موسوعة القرآن العظيم - ج ١

دكتور عبد المنعم الحفني

موسوعة القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

دكتور عبد المنعم الحفني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
ISBN: 977-208-442-2
الصفحات: ١٢٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

ومثل آخر من الأخطاء فى التوراة : الخطأ فى سفر العدد ، الفصل الأول ، العبارات من ٤٦ حتى ٤٩ التى تقول : «هؤلاء المعدودون الذين عدّهم موسى من ابن عشرين سنة فصاعدا ، المؤهلون لحمل السلاح فى الحرب مع الإسرائيليين ، كان جميع المعدودين ستمائة ألف وثلاثة آلاف وخمسمائة وخمسين ، وأما اللاويون فلم يعدّوا ، إذ كان الربّ قد كلم موسى قائلا : أما سبط لاوى فلا تعدّهم ، ولا تحص جملتهم من بين بنى إسرائيل». ونعلم من هذه العبارات أن عدد الشبان فى سن التجنيد عند الخروج من مصر ، وفى صحراء سيناء ، كان أكثر من ستمائة ألف ليس منهم اللاويون الذكور والأناث ، وكذلك إناث كل البيوت من غيرهم من الإسرائليين ، وكذا ذكورهم الذين لم يبلغوا العشرين ، ولا الشيوخ ، فيكون الكل تقديرا نحو مليونين وخمسمائة ألف ، وهذا كذب! ـ لما ذا؟ لأنه مذكور فى التوراة فى سفر التكوين ، الباب ٤٦ ، العبارة ٧ ، وفى سفر الخروج ، الباب الأول ، العبارة الخامسة ، وفى سفر تثنية الاشتراع ، الباب العاشر ، العبارة ٢٢ : أن الإسرائيليين الذكور من أولاد يعقوب بما فيهم يوسف وولداه كانوا سبعين فقط!! فهل هؤلاء السبعون أنجبوا مليونين وخمسمائة ألف من الذكور عند الخروج؟ وفى سفر الخروج أيضا العبارة ٢٢ يجيء : إن فرعون مصر أمر جميع شعبه أن كل ذكر يولد للإسرائيليين يغرقونه فى النهر» ، ونجا موسى من هذا المصير ، وجرى له ما جرى ، وعاد ينذر فرعون وموسى فى الثمانين ، أى أن هذا التقتيل لذكور بنى إسرائيل كان يجرى قبل مجىء موسى بثمانين سنة واستمر خلال ذلك ، ورغم هذا التقتيل لكل الذكور مدة ثمانين سنة ، كان هناك هذا العدد من الشباب دون العشرين؟!! فإما أن خبر هذا التقتيل كان فرية ، وإما أن هذا العدد غلط كله من أوله لآخره!!! ثم نأتى إلى عدد سنين إقامتهم فى مصر ، منذ مجىء يعقوب إلى الخروج ، ففي سفر الخروج أيضا ، الباب الثانى عشر ، العبارة ٤٠ : «وكان مقام بنى إسرائيل الذى أقاموه بمصر أربعمائة وثلاثين سنة» ، ولكن فى الباب السادس من سفر الملوك الأول ، العبارة الأولى : «أن سليمان فى السنة الرابعة من حكمه وبعد مرور ٤٨٠ سنة من الخروج من مصر بنى بيت الربّ» ، فهل يعقل أنه قد مضى من موسى حتى سليمان خمسون سنة فقط؟! وموسى هو ابن يوكابد بنت لاوى ، وابن عمران بن قهات بن لاوى. وقهات جدّ موسى ولد قبل مجىء بنى إسرائيل إلى مصر كما جاء فى العبارة ١١ من الباب السادس والأربعين من سفر التكوين ، فلا يمكن أن ينقضى من مجىء الجد إلى خروج الحفيد ٤٣٠ سنة!؟ والمعقول لذلك أن تكون مدة البقاء فى مصر هى ٢١٥ سنة ، وهى المدة التى يقرّها مؤرخو اليهود ومفسرو التوراة عن النسختين السامرية واليونانية من التوراة ، وفيهما صححت عبارة التوراة عن الأربعمائة وثلاثين سنة التى

٤٤١

سكنها الإسرائيليون فى مصر إلى أنها مدة بقاء العبرانيين وآبائهم وأجدادهم فى أرض كنعان لا فى أرض مصر ، وربما ذلك صحيح لأن مدة بقاء إبراهيم منذ دخل كنعان إلى ولادة إسحاق ٢٥ سنة ، وإسحاق كان ابن ستين سنة لما ولد له يعقوب ، ويعقوب دخل مصر وكان ابن مائة وثلاثين سنة ، فالمجموع ٢١٥ ، سنة ، ومدة بقاء العبرانين فى مصر ٢١٥ فيكون المجموع ٤٣٠ سنة ، وعلى ذلك تكون عبارة سكن العبرانيون مصر ٤٣٠ سنة خطأ ، ويكون رقم الشباب الحامل للسلاح خطأ كذلك ، لأن عدد هؤلاء الشباب مرتبط بعدد سكناهم مصر.

ومن أمثلة الخطأ كذلك أن يأتى فى التوراة فى سفر الخروج ، الباب السادس ، العبارة ٢٠ : «فاتخذ عمرام يوكابد عمّته زوجة له ، فولدت له هارون وموسى» ، ثم يكون هناك التشريع فى سفر الأحبار ، الباب الثامن عشر ، العبارة ١٢ : «سوأة أخت أبيك لا تكشفها إنها ذات قرابة لأبيك» ، فكأنه بهذا الحكم قد جرّم القول السابق بأن أباه تزوّج عمّته التى هى أم موسى ، ومع أن الشريعة الجديدة قد حرّمت ذلك إلا أنه ينبقى أن موسى وهارون ولدا من حرام ، وإن كان هذا الحرام قد جلّى من بعد. وكذلك سبق فى التوراة أن داود من نسل فارص ولد يهوذا من تامار زوجة ابنه ، فكأنه ولد زنا بحسب الشريعة اليهودية التى تمد التحريم إلى الجيل العاشر ، مع التنبيه إلى أن المسيح من نسل داود كذلك ، وهى أمور منفّرة وغير مقبولة ، بالمقارنة بما ثبت عن نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد روى ابن سعد ، بطريق محمد بن علىّ بن الحسين عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «إنما خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم ، ولم يصبنى من سفاح أهل الجاهلية شىء ، ولم أخرج إلا من طهر» ؛ وعن عائشة ، عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «خرجت من نكاح غير سفاح» ؛ وعن هشام بن محمد بن السائب الكلبى ، عن أبيه ، قال : «كتبت للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمسمائة أم ، فما وجدت فيهن سفاحا ، ولا شيئا مما كان من أمر الجاهلية».

ومن أمثلة الخطأ كذلك فى سفر التكوين ، الباب الرابع ، العبارة الثامنة من النسخة العبرانية ، يأتى : «وقال قابيل لهابيل أخيه لنخرج إلى «الصحراء» ، فلما كانا فى «الصحراء» وثب قابيل على هابيل أخيه فقتله» ، وفى النسخ السامرية واليونانية واللاتينية يأتى «فى الحقل» بدلا من «فى الصحراء»!

ومن الأخطاء أيضا : العبارة السابعة عشرة من الباب السابع ، من سفر التكوين من النسخة العبرانية ، وفيها يأتى : «وكان الطوفان أربعين يوما على الأرض» ، وفى النسختين اللاتينية واليونانية يأتى «أربعين يوما وليلة على الأرض» ، وفارق بين العبارتين!

٤٤٢

وأيضا العبارة التاسعة عشرة من الباب السادس من سفر صموئيل الأول ، وفيها يأتى : «وأهلك الرّب أهل بيت الشمس لأنهم فتحوا صندوق الرّب ورأوه ، فأهلك منهم خمسين ألفا وسبعين إنسانا» ، والتحريف واضح فى العبارة ، فإما قد سقطت منها بعض الألفاظ ، وإما زيد فيها خمسون ألفا ، جهلا أو قصدا! لأنه لا يعلم أن يكون أهل تلك القرية الصغيرة بهذا المقدار! ومن السخف أن يصحّح محررو الترجمة هذا الخطأ كالآتى : «وقتل من الشعب سبعون رجلا وكانوا خمسين ألف رجل»!! وهو شىء يعدم الثقة تماما فى نسخ التوراة جميعها ، قديمها وحديثها ، والاختلافات فيها فى هذه العبارة متباينة.

