موسوعة القرآن العظيم - ج ١

دكتور عبد المنعم الحفني

موسوعة القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

دكتور عبد المنعم الحفني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
ISBN: 977-208-442-2
الصفحات: ١٢٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

أبو هريرة ، لأنه تعهد قطيطة عثر عليها وهو طفل فكنّوه هكذا لهذا السبب. والذى يثير التساؤلات حول أبى هريرة هو : أنه لم يسلم إلا فى السنة السابعة من الهجرة؟! وقيل إنه أكثر من رواية الحديث لأنه لازم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وقت إسلامه فى السنة السابعة حتى وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى السنة الحادية عشرة ، وكانت له ذاكرة حافظة ، وبينما كان الناس ينصرفون عن الرسول ليأكلوا أو ليشتروا ويبيعوا ، فإن أبا هريرة لم يكن يبارحه ، وخلال الأربع سنوات التى لازمه فيها ، وعى عنه الكثير من الحديث ، جاء منها فى مسند أحمد ٣٨٤٨ حديثا ، وفيها المكرر الكثير باللفظ أو المعنى ؛ وفى مسند بقى بن مخلد ٥٣٧٤ حديثا ، وفى الصحيحين ٣٢٥ حديثا فقط ، منها ٦٣ عند البخارى ، و ١٨٩ عند مسلم. ومات أبو هريرة سنة ٥٧ ه‍ ، يعنى ظل يروى بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ٤٦ سنة! وليست المشكلة فى كثرة رواياته ، وإنما المشكلة أنه كان من تلاميذ كعب الأحبار الذى ادّعى الإسلام ودسّ الإسرائيليات فى تفاسير القرآن ، وكان من تلاميذه كذلك ابن عباس ، ومن خلال هذين تمت ـ فى رأى كثير من المستنيرين ـ أكبر حركة تغلغل للفكر اليهودى فى التفاسير الإسلامية ، سواء للقرآن أو للحديث ، من نوع التفسير بالأخبار ، وهو ما تحب العامة والسواد أن يسمعوه من المفسرين والمحدّثين. وكان أبو هريرة إذا حدّث كعب الأخبار ، عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يتجاوب معه كعب الأحبار وإنما يحدّثه عن التوراة ، حتى صار أبو هريرة يحفظ عن التوراة كأنما قد قرأه ، فكان كعب الأحبار يقول فيه : ما رأيت أحدا لم يقرأ التوراة أعلم بما فيها من أبى هريرة!!!

وكان أبو هريرة من فقراء الصفّة ، وبسيط التفكير للغاية ، ولا طموحات له ، وفيه غفلة وغرّة استغلهما كعب الأحبار أسواء استغلال ، وما كانت سذاجة أبى هريرة تستطيع شيئا إلى جوار دهاء كعب. وقد تنبّه أهل العلم من المسلمين من قديم لمؤامرة كعب ضد الإسلام من خلال شخصيات مثل أبى هريرة ، ومن هؤلاء : النظّام ، والمريسى ، والبلخى ؛ ومن المحدثين رشيد رضا ، وأحمد أمين ، وعبد الحسين العاملي ، ومحمود أبو رية ، ومصطفى محمود. ويبدو أن أول من انخدع من الصحابة فى كعب هو أبو هريرة ، فوثق فيه ، وروى عنه وعن اليهود الآخرين الذين أعلنوا الإسلام تقيّة. وإنه لأمر غاية فى العجب أن يعلّم أبو هريرة التوراة وهو لم يقرأها ، وذلك دليل الصحبة الشديدة ، والملازمة العتيدة لكعب الأحبار ، ولم يكن كعب بالحمق فيعارض أبا هريرة فى الصغيرة والكبيرة ، فإذا وجد من أبى هريرة رفضا لكلامه سايره فيما يذهب إليه تألّفا له ، ومن ذلك ما رواه البخارى عن أبى هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر يوم الجمعة فقال : فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو

٤٠١

قائم يصلى ، يسأل الله تعالى شيئا ، إلا أعطاه إياه». واختلف السلف فى تعيين هذه الساعة ، وهل هى باقية أم أنها رفعت؟ وإذا كانت باقية فهل هى فى جمعة واحدة فى السنة أو فى كل جمعة منها؟ وسأل أبو هريرة كعبا عن ذلك ، فأجابه بأنها فى جمعة واحدة من السنة ، فردّ عليه أبو هريرة قوله ، وبيّن له أنها فى كل جمعة. وهنا رجع كعب ... كما قال ـ إلى التوراة ، فرأى أن الصواب مع أبى هريرة!! والحقيقة أنه ليس شىء من ذلك البتة فى التوراة ، وأن الحديث أصلا من إيحاء كعب وجعله الرواة على لسان أبى هريرة ، وأذاع كعب هذه الحكاية عن الحديث ليوثقه ، وليصدّقه الناس ، وفى ذلك يقول بشير بن سعيد : اتقوا الله وتحفّظوا من الحديث ، فو الله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدّث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويحدّثنا عن كعب الأحبار ، ثم يقوم ، فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله عن كعب ، ويجعل حديث كعب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومن ذلك الحديث عن أبى هريرة ، عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيما زعم أنه قال : إن فى الجنة لشجرة يسير الراكب فى ظلها مائة عام ، اقرءوا إن شئتم وظل ممدود» ، إشارة إلى الآية من سورة الواقعة : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) (٣٠) ، فقال كعب : والذى أنزل التوراة على موسى والفرقان على محمد ... إلخ ، يعنى أنه وافقه. والقول فى أوصاف شجر الجنة من الغيب ولا يعلمه إلا الله ، ولا نعلم عن ذلك إلا ما جاءنا به القرآن ، وما أوحى إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من العلم الذى يخدم إبلاغ الرسالة ، كقوله : (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) (٢٨) (الجن).

