمسة ، ولا تخفى عليه خافية ، وهو معهم بعلمه حيثما كانوا ، من غير زوال ولا انتقال. والسورة تنبّه إلى صفة من صفات المنافقين عموما ، واليهود خصوصا ، هى النجوى ، والنجوى من مصطلحات علم النفس والطب النفسى الإسلاميين. وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) (٨) فى اليهود والمنافقين ، كانوا حلفا واحدا ، وكثيرى النجوى فيما بينهم ، ويتغامزون على المسلمين بأعينهم ، وقد شكا المسلمون ذلك إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنهاهم عن النجوى فلم ينتهوا ، فنزلت الآية. وكانت بين اليهود والنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم موادعة : أى هدنة ، فكانوا إذا مرّ بهم مسلم تغامزوا عليه وتناجوا ، حتى ليظن المسلم أنهم يدبّرون له شرا ، فيلوى عن طريقه. وكانوا يدافعون عن بعضهم البعض إذا سألهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن سبب إتيانهم للنجوى ، وسمى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم دفاع الرجل عن الرجل بالباطل الشرك الخفى ، يعنى أنه يعمل له بدلا من أن يعمل لله. وذكرت الآية ضمن مساوئ اليهود وانحطاط خلقهم ما هو أسوأ من النجوى ، وهو أن يحيّوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما لم يحيّه به الله ، فإذا دخلوا عليه قالوا «السام عليك» ، يريدون بالسام السلام ظاهرا ، وهم يعنون تمنّى الموت له باطنا ، والسام هو الموت ، فكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يردّ عليهم فى أدب ، وبحسب نواياهم : «وعليكم» ، واعتبروا ذلك ضعفا فيه وفى ربّه ، وإلا لعاقبهم الله غيرة على نبيّه. وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا أحد أصبر على الأذى من الله. يدعون له الصاحبة والولد وهو يعافيهم ويرزقهم». وعلّم المحيطين به

٧١٣

فقال : «إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا عليك ما قلت» ، وفى ذلك نزلت الآية : (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٨) ولمّا ذكرت السورة أن المنافقين واليهود يتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثنّت فنهت المؤمنين أن يفعلوا ذلك ، وأمرتهم أن تكون نجواهم بالبرّ وتقوى الله الذى إليه يحشرون. ووصفت النجوى بأنها من الشيطان ، وردّت الدافع إليها عند غير المؤمنين هو إدخال الحزن على المؤمنين ، والدافع النفسى أقوى من أى دافع مادى ، وإحباط المسلمين إصابتهم بالاكتئاب وبلبلة تفكيرهم ، والفتّ فى عضدهم ، وهو نوع من الحرب النفسية المقصود بها اختراق الدفاعات النفسية للمسلم ، وإضعاف جبهته الداخلية ، وخلخلة مقاومته ، وإنهاك قواه الذاتية ، وذلك كله لا يمكن أن يتحقق مع إيمان المؤمنين ، فالإيمان يكسبهم مناعة ذاتية ، وهو بمثابة الدرع الواقى. والتناجى لا يضر أحدا ، إلا لو كان هذا الضرر قد كتبه الله على المضرور من قبل وقوع الضرر ، ولا ضرر من التناجى إذا توكل المؤمنون على الله حقّ التوكل ، وفوّضوا إليه أمرهم ، واستعاذوا به من أذى المتناجين ، ويشبه التناجى فى العمليات النفسية ما يسمونه «التأثير عن بعد» و «التأثير بالإيحاء» ، وكلاهما من أبواب التحليل والطب النفسى. والوصفة الطبية التى يصفها القرآن لإبطال مفعول التناجى هى وصفة نفسية ، وهى المزيد من الإيمان بالله ، والأخذ بأسبابه والاعتقاد جازما أنه ما أصيب مؤمن ولا نجا إلا بإذنه تعالى ، وعن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر ، حتى تختلطوا بالناس ، من أجل أن يحزنه» ، أى حتى لا يقع فى نفسه ما يحزن لأجله ، ولا يظن أن حديث الاثنين عنه بما يكره ، أو أنه ليس أهلا ليشركوه فى حديثهما ، والخطاب للمؤمنين ، والتعليم لهم ، فلا يتناجى أربعة دون واحد ، ولا عشرة ، ولا ألف ، والآية ضمن باب آداب السلوك فى الإسلام. وطالما أننا بصدد الآداب العامة للسلوك فى الاجتماع ، فإن السورة تطرّقت إلى آداب المجالس ، تقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) (١١) ، والخطاب والتعليم للمؤمنين ، أمروا أن يفسحوا لإخوانهم فى المجالس أيا كانت ، سواء كانت للعلم ، أو للذكر ، أو للمداولة فى أمور السياسة والتجارة ، أو للصلح ، فإن لكل واحد من السامعين أو المشتركين مكانا فيها حتما ، وهو أولى به بحسب أحقيته ، والمعيار فى ذلك هو الإيمان والعلم ، فأهل الصلاح والعلماء لهم السبق إلى صدور المجالس ، وهؤلاء يرفعهم الله درجات عن غيرهم من السواد والعامة ، ولهم الرفعة ، والمؤمن مرفوع بإيمانه أولا ، ثم

