موسوعة القرآن العظيم - ج ١

دكتور عبد المنعم الحفني

موسوعة القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

دكتور عبد المنعم الحفني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
ISBN: 977-208-442-2
الصفحات: ١٢٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

وحرّموا على أنفسهم وحللوا من الأطعمة ، وما حرّم الله سوى الشّرك ، وقتل الأولاد خشية إملاق ، والفواحش ، وقتل النفس التى حرّم الله إلا بالحق ، ومال اليتيم إلا بالتى هى أحسن حتى يبلغ أشده ، وخسران الميزان والكيل ، وأن تكلّف النفس أكثر من وسعها ، والظلم ، وأوصى بالوالدين إحسانا ، والوفاء بعهده تعالى ، واتّباع صراطه المستقيم. وكما أنزل الله الكتاب على موسى تماما على الذى أحسن وتفضيلا لكل شىء ، وهدى ورحمة ، فكذلك القرآن أنزله مباركا. ويأمر الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول إن دينه هو ملة إبراهيم حنيفا ، وأن صلاته ونسكه ومحياه لله ربّ العالمين ؛ وأنه أول المسلمين ، لا يبغى غير الله ربّا ؛ وأن كل نفس مسئولة عما كسبت ، ولا تزر وازرة وزر أخرى ؛ وإليه يرجع كل الخلق فينبؤهم بما كانوا فيه يختلفون ؛ وهو الذى جعلهم خلائف تخلف كل أمة التى سبقتها ، ورفع درجات بعضهم ليبلوهم فيما آتاهم ؛ وهو سريع العقاب وغفور رحيم. وهكذا تختم السورة خير ختام ، ولله تعالى الحمد والمنّة وهو حسبنا.

* * *

٥٨٨. سورة الأعراف

السورة مكية ، وهى أطول السور المكية ، وقيل إن الآيات مدنية من قوله تعالى : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (١٦٣) إلى آخر الآية : (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (١٧٠) ، والصحيح أن السورة كلها مكية ، ونسقها واحد ؛ ويأتى ترتيبها فى المصحف السابعة ، وفى التنزيل التاسعة والثلاثون. وسميت بسورة الأعراف لاشتمالها على معلومة جديدة لم تتضمنها أية سورة أخرى من سور القرآن ، حيث يأتى الناس يوم القيامة إما أنهم أصحاب الجنة ، وإما أنهم أصحاب النار ، غير أن هناك مجموعة أخرى لا ينتمون إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، وهم أصحاب الأعراف ، والأعراف جمع عرف ، تقول عرف الديك ، وعرف الفرس ، والأعراف : سور على الصراط له عرف ؛ وفى اللغة الأعراف هى المكان المشرف ، فهى شرف الصراط ؛ وأصحاب الأعراف هم : الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم ، وفى الحديث : «توضع الموازين يوم القيامة ، فتوزن الحسنات والسيئات ، فمن رجحت حسناته على سيئاته دخل الجنة ، ومن رجحت سيئاته على حسناته دخل النار». وأصحاب الأعراف على السور بين الجنة والنار ، يقول تعالى : (وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) (٤٦) ، أى أصحاب الجنة

٥٤١

وأصحاب النار ، ولكل سماته ، فهؤلاء مبتهجون فرحون ، وهؤلاء مكتئبون مغمومون ، فإذا وقعت أعينهم على أهل الجنة حيّوهم يرجون أن يكونوا مثلهم ، وإذا صادفت أعينهم أهل النار تعوّذوا أن يكونوا مثلهم ، وعابوا عليهم أنهم كانوا يستكبرون فى الدنيا ، ويسخرون من المستضعفين ، فها هم المستضعفون صاروا إلى الجنة ، وعندئذ يؤذّن أصحاب الأعراف : لعنة الله على الظالمين.

ومشهد أصحاب الأعراف من مشاهد يوم القيامة ، والحوار الذى يدور بينهم وبين أصحاب الجنة وأصحاب النار يبيّن ما يكون فيه أهل الحق ـ أى أصحاب الجنة ، من الشماتة بالمبطلين أصحاب النار. وسورة الأعراف من السور التى تهتم بالصراع بين قوى الخير والنور ، وبين قوى الشر والظلام ، وفيها قصة آدم مع إبليس ، وخروجه من الجنة ، وهبوطه إلى الأرض كنموذج لهذا الصراع ، والله تعالى ينتصر لقوى الخير فى الوجود ، وقد انتصر لآدم وذريته ، وهو قد خلق آدم من طين ، وصوّره ، ونفخ فيه من روحه ، وعلّمه ، وأمر الملائكة أن تسجد له ، فانصاعوا إلا إبليس ، أبى واستكبر ، فكان أول من استكبر فى الوجود ، وعصى الله فكان أول من عصاه ، وحاجّه فكان أول من حاجّه ، وحسد آدم وغار منه ، فكان أول من حسد وأول من غار ، فكل الصفات السلبية كانت فيه ، وادّعى أنه فعل ما فعل لأنه من نار وآدم من طين : (قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (١٢) ، فكان أول من قاس فى الوجود ، وأول من أخطأ فى القياس ، فالنار ليست الأشرف لأنها جوهر مضىء ، ولأنها مخزن الطاقة ، ولأنها الأخف وزنا ، والأكثر ارتفاعا وعلوا والأحدّ طبعا ، ولأنها مصدر خوف ووسيلة عذاب ، ومنافعها لا تنتهى ، بينما الطين محل قذارة وعطالة ، ومصدر أوبئة ، كما ادّعى إبليس ، ومن أجل ذلك رأى أن أصله أفضل من أصل آدم! والحق أن الطين أفضل ، لأنه سهل التشكيل ، ومطواع ، وأداة فى الفنون ، ولا زراعة ولا قوت إلا به ، ولا حيوانات بدون زراعة نباتات. والطين من التراب والماء ، والتراب طهور ومسجد ، وفى التراب مثوى الإنسان ، والماء لازم للحياة لزوم الهواء. وفى الطين سكون وهدوء ووقار وسكينة ، ومن التراب كانت أرض الجنة ، وترابها من الطيب والمسك الأذفر ـ أى الأطيب رائحة. ولذا كان خلق آدم من الطين خير وبركة. ومعنى أنه من الطين أنه ينتسب إلى الأرض ، فالأرض مأواه ومأوى ذريته ، بينما خلق إبليس من النار ، والنار مأواه. والإنسان ليس كله من طين ، وإنما جزء منه من نار هى الطاقة التى يتحرك بها وينفعل ويعمل ويشتهى ، وهى أصل الشهوات فى الإنسان. وإنها لنعمة كبرى أن يرجع أصل الإنسان إلى أب واحد هو

٥٤٢

آدم ، وأن تكون قصة الخلق مدارها آدم ، ولم يكن عجيبا أن يطلب لذلك من الملائكة أن تسجد له. وفى السورة أربعة نداءات متتالية لبنى آدم ، بيّن الله لنا فيها نتائج غواية الشيطان لآدم وزوجته ، فبعد أن طعما من الشجرة المحرّمة ، بانت عورتاهما ، فطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ، ثم منّ الله على ذريتهما بلباس خير من ورق الشجر ، من الريش والشعر ، ثم هداهم إلى لباس التقوى ، ثم إنه تعالى حذّر بنى آدم : لا يفتنهم الشيطان كما أخرج أبويهم من الجنة ، ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما ، وإن الشيطان ليرى بنى آدم هو وقبيله ، وهم عراة من حيث لا يرونهم ، ويدعونهم لذلك إلى الفحشاء. ثم إن الله هدى بنى آدم إلى الإيمان ، فصاروا يعبدونه فى المساجد ، فأمرهم أن يزيّنوا كلما قصدوا المساجد ، تأكيدا لبهجة الإيمان عندهم ، وانتصارا لعنصر الخير فيهم على وسوسة الشيطان ، والتزيين أفضل للمساجد من التزيّن للفحشاء. ومثلما أردى الطعام وشهوة طلبه أبويهم ، فإنه تعالى أمر بنى آدم أن يأكلوا ويشربوا ولا يسرفوا ، ونبّه عليهم أنه تعالى سيرسل إليهم الرسل من بينهم ، ليبيّنوا لهم الأحكام والشرائع ، فمن اتّقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا يحزنون. فهذه هى النداءات الأربعة التى خوطب فيها بنى آدم باعتبارهم ورثة أبيهم آدم ، وهى نداءات خاصة بسورة الأعراف لم تتكرر فى سورة أخرى.