والرأى إذن أن نتحفظ فى كل ما نسمع من الحديث أو التفسير ، وخاصة عند ما يتعلق الأمر بأمثال كعب الأحبار ، وعبد الله بن سلام ، ووهب بن منبه ، من اليهود السابقين الذين دخلوا الإسلام ، وظهر جليا أنهم إنما فعلوا ذلك تقية ، أو بمن تلقى على هؤلاء وكان به ولع بالثقافة العبرية وعرف عنه تأثره بها ، أمثال ابن عباس ، وأبى هريرة وغيرهما.

* * *

٤٤٨. هل عبد الله بن عمرو بن العاص إسرائيلى الميول؟!

أسلم عبد الله قبل أبيه ، وروى عنه كثيرون ، منهم سعيد بن المسيب ، وعروة ، وأبو سلمة وحميد ابنا عبد الرحمن ، ومسروق وغيرهم ، وتوفى غالبا بمصر سنة ٦٣ ه‍.

وعند البخارى عن أبى هريرة قال : ما كان أحد أكثر حديثا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منى ، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو ، فإنه كان يكتب ولا أكتب» ، يعنى كانت لابن عمرو صحيفة يكتب فيها كل ما يسمعه بخلاف أبى هريرة ، وعابوا على عبد الله أن يكتب عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كل شىء» ، لأنه قد يغضب وقد يرضى ، فلا يصحّ أن يكتب كل ما يسمع ،

٤٠٢

وقال عمرو إنه نقل ذلك إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأومأ بإصبعه إلى فيه ، وقال : «أكتب فو الذى نفسى بيده ما خرج منه إلا الحق». والحديث يتناول ما يقوله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ربّه وليس أى كلام يقوله ، مثلما أوضح فى حديثه عن تأبير النخل ، فليس كل ما يقوله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمكن إذن كتابته. ومع ذلك فليس هناك ما يشير إلى أن ابن عمرو كان يكتب «كل شىء» ، إلا أنه كان يسمى صحيفته «الصادقة» ، ويقول فيها : «هذه الصادقة ، فيها ما سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس بينى وبينه فيها أحد». ومعنى ذلك أنه لا يوجد من يشهد على صدق ما يروى!! وقيل : إنه تعلم السريانية بعد فتوحات الشام ، وأنه أصاب زاملتين من كتب أهل الكتاب يوم اليرموك ، وأنه كان يحدّث الناس بما فيها ، ولا يوجد ما يدل على صدقه فيما كان يقول ، ولم يوجد من يختبره فى علمه هذا ، وكان كلما تحدّث ينسب ما يقول إلى أهل الكتاب فملّه الناس وزهدوا فى أحاديثه! وفى مسند أحمد أن أحد سامعيه قال له : حدّثنى ما سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودعنى وما وجدت فى وسقيك يوم اليرموك (يعنى الزاملتين أو الحافظتين)! وقال له آخر : حدّثنى ما سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا تحدثنى عن التوراة والإنجيل!! وعن ابن حزم أن ما رواه ابن عمرو عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلغ سبعمائة حديث ، الأمر الذى يعنى أن أبا هريرة قد بالغ عند ما قال إن ابن عمرو أكثر رواية منه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن أحاديث أبى هريرة بلغت فى تقدير الكثيرين ٥٣٧٤ حديثا. فأين ذهبت هذه الأحاديث؟ وعابوا على ابن عمرو : أن الناس كانت تجلس إليه ليحدّثهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلا يحدثهم إلا عن التوراة والإنجيل ، وفى ذلك قال معاوية بن أبى سفيان : بلغنى أن رجالا منكم يتحدّثون أحاديث ليست فى كتاب الله! ثم وجّه الحديث لابن عمرو واستطرد : ولا تؤثر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم»!! ثم إن ابن عمرو هذا صاحب حديث : «عمّار تقتله الفئة الباغية» ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا الحديث يتنبأ مع أنه لا يعلم الغيب إلا ما كان من أمر الدعوة ، ونحسب أن أمر عمّار ليس من الدعوة فى شىء! ولهذا وأمثاله قال ابن عمرو : قد نهينا عن الحديث. يعنى أن معاوية نهاه عن الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومما كان يحدّث به : مكتوب فى التوراة : من تجر فجر ، ومن حفر حفرة سوء لصاحبه وقع فيها. والجزء الثانى من هذا الحديث فى المزامير وليس فى التوراة كما يدّعى!!

