موسوعة القرآن العظيم - ج ١

دكتور عبد المنعم الحفني

موسوعة القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

دكتور عبد المنعم الحفني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
ISBN: 977-208-442-2
الصفحات: ١٢٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

جئت به ؛ ٩ ـ (يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) (النساء ٤٩) بأن قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه ؛ ١٠ ـ (يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) (النساء ٥٠) ، بما حرّفوا من التوراة ، وبما رووا من روايات لم تكن ضمن كتابهم ونسبوها إلى الله ؛ ١١ ـ (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) (النساء ٥١) ، والجبت : الشيطان أو إبليس ، والطاغوت أولياؤه ، وقيل الجبت كل ما حرّم الله ، ولذا الحديث «الطرق والطّيرة والعيافة من الجبت». والطّرق : ضرب الحصى أو الرمل على سبيل التكهن ، والعيافة : زجر الطير المسمى التطيّر ؛ والطاغوت : كل ما يطغى الإنسان ؛ ١٢ ـ (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) (النساء ٥١) ، يعنى يقولون لكفار قريش أنتم أهدى من المسلمين الذين آمنوا بمحمد ، والذى قال ذلك كعب بن الأشرف ، قاله لأبى سفيان ليحقّ الكفّار ، ويثبّتهم على كفرهم ، ويوغر صدورهم ضد المسلمين ، ويؤلّبهم عليهم قصدا إلى المزيد من الفتنة ، وإشعالا للحرب. فهذه اثنتا عشرة صفة منكرة فى اليهود كانت فيهم فى الماضى وما تزال ـ لعنهم الله.

* * *

٥٦٠. اليهود حمّلوا التوراة ولم يحملوها

فى الآية : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (الجمعة ٥) ، وصف من أوصاف اليهود ، كان وما يزال فيهم. وحمّلوا التوراة ، من الحمالة بمعنى الكفالة ، أى ضمنوا أحكام التوراة ، وأعطوها ليعملوا بها ثم لم يعملوا بها ، مثلهم كمثل الحمار يحمل كتبا لا يدرى ما فيها ، فهو يحملها حملا حسيا ولا يدرى من معانى ما عليه شيئا ، فكذلك حال اليهود مع التوراة ، حفظوها لفظا ولم يتفهّموها ولا عملوا بمقتضاها ، ولذا حرّفوها ، فهم أسوأ حالا من الحمار ، لأن الحمار لا فهم له ، وهؤلاء لهم فهوم لم يستعملوها ، كقوله تعالى : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (الأعراف ١٧٩).

* * *

٥٦١. جرائم اليهود ومخالفاتهم

أثبت القرآن ما ارتكبه اليهود وما يزالون ، فى مثل قوله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً (١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) (١٥٧) (النساء) ، وقوله : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا

٥٠١

حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) (النساء) ، فهذه عشر مخالفات وبعضها جرائم صريحة. ثم في قوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) (المائدة ٢٣) ، فهذه أربع مخالفات أخرى ، وكلها فعال وخصال نشهدها اليوم بشكل جلى فى فلسطين ، فلا هم يحترمون مواثيق ، ولا هم يحافظون على العهود ، وتمتلئ صدورهم بالغل ، وتملأ القسوة قلوبهم ، وتشهد على ذلك كتبهم وأنبياؤهم ، وشهدوا على أنفسهم بالتحريف والتلفيق ، ولم يراعوا لله عهدا ، ولا تزال تطلّع على غدرهم ومكرهم وخيانتهم ، فلكل ذلك لعنهم الله وأبعدهم عن رحمته.

* * *

٥٦٢. اليهود قتلة الأنبياء

يذكر القرآن قتل اليهود للأنبياء فى ثلاث سور ، هى البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، وفى ثمانية مواضع ، كقوله تعالى : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) (البقرة ٦١) ، وقوله : (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (البقرة ٩١) ، وفى الآيتين يكذّبهما الله تعالى فى حيثيات قتلهم للأنبياء ، فالنبىّ لا يفعل ما يستوجب قتله ، وإن قتل فقتله عن ظلم ، وهذا هو معنى «بغير الحق» ، ولا يتفق أن يقتل مؤمن نبيا ، فكيف يؤمن إذن إن قتل نبيّه؟ وبما ذا آمن؟ وكيف آمن؟ وأية رسالة آمن بها؟ ومن بلّغه بها؟ وفى تاريخ اليهود كما يأتى فى كتب العهد القديم أنهم قتلوا النبيين والصالحين أيضا ، كقوله : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) (آل عمران ٢١) ، وكانوا إذا قتلوا النبيين ، قام أتباعهم يأمرون بالعدل بين الناس ، ويدعون أن يقوم المجتمع على القسط ، فيقتلونهم أيضا ، وقد قتل إيليا فى يوم واحد أربعمائة وخمسين من الأنبياء دفعة واحدة بدعوى أنهم أنبياء زائفون ويدعون للبعل! (الملوك الثانى ١٨ / ٤٠) ، وجاء فى سفر الملوك الثالث أن إيليا أتمّ ذبحهم بالسيف فوق نهر جار ، وغير إيليا كثيرون ، وقد اتهمهم بطرس فقال لهم : أسلمتم المسيح وأنكرتموه وقتلتموه وعلّقتموه على خشبة ؛ ورجموا بولس (١٤ / ١٨) ، وتحالفوا لقتله وكانوا أكثر من أربعين يهوديا (٢٣ / ١٣). وفى رسالة بولس إلى أهل رومية قال إنهم قتلوا أنبياءهم (١١ / ٣) ، إلى آخر ذلك ، ومنه كثير فى كتب النصارى.

* * *

٥٦٣. الذلّ لليهود أينما وجدوا

فى الآية : (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ

٥٠٢

مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) (آل عمران ١١٢) أن هذا هو قدر اليهود جزاء لهم على ما يفعلون من المظالم والسيئات ، فأينما وجدوا لقوا الذل إلا أن يمدّ الناس لهم أيديهم ويبقونهم فى ذمتهم. وحتى فى فلسطين فإنهم يحيون فى مذلة ورعب ويحاربون من وراء جدر.

* * *

٥٦٤. الله يقاتل عن اليهود

اليهود بهم أنفة من القتال ، وإياس من النصر ، فهذه هى صفتهم الأزلية ، وقالوا لنبيّهم موسى : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) (المائدة ٢٤) ، فوصفوا الله تعالى بالذهاب والانتقال ، وبالجسمية وهو دليل على أنهم ليسوا موحّدين وأنهم مشبّهة ، ومعنى الآية أن موسى ، بما أنه رسول الله ، فنصرته له أحق من نصرتهم ، وقتاله معه إن كان رسوله ، أولى من قتالهم معه ، فلما رفض شكّوا فى رسالته ، وكانوا قد حرّفوا التوراة ونسبوا فيها إلى موسى قوله : «الربّ يحارب عنكم وأنتم صامتون» (الخروج ١٤ / ١٤) ، وقوله : «فإن الرّب إلهكم السائر أمامكم هو يحارب عنكم كما صنع فى مصر على عيونكم» (تثنية الاشتراع ١ / ٣٠) ، وبمثل ذلك أطمعهم موسى فيه وفى ربّه ، ووافق هواهم ، ووراء ذلك أنهم كانوا يكرهون الموت ، ولا يعرفون الاستشهاد ، ويحبون الحياة.