وسورة الأعراف تتوافق مع السور المكية ، وتبدأ البداية المعهودة ، فتذكّر بالقرآن ، وبأنه معجزة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنزل عليه من الله تعالى ، وتفتتح السورة لذلك بالحروف المقطّعة (المص) (١) (الأعراف) (ألف لام ميم صاد). وهى حروف من الأبجدية تأتى فى افتتاحيات بعض السور ، تذكيرا بأن القرآن العظيم هو من هذه الحروف البسيطة التى يعرفها الجميع ، ورغم ذلك لم يستطع أىّ من الذين أنكروا القرآن أن يأتوا بمثله ، ولقد ضاق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإصرارهم على الإنكار ، وفى سورة الأعراف يرفع الله تعالى الحرج عن نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فليس عليه أن يؤمن المنذرون أو لا يأمنوا ، وكل ما عليه هو البلاغ ، ويوم القيامة يكون الحساب. وما كان تكذيب المكذّبين إلا لأن من طبع أغلب الناس أن لا يشكروا لله نعمه ، والكثير من اللوم يقع على الشيطان الذى أقسم أن يقعد لبنى آدم صراط الله المستقيم ، ويأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم ، وعن أيمانهم وعن شمائلهم ، يوسوس لهم بالشرّ والمنكر ، فكان عن حقّ الوسواس الخنّاس ، وكان عدو الإنسان وحزنه ، والله قد حرّم ما يوسوس به من الفواحش ، ما ظهر منا وما بطن ، ومن الإثم والبغى بغير الحق ، وأن يشرك به ، وأن يقال عنه ما لم يعلم عنه ، وما أظلم أن يفترى على الله الكذب ، أو يكذّب بقرآنه ، وهو الكتاب المفصّل على علم ، هدى ورحمة للمؤمنين.

٥٤٣

وفى سورة الأعراف عن قصة الخلق للسماوات والأرض فى ستة أيام. وتناولت السورة قصص الكثير من الأنبياء بإسهاب ، منهم نوح : الذى أنجاه الله ومن معه فى الفلك وأغرق المكذّبين ؛ وهود : الذى أرسل لقوم عاد فجادلوه فى آلهتهم ، فأنزل الله غضبه عليهم ، وقطع دابرهم ، وأنجاه والذين معه برحمة منه ؛ وصالح : الذى أرسل إلى قوم ثمود ، فعقروا الناقة ، وعتوا عن أمر ربهم ، فأخذتهم الرجفة ، فأصبحوا فى ديارهم جاثمين ؛ ولوط : الذى أنكر على قومه أن يأتوا الذكران ، وما سبقهم بها من أحد ، فهددوه وأهله بالإخراج ، لأنهم يتطهّرون ، فأنجاه الله إلا امرأته ، وأمطرهم حجارة دمرتهم تدميرا ؛ وشعيب : الذى دعا قومه إلى الله ، وأن يوفّوا الكيل والميزان ، ولا يبخسوا الناس أشياءهم ، ولا يفسدوا فى الأرض بعد إصلاحها ، فلما يئس منهم دعا عليهم : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) (٨٩) ، فأخذتهم الرجفة فأصبحوا فى ديارهم جاثمين. فلو أن أهل كل هذه القرى آمنوا واتقوا ، لفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض ، ولكن كذّبوا ، فأخذهم بما كانوا يكسبون. وبعث الله موسى إلى فرعون وملائه ، فظلموا بها ، فأخذهم بالسنين ، وهو الجدوب ، وأرسل عليهم الطوفان ، والجراد ، والقمّل ، والضفادع ، والدّم ، آيات مفصّلات ، فكانوا قوما مجرمين ، فانتقم الله منهم وأغرقهم فى اليم بأنهم كذّبوا بآيات الله وكانوا عنها غافلين.

وتحكى السورة عن قوم مرّ بهم بنو إسرائيل ، وكانوا يعكفون على أصنام لهم ، فأراد بنو إسرائيل أن يكون لهم مثلها ، وما دروا أن هؤلاء متبّر وهالك وباطل ما هم فيه ، وغاب عنهم موسى أربعين ليلة ، وعاد ليجدهم قد صنعوا عجلا من ذهب عبدوه ، ثم عفا عنهم ، ونسخ ألواح التوراة ، وفيها من كل شىء موعظة ، وتفصيل لكل شيئ ، هدى ورحمة للذين هم لربّهم يرهبون ، ولكنهم طلبوا أن يروا الله جهرة ، فأخذتهم الصاعقة ، ودعا موسى ربّه أن يغفر لهم ويرحمهم فقد هادوا إليه ، فما كان جوابه تعالى إلا قوله : (قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) (١٥٦) ، قيل سيكتبها ، أى مستقبلا ، ويخصّ بها الأمة التى من أوصافها : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَ) (١٥٧) ، فخلص هذا الوعد لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رسول الله الأمى إلى الناس كافة ، من لدن ربّ العالمين ، لا إله إلا هو ، وتقطّع بنو إسرائيل اثنى عشر سبطا ، وآتاهم من فضله ، ولكنهم كانوا أنفسهم يظلمون ، ومنهم قرية أصحاب السبت ، تحايلوا على شرع الله ، ونسوا ما ذكّروا به ، فأخذهم بعذاب بئيس ، وصاروا قردة خاسئين ، وقطعهم فى الأرض أمما ، فخلفوا خلفا يأخذون عرض الأدنى ، ويقولون إن الله واثقهم أن يغفر لهم مهما كان ما فعلوه!

٥٤٤

وفى السورة قصة بلعام بن باعوراء ، وكان مثلا مخزيا لعلماء السوء ، فصوّرته السورة بأشنع وأقبح ما يتخيّل لعالم يبيع دينه لقاء أن يرضى الحاكم ، ويوظّف علمه لتبرير ظلمه ، ولو شاء الله لأماته قبل أن يضل ، ولكنه أخلد إلى الأرض بضلاله ، وسكن إلى ملذات الدنيا ، وهوى المضلين والكافرين ، فكان مثله كمثيل الكلب ، إن تحمل عليه يلهث ، أو تتركه يلهث ، فهو يلهث على كل حال ، فكذلك الذى يترك الهدى ويفتى للحكام الظلمة ، فإن وعظته ضلّ ، وإن تركته ذلّ ، والناس فى حال الكلال تلهث ، وفى حال الراحة لا تلهث ، إلا الكلب فإنه يلهث فى كل حال ، فى الكلال والراحة ، وكذلك هذا العالم الذى لم يفد من علمه إلا غضب الله ، فلا هو ترك نفسه للجهل ، ولا هو هدى لما تعلّم ، فكان فى الحالين سواء ، وهذه أبشع صورة لمن يرزقه الله العلم النافع ، فيستغله خزيا ووبالا عليه ، ويتّبع الشيطان فيكون من الغاوين.

وتختم السورة بإثبات أن أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ، وما كان محمد مجنونا كما ادّعى اليهود ، قالوا : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) (٦) (الحجر) ، فنفته الآية (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (١٨٤) ، وكان أبلغ الردّ عليهم قوله تعالى للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) (١٩٩) ، وفى هذه الكلمات السبع قواعد الشريعة كلها فى المأمورات والمنهيات ، وليس فى القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية. ويظاهرها فى الحديث : «بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق» أخرجه الحاكم. ولما نزلت (خُذِ الْعَفْوَ) قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كيف يا ربّ ـ والغضب؟» فنزلت : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢٠٠) ، وتتابعت الآيات كلها تحضّ على الإيمان والخير والصلاح ، قال : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٢٠٤) ، ردا على قولهم : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (٢٦) (فصلت) ، وخاطب الله تعالى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والمقصود أمته كلها ، قال : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) (٢٠٥) ، وأخبره تعالى عن أهل السماء : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (٢٠٦). والسجود فى هذه الآية خاتمة الأعراف ، وهو أول سجود فى القرآن ، وكان آخر سجود فى خاتمة العلق. والله الموفق والمستعان ، وله الحمد والمنّة.

* * *

٥٨٩. سورة الأنفال

السورة مدنية إلا من الآية الثلاثين التى تقول : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ

٥٤٥

يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (٣٠) ، إلى غاية الآية السادسة والثلاثين التي تقول : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) (٣٦) فإنها مكية ، وترتيب السورة فى المصحف الثامنة ، وفى التنزيل المدنى التاسعة والثلاثون ، وفى التنزيل بعامة الرابعة والتسعون ، وطابعها عسكرى ، وينبغى إقرارها ضمن مناهج الكليات العسكرية الإسلامية ، أسوة بإقرار سفر يشوع على الكليات العسكرية الإسرائيلية ، والسورة تعنى بالحرفيات العسكرية ، وحرفياتها من الثوابت العسكرية لا المتغيرات ، ومدارها غزوة بدر التى كانت فاتحة الغزوات فى تاريخ الإسلام ، وفيها كانت ممارسة القتال لأول مرة من قبل المؤمنين ، وتناولت السورة تفاصيل هذه الغزوة بإسهاب ، وفيها تقرر أن يكون عذاب الله للمكذّبين بطريق القتال ، بعد أن كان فى الأمم السابقة بطريق النوازل والنكبات والزلازل والفيضانات ، فقوم نوح أهلكهم بالطوفان ، وعاد الأولى أهلكهم بالدبور. وثمود بالصيحة ، وقوم لوط أهلكهم بالخسف وبمطر الحجارة ، وقوم شعيب بيوم الظلّة ، ولم يشرّع القتال إلا لموسى ، ثم لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولأمة الإسلام. وسورة الأنفال هى : بلاغ للمؤمنين ، وبيان بما يجب عليهم فعله مع أعداء الله إذا نشبت الحرب معهم ، وسلوكهم فيها ، وما ذا يقبلون منهم وما ذا يرفضون. ولأن سورة الأنفال هى رصد لكل ما جرى ببدر أطلق عليها البعض سورة بدر ، واستنّت بدر حقائق عسكرية ثبتتها فى أذهان المسلمين ، فالفئة القليلة قد تهزم الفئة الكثيرة ، مثلما هزم المسلمون فى بدر ـ وكان عددهم ثلاثمائة وبضعة عشر ، صناديد قريش ـ وكان عددهم ألفا وزيادة ، والكم العديد لا يهم مقارنة بالكيف النفسى ، والإعداد المعنوى للجيش من أهم أركان التعبئة ، وأن تكون للجيش قضية أفضل من أن لا تكون له قضية ، وقضية الحق أولى بالنصرة من قضية الباطل. وفى الحرب إذا لقى المسلمون أعداءهم زحفا فلا ينبغى أن يولّوهم الأدبار ، إلا إن كان ذلك فرارا خداعيا ، أو أن يفاجئوا العدو ويأتوهم من خلفهم على غرّة ، أو لينضمّوا إلى فئة أو سرية من المسلمين تحتاج المعاونة. والإسلام فيه من يجتهد ويخطئ فى الحرب ، ولا يسمى فرّارا من يرى أنه أخطأ بتركه للمعركة ، وسمّاه النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «العكّار» ، أى العرّاف الذى يعمل عقله ويتصرف من نفسه. وفى الحديث : أن التولّى يوم الزحف من الموبقات السبع ، ومن يولّى الدّبر يبوء بغضب من الله ، والجهاد فرض عين على المسلمين إذا تهددت الدور وأخذت الأرض والأموال ، وهتكت الأعراض ، فهذه هى الحرب الإسلامية المشروعة. ومن دروس بدر أن الأسرى الأمر معهم على خيار ، فإما فداء ، وإما قتل ، وإما مبادلة بأسرى من المسلمين ، وقتل الصناديد من

٥٤٦

العدو أفضل ، لأنه يفت فى عضد إخوانهم ، ويحبط جبهتهم الداخلية ، ويهزمهم نفسيا ، ويشفى صدور المؤمنين. وقائد المسلمين من شروطه أن يبث الطمأنينة بين قواته ، وفى بدر أنزل الله النعاس قبل المعركة على المسلمين أمنة من عنده. ومن خير حرفيات القتال الضرب فوق الأعناق ، وضرب كل بنان أى الأطراف ، وفى الحديث : «إنى لم أبعث لأعذّب بعذاب الله ، إنما بعثت لضرب الرقاب وشدّ الوثاق». والسورة تخاطب المجاهدين يوم بدر بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ست مرات ، تقوية لنفوسهم ، وإعلاء لكلمتهم ، ورفعا من شأنهم ، والإيمان الذى وصفوا به هو الذى يميّزهم عن عدوهم ، ويجعلهم الغالبين ، ويحفزهم أن يكونوا أكثر صبرا وثباتا ؛ وفى قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أنه تعالى يكلّفهم بأشياء ، وما يكلّفهم به فى بدر جميعه لصالح المعركة ، فعليهم أولا : أن لا يولوا الأدبار إلا لو كان ذلك لما يسمونه الخداع الاستراتيجى ، وليأتوا العدو من مكان آخر على غرّة ، أو لينضموا إلى مجاهدين من دينهم معاونة لهم ؛ وعليهم ثانيا : أن يطيعوا الله ورسوله ولا يتولوا عنه أو يكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ، وعليهم ثالثا : أن يستجيبوا لله وللرسول لما يحييهم ويصلحهم ، وفى الإسلام إحياؤهم ، وأخصّ الإسلام الجهاد فى سبيل الله ؛ وعليهم رابعا : أن يتركوا الخيانة ، والآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (٢٨) ، قيل نزلت فى أبى لبابة بن عبد المنذر ، أو فى حاطب بن أبى بلتعة ، والأحرى أنها عامة فيمن يخون المسلمين ممالأة لعدوّهم لمكاسب مادية ، أو تأمينا للأهل والولد ؛ والأمانات هى ما يكلّف به زمن الحرب من أعمال عسكرية ، وكان بعض المسلمين يسمعون الحديث من النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيفشونه حتى يبلغ أعداءهم ، فنهوا أن يخونوا الله ورسوله كما كان المنافقون يصنعون ، وفى الحديث : «ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما ، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ، ومن كان أن يلقى فى النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه» ، وحب الله ورسوله عند المؤمن مقدّم على الأولاد والأموال والنفوس ؛ وعليهم خامسا : أن يتّقوا الله فيجعل لهم فرقانا ويكفّر عنهم سيئاتهم ويغفر لهم. والفرقان هو الفاصل بين الحق والباطل ، ومن اتقى الله بفعل أوامره وترك زواجره ، وفّق لمعرفة الحق من الباطل ؛ وعليهم سادسا : أن يثبتوا إذا واجهوا العدو ، وفى الحديث : «يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا ، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف». وفى بدر قام النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «اللهم منزّل الكتاب ، ومجرى السحاب ، وهازم الأحزاب ، اهزمهم وانصرنا عليهم» ،

٥٤٧

وقال : «إن الله يحب الصمت عند ثلاث ..» وذكر منها الزحف ، إلا أن يذكر المجاهد ربّه كثيرا ، فيدعوه ويستعينه ، وليس أقرب من الله للمؤمن عند القتال ، وليس أذكر لله من المؤمن إذا احتدمت المعركة ، ولو لا ذلك ما أمر الله بالصلاة أثناء القتال ، وما أمر بالثبات والصبر ، فلا يفروا ، ولا ينكلوا ، ولا يجبنوا ، وأن يذكروا الله ولا ينسوه ، ويتوكلوا عليه ، ولا يتنازعوا فيما بينهم فيختلفوا ، فيكون الخذلان والفشل ، وتذهب ريحهم وقوتهم ووحدتهم ، وبمثل ذلك فتح المسلمون الأمصار شرقا وغربا فى المدة اليسيرة ، مع قلة عددهم ، وامتدت بلاد الإسلام فى المشارق والمغارب فى أقل من ثلاثين سنة ، عند ما كان القرآن هو دستورهم ، وسورة كالأنفال هى كتاب الحرب عندهم ، يرجعون إليها ويستشهدون بآياتها ، ويطبقون حرفياتها.