على أن أعظم فرية قالها ابن عمرو ، حديثه عن صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التى جاء عنها فى القرآن فى الآية : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) (١٥٧) (الأعراف) ، والآية : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) (٤٥) (الأحزاب) ، فقد قال : أجل والله ، إنه لموصوف فى التوراة ببعض صفته فى القرآن ،

٤٠٣

وقال : فى التوراة : يا أيها النبىّ إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا وحرزا للأميين ، أنت عبدى ورسولى ، سمّيتك المتوكل ، ليس بفظ ولا غليظ ، ولا سخّاب بالأسواق ، ولا يدفع السيئة بالسيئة ، ولكن يعفو ويصفح ، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء ، بأن يقولوا لا إله إلا الله ، فيفتح بها أعينا عميا ، وأذانا صما ، وقلوبا غلفا». وكلامه جانبه الصواب ، لأنه ليس فى التوراة التى هى كتب موسى الخمسة مثل هذا الكلام البتة ، غير أنه قد ورد كلام يقرب فى المعنى من ذلك فى سفر أشعياء ، الفصل الثانى والأربعين ، ونصّه : هو ذا عبدى الذى أعضده ، مختارى الذى سرّت به نفسى ، قد جعلت روحى عليه ، فهو يبدى الحكم للأمم ، لا يصيح ولا يجلّب ، ولا يسمع صوته فى الشوارع ، قصبة مرضوضة لا ينكسر ، وكتّانا مدخّنا لا يطفئ ، يبرز الحكم بحسب الحق ؛ لا ينى ولا ينكسر ، إلى أن يجعل الحكم فى الأرض ، فلشريعته تنتظر الأمم. هكذا قال الربّ» (١ / ٥) ، فإن كان ابن عمرو يشير إلى هذه العبارات فقد تجاوز فى النقل عنها ، وقد أخطأ إذ يذكر أنها من التوراة. وأشعياء ليس سوى متنبئ ، ونبوءته يفسّرها النصارى بأنها عن المسيح! وفسّرها ابن عمرو أنها عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم! تفسيرا لما جاء فى القرآن ، وهذا خطأ لأن حديث القرآن عمّا يرد عن مجىء النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى التوراة وليس فى نبوءة لأشعيا! ولقد جاء نحو حديث ابن عمرو عن كعب الأحبار ، وعن عبد الله بن سلام ، وهما يهوديان قبل إسلامهما ، وثقافتهما إسرائيلية ، وتنسب إليهما الكثير من الإسرائيليات ، وكان كعب يرعى ابن عمرو ، وكان يقرّظه كلما يسمعه يرجع إلى التوراة فيما يقول ، فكلما تكلم بفتوى أثنى عليه وقال : أنت أفقه العرب! إنها لمكتوبة فى التوراة كما قلت»! وقد نسب إلى ابن عمرو أنه قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحدثنا عن بنى إسرائيل حتى يصبح ، ما يقوم إلا على عظم صلاة»!! والثابت غير ذلك تماما ، وحديث «بلّغوا عنى ولو آية ، وحدّثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج» ، لا يعنى جواز الدعوة إلى اليهودية! ناهيك عن أن الحديث أوله لا علاقة له بآخره ، ثم إنه يناقض الحديث الآخر : «ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدّقوهم ولا تكذّبوهم ، وقولوا آمنا بالله ورسله ، فإن كان باطلا لم تصدّقوه ، وإن كان حقا لم تكذّبوه» ، ولا تعنى الآية : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) (٩٤) (يونس) أن التوراة تهيمن على القرآن وأنها الأصل ، وإلا ما ذكر الله تعالى أنها حرّفت ، وإنما تفسير هذه الآية يكون بالذى قبلها ، والذى قبلها كان عن قصة موسى مع فرعون وما وافق ذلك من أحداث ، وما ذكرت التوراة من القصة متوافق مع ما ذكره القرآن ، وإن زاد القرآن هذه الأحداث تفصيلا ، ولو سئل أهل الكتاب عمّا جاء منها فى القرآن لأمنّوا عليه وما خالفوه ، فذلك معنى الأمر : (فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ) (يونس ٩٤) : غير أن ابن عمرو لم يكن يفسّر

٤٠٤

القرآن بالتوراة ولكنه كان يفسّره بالإسرائيليات ، ولذا قال الثقاة فيه : إن عبد الله بن عمرو كان قد أصاب زاملتين من كتب أهل الكتاب ، وكان يرويها للناس ، فتجنّب الأخذ عنه كثير من أئمة التابعين ، وكان يقال له : لا تحدّثنا عن الزاملتين.

فيا أخى ، إن رأيت حديثا به ما يخالف القرآن فلا تصدّقه مهما كانت مكانة صاحبه. وابن عمرو هو صاحب الحديث : إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يترك عالما ، اتخذ الناس رؤساء جهالا ، فسئلوا فأفتوا بغير علم ، فضلّوا وأضلّوا» ، وكما ترى الحديث به الكثير من العور ، لأن الله تعالى لا يقبض العلم ، ومع كرّ السنين يزداد وعى الناس ، وتطوّر الروح الذى قال به الفلاسفة هو تطور فى الوعى الإنسانى ، وما وجد بلد قطّ إلا والله تعالى يقيّض له علماء ، والثقافات تتلاقح ، والعلم ينتقل من البلد الأكثر علما إلى البلد الأقل علما. ويكفى فى هذا الحديث أن عائشة استنكرته أشد الاستنكار!!