٧١٤

بعلمه ثانيا ، لأن العلم يؤدى إلى الإيمان وليس العكس ، والإيمان هو الغاية من العلم ، فأهل الإيمان مقدّمون على أهل العلم.

وتتطرق السورة إلى مجال آخر من مجالات الأدب مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تقول : (إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٢) ، ومناجاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هى أن يخلصه بسرّ ، وكان المسلمون يكثرون المسائل عليه حتى شقّوا عليه ، وكان بعضهم يشغلونه ويناجونه ، فظن بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونه بالنجوى ، فشقّ عليهم ذلك ، فأمروا بالصدقة عند النجوى ليقطعوا عن استخلائه. وكان اليهود والمنافقون يناجونه ويقولون : هو أذن يستمع لكل شىء ولا يمنع أحدا من مناجاته. ولم يذكر لصدقة النجوى أى مقدار معين ، فالأمر متروك للمتصدّق ، وإن لم يجد فلا شىء عليه ، وبعضهم كالمنافقين ، كانت الصدقة بوسعه ولكنه بخل ، فنزلت الآية : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) (١٣) ، والتوبة تعنى إعفاؤهم منها ، وذلك ليس نسخا للآية قبلها كما قيل ، وإنما هى تأكيد لما قبلها فى قوله : (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٢) ، وتكفى الزكاة وأداء الفرائض لأمثال من أراد أن يستعفى من صدقة النجوى. وقيل إن أحدا لم يتقدم بشيء من هذه الصدقة ، والذين نسبوا لعلّى أنه كان أول من تصدّق ، ولم يكن أحد بعده ، ادّعوا ذلك ليقدّموه على غيره ، وهؤلاء من شيعته ، وقالوا إنه تصدّق بخاتم. وواضح من الآيتين بعد ذلك فى قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (١٤) وقوله : (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (١٦) أن الذين كانوا يشوّشون على تعاليم القرآن وتعليم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هم المنافقون واليهود ، ومن الأولين عبد الله بن أبىّ ، وعبد الله بن نبتل ، وكانا يجالسان النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم ينقلان ما يسمعان إلى اليهود ، وإذا عوتبا كذّبا التهمة وحلفا بالله أنهما لصادقان. وفى أمثالهما نزلت الآيات المتبقية من سورة المجادلة ، تنبّه إلى العذاب المنتظر لهؤلاء ، ولكل من يحادّ الله ورسوله ، والله غالب على أمره ، وتحذّر المؤمنين أن يوادّوا من حادّ الله حتى لو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ، وتقسّم الناس إلى حزبين : حزب الشيطان : وأعضاؤه الكاذبون الذين نسوا الله ، وهم من المترفين أصحاب المال والحسب والنسب ، وحزب الله : وأفراده من المؤمنين الذين يعمر الإيمان قلوبهم ، والذين يؤيدهم الله بروح منه ، ولا يحادّون الله ورسوله ، ولا يوادّون من حادّ الله. والأوّلون حزبهم هو الخاسر ، والآخرون حزبهم هو الفالح.