والأنفال التى أطلق على السورة اسمها ، هى ما زاد على المغانم ، تستخلصها من أموال أهل الحرب جماعات من الجيش أو أفراد ، ما كان من الممكن تحصيلها لو لا همّتهم فيها. وفى بدر حدث الخلاف حول الأنفال لا حول الغنائم ، لأنه منذ البداية كان معروفا أن الغنائم توزع بالتساوى بين أفراد المتحاربين ، فأما الأنفال فإن كل من حاز شيئا منها اعتقد أنها ملكه ، فأنكرت ذلك جماعة بدعوى أنهم شغلوا بحرب العدو لا بجمع الأنفال ، وكان فى استطاعتهم أن يفعلوا ذلك لو لا خوفهم أن يكرّ العدو على المسلمين ، ولذلك وجب أن يساوى بين الجميع فيها ، وقالت جماعة : لقد اضطررنا أن نبقى حول الرسول لئلا تغتاله يد آثمة ، والحال معهم جميعا ينبغى أن يكون على التساوى ، فنزلت سورة الأنفال ، وجاء اسمها فى أولى آياتها فى شكل سؤال موجه منهم للنّبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والجواب من الله تعالى للتعليم والتوجيه ، ولقد جعلها الله تعالى للنّبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتصرف فيها وفق صالح المسلمين ، فجعلها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتساوى بين الجميع ، وقال تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١). فهذه الآية خاصة بأن جعلت أمر الحكم فى الأنفال للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونزلت آية الخمس بعد هذه الآية ، لا لتنسخها وإنما لتبيّن أكثر ، طريقة توزيع الغنائم والأنفال ، قالت : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (٤١) ، فجعل سهم الله وسهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم واحدا. وفى الحديث : «لله خمسها ، وأربعة أخماسها للجيش» يعنى المجاهدين ، وقال النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نصيبى معكم الخمس ، والخمس مردود عليكم» ، يعنى ينفقه فى مصالح المسلمين. ومنهم أقاربه ليغنيهم عن الصدقة ـ وصفها بغسالة الأيدى ، واليتامى الفقراء ، والمساكين المحاويج ، وابن السبيل المسافر وليس

٥٤٨

معه ما ينفقه. وفى سورة الأنفال يأتى تسمية يوم بدر : (يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) ، سمى كذلك لأنه اليوم الذى يفرق بين الحق والباطل ، والذى جرت فيه لأول مرة مصارع الطغاة ومهاوى الجبابرة ؛ وفى بدر كان اشتراك النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأول مرة فى القتال ، ولأول مرة قاد جماعته وتجلّى حبّه للشورى ، وللقيادة الجماعية ، وللرجوع للجماعة والأخذ برأيهم ، فلما سار إلى بدر نزل على أدنى ماء هناك ، أى أول ماء وجده ، فتقدم إليه الحبّاب بن المنذر فقال : يا رسول الله ، هذا المنزل الذى نزلته ، منزل أنزلك الله إياه فليس لنا أن نجاوزه ، أو منزل نزلته للحرب والمكيدة؟ فقال : «بل منزل نزلته للحرب والمكيدة» ، فقال : يا رسول الله ، إن هذا ليس بمنزل ، ولكن سر بنا حتى ننزل على أدنى ماء يلى القوم ونغور ما وراءه من القلب ، ونستقى الحياض ، فيكون لنا ماء وليس لهم ماء ، فسار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ففعل ذلك. وأنزل الله المطر عليهم فأطفأ به الغبار ، وبه تلبدت الأرض ، وطابت نفوسهم وثبتت أقدامهم. وليس فى السورة أن الملائكة اشتركت فى القتال فى بدر ولكن ذكرها كان ملهبا لحماس المسلمين ، ومثبّتا للذين آمنوا ، وربط على قلوبهم. وكان انتشار الإشاعة أن الملائكة تحارب مع المسلمين ، مما بعث الخوف فى قلوب الكافرين. وأرعبهم أكثر أن يقبض الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التراب ويحصب به وجوه الكافرين ، فولّوا مدبرين ، وكانوا كلما اقتربوا منه يقبض من التراب قبضة ويرمى به فى وجوههم وهو يقول «شاهت الوجوه» ، وفى مثل ذلك نزلت الآيات : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١٧) ، وفى الآية الكثير من الحكمة ويستشهد بها فلاسفة المسلمين الذين تكلموا فى القدر والكسب ، وهى تبين أنه تعالى خالق أفعال العباد ، والمحمود على جميع ما يصدر منهم من خير يوفقهم إليه ، ويعينهم عليه ، يقول : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) ، أى ليس بحولكم وقوتكم قتلتم أعداءكم مع كثرة عددهم وقلة عددكم ، بل هو الذى أظفركم عليهم ، كما قال : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١٢٣) (آل عمران) ، فالنصر غير مرهون بكثرة العدد والعدد ، وإنما النصر من عنده تعالى كما قال : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (٢٤٩) (البقرة). ولقد كان هواهم يوم بدر أن يتركوا الأسرى لقاء الفدية ، وأنكر عمر عليهم ذلك ، واختار عمر النفير على العير ، واختار النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الفداء لأنه كسب بلا قتال ، كقوله : (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) (٧) ، وغير ذات الشوكة هى البعير ، وأما ذات الشوكة فهم الأسرى من الصناديد ، ونزلت الآيات : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ

٥٤٩

عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦٩) ، فأحلّ الله لهم الغنائم لأول مرة ، وأن يتخذوا من إجراءات الحرب ما يبعث الرعب فى قلوب الأعداء ولا يطمئنهم إلى مصائرهم. والفدية تطمئنهم ، ولكن أن يعرفوا أنهم مقتولون ، ثم يسمع قومهم بقتلهم ، فهذا معناه كسب المعركة المعنوية قبل المعركة بالسلاح والعتاد ، وفى الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشرح ذلك أكثر فيقول : «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلى : نصرت بالرعب مسيرة شهر ؛ وجعلت لى الأرض مسجدا وطهورا ؛ وأحلت لى الغنائم ولم تحلّ لأحد قبلى ؛ وأعطيت الفاتحة ؛ وكان النبىّ يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة». وفى السورة تذكير بما كان مع النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أن تآمروا عليه فى مكة ليقتلوه : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (٣٠). وكان عمّ النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبو طالب قد أرسل إليه يحذّره ، قال : هل تدرى ما ائتمروا بك؟ قال : «يريدون أن يسجنونى ، أو يقتلونى ، أو يخرجونى» ، وكانوا قد أعدّوا لذلك غلاما من كل قبيلة وسيطا يعطى سيفا صارما ، ثم يضربونه ضربة رجل واحد فيتفرّق دمه فى القبائل كلها ، فلم يبت ليلتها فى بيته ، وحلّ مكانه علىّ ، وأذن له فى الخروج من مكة ، وأنزل الله الأنفال فى المدينة بعد بدر ، فى رمضان من السنة الثانية للهجرة.

وفى سورة الأنفال تأتى الآية العظيمة : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (٦٠) ، وفى شرح الآية قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا إن القوة الرمى» ، والرمى الحديث هو الرمى بالمدفعية والصواريخ ، برا وبحرا وجوا ، فالقوة الرئيسية فى الحروب منذ خلقها الله وحتى الآن هى : «الرمى».

وتختتم السورة بالحضّ على أن يوالى المؤمنون بعضهم البعض ، وتوالى كل الفئات والطوائف بعضهم البعض ، والأمة الإسلامية بأسرها ، وعليهم أن ينتصروا معا لمن يستنصرهم من إخوانهم بأى أرض أو بقعة من الأرض ، مثلما أن الكفار بعضهم أولياء بعض ، وإن لم يفعلوا تكن فتنة فى الأرض وفساد كبير. والحمد لله رب العالمين.