ومثل ذلك الحديث عن ابن عمرو : «من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وقى فتنة القبر» ، فلا سبب يدعو لأن يوقى هذه الفتنة ، ثم إن فتنة القبر هذه لم يرد عنها شىء فى القرآن. وأيضا حديث : «لا يقتل مؤمن بكافر» ، فلما ذا؟ والقرآن عكس ذلك تماما ، يقول : (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) (٣٢) (المائدة) ، فساوى الله تعالى بين نفس المؤمن ونفس الكافر ، ونهى عن القتل كلية ، ولم يفرّق القرآن بين الكافر والمؤمن ، طالما أن الكافر لم يقاتل المؤمنين ، ولم يخرجهم من ديارهم ، فقال : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ) (٤٥) (المائدة) فلم يمايز بين المؤمن والكافر فى العقاب على الجرم. ومن أحاديث ابن عمرو المعتبرة من الإسرائيليات ادعاؤه بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يخرج الدجّال فى أمتى فيلبث فيها أربعين ، لا أدرى أربعين يوما أو شهرا أو سنة ، فيبعث الله عيسى ابن مريم فيظهر فيهلكه ، ثم لا يلبث الناس بعده سنين سبعا ، ليس بين اثنين عداوة ، ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشام ، فلا يبقى أحد فى قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضه ، حتى لو أن أحدهم كان فى كبد جبل. ويبقى شرار الناس ، فى خفة الطير وأحلام السباع ، لا يعرفون معروفا ، ولا ينكرون منكرا ، فيتمثّل لهم الشيطان فيقول : ألا تستجيبون؟ فيأمرهم بالأوثان فيعبدونها ، وهم فى ذلك دارّة أرزاقهم ، حسن عيشهم. ثم ينفخ فى الصور ، فلا يسمعه أحد إلا أصغى له ، وأول من يسمعه رجل يلوط حوضه ، فيصعق ، ثم لا يبقى أحد إلا صعق ، ثم يرسل الله قطرا كأنه الطّل أو الظّل ، نعمان الشاكّ ، فتنبت منه أجساد الناس ، ثم ينفخ فيه أخرى ، فإذا هم قيام ينظرون ، ثم يقال : يا أيها الناس ، هلموا إلى ربّكم ، وقفوهم إنهم مسئولون. ثم يقال : أخرجوا

٤٠٥

بعث النار ، فيقال كم؟ فيقال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ، فيومئذ يبعث الولدان شيبا ، ويومئذ يكشف عن ساق»! ـ فمثل هذا الحديث غريب فى بابه وصوره ، ولا نشك أنه من الإسرائيليات ، ومع ذلك فقد تجرّأ عبد الله بن عمرو ونسبه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم!

* * *

٤٤٩. عبد الله بن سلام؟ هل تقبل رواياته؟!

ابن سلام إسرائيلى وقيل إنه أسلم ، وكان اسمه قبل الإسلام «الحصين» ، وسمّاه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد إسلامه «عبد الله» ، وتوفى فى المدينة سنة ٤٣ ه‍. وقيل فى مكانته عند اليهود إنه كان من الأحبار ، ولا شىء مؤكد من ذلك ، وفيه نزلت الآية : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) (١٠) (الأحقاف) ، وروى عنه كثيرون ، منهم : أبو هريرة ، وأبو بردة ، وعطاء بن يسار ، وغيرهم ، واتّهم بأنه من مؤلّفى الإسرائيليات ومروّجيها بين المسلمين ، كحديثه الذى نسبه إلى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خلق الله آدم يوم الجمعة ، وأهبط إلى الأرض يوم الجمعة ، وقبضه يوم الجمعة ، وفيه تقوم الساعة فهى آخر ساعة»! وفى قول آخر قال : «هى فيما بين العصر والمغرب»! وكل ذلك من الغيب ، ولا يعلم الغيب ولا الساعة إلا الله!

* * *

٤٥٠. وما الشأن مع تميم الدارىّ النصرانى؟

كان تميم من نصارى اليمن ، وأسلم سنة تسع هجرية ، وروى عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وروى عنه ابن عمرو ، وابن عباس ، وأبو هريرة ، وعبد الله بن وهب ، وشهر بن حوشب ، وعطاء بن يزيد ، وروح بن زنباع ، وجميعهم متهمون بالإسرائيليات ، وكذلك تميم ، ويبدو أن المسلمين الأوائل كانوا مغرمين بالتهويل ، فقالوا عنه إنه كان يختم القرآن فى الركعة!! وقالوا هو أول من أسرج السراج فى المسجد؟! وأول من قصّ ، وكان ذلك فى عهد عمر ، ومن ذلك الفرية الكبرى التى اشتهرت باسم قصة الجسّاسة والدجّال ، والتى قيل أنه هو الذى رواها للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووافقه عليها. واسم الإسرائيليات يسرى على المستدخلات من الخرافات على الإسلام من أحاديث أو تفسير ، سواء من بنى إسرائيل أو من النصارى ، وقال المفسّرون : إن حديث الجسّاسة يفسّر آية القرآن عن دابة الأرض ، وإن خروج هذه الدابة لمن علامات الساعة ، كقوله تعالى : (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ) (٨٢) (النمل) ، وقد وردت فى ذكر دابة الأرض أحاديث كثيرة ، جميعها موضوعة ، وسميت الدابة باسم الجسّاسة ، لتجسّسها الأخبار للدجّال ، وقيل : هى دابة أهلب ـ أى كثيرة الشعر ،