ومن مصطلحات هذه السورة : الجدل فى قوله تعالى : «التى تجادلك» ، وهو حوار بين أطراف لبلوغ الحقّ ، ودعوة إلى كلمة سواء ، وكانت حجة خولة بنت ثعلبة قوية فى رفض

٧١٥

الظهار ، وكان الرسول يدفع عن نفسه ويقول : «ما أوحى إلىّ فى هذا شىء». وإيراد آداب النجوى والمجالس والسلام والتحية ضمن سورة المجادلة ؛ لأن هذه الآداب من الأمور التى قد يدور حولها الجدل وتحتاج إلى إقناع من نريد إقناعهم بها ؛ والحوار والمحاورة : فى قوله تعالى : (تَحاوُرَكُما) من حار الشيء يحور إذا رجع ، فالحوار هو المراجعة ، وأن يتحاورا : يعنى يتراجعا ، وكلا المتحاورين يذكر دفوعه ويراجع أقوال الآخر ويفنّدها ، ومن ذلك الحواريون جمع حوارى وهؤلاء تلاميذ المسيح كانوا يتعلمون منه ويتحاورون معه ويجادلونه ؛ والكبت فى قوله تعالى : (كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : من مصطلحات التحليل النفسى والطب النفسى الإسلاميين ، وصف به الذين حادوا الله ورسوله ، فإنهم لم يصرّحوا بحقيقة تفكيرهم ومشاعرهم وكبتوها ، وأظهروا أفكارا أخرى ومشاعر مختلفة ، ظاهرها الحق ، وباطنها كراهية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكفر بالله ، ولذلك سموا منافقين ؛ وتحرير رقبة فى قوله : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) ، والرقبة فى اللغة هى العنق أو مؤخّره ، أو هى العبد المملوك ، وتسميته بالرقبة من باب تسمية الكل بأشرف أجزائه ، وتحريره هو عتقه وإطلاقه من أسر العبودية ؛ والزور فى قوله : (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً). هو الكذب ، فقد جعلت السورة الظهار كذبا ، لأن المظاهر يجعل امرأته كأمّة : (إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ). وقيل فى الظهار إنه يحرم لأربعة أسباب : الأول : قوله : (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) تكذيب لقول المظاهر «أنت علىّ كظهر أمى» ؛ والثانى : تسميته منكرا ؛ والثالث : تسميته زورا ، والرابع قوله : (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) (٢) فإن العفو والمغفرة لا يقعان إلا فى ذنب ، والمظاهر إذن مذنب وتلزمه الكفّارة ؛ والستون مسكينا : فى شأن الكفارة ، لأن المظاهر بدلا من الصيام شهرين ، والشهر ثلاثون يوما ، فيصبح مجموعه ستين ، باعتبار إطعام مسكين كل يوم ؛ والفسحة فى قوله : (يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) : هى التوسعة ، تكون فى المكان ، كما تكون فى الرزق ، والقبر ، والجنة ، والصدر ، وتقول سعة الصدر يعنى الصبر والاحتمال. والله تعالى الموفّق للصواب.

* * *

٦٤١. سورة الحشر

السورة مدنية ، نزلت بعد سورة البيّنة ، وآياتها أربع وعشرون آية ، وترتيبها فى المصحف التاسعة والخمسون ، وفى التنزيل المدنى الخامسة عشرة ، وفى التنزيل بعامة الواحدة بعد المائة ، وهى من السور الحربية ، وموضوعها غزوة بنى النضير ، ولذا سمّاها البعض سورة بنى النضير ، وتشتق اسمها «الحشر» من استهلالها بقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) (٢) والسورة تبرز مشاهد جلاء بنى النضير عن

٧١٦

ديارهم : (وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ ...) (٣) ، وكأنهم فى يوم الحشر وهم خارجون منها وقد حملوا متاعهم على الجمال ، ومنها الأبواب والأسقف وكل شىء ، وساروا على أقدامهم تتبعهم نساؤهم وأطفالهم. والسورة من الإعجاز القرآنى لأن «لأول الحشر» قد تعنى أن جلاءهم من تلك الأرض كان جلاء أبديا ، وأنهم لن يعودوا إليها حتى يوم الحشر الذى هو يوم القيامة ، وفى التوراة أن اليهود خرجوا من مصر وساروا مثل هذه المسيرة وكأنهم فى يوم الحشر ، وسمى ذلك بالخروج ، وأطلقوا على السفر الثانى من أسفارهم اسم «سفر الخروج» ، وشاع عنهم مصطلح «الخروج Exodus» ، غير أنهم فى سفر الحشر لم يكن خروجهم مجرد «خروج» ولكنه «إخراج» ، وفى المصطلح القرآنى هو «جلاء» ، والجلاء : هو مفارقة الأوطان ، يقال جلا بنفسه جلاء ، وأجلاه غيره إجلاء. والفرق بين الجلاء والإخراج وإن كان معناهما فى الإبعاد واحدا ، من وجهين : أحدهما أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد ، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد. والوجه الثانى : أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة ، والإخراج يكون لواحد ولجماعة. وتذكر السورة سبب هذا الجلاء : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٤) ، أى عادوه وخالفوا أمره ، وكانوا قد عاهدوا النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى أول الأمر ألا يكونوا عليه ولا له ، أى على الحياد ، فلما ظهر يوم بدر قالوا عنه : هو النبىّ الذى نعت فى التوراة فلا ترد له راية. فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا ، فخرج كبيرهم كعب بن الأشرف فى أربعين راكبا إلى مكة فحالفوا قريشا على المسلمين ، وتعاهدوا عند الكعبة ، فقتل المسلمون كعبا ، قتله محمد بن سلمة الأنصارى ، وأبو نائلة سلكان بن سلامة بن وقش ـ وكان أخا لكعب ابن الأشرف من الرضاعة ـ وعبّاد بن بشر بن وقش ـ والحارث بن أوس بن معاذ ، وأبو عبس بن جبر ، ثم صبّحهم المسلمون فأمروهم بالخروج من المدينة ، فقد كان بنو النضير من سكان ضواحيها ، وما كان من الممكن أن يستمروا فى مجاورة المسلمين وقد بدروا بالعداوة ، ورفضوا النزوح وتنادوا بالحرب ، وتناوشوا مع المسلمين ولكنهم لم يقاتلوهم ، واستمهلهم الرسول عشرة أيام ليتجهّزوا للخروج ، فدسّ إليهم المنافقون من اليهود من بنى قريظة أن لا يخرجوا وسيكونون معهم ، يقاتلون لو قوتلوا ، وسيخرجون معهم لو أخرجوا ، وتدرب المسلمون أثناء ذلك على ما نسميه الآن بحرب المدن ، وفى أيام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان الأجدر أن تسمى حرب الأزقة ، واستمر تدريبهم إحدى وعشرين ليلة ، وكانوا ينقبون حصونهم من خارج ، واليهود يرممونها من داخل ، ويسدون الأزقة بالمتاريس ، وكانت لهم أربعة حصون : الوطيح ، والنّطاة ، والسّلالم ، والكتيبة ، وكان اليهود فى ذاك الزمان مثلهم اليوم أهل حلقة ،

٧١٧

وهذا مصطلح إسلامى ، ومعناه أهل سلاح ، وحصونهم منيعة ، وكانوا أهل حضارة فعلا ، ولمّا لجأ المسلمون إلى عقر نخلهم اعتبروا ذلك تخلّفا من المسلمين ، وقال شاعرهم سماك اليهودى :

ألسنا ورثنا الكتاب الحكيم

على عهد موسى ولم نصدف

وأنتم رعاء لشاء عجاف

بسهل تهامة والأخيف

ترون الرعاية مجدا لكم

لدى كل دهر لكم مجحف

فيا أيها الشاهدون انتهوا

عن الظلم والمنطق المؤنف

لعل الليالى وصرف الدهور

يدلن من العادل المنصف

بقتل النضير وإجلائها

وعقر النخيل ولم تقطف

وكان خروج النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم فى ربيع الأول ، أول السنة الرابعة من الهجرة. ومن الإسرائيليات أن النبىّ أمر بقطع نخيلهم وإحراقها وهذا كذب ، لأن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن مثل ذلك ، وهناك أدبيات للحرب عند المسلمين استنّها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، منها أن لا تقتل امرأة ولا طفل ، ونفت الآية : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) (٥) (الحشر) ، فكما ترى كان هناك فريقان من المسلمين ، فريق تحمّس أكثر من اللازم وسارع بقطع النخيل ، وقالوا فى تبرير ذلك ليغيظوهم ، وفريق لم ير ذلك ، لأن هذا النخل نفسه سيكون من نصيب المسلمين ، فليس معقولا أن يدمروه وكأنهم يعاقبون أنفسهم ، ونزلت الآية تحلّ من الإثم من قطع النخل ، وتصدق من نهى عن القطع ، وتقضى فى الخلاف بين الفريقين بأن من نهى إنما نهى بإذن الله ، ومن قطع فإنما قطع بإذن الله ، يعنى أن كلا منهما كان يصدر فيما ذهب إليه بدافع المصلحة وغيرة على الإسلام. وأما بنو النضير فقد توجهوا بعد الخروج وجهتين ، فجماعة ذهبوا إلى فلسطين ، وجماعة رحلوا إلى خيبر وانضموا إلى اليهود فيها ، ومن أكابر هؤلاء كان حيى بن أخطب ، وسلام بن أبى الحقيق ، وكنانة بن الربيع ، فأما حيى فكان والد صفية بنت حيى التى سباها المسلمون وبنى بها النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل إنه تزوجها.

وسورة الحشر من السور التى اهتمت بتحليل الشخصية اليهودية وتضرب بسهم كبير فى إنشاء علم نفسى جمعى مداره اليهود. وكانت بداية السورة بتمجيد الله وتنزيهه وإبراز عزته وحكمته كقوله تعالى : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١) ، والآية عبارة عن مقدمة للموضوع ، وكلماتها تنبئ عن ذلك الموضوع ،

٧١٨

فالله له العزة وله الحكمة ، وقد أخرج اليهود إخراجا أبديا لن يعودوا بعده إلى تلك الديار حتى يوم الحشر ، ذلك لأن إيمانهم بأنفسهم وليس بالله ، وقد ظنوا قديما أن حصونهم مانعتهم من قدر الله ، مثلما ظنوا اليوم أن خط بارليف يمنعهم من قدره ، فهذه أول صفة فيهم ، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ، والذى لم يحتسبوه هو ذكاء الآخرين ، لأنهم يظنون أنهم الشعب المختار ، والصفوة ، وغيرهم أغيار أميّون ، وتمثّل هذا الذكاء فى ضرب قياداتهم فى مقتل ، فلمّا قتل كعب بن الأشرف صاروا جسدا بلا رأس. والصفة الثانية : أن اليهود بهم جبن غريزى ، والجبن لا يكتسب ولكنه طبعى ، والمسلمون عرفوا فيهم الجبن فحاربوهم بالرعب ، وفى الحديث عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نصرت بالرعب بين يدىّ مسيرة شهر» ، يعنى أنه بالرعب خلال شهر واحد هزمهم نفسيا. وثالث هذه الصفات : أن مقولة شمشون : «علىّ وعلى أعدائى» تصدق عليهم دائما ، كالفأر إذا احتبس عن طريق ذيله ، فإنه يقضمه ، وكذلك الأبرص والسحلية ، وهو فعل اليهود دائما ، كقوله تعالى : (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ) (٢) ، ففي التاريخ اليهودى يزعمون أن أول انتحار جماعى لهم كان بعد عبادتهم للعجل ، فأمروا أن يقتلوا أنفسهم وأصحابهم وأقاربهم ، وقام بنو لاوى بتلك المهمة ، فسقط من الشعب فى ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف (الخروج ٣٢ / ٢٧ ـ ٢٨) ، وجاء عن ذلك أو نحوه فى القرآن : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ) (البقرة ٥٤). وقيل إنه فى قلعة الماسادا آثر ٩٦٠ من الرجال والنساء اليهود أن ينتحروا انتحارا جماعيا ولا يقعون فى الأسر مخافة التعذيب. والذين نافقوا كقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) (١١) هم إخوان اليهود وليسوا منافقى المدينة كعبد الله بن أبىّ بن سلول كما تقول كتب التفسير ، فابن سلول ليس أخا لهم ، وإنما «إخوانهم» يهود بنى قريظة ، ولأنهم منافقون فإن المسلمين هزموهم بالقتل ، بينما هزموا يهود بنى النضير بأن أجلوهم عن ديارهم على أن يصحبوا معهم ما تستطيع الإبل أن تحمله ، والقرآن يشهد بنفاقهم ، وأنهم يعدون ويخلفون ، ويخذلون من يعاهدون ، ومن دأبهم الفرار فى الحرب ، لأن الحياة عندهم أكبر من أى شىء ، وفى سفر المقابيين من أسفارهم ، وسفر يشوع ، حشدوا أنواع من بسالاتهم وشجاعتهم وهم كاذبون ، والسورة حسمت الأمر فيهم وقررت أنهم يرهبون المسلمين أشد من رهبتهم من الله ، وأنهم لا يفقهون ، وقتالهم فى قرى محصنة أو من وراء جدر ، وبأسهم بينهم شديد ، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ، وهم لا يعقلون ، ومثلهم مثل من قبلهم أى بنى قينقاع ، وهم يهود أيضا ، أمكن الله المسلمين منهم قبل بنى النضير ، وهؤلاء أمكن الله منهم قبل بنى قريظة ـ

٧١٩

، وكان بين هزيمة هؤلاء وهزيمة هؤلاء سنتان ، وكانت وقعة بدر قبل غزوة بنى النضير بستة شهور ، وشبّهت السورة حال اليهود من بنى قريظة بحال الشيطان ، أرادوا غواية بنى النضير ليستمروا يقاتلون ، فكان عاقبتهما شرّ الهزائم ، كالشيطان ومن يغويه ، مصيرهما إلى النار ، وفى الآية : (نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (١٩) أن اليهود وقد نسوا حقّ الله أنساهم حقّ أنفسهم ، ونسوه فى الرخاء ، فنساهم فى الشدائد.

وفى السورة بيان عن وجوب السنّة فى قوله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (٧) ، فكل ما أمر به النبىّ فيما ورد عنه من الأحاديث الصحيحة فهو أمر من الله تعالى ، وقد حكم الرسول فى هذه السورة أن يقسم الفيء إلى خمسة مصارف خصّ بها المهاجرين ، ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر محتاجين ، منهم : أبو دجانة سماك بن خرشة ، وسهل بن حنيف ، والحارث بن الصّمة. وهؤلاء جميعا كانوا فقراء ووزعت عليهم أموال بنى النضير إلا اثنين ، هما : سفيان بن عمير ، وسعد بن وهب لم يكونا قد أسلما. وجاء فى تخصيص الفيء للفقراء من المهاجرين : (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) (٧) ، أى حتى لا يتداول المال ويحصر بين الأغنياء ويحرم منه الفقراء ، فيزداد الأغنياء غنى ، ويزداد الفقراء فقرا ، وتتسع الهوة بين الطبقات ، وهذه هى اشتراكية الإسلام ، وقوامها التقريب بين الدخول. وخصّ المهاجرون لأنهم أخرجوا بسبب الإسلام من أموالهم وديارهم ، وتلك أكبر علامة على صدق إيمانهم. ولم يكن الأنصار أقل إيمانا ، فقد كان منهم جماعة أسلموا قبل هجرة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهؤلاء لا يحسدون المهاجرين على ما أخلصهم الله ، ويؤثرون على أنفسهم مع شدّة حاجتهم. و «الإيثار» فى السورة من مصطلحات علم النفس الإسلامى ، وهو تقديم الغير على النفس رغبة فى الحظوظ الدينية عن الحظوظ الدنيوية ، وتدفع إليه شدة اليقين. و «الإيثار بالنفس» فوق «الإيثار بالمال» ، ومن الأمثال السائرة : «والجود بالنفس أقصر غاية الجود». ومن أمثال السورة قوله تعالى : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٩) ، والشّح أشد من البخل ، والشّح بخل مع حرص ، والشح فى الآية أن تؤثر نفسك على أخيك ، والشح من مصطلحات الطب النفسى ، والشحيح نمط من أنماط الشخصية ، والشح إطلاقا هو الظلم واتباع الهوى ، والميل عن الإيمان ، وترك الفرائض ، و «من يوقى شح نفسه» هو الذى لا يفعل ما حرّم الله ونهى عنه. ويتجاوز الثناء فى السورة إلى التابعين ، وهم الفرقة الثالثة من فرق مجتمع المدينة بعد المهاجرين والأنصار ، كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) (١٠) ، وهذا الدعاء دليل على وجوب محبة الصحابة ومحبة من يحبهم.

٧٢٠