* * *

٥٦٥. لما ذا انصراف المسلمين عن بيت المقدس قبلة اليهود؟

كل ما جاء به الإسلام كان على مراحل ، وتمّ على مهل ، واختيار القبلة من ذلك ، وكانت فى البداية إلى بيت المقدس ، ثم تحوّلت إلى البيت الحرام ، وجاء هذا التحوّل بعد الهجرة إلى المدينة ، وكان اسمها يثرب ، وأغلب سكانها من اليهود ، وساعد اليهود النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى أول الأمر ، وكانت أمانيهم أن تكون مدينتهم يثرب مدينة الدعوة ، وأن يكون الدين الجديد هو التوحيد كديانتهم ، وأن يكون نسخة من الديانة اليهودية وإنما نسخة أممية أى للأمم ، وأكدوا أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو نبىّ الأمم وليس من أنبيائهم ، وذلك أن ديانتهم يهودية محضة ، وكذلك أنبياؤهم يهود خلّص ، فإذا أفلحوا أن يجعلوا يثرب تنافس مكة بكعبتها ، وتستقطب العرب إليها ، فإنهم يكونون قد أفلحوا فى تحدّيهم لعظمة قريش الفكرية والتجارية ، وستكون مدينتهم يثرب هى مركز تجمّع العرب ثقافيا واقتصاديا ، وفى ذلك كل الفائدة لهم. وعن ابن عباس قال كان أول ما نسخ من القرآن القبلة ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا هاجر إلى المدينة ، وكان أكثر أهلها من اليهود ، فأمره الله أن يستقبل بيت المقدس ، ففرحت اليهود ، فاستقبلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بضعة عشر شهرا ، وكان يحب

٥٠٣

قبلة إبراهيم ، فكان يدعو الله وينظر إلى السماء ، فأنزل الله : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (البقرة ١٤٤) ، أى نحوه ، فارتابت من ذلك اليهود ، وقالوا : (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) (البقرة ١٤٢) فجاءهم الجواب ، قال : (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (البقرة ١٤٣) ، وقال (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (البقرة ١١٥) ، وقال : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) (البقرة ١٤٣). وقال ابن عباس كان النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سلّم من صلاته إلى بيت المقدس رفع رأسه إلى السماء ، فأنزل الله : (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (البقرة ١٤٤) ، أى إلى الكعبة .. وعن ابن عباس أيضا أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «البيت قبلة لأهل المسجد ، والمسجد قبلة لأهل الحرم ، والحرم قبلة لأهل الأرض فى مشارقها ومغاربها من أمّتى». وعن البراء فى رواية عبد الرزاق قال : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا ، أو سبعة عشر شهرا ، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت ، وأنه صلّى أول صلاة صلّاها قبل البيت صلاة العصر ، وصلّى معه قوم فخرج رجل ممن كان صلى معه فمرّ على أهل المسجد وهم راكعون فقال «أشهد بالله لقد صليت مع النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل مكة» ، فداروا كما هم قبل البيت. وكان الذى قد مات على القبلة قبل أن تحوّل قبل البيت رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم ، فأنزل الله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١٤٣) (البقرة ١٤٣).

وعن البراء قال كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلى نحو بيت المقدس ، ويكثر النظر إلى السماء ينتظر أمر الله ، فأنزل الله : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (البقرة ١٤٤) ، فقال رجال من المسلمين : وددنا لو علمنا علم من مات منا قبل أن نصرّف إلى القبلة ، وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس؟ فأنزل الله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) (البقرة ١٤٣) ، وقال السفهاء من الناس (وهم اليهود) : ما ولّاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها؟ فأنزل الله : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١٤٣) (البقرة ١٤٣).

والمقصود أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم رغم صلاته إلى بيت المقدس لم تفارقه أبدا الرغبة أن

٥٠٤

تكون صلاته إلى الكعبة ، وهو المراد من قوله تعالى : (قِبْلَةً تَرْضاها) (البقرة ١٤٤) ، وهى ذاتها قبلة إبراهيم عليه‌السلام ، فأجيب إلى ذلك ، وأمر بالتوجه إلى البيت العتيق ، فخطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأعلمهم بذلك ، وكان أول صلاة صلّاها إليها صلاة العصر. وقيل إن تحويل القبلة نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد صلى ركعتين من الظهر فى مسجد بنى سلمة ، فسمّى المسجد «مسجد القبلتين» ، وأما أهل قباء فلم يبلغهم الخبر إلى صلاة الفجر من اليوم الثانى ، وعن ابن عمر قال : بينما الناس بقباء فى صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن ، وقد أمر أن يستقبل الكعبة ، فاستقبلوها ـ وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة ، أخرجه الشيخان. ولمّا حدث ذلك حصل لبعض المسلمين من أهل النفاق شك ، وأرتاب اليهود فى نوايا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ) (البقرة ١٤٢) ، واستنكروا أن يستقبل المسلمون تارة بيت المقدس ، وتارة الكعبة ، فأنزل الله جوابهم : (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) (البقرة ١٤٢) ، (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (البقرة ١١٥) ، وكان ذلك التوجّه هو التوجّه الحق ، لأنه كان نحو أقدم بيت لله ، وهو البيت الذى بناه إبراهيم الخليل ، فكان المسلمون به موصولين بأبيهم وأبى الأنبياء والملل ، وأما بيت المقدس فقد صلى له داود ، وبناه سليمان ، وشتان بين عمل أتاه إبراهيم وعمل أتاه داود وسليمان ، والأنبياء والرسل مراتب. وعن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى اليهود : «إنهم لا يحسدوننا على شىء كما يحسدوننا على يوم الجمعة التى هدانا الله لها وضلّوا عنها ، وعلى القبلة التى هدانا الله لها وضلّوا عنها ، وعلى قولنا خلف الإمام آمين» رواه أحمد.

ولقد حوّلنا الله تعالى إلى قبلة إبراهيم واختارها لنا ليجعل من أمة الإسلام خير الأمم ، وفى ذلك أنزل : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة ١٤٣) ، يعنى لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم ، ففيكم تتمثل تعاليم وأعمال الآباء ، بدءا من إبراهيم ومن أتى بعده ؛ والوسط هنا هو الخيار والأجود ، كما يقال إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان وسطا فى قومه ، يعنى أوثقهم نسبا ، يتصل بهؤلاء وهؤلاء ، فالوسط موصول بكل الأطراف ، بينما الأطراف مقطوعة. وقد جعل الله هذه الأمة وسطا ـ أى موصولة بالجميع ، يقول : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة ١٢٦) ، ويقول : (هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً

٥٠٥

عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) (الحج ٧٨) ، فخصّ الله هذه الأمة بأكمل الشرائع ، وأقوم المناهج ، وأوضح المذاهب ، فاستحقّت أن تكون الشاهد على غيرها ، واستحق نبيّها أن يشهد عليها ، وعن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنا وأمتى يوم القيامة على كوم مشرفين على الخلائق ، ما من الناس أحد إلّا ودّ أنه منا ، وما من نبىّ كذّبه قومه إلّا ونحن نشهد أنه قد بلّغ رسالة ربّه عزوجل». رواه أحمد.