٤٠٦

فلا تدرى ما قبلها من دبرها من كثرة الشعر! والقصة برمتها كأنها من ألف ليلة وليست من الدين ، ولا تخبر عن شىء من عقيدة الإسلام ، وواضح أن أهل الكتاب وعلى رأسهم تميم الدارىّ هذا أرادوا بغرس قصة الجسّاسة ضمن البناء الدينى الإسلامى ، أن يحيدوا بالإسلام إلى الأساطير والخرافة ، ويطمسوا فيه الصفة العقلانية الواضحة ، حتى ليكاد القرآن يكون كتابا فى العلم وليس فى الدين ، الأمر الذى يؤكد أن أمثال هذه الأحاديث مدسوسة ، ولم يكن تميم فى حديث الجسّاسة إلا قصّاصا مدلّسا وليس محدّثا كالمحدّثين. فلتحذر يا أخى أشباه تميم ، وأمثال قصتي الجسّاسة والدجّال!

* * *

٤٥١. شبهة أن يكون للقرآن أسلوبان ،

فالسّور المكية لها أسلوب ، والسّور المدنية لها أسلوب؟

الذين ادّعوا ذلك فسّروا ادّعاءهم بأن المناخ النفسى العام فى مكة لم يكن هو نفسه مناخ المدينة ، وكذلك ثقافة مكة ليست كثقافة المدينة ، والتكوين السكانى لأهل مكة ليس هو التكوين السكانى لأهل المدينة ، ومن ثم اختلف تفكير الاثنين ، وكان لا بد أن تأتى آيات القرآن وقد طبعها ذلك التباين ، ولذلك كانت الآيات المكية فيها العذاب والقسوة ، والشدّة والعنف والحدّة ، والوعيد ، والتهديد ، من أمثال قوله تعالى : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) (١) (المسد) ، وقوله : (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) (١٣) (الفجر) ، والمقصود بذلك أن يثبتوا أن مؤلف القرآن هو محمد ، وأنه تأثر بطريقة استقبال الناس له ، وانعكس ذلك على كلامه معهم ، والصحيح أن القرآن فى مكة هو القرآن فى المدينة ، فما قالوا إنه قسوة وشدة فى الآيات فى مكة ، إنما مثله فى المدينة ، ففي سورة البقرة وهى مدنية يجيء أيضا قوله تعالى : (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (البقرة ٢٤) ، والشبه قائم بينها وبين الآيات المكّية والأسلوب واحد ، سواء فى مكة أو فى المدينة ، ولكن الموضوعات اختلفت ، لأنه فى مكة كان الانشغال بالدعوة وتقرير مبادئ الإسلام ، وأما فى المدينة فالاهتمام بالتشريع ، وفى الحالتين كان لا بد من مراعاة أحوال المخاطبين أو حاجاتهم. ورغم قولهم أن الآيات المكية فيها قسوة فإنها تخلو من الحضّ على القتال ، وتأمر بالتسامح والعفو والصبر الجميل ، وبردّ الإساءة بالحسنة ، والقول بالأحسن ، بينما فى الآيات المدنية شرّع القتال ، واستنفر المسلمون للجهاد ، ومن ثم تتهافت هذه الشبهة كتهافت غيرها.

* * *

٤٥٢. شبهة أن السّور المكية أقل استنارة من السور المدنية؟

قالوا فى الطعن على القرآن : أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أميا فى مكة وبين أمّيين ، فكانت