ومن أغرب الخطأ أن ترد العبارة ٢٢ فى سفر التكوين فى الباب الخامس والثلاثين كالآتى : «وحدث أن كان إسرائيل ساكنا فى تلك الأرض ، أن رأوبين ذهب فضاجع بلهة سرية أبيه ، فسمع بذلك إسرائيل» ، ورأوبين هو ابن إسرائيل البكر ، وبلهة أنجب منها أبوه ولدين هما دان ونفتالى!! ورأوبين إذن ضاجع امرأة أبيه ، فهل تكون هذه العبارة صحيحة؟ وهل أولاد الأنبياء ونساؤهم زناة؟ إننا نعجب أن يشيع الزنا فى بيوت أنبياء إسرائيل بهذا

الشكل السافر والمستشرى : فى لوط ، وموسى ، وإسرائيل ، وداود ، وسليمان ، وزكريا ، ويحيى ، ومريم ، وعيسى!!!

* * *

٤٨٣. اليهود أنكروا القرآن لأنه ينسخ التوراة ،

وأنكروا النسخ لما تحوّل المسلمون بقبلتهم من بيت المقدس إلى الكعبة

كان كفر اليهود منذ البداية حول هذه المقولة : أن نزول القرآن ينسخ التوراة ، وهم لا يمكن أن يكفروا بالتوراة ، ومن ثم كفروا بالقرآن وألغوا فيه ، وجحدوا أحكامه ، لقولهم أنها تناقض أحكام التوراة ، ولم يقرّوا بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبنبوة عيسى عليه‌السلام من قبله لنفس السبب ، لأنهما نقضا الناموس ـ أى الشرع الموسوى ، فأنزل الله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (١٠٧) (البقرة). ومعنى أن ينسخ الآية أن يبدلها ، أو ينقل حكمها إلى غيرها. والنسخ : فى الأمر والنهى ، والحظر والإطلاق ، والمنع والإباحة ، فأما الأخبار فلا نسخ فيها ولا منسوخ. وأصل النسخ أن نقول نسخ الكتاب : أى نقله ، فكذلك نسخ الحكم هو تحويله ، والآية إذا نسخت ، سواء فى حكمها أو خطّها فهى فى الحالتين منسوخة. والنسخ عند علماء الأصول : هو رفع الحكم بدليل شرعى متأخر ، ويندرج فى ذلك نسخ الأخف بالأثقل وعكسه ، والنسخ بدون بدل. وقوله «ننسها» فيه القراءة بالنون المضمومة أو بالنون المفتوحة ، وفيه أيضا «ننسأها» فمن يقرأها بفتح النون فمعناها نؤخّرها ، ومن يقرأها «ننسأها» فمعناها نثبت خطّها ونبدّل حكمها ،

٤٤٣

وكان عمر يقرأها «ننسأها» ويقول أى نؤخّرها ، فأما القراءة بضم النون ، فكان قتادة يقول ادعاء : كان الله ينسى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يشاء ، وينسخ ما يشاء»! ـ وقال الطبرانى زاعما : قرأ رجلان سورة أقرأها لهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكانا يقرءان بها ، فقاما ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف ، فأصبحا غاديين على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكرا ذلك له ، فقال : «إنها مما نسخ وأنسى فالهوا عنها»! وفى قول الزاعمين أن قوله تعالى : «نأت بخير منها أو مثلها» تعنى فى الحكم لمصلحة المكلّفين ، فما كان أصلح فى الحكم لهم قضى به الله تعالى ونسخ ما قبله ، والله تعالى ـ كما يقول ابن عباس ـ يحكم لنا بما فيه خير ومنفعة وبما هو أرفق بنا. وقوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (١٠٧) (البقرة) ، يعلّمنا بأنه تعالى المتصرّف وله الخلق والأمر ، يحلّ ما يشاء ويحرّم ما يشاء ، كقوله تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (٢٣) (الأنبياء). والنسخ فى الإسلام يا أخى المسلم الذكى المقصود بها ـ بمعنى أن بعضه ينسخ بعضه ـ غير موجود ، وآية النسخ أن الإسلام ينسخ ما قبله من الديانات ، أى اليهودية والنصرانية ، واليهود أنكروا النسخ كما قلنا لهذا السبب ، فأخبرهم الله بأنه تعالى له أن يقرر وأن ينهى ، وأن يمحو وأن يثبت.

وما يزال اليهود حتى اليوم يحملون على النسخ ، ويقلّدهم المسيحيون ، والعلمانيون حاليا ، واليهود لهم مصلحة وهى إنكار أن تنسخ النصرانية شريعتهم ، والنصارى لهم مصلحة وهى إنكار أن ينسخ الإسلام ديانتهم ، والعلمانيون دعاة للتنوير والهيمنة الأوروبية والعولمة الأمريكية ، ويدعون إلى إبطال الأديان والأخذ بالمنهج العلمى وإلغاء القيم كلية ، وكلهم معاند شديد العناد ، والرّد عليهم ـ أخى المسلم الذكى ـ إنما بتذكيرهم أن العقل لا يرفض النسخ فى الأحكام بما فيه المصلحة ، وفى القديم كان الله قد أحلّ أن يتزوج الأخ بأخته كما فعل إبراهيم ، ثم نسخ ذلك ؛ وأحلّ لنوح أن يطعم لحم أى حيوان ، ثم نسخ الحل ببعضها وحرّمه ؛ وكان نكاح العمة مباحا كما فعل أبو موسى ، وحرّمته شريعة التوراة ؛ وأمر إبراهيم بذبح ولده ثم نسخ الأمر ، والأمثلة كثيرة فى ذلك يطول سردها. وكان أكثر ما يضايق اليهود من النسخ تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ، فذلك ما أغاظهم فى الإسلام وأضجّهم منه ، فأخذوا يلغون فى النّبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويهزءون بالإسلام ، فأنزل الله تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١٤٢) (البقرة) والسفهاء هم اليهود ، قالوا : ما لهؤلاء المسلمين يستقبلون تارة بيت المقدس ، وتارة يستقبلون الكعبة؟ فكان جواب

٤٤٤

الله تعالى : عليهم : (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) يتضمن نفس الرّد السالف على النسخ : أنه تعالى المتصرّف وله الأمر كله ، وقال : (لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها) (البقرة ١٤٨) ، والوجهة هى القبلة ، شرحها أكثر فقال : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) (٤٨) (المائدة) ، يعنى يا أيها اليهود لكم قبلتكم التى ترضونها ، وللمسلمين قبلتهم التى ارتضاها الله لهم ، وللنصارى قبلتهم التى تابعوا اليهود عليها ، وكل ملّة لها شرعة ومنهاج ، أى سنن وطرائق ، والله تعالى جعل الناس شعوبا وقبائل (الحجرات ١٣) ، (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) (المائدة ٤٨) ، (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً) (النحل ٣٦) ، وجعل لكل منها منسكا هم ناسكوه (الحج ٦٧) ، وهذا هو الإقرار «بالتباين» فى الإسلام ، و «احترام الغير أو الآخر ، والقول بالديموقراطية الدينية!!

وكل ذلك أخى المسلم الذكى ـ يقوم عليه الإسلام ولا شىء منه فى اليهودية ، ولا فى النصرانية ، وأهيب بك ـ يا أخى المسلم الذكى ـ أن يكون ذلك منطلق حوارك مع الآخر ، وأساس بلاغك له عن الإسلام ، ودعوتك إليه أن يقرّ بالحق ، وأن يقول الصدق ، وأن يقدّر الملل أقدارها. ولله الحمد والمنة.