وإنه لشىء عجيب اختصّ الله به هذه الأمة أن تجتمع جميعها على جهة واحدة ، يقول : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (البقرة ١٥٠) ، فأمر تعالى باستقبال الكعبة من جميع جهات الأرض ، شرقا ، وغربا ، وشمالا ، وجنوبا ، فأية عظمة هذه! وأية نعمة!! ولا يستثنى من هذا سوى النافلة فى حالة السفر ، فإن المسلم يصليها حيثما توجه وقلبه نحو الكعبة ، وفى ساحات الوغى يصلى على أى حال ، وكذلك من جهل جهة القبلة يصلى باجتهاده وإن كان مخطئا ، فالإسلام أيسر الأديان ، والله تعالى دائما وأبدا لا يكلف النفوس إلا وسعها.

وكان اليهود على ثقة من أن قبلة المسلمين حتما ستتغير لتكون قبلة الآباء التى عرفوها وحفظوا عنها ، وأكد الله تعالى ظنهم وقال : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) (البقرة ١٤٤) ، أى ليعلمون أنه تعالى سيوجه المسلمين إلى الكعبة : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) (البقرة ١٤٨) ، أى لكل أهل ديانة قبلتهم التى يرتضونها ، فلليهود وجهة ، وللنصارى وجهة ، وهذه وجهة أهل الإسلام ، كما فى قوله : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) (المائدة ٤٨) ، يعنى من الخطأ أن يفرض على الناس شرعة ومنهجا واحدا ، وإنما لكل أمة شرعتها ومنهجها ، وإلّا لكانت أمم العالم أمة واحدة ولما كنا متباينين ، وفى التباين تمايز بحسب حاجات الأمم وخصائصها. وفى التباين بوسع الأمم أن تفعل بما يريحها ، وأن تستبق وغيرها فى الخيرات. واختيار الكعبة قبلة للمسلمين فيه ترسيخ لما اشتهر عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه على الحنيفية السمحاء ملّة إبراهيم ، والإسلام هو الصورة العربية للحنيفية ، وكان إبراهيم أول المسلمين ، وهو الذى سمّى المسلمين ، فلا أقل من أن يتوجه المسلمون إلى الكعبة بيت الله الذى بناه إبراهيم ، كقوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) (البقرة ١٥٠) ، أى بتوجّهكم إلى الكعبة تسقط مزاعم الناس عنكم ، ولا يصبح لأحد فضل عليكم ، فلا تخشوا بعد الآن أن يتقوّل المتعنتون ، أو يتأوّل الظالمون ، فلقد تمت عليكم نعمة الله ، واستكمل لكم شريعتكم

٥٠٦

من جميع وجوهها ، وصارت ديانتكم ديانة لها استقلاليتها ، وذاتيتها ، وفرديتها ، وصارت لكم بذلك تسميتكم الخاص بين الأمم والديانات : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) (البقرة ١٥٢) ، فكلما صلّيتم إلى قبلتكم إذن اذكروا هذه النعمة من الله ، واشكروه عليها ، وعن زيد بن أسلم أنّ موسى عليه‌السلام قال : يا ربّ كيف أشكرك؟ قال له ربّه : «تذكرنى ولا تنسانى ، فإذا ذكرتنى فقد شكرتنى ، وإذا نسيتنى فقد كفرتنى» ، وفى الحديث الصحيح يقول الله تعالى : «من ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى ، ومن ذكرنى فى ملأ ذكرته فى ملأ خير منه» ، وعن أنس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قال الله عزوجل : يا ابن آدم إن ذكرتنى فى نفسك ذكرتك فى نفسى ، وإن ذكرتنى فى ملأ ذكرتك فى ملأ خير منه ، وإن دنوت منى شبرا دنوت منك ذراعا ، وإن دنوت منى ذراعا دنوت منك باعا ، وإن أتيتنى تمشى أتيتك هرولة» ، نعمة من الله أى نعمة ، نشكره عليها ، ونصلى له إليها. ومن الله المنة وله الحمد.

* * *

٥٦٦. الخلاف بين اليهود والنصارى والمسلمين حول السبت والأحد والجمعة؟

السبت فى العبرية والعربية والسريانية هو اليوم بين الجمعة والأحد ، وهو الدهر أيضا ، ومنها السبتة أى البرهة من الزمان ، بمعنى استراح ، والكلمة أرسخ فى العربية ويتخارج منها نحو خمس وعشرين لفظة بمعان مختلفة ، وليس الأمر كذلك فى العبرية ولا فى السريانية. ويأتى السبت بمشتقاته فى القرآن تسع مرات. وفى التوراة لا يأتى السبت إلا فى معنى واحد هو يوم الراحة بين الجمعة والأحد ، ومع ذلك فإن معنى السبت فى اللغة يقتضى فعلا أن يكون يوم الراحة ، لأنه اليوم الذى يكون به السبوت من أيام الأسبوع ، فأما الأحد : فهو اليوم الأول من أسبوع العمل بعد الراحة ؛ والاثنين اليوم الثانى ، والثلاثاء الثالث ؛ والأربعاء الرابع ؛ والخميس : الخامس ؛ فأما الجمعة فهو يوم الجمع أى الصلاة جماعة ، ويوم العيد عند المسلمين من أيام الأسبوع. وفى اليهودية السبت يوم مبارك ، ويأتى فى سفر التكوين : «لذلك بارك الله يوم السبت وقدّسه ، ولأن فيه استراح الربّ من جميع أعماله» (الفصل الثانى / ١ ـ ٣) ، ويعادل ذلك فى القرآن قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (الأعراف ٥٤) ، إلا أن معنى الاستراحة هذا فى التوراة ليس فى القرآن ، وإنما فى القرآن أن الله انتهى من الخلق فى ستة أيام ، ثم إنه تعالى استوى على عرش الوجود ، بمعنى أنه صار له الملكوت والتمكّن ، وآل إليه أمر كل شىء ، يعنى به ويتصرف فيه ، فالنهار أتبعه بالليل ، وسخّر

٥٠٧

الشمس والقمر والنجوم ، وفى آية أخرى قال : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (يونس ٣) ، بمعنى أنه صار له أمر التدبير بعد الانتهاء من الخلق ، والتدبير فيه الحكمة ومطلق التصرف ، ولا شفاعة فى التدبير إلا لمن يأذن له. وفى آية أخرى قال : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (هود ٧) فأخبر أن ملكوته كان على الماء قبل خلق السموات والأرض ، أى لم يكن ثمة إلا الماء ، فخلق الخلق ابتلاء. وفى آية أخرى قال : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) (الفرقان ٥٩) ، أى أنه فى ستة أيام انتهى من الخلق واستقرت له أحواله ، والاستواء هو الاستقرار ، والاستقرار المكانى محال على الله ، والعبارة كناية عن استيلائه على الملك وتصرفه فيه برحمته ، فاسأل العلماء الخبراء عن تدبيره ورحمته بما خلق وسوّى ، يطلعونك على ما يعرفون من عظمة ما خلق ، وحسن التدبير له والتصريف فيه. وفى آية أخرى قالت : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ) (السجدة ٤) ، أى أنه تعالى وقد خلق الكون كله بهذا التقدير الحكيم والتدبير النظيم لا يمكن أن يكون إلا إلها واحدا سبحانه ، فليس هناك من آخر يمكن أن تتوجهوا إليه وتتخذوه مولى وشفيعا من دونه. وفى آية أخرى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) (ق ٣٨) ، واللغوب : هو التعب والإعياء ، أى أنه تعالى خلق ولم يمسه التعب ، ولم يلحقه الإعياء ، فلما ذا إذن يستريح كما تقول التوراة؟ والقرآن فى هذه الآيات السابقة وفى هذه الآية ، ينكر على التوراة المعنى الذى تقول به حول يوم السبت من أيام الله. وفى آية أخرى قال : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الحديد ٤) ، أى أنه وقد خلق السموات والأرض له مطلق العلم بكل ما فيهما من مجريات ، ومنه تتنزل التدبيرات بمقتضى الحكمة ، وترجع إليه الأمور يقضى فيها ويتصرف بعلمه وتدبيره ، وهو العليم بما يهجس فى الصدور ، ويجيش فى النفوس ، ويخطر فى العقول ، سبحانه ، فهو فى عمل دائب ، لا يكلّ ولا يمل ، سبحانه ، فكيف يستريح؟؟ وإنما اليهود قالوا بذلك فى التوراة التى كتبها عزرا وآخرون ليشابهوا ذلك بالسبت فيجعلوه يوم راحة ، ومنطقهم فى ذلك أن الله استراح فى السبت بعد ستة أيام عمل ، وكذلك ينبغى أن يفعل الإنسان بعد ستة أيام عمل ، ثم يتأيد معنى الراحة يفرضه