٤٠٧

مخاطباته للناس قصيرة موجزة تناسب أفهامهم ، لأن ثقافتهم كانت ثقافة بدوية ، وحضارتهم كانت حضارة وثنية متخلّفة ، بينما كان الناس فى المدينة أهل كتاب غالبا ، ولهم دراية بالتوحيد ، وأصحاب تشريعات وفلسفة ، وثقافتهم ثقافة عبرانية غالبا ، فكان على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرتقى إلى مستواهم ، وأن يخاطبهم بما ينبغى لهم ، فهذا هو سبب اختلاف أسلوب السور المدنية عن السور المكية. وهذا غير صحيح ، فهناك سور طويلة مكية مثل سورة : الأنعام والأعراف والكهف ، فليست كل السور المكية قصيرة ، وكذلك ليست كل السور المدنية طويلة ، فالنصر مثلا مدنية ، وقيل إنها آخر سورة مدنية ، وآياتها ثلاث آيات فقط! وبعض السور المكية فيها من الروح العامة من السور المدنية ، وأيضا فإن الروح المكية تنضح فى بعض السور المدنية ، لأن الصلة معقودة بين السور هنا وهناك ، والتناسب كذلك مطلوب فيهما ، فكل سورة لها مقاصدها وما يناسبها من الأسلوب ، بحسب موضوعاتها ، والمهم أن القرآن على طوله ، عبارة عن سلسلة متصلة الحلقات من الآيات والسور المحكمة ، كالعقد ، حبّاته هنا أو هناك تكون أصغر أو أكبر لتكوّن معا فى النهاية نظما متكاملا متناسقا رضيا. ثم إن القصر فى السور ليس دليل انحطاط ثقافى ، وإنما مظهر إيجاز لا يتوفر إلا لقوم يمتازون بالذكاء والفهم ، كما أن التطويل مظهر إطناب لا يقصد به إلا أن يفهم الذين يتأبّون على الفهم ويستعصى عليهم الإدراك بسرعة. واليهود فى التوراة يميلون إلى التطويل ، واشتكى أنبياؤهم من شدّة غبائهم وعنادهم وجحودهم ، وحاجتهم إلى الشرح الكثير ، والتفسير المطنب ، ولو كان أهل المدينة أذكى من أهل مكة ، فلما ذا لم يستطيعوا أن يأتوا بمثل سورة من القرآن أو حتى آية ، وقد أعيا ذلك أهل مكة منحطّى الثقافة؟!

* * *

٤٥٣. شبهة أن الشريعة كانت فى المدينة بسبب اليهود

من أكاذيب المستشرقين أنه لو لا وجود اليهود فى المدينة لما كانت التشريعات التى حفلت بها السّور المدنية. ولو كان هذا صحيحا ، وكان لليهود هذا الأثر الإيجابى الإنشائى على الإسلام ، فلما ذا لم يكن لهم هذا الأثر على عرب المدينة ، وعلى عرب الجزيرة كلها قبل الإسلام؟ ثم إن القرآن لم يأخذ منهم ، وإنما جاء لإصلاح ما هو قائم وفاسد عندهم ، سواء فى العقيدة ، أو فى التحليل والتحريم ، فكيف يستدين المصيب من المخطئ؟ وكيف يرجع من هو على صواب إلى من هو على خطأ؟ والأصل فى الحضارات أنها تكون فى بدايتها بسيطة وتؤكد على الكليات ، ثم تتفرع منها إلى الجزئيات والتفاصيل ، وهكذا كان الإسلام فى مكة يهتم بالعقيدة ، ثم فى المدينة استكمل التشريع ؛ وحتى وهو فى مكة لم

٤٠٨

ينس التشريع ، كما فى قوله تعالى : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) (١٥١) (الأنعام). وعند ما يبدأ معلم فى التعليم ، فإنه أول ما يعطى تلاميذه المبادى ، فكلما تقدّموا وزاد استعدادهم للتلقّى والاستيعاب ، زادت مقرراتهم ، وهذا ما جرى فى مكة أولا ، ثم فى المدينة ثانيا ، مرحلة بعد مرحلة ، ولكل مرحلة ما يناسب وسع الناس.

* * *

٤٥٤. شبهة الانحطاط الثقافى فى القسم بالحسيّات

قال المستشرقون : إن السّور المكية فيها القسم بالحسيّات ، مثل قوله : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) (١) (سورة التين) ، و (الضُّحى) (١) (الضحى) ، وقوله : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) (٢) (الليل) إلخ ، وهو دليل على أن المخاطبين بهذه الحسيّات هم حسيّون ، ومداركهم حسيّة ، على عكس الناس فى المدينة فإنهم أميل إلى المجرّدات ، واختلاف السور المكية عن السور المدنية دليل على أن محمدا هو مؤلف القرآن ، لأنه تأثر بالمناخ الحسّى فى مكة ، ثم بالمناخ التجريدى فى المدينة؟ والجواب : أنه لكى يفهم أهل مكة معنى التوحيد ، لا بد أولا أن يعرفوا عن الله ، وأنه خالق الكون وبديع السماوات والأرض ، فكانت السور المكية حسّية كونية لهذا السبب ، ثم لما ذا الإقلال من شأن الحسّيات وهى أشياء بها من الأسرار والخبايا العلمية والإبداعية ما يحيّر ويذهل كل عاقل لبيب ، فالحسّيات عند التأمل تؤدّى إلى مسائل تجريدية وفكرية هائلة!

ولم يكن اعتباطا اختيار هذه الحسيّات دون غيرها فى هذه السورة أو تلك ، فقسمه تعالى بالتين والزيتون وطور سينين له دلالته التأويلية ، فالتين كانت به بداية الخلق ، ويذكّر بورق التين الذى خصف آدم نفسه به ليخفى عريه لمّا عصى ؛ والزيتون إشارة إلى بداية الحياة مع نوح بعد الطوفان فكانت أغصان الزيتون هى أول ما عثر عليه نوح من نباتات الأرض ، وسيناء كان بها نزول شريعة موسى كأول شريعة مكتوبة ، فهذه مراحل ثلاث من تاريخ الإنسانية كانت علامات كبرى فيها ، ولم يكن القسم بالتين والزيتون وطور سينين لمجرد أنها حسيّات!