* * *

٤٨٤. آمين : هل هى مأخوذة من اليهودية والمسيحية؟

لا توجد «آمين» فى النصوص اليهودية القديمة ، وفى المزامير أضاف المرتلون «آمين» من عندهم ، يثنّون بها مرتين على المجموعة الثامنة من المزمور ٣١ حتى المزمور ٧٢ ، ثم يقولون : تمت صلوات داود بن يسى. ولخلو شعائرهم من «آمين» ، قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حسدتكم اليهود على آمين». والنصارى ينهون الصلاة بآمين ، ويختمون الدعاء فى سفر متّى ، الفصل السابع ، «بآمين».

وفى الإسلام «آمين» جزء ركين من الفاتحة ، وهى سنّة ، وتقال عقب قراءة الفاتحة سواء فى الصلاة أو فى غيرها ، والفارق بين الحالتين أنها فى الصلاة تقال بعد أن يدعو بها الإمام ، وفى غير ذلك تقال عقب الفاتحة مباشرة. وفى الحديث : «إذا أمّن الإمام فأمّنوا». وآمين تقال عقب كل دعاء سوى الفاتحة ، وهى كالخاتم على الكتاب ، يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «آمين خاتم ربّ العالمين» ، أى هى الطابع على الدعاء ، ومعناها : اللهمّ استجب ، أو فليكن كما دعونا ، أو ربّنا افعل ما دعونا. وقول «آمين» عقب الدعاء له تأثيره النفسى ، فهى تعطى الدعاء قوة ، ويشعر الداعى أنه يستنزل بها البركة. وقيل : إن آمين اسم من أسماء الله ، والنطق بها كقولنا «يا ربّ». ومن الخطأ تشديد الميم عند النطق بها ، لأن الميم ، المشددة تعنى شيئا آخر مثل قوله تعالى : (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ) (٢) (المائدة) ، فآمين المشددة فيها الميم

٤٤٥

تعنى «قاصدون إليك». والإمام يجهر بآمين ، وفى عهد النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قرأ «ولا الضالين» قال : آمين ـ يرفع بها صوته ليسمعها أهل الصف الأول ، فيقولها بعده كل من فى المسجد ، فيرتج بها المكان ارتجاجا. والجهر بآمين إشهار لها كشعار يندب العباد إلى إظهاره.

وفى الحديث أن الله أعطى أمّة الإسلام ثلاثا ، منها «آمين» ، اختصّ بها المسلمين دون غيرهم ، وفى الحديث عن عائشة عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما حسدتكم اليهود على شىء ، ما حسدتكم على آمين ، فأكثروا من قول آمين». وموجب الحسد الذى لم يستوعبه المستشرقون : أن الفاتحة التى لا مثيل لها عندهم ، أولها الحمد لله والثناء عليه ، ثم الإقرار بعظمته وطلب الاستعانة به ، ثم الدعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم ، وأن لا نكون من الضالين ولا من المغضوب عليهم. فآمين إذن تذكر قصدا ، ولها فلسفة ومرجعية تاريخية ، وليس الأمر كذلك عند النصارى خصوصا وهم الذين يقولون آمين ، ولا هو كذلك عند اليهود الذين لا يعرفون التأمين أصلا. ولهذا يتّهم المسلمون بأنهم سرقوا آمين من النصارى ، وشتّان بين آمين عند النصارى الذين لا يقولونها إلا لماما ، وبينها عند المسلمين الذين تشكل بالنسبة لهم ركنا من أركان العقيدة ويلهجون بها دوما وأبدا ، وليس قول النصارى ، بسرقة المسلمين لآمين إلا من باب الحسد والغيرة والحقد والاستعلاء. وحسبنا الله.

* * *

٤٨٥. أكاذيب اليهود فى مناسبة الآية : «ويوم يعضّ الظّالم على يديه»

الآية : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) (الفرقان ٢٧) صارت مثلا سائرا ، والظالم تاريخيا هو عقبة من معيط ، وخدنه أميّة بن خلف الجمحى ، أو أنه أبىّ بن خلف أخو أميّة ، وكان عقبة واقعا تحت قهر أمية لسبب ما ، ربما يفسره قولهم إنهما كانا خدنين يعنى متحابين ، فربما أحدهما مأبون والآخر لوطى ، ولما كان عقبة قد اضطر أن يعلن إسلامه كى يحضر النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليمة له أقامها لأشراف قريش ، وكان أمية غائبا ، فقد أجبره أمية بعد ذلك أن يرتد ففعل ، فأنزل الله : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) (٢٩) (الفرقان).

وشنّع اليهود بتفسيرات أخذ بها بعض المفسرين من المسلمين للأسف ، فقالوا : إن عقبة وأمية أخذا أسيرين يوم بدر ، وأن عقبة قتله علىّ بن أبى طالب ، وأن أمية قتله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنفسه!!! ومعروف أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يحدث أن قتل أحدا ، لا فى معركة ولا فى غيرها ، وما أمر بقتل أسير قط!!! وفى تشنيعة أخرى قالوا إن عقبة قتل صبرا فى بدر ، وذلك أيضا لم

٤٤٦

يأمر به النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما كان يفعل ذلك مطلقا! والصحيح أن عقبة قتل فى وقعة بدر ، وأن أمية قتل فى أحد! ومن أكاذيب اليهود فى مسألة عقبة هذا ، أن أمية لما علم أن خدنه أسلم ، قاطعه إلا أن يذهب إلى محمد ويبصق فى وجهه ويطأ عنقه ويسبّه قائلا كيت وكيت ، وأن عدو الله فعل ما أمره خليله!!! فهل هذا يصدّق؟ أن يتركه النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفعل فيه كل ذلك؟ وأن يترك الصحابة رسولهم يكيل له هذا المأبون كل هذه الإهانات؟!! وللأسف فإن هذا ما ورد عند الواحدى فى أسباب النزول! وفى تفسير الطبرى! وفى الدر المنثور!!! والظالم فى هذه الآيات عام فى كل ظالم ، والشيطان عام فى كل محرّض على الإثم ، وهو كل من يطيعه آخر فى المعصية ، ويصدق فيه الحديث عن «جليس السوء والجليس الصالح» ، فلما سألوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أى الجلساء خير؟ قال فى الجليس الصالح : «من ذكّرتكم بالله رؤيته ، وزاد فى علمكم منطقه ، وذكّركم بالآخرة عمله» أخرجه العسكرى فى الأمثال ، والشاعر يقول :

وصاحب خيار الناس تنج مسلّما

وصاحب شرار الناس يوما فتندما

* * *

٤٨٦. كذب اليهود أن محمدا أمر بصيام عاشوراء اقتداء بهم

الكلام فى قوله تعالى : (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ) (٥٠) (البقرة) لبنى إسرائيل ، قالوا : إن نجاتهم كانت فى عاشوراء ، وأن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سألهم : «ما هذا اليوم الذى تصومونه»؟ فقالوا : هذا يوم عظيم ، أنجى الله فيه موسى وقومه ، وأغرق فرعون وقومه ، فصامه موسى شكرا ، فنحن نصومه ، فقال لهم النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فنحن أحق وأولى بموسى منكم» ، فصامه وأمر بصيامه. وهذا كذب وافتراء ، يريد اليهود بأحاديث من مثل ذلك ، الزعم بأن دينهم هو الدين المهيمن على الإسلام ، والحقيقة كما قالت عائشة : كان يوم عاشوراء تصومه قريش فى الجاهلية ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصومه فى الجاهلية ، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه ، فلما فرض رمضان ترك صيام يوم عاشوراء ، فمن شاء صامه ، ومن شاء تركه». فمن غير المعقول أن يحاكى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم اليهود فيه ، وهو الحريص أن يخالفهم فى كل شىء ، فلمّا وجد اليهود تصوم اليوم العاشر مصادفة مع المسلمين ـ يقول ابن عباس : أمر النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس فقال : صوموا التاسع والعاشر وخالفوا اليهود» ، ثم إن التقويم اليهودى لا يتوافق مع التقويم الهجرى! فيا أخى المسلم ، أذكر ذلك وادفع عن دينك ، فهؤلاء الناس هم شرّ البرية ، وأكذب خلق الله ، وحسبنا الله فيهم!

* * *

٤٤٧

٤٨٧. «الغرانيق فى سورة النجم بحسب الإسرائيليات»

الغرنوق أو الغرنيق من طيور الماء الجميلة الشكل ، ولذا قد يقال للشاب المليح أنه غرنوق من باب المدح ، والجمع غرانيق ، ويقال للأنثى أنها غرنوق وغرنوقة أيضا ، والجمع غرانيق أيضا وغرنوقات. وينهج المفسّرون للقرآن بالإسرائيليات على نهج يهود المدينة ، ونهج اليهود بعامة ، فالإسرائيليات لم يختص بها الإسلام ، فقد فسّر اليهود بها الفلسفة اليونانية ، واتهموا فلاسفة اليونانية بسرقة الأفكار من التوراة ؛ واتهموا الحضارة المصرية القديمة بأنها عبرانية ونسبها المصريون لأنفسهم ؛ وفى حربهم مع المسلمين حاليا ادّعوا أنه لا وجود لحضارة إسلامية ، ولا لحضارة عربية ، وأن الحضارة هى فقط الحضارة الغربية وأساسها يهودى وهو التوراة ، وأن ما يسمى بحضارة إسلامية أو عربية منقولة عن العبرانية. وقديما اختلفوا فى تفسيرهم للقرآن ، ومن قبل ذلك وحتى الآن فى تفسيرهم للتوراة ، ويذهبون إلى اختلاق الروايات المتناقضة مع القرآن ، مما يوافق هواهم وأمزجتهم ونواياهم الخبيثة ، ومن ذلك ما ذكروه فى تفسير بعض آيات من سورة النجم ، رووا فى تفسيراتهم عنها حكاية غريبة عرفت من بعد برواية الغرانيق ، وكان أول من قال بها الحبر الأكبر عبد الله بن عباس ، ونقلها عنه وروّج لها تلميذه سعيد بن جبير ، ثم شاعت عنه إلى أن تداولها المستشرقون ، ووجدوا فيها المناسبة المرتجاة للطعن فى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفى القرآن ، وفى الإسلام عموما.

ومؤدّى الحكاية كما يروونها : أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أنزلت عليه سورة النجم قرأها على من حوله ، فلما بلغ الآيات : (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨) أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) (٢٤) ، تلبّسه الشيطان ، ودلّس عليه آيتين إضافيتين تصفان اللات والعزى ومناة ، فتصير الآيات المتضمنة لها هكذا : «أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ، تلك الغرانق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى». فكأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ طبقا لهذه الرواية ـ يمكن أن يتلبّسه الشيطان ويدلّس عليه فى رواية القرآن ، ولو كان ذلك صحيحا ، فهل يمكن أن يوثق فيه إذن فى الرواية عن الله عموما ، وفى أى شىء آخر يتعلق بالدين ، طالما أنه عرضة للتأثير عليه فى أهم أدوات الدين وهو كتاب الله؟ فهذه هى خطورة الرواية ، وخطورة الاتهام الذى تتضمنه.

ونلاحظ ان ابن عباس لم يحضر نزول السورة ، لأنه وقت وفاة النّبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان فى

٤٤٨

الثالثة عشرة من عمره ، وكذلك ابن جبير ، فإنه من مواليد سنة ٤٥ ه‍. أى بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم باثنتين وثلاثين سنة! ومع ذلك فقد اعتمد روايته السيوطى من بعد ، ونشرها فى كتابه «الدر» ، وكذلك كتب عنها ابن جرير ، وابن المنذر وابن أبى حاتم ، وابن مردوية ، وفيما رووا أن ابن جبير قال عن ابن عباس : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ بمكة سورة النجم ، فلما بلغ : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) (٢٠) ألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلا ، وإن شفاعتهن لترتجى». وقال : عندئذ سجد الرسول ، وسجد المشركون أيضا ، وقالوا : لقد ذكر آلهتنا بخير ولم يكن قد فعل ذلك من قبل. وانتشرت الحكاية عن طريق من سمعها من النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ممن كانوا حوله. ثم إن جبريل لمّا جاء بعد ذلك يسأل النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعرض عليه ما جاءه به من قرآن ، قرأ عليه النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما عنده ، فلما بلغ : «تلك الغرانيق العلا ، وإن شفاعتهن لترتجى» ، قال : لم آتك بهذا! هذا من الشيطان! ـ قال سعيد : فأنزل الله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٥٢) (الحج)! والزيادة التى قال بها ابن جبير ذكر قتادة أنها : «وأنهنّ لهنّ الغرانيق العلى». وفى رواية الواقدى قال : سجد المشركون كلهم ـ أى عند ما قرئت هذه الزيادة ـ إلا الوليد بن المغيرة ، وكان شيخا كبيرا ، فإنه أخذ ترابا من الأرض فرفعه إلى جبهته وسجد عليه (أى أنه لكبره لم يستطع السجود) ، وقيل إن الذى فعل ذلك أخاه سعيد بن العاص. وقال قتادة : حتى نزل جبريل فقرأ عليه النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال جبريل : ما جئتك به! ـ وأنزل الله : (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) (٧٤) (الإسراء).

فهذه حكاية الغرانيق التى يزعمونها والتى تصيّدها المستشرقون ، وأنكروا بها على النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى القرآن والإسلام. والحكاية إما أنها حقيقية ، وإما إنها ملفقة قال بها رواة غير موثوق بهم ، لم يتحرّجوا أن ينقلوا الكفر ، ولم يكلّفوا أنفسهم عناء مناقشة هذه الروايات ، كشأن المؤرخين الباحثين. ولقد جاءت رواياتهم مضطربة غير متوافقة مع بعضها ، فقائل يقول : إن النبىّ أخطأ وكان يقرأ فى الصلاة ؛ وآخر يقول : إنه أصابته سنة (أى غفوة) وهو يقرأ ؛ وقال آخر : إنه سها ؛ وقال آخر : ارتصده الشيطان فى سكتة من السكتات ، فنطق بتلك الكلمات ، محاكيا نغمة كلام الآيات من قبلها ، حتى أن من سمعه من المقربين ، ظنوا أن ما قاله هو من القرآن فأشاعه! وكل هذه الروايات مرسلة ومنقطعة ولا يحتج بها ، وطرقها ضعيفة ومتهافتة ومنكرة ، ولم يحفل بها البخارى ومسلم لهذا السبب. والمنكرون لهذه الروايات قالوا إن معنى «ألقى الشيطان» : أن الشيطان نطق بألفاظ سمعها

٤٤٩

الكفار عند قول النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) (٢٠) فالتبس الأمر على من سمعها ممن كانوا بالقرب من النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فظنوا أنه قائلها وليس الشيطان ، فكان عذرهم أقبح من ذنب الآخرين! والقرآن ينكر تماما أن يكون للشيطان تأثير على المؤمن ، ناهيك أن يكون هذا المؤمن هو النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم! كقول ربّ العزة مخاطبا الشيطان : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) (٤٢) (الحجر) ، وقوله عنه : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (٩٩) (النحل) ، وقوله عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٤) (النجم) ، ويقول بلسان النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) (١٥) (يونس) ، وقوله عن عقوبة أن يتقوّل النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الله : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) (٤٦) (الحاقة). وإذن فحكاية الغرانيق لا تثبت من جهة النقل ، فالقرآن لا يمكن أن يناقض بعضه ، كما لا يمكن أن يطعن فيه من طريق أحاديث فى التفسير من المراسيل والمنقطعات ـ وهى التى دخل أكثر البلاء على الإسلام من خلالها.

ثم إن القصة من جهة السياق لا تستقيم مع ما قبلها ، فاللات والعزى ومناة بحسب السياق هى مجرد أسماء سمّاها المشركون وآباؤهم ثم عبدوها ، و «الأسمائية» مدرسة فى الفكر تقول : أنه طالما أن هناك اسما فإنه لا بد أن يكون لشىء موجود فى الواقع وإن لم يكن مرئيا ولا مسموعا ؛ ونقيضها «الوضعية المنطقية» التى تقول : «أن الاسم إن لم يكن موجودا فى الواقع فهو فارغ المعنى» ، وأسماء اللات والعزى ومناة «فارغة المعنى» ، لأنها ليست من الواقع فى شىء. فإن قال قائل : إن الله تعالى ـ بالمثل ـ غير مرئى ولا مسموع ، يعنى أنه غير واقع ثم فارغ المعنى ، فنقول : إنه تعالى مدرك بما له من أفعال نراها بالبصر ، ونسمعها بالأذن ، ونحيط بها بالعقل ، فيما حولنا من مظاهر الكون ، ما ظهر منها وما خفى ، فالله تعالى اسم كالأسماء ، ولكنه على مسمّى متعيّن ندركه بالحواس والعقول والأفهام. وأما اللات والعزى ومناة ـ فكما جاء فى الآيات ـ هى أسماء فقط ما أنزل الله بها من سلطان ، أى ليس لها واقع ، والمعرفة بها معرفة ظنية ، يعنى إن سئل الكفار عنها يقولون عنها أشياء بالظن ولا يوصفون واقعا ، وظنهم بحسب هواهم ، أى وفق أمزجتهم ورغباتهم. والآيات إذن تذم هذه الآلهة أو بالأحرى الإلاهات ، لأنهم إناث وليسوا ذكورا ، والقرآن يعيب على الكفار أنهم جعلوا الآلهة شركاء الله إناثا ولم يجعلوهم ذكورا ، مع أنهم لا يحبون أن تكون لهم الإناث ويؤثرون عليهن الذكور ، فلما ذا يجعلون لله ما

٤٥٠

يكرهون لأنفسهم؟ ويصف القرآن ذلك بأنه ليس عدلا منهم ، فهل بعد هذا الذم يأتى الله تعالى بمدح لهذه الإلاهات يناقض الذم السابق ، فيصفها تعالى بأنها غرانيق علا ترتجى شفاعتهن؟!! ومن جهة أخرى فلو أمعنا العقل فى هاتين العبارتين المضافتين «تلك الغرانيق العلا ، وإن شفاعتهن لترتجى» فقد لا نرى أن المعنى فيهما متعارض مع السياق ، فالعبارتان تقالان من باب السخرية والازدراء لأسماء اللات والعزى ومناة ، فيكون المعنى : اللات والعزى وهذه المناة الأخرى ، اللاتى يقولون إن شفاعتهن ترتجى!! وهى طريقة فى الكلام نسمعها كثيرا فى العامية كلما أراد المتحدث التهوين من شأن شىء ما ، وتكون العبارتان إذن ذما شكلا وموضوعا ، وليس بهن أى مدح ولو أقل القليل.

وهذه الفرية أو التشنيعة التى شارك فيها الأقدمون والمحدثون ، أحزنت النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى وقتها لما أثارته من الشبهات ، وما سببته من الفتن. وقد ربط البعض لذلك بين هذه الحادثة وبين آيتين ، الأولى : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) (٧٥) (الإسراء) ؛ والثانية : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٥٢) (الحج) ، والآيتان نزلتا فى أمور أخرى وليست لهما صلة بهذه الحادثة ، فلا يحتج بهما على أن حادثة الغرانيق هذه قد جرت فعلا ، وسنتناول الآيتين بعد الانتهاء من حكاية الغرانيق ، وسياقهما مختلف تماما ، وقوله تعالى فى الأولى : (كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) ليس معناها أنهم قاربوا أن يحققوا لأنفسهم ذلك ، وإنما أنهم حاولوا من خلال إنصاته لهم ، ولم يفلحوا أن يفتنوه لأنه معصوم ومثبّت من الله. فكما ترى الآية تحكى عن شىء آخر ، ومع ذلك فهى بإزاء الحكاية التى نحن بصددها تؤكد استحالة وقوعها ، لأنه مع العصمة والثبات لا يمكن أن يلقى شيطان على لسانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا مخالفا لمطلوبه تعالى. وكذلك فإن الآية الثانية تؤكد أن محاولات شياطين الإنس والجن لم تتوقف عن التشويش على النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى رسالته ، ومعنى : (إِلَّا إِذا تَمَنَّى) أى حدّث ، ومعنى : (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) أى فى حديثه ، (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) أى يبطله. والآية موضوعها ليس الغرانيق ، إلا أنها كذلك تؤكد أن حادثة الغرانيق هذه ما كان يمكن أن تحدث للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالطريقة التى رووا عنها ، ولذلك فقد حاول آخرون روايتها بطريقة مختلفة ، فذكر الكلبى أن النبىّ لمّا بلغ : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) (٢٠) لبّس عليه الشيطان أن يضيف «والغرانقة العلا وإن شفاعتهن لترتجى» ، وفسّر الغرانقة بالملائكة. ولم ير القشيرى هذا

٤٥١

التفسير ، لأن الله يقول (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) أى يبطله ، وشفاعة الملائكة غير باطلة.

ومن كل هذا التضارب كما ترى يتأكد أن حكاية الغرانيق من أراجيف رواة الإسرائيليات ، وتلقّفها المستشرقون للتشنيع على الإسلام ، أو أنها لو كانت قد جرت ، فإنها لم تكن تعدو إشاعة أو تشنيعة ، وفى علم نفس الإشاعات توصف أمثال هذه الإشاعة بأنها مستبشعة ، ومن دأب العدو الذى يروّج لها أن يهوّل منها ، فكلما زاد التهويل كلما كان للإشاعة مردود على الجماهير ، ولو ببعض التأثير ، ولن تكون عديمة التأثير أبدا ، ومن تهويلهم فى شأن حكاية الغرانيق ـ أنهم قالوا إن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا عرف ما قال ، ندم عليه وقال : افتريت على الله وقلت ما لم يقل!

* * *

٤٨٨. آية الفتنة من سورة الإسراء مثل آخر كالغرانيق

قال المستشرقون إذا كانت قصة الغرانيق فى سورة النجم غير صحيحة ، فلما ذا كانت «آية الفتنة» إذن التى تقول : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) (٧٥) (الإسراء) ، أليس ذلك لأن قصة الغرانيق صحيحة ، وتثبتها آية الفتنة؟

ويقول راوى الإسرائيليات سعيد بن جبير ، المولود سنة ٤٥ ه‍ ، والذى لم يحضر أيا من أسباب نزول القرآن : كاد النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستلم الحجر الأسود فى طوافه ، فمنعته قريش ، وقالوا : لا ندعك تستلم حتى تلمّ بآلهتنا (أى تزورها). فحدّث نفسه (أى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ، وقال : ما علىّ أن ألمّ بها بعد أن يدعونى أستلم الحجر ، والله يعلم أنى لها كاره؟ فأبى الله تعالى ذلك وأنزل عليه هذه الآية! ـ فهذه رواية ابن جبير تطعن فى أخلاقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويريد منا هذا الملعون أن نصدقه فيها! والمستشرقون يصدقونه ويروّجون لمثل أقواله. ورواية سعيد جاء مثلها : عند الطبرى فى «جامع البيان» ، والماوردى فى تفسيره ، وابن عطية فى «المجرد الوجيز». وجاء عند الطبرى والماوردى عن مجاهد وقتادة ، وفى رواية أخرى ، نقلا عن ابن عباس ، والثلاثة من صناع الإسرائيليات ورواتها : أن هذه الآية نزلت فى وفد ثقيف لمّا أتوا النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألوه شططا ، فقالوا : متّعنا بآلهتنا سنة حتى نأخذ ما يهدى لها ، فإذا أخذناه كسرناها وأسلمنا ، فهمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعطيهم ذلك ، فنزلت هذه الآية. وقوله «همّ الرسول» هو تأكيد للمرة الثانية للصفة الزرية التى ينسبونها للنّبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه كان من

٤٥٢

الممكن أن يمالئ هذا أو ذاك ، ولو لا السماء لفعل ذلك! وفى رواية أخرى : أن أكابر قريش قالوا للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اطرد عنا هؤلاء السقّاط الموالى ، حتى نجلس معك ونسمع منك ، فهمّ بذلك حتى نهى عنه. وفسّر ذلك قتادة فقال : ذكر لنا أن قريشا خلوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات ليلة إلى الصبح ، يكلّمونه ، ويفخّمونه ، ويسوّدونه ، ويقاربونه ، فقالوا : إنك تأتى بشيء لا يأتى به أحد من الناس ، وأنت سيدنا. وما زالوا به حتى كاد يقاربهم فى بعض ما يريدون ، ثم عصمه الله من ذلك ، وأنزل هذه الآية! والرواية هنا أكثر نكرا ، لأنهم يظهرونه فيها كما لو أنه ينطلى عليه تفخيمهم له وتسييدهم ، حتى ليكاد يرضخ لهم! ومما يرويه قتادة أكثر من ذلك : أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزلت هذه الآية قال : اللهم لا تكلنى إلى نفسى طرفة عين» رواه الطبرى وأبو حبان ، وذلك بسبب قوله تعالى : (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) أى تميل إلى أقوالهم ، لو لا أن الله ثبّته على الحق ، وعصمه من موافقتهم ، وحال بينه وبينهم ، ومنعه من أن يرضخ لهم ولرغباتهم وينقلب على أصحابه ومبادئه إرضاء لهم!! وهذه الأقوال كلها باطلة ، ولا تستقيم مع السياق ولا مع القرآن وتضاده تماما ، فظاهر الخطاب فى الآية للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وباطنه إخبار عن أهل ثقيف الذين كانوا موضوع الآية ، وكانوا يمتدحونه ، ويستميلونه إليهم ، ولو لا فضل الله عليه بالاصطفاء والنبوة والعصمة ، لكان منه ميل إلى موافقتهم ، ولو فعل لأذاقه الله تعالى مثلىّ عذاب الدنيا والآخرة ، فكلما كانت الدرجة أعلى كلما كان العذاب عند المخالفة أشدّ وأنكى ، كما جاء عن نساء النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) (٣٠) (الأحزاب). ومن ثم فلا صلة بين آية الفتنة وقصة الغرانيق التى تناولناها قبلا ، والتى ذهب فى تفسيرها رواة الإسرائيليات ، مذاهب تحطّ من شأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتظهره بمظهر مشين ، وللأسف فإن رواياتها قد صدرت أولا عن منافقين مدلّسين كانوا مسلمين اسما ، وقالوا بهذه التفسيرات ، فلم يكن عجيبا أن يحتج بها المستشرقون وأعداء الإسلام من بعد للطعن فى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم طالما أن مروّجيها كانوا مسلمين ولو اسما!

* * *

٤٨٩. الإسرائيليات فى آية الاستفزاز

يقول الله تعالى : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً) (٧٦) (الإسراء). وكدأب ابن عباس غالبا عند ما ينقل عن اليهود أسبابا لنزول القرآن ، أو لتفسيره ، من شأنها أن تهزّ صورة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند المسلمين وتجعله يبدو كما لو كان اليهود يتلاعبون به ، قال : حسدت اليهود مقام النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة ، فقالوا :

٤٥٣

إن الأنبياء إنما بعثوا بالشام ، فإن كنت نبيا فالحق بها (أى بالشام) ، فإنك إن خرجت إليها صدّقناك وآمنا بك. يقول ابن عباس : فوقع ذلك فى قلب النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما يحب من إسلامهم! فرحل من المدينة على مرحلة (أى مسافة) ، فأنزل الله هذه الآية وتسمى آية الاستفزاز. وقيل : إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم غزا تبوك لا يريد إلا الشام ، فلما نزل تبوك نزلت الآية ، فكان ذلك أمرا له بالرجوع. ومعنى «يستفزونك» يستخفونك ويزعجونك ويخرجونك من المدينة ، فقد غاظهم استقراره بها ، فلعله إن خرج تخلو المدينة لهم ويستتب لهم الأمر!

وابن عباس غلط ، لأنه جعل الآية مدنية بينما سورة الإسراء مكية ، وقال غير واحد من المفسرين أنها نزلت لما همّ أهل مكة أن يخرجوا النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكن الله أمره بالهجرة. ثم إن هذه الآية قد أتت الآيات قبلها عن أهل مكة ، ولم يكن فيها ذكر لليهود ، وليس قوله تعالى «من الأرض» إلّا لأنه أراد بها أرض مكة ، وجماع الكفار بأرض مكة ، ولذا قال تعالى : (وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً) ، وفى قراءة «لا يلبّسون» بالباء المشددة ، أى لا يدعهم الله على حالهم فى مكة إلا لزمن قليل بعده ، يقصد بالقليل المدة التى لبثوها بعده بعد إخراجهم له ، واندحارهم يوم بدر.

ومن هذا ترى تهافت التفسيرات بالإسرائيليات ، وغلط من قالوا بها ، الأمر الذى يتحتم معه اطّراحها وتنزيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكتاب الله مما يروّجون ضدهما من أراجيف ، يريدون بها إظهار النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكأنما كل ما يفعله لا يعدو ردود أفعال وليس مبادرات موحى بها ، فاليهود يوعزون إليه ويؤلّبونه ويستثيرونه ، وهو يرضخ لهم فى مسألة مصيرية كهذه ، وابن عباس تنطلى عليه تفسيراتهم التى قالوا بها ، حتى ليقول فيها : فوقع ذلك فى قلب النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما يحب من إسلامهم ، فرحل من المدينة! وإنى لأعجب كيف عرف أنه وقع فى قلبه ، وأنه يحب إسلامهم ، وكان فى ذلك الوقت طفلا غريرا بعد؟

* * *

٤٩٠. أيام الله : هل هو مصطلح إسلامى أم مسروق من التوراة؟

المستشرق اليهودى يوسف هوورفيتس من أشد أعداء الإسلام ، ولا يألو جهدا أن يذيع عن الإسلام الأكاذيب لعله يهزّ عقيدة المسلمين وينفّر الأوروبيين من اتّباع الإسلام ، وتلك أمانى المستشرقين والمبشرين ، والله تعالى يأبى إلا أن يتم نوره ويذيع الإسلام بنقدهم الذى ينتقدونه. وهوروفيتس يقول إن «أيام الله» فى القرآن فى الآية : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (٥)

٤٥٤

(إبراهيم) ، والآية : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١٤) (الجاثية) ، مأخوذة من التوراة ، سفر العدد ، الفصل الواحد والعشرين ، العبارة ١٤ ، من قوله «كتاب حروب الرّب» ، ويقصد به مجموعة الحروب التى دخلها اليهود فى فلسطين ، ومنها حربهم مع الأموريين واجتياحهم لأراضيهم. وهذا إذن هو نصّ المصطلح ، والسياق الذى ذكر فيه ، فأى عاقل يمكن أن يقول إن هذا المصطلح هو نفسه المصطلح القرآنى «أيام الربّ»؟ وفى الآية الأولى التى ورد بها المصطلح فإن فى الحديث المرفوع عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى قوله : «وذكّرهم بأيام الربّ» قال معناها ذكّرهم : «بنعم الله» ، وهو نفس المعنى فى الآية الثانية لقوله : (لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) ، حيث المعنى فيه إحالة إلى الآية الأخرى من سورة البقرة : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (٤٠) ، وكان ذلك فى الزمن الغابر طالما كانوا يتقون الله ، فلما ضلّوا وأضلّوا ونقضوا العهد ، صرفت عنهم النّعم ، ولذلك يذكّرهم الله بأيامه معهم التى كان فيها راضيا عنهم ، وكانت له أياد عليهم ؛ وقيل هى أربع عشرة نعمة أحصاها القرآن ، فأى صلة بين «حروب الربّ» التى فى سفر العدد ، وبين «أيام الله» التى وردت فى القرآن؟ ثم إن «حروب الربّ» ليست اصطلاحا من الاصطلاحات بالمعنى المتعارف عليه ، ولكن «أيام الله» اصطلاح أكيد ، وعند العرب مثله ، فهم يقولون عن النسّابين أنهم الأعلم «بأيام العرب» ، يعنى بتواريخهم القديمة التى فيها أمجادهم. فكأن هذا المستشرق اليهودى الموتور هوروفيتس ، أراد أن يستخرج شيئا من لا شىء ، ولم يفعل إلا أن أبان عن حقده وتعصّبه وجهله ، وما أكثر ما يجهله هؤلاء المستشرقون!!

* * *

٤٩١. هل أخذ النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن بولس؟

يقول المستشرقون : إن محمدا فسّر الآية : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٧) (السجدة) بالحديث عن ربّه فقال : قال الله عزوجل : «أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر» ... ثم قرأ هذه الآية : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٧) (السجدة) خرّجه الصحيح من حديث سهيل بن سعد الساعدى. ورغم أن المفسرين يستشهدون بهذا الحديث كثيرا ، إلا أن البعض اعتبروه من الإسرائيليات التى استدخلت فى تفسيرات القرآن الكريم ونسبت للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن ثم فلا يعتدّ به ، وجاء عنه برواية ابن مسعود : فى التوراة مكتوب : على

٤٥٥

الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ـ ولم ينسبه ابن مسعود لبولس وردّه إلى التوراة ، وهو غلط. والمستشرقون على القول بأن : حديث محمد أخذه عن بولس ، عن الترجمة العربية لرسالة بولس الأولى إلى أهل كورنتس ، يقول فيها : «ولكن كما كتب : ما لم تره عين ولا سمعت به أذن ولا خطر على قلب بشر ، ما أعدّه الله للذين يحبونه» (٢ / ٩). وكلام بولس ليس عن نفسه ، وإنما عن مصدر آخر ، قال «كما كتب». والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم ينسب الحديث لنفسه ، وإنما نسبه لربّ العزة ، فهذا كلامه تعالى ، فى حين كلام بولس مجهّل ، وحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن جزاء العباد الصالحين ، وحديث بولس عن جزاء من يحب المسيح ، ومع ذلك فالذى تسبّب فى اعتقاد أخذ الرسول عن بولس هو مترجم الرسائل ، فقد كان خبيثا غاية الخبث ، وأخذ حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكلماته ـ إن كان الحديث للرسول أصلا ـ وترجم به كلام بولس ، ليوحى إلى القارئ أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم نسب إلى نفسه كلام بولس ، وليجعله يشبه كلام بولس ليوهم بسرقته. ولنراجع معا الحديث الأصلى باللغة الإنجليزية مثلا لنرى الفرق بين الحديث فى الإنجليزية والترجمة العربية ، والسرقة المفضوحة التى ارتكبها مترجم الرسائل العربية ، تقول النسخة الإنجليزية :

love him" into the heart of man, the things which God has prepares for them that" But as it, Eye has not seen, nor ear heard, neither have entered

وترجمة ذلك كالآتى : ولكن كما قيل : لم تر عين ، ولا سمعت أذن ، ولا استوعبها قلب إنسان ، الأشياء التى أعدّها الله للذين يحبونه» ، فأين هذا الكلام من الحديث النبويّ؟ ولما ذا ترجم المترجم هذا الكلام بنصّ الحديث النبوى إن لم يكن بنيّة إيهام القارئ بأن محمدا أخذ عن بولس؟! ولما ذا لا يكون كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسبق من الترجمة العربية ، وتكون الترجمة تقليد لكلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ ومع ذلك فالحديث المنسوب إلى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أحاديث الآحاد ومشكوك فى راويه ، وقيل إنه من الإسرائيليات ، ثم إن رسائل بولس لم تكن قد ترجمت إلى العربية ليعرف بها النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم!

* * *

٤٩٢. هل يحتاج الله إلى ملائكة لينصر المؤمنين؟

هكذا يقول المستشرقون تشكيكا فى الإسلام ، فنزول الملائكة فى قوله : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) (٩) (الأنفال) ، وقوله : (إِذْ تَقُولُ

٤٥٦

لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ) (١٢٤) (آل عمران) ، وقوله : (بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) (١٢٥) (آل عمران) ، كان سببا فى انتصار المسلمين ، ولكن الله تعالى ليس فى حاجة إلى سبب للنصر ، وإنما يحتاج إليه المخلوق فيطمئن ويثق ، فالله فى ذاته هو الناصر بسبب وبغير سبب ، والمخلوق لا يطمئن إلا إذا رأى السبب. ولا يقدح نزول الملائكة فى التوكل ، ولا يقوّى زعم القائلين بأن الملائكة لا تتنزل إلا لنصرة الضعفاء دون الأقوياء ، والله تعالى يسخّر ما يشاء عند ما يشاء ، وقد يسخّر الطبيعة ، أو يسخر الملائكة ، والمهم أن يؤمن المؤمن بأن الله ينصر المستحق للنصر بطريقته.

* * *

٤٩٣. سورة الأحزاب هل كانت كسورة البقرة فى الطول ، وهل كانت فيها آية الرجم؟

سورة الأحزاب هى السورة الثالثة والثلاثون من سور المصحف ، والرابعة فيما أنزل من سور القرآن فى المدينة ، وكان نزولها بعد آل عمران ، وآياتها ثلاث وسبعون آية ، ونزلت فى المنافقين وإيذائهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وطعنهم عليه ، وعلى زواجه ، وغير ذلك قيل : وكانت هذه السورة تعدل سورة البقرة ، وكانت فيها آية الرجم ، تقول : «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله ، والله عزيز حكيم» ، وهو قول غريب ذكره كثير من المفسرين ولم يمحّصوه بحثا وتحقيقا ، فإذا كانت الأحاديث الموضوعة ، والأحاديث على اختلاف الروايات فى الحديث الواحد ، وكل المرويات فى التاريخ ، قد حفظت رغم ما فيها من أغاليط وتحريف وتشويه ، واختلافات وافتراءات ، فلما ذا لو كانت سورة الأحزاب تعدل فى طولها سورة البقرة ـ لم يحفظ لنا شىء من هذا الذى رفع منها ، فيما عدا هذه العبارة الهزيلة التى قيل إنها فى الرجم؟ والأدهى والأمر أن يقال أن سورة الأحزاب كانت تعدل على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مائتى آية ، فلمّا كتب المصحف لم يقدر منها (يعنى لم يجدوا منها) إلا ما هى عليه الآن! فمن حذف الباقى؟ وهل يمكن أن ترفع منها ١٢٧ آية ، دون أن يخلّ بالمعانى؟ وكيف رضى المسلمون بذلك؟ وإذا كانت سورة واحدة حذفت منها ١٢٧ آية ، فمعنى ذلك أن القرآن لا يصدق عليه قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٩) (الحجر) ، يعنى يحفظه الله من التغيير والتبديل والإنقاص والزيادة! والصحيح أن كل هذه الأراجيف من تشنيع المتخرّصين من المنافقين والمتعالمين ، ومن الملاحدة والروافض وأهل الكذب وخاصة اليهود ، وإنه لشىء يتجاوز حدود المعقول ، أن يقال أن هذه الآيات المحذوفة كانت فى صحيفة فى بيت عائشة ، فأكلتها الداجن!!! ـ أى الطيور والحيوانات المستأنسة؟!!

٤٥٧

والسورة إذن هى كما نزلت : ثلاث وسبعون آية لا غير ، وصدق الله تعالى أن أنزل فى أولها : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) (١) (الأحزاب). والخطاب كان للنّبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن بعده للمسلمين كافة ، فكأنه الردّ على من قالوا مثل تلك التقولات السابقة ، فلا تسمعوا أيها المسلمون لمن يطعن فى كتابكم بالنقص أو التحريف أو غير ذلك مما سنرد عليه فى مكانه.

* * *

٤٩٤. إشكالية الآية : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) (البقرة ٣٦)

قالوا : كيف قال الله تعالى فى هذه الآية : «عدو» ولم يقل «أعداء»؟

والجواب : أن «بعضا» «وكلا» يخبر عنهما بالواحد على اللفظ وعلى المعنى ، كقوله تعالى : (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) (٩٥) (مريم) وقوله : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) (٨٧) (النمل). وكذلك فإن عدوا يفرد فى موضع الجمع ، كقوله تعالى : (وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) (٥٠) (الكهف) ، وقوله : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ) (٤) (المنافقون) ، بمعنى أعداء.

* * *

٤٩٥. إشكال الآية : (وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (البقرة ١١٧)

قيل : فى أى حال يقول له كن فيكون؟ أفى حال عدمه؟ أم فى حال وجوده؟ فإن كان فى حال عدمه ، استحال أن يأمر إلا مأمورا ، كما يستحيل أن يكون الأمر إلا من آمر. وإن كان فى حال وجوده ، فتلك حال لا يجوز أن يأمر فيها بالوجود والحدوث ، لأنه موجود حادث؟

والجواب : الآية خبر من الله تعالى عن نفوذ أوامره فى خلقه الموجود ، يعنى أن هذا الأمر لشىء موجود على حال أو هيئة ، ثم يأمر أن يوجد على حال آخر أو هيئة أخرى ؛ أو أن هذا هو قضاؤه فى الأشياء ، فإذا أراد ، فإرادته قضاء. وأيضا : فإنه تعالى يعلم بما هو كائن قبل كونه ، فيأمر به أن يكون ، فيكون بحسب ما يعلم ، ويخرج الشيء من حال العدم إلى حال الوجود.

* * *

٤٩٦. الإشكال فى الآية : («إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ

ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) (٩٠)» (آل عمران ٩٠)

الإشكال أنه تعالى قال فى هذه الآية «لن تقبل توبتهم» ، وقال فى آيات أخرى : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) (٢٥) (الشورى) ، فإذا كان المعنى لن

٤٥٨

تقبل توبتهم إذا جاءهم الموت ، كقوله تعالى : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) (١٨) (النساء) فلا إشكال هناك ، والإشكال عموما ينتفى إذا عرفنا سبب نزول الآية ، وكان نزولها فى قوم من أهل مكة قالوا : نتربص بمحمد ريب المنون ، فإن بدا لنا الرجعة ، رجعنا إلى قومنا ، فأنزل الله الآية : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) (آل عمران ٩٠) ، أى لن تقبل توبتهم وهم مقيمون على الكفر ، فسمّاها توبة غير مقبولة ، لأنهم لم يصحّ منهم عزم ، والله لا يقبل التوبة إلا إذا صحّ العزم.

* * *

٤٩٧. إشكال الآية : (إنّ الّذين آمنوا والّذين هادوا والصّابئون والنّصارى

من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (٦٩)) (المائدة ٦٩)

قيل : «الصابئون» فى الآية كان ينبغى أن تكون منصوبة باعتبارها اسم إنّ ، فيكون الصواب : «إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى» بدلا من «الصابئون» ، غير أن المعنى فى هذه الحالة يختلف عن المعنى والآية كما هى ، والمعنى الجديد هو أن هؤلاء المذكورين : الذين آمنوا ، والذين هادوا ، والصابئين ، والنصارى ، لا خوف عليهم ؛ وأما فى المعنى الحالى للآية كما هى ، فإنه كالآتى : «إن الّذين آمنوا والّذين هادوا» ، وهؤلاء هم الأصل ، حيث المؤمنون هم المسلمون ويقابلهم اليهود ، فأما النصارى والصابئون فهؤلاء ليسوا من الفرق الأصلية ، فالنصارى يقولون إنهم فرقة يهودية ، وكتابهم هو العهد القديم والعهد الجديد ، والصابئة فرقة ثانوية ، وديانتهم ديانة ثانوية ، فيكون معنى الآية كما هى :

إن الذين آمنوا والذين هادوا ـ وكذلك الصابئون والنصارى ... ، فذكر الصابئون والنصارى كتكملة ، ومن ثم كانت الآية صحيحة عربيا ولا إشكال هناك كما يدّعى المستشرقون.

* * *

٤٩٨. إشكال الألف فى بعض آيات القرآن

فى الآيات مثل قوله : (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) (١٠) (الأحزاب) ، وقوله : (وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) (٦٦) (الأحزاب) ، وقوله : (فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) (٦٧) (الأحزاب) ، ثبتت ألفاتها فى الوقف ، والعرب تفعل ذلك ، مثل :

نحن جلبنا القرح القوافلا

تستنفر الأواخر الأوائلا

فالألف أنزلت منزلة الفتحة ووجب الوقف بعدها ، لأنها تقع فى الفواصل.

٤٥٩

٤٩٩. إشكال الآية : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) (البقرة ٦١)

قال المستشرقون : فى قوله تعالى عن اليهود أنهم يقتلون النبيين بغير الحق ، دليل على أنه قد يصحّ أن يقتلوا بالحق؟ فهل ذلك جائز شرعا فى الإسلام؟ أليس الأنبياء معصومين من أن يصدر منهم ما يقتلون بسببه؟

والجواب : لا إشكال فى الآية ، والمعنى فيها أن قتل النبيين ـ إن حدث ـ يكون ظلما وليس بحق ، واستخدام «بحق» بدلا من «ظلما» تعظيم للشنعة على اليهود ، لأنهم الذين قتلوا النبيين ، ولم تعرف أمة قتلت أنبياءها إلا اليهود ، ومعلوم أنه لا يقتل نبىّ بحق ، ولكن يقتل «على الحق» ، مثل زكريا ، ويحيى ، فقد قتلا على الحق وليس بحق ، ولذا جاء التعبير فى الآية «بغير الحق» للتشنيع على الذنب ، ولم يحدث فى تاريخ النبوّات أن أتى نبىّ قطّ بشيء يوجب قتله ، فإن فتل فإنما يقتل بغيا وعدوانا ، وهو قوله تعالى «بغير الحق». وقول النصارى إن عيسى قتل ، أن القتل تمّ على يد اليهود لاعتقادهم أنه خرج على الناموس ، والخروج على الناموس يوجب القتل ، وهو لم يخرج على الناموس ، ولكنه جاء ليصحّح ما حرّفوه وبدّلوه منه ، وليبشّر بشريعة جديدة ، لأن لكل نبىّ شريعته ، وقد تخالف شريعته من قبله ، ولكنها مخالفة لا تستوجب قتله ، فإن قتل فهذا هو القتل بغير حق ، ومن ثم فلا إشكال فى الآية.

* * *

٥٠٠. المستشرقون والآية : (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) (البقرة ٢٣٤)

قال المستشرقون كان الأصح أن تقول الآية أربعة أشهر وعشرة لأن العشرة تعود على الأيام وهى مذكر ، ولا يجوز أن نقول «وعشرا» لأنها أنّثت الأيام. والصحيح أن العشر مقصود بها «الليالى» وليس الأيام ، واليوم يبدأ من الليلة ، وكذلك الشهر ، فتغلب الليالى على الأيام إذا اجتمعت فى التواريخ ، نقول : صمنا خمسا من الشهر ، فتغلب الليالى وإن كان الصوم بالنهار. والمراد إذن «الأيام والليالى» ، فلو عقد عاقد النكاح على المرأة وقد مضت أربعة أشهر «وعشر ليال» ، كان نكاحه باطلا حتى يمضى «اليوم العاشر».

* * *

٥٠١. إشكال الآية : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) (البقرة ٢٥٣)

الآية مشكلة لأن الأحاديث ثابتة بأن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تخيّروا بين الأنبياء» ، وقال : «لا تفضّلوا بين أنبياء الله» رواهما الأئمة الثقات : مسلم ، والبخارى ، وأبو داود ، وأحمد ، والمعنى لا تقولوا هذا النبىّ خير من هذا النبىّ ، ولا هذا النبىّ أفضل من هذا

٤٦٠