٥٠٨

الله على اليهود ، فيمنع نزول المن لهم فى يوم السبت حتى يستريحوا (الخروج ١٦ / ٢٢ ـ ٣٠) ، وبعد ذلك يتطور معنى السبت عندهم فلا يعود يوم راحة وإنما يوم عذاب وشفاء ، وفى الوصية الرابعة من وصايا موسى يأمره الله أن يحفظ السبت لأنه يوم مبارك ومقدس ـ لما ذا؟ ربما تيمنا بما فعل الله فيه ، واحتفالا وإحياء لفعله فيه وهو الراحة. إلا أنهم جعلوا قداسة السبت سيفا مصلتا على الرقاب ، فلما كسر أحد اليهود يوم السبت رجموه بأمر موسى (العدد ١٥ / ٣٢ ـ ٣٦). ويقول علماء النصرانية : إن قداسة السبت نقلها اليهود عن البابليين ، وكان البابليون يحفظون اليوم السابع من الأسبوع ، وتقوم شرائعهم على أن لا يتناولوا اللحم المطبوخ يوم السبت ، ولا يغيّروا ثيابهم ، ولا يلبسوا ثيابا نظيفة ، ولا يقدّموا ذبائح ، ولا يركبوا عربات ، ولا يتناولوا مسألة من المسائل ، ولا يتحدثوا فى أمر من الأمور ، ولا يتعالجوا ، ولا يتطبّبوا ، ولا يستحموا. ومن العجيب أن يتهم اليهود الإسلام بأنه ديانة شكلية تهتم بالحرفية والطقوس ولا تهتم بالروح ، مع أنهم حوّلوا السبت إلى عبادة شكلية ولم يحفظوه حفظا روحيا. وفى الإسلام الجمعة هو يوم المسلمين ، يجتمعون فيه كل أسبوع. والجمعة هو اليوم السادس من الأسبوع ، أى اليوم الذى أتم الله فيه خلق العالم ، فالأجدر أن يكون الاحتفال بنهاية هذا العمل العظيم فى يوم الانتهاء منه ، وأن يكون ذلك بالحمد لله والشكر له جماعة. ولقد اختار اليهود السبت ليقرّوا فيه ويستريحوا ، فألزمهم الله به ولم يلتزموا ، وبيّنت أسفار العهد القديم عدم التزامهم ونبّهت إليه (ملوك ثان ٤ / ٢٣) ـ وعاموس ٨ / ٥ ـ وهوشع ٢ / ١١ ـ وإشعيا ١ / ١٣ ـ وحزقيال ٤٦ / ٣). وفى فترة السبى نسوا السبت (نحميا ١٠ / ٣١ ـ و ١٣ / ١٥ ـ ٢٢) ، واشتغلوا بالحرب يوم السبت (١ مقابيون ٢ / ٣٩ ـ ٤١) ، وخالفوا العهد مع الله ونقضوا ميثاقه ، وفى ذلك يقول القرآن (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) (٦٥) (البقرة) ، ويقول : (وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (١٥٤) (النساء) ، إشارة إلى نقمة الله تعالى من أهل القرية اليهودية الساحلية لاحتيالهم فى مخالفة السبت ، قال : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (١٦٦) (الأعراف). والقرآن يقرر ما قررته التوراة من قبل : أن اليهود انقسموا إزاء السبت

٥٠٩

إلى ثلاث فرق ، ففرقة ارتكبت المحذور واحتالوا على اصطياد السمك يوم السبت ، وفرقة نهت عن ذلك واعتزلتهم ، وفرقة سكتت فلم تفعل ، ولم تثنهم ، ولكنها أضمرت الإنكار ، فهذا ما أورد عنه القرآن عن الله تعالى حيث يقول : (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١٢٤) (النحل) ، وما يزالون مختلفين فى إسرائيل حتى اليوم وسيظلون كذلك إلى أبد الآبدين ، فقد نسوا أن السبت كان رحمة للناس ، وجاء المسيح فنازعهم فيه أشدّ المنازعة ، فقد فهموا أن حفظ السبت مسألة شكلية ، وصاروا عبيدا للسبت ، وكان المسيح يعلّم : أن السبت إنما جعل للإنسان وليس الإنسان للسبت (مرقس ٢ / ٢٧) ، وعالج مريضا فى السبت فعاتبوه ، فقال أهو خير أم شرّ أن تعالج إنسانا يوم السبت؟ أيهما الأفضل ، أن تتركه يهلك أو تشفيه؟ فكأن المسيح أراد أن يعيد للسبت معناه الحقيقى : أنه يوم خدمة وشكر للربّ وليس يوم بطالة ، وهو نفس المعنى الذى تنصرف إليه الآيات فى القرآن أن الله ما كان يمكن أن يخلق العالم ويتركه دون عنايته ورعايته وحفظه وتدبيره ، فإذا كان يوم السبت هو يوم الرّب ، فليكن يوم رحمة وتواصل وتحابّ ومودة بين الناس أجمعين. واحتفل النصارى بعد ذلك بالأحد كبداية للأسبوع ، لأنه فى الأحد كانت قيامة المسيح ، وفيه كان اجتماعه دائما بتلاميذه. وفى الأحد يصلون للرّب عرفانا بالجميل ، مثلما فعل المسلمون بيوم الجمعة وهو آخر أيام العمل الستة عند الله ، يصلون لله جماعة ، ويشكرونه ويحمدونه ويسبّحون له ، ويذكرونه كثيرا ، ويتواصلون ويتراحمون ويتعاهدون على الخير ، بما فرض الله تعالى عليهم فى قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١٠) (الجمعة) والجمعة : سميت جمعة لأنها مشتقة من الجمع ، والجمع هم الأمّة. والجمعة عيد أمة الإسلام ، وكانوا فى الجاهلية يسمونه يوم العروبة ، وفلسفة الإسلام فيه أنه اليوم الذى أكمل الله فيه الخلائق ، وفيه ستكون نهايتهم فى الآخرة يوم ينفخ فى الصور ؛ وفلسفة اليهود فى السبت : أنه اليوم الذى استراح فيه الله من الخلق ؛ وفلسفة النصارى فى الأحد أنه اليوم الذى ابتدأ الله به الخلق ، وفى ذلك جاء عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، ثم إن هذا يومهم الذى فرض الله عليهم فاختلفوا فيه ، فهدانا الله له ، فالناس لنا فيه تبّع ، اليهود غدا ، والنصارى بعد غد» رواه أبو هريرة وأخرجه البخارى ومسلم. فافهم يا أخى المسلم ، وافهمى يا أختى المسلّمة ، كم أكرمنا الله ، وله الحمد وله المنّة سبحانه وتعالى.