* * *

٤٥٥. شبهة أن تكون الحروف المقطعة وضعها كتبة اليهود

قالوا : إن القسم فى القرآن بالحروف المقطّعة فى أوائل السور ، مثل قوله تعالى : «كهيعص» : (مريم) ، ليس فيه بيان ولا هدى للناس ، فحتى الراسخون فى العلم لا يعرفون ما ذا تعنى هذه الحروف ، والخطاب بها كالخطاب بالمهمل ، وادّعوا أنه كان للنّبىّ كتبة من

٤٠٩

اليهود ، وهؤلاء وضعوا هذه الحروف المقطّعة تنبيها إلى بداية السورة ، ولها معناها عندهم ، فقد يكون المعنى : قال محمد ، أو يزعم محمد ، أو بداية كلام ، أو فى المبتدأ ، وهكذا ، فظن العرب أنها من القرآن وثبّتوها فيه!! وقالوا : ربما قصد محمد بها إلى التهويل على القارئ وإرهابه ، أو التعمية عليه!!

والجواب على ذلك : أن النبىّ لم يستعن بأى كاتب يهودى ، وكذلك فإن هذه الحروف المقطّعة لا معنى لها فى أى لغة ، ولا فى العبرية ، وإنما هذه الحروف للتنبيه إلى أن القرآن كتاب من نفس هذه الحروف العربية المقطّعة ومع ذلك كان معجزا ، ولم يستطيعوا محاكاته ولو بسورة مع أنهم ملوك البيان ، وكانت السور تبدأ بهذه الحروف ، ثم بعدها تأتى الآيات تنوّه بالقرآن ، أو تذكّر بآيات الله الكونية ، فكأن الإشارة بهذه الحروف المقطّعة إلى آيات الله المقروءة أولا ، ثم المنظورة ثانيا ، فاشتمال القرآن على هذه الحروف ليس إذن من لغو الكلام كما قال المستشرقون.

* * *

٤٥٦. شبهة أن يكون القرآن قد أسقط بعضه أثناء الجمع

قالوا : إن بعض الآيات فى القرآن تدل على أنه قد أسقط منه شىء ، أو أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنسى بعض آياته ، بدليل ما جاء فى سورة الأعلى عن ذلك ، وهو قوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) (٦) (الأعلى) ؛ أو أن الصحابة حذفوا منه شيئا ، رأوا مصلحة فى حذفه ، ومن ذلك المتعة التى أسقطها علىّ وكان يضرب من يقرأها ـ هكذا قالوا ، ونسبوا إلى عائشة أنها قالت عن علىّ : أنه يجلد على قراءة القرآن ، وينهى عنه ، وقد بدّله وحرّفه ؛ وقيل إن الصحابة الذين كانوا يحفظونه قتل الكثير منهم فى حروب الخلفاء الأولين ، وأن العظام التى كان القرآن مكتوبا عليها ، لم تكن منظّمة ولا مرتّبة ولا مضبوطة وضاع بعضها ؛ وأنه لمّا قام الحجّاج ينصر بنى أمية ، جمع المصاحف وأسقط منها أشياء نزلت فيهم ، وكتب نسخا أخرى وزّعها بدلا من الأولى!!؟

والجواب على ذلك : أن الصحابة كان منهم العدد الكافى الذى يضمن صحة النقل عنهم بالتواتر ، وأن الآية : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) (٦) (الأعلى) لا تعنى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم نسى ، وإنما المعنى أن ما سيوحى إليه لن ينساه ، وأن النسيان منفىّ عنه قصدا. وأما أن الصحابة حذفوا ما رأوا المصلحة فى حذفه فهذا باطل ، لأن التواتر يمنعه ، والشروط التى كان لا بد أن تتوفر فى الحافظ ، تجعل من المستحيل أن يتصرّف أى صحابى فى شىء ائتمن عليه. وأما آية المتعة فلم يثبت أبدا أنها من القرآن ؛ وما رووه من كلمات قيل إنها من القرآن ونسبوها إلى أبىّ بن كعب ، ثم حذفت مع ذلك ، لم تقم الحجة على أنها كانت من القرآن ، بل إن أسلوبها