* * *

٥٩٠. سورة التوبة

سورة مدنية ، وقيل إلا الآيتين الأخيرتين فمكيتان ، وآياتها تسع وعشرون ومائة ، نزلت بعد سورة المائدة ، وترتيبها فى المصحف التاسعة ، وفى التنزيل المدنى السابعة والعشرون ،

٥٥٠

وفى التنزيل عموما الثالثة عشرة بعد المائة ، وكانت من أواخر ما نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : آخر سورة نزلت من القرآن : سورة براءة ، أى «التوبة» ؛ وقيل : إن أول هذه السورة نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند مرجعه من غزوة تبوك ، وفى تلك السنة بعث أبا بكر الصدّيق أميرا على الحج ليقيم للناس مناسكهم ، ويعلّم المشركين أن لا يحجّوا بعد عامهم هذا ، وينادى فى الناس : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) (١) ، فلما فعل اتبعه بعلىّ بن أبى طالب ليبلّغ ما فى السورة من الأحكام. وكان نزول سورة براءة فى السنة التاسعة من الهجرة ، وهى السنة التى خرج فيها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليغزو الروم ، ورفض الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحج فى تلك السنة وأوكل أمر الحج إلى أبى بكر ، لأنه كما قال : «إنما يحضر المشركون فيطوفون عراة ، فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك» ، يعنى إلى أن يبطل حجّ المشركين وطوافهم عراة. وسورة براءة حرّمت ذلك بعد تلك السنة.

وتتناول السورة أربعة أصناف من الناس ، هم : المشركون ، وأهل الكتاب ، والمؤمنون ، والمنافقون ، وهؤلاء الأربعة هم الذين تحدثت السورة بشأنهم ، وكانت أغلب الآيات عن المنافقين ، ثم المشركين ، ثم المؤمنين ، ثم أهل الكتاب. وسميت السورة «براءة» : باعتبار استفتاحها بقوله تعالى : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١) ، وهذا هو أهم ما تنزّلت به ، ومن أجله أرسل أبو بكر إلى مكة فى موسم الحج حيث الوفود من كل مكان ، ليعلمهم أن الحج بعد هذا العام للمسلمين وحدهم ؛ وسمّيت «التوبة» : بسبب قوله تعالى : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١١٧) ، وقوله : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (١١٨) ، وقوله : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (١٠٤) ؛ وسميت «الفاضحة» لأنها فضحت المنافقين وكشفت أسرارهم. ولمّا سئل ابن عباس عن سورة براءة قال : «تلك الفاضحة»!. وقال حذيفة بن اليمان : إنكم تسمونها سورة التوبة ، وإنما هى سورة العذاب! والله ما تركت أحدا من المنافقين إلا نالت منه!

وسورة براءة أو التوبة هى الوحيدة فى القرآن التى سقطت فيها البسملة فى مصحف عثمان ، وقيل إن سبب ذلك أن العرب كانوا إذا نقضوا عهدا يكتبون لمن نقضوا عهدهم به ، ولا يضمّنوا أول السورة «بسم الله الرحمن الرحيم» ، فلما نزلت السورة بنقض العهد مع المشركين ، وأرسل علىّ ليقرأها عليهم ، لم يبسمل على ما جرت العادة به ، وإذن فعلى هو

٥٥١

الذى استنّ ذلك. وقيل : إن عثمان قرن بين سورتى الأنفال وبراءة ، مع أن الأنفال من السور المثانى ، وبراءة من السور المئين ، ولم يكتب «بسم الله الرحمن الرحيم» بين السورتين ، ووضعهما كسورة واحدة ضمن السور الطوال ، وتعلل بأن الأنفال كانت من أوائل ما أنزل فى المدينة ، بينما براءة من أواخر ما أنزل ، ومع ذلك فإن قصتيهما كانتا متشابهتين ، وقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يبيّن أنها منها أو أنها غيرها ، فظن عثمان أنها منها ، ومن ثم قرن بينهما ولم يكتب بينهما «بسم الله الرحمن الرحيم»؟!! وإذن يكون عثمان هو السبب. ولكن الأغرب من ذلك أن يقول صحابى مثل سعيد بن جبير ـ إن كان قد قال ذلك ولم ينتحل عليه : إن سورة براءة كانت فى طول سورة البقرة؟!! فأين ذهب الباقى إذن؟! وقيل : إن كتبة القرآن انقسموا فريقين ، ففريق اعتبر السورتين سورة واحدة ، وفريق اعتبرهما سورتين ، فاتفقوا أن يدرجوهما ضمن المصحف مع تثبيت الرأيين ، فجعلوهما سورتين ولم يفصلوا بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم. وقيل : إن عليا قال إن بسم الله الرحمن الرحيم أمان ، وبراءة نزلت بالسيف ليس فيها أمان! وقيل : بسم الله الرحمن الرحيم ، رحمة ، وبراءة نزلت سخطة. وقيل : إن السبب إن جبريل لم يتلها على النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببسم الله الرحمن الرحيم! وكما ترى فإنها جميعا أسباب واهية ، فما ضرر بسم الله الرحمن الرحيم لتحذف منها إن كانت السورة سخطة أو نقمة؟ وما معنى أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم توفى ولم يأمر ببسم الله الرحمن الرحيم فى بدايتها؟ أليست العادة أن كل سورة تبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم دون أن يذكر أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خصّها بذلك أو لم يخصها؟ وكيف تكون قصة الأنفال شبيهة بقصة براءة ، مع أن كل قصة وكل سورة لها مقاصدها وغاياتها وتوجهاتها ، وكانت الأنفال لعموم المسلمين بشأن الحرب والمغانم ، بينما براءة لإلغاء العهد مع المشركين ، وإدانة أهل الكتاب وفضح المنافقين؟! ومن الواجب إذن تصحيح هذا الوضع ، فبسم الله الرحمن الرحيم تشرف بها سور القرآن ، وهى جزء من كل سورة ، وموجز لكل سورة مهما كانت موضوعات السورة ، وتلخص دعوة الإسلام فى التوحيد ، وتعرّف باسم الله ، وبأشرف أسمائه تعالى. فما ذا عليها أو على السورة لتحرم من هذا الشرف الكبير؟! وربما يكون الإصرار على حذفها تذكيرا بتاريخ هذا الخلاف ، فإن أدرجت ضمنها «بسم الله الرحمن الرحيم» ينسى هذا التاريخ ويسقط من ذاكرة المسلمين.

وسورة براءة بلاغ للمشركين والكفار من أهل الكتاب والمنافقين ، وتنبيه لهم ، وإعلان للحرب على الشرك والكفر والنفاق ، ولو لا نزول سورة براءة لما استشعر المشرك أنه مشرك ، ولا الكافر من أهل الكتاب أنه كافر ، ولا المنافق أنه مفسد فى الأرض ، ولاستمر

٥٥٢

كلّ فى حياته العادية ، وكأنما كان نزول الإسلام حركة انقلاب تحولت بها زعامة العرب من فئة الكافرين إلى فئة المؤمنين ولا أكثر من ذلك. ولكن سورة براءة وضعت حدا للمشركين والكفار والمنافقين ، ونحّتهم عن الحياة العامة ، ومنعت أن يكون لهم الغلبة على التكوين العام للعقلية العربية ، وطبعت المجتمع بالطابع الإسلامى الصرف ، وميّزت المسلمين عن غيرهم ، وأوضحت بشكل لا لبس فيه أهداف الإسلام نحو إنشاء الدولة الإسلامية ، والتأسيس لنوعية التربية والتعليم الإسلاميين. وفضحت السورة المعارضين ، وأوجزت فى عبارات بليغة نقدها لفلسفاتهم ، ودللت على تفاهة معتقداتهم وتهافت مذاهبهم التى يصدرون عنها ، وأعلت من شأن الإسلام وكلمة الحق والدين ، وجعلت السورة مهلة أربعة شهور لمن كانت بينه وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهود ، ومن كان عهده أكثر من أربعة أشهر يتم له عهده ، كقوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (٤) ، ولم يبدأ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقطع العهد ولكن الذى قطعه كان أهل مكة ، وذلك أنه كان قد تصالح وقريشا عام الحديبية على أن يضعوا الحرب ، فعدت بنو بكر على خزاعة ونقضوا العهد ، وأعانت قريش بنى بكر بالسلاح والرجال ، فانهزمت خزاعة ، فكان ذلك نقضا لصلح الحديبية ، وذهب الخزاعيون إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستغيثين به ، فقال : «لا نصرت إن لم أنصر بنى كعب» ـ يعنى خزاعة ، وتجهّز الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مكة ففتحها سنة ثمان هجرية ، واتجه إلى هوازن وكانت وقعة هوازن يوم حنين فى أول شوال سنة ثمان ، وحاصر الطائف ، ثم انصرف إلى الجعرانة ، وفى رجب من سنة تسع اتجه إلى غزوة الروم التى هى غزوة تبوك ، ونزلت براءة قبل الغزوة وأثناءها وبعدها. والسورة فيها جواز نقض العهد ، وقيل إن العهد قد نسخ ولم يكن ذلك نسخا وإنما نقض له أسبابه ، وأعلن النقض يوم الحج الأكبر ـ وهو مصطلح إسلامى ، قيل هو يوم عرفة ، وقيل هو يوم النحر ، والصحيح أنه يوم النحر ، وسمى يوم الحج الأكبر بقول النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه : «هذا يوم الحج الأكبر» ، كمقابل لقول الناس الحج الأصغر ، وبناء على إعلان براءة الله ورسوله من المشركين ، لم يحج مشرك عام حجة الوداع الذى حجّ فيه النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ويوم الحج الأكبر : يهراق فيه الدم ، ويوضع فيه الشّعا ، ويلقى فيه التفث (الوسخ) ، وتحل فيه الحرم ، وهو يوم الحج كله.

وفى السورة أن الشهور الأربعة هى الشهور الحرم ، أو شهور العهد ، وإذا انسلخت ، يباح قتل كل مشرك باستثناء المرأة والراهب والصبى والزمن ، وتمنع المثلة ؛ وقيل إن الآية : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ

٥٥٣

كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥) ، هى آية السيف ، وأنها تنسخ كل آية فى القرآن فى ذكر الإعراض عن المشركين ، والصبر على أذى الأعداء. والصحيح أنها لم تنسخ أيا من هذه الآيات ولم تنسخها بدورها الآية : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) (٤) (محمد) ، يعنى لا يقتل أسير صبرا ، فإما أن يمن عليه وإما أن يفادى. وقيل : إن هذه الآية الأخيرة من سورة محمد تنسخها آية السيف ، فإنه لا يجوز مع الأسارى من المشركين إلا القتل. والصحيح أن الآيات كلها محكمة ، لأن الإعراض ، والصبر على الأذى ، والمن ، والقتل ، والفداء فى الأسرى ، كل ذلك لم يزل من حكم النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أول حرب حارب فيها المشركين ، وهى يوم بدر ، بدليل قوله تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥) ، وهى حالات ليس فيها القتل المباشر ، وفيها التخيير ، والقتل فيها معلّق على الشرك ، ومتوقف عليه ، فإذا زال الشرك زال القتل بزواله. وكيف يكون القتل مباشرة وهو تعالى يقول : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) (٦) ، يعنى أنه لا يقتل ، وأن الحربى إذا وجد فى طريق بلاد المسلمين وطلب الأمان ، فلا يؤذى ، ويردّ إلى مأمنه ، وكذلك التاجر لا يتعرض له حتى يبيع ، ولا تجعل الآية : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) (١٧) للمشركين تولّى أحكام المساجد ودخولها. ويثبت الإيمان لمن يعمر المساجد بالصلاة فيها ويصلحها وينظّفها.

وفى السورة عن يوم حنين أن المسلمين أعجبتهم كثرتهم فلم تغن عنهم شيئا ، وانهزموا وضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، وولّوا مدبرين ، وأنزل الله سكينته على رسوله والمؤمنين ، وأنزل ربّ الجنود جنوده وعذّب بهم الذين كفروا ، قيل كان النبىّ يحصبهم بالحصيات ، ويقول : «انهزموا وربّ محمد» ، فانقلبت المعركة ضد الهوازيين ، وفى هذه الغزوة أباح الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم سلب القتلى ، ولهذا صارت لغزوة حنين أحكام ضمن الأحكام. وحنين واد بين مكة والطائف.

وفى سورة براءة : أن المشركين نجس فلا يقربوا المسجد الحرام ، وذلك عام فى سائر المساجد ، وكان ذلك التحريم سنة تسع هجرية. وآية القتال فى السورة لأهل الكتاب هى الآية : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) (٢٩). والجزية لا تقبل إلا من أهل الكتاب خاصة. وهم أهل الذمة ، وأقلها دينار عن الفرد البالغ الغنى

٥٥٤

والفقير الحرّ ، ويخفف عن الضعيف. وأما أهل الصلح فما صولحوا عليه ، ومن يسلم تسقط عنه الجزية ، ومن يدفع الجزية يدفعها عن يد ، يعنى بنفسه غير مستنيب فيها. وأهل الكتاب هم النصارى واليهود ، وهؤلاء هم الكفار ، لأنهم قالوا مثلما قال الذين كفروا ، فاليهود ألّهوا عزير ، واعتقدوا ما كتبه من الأسفار هو توراة موسى وألواحه ، وأنه موحى إليه ولا ينطق عن الهوى ، وما كان من الممكن أن يكتب الأسفار دون أن يكون بمثابة الابن لله وقد آثره الله بعلمه ؛ والنصارى قالوا المسيح ابن الله ، أرادوا بذلك عكس ما أراد اليهود ، فاليهود أرادوا ببنوة عزير لله أنها بنوة رحمة ، وأما النصارى فأرادوا ببنوة عيسى لله بنوة نسل ، واتخذ اليهود أحبارهم أربابا ، واتخذ النصارى رهبانهم أربابا ، وما أمرت الطائفتان إلا ليعبدوا الله الواحد لا إله إلا هو سبحانه عمّا يشركون ، وكثير من هؤلاء وهؤلاء ليأكلون السّحت ، ويشهدون بالباطل ، وينكرون الحق. وقد أمر المسلمون أن يقاتلوا المشركين كافة لمّا ثبت أن المشركين يقاتلونهم كافة ، إلا فى الشهور الحرم ، ولا يحاولون أن يؤخّروا شهرا منها أو يقدّموه ، كما كان المشركون يفعلون. وتأخير الشهور أو تقديمها كان يسمونه النسيء. وتحضّ السورة المسلمين على القتال ، وتستنفرهم ، وتعيب عليهم أن يثّاقلوا إلى الأرض. وتروى كيف نصر الله تعالى نبيّه إذ أخرجه المشركون ثانى اثنين ، والأول هو أبو بكر ، سمّته «صاحبه» ، كقوله تعالى : (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) (٤٠) ، وذلك من فضائل أبى بكر ، ودليل على أنه الخليفة بعد النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وتعيب السورة على المسلمين قعودهم عن الانتصار للنّبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واستصعابهم للسفر معه إلى تبوك ، ولو كانت المسافة أقرب لاتّبعوه. وتأخذ على النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن وافق على استئذانهم ولم يتبين صدقهم فيه ، وما كان استئذانهم فى الحقيقة إلا لأنهم ما كانوا مؤمنين ، وارتابت قلوبهم ، ولو خرجوا مع المسلمين لأسرعوا فيما بينهم بالإفساد والإيضاع. ومن علامات هؤلاء المنافقين أنهم لا يأتون الصلاة إلا كسالى ، ولا ينفقون إلا وهم كارهون ، ويحلفون أنهم من المسلمين ، وما هم منهم ، ويلمزون النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الصدقات ، أى يطعنون عليه ، فإن أعطاهم منها رضوا ، وإن لم يعطهم سخطوا ، مع أن الصدقات لا يستحقونها ولها منصرفاتها ؛ وبيّنت السورة سبع منصرفات للصدقات ، والمقصود بها صدقات الفرض ؛ وأولى هذه المتصرفات الفقراء ، ثم المساكين : والفقير أحسن حالا من المسكين ، وله بعض ما يكفيه ويقيمه ، والمسكين لا شىء له ، وأشد حاجة من الفقير ، ويستوى فى الصدقات أن يكون مستحقا مسلما أو ذميا ، فكلاهما تجوز عليه الصدقة. ومن المستحقين : العاملون عليها : وهم جباة الصدقات ، وكانوا يتقاضون على ذلك ثمنا لتعطيلهم أنفسهم لمصلحة

٥٥٥

الفقراء ؛ والمؤلفة قلوبهم : وذلك مصطلح لم يرد فى القرآن لغير قسم الصدقات ، وكانوا فى صدر الإسلام يتألّفون بعض الناس ، بدفع سهم من الصدقة إليهم ، لضعف يقينهم ، وكان هؤلاء لا يسلمون بالإقناع ولا حتى بالقهر والسيف ، إلا بالمال. وقيل المشركون ثلاثة : صنف يرجع بإقامة البرهان ، وصنف بالقهر ، وصنف بالإحسان. ومن هؤلاء الأخيرين : المؤلفة قلوبهم ، وكان منهم عيينة بن حصن ، وكان مغموزا عليه ؛ ومنهم متفاضلون كالحارث ابن هشام ، وحكيم بن حزام وعكرمة بن أبى جهل ، وسهيل بن عمرو ، ومنهم دون ذلك. وعدّ من المؤلف قلوبهم أبو سفيان بن حرب. ومن الصدقات يجوز أن تشترى الرقاب فتعتق ، أو تفك ، أو يعان فى ثمنها. والغارمون ممن يستحقون أن تشملهم الصدقات ، هم الذين ركبهم الدين ولا وفاء عندهم ؛ وفى سبيل الله : هم الغزاة وموضع الرباط ، يعطون ما ينفقون فى غزوهم ، سواء كانوا أغنياء أو فقراء ؛ وابن السبيل : والسبيل هو الطريق ، وابن السبيل هو المسافر الذى تنقطع به الأسباب فى سفره عن بلده ومستقره وماله.

وتعظ السورة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين أن يجاهدوا الكفار من أهل الكتاب والمنافقين ، وأن يغلظوا عليهم ، فبعضهم من بعض ، يأمرون بالمنكر ، وينهون عن المعروف ، ويقبضون أيديهم ، وبعضهم قال كلمة الكفر بعد إسلامه ، أى سبّ النبىّ والإسلام ، وبعضهم يلمز المطّوعين من المؤمنين فيما يقدمونه من الصدقات ، وبعضهم قعد عن القتال بدعوى شدّة الحر ، وهؤلاء هم الخوالف ، فلم يستعن بهم بعد تبوك ، وأمر المسلمون أن لا يصلّوا على الخوالف إذا ماتوا ، مثل عبد الله بن أبىّ بن أبى سلول ، وتطلق السورة على المعتذرين بغير عذر من الخوالف اسم المعذّرون ، وأما الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون فهؤلاء لهم أعذارهم حقا ولا تثريب عليهم. والأعراب أشد كفرا ونفاقا من المنافقين ، وهؤلاء هم أهل البوادى من حول المدينة ومن أهلها ، ومنهم من يؤمن بالله وينفق بإخلاص قربات إلى الله. ومن المنافقين أصحاب المسجد الضرار ، اتخذوه ليكون مركزا لهم لنشر إشاعاتهم والتفريق بين المسلمين ، فأحرقه المسلمون وهدموه ، وأمروا أن لا يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى ، ومثلهم كمثل إبراهيم ، فقد وعد أباه أن يستغفر له ، فلما تبيّن له أنه عدو الله تبرّأ منه. ولقد تاب الله على النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمهاجرين والأنصار الذين اتّبعوه فى ساعة العسرة ، من بعد ما كاد يزيغ قلوب بعضهم ؛ وساعة العسرة هى التى اشتد فيها القتال وبلغ الجوع والعطش بالمسلمين مداهما. وكذلك تاب على الثلاثة المخلّفين ، وهم : كعب بن مالك ، ومرارة بن ربيعة العامرى ، وهلال بن أمية الواقفى. وما كان على المسلمين أن ينفروا كافة ، فالجهاد ليس على الأعيان ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعزّ عليه معاناتهم ،

٥٥٦

ويحرص عليهم ويرأف بهم ، فإن تولوا بعد كل ذلك ـ والخطاب للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأمة الإسلام من بعده ، فحسبه الله لا إله إلا هو ، وهو ربّ العرش العظيم. والحمد لله ربّ العالمين.

* * *

٥٩١. سورة يونس

السورة مكية ، وكما قيل إلا الآية : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) (٩٤) ، فإنها مدنية ، ونزلت فى اليهود ، وهناك أقوال أخرى بأن آيات أخرى من السورة مدنية ، إلا أن السورة فى عمومها متناسقة ، ومعانيها متوافقة ، ويطبعها جميعها الطابع العام للسور المكية ، من حيث الاهتمام بأصول العقيدة ، ومناقشة معانى الإيمان بالله ، والاستدلال على وحدانيته ، والبرهنة على البعث والجزاء ، والاستشهاد بقصص الأنبياء ، وأخبار الأمم السابقة ، والتنبيه إلى عظمة القرآن ، وأنه المعجزة التى انفرد بها النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذه السورة فى المصحف هى العاشرة فى الترتيب ، وفى التنزيل هى الواحدة والخمسون ، وكان نزولها بعد سورة الإسراء ؛ واسمها سورة يونس ، لأنها تحدثت ضمن من استشهدت بهم من الأنبياء كنوح وموسى وهارون ، عن موقف النبىّ يونس مع قومه ، ورغم أن نصيب يونس من السورة آية واحدة ، وتأتى فى آخر السورة ، إلا أن قوم يونس كانوا جميعا من المؤمنين ، على عكس قوم نوح وموسى وهارون ، فاستحقوا مصيرا مختلفا عن مصائر أقوام الأنبياء الآخرين ، بقوله تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (٩٨) ، وفى الحديث الصحيح : «عرض علىّ الأنبياء ، فجعل النبىّ يمر ومعه الفئام (أى الجماعة) من الناس ، والنبىّ يمر معه الرجل ، والنبىّ معه الرجلان ، والنبىّ ليس معه أحد ...» ثم ذكر كثرة أتباع موسى ، وكثرة أمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كثرة سدّت الخافقين. والغرض أن قوم يونس كانوا نسيج وحدهم ، ومضرب الأمثال فى الإيمان ، وهم أهل نينوى بالعراق ، فلما هجرهم يونس وظنوا أن العذاب قد دنا منهم ، أقرّوا بالتوبة ، ولبسوا المسوح ، ولجأوا إلى الله نادمين ، فعاد إليهم يونس فكشف عنهم العذاب ، فصاروا عبرة المعتبر ، ولعل كفار مكة يتعظون بقصتهم.

وتبدأ سورة يونس بالحروف المقطّعة (الر) (ألف لام راء) ، كخمس سور أخرى ، هى بحسب ترتيب التنزيل : يونس ، ثم هود ، ثم يوسف ، ثم الحجر ، ثم إبراهيم. وهذه الحروف من حروف الأبجدية ، إشارة إلى أن القرآن هو من هذه الحروف البسيطة التى

٥٥٧

يعرفها الجميع ، ولكن ما من أحد يستطيع أن يأتى بمثل سور القرآن ، أو حتى بآية ، ولو ظاهر بعضهم البعض. وقوله تعالى : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) (١) قسم بهذه الحروف بأن آيات هذا القرآن المعجز منها ، وفيها الحكمة كلها ، كقوله : (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) (١) (هود) ، والحكيم هو المحكم : يحكمه الحلال والحرام والحدود ؛ أو هو الحاكم : يحكم بالحلال والحرام ، ويحكم بين الناس بالحق ، كقوله تعالى : (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) (٢١٣) (البقرة) ، أو هو المحكوم فيه ـ أى فى الكتاب ، يحكم الله فيه بالعدل والإحسان ، والنهى عن الفحشاء ، والمنكر ، ويحكم بالجنة للمطيعين ، وبالنار للعاصين ؛ والحكيم : هو المحكم من الباطل ، فلا كذب فيه ولا اختلاف. ولهذا قيل إن قريشا لم تستصغر القرآن ، وإنما كان استصغارها لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكبر عليها أن يكون هو بالذات مبعوث الله بهذا القرآن ، كقوله تعالى : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) (٢) ، وفيه تعجّب من موقفهم ، وتوبيخ لهم ، فليس عجبا أن يوحى إلى رجل منهم ، ولكن اعتراضهم كان لسبب آخر ، قالوا : ما وجد الله من يرسله إلا يتيم أبى طالب؟! ولما استمعوا لنذارته وبشارته تعجبوا أكثر ونسبوا إليه السحر ، وكأن ما يقوله القرآن فى الله تعالى لا يعدو كلاما ساحرا ، والله تعالى يقول : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ) (٣) ، ويعدّد كبرهان له آياته تعالى فى الكون ، فهو الذى يبدأ الخلق ثم يعيده ، وجعل الشمس ضياء والقمر نورا ، والناس حيال هذه الآيات إما غافلون ـ وهؤلاء إيمانهم فقط بهذه الحياة الدنيا ، وإما مؤمنون صالحون ولهم الجنة : (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٠) ، ولو عجّل الله للناس العقوبة كما يستعجلون الثواب لتوفّاهم ، ولقد أهلك القرون الأولى لمّا ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات ، وهؤلاء الكفرة من أهل مكة تنزّل عليهم القرآن فما آمنوا ، وطلبوا تبديله ، وفرق بين تبديله وأن يأتى بقرآن آخر ، فالقرآن الآخر لا يجوز أن يكون النبىّ المنزّل عليه محمدا ، وأما التبديل فيجوز. وتبديله يعنى إسقاط ما فيه من تعيب لآلهتهم ، وتسفيه لأحلامهم. ولو شاء الله ما أعلمهم بالقرآن أصلا ، وما أرسل النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم ، وليتهم عبدوا إلها ينفعهم ، أو ليت ما يعبدون يشفعون لهم حقيقة يوم القيامة؟! وما كان الناس فى أول الخلق إلا أمة واحدة ، وكانوا يعبدون الله ، ثم كثروا واختلفوا ، وأهل مكة طالبوا النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بآية من الله ، ولم يعجبهم القرآن كآية ، مع أن الآيات فى أنفسهم ومن حولهم ، فلو مسّهم الضر يصرخون بالإيمان ، أفليس فى ذلك آية؟ وإذا ارتفع عنهم الضر عادوا للعصيان ؛ وإذا

٥٥٨

كانوا فى البحر وعصفت الريح دعوا الله مخلصين ، ولو أنجاهم عادوا للبغى فى الأرض! وكأنهم قد اطمأنوا للدنيا مع كثرة ما تنزل بهم نوازلها ، ولكنها محبة أن يعيشوا وتطول أعمارهم ، فالدنيا تعجبهم ، ويجدون فيها زخارفها وزيناتها ، مع أنه كلما ازيّنت كان ذلك إيذانا بنهايتها المرتقبة ، والله لا يدعو للدنيا وإنما لدار السلام ـ أى الجنة ، سمّاها «دار السلام» لأن من يدخلها يسلم من الآفات ، والسلام لا ينقطع عن أهل الجنة ، وهو تحيتهم ، ويسميها لذلك «الحسنى» ، ويعد بها الذين أحسنوا فى الدنيا ويعدهم بالزيادة عليها بأن يغفر لهم من الله تعالى ؛ وأما المسيئون فجزاء السيئة بمثلها ، ويحشرون جميعا ويزال بينهم ـ أى يفرّق ، وتبلى كل نفس ما أسلفت ؛ والله هو الرزّاق ، والمحيى والمميت ، وهو الحق ، فهل فيمن يدعون من دون الله من يبدأ الخلق ثم يعيده؟ وهل منهم من يهدى إلى الحق؟ وليس ما يعبدون سوى الظن ، والظن لا يغنى من الحق شيئا. وهذا القرآن لو كان محمد قد افتراه ، لكان من الممكن أن يفترى غيره مثله ، فهل بوسع أحد من البشر أن يأتى بسورة مثله ، ولو يستعينون بمن يشاءون؟ ومحال أن يستطيعوا ، لأنهم ما حصّلوا من العلم شيئا ، وما يعلمون تأويل القرآن ليقلدوه ، وليسوا جميعا سواء حتى فى الكفر ، ومع ذلك فليس كل أهل مكة كافرين ، فمنهم المؤمنون وإن لم يصرّحوا ، ويكتمون إيمانهم ، وليس من ردّ على أهل الكفر إلا أن يقال لهم : إن لكل أعماله : المؤمنون والعصاة ، وأنّ كلا لبرئ مما يعمل الآخر ، وأن لكل أمة رسولا هو الشهيد عليها ، والله لا يعذّب حتى يبعث رسله ، ولكل أمة أجل ، فلا يستعجلون آجالهم ، ولا يتعجلون العذاب ينزل بهم ، فالعذاب قادم لا محالة ، وهو عذاب أبديّ. وأما أولياء الله فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، ولهم البشرى فى الدنيا والآخرة ، ولا يفلح الذين يفترون على الله الكذب. وهذا نوح كذّبه قومه ، فنجّاه الله ومن معه فى الفلك ، وبعث من بعده موسى وهارون إلى فرعون ، فاعتقدهما ساحرين ، وأبطل الله سحر فرعون ، وكان فرعون من العالين والمسرفين ، وقال موسى وقومه : (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) (٨٥) ، ودعوا ربّهم فقالوا : (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (٨٦) ، ودعا موسى على فرعون وقال : (رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٨٨) ، وأجيبت دعوته ، وجاوز به الله وبقومه البحر ، وأتبعه فرعون وجنوده بغيا وعدوا ، حتى إذا أدركه الغرق قال : (آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٩٠) ، ونجّاه الله ببدنه ليكون لمن خلفه آية يشهدها قومه. وهذا هو القصص الحق ، وكل من يشك فى هذا القصص فليعد إلى كتب

٥٥٩

اليهود ويستشيرها ، وسيجد أن قصص القرآن هى الحق ، وما عداها باطل ، فما أكثر ما حرّف فى كتب اليهود ، وما شوّه من القصص الدينى فيها ، فحقّت عليهم كلمة الله ، أى غضبه وسخطه ، وما كان كل الناس سواء فى الإيمان بالرسل ، وما كان لإنسان أن يؤمن إلا لو عقل ، ومن لا يعقل عليه الرجس ، وما تغنى البراهين والدعوة والدلائل لقوم لا يؤمنون ، ومن يشك فى القرآن فليعبد من يرتضى أن يعبد ، فالمسلمون لا يعبدون إلا الله ، وهذا القرآن هو الحق ، قد تنزّل من عند الله ، فمن يؤمن به فقد اهتدى ، وإنما يهتدى لنفسه ، ومن يضل فإنما يضل عليها. وتنتهى السورة بدعوة المؤمنين إلى أن يتّبعوا ما أوحى إلى نبيّهم من القرآن والسنّة ، وأن يصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين.

وفى هذه السورة يأتى الحلف من الله يعلّمه لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقول تعالى : (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) (٥٣) ، و «إى» كلمة تحقيق وإيجاب وتأكيد بمعنى نعم. والحلف منه تعالى بطريق نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى القرآن كله يأتى مرتين بخلاف هذه المرة السابقة ، يقول : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) (٣) (سبأ) ، ويقول : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ) (٧) (التغابن).

ومن فقه هذه السورة أنه فى أوقات الفتن على الناس أن يتخذوا من بيوتهم مساجد كلما خافوا حاكما كافرا أو حكومة مستبدة تجور على المسلمين بقوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (٨٧). ومن براهين البعث : أن كل شىء له بداية ونهاية ، ثم تكون بداية أخرى وهكذا (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) (٤). ومن براهين حرية العقيدة للناس مقالة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) (١٠٨) ، ونفى وكالته للناس يعنى أنهم أحرار يختارون أن يؤمنوا أو يكفروا ، ومن اهتدى فلنفسه ومن ضلّ فعليها. وفى قوله تعالى للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ) (١٠٩) ، أن الوحى له فى حياته ، وبعد مماته النصّ ما يزال قائما صالحا ويخاطب المسلمين كلهم ، وفهمهم لخطاب القرآن ليس بوحى من جبريل ، وإنما من ضميرهم ـ ضمير المسلم الذى شكّله القرآن وطبعته السنّة ، وقوله : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١٠١) ، يعنى عليهم البحث فى كل العلوم بلا استثناء ، والعلم فى القرآن هو العلم الشامل. وفى قوله : (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٣٣) ، قيل إن الآية دليل على القدرية ، والصحيح أن «حقّت كلمة ربك» لا تعنى أن القضاء بالكفر سبق عليهم ، ولكن المعنى أنهم لما فسقوا وفعلوا أسباب الفسق صاروا فاسقين ، فحقّ عليهم ـ أى صدق ـ أنهم لا يؤمنون. والحمد لله ربّ العالمين. على نعمة الإيمان دائما أبدا.

* * *

٥٦٠