* * *

٥١٠

٥٦٧. الخلاف حول جبريل وميكال بين اليهود والمسلمين

من أقوال اليهود للنّبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه ليس نبىّ من الأنبياء إلا يأتيه ملك من الملائكة من عند ربّه بالرسالة وبالوحى ، فمن صاحبك حتى نتابعك؟ قال : «جبريل» ، قالوا : ذاك الذى ينزل بالحرب وبالقتال ، ذاك عدونا! لو قلت ميكائيل الذى ينزل بالقطر (أى المطر) ، وبالرحمة ، تابعناك. فأنزل الله الآية (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) (٩٨) (البقرة).

والقرآن عمّ الملائكة وخصّ جبريل وميكال بالذكر كردّ على اليهود. وفى كتبهم لم يذكر هذان الملكان إلا فى سفر دانيال ، وهو رؤيا ليهودى من يهود المهجر ممن سباهم نبوخدنصر واقتيد إلى بابل ، والسفر عبارة عن حلم يقظة ، ويرى فيه جبريل يؤمر أن يبيّن لدانيال معنى الرؤيا التى رآها (٨ / ١٦). وفى نفس السفر يأتى أن ميكال هو رئيس الملائكة (١٠ / ٢١). ولا شىء أكثر من ذلك. وفى القرآن : أن جبريل هو روح القدس ، يقول : (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) (٨٧) (البقرة) أى أيّد عيسى بجبريل ، ونفخ جبريل فى مريم ، ونزل بالقرآن على النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيه يقول الشاعر :

وجبريل رسول الله فينا

وروح القدس ليس به خفاء

وسمّى روحا وأضيف إلى القدس ، لأنه كان بتكوين الله روحا من غير ولادة والد ولا والدة ، وكذلك سمى عيسى روحا : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) (١٧١) (النساء) لأنه لم يكن له والد وإن كانت له والدة. والقدس هو الله ، والصفة منه القدّوس أى المطهّر. من أسمائه تعالى الحسنى.

* * *

٥٦٨. الجنة للمتقين وليست لليهود أو النصارى

اليهود والنصارى على الدعوى أنه لن يدخل الجنة سواهم : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (١١٢) (البقرة) ، ودعواهم باطلة ، لأنه لا برهان ولا دليل لهم على صدقها ، وطلب الدليل فى الآية يقتضى إثبات النظر ويردّ على من ينفيه ، والآية تكذّبهم وتصحّح ما يقولون ، وكأنهم سألوا : أما يدخل الجنة أحد؟ فقيل بلى ، من أسلم وجهه لله وأخلص عمله ، فذلك الذى يدخل الجنة. وخصّ الوجه بالذكر لأنه أشرف ما يرى فى الإنسان ، وموضع الحواس ، وفيه يظهر العز والذل. فالتقوى إذن هى الفيصل ، ولا عنصرية فى الآخرة ولا محاباة.

* * *

٥١١

٥٦٩. قال اليهود كيف نتبع رجلا لا يدرى ما يفعل به؟

قالوا ذلك لما نزلت الآية : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) (٩) (الأحقاف) ، وفى الرواية من الإسرائيليات أن قولهم اشتد على النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) (٢) (الفتح). والصحيح أن الآية الأولى خاصة بنزول القرآن وحيا على النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه لا يتّبع إلا ما يوحى إليه ، وأنه لا يدرى ما يفعل به ولا بهم ، فذلك من أمور الله سبحانه ، وأنه ليس سوى نذير مبين كغيره من الأنبياء ممن سبقوه. وأما الآية الثانية فهى لطمأنة المسلمين حيث كانوا قد كرهوا صلح الحديبية ، فنزلت سورة الفتح جميعها لبيان أن هذا الصلح يرقى إلى مقام الفتح ، وأنه ليس إلا مقدمة لفتح أكبر وأكبر ، لمكة ، ثم لخيبر ، ثم لكل بلاد الإسلام من بعد ، شرقا وغربا فى كل أقطار الدنيا.

* * *

٥٧٠. الختان من ملة إبراهيم

فى اليهودية والإسلام فإن إبراهيم أول من اختتن ، وفى كتب اليهود «وكان إبراهيم ابن تسع وتسعين سنة عند ختنه لحم قلفته» (التكوين ١٧ / ٢٤) واختتن معه ابنه إسماعيل وكل رجال منزله. وفى الحديث عن أبى هريرة «اختتن إبراهيم وهو ابن مائة وعشرين سنة ثم عاش بعد ذلك ثمانين سنة» ، وفى كتب اليهود أنه عاش مائة سنة وخمسا وسبعين (التكوين ٢٥ / ٧).

والختان وإن لم يكن فى القرآن صراحة إلا أنه ضمن قوله تعالى : (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) (١٢٣) (النحل) ، وقوله : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) (١٣٠) (البقرة) ، وقوله : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) (النساء ١٢٥) ، وذلك دليل على وجوبه ، ويباح عموما لمصلحة الجسم بحسب رأى الطبيب ، وفى الحديث : «الختان سنّة للرجال ، مكرمة للنساء» أخرجه أحمد ، والحديث فى إسناده ضعف ، وعن أبى هريرة «الفطرة خمس ...» أخرجه البخارى ، أولها الاختتان. والحديث عن ختان النساء عن أم عطية : أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لها : «لا تنهكى فإن ذلك أحظى للمرأة وأحبّ للبعل» أخرجه أبو داود ، وقال فيه ضعف حيث راويه مجهول ، والنهك المبالغة فى كل شىء ، وفى رواية أخرى قال لها : «لا تنهكى فإنه أنور للوجه وأحظى عند الرجل». وقد يولد الصبى مختونا فيكفى مئونة الختان ، والنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولد كذلك ، وقيل ختنه عبد المطلب فى اليوم السابع من مولده ، وجعل له مأدبة ، وسمّاه محمدا. والحديث مسند غريب.

٥١٢

وختان الصبى فى اليوم السابع ، وختن إسحاق بن إبراهيم فى اليوم السابع ، وقيل هذا شأن اليهود فلما ذا يلتزم به المسلمون؟ والجواب ما أسلفنا أنه سنّة ويفهم وجوبا من آيات القرآن السابقة. وفى الإسلام يختن الصبى ما بين سبع إلى عشر سنين ، وقيل لم يكن يختن حتى يدرك أو يقارب الاحتلام. والمستحب من الكبير إذا أسلم أن يختتن ، ويرخّص عدم اختتانه إذا لم يكن يقدر ، والخلاصة : أن الاختتان للذكور واجب ، وليس بواجب للإناث ، وإذا اختتنت الأنثى فلا تنهك ، ولم يعرف عن بنات النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهن اختتن ، ولا عن عائشة ، ولا زوجات النّبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والاختتان عند اليهود قاصر على الذكور ولا يسرى على الإناث ، وفى سفر التكوين يأتى عن الربّ لإبراهيم : «فاحفظ عهدى أنت ونسلك من بعدك مدى أجيالهم. هذا هو عهدى الذى تحفظونه بينى وبينكم وبين نسلك من بعدك : يختن كل ذكر منكم فتختنون القلفة من أبدانكم ويكون ذلك علامة عهد بينى وبينكم «(١٧ / ٩ ـ ١١) ، فقصر الختان ومن ثم العهد على الذكور دون الإناث ، وذلك دليل على تدنّى مكانة المرأة فى اليهودية ، وأنه لا عهد لها مع الله.

* * *

٥٧١. العداوة والبغضاء حظ النصارى إلى يوم القيامة

النصارى سمّوا كذلك لاتباعهم عيسى الناصرى ـ من بلدة الناصرة ، وبعد عيسى انقسموا فرقا بحسب حوارييهم ، فكل جماعة اتبعت إنجيلا ، وكانت لهم تفسيرات وتأويلات ، فقالوا المسيح ابن الله ، وقالت جماعة هو نبىّ ، وقال آخرون هو الله ، وخالفوا بعضهم البعض ، حتى فى الرواية عن عيسى كانت لهم مخالفات ، وكثرت الأناجيل فأجازت الكنيسة أربعة ، وحرّمت غيرها ، كإنجيل يعقوب ، وإنجيل نيقوديموس ، وإنجيل الأبيونيين ، وإنجيل المصريين ، وإنجيل العبرانيين ، وإنجيل الناسيين ، وإنجيل بطرس ، وإنجيل توما ، وإنجيل الطفولية إلخ ، وأخبر القرآن بذلك كله ، وما كان من الممكن لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يلم بها ويعلم عنها وهو العربى الأمىّ ، وهذا دليل على نبوته ، وعلى أن القرآن من لدن الله العليم ، ومن ذلك وصفه الدقيق لخلاف النصارى حيث يقول : (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) (١٤) (المائدة) ، والعداوة والبغضاء لا توصف بين الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت ، وبين الكنائس الجديدة والكنائس القديمة ، ووصل الحد إلى الاقتتال فى أيرلندا ، وخلال الحرب العالمية الأولى والثانية ، فالمحور كانوا بروتستانت ، والحلفاء كانوا غالبا كاثوليك وهكذا ، ولما جاء بابا روما فى زيارة لمصر رفض البابا شنودة لقاءه للعداء بين الكاثوليك والأرثوذكس.

* * *

٥١٣

٥٧٢. قول النصارى المسيح ابن الله

يقول تعالى : (وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) (٣٠) (التوبة) ، وظاهر النصارى أنها «بنوة النسل» كما قال المشركون فى الملائكة أنهم «بنات الله» كقوله تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ) (٥٧) (النحل) ، وقوله :

تعالى : (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) (١٠٠) (الأنعام) يعنى اختلفوا وافتعلوا له البنين والبنات. ومقالة النصارى أن المسيح إله وأنه ابن إله ، هى أشنع الكفر ، وقال بعضهم هى «بنوة رحمة» وليست بنوة نسل ، وهو أيضا كفر ، وفى اعتقادهم أنه لا يحق أن تطلق البنوة كلية على نسبة المسيح إلى الله. وهو قول ساذج كما ترى ـ قولهم بأفواههم ـ يعنى أنه كلام ، ولا بيان فيه ولا برهان ، ولا معنى تحته صحيح ، لأنهم معترفون بأن الله سبحانه لم يتخذ صاحبة فكيف يزعمون أن له ولدا؟ وإن قالوا إن المسيح نفخة من الله فى مريم ، فهو من روح الله ، وله من ثمّ طبيعتان : طبيعة إلهية عن الله ، وطبيعة بشرية عن مريم ، وأن الذى صلب منه لذلك كان البشرى أو الناسوتى ، وأمّا الإلهى أو اللاهوتى فقد ارتفع ، فهو أيضا كلام لا معنى له ولا سند ، لأن آدم نفخ فيه من روح الله ، وكذلك حواء ، وكل حيى لا بد فيه من روح الله ، فقول النصارى إذن متهافت ، وهو قول لسانى فقط ، بخلاف الأقوال الصحيحة التى تقصدها الأدلة ويقوم عليها البرهان.

* * *

٥٧٣. قالوا اتخذ الرحمن ولدا

هؤلاء هم الذين قيل فيهم : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) (٢٦) (الأنبياء) ، وهم النصارى عبدوا المسيح ، واليهود عبدوا أنفسهم وشعبهم ، وعبدوا عزير وصدّقوا ما كتبه باعتباره التوراة ، وأنه موحى إليه لأنه ابن الله يعنى حبيبه وصفيّه وخليله ، وعبد العرب من خزاعة الملائكة ، فكاد الجواب عليهم بل هم عباد مكرمون وليسوا أولادا لله ، ولا تبنّاهم أولادا ، ووصفهم فقال : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) (٢٩) (الأنبياء). ولمّا ادّعى إبليس الشركة مع الله ، ودعا إلى عبادة نفسه وهو من الملائكة ، توعّده الله بعذاب مقيم ، وهذا دليل على أن الرسل كالمسيح وإن أكرموا بالعصمة ، إلا أن الناس يعبدونهم ، ولا ذنب للرسل فيما نسبه الناس إليهم.

* * *

٥١٤

٥٧٤. النصارى جعلوا المسيح شريكا لله مع أنه من عباده

فى الآية : (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ) (٢٨) (الروم) ، والمثل يعنى أنكم لا ترضون أن يكون عبيدكم شركاء لكم كأنفسكم فيما تملكون ، ومع ذلك جعلتم من عباد الله شركاء له ـ وهو قول النصارى : المسيح ابن الله ، أو هو الله. والآية أصل فى الشركة بين المخلوقين لافتقار بعضهم إلى بعض ، ونفى هذه الشركة عن الله. وقولهم «المسيح ابن الله» ، يعنى هو «شريكه» ، وهو حكم فاسد ، وقلة نظر ، وعمى قلب.

* * *

٥٧٥. النصارى اتخذوا إلها لا يقدر على حماية نفسه ولا من معه

هؤلاء قالوا «المسيح ابن الله» ، وأنه «الرّب» ، وما استطاع المسيح أن يحمى نفسه ولا من معه ، وهذا دليل على أنه بشر من بشر ، ومثله مثل آدم وحواء. وفى إنجيل متى (٢٧ / ٢٦ ـ ٤٦) يجيء أن اليهود جلدوا المسيح ، ونزعوا ثيابه وألبسوه رداء قرمزيا ، ووضعوا.

إكليلا من الشوك على رأسه ، وهزءوا به ، وبصقوا عليه ، وضربوه بالعصى ، وسقوه خمرا مرّة ، وصلبوه ، فلم يملك إلا أن يقول فى عجب : يا إلهى لما ذا هجرتنى؟ لما ذا تركتنى؟ وفى ذلك دليل أى دليل على أن كل معجزاته كانت بأمر الله وإذنه ، وأنه ما كان يستطيع أن يفعل شيئا من تلقاء نفسه ، لأنه ليس إلا بشرا من بشر. وما استطاع تلاميذه أن يحموه أو يدفعوا عنه ، ولا هو نجىّ نفسه.

* * *

٥٧٦. النصارى قالوا ثلاثة

اعتقاد النصارى أن آلهتهم ثلاثة ، ويسمون ذلك التثليث ، يريدون بالتثليث : الأب والابن وروح القدس ، ويقولون الله جوهر واحد وله ثلاثة أقانيم ، ويجعلون كل أقنوم إلها ، ويعنون بالأقانيم : الوجود والحياة والعلم ؛ فالأب : هو الوجود ؛ والابن : المسيح ؛ والروح :

الحياة ؛ ومحصول كلامهم أن عيسى إله بما أجراه الله على يديه من خوارق ، ومذهبهم فيه مذهب الهنود فى كريشنا : أنه قتل وصلب ليخلّص الإنسان ويفتديه من الخطيئة ، فهو المخلّص الفادى الذى يخلص الناس من عقوبة الخطايا ويفديهم بنفسه ـ فلا كريشنا خلّص الهنود ، ولا المسيح خلّص النصارى!

* * *

٥٧٧. الأحبار والرهبان والربّانيون والرهبانية

الأحبار : هم علماء اليهود ، جمع حبر ـ وهو الذى يحسن القول وينظمه ويتقنه بحسن

٥١٥

البيان عنه ، ويقال فى الواحد حبر بالكسر ، والأصح حبر بالفتح ، مأخوذ من التحبير وهو التحسين ، والأحبار يحبّرون العلم ، أى يبيّنونه ويزيّنونه ، وهو محبّر فى صدورهم ؛ وأما الرهبان : فهم مجتهد والنصارى فى العبادة ، جمع راهب ، مأخوذ من الرهبة ، لأنه يرهب الله ويخافه ، وخوفه هو الذى يحمله على أن يخلص له النية دون الناس ، ويجعل زمانه له ، وعمله معه ، وأنسه به. والربّانيون : هم علماء اليهود الحكماء ، يسوسون الناس بالعلم ، ويربونهم بدءا من الصغار. وهؤلاء جميعا استحفظوا على التوراة ، واستودعوا من علمها (المائدة ٤٤) ، وأنزلهم الناس منازل عليّة ، وجعلوهم كالأرباب (التوبة ٣١) ، حتى أطاعوهم فى كل شىء ، وسئل حذيفة. عن معنى : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) (٣١) (التوبة) هل عبدوهم؟ فقال : لا ، ولكن احلّوا لهم الحرام فاستحلّوه ، وحرّموا عليهم الحلال فحرّموه. وفى الآية : (إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (٣٤) (التوبة). أن هؤلاء كانوا يأخذون من أموال أتباعهم فروضا باسم الكنائس والبيع ، ويوهمونهم أنهم ينفقونها شرعا وتزلفا إلى الله ، فى حين كانوا يحجبونها. وقيل : كانوا يأخذون من غلات الناس وأموالهم فروضا باسم حماية الدين. وقيل : كانوا يرتشون كالحكام. (انظر الرهبانية).

* * *

٥٧٨. الرهبانية

الرهبانية نسبة إلى الرهبان ، جمع راهب ، سمّوا كذلك لأنهم حملوا أنفسهم على المشقات بالامتناع من المطعم ، والمشرب ، والمنكح ، وتعلّقوا بالكهوف والصوامع والأديرة ، فلمّا أعمل الرومان القتل فى النصارى فى بداية الدعوة ، اعتزل الرهبان الناس ولحقوا بالبرارى والجبال ، ورفضوا النساء ، وفيهم نزلت الآية : (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (٢٧) (الحديد) ، إشارة إلى أنهم أمروا فى الإنجيل بالمحبة وعدم إيذاء الناس ، وألان الله قلوبهم ، بخلاف اليهود الذين قست قلوبهم وحرّفوا الكلم. غير أن النصارى وقد أعطاهم الله عبادته ـ غيّروا وابتدعوا ، وحملوا أنفسهم على المشقات ، وما كان الله ليأمرهم إلا بما يرضى عنه ، ومع ذلك لم يرعوا رضاه تعالى وتسببوا بالترهّب إلى طلب الرئاسة وأكل الأموال ، وفسق منهم كثيرون ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (٣٤) (التوبة) وفى حديث. أبى أمامة الباهلى : أن رجلا أتى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد

٥١٦

الرهبانية ، فقال له : «إنى لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ، ولكنى بعثت بالحنيفية السمحة. والذى نفس محمد بيده لغدوة أو روحة فى سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ، ولمقام أحدكم فى الصف الأول خير من صلاته ستين سنة» أخرجه أحمد ، وفى الحديث عن ابن مسعود فى تاريخ الرهبانية : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : «ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بمعاصى الله ، فغضب أهل الإيمان ، فقاتلوهم ، فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات ، فلم يبق منهم إلا القليل ، فقالوا : إن أفتونا فلم يبق للدين أحد يدعون إليه ، فتعالوا نفترق فى الأرض إلى أن يبعث الله النبىّ الأمىّ الذى وعدنا عيسى ، فتفرّقوا فى غيران الجبال ، وأحدثوا رهبانية ، فمنهم من تمسّك بدينه ، ومنهم من كفر» ، قال : ثم تلا «ورهبانية» الآية قال : «أتدري ما رهبانية أمتى؟ الهجرة ، والجهاد ، والصوم والصلاة ، والحج والعمرة ، والتكبير على التلاع» ، وقال : «اختلف من كان قبلكم من اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، فنجا منهم فرقة ، وهلك سائرها. واختلف من كان قبلكم من النصارى على اثنين وسبعين فرقة ، فنجا منهم ثلاثة وهلك سائرهم : فرقة وازت الملوك وقاتلتهم على دين الله ودين عيسى حتى قتلوا ؛ وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ، أقاموا بين ظهرانى قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ، فأخذتهم الملوك وقتلتهم وقطّعتهم بالمناشير ، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ، ولا بأن يقيموا بين ظهرانىّ قومهم فيدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم ، فساحوا فى الجبال وترهّبوا فيها ، وهى التى قال الله تعالى فيهم : «ورهبانية ابتدعوها» الآية ، وحال الرهبانية الآن من أسوأ الأحوال ، ومنذ فترة قريبة اشتهرت فى مصر فضيحة كان لها دوى كبير فى المحاكم وبين الناس.

* * *

٥٧٩. ميثاق النصارى

يقول تعالى : (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) (١٤) (المائدة) ، وميثاق النصارى هو التوحيد والإيمان بالله ، ففي إنجيل متى (٤ / ١٠) ، وإنجيل لوقا (٤ / ٨) يجيء : «للرّب إلهك تسجد ؛ وإياه وحده تعبد». وكما ترى العبارتان تقران أن الله واحد. وفى إنجيل مرقس (٢ / ٧) ، وإنجيل لوقا (٥ / ٢١) يجيء : «فمن يقدر أن يغفر الخطايا إلا الله الواحد وحده»؟ وفى إنجيل مرقس (١٢ / ٢٩) وإنجيل متى (٢٢ / ٣٧ ـ ٣٨) ، وإنجيل لوقا (١٠ / ٢٧) يجيء : «إن الرّب إلهنا هو ربّ واحد». وفى إنجيل مرقس (١٢ / ٣٢) يجيء : «إن الله واحد». وفى إنجيل يوحنا (٥ / ٤٤ ٥) : «الله الواحد وحده». وفى الرسالة إلى رومية (٣ / ٣٠) يأتى : لأن الله واحد : وفيها أيضا (١٠ / ١٢) : «للجميع ربّ واحد» ؛ وفى الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس يأتى : «لا إله إلا

٥١٧

واحد» (٨ / ٤) ، «ولنا إله واحد» (٨ / ٦) ، «والله واحد» (١٢ / ٦) ؛ وفى الرسالة إلى غلاطية يأتى : الله واحد (٣ / ٢٠) ؛ وفى الرسالة إلى أهل إفسس يأتى : «واحد هو الله» (٤ / ٦) ، وفى الرسائل إلى تيموثيئوس : «الله وحده» (١ / ١٧) ، و ـ : «الله واحد» (٢ / ٥) ؛ وفى رسالة يعقوب : «الله واحد» (٢ / ١٩) ، و ـ : «واحد هو الديّان» (٤ / ١٢) ؛ وفى رسالة يهوذا : «للإله الوحيد» (٢٥) ، وفى رؤيا يوحنا : أنا هو الألف والياء ، البداية والنهاية (١ / ٨ ـ ٢٢ / ١٣) ، و ـ «أنا هو الأول والآخر» (١ / ١٧) / وكما ترى فإن الواحدية هى الدعوة فى كل ما سبق ولكن الأكثرية نسوا حظا مما ذكّروا به ـ أى هذه الواحدية ، واختلفوا فيما بينهم حتى صاروا فرقا وشيعا يكره بعضهم بعضا ، ويحرّم بعضهم أن يصلوا مع البعض ، أو يدخلوا كنائسهم ، أو يتزوّجوا منهم ، ومن هذه الفرق الكبرى عندهم : الكاثوليكية ، والأرثوذوكسية ، والبروتستانتيه ، وليست الحرب بين الإيرلنديين إلا حربا بين كاثوليك وبروتستانت ، ولقد كفروا جميعا لمّا قالوا بالتثليث : الأب ، الابن ، وروح القدس ؛ فالأب أو الأب هو الإله الواحد ، قالوا فيه إنه أحديّ الذات ، مثلث الأقانيم أى الصفات ، فالله هو الأصل ، وهو العقل ، والمسيح حكمته ، جسّدت العقل ، فكان الابن ، لا بمعنى الابن ، بل لأنه صورة الله ، وهؤلاء الثلاثة واحد ، والأب هو المرسل ، والروح القدس هو المرسل ، والابن سرّ الإرسالية. وكما ترى هذه فلسفة وليست ديانة! ومضمونها كله ليس الأب ولا الروح القدس ، وإنما الابن ، ولم يكن من فراغ أن سمّى المسيحيون بهذا الاسم لأنهم عبدة المسيح وليسوا عبّاد الله ، ولذلك أخطأ المستشرقون حينما حاولوا أن يسموا المسلمين «المحمديين» ، اعتقادا بأنهم عبدة محمد مثلما المسيحيون عبدة المسيح ، فهل حفظ النصارى ميثاقهم مع الله؟

* * *

٥٨٠. الحواريون : مصطلح إسلامى أم نصرانى؟

يأتى مصطلح «الحواريون apostles فى القرآن والحديث معا ، والمفرد حوارى ، من حار أى جادل وجاوب ، كقوله تعالى : (فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ) (٣٤) (الكهف) أى يخاصمه ويردّ عليه. والحوارى فى اللغة مبيضّ الثياب ، ومجازا هو الذى أخلص واختير ونقّى من كل عيب. ويقال : هو حوارى فلان ، يعنى من أصحابه وأنصاره ـ والحواريون أصلا هم أنصار عيسى عليه‌السلام ، وفى الأناجيل المقصود بهم تلاميذه. ولا يرد مصطلح «الحواريون» بنصّه فى الأناجيل وإنما الذى يرد هو مصطلح «التلاميذ» : وهم المتلقون عن معلّم ؛ وأما الحواريون فهم أرقى من التلاميذ ، لأنهم يناقشون ويحاورون ويتحاورون بغية

٥١٨

الوصول إلى الحق ، فمصطلح «الحواريون» القرآنى أفضل من مصطلح «التلاميذ» الإنجيلى. ثم إن من تلاميذ المسيح من غير الاثنى عشر من كانوا قصّارين أى مبيّضين وهو معنى لفظة «حواريون». والأكثر تداولا فى القرآن وعند المسلمين مصطلح «الأنصار» ويقابله مصطلح «المهاجرون» ، كقوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) (١٠٠) (التوبة). وحواريو المسيح أو تلاميذه كانوا فى المشهور عنهم : اثنى عشر ، يرد عنهم فى إنجيل متّى فى الفصل العاشر ٢ / ٥ ، أنهم : سمعان المدعو بطرس ، وأندراوس أخوه ، ويعقوب بن زبدى ، ويوحنا أخوه ، وفيلبس ، وبرتلوماوس ، وتوما ، ومتّى العشّار ويعقوب بن حلفى ، وتداوس ، وسمعان القانوىّ ، ويهوذا الإسخريوطىّ الذى أسلمه ، فهؤلاء اثنا عشر حواريا أو تلميذا ، قيل : كانوا يرتدون الملابس البيضاء ، فاسمهم الحواريين لذلك ، لأن الحوارى هو الذى يبيّض ثيابه ، من حوّر الثوب أى بيضه ، والحوارى بخلاف الحواريّ وهو الدقيق الأبيض أو أى شىء أبيض. وقيل الحوارى هو الصيّاد ، وكان بطرس ، وأندراوس ، ويعقوب بن زبدى من صيّادى الأسماك.

واستخدم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مصطلح الحوارى ، وفى الحديث فى الصحيحين : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا ندب الناس يوم الأحزاب ، انتدب الزبير فقال : «لكل نبىّ حوارىّ ، وحواريّى الزبير» ، فهو حواريه من الرجال مثلما عائشة حواريته من النساء.

وفى الآية : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) (١١١) (المائدة) ، أنه تعالى امتنانا على عيسى جعل له الأصحاب والأنصار ، والوحى مع الحواريين أو الأنصار وحى إلهام ، كقوله تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) (٦٨) (النحل) ، أى ألهموا ذلك فامتثلوا ، لأنهم القوم لا يشقى بهم جليس ، فلما انبسطوا فى إحدى المرات ـ كما يروى القرآن ـ طلبوا المائدة لتسكن قلوبهم بما يشاهدونه من عظيم الآية وعجيب المعجزة ، فقالوا : (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) (١١٢) (المائدة) ، فعذروا وأجيبوا إليها ، لأن مرادهم كان اليقين : (قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) (١١٣) (المائدة) وهذا هو الحوار بينهم وبينه ، ولهذا سمّوا «حواريون» ، لأنهم يحاورونه زيادة فى البصيرة ، وكلّ يطلب سؤله على حسب ضرورته ، فمنهم من سكونه بمائدة طعام يجدها ، ومنهم من سكونه بفائدة من الموارد يردها ، والعزيز منهم هو الذى يعلو على البرهان يتأمله ، أو الدليل يطلبه. فذلك هو مقصود مصطلح الحواريين فى النصرانية والإسلام.

* * *

٥١٩

٥٨١. النصارى يحتجون بالمتشابه من القرآن ويتركون المحكم

الذين فى قلوبهم زيغ يتبعون ما تشابه من القرآن ، ليمكنهم أن يحرّفوه إلى مقاصدهم الفاسدة ، وينزلوه عليها لاحتمال لفظه لما يصرفونه ، فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه ، لأنه دامغ لهم وحجة عليهم ، ودافعهم إحداث الفتنة والإضلال لتابعيهم ، إيهاما بأنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن ، وهو حجة عليهم لا لهم ، كاحتجاجهم بأن القرآن قد نطق بأن عيسى روح الله ، كقوله تعالى : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) (التحريم ١٢) ، وقوله : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) (١٧١) (النساء) ، وتركوا الاحتجاج بقوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) (٥٩) (الزخرف) ، وبقوله (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٥٩) (آل عمران). فسبحان الله ولا إله إلا الله!

* * *

انتهى بحمد الله ومنّته الباب الخامس ويبدأ إن شاء الله الباب السادس :

«موجز سور القرآن».

* * *

٥٢٠