٤١٠

الذى صيغت به لا يدل على أنها من القرآن البتة. وكان بعض الصحابة يكتبون لأنفسهم ما يظنون أنه من القرآن ، فإذا راجعوه على أصحابهم تبيّنوا خطأهم وأسقطوه من كتاباتهم. وأما ترتيب الآيات فلم يكن اعتباطا ، وإنما تم توقيفيا ، وأمر به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحفظه عنه الصحابة وكتبوه ، ولم يكن تصريحهم بأن آية منه فقدت ووجدوها عند خزيمة بن ثابت ، يعنى إمكان أن تضيع آية! فذلك كان مستحيلا ، لأن اعتمادهم أولا وأخيرا على الحفظ ، ولو لم يكن هذا الحفظ ما عرفوا أن إحدى الآيات مفقودة ، وما سعوا إلى البحث عنها. ولم يكن بسبب ضياع بعض الآيات أن قال بعض الصحابة بالنسخ ، فالنسخ مسألة أخرى مختلفة تماما ، وباب مستقل ضمن هذا الكتاب ، فليرجع إليه القارئ. وأما الأقوال عن الحجّاج ، فهى تخرّصات لا أصل لها ولا دليل عليها ، وكيف يتسنّى للحجّاج أن يجمع المصاحف وهو مجرد عامل من عمّال الخليفة على بعض الأقطار؟ وإذا استطاع الحجّاج أن يجمع المصاحف ويغيّر فيها ، فما ذا عن الحفّاظ ، وكيف يفعل بهم ويغيّر ما حفظوه وكانوا يعلّمونه للناس؟ وما ذا يفعل الحجّاج وحده إزاء جموع الحفّاظ فى كل أقطار الإسلام؟

* * *

٤٥٧. شبهة أن يكون القرآن قد زيد فيه عند الجمع؟

قالوا : إن القرآن زيد فيه لمّا جمعه الصحابة ، والدليل على ذلك ، أن ابن مسعود لم يضمّن المعوذتين والفاتحة مصحفه ، فكأنها زيدت عليه ، وهذا الزعم باطل وليس صحيحا ، وقال فيه ابن حزم : هذا كذب على ابن مسعود وموضوع. ولم يقل أحد أن ابن مسعود أنكر الفاتحة ، وكيف ينكرها وهى أم القرآن؟ وهى السبع المثانى التى تثنّى وتكرّر فى كل ركعة من الصلاة؟ ولو أنكرها ابن مسعود فما ذا يضرّ فى ذلك ، وهو واحد ، وشرط صحة ما يدّعيه التواتر والإجماع؟

وقالوا : إن الآية : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) (١٤٤) (آل عمران) من كلام أبى بكر!! ولذلك لمّا قالها أبو بكر عند إعلان وفاة النبىّ قال الراوى : لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت ، حتى تلاها أبو بكر يومئذ ، فأخذها الناس من أبى بكر! والآية ليست من كلام أبى بكر وإنما هى من القرآن ، وكان نزولها فى واقعة أحد ، يعاتب بها الله المؤمنين الذين أصابهم اليأس ، وقد ظنوا أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قتل ، فكادوا ينصرفون عن القتال. والآية بصياغتها هذه لا يمكن أن تكون من كلام أبى بكر بل من القرآن.

وقالوا كدليل على أن الآية السابقة لأبى بكر ، وأنه من الممكن أن يؤلّف كلاما كالقرآن ويضاف إليه ، أن عمر بن الخطاب أيضا له من العبارات ما صار قرآنا وعدّ من

٤١١

القرآن ، كالآية : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) (١٢٥) (البقرة) قالوا : هى من وضعه ، والثابت أن عمر اقترح على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم اقتراحا وقال له : ما ذا لو صلينا فى مقام إبراهيم؟ فنزلت الآية : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) توافق رأى عمر ، ومع ذلك فهناك فرق بين كلمة عمر التى كانت سببا فى نزول الآية ، وبين عبارة القرآن التى نزلت بها الآية ، ومنذ البداية كانت الآية موجودة فلم تضف. ومن ذلك ترى أنه لا زيادة فى القرآن ، كما لم يكن هناك نقص فيه كما ادّعوا.

* * *

٤٥٨. شبهات غلاة الشيعة فى القرآن

هؤلاء قالوا : إن عثمان وأبا بكر وعمر حرّفوا القرآن ، وأسقطوا بعضه ، وأن ما نزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه كان سبعة عشر ألف آية ؛ وأن سورة البيّنة كانت تحوى أسماء سبعين رجلا من قريش فحذفت الأسماء ؛ وأن الآية : (أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) (٩٢) (النحل) حرّفت وكانت «أئمة هم أذكى من أئمتكم» ؛ يقصدون بالأئمة الأذكى أئمة الشيعة ؛ وأن القرآن كانت فيه سورة تسمى «سورة الولاية» أسقطت بكاملها ؛ كما أسقط أكثر سورة الأحزاب ، وكانت فى طولها كسورة الأنعام ، فأسقطوا فضائل أهل البيت ؛ وأن الآية : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) (٢٤) (الصافات) كانت فى الأصل «وقفوهم إنهم مسئولون عن ولاية علىّ» فحذفوا «ولاية علىّ» ؛ وأسقطوا لفظ «ويلك» من الآية : (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) (٤٠) (التوبة) ، أى أن الآية كانت هكذا : «ويلك لا تحزن إن الله معنا» ، وأسقطت منها «ويلك» ؛ وأن الآية : (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) (٢٥) (الأحزاب) كانت فى الأصل : و «كفى الله المؤمنين القتال بعلىّ بن أبى طالب ، فأسقطوا «بعلىّ بن أبى طالب» ؛ وأن الآية : (سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) (٢٢٧) (الشعراء) كانت فى الأصل : «سيعلم الذين ظلموا آل محمد» ، فأسقطوا «آل محمد» إلخ. واتهامات هؤلاء مجردة من الدليل ، والمