موسوعة القرآن العظيم - ج ١

دكتور عبد المنعم الحفني

موسوعة القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

دكتور عبد المنعم الحفني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
ISBN: 977-208-442-2
الصفحات: ١٢٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

وجواب القسم محذوف تقديره : وإنه للحق من عند الله ، (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) (٢): ، أى اختلفوا أنه حقّ من عند الله ، فما كفروا به لخلل وجدوه فيه ، وإنما كان كفرهم استكبارا عن الحق ، وخلافا لله ولرسوله ، كقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) (٢٠٦) (البقرة) ، والعزة : هى الغلبة والقهر ، والآية وعيد لأهل مكة على كفرهم واستكبارهم كما كان من سبقهم ، وكم أهلك الله منهم حتى تنادوا يستغيثون ويتوبون ، (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) (٣) كما تقول السورة ، يعنى ما كان هذا وقت الاستغاثة أو التوبة ، فقد مضى ذلك وانتهى ، وقيل : ونادوا حين لا مناص ، أى ساعة لا منجى ولا فوت. والسورة تنبّه إلى أن هذا هو الشأن دائما مع المنكرين ، فالخلاف يدبّ بينهم إزاء الدين ، ويموتون كفارا ثم يكون العذاب فيستغيثون ، وربما العذاب فى الدنيا والآخرة ، وقد يكون عذابهم رفضهم لدعاوى الدين ، أن الداعين للدين منهم ، وأن دعاواهم كأنها السحر لإعجازها ، فاتهموهم بأنهم مشعوذون وكذّابون ، وكذلك اتهموا نبيّنا الكريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتتضارب دفوع المنكرين ، فبعضهم قد يرى أن الطبيعة هكذا صنعت ولا إله لها ، وبعضهم قد يرى أن التطور هو الغالب ، وأن الصّدفة هى الخالق ، وقد يرى البعض أن للطبيعة قوى مختلفة ، وكل قوة منها كالإله ، وأنها جميعا تصنع الحياة ، وبناء على ذلك قد يرفضون دعوة التوحيد ، ويعجب هؤلاء من منطق التوحيد ، فكيف تجتمع الكثرة فى الواحد؟ والكثرة بينها تعارض ، والواحد ضد التعارض ، وإذن فالقول بإله واحد هو قول لا يستقيم. وصدقت قريش أنهم ما سمعوا فى ملّة أخرى أن الله واحد ، فاليهود قلّما قالوا أن الله واحد ، وعبدوا آلهة الأمم الأخرى ، وادّعوا أنهم أحباب الله ، وأنه لا يحاسبهم ، بل ولم يذكروا فى كتبهم شيئا عن حساب أو عقاب ، فالحساب والثواب والعقاب فى الدنيا ، بما يكون من حياة كريمة للبعض ، وسيئة للبعض ، والدنيا للغالب ، والصفوة هم الغالبون ؛ والنصارى قالوا إن المسيح ابن الله ، وألّفوا لذلك تأليفات يفلسفون بها كفرهم ، فقالوا بالتثليث ، وتوّهوا الناس فى معانى الأب والابن وروح القدس ، ودعوا لعبادة المسيح ، وسمّوا مسيحيين ، فكان كفرهم كفرا على كفر ، وكانت قريش على حق لمّا وصفوا دعوة محمد بأنها الأولى من نوعها ، واعتبروا ما يقول فلسفة واختلافا. وحجّتهم فى رفض النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه بشر مثلهم ، فلما ذا اختير دونهم وهو ليس أشرفهم ولا أجدرهم؟ فلمّا شكّكوا فيه شكّكوا فيما جاء به من القرآن ، ليس عن علم ، بل لمجرد أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد جاء به ، وكأنهم المختصون بإقرار نبوة هذا النبىّ ، ورفض نبوة ذاك ، وكأنهم الموكلون منه تعالى بأمر الكون والناس والرسالات ، وكأنهم جند لشىء ليس هو الله بالتأكيد : (جُنْدٌ ما هُنالِكَ

٦٤١

مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) (١١) ، أى جنّدوا أنفسهم وتحزّبوا ضد الله ، فعمّا قليل يهزمون بإذن الله ويولون الأدبار. وتضرب السورة المثل بما عانى الرسل من قبل نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من وجوه التكذيب برسالاتهم ، فليس نبيّنا بدعا بينهم ، وإنما جميعهم كذّبوا ، ومنهم نبيّنا ، وكان قوم نوح كأهل مكة ، كما كان فرعون صاحب الأهرامات الشامخة كالجبال ، والثابتة فى الأرض وكأنها الأوتاد ، كأبى جهل ، عنادا وكفرا ؛ وثمود ، وقوم لوط ، وقوم شعيب أصحاب الأيكة ، أى البساتين المشجرة ، شكّلوا جماعات متحزّبة ضد رسلهم ، فاستحقوا عقابه تعالى لهم ، وما أمر أهل مكة إلا صيحة واحدة ـ أى نفخة فى النفير ، فتزهق أرواحهم ، وما لهم من عواقب الصيحة فواق ، أى أنها تأخذهم أخذا فلا يفيقون منها. وكما ضرب الله المثل لنبيّه بهؤلاء الأقوام الكفرة ، ضرب له المثل بغيرهم ممن راعوا حقوق الله وعاشوا الحياة الدنيا كما ينبغى ، وهؤلاء هم أنبياء الله ، كداود ، وسليمان ، وإبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، وإسماعيل ، واليسع ، وذى الكفل ؛ والأوّلان ـ داود وسليمان ، كانا ملكين نبيين ، وكان داود ملكا مشهودا له بالقوة ، وكثيرا ما كان يزلّ ، إلا أنه سرعان ما يرجع إلى الله ويستغفر ويتوب ، فوهبه الله علما ، وزاده قوة ، وكان بارع فى التراتيل والتسابيح ، ويحب أن ينشد الأناشيد فى مدح الله والثناء عليه ، وطلب العفو منه ، ويسأله العزة والمنعة ، فإذا انشد اختار أن يكون إنشاده وسط الطبيعة ، وعلى قمم الجبال ، فتردد الجبال إنشاده فى الليل والنهار ، وحتى الطير كان يحب إنشاده ، ويجتمع له ينصت ويعجب. وأضفى الله على داود المهابة يشدّ بها ملكه ، وآتاه الحكمة ، فكان إنشاده من وحى الله هو ما يعرف الآن باسم «مزامير داود» ، وهى «الزبور» فى القرآن ، وعباراته متينة بيّنة. وتقصّ السورة نبأ الخصمين اللذين تسوّرا المحراب للقاء داود ليقضى بينهما ، مما أوردناه ضمن «باب قصص القرآن» ، وما كان لداود أن يظلم وهو المعيّن خليفة من قبل الله ليحكم بين الناس بالحق ولا يتّبع نزواته وشهواته فتضله عن سبيل الله ، وويل لكل مفسد فى الأرض ، والحياة لم يخلقها الله عبثا بلا غاية ، ولكنها ابتلاء وامتحان ، ولا يستوى المتّقون والفجّار ، ولا الأخيار والأشرار. وما كان سليمان إلا كأبيه ، ذرية بعضها من بعض ، فكان يزلّ كأبيه ولكنه يستغفر ويتوب ، وأتاه الله الملك والنبوة ، وكانت له حكايات وخبرات وممارسات كاد يفتن فيها ونجّاه الله ، مثل قصته مع خيله التى نسى الصلاة بسببها ، فتخلص منها حتى لا يتكرر معه ذلك ، وكثيرا ما ينتصر حبّه للدنيا على حبه لله ، ودعا لنفسه فما استطاع أن يتخلص من حب الدنيا مطلقا ، وما كان يصلح أن يكون زاهدا ، فهو ملك رسول ، وكان دعاؤه المشهور : (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ

٦٤٢

(٣٥)) فسخّر له الريح والشياطين ، وملّكه عليهم ، وهذا هو عطاؤه تعالى له ، وكانت له الزلفى ـ أى القربة عنده تعالى فى الدنيا ، وله فى الآخرة حسن الثواب. وداود وسليمان من الأوّابين ـ أى الراجعين إلى الله بالتوبة ، يعنى أنه كانت بهما هنات ، ومثلهما كان أيوب ، قيل أخطأ فى حقّ الله فعوقب بأن نزعت عنه نعم المال والعيال والصحة ، ولكنه صبر ثمانى عشرة سنة ، حتى أعاده الله تعالى إلى حظيرة رضاه ، لمّا تضرّع له ودعاه ، فآتاه أهله ومثل عددهم ، وأعاد إليه ماله وأتباعه ، وعوّضه خيرا عن عياله ، فكانت قصته عظة لغيره ، وكان صبره مضرب الأمثال (انظر قصته فى باب قصص القرآن). وكذلك كان إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، أنبياء وأئمة ، وأعطاهم الله خير الدنيا والآخرة ، فقال فيهم : (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) (٤٧) ، يعنى أنهم كانوا أهل بصيرة وحكمة ، وكانوا أولى بأس وقوة ، فقوتهم هى قوة الحكمة ، وحكمتهم هى حكمة القوة ، فعاشوا فى الدنيا ولم ينسوا الآخرة ، وأخذوا من الدنيا ما يؤهلهم للآخرة ، واصطفاهم ربّهم ليكونوا نموذجا للناس يقتدى ، واصطفاؤهم نتيجة لأعمالهم فى مجال الخير ، فلأنهم أخيار كانوا المصطفين ، لا كما يقول اليهود اليوم أنهم مصطفون ، سواء كانوا أخيارا أو أشرارا ـ فهذا هو عهد الله لهم ، بئس ما يقولون. ومن الأخيار أيضا كان إسماعيل واليسع وذو الكفل ، فأمّا إسماعيل فهو الذبيح الذى كانت قصته مع أبيه أساس الحج عند المسلمين ، فشعائر الحج كلها مبنية على هذه القصة ؛ وأما اليسع فقيل هو الخضر ؛ وذو الكفل قيل لم يكن نبيا ولكنه تكفّل بأمر من أمور الأنبياء وقام به فسمّى هكذا. وهؤلاء الأنبياء يذكرون فى الدنيا ولهم فى الآخرة الجزاء الأوفى ، جنات عدن مفتّحة الأبواب ، وعدن هى الإقامة ، فهى جنات الإقامة الدائمة والحياة الخالدة ؛ بينما للطاغين شرّ مآب ، أى شرّ المنقلب ، ونقيضه حسن المآب للمتّقين. وما كان لمحمد منذرا وداعيا إلى الله ، وأنه لا إله إلا الله الواحد القهّار ، وما كان تنزّل القرآن عليه إلا نبأ عظيما وحادثة فريدة لم يتجاوبوا معها ، وما كان محمد له العلم بالملإ الأعلى ـ أى الملائكة ، وإنما رسول يوحى إليه ، وما كان بوسعه أن يلمّ بما حدث من إبليس حين خلق الله آدم ، لو لا ما يوحى الله له به من الأخبار والقصص ، واستكبر إبليس أن يسجد لآدم ، بدعوى أنه من نار وآدم من طين ، فكيف يسجد الفاضل للمفضول ، فاستحق اللعن ، وأن يطرد من الجنة مرجوما ، قال إبليس : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٨٣) فكان جوابه تعالى ـ وهو الحق ولا يقول إلا الحق ، أنه سيملأ جهنم من الشيطان ومن أتباعه ، وما كان بلاغ النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأهل مكة بالقرآن لكى يتقاضى منهم أجرا عليه ، ولا

٦٤٣

كان من المنتحلين للدعوات حتى يتقوّل القرآن ، ولسوف يعاينون ذلك قريبا ، وفى ذلك وعيد وتهديد ، قيل سيعاينونه عند الموت ، فعند الموت يكون الخبر اليقين. والحمد لله ربّ العالمين.

* * *

٦٢٠. سورة الزمر

السورة مكية ، نزلت بعد سبأ ، وآياتها خمس وسبعون ، وترتيبها فى المصحف التاسعة والثلاثون ، وفى التنزيل التاسعة والخمسون ، وسمّيت «الزمر» لقوله تعالى فيها : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) (٧١) ، ولقوله : (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) (٧٣) ، باعتبار انقسام الناس يوم القيامة إلى جماعات ، يدخلون الجنة أو النار أفواجا ، زمرة وراء زمرة ، أى جماعة بعد جماعة ، فإما أنهم من الأشقياء أو من السعداء.

والسورة تتحدث عن يوم القيامة باستفاضة ، وتقدّم الدليل إثر الدليل على وجود الله ، وأنه واحد لا شريك له ، وسيد الأدلة وأولها جميعا هو هذا القرآن المعجزة الكبرى ، والدائمة والباقية ما بقيت الدنيا ، وهذا الرسول الذى أنزل عليه القرآن ، فقام بما فيه ، وبلّغ بمضمونه وعلّمه الناس : كقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) (٣) فالقرآن كتاب فى الحق وليس الباطل ، ولتعريف الناس بالله وصفاته ، وأن يعبدوه وحده مخلصين له الدين ، وفى الحديث : «والذى نفسى محمد بيده ، لا يقبل الله شيئا شورك فيه ،» ثم تلا : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ). والآية دليل على وجوب النية فى كل عمل ، وتنبّه إلى أن التقرّب بالأولياء شرك بالله ، ومثل ذلك الذين يجعلون مع الله ولدا سبحانه ، بزعم أنه شفيع لهم عنده ، ويقرّبهم منه منزلة ، ولو أراد الله أن يسمى أحدا من خلقه ابنا أو وليا ، ما أوكل بهم هذه المهمة ، ولجعلها لنفسه ، وهو تعالى المستغنى عن الصاحبة والولد ، وإن يكفر الناس فهو الغنى عنهم ، ولكنه لا يرضى لعباده الكفر ، وإنما طلب إليهم أن يقرّوا بفضله ، ويفردوه بالتوحيد ، وأن يشكروا له نعمه فى الكون وفى أنفسهم ، فيثيبهم ، كقوله : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) (٧) (إبراهيم) ، والموحّد ليس كالمشرك ، ولا العابد كاللاهى ، ولا الشاكر كالجاحد ، ولا العالم كالجاهل ، والمسلم الحقّ لسان حاله : (إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) (١٢) ، وعلّم الله نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك وأمره أن يقول : (اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) (١٤) ، وفارق بين من يعبد الله

٦٤٤

وبين من يعبد الطاغوت ، أى الأوثان والأصنام ، أو الشيطان ، وكانوا قديما يتعبّدونها ، وهم الآن يتعبّدون الأبطال والزعماء ، وعقائد الأحزاب ، والمذاهب ، فأن ننخرط فى حزب ، أو نعتقد فى زعيم ، لدرجة أن ننسى الدين ونعمل ضد تعاليمه ، فذلك هو الطاغوت ، وقول الدين هو أحسن القول ، ولا يستوى من يشرح الله صدره للإسلام ، ويجعله له نورا يمشى به فى الناس ، كمن مثله فى الظلمات ليس يخرج منها ، وقد جمد قلبه لا يلين لذكر ربّه ، ولا يخشع ، ولا يعى ، ولا يفهم. والقرآن أنزله الله وفيه أحسن الحديث : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) (٢٣) ، والمتشابه بمعنى أن بعضه يشبه بعضه ، ويردّ بعضه إلى بعضه ، ويصادق على كثير مما قال الأنبياء قبل نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كعيسى ، وموسى ، وإبراهيم ، وإسحاق ويعقوب ، وإسماعيل ، ونوح ، وصالح ، وهود ... إلخ ، يتلوه المؤمن أو ينصت لقراءته فيخشع قلبه ويلين ، ويخر ساجدا باكيا ، ووصفه تعالى للقرآن بأنه حديث ، كقوله : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (٥٠) (المرسلات) ، وقوله : (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ) (٥٩) (النجم) ، وقوله : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) (٨٧) (النساء) ، وقوله : (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) (٤٤) (القلم) ، وقد ظن به البعض أن الحديث فى هذه الآيات من الحدوث ، بمعنى أن كلام الله محدث ، كما فى الآية : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) (٢) (الأنبياء) ، فالذكر هو المحدث ، أى الأحداث والوقائع التى يتحدث فيها القرآن ، وإنما كلام الله تعالى ليس بمحدّث ، لأنه صفة لذاته تعالى.

ويحفل القرآن بالأمثال يضربها الله تعالى للناس ، لنفعهم وليرجعوا إليها كلما احتاجوها فى أمور حياتهم ودنياهم ، وفيما يتزوّدون به لآخرتهم ، لقوله تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) (٣٨) (الأنعام) أى ما قصّرنا فى شىء ، وجعله الله تعالى عربى اللغة والطابع ، لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه ، ولا تعارض ولا تناقض ، ولا لبس فيه ولا لحن ، فمن يؤمن به فقد اتّعظ واعتبر ، ومن لا يشرك بربّه فقد اتّقى ، ولا يستوى المؤمّن الموحّد مع المشرك الذى يعبد آلهة شتى ، ومثلهما مثل الرجل الذى منه شركاء متشاكسون ، والرجل السليم لرجل لا يشاركه فيه أحد ، هل يستويان؟ والمثل حجّة عليهم ، وما أقصر العمر أن يمضوه فى المنازعات ومحاولة الإقناع ، وفى البحث عن الحجج لإثبات حقائق بدهية ، وعمّا قليل يموت النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما يموتون ، فلا معنى أن يتمنوا له الموت من دونهم ، والخصومة لن تتوقف بموته ، بل ستمتد إلى يوم الدين ، فيفصل فيها أحكم الحاكمين ، ومن أظلم ممن يكذب على الله ، وينسب إليه شركاء وأولادا ، ومن يكذّب بالقرآن من غير تدبّر ولا تأمّل ، وإنه لأظلم من كل ظالم ؛ وأما الذين يجيئون بالصدق ـ

٦٤٥

وهم الأنبياء ، والذين يصدّقون به ـ وهم المؤمنون ، فأولئك هم المتقون الموصوفون بصفات التقوى الحميدة ، وهم المحسنون الذى يستحقون الإحسان والإكرام ، والله تعالى يكفى عباده ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من شرّ من يريدهم بسوء ، والذين يكفرون يعملون على مكانتهم ـ أى طريقتهم من المكر والكيد والخداع ، والذين يؤمنون يعملون على طريقتهم من الدعوة إلى الله وإظهار دينه. وهذا القرآن المعجز فى بيانه نزل بالحق الساطع فى برهانه ، لكل الناس ولجميع الخلق ، فمن اهتدى فلنفسه ، ومن ضلّ فإنما يضل عليها. وللناس فى المنامات آية ، وكما يبعثون من النوم ، فكذلك يبعثون من الموت يوم القيامة. والنوم وفاة صغرى ، والله يتوفى النفوس كاملة فى الموت ، ولا يتوفاها كاملة فى النوم ، ومن استطاع بعثها بعد النوم يستطيع ذلك بعد الموت ، فالنوم دليل من أدلة وجود الله تعالى وصدق البعث ، غير أن هؤلاء المشركين لا يؤمنون بالله ، ويقولون بشركاء معه ، اعتقادا منهم بأنهم شفعاؤهم ، وهم لا يملكون من الله شيئا ، فلا شفاعة إلا لله وحده ، والتوحيد ليس فى صالحهم ، وفى الشرك فوائد ومصالح لهم ، ولهذا فكلما ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم ، وانقبضت نفوسهم ، وما ينجيهم من عذاب الآخرة كل ما يملكون من مال ومثله معه ؛ والإنسان مفطور على المسكنة إذا مسّه الضّر ، فحينئذ يدعو الله ، فإذا رفع عنه الضّر وآتاه نعمة ، استكبر وادّعى أن ما أعطاه إنما كان على علم منه ، فأمر هذا وأصحابه فى الآخرة المذلة والخسران ، وللمؤمنين الإنابة والتوبة ، فلا قنوط من رحمة الله مهما كان إسراف العبد فى الخطايا ، وأولى به أن يتّبع القرآن من قبل أن يأتى يوم القيامة فتسوّد الوجوه ، وأما الذين اتّقوا فينجيهم بفوزهم بالجنة ، لا يمسهم السوء ، فهل إذا أمروا فى الدنيا أن يعبدوا غير الله ، هل ينكصون؟ لا ريب أن من يدعون إلى غير الله جاهلون ، فلا عبادة للمؤمن لغير الله ، ولا شكر إلا شكره لله أن هداه. وتختتم السورة بمشهد يوم القيامة ، تصويرا لجلال الله وعظمته ، ولأنهم لم يقدروه حقّ قدره ، فالأرض فى قبضته ، والسموات مطويات بيمينه ، سبحانه وتعالى عما يشركون ، وينفخ فى الصور نفخة الصعق فيموت كل الأحياء ، إلا من شاء الله من الملائكة ، ثم تكون نفخة الإحياء ، فإذا من كانوا قد ماتوا يقومون يتطلعون فيما حولهم ، وتضيء الأرض بنور الله ، وتستحضر الصحائف للحساب ، ويجاء بالنبيين ليشهدوا على أممهم ، ويقضى بين الناس بالحق ، ويجازى كل إنسان بما عمل ، وهو سبحانه أعلم بما كانوا يفعلون ، وما ثمة حاجة له إلى كتاب ، وإنما هو لإلزامهم الحجة ، ويساق الذين كفروا جماعات إلى جهنم ، فإذا بلغوها فتحت لهم أبوابها ، وسألهم خزنتها : ألم تكن لكم رسل من البشر يتلون عليكم آيات الله ، وينذرونكم؟ ويدخلونهم جهنم

٦٤٦

مثواهم ، ومحل إقامتهم الدائم ؛ وأما المؤمنون المتّقون فإنهم يرشدون إلى الجنة جماعات ، فتفتح لهم أبوابها ، ويسلّم عليهم خزنتها ، ويدعون لهم بطيب الإقامة ، ويبشرونهم بالخلود ، ويحمد هؤلاء لله الذى صدقهم وعده ، وأورثهم الجنة يتبوءون منها حيث شاءوا فنعم أجر العاملين. وغير بعيد يرون عرش الله تعالى ، والملائكة يحيطون به من كل جانب ، يسبّحون لله ويمجّدونه ، وقد ساد السلام ، واستتبّ العدل ، وأقيم الميزان ، فصار لسان حال الجميع : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٧٥) ، ينطق بها كل الكون ، فلم تنسب لقائل ، فدلّ على أن الكل يشهدون بها. فلله الحمد والمنّة.

* * *

٦٢١. سورة غافر

السورة مكية ، وتسمى «غافر» ، و «الطّول» ، للآية فيها فى وصف الله تعالى (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (٣) ، وأصل الطول الإنعام والفضل ، ومنه قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً) (٢٥) (النساء) أى : غنى وسعة. وهو «ذو الطول» يعنى أنه المستغنى إذا لم تقل : «لا إله إلا الله» ، وهو «شديد العقاب» عدلا لمن لم يقل : «لا إله إلا الله» وقيل : «ذى الطول» يعنى «ذى المنّ» ؛ وقيل : «ذى التفضل» ، والفرق بين المنّ والتفضّل : أن المنّ عفو عن ذنب ، والتفضّل إحسان غير مستحق. وقيل : الطّول مأخوذ من الطّول ، كأنه طال بإنعامه على غيره ، أو لأنه طالت مدة إنعامه. وتسمى السورة أيضا «سورة المؤمن» ، لاشتمالها على قصة «المؤمن من آل فرعون فى قوله تعالى : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ) (٢٨) ؛ وهى من السور الحواميم ، أى التى تبدأ بالحرفين المقطّعين «حم» ، وعددها سبع سور ، أولها سورة غافر. وحم (١) ، ون (١) ، والر (١) وغيرها تبدأ بها بعض سور القرآن ، باعتبارها حروف الهجاء التى تصنع الكلمات التى هى وحدات بناء آيات كتاب الله المقروء ، أى القرآن ، كمقابل للعناصر الفيزيائية التى تصنع الكائنات التى هى وحدات بناء آيات كتاب الله المرئى والمشاهد والمحسوس ، أى الكون. وقيل : «حم» اسم من أسماء الله ، أو اسم من أسماء القرآن ؛ وقيل : إن الحروف المقطّعة كلها فى الحواميم وفى غيرها هى فواتح للسور ؛ وقيل : الحاء فى «حم» افتتاح أسمائه : حميد ، وحنّان ، وحليم ، وحكيم ، والميم : افتتاح اسمه : ملك ، ومجيد ، ومنّان ، ومتكبّر ، ومصوّر. ولمّا سئل النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما حم فإنّا لا نعرفها فى لساننا؟ قال : «بدء أسماء وفواتح سور». وقيل : حم كأنها حمّ أى قضى ووقع ما هو كائن ، والمعنى قرب نصره لأوليائه وانتقامه من أعدائه.

وقيل : سورة «غافر» مكية ، إلا الآيتين السادسة والخمسين والسابعة والخمسين فإنهما

٦٤٧

مدنيتان ، وهما : (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٥٧) ، ومن قال أنهما مدنيتان اعتمد فى ذلك على ما فى الآية الأولى من «الجدل» ، باعتبار أن الجدل كان من اليهود ، غير أن ما جاء عن الجدل فى السور المكية أكثر منه فى السور المدنية. ولم يحدث أن جادل اليهود فى الله وإنما جدالهم فى الشريعة وفيما حولها ، وأما الذين جادلوا فى الله فهم كفّار مكة ، ولذا فإن السورة جميعها فى اعتقادنا مكية ، على عكس ما يذهب إليه الكثير من المفسرين. والجدل فى الله وفى التوحيد ، كان موضوع كفار مكة وميّز كل السور المكية عن السور المدنية.

وسورة غافر نزلت بعد سورة الزمر ، وترتيبها فى المصحف الأربعون ، وفى التنزيل الستون ، وآياتها خمس وثمانون آية ، وموضوعها الصراع بين الحق والباطل ، وبين الهدى والضلال ، وتبدأ السورة بتأكيد أن القرآن نزل من عند الله ، وأنه تعالى العزيز العليم ، فمن صفاته تعالى يناسب هذه السورة هاتان الصفتان : أنه تعالى عزيز لا ينال منه أحد ، وعليم يعلم ما تخفى الصدور ، وكل ما يأتى فى السورة من حوادث إنما تحكمها هاتان الصفتان من صفات الله تعالى ، ومع عزته ومنعته وعلمه بما يجرى ، فإنه تعالى غافر يغفر الذنوب ، وتوّاب يقبل التوبة ، وشديد العقاب يطول من لا يؤمن به وحده لا شريك له. وتنبّه السورة إلى أن من يجادلون فى القرآن هم أهل الباطل ، وأصحاب النار ، وهم المترفون يتقلبون فى النعم ، وقبلهم كذب قوم نوح ، وكذبت أمم وأقوام بعد قوم نوح ، وهؤلاء من يسميهم القرآن بمصطلحه : (وَالْأَحْزابُ) (٥) ، هموا أن يأخذوا أنبياءهم ، وجادلوا بالباطل ، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر عليم ، وحقّت عليهم كلمة الله (أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) (٦). وتقارن السورة بينهم وبين «أصحاب الجنة» يستغفر لهم حملة العرش ، ويدعون ربّهم : (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٩) ، و (جَنَّاتِ عَدْنٍ) من مصطلحات القرآن ، وهى جنات النعيم والإقامة ، وعلى عكس ذلك حال الكافرين يناديهم الملائكة أن الله تعالى يبغضهم أكثر من بغضهم لأنفسهم ، لأنه دعاهم إلى الإيمان فكفروا ، فلما صاروا إلى النار دعوا الله أنه تعالى أماتهم اثنتين ، وأحياهم اثنتين ، فذلك يطمعهم أن تكون لهم حياة ثالثة ينزلون فيها إلى الدنيا ، ويصلحون هذه المرة. والموتتان : الأولى كانت وهم فى العدم ، والثانية كانت وهم فى الدنيا ،

٦٤٨

والحياتان : الأولى فى الدنيا ، والثانية بعد البعث. ولقد كفروا فى الحياة الأولى برغم كل الدلائل على وجود الله ، وعلى وحدانيته ، وعلى البعث والحساب والثواب والجزاء ، وأنّى للكافر أن يتّعظ ويتوب؟! مع أنه تعالى يرعاهم خير الرعاية ، ويرزقهم خير الرزق! وأما المؤمن الشاكر فذلك الذى يدعوه مخلصا له دينه ، وهو الله أولا وأخيرا ، له الدرجات الرفيعة ، والعرش العظيم ؛ وهو ينزل وحيه على من يشاء من عباده ويرسله ينذر يوم التلاق : وهو اسم ليوم القيامة ، سمّى كذلك لأن الناس فيه يلتقون ويبرزون ، لا يخفى على الله منهم أحد ، وله حينئذ الملك ، وهو الواحد القهّار ، لا يشاركه أحد فى ملكه ، وهو قهّار لأنه عزيز كما جاء فى أول السورة ، ويقهر بالغلبة كل ما سواه. واسم يوم القيامة أيضا : يوم الآزفة من أزف الوقت يعنى قد حان ، والآزفة هى الساعة قد دنت ، وحينئذ يقضى الله تعالى بالحق ، فهل يقضى به من يدعون دونه؟ ودلائل وجوده وقدرته تحفل بها الأرض ، وكم من الأمم والأقوام كانوا أكثر قوة ولهم الآثار الجليّ ، فما كان لهم من الله من واق. وتضرب السورة المثل للكفّار بموسى وقوم فرعون ، فلما عتى قوم فرعون ، أرسل لهم موسى ، واحتمى فرعون من سلطان موسى بقومه ، وانتحى الطغاة : فرعون وهامان وقارون ، والأول من دهاقين أهل السياسة وطواغيتهم ، والثانى من دهاقين الحرب ، والثالث من دهاقين المال والاقتصاد ، وبات الأمر سجالا بين الطرفين ، طرف موسى يمثّل الحقّ ، وطرف فرعون وهامان وقارون ، وبدا كأن كفة هؤلاء الطغاة الدهاقين هى الراجحة ، وبدا كأن السورة قد شحنت بالعنف والشدّة ، وكأننا قد صرنا فى معركة ، الطعان فيها سجال ، وأن الأمر وإن طال فحتما سيسفر عن نتيجة معروفة مقدما ، تنتصر فيها السياسة والعسكرية والمال ، إلا أن الله كان مع موسى الداعى له ، وأسفرت المعركة عن مصارع الطغاة. وتدخل رجل مؤمن ، يريد أن ينتصر لموسى ، ويهدى قومه ، ودفاع المؤمن كان خير دفاع عن قضية الحق ، ونجّى الله موسى وقومه ، وغرق آل فرعون فهم فى النار ، يعرضون عليها غدوا وعشيا إلى يوم الساعة ، وفيه الناس فريقان ، ففريق فى النار ، وفريق فى الجنة ، والأولون هم المستكبرون ، والآخرون هم المستضعفون ، وتخلص السورة إلى أن الجدل فى الله يردى أصحابه ، ويخاطب الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يترك الجدل ، وينحّيه جانبا ، وأن يصرف عنه أصحابه ، وأن يكونوا على اليقين بأن كل البراهين تثبت وجوده وقدرته تعالى ، وهو الله الخالق الذى لا إله إلا هو ، قرّ الأرض ، وبنى السماء ، وصوّر الناس ، ورزق الطيبات ، فتبارك الله. وتختتم السورة بالأمر للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين بالصبر ، فإن وعد الله حق ، وكل الأنبياء لاقوا العنت ، وصبروا. وليست قصة موسى ، ولا مؤمن آل فرعون إلا

٦٤٩

نموذجا من القصص ، بعضها يقصّه الله على نبيّه ضمن القرآن ، وبعضها لم يقصه. وتختتم السورة كما بدأت ، ببيان مصارع المكذّبين ، وصدق الله فى قوله عن نفسه أنه تعالى : (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (٣) ، فكل من كذّب وفرح بما عنده من العلم سيحيق به حتما ما كان به يستهزئ ، ولمّا يرى العذاب فعندئذ سيؤمن ، فما ينفعه إيمانه لمّا رأى عذاب الله ، وهذه سنّة الله فى عباده ، والكافرون هم الخاسرون.

وفى السورة من المصطلحات : أن «حملة العرش» هم المستغفرون للناس ، وهم أشراف الملائكة ؛ و «العرش» هو الكون كله والوجود بأسره ؛ وفى قوله تعالى : (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (١٤) أن من شرط الدعاء الإخلاص فيه ؛ و «يوم الآزفة» ، و «يوم التلاق» ، و «يوم التناد» من أسماء يوم القيامة ؛ وفى السورة أن الجدل نوعان : جدل بالباطل يقال له «الجدال» ، وجدل بالحق وهو «الحجاج» ، نسأل الله الهداية ، وأن يتقبّل منّا ، وله الحمد والمنّة.

* * *

٦٢٢. سورة فصّلت

السورة مكية ، وآياتها أربع وخمسون آية ، وترتيبها فى المصحف الواحدة والأربعون ، وفى التنزيل الواحدة والستون ، وكان نزولها بعد سورة غافر ، واسمها «فصّلت» بسبب ابتدائها بالآية : (فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٣) ، ومعنى «فصّلت» بيّنت ووضّحت ، فتميز بها الحلال من الحرام ، والحق من الباطل ، تقول : فصّل الكلام أى بيّنه ، ضد أجمله ؛ والآيات فى السورة مفصّلة ، وعكس ذلك أن تكون مجملة ، والدلائل فيها موضّحة لقدرته تعالى ووحدانيته ، وتستفتح بالحرفين المقطّعين حم ، تنبيها إلى أن القرآن مؤلّف من الحروف الأبجدية العربية ، وهى حروف معروفة للجميع ، ومع ذلك لم يستطع أحدهم أن يركّب منها آية واحدة ، دليلا على إعجاز القرآن ، وأن منزّله هو الله تعالى ، وأن مبلّغه لا بد أن يكون نبيّا. والسورة إحدى سور سبع تبدأ بالحرفين حم ، أولا غافر ، ثم فصّلت ، فالشورى ، فالزخرف ، فالدخان ، فالجاثية ، فالأحقاف. وتنزّلها (مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (٢) تقريرا لهذه الحقيقة ، أنه لو لا رحمة ربّك ما تنزّل القرآن بالكلية ، وهو الكتاب المفصّل الآيات ، والعربى اللغة ، الذى جاء قوما يعلمون هذه اللغة واشتهروا بها ، ومع علمهم بها فقد عجزوا عن مثله ، ولو كان القرآن غير عربى لما علموه. والسورة تقريع وتوبيخ وتحدّ لقريش فى إعجاز القرآن ، فقد أعرضوا عنه وادّعوا ثلاثة ادعاءات : أن

٦٥٠

قلوبهم فى أكنّة ، يعنى لا تتأثر بشيء ؛ وآذانهم فيها وقر ، يعنى لا يسمعونه ؛ وبينهم وبين النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يتلوه عليهم ـ حجاب فلا يرونه ، ولا يدرون به. والنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشر مثلهم ، ولقد آمن مع ذلك ، ولأنهم بشر فكان يتوقع أن يتعاطفوا معه ، وما ينقله إليهم هو وحىّ من الله ، وما يقوله لهم ليس إلا كلاما طيبا لا يستفيد هو به ، وفائدته عليهم إذا آمنوا ، ورسالته إليهم أن هذا الكون له إله ، وأنه واحد ، فليستقيموا وليتوجّهوا إليه ، وليستغفروه ، والويل للمشركين ، وأمّا من آمن وعمل صالحا فلهم أجر غير مقطوع ولا محسوب. والعجيب أن يكون كفرهم بالله خالق الأرض فى يومين ، والذى قدّر أقواتها فى يومين ، وقضى السموات السبع فى يومين ، وكان الأحرى بهم أن يخشونه ، لأنه قادر أن يدمرهم تدميرا ، مثلما فعل بعاد وثمود ، فعاد أهلكهم بريح صرصر فى أيام نحسات ، لأنهم استكبروا فى الأرض واستعلوا على الناس ، وجحدوا بآيات الله ؛ وثمود استحبّوا العمى على الهدى ، فأخذتهم الصاعقة بعذاب مهين ، ونجّى الله المؤمنين. والذين يكفرون يحشرون يوم القيامة إلى النار ، ويوزعون ويدفعون ، لأنهم أعداء الله ، وتشهد عليهم جلودهم وسمعهم وأبصارهم بما كانوا يعملون ، وبما كانوا يستترون من الله ، وكان لهم فى الدنيا القرناء يزينون لهم الشر ، ودأبوا عليه حتى استحقوا النار مثوى لهم ، لا محيص لهم عنها ، ولا هم يستعتبون ويسترضون. وكانوا لا يسمعون للقرآن ، ويحضّون الآخرين على عدم السماع لتلاوته ، وأن يلغوا فيه بالتشويش ، ويوم القيامة يتمنون لو يضعوا أيديهم على قرنائهم ليدوسوا عليهم ويجعلوهم تحت أقدامهم سافلين. وأمّا الذين قالوا ربّنا الله ثم استقاموا فلهم الجنة والله وليّهم فى الدنيا والآخرة ، ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وإلى الإسلام وعمل صالحا ، ولا تستوى الكلمة الحسنة من الداعية والكلمة السيئة من الكافر ، والداعية عليه أن يدفع بأحسن الكلام ، والدفع به هو منهج القرآن ، وهو السبيل لإنهاء العداوة واكتساب محبة الناس ، وهذا المنهج وتلك الطريقة لا يتقنها ولا يحسنها إلا من تدرّب عليها وصبر ، وإذا صارت له فهى من حظّه العظيم ، وإذا الداعية وسوس إليه الشيطان ليوقعه فى مكايده فليستعذ بالله. ومن آياته تعالى أن خلق الليل والنهار والشمس والقمر ، والشمس والقمر آيتان لا يتعبّد لهما وإنما التعبّد لله خالقهما. والمتكبّرون كإبليس يرفضون الإسلام لأن فيه السجود لله ، وهم لا يريدون السجود ، والله مستغن عنهم ، وله الملائكة فى السموات يسبّحون بالليل والنهار ولا يسأمون. وهذا القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فهو عزيز ، أعزّه الله ، ويمتنع على الناس أن يقولوا مثله ، وأن يحرّفوه ويبدّلوه ، وما كان الرسول بدعا بين الرسل ، وما قيل له من الرفض والجحود ،

٦٥١

قيل مثله من قبل لمن سبقوه من الرسل ، وهذا القرآن تنزّل باللسان العربى وليس بالأعجمى ، ولو قد تنزل بلغة غير عربية لطلبوا أن يكون بالعربية ؛ وليس فيه باطل ، وهداه هو الهدى ، وفيه شفاء لقلوب الناس وعقولهم من الشك. ومثلما عابوا على النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن عابوا على موسى التوراة ، واختلفوا فيه ولو لا أن الله قد سبق منه الحكم بإمهال الكافرين لعجّل لهم بالعذاب ، إلا أن وقت العذاب هو الساعة ، وعلمها عنده ، ومن يعمل صالحا فلنفسه ، ومن يعمل السيئة فعليها ، ويوم القيامة يضلّ عنهم ما كانوا يدعون قبلا ، ويعلمون أنه لا محيص من النار ، وسيظل الله يطلع الناس كل يوم على الجديد من الكشوف فى الكون وفى أنفسهم ، كعلامة على وجوده وقدرته ووحدانيته ، إلى أن يتبيّن لهم أنه الحق أو تكون الساعة ، وهو تعالى يكفى عباده الأدلة والعلامات ، وسيشهد عليهم ، ولكنهم فى شك من لقاء الله ، وهو تعالى المحيط بكل شىء علما وقدرة ، وهو المحصى والمطّلع على كل شىء. والحمد لله ربّ العالمين.

* * *

٦٢٣. سورة الشورى

السورة مكية ، نزلت بعد سورة فصّلت ، وآياتها ثلاث وخمسون آية ، وترتيبها فى المصحف الثانية والأربعون ، وفى التنزيل الثانية والستون ؛ وقيل من آياتها أربع آيات نزلت فى المدينة ، هى : ٢٣ و ٢٤ و ٢٥ و ٢٧ ؛ واسمها الشورى من قوله تعالى فيها : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) (٣٨) ، فكانت للشورى مكانة كبيرة فى الإسلام ، فلا يبرم المسلمون أمرا من مهام الدنيا والدين إلا بعد المشورة ، ويأخذون بها ، فكانت الآية تعليما للمسلمين أن يقيموا حياتهم على منهج الشورى ، فلا يستأثر بعضهم بالحكم دون الآخرين ، وما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد الحلول والطرق ، وأمر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالشورى ، قال تعالى : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (١٥٩) (آل عمران) ، وتشاور الصحابة فى الخلافة ، وفى أمر أهل الردة ، وفى الزواج والطلاق والميراث ، وفى حدّ الخمر وعدده ، وفى الحروب. وتبدأ سورة الشورى بالحروف المقطعة (حم (١) عسق) (٢) ، فكانت إحدى سور سبع تبدأ بالحرفين «حم» ، وكانت الوحيدة التى قطع بين (حم) (١) (عسق) (٢) ، على خلاف سورة مريم التى بدأت بالحروف المقطعة (كهيعص) (١). غير مفصولة عن بعضها البعض. والحروف المعجمة فى القرآن التى تبدأ بها بعض السور واحدة فى معناها ، فهى إشارة إلى إعجاز القرآن ، وأنه مؤلف من هذه الحروف التى يتقنها الجميع ، ومع ذلك لم يفلح واحد أن يأتى بآية مؤلّفة من هذه الحروف كآيات القرآن ، والله تعالى يقسم بها كما يقسم بآيات الكون ، وجواب القسم أن هذا القرآن المؤلّف من هذه الحروف هو وحىّ من الله العزيز الحكيم إلى

٦٥٢

إلى نبيّه الكريم ، وتنزّلت عليه قرآنا ، ولم يكن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدعا بين الرسل أن أوحى الله إليه ، فقد أوحى إلى رسل آخرين من قبله ، وهذا القرآن لسانه عربى لأنه مرسل إلى العرب ، ولينذر به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أم القرى مكة وما حولها ، بأن يوم القيامة ـ يوم الجمع ـ لا ريب فيه ، وأن الناس فى ذلك اليوم فريقان : فريق فى الجنة ، وفريق فى السعير ـ أى جهنم ؛ ولو شاء الله لجعل الناس جميعا على دين واحد ، وما يختلفون فيه مردّه لله الذى ليس كمثله شىء ، وليس كذاته ذات ، ولا كاسمه اسم ، ولا كفعله فعل ، ولا كصفته صفة ؛ ودينه تعالى المشرّع للناس هو ما وصّى به نوحا ، ومحمدا ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى : أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه. فمن كان من الناس يريد حرث الآخرة يزد الله له فى حرثه ، أى يوفّقه للعبادة ويسهّلها عليه ، ومن كان يريد حرث الدنيا يؤته منها وما له فى الآخرة من نصيب ، وحرث الدنيا هو المال. ويوم القيامة يشفق الظالمون مما كسبوا ، ويدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات روضات الجنات ، لهم ما يشاءون عند ربّهم. وما محمد إلا رسول ، ولم يسأل الناس أجرا على إبلاغه لرسالته ، وما كان يرجو منهم إلا (الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (٣) ، وأن يراعوا قرابتهم به فيصدّقوه ، وينتهوا عن القول بأنه افترى القرآن على الله ، ولو افتراه لختم الله على قلبه فأنساه القرآن ، وسلبه من صدره ، كقوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) (٤٦) (الحاقة). ولو بسط الله الرزق لعباده فى الأرض لبغوا ، وإنما ينزّل الأرزاق بقدر وحكمة ، وفى الحديث القدسى : إنّ من عبادى ما لا يصلحه إلا الغنى ، ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه. وإن من عبادى من لا يصلحه إلا الفقر ، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه». وما يصاب الناس من مصائب فى النفس والمال إلا بسبب معاصيهم ، وعبّر الله تعالى بالأيدى فقال : (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (٣٠) لأن أكثر الأفعال تزاول بها ، وهو تعالى يعفو عن كثير فلا يعاقب عليه ، ولو يؤاخذهم بكل ما كسبوا لهلكوا ، وفى الحديث : «ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء فى الدنيا فبما كسبت أيديكم ، والله أكرم من أن يثنّى عليكم العقوبة فى الآخرة ، وما عفا عنه فى الدنيا فالله أحلم من أن يعاقب به بعد عفوه». ولمّا نزلت هذه الآية قال النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من اختلاج عرق ولا خدش عود ، ولا نكبة حجر إلا بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر». ونظير ذلك قوله تعالى : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) (النساء ١٢٣). وخيرات الدنيا كثيرة ، ومتعها لا حدّ لها ، وما يؤتى الناس من ذلك من غنى وسعة إنّ هو إلا لأيام وتنقضى ، وما عند الله هو الباقى ، والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش هم المؤمنون حقا ، وجزاؤهم الجنة ؛ والفواحش والكبائر بمعنى واحد ، وهى المعاصى ؛ وقيل كبائر الإثم هى الشرك ، والفواحش

٦٥٣

هى موجبات الحدود. وهؤلاء المستحقون للجنة : إذا غضبوا يغفرون ، ويستجيبون لله ، ويقيمون الصلاة ، ويتشاورون فيما بينهم ، وقيل هؤلاء هم الأنصار ؛ وإذا أصابهم البغى ينتصرون لأنفسهم من الباغى ، والسيئة يجازونها بالسيئة مثلها ، والعفو والصلح أفضل ؛ ولا سبيل على من ينتصر لنفسه ، وإنما السبيل على من يظلم ويبغى فى الأرض بغير الحق ؛ والصبر والعفو من عزائم الله وعزائم الصواب ؛ والخاسرون هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ؛ والظالمون فى العذاب المقيم ؛ والإنسان كفور ، فحين يذيقه الله منه رحمة يفرح بها ، وإن تصبه سيئة بما قدّمت يداه يقنط وييأس ؛ والله تعالى يخلق ما يشاء من الذكور والإناث ، وقد يهب للناس أيا منهما ، أو يزاوج بينهما ، أو لا يرزقهم شيئا ويجعلهم بلا عقب. ولكل أمة نبىّ ، وكل نبىّ يكلمه الله إما وحيا أو من وراء حجاب ، أو يرسل إليه رسولا فيوحى إليه ، وكذلك أوحى الله إلى نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأرسل إليه جبريل ، روحا من عنده تعالى ، وما كان نبيّنا يدرى قبل ذلك ما معنى كتاب ولا إيمان ، ولكن الفضل لله لمّا بعثه ، فعرّفه الكتاب وأنزله عليه ، وعلّمه الإيمان ، وفهّمه الأحكام والفرائض ، وجعله نورا وهدى للناس ، يهديهم إلى صراطه تعالى المستقيم ، أى القرآن والإسلام. وكل ما نعمل ونقول ينتهى مصيره إلى الله ، وإليه تصير الأمور جميعها فى الأرض وفى السماء. والحمد لله ربّ العالمين.

* * *

٦٢٤. سورة الزخرف

السورة مكية ، وقيل إلا الآية ٨٩ فمدنية. والسورة نزلت بعد الشورى ، وآياتها تسع وثمانون آية ، وترتيبها فى المصحف الرابعة والخمسون ، وفى التنزيل الثالثة والستون ، وسميت سورة الزخرف لقوله تعالى فيها : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) (٣٥) ، فوصف تعالى الدنيا وصفا رائعا ، فلولا أن يرغب الناس فى الكفر إذا رأوا الكافر فى سعة من الرزق ، فيصيروا أمة واحدة فى الكفر ، لخصّصت هذه الدنيا للكفّار ، ولجعلت لهم القصور المزخرفة المزدانة بأنواع النقوش والزينة ، وكانت سقوفها من الفضة ، ولها السلالم والمصاعد من الفضة ، يرتقون عليها ويصعدون ، ولجعلت لبيوتهم أبواب من فضة ، وسرر من فضة يتكئون عليها ويريحون ، ولجعلت لهم الزينة من نقوش الفضة والذهب ، إلا أن كل ذلك النعيم من متاع الدنيا الزائل ولا بقاء له ، لأن الدنيا نفسها إلى زوال. وتبدأ سورة الزخرف

٦٥٤

بالحرفين المقطّعين (حم) (١) ، تذكيرا بأن القرآن من حروف الأبجدية العادية ، ومع ذلك ظلت آياته معجزة. وسورة الزخرف من الحواميم ، أى السور التى تبدأ بهذين الحرفين حم ، وهى سبع سور. وتبدأ السورة بوصف القرآن ومكانته ، فقالت إنه قرآن عربى ، لأن من أنزل عليهم هم العرب ، ولسانهم عربى مبين ، فلعلهم لذلك يفهمونه ويعقلونه ويؤمنون به. وفى القرآن عموما يأتى أن القرآن عربى فى إحدى عشرة سورة ؛ وفى سورة الزخرف أن القرآن عربى ليتعقّله أهل العربية ، وهو كتاب مصون فى أم الكتاب ـ أى فى اللوح المحفوظ ، وهو كتاب علىّ حكيم ، أى عظيم القدر لما فيه من الحكمة البالغة ، ولإحكامه ، فلا يوجد فيه اختلاف ولا تناقض ، كقوله : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) (٧٨) (الواقعة) ، وقوله : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (٢٢) (البروج) ، فهل هذا أفضل ، أم كان العرب يتركون دون ذكر ، ويضرب عن تذكيرهم صفحا ، ويسقطهم الله من حسابه ، فلا يعظهم بأى كتاب ، لأنهم أسرفوا فى التكذيب والعصيان؟ بل الأفضل أن يوعظوا ، ولو أن هذا القرآن ردّ لهلكوا ، ولكنه برحمته تعالى ظل يكرره عليهم مدة عشرين سنة ، ليهتدى به من يهتدى ، وتقوم به الحجة على من كتبت عليهم الشقاوة. ويقول الله تعالى للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تسلية له : ما أكثر من أرسلوا من الأنبياء ، وما أكثر ما كذّبوا واستهزئ بهم ، وما كانت دعوتهم إلا إلى الله ، ولو سئلوا : من خالق السموات والأرض لقالوا الله ، ولأقرّوا له بالإيجاد ، ولكنهم عند ما عبدوا توجّهوا لغيره ، جهلا وسفها. وقدّم تعالى الدليل على صدق البعث ، فضرب المثل بالمطر ينزل على المكان الجدب فتنمو به النباتات فيضج بالحياة ، فكذلك النشور. ومع ذلك كفروا بالله ، وجعلوا مما خلق أولادا له ، فقالوا : الملائكة بنات الله ، فما أشدّ كفر الإنسان؟! وما أشدّ جهله حين يخص الله بالبنات ويجعل لنفسه البنين؟! مع أنه إذا بشّر بالأنثى اسودّ وجهه ، وكظم غيظه وغضبه ، وليس البنات كالبنين ، لأن البنت تربّى فى الحلية ـ أى الزينة ـ ولا تقوى على الجدل إذا قامت تدافع عن نفسها بالكلام ، والمعنى أن الأنثى ضعيفة لا تقوى على الانتصار لنفسها. وادّعوا أنهم ما عبدوا الملائكة إلا لأن الله شاء لهم ذلك ، فكيف يشاء أن تعبد الأصنام أو الملائكة؟ وما تكلموا الحق وإنما يخرصون ويكذبون. وادّعوا أنهم ما عبدوا إلا ما عبده آباؤهم ، وهذه حجة المترفين فى كل زمان ومكان : أنهم على ما كان عليه آباؤهم ، فهل لو جىء لهم بأهدى مما كان عليه آباؤهم ، هل كانوا سينبذونه ويرفضونه؟ ومثل هؤلاء كمثل قوم إبراهيم ، وكانوا يعبدون الأصنام ، فما صنع إبراهيم صنيعهم ، ولا قلّدهم ، وإنما تبرّأ مما عبدوا ، وأعلن أن الله إلهه ، وهو الذى فطره ، وجعل كلمة «لا إله إلا الله» هى

٦٥٥

الكلمة الباقية فى ذريته. وما كانت قريش ببعيدة عن ملّة إبراهيم ، وملل كل الأنبياء ، ولا جهلوا ما فعله بهم أقوامهم ، وقالت قريش لنبيّهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثلما قال هؤلاء لأنبيائهم ، ورفضوا أن يتركوا عبادة الأوثان ، ووصفوا القرآن بأنه سحر ، وادّعوا أن النبىّ مسحور ، فلو لا نزّل هذا القرآن على رجل عظيم من مكة أو الطائف ، بدلا من أن ينزل على محمد هذا المغمور؟ وسبحان الله!؟ فهل أصبحت لهم الهيمنة حتى راحوا يوزّعون رحمة الله ، فيجعلون النبوة لهذا ويحجبونها عن ذاك؟! وإنما الله هو الذى له هذا الحق ، وهذه القدرة ، وهو الذى يرفع الناس درجات ليستعمل بعضهم بعضا ، ومن ينكر الله ويجحد الحقّ ، يجعل له الشيطان قرينا ، يصدّه عن السبيل ، ويزيّن له عمله ، ويحسب الذين صدّوا أنهم مهتدون ، فإذا كان يوم القيامة تمنّوا لو كان بينهم وبين القرين بعد ما بين المشرقين. ومثل ذلك كان مع موسى ، فلما أرسل إلى فرعون ضحك فرعون من آياته ، فأنزل الله به العذاب ، فجأر يستصرخ موسى ويقول : يا أيها الساحر ، بما لك عند ربّك من عهد السحر ، ادعه أن يرفع عنا العذاب فنهتدى! فلما رفع عنهم العذاب ما صدّقوا ، وكانوا كاذبين ، وقال فرعون : أليس لى ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتى ، وأنا أفضل من موسى هذا الزرىّ فى ثيابه؟ فلو لا أن يبرهن لنا على صدقه ويهدينا أسورة من ذهب ، أو يستصحب معه بعض الملائكة؟! واستخفّ فرعون قومه فأطاعوه على الكفر ، فانتقم الله منهم وأغرقهم أجمعين. ومريم أم عيسى ضربت مثلا آخر ، وابنها علم للساعة ، أى علامة على قربها ، لأن إحياءه للموتى دليل على الساعة وبعث الموتى ، أو أن نبيّنا لعلم للساعة ، بدليل قوله : «بعثت أنا والساعة كهاتين» وضمّ السبابة والوسطى وما دعاهم عيسى إلا إلى الله ، واختلف الناس عليه ، والويل للذين كذّبوا وافتروا عليه ما لم يقله ، وأما المؤمنون فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، ولأنهم كانوا مسلمين أدخلوا الجنة ، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، بينما الذين كفروا ينادون على مالك ـ خازن النار ، أن يميتهم ليستريحوا من العذاب!. ولقد جاءهم الله بالحق فكرهوه وعزفوا عنه ، وأبرموا أمرهم ضد الدعوة ، والله يسمع سرّهم ونجواهم. وفى دعوى النصارى أمر نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول : لو كان للرحمن ولد لكان هو ـ محمد ـ أول العابدين له ، فسبحان ربّ العرش عمّا يصفون ، لا ولد له ولا صاحبة! ثم يقول ربّنا معرّفا بنفسه : وهو فى السماء إله ، وفى الأرض إله ، ويعبدونه فى السماء وفى الأرض ـ وهو الحكيم فى تدبيره ، والعليم بخلقه ، تبارك الله الخالق المالك المتصرف ، وعنده علم الساعة ، وإليه يرجع الأمر كله ، ومن يدعون من دونه لا شفاعة لهم عنده إلا من شهد بالحق. ويوم القيامة لئن سئل هؤلاء الذين

٦٥٦

ينكرون الله : من خلق ما يعبدون؟ لقالوا : الله! فلما ذا كان إذن عزوفهم عن عبادته تعالى والإقرار بألوهيته؟ وتختتم السورة الكريمة بشكوى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لربّه ، يقول : يا ربّ ، هؤلاء قوم لا يؤمنون ـ يقصد أهل مكة. ويعاندون ويتجبّرون! فيقول له ربّ العالمين : اعرض عنهم يا محمد وقل سلام ـ أى اصفح عنهم واتركهم لحال سبيلهم حتى القيامة ، فحينئذ سيعلمون. قيل هذا الكلام فى الصفح نسخته آية السيف وهو غير صحيح ، فكلاهما عن شىء مختلف ، والآية مع ذلك فيها وعيد وتهديد ، مثلما فيها تسلية لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والحمد لله ربّ العالمين.

* * *

٦٢٥. سورة الدخان

سورة مكّية ، وموضوعاتها لذلك هى الموضوعات المكّية ، ومنها : نزول القرآن من عنده تعالى على النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن الله تعالى إله واحد ، وأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسوله إلى الناس ، وأن الآخرة حقّ ، وما فيها من بعث وثواب وعقاب وجنة ونار حقّ ؛ واختير للسورة اسم «الدخان» لأن الدخان من أهم وأبرز علامات أو أشراط الساعة : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) (١٠). والسورة نزلت بعد سورة الزخرف ، وآياتها تسع وخمسون آية ، وترتيبها فى المصحف الرابعة والأربعون ، وفى التنزيل الرابعة والستون. وهى خامسة السور السبع التى تبدأ بالحرفين المقطّعين حم ، وهى على الترتيب : غافر ، وفصّلت ، والشورى ، والزخرف ، ثم الدخان ، فالجاثية ، فالأحقاف ؛ وتبدأ بالقسم بالكتاب المبين وهو القرآن ، وليس كتاب أبين منه وأفصح فى معانيه ، وفى دعوته وأغراضه وألفاظه ، وتؤرّخ السورة لنزول القرآن فى «الليلة المباركة» ، «ليلة القدر» ، سلام هى حتى مطلع الفجر ، واسمها أيضا «ليلة البراءة» ، أى البراءة أو الإبراء من الذنوب ، والبراءة أيضا صكّ التثبّت بنزول القرآن بالأوامر والنواهى والأحكام إلخ ، وتسمى هذه الليلة أيضا لذلك «ليلة الصّك» ، والصّك هو الكتاب ، أى القرآن في تنزّله ، وبسبب القرآن كانت هذه الليلة خيرا من ألف شهر : تتنزّل الملائكة فيها ، بإذنه تعالى من كل أمر ، وفيها يفرق كل أمر حكيم ، ويقضى بالأرزاق ، وبالموت والحياة ، وبكل شىء بدءا من هذه الليلة إلى الليلة مثلها من قابل ، وكان نزول القرآن فى شهر رمضان : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (البقرة ١٨٥) ، وإذن فليلة القدر من ليالى شهر رمضان ، وكان الليل ميقات القرآن ، فمن قال أنها ليلة النصف من شعبان فقد كذب. وفى ليلة القدر أنزل القرآن كله من أمّ الكتاب إلى بيت العزة فى سماء الدنيا ، ثم تنزّل على النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى سائر الأيام والليالى ، نجما نجما ، بحسب اتفاق الأسباب ،

٦٥٧

فى ثلاث وعشرين سنة. وفى السورة أن كل من يؤمن بالقرآن ، يؤمن بالله ، وأنه تعالى ربّ السموات والأرض ، وربّ العالمين ، أى ربّ كل شىء وهو الذى لا إله إلا هو ، يحيى ويميت ، ومن يكفر به فذلك موعده الآخرة يوم العذاب الأليم ، ويوم تمتلئ السماء بالدخان ، ويغطى الأرض ، فلا يكاد يتنفّس الناس ، ويألمون أشد الألم ، وتسمّى السورة يوم القيامة : «يوم البطشة الكبرى» ، ومعنى أنها الكبرى : أن الدنيا فيها بطشات صغرى ، أى نكبات وعذابات ، وبطشة يوم القيامة أو عذاب هذا اليوم ـ هى أكبر البطشات ، ويوم القيامة إذن هو يوم العذاب الأكبر ، وفيه وعده تعالى : (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) (١٦) ، والانتقام عقاب ، والنقمة من الانتقام ، والفرق بين النقمة والعقاب ، أن العقاب بعد المعصية ، لأنه من العاقبة ، أى يعقبها ، والنقمة قد تكون قبلها أو بعدها ، ولأنها البطشة الكبرى فهى العقاب النهائى أو الختامى ، ولو قال تعالى أنها العقاب ، فإن العقاب يقدّر ، وأما الانتقام فهو غير مقدّر ، رحمنا الله. وفى ذلك اليوم يصرخ الكافرون ويجأرون ويسترحمون ، وأنّى لهم من يرحمهم؟ والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد جاءهم فى الدنيا بكل بيان ، واسمه «المبيّن» لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيّن وشرح وفسّر ، وأنذر وبشّر ، ووعد وأوعد ، فلم يتّعظوا ، بل تولوا وقالوا ساخرين «معلّم مجنون»! أى أنه يريد أن يقف منهم موقف المعلّم ، ولكنه لا يعلمهم فى الحقيقة شيئا لأنه مجنون ، أى فاقد العقل. وتتوجه السورة بهذا الكلام لكفّار مكة ، وتنذرهم بقوله تعالى : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ) (١٥) ، فهم فى عذاب الكفر ، ويكشفه الله قليلا طالما هم فى الدنيا ، ويمتّعهم قليلا ، ثم يكون العذاب الأكبر يوم الساعة ، يوم يعودون إليه ، ويبعثون بعد الموت. وتضرب السورة ثلاثة أمثال لأقوام من الماضى ، لعل كفار قريش يتّعظون ، وفى القصص مع الكفر تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين ، ورفع لروحهم المعنوية. وكانت أولى القصص عن قوم فرعون وبنى إسرائيل ، وفيها منى فرعون بالهزيمة ، ونجا بنو إسرائيل ؛ والقصة الأخرى مع الإيمان ، وهى القصة الثانية : وهى قصة عناد وكفر أهل مكة لمّا أنكروا البعث ، كقوله تعالى : (إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣٦) ؛ والقصة الثالثة : هى قصة قوم تبّع والذين من قبلهم ، ذكرتها السورة عرضا ، وأطلقت على المنكرين أنهم كانوا مجرمين. وقصة فرعون وبنى إسرائيل هى القصة الرئيسية ، ورسالة موسى إلى فرعون أن يؤدّى إليه بنى إسرائيل ، وسمّاهم عباد الله ، وسمّى نفسه الرسول الأمين ، ووصف سلطانه من الله بأنه مبين ، ووعظ فرعون أن لا يعلو على الله وحذّره من الاستكبار ، وغلا فرعون وقضى فى موسى بالقتل ، فاستعاذ بالله أن يرجموه ، وأنذرهم

٦٥٨

أن يتنحّوا عنه ويعتزلوه ومن معه ، وأسرى ببنى إسرائيل ليلا ، وتبعهم فرعون وجنوده فكانوا من المغرقين ، والقصة تروى بأسلوب موجز ، ولمساته سريعة ، وبأقوى العبارات تأثيرا ، وأشد الألفاظ تلوينا ، كقوله : (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) (٢٤) ، والرهو هو المنفرج ، والعبارة حافلة بالصور رغم قلة كلماتها ؛ وقوله : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ) (٢٧) ، وهو أسلوب تحسّر ؛ وقوله «كم فيه» للتكثير ؛ والمقام الكريم : هى المجالس والقصور ؛ وقوله : (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) (٢٩) ، هو قمة فى التمثيل والتخييل ، ومبالغة فى وجوب الجزع ، والمعنى أنهم هلكوا فلم تعظم مصيبتهم ، ولم يحزن عليهم أحد ، وهكذا حال المستقويين ، فلما ذا تفتقدهم الأرض وكانوا فيها مجرمين ومخرّبين؟ وإنما تبكى الأرض على من يعمّرها ، ويطهّرها بالسجود إلى الله وتكبيره ، وكل عبد مؤمن له من الأرض مصلّى ، وله مصعد عمل من السماء ، يبكيان عليه إذا مات وافتقدا صلاته وأعماله الصالحات ، وفى الحديث : «وما مات مؤمن فى غربة ، غائبا عن بواكيه (الذين يبكون عليه) ، إلا بكت عليه السماء والأرض ، ألا إنهما لا يبكيان على الكافر». ولقد صدق على قوم فرعون ثم أهل مكة من بعد ذلك قوله تعالى : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ) (١٥) ، وأهل مكة نزل بهم عذاب كعذاب الدخان ، وكان أحرى بهم أن يذكّرهم بعذاب قوم فرعون ، والله تعالى لمّا اختار هؤلاء وهؤلاء للرسالة ، اختارهم على علم على العالمين ، وعلمه تعالى أنهم سيعودون إلى الكفر رغم كل ما تنزّل من الآيات تقسرهم على الإيمان ، وأنكروا الآخرة والبعث ، وقالوا أنه لا موتة إلا الموتة الأولى ، وأنه لا حياة خارج هذا الزمان ، ولا بعث ولا نشور ، وكانوا أصحاب هذه الدعوة فى الفكر العالمى المعاصر ، سواء عن طريق ماركس والمذهب المادى ، أو عن طريق الوجوديين أمثال هيدجر ، وعبد الرحمن بدوى فى كتابه الزمان الوجودى ، أو عن طريق العلوم والبحوث النفسية بنظريات فرويد والتحليليين ، أو بدعوات العولمة التى يتزعمونها اليوم ؛ وكفّار قريش كانوا مثلهم ، وتحدّوا النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأتيهم بآبائهم طالما أنهم أحياء عند ربّهم! وهذا المنطق عند اليهود ومفكريهم ، أو عند كفّار قريش ، أو عند الدهريين من أصحاب الفلسفات المادية ـ وكلهم من اليهود ـ تردّ عليه سورة الدخان ، وتنفى أن يكون الخلق بلا غاية ولا هدف ، وأن يكون عبثا وخلقا عشوائيا ، وأن يكون العيش فى الدنيا اتفاقا ، كقوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٣٩) ، والمذهب الغائى هو دعوة القرآن ، والغائية يأنف منها اليهود ومن يذهبون مذهبهم ، وكان هايدجر

٦٥٩

والوجوديون لا غائيين ، وأعلن الدكتور عبد الرحمن بدوى أنه ضد الغائية ، وضد البرهان الغائى فى إثبات وجود الله ، وينذر الله تعالى اليهود وأتباعهم وأضرابهم بيوم الفصل ، أى اليوم الذى يفصل فيه فى كل هذه القضايا الفكرية الإيمانية ، يوم لا يغنى صاحب عن صاحبه شيئا ، إلا من رحم الله ، ومن رحمهم هم المؤمنون ، تشفع لهم أعمالهم عند ربّهم. وأما الكافرون ، فإن كفرهم صنو الكبرياء والاستعلاء والاستقواء ، ويوم القيامة يصبّ العذاب فوق رأس الكافر ويقال له استهزاء : ذق ، إنك أنت العزيز الكريم! وهذا جزاؤهم ، لأنهم كانوا ممترين ، يعنى شاكّين ، وهكذا كان قوم فرعون ، وأهل مكة الأولون. وأما المتّقون ـ وهم الصنف الثانى الذى ينقسم إليه الناس يوم القيامة ـ فهؤلاء مكانهم الجنة ، سمّاها المقام الأمين ـ أى المأمون ، ومن قبل سمّى قرى وديار مصر المقام الكريم ، لقوله فى العذاب مرة أنه العذاب الأليم ، جعله أليما يوم القيامة ، ثم يصبح العذاب المهين بعد الحساب ، ثم يتحوّل إلى عذاب الحميم ـ وهو نوعية خاصة من العذاب بالماء المغلى يصبّ فوق الرءوس. وعذاب «المستكبر العزيز الكريم» أنكى العذاب ، وطعامه من شجرة الزقوم ، تزقم الأنوف والأفواه بطعامها المنتن المرّ ، وهو «طعام الأثيم» ، والأثيم صفة مبالغة ، وهو المشرك الكثير الآثام. وشجرة الزقوم من أشجار الجحيم ، وتنبّت فى أصلها ـ أى أصل الجحيم ، كأنها رأس شيطان ، ويقال للزبانية اعتلوا هذا الأثيم إلى سواء الجحيم ، أى وسط الجحيم ـ وهو الأشد عذابا ، وعلى عكس ذلك المتقون : فعيشهم فى جنات وعيون ، ولباسهم السندس والإستبرق وهما الحرير الرقيق والسميك ، وطعامهم من كل فاكهة ، يدعون إليه آمنين ، ولا موت فى الجنة ولا جحيم ، فضلا من الله ، وذلك هو الفوز العظيم. وتختتم السورة بالعودة إلى القرآن كما بدأت بالقرآن ، وهو الكتاب العربيّ ، سهّله الله بلغة العرب ويخاطب به النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لعل كفّار قريش يفهمون ويعون عظاته ودروسه ، فارتقب يا محمد إنهم مرتقبون ـ يعنى انتظر عليهم وانظرهم حتى حين ؛ وفى الآية وعد للرسول ، ووعيد للكافرين. وفى السورة الكثير من المصطلحات والعبارات البليغة والمبينة : فالسّير الذى ساره موسى ليلا ، هو سير الخائف الحذر يريد الاستتار بالظلام ، وسير الذى يريد اتقاء الحرّ والعطش ، وكان النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسرى ويدلج (أى يسير أول الليل) ويترفق ويستعجل ، بحسب الحاجة والمصلحة ؛ والحور : جمع حوراء وهى البيضاء ؛ والعين : جمع عيناء وهى الواسعة العينين. والحمد لله ربّ العالمين.

* * *

٦٢٦. سورة الجاثية

سورة مكية ، وقيل إلا الآية : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ

٦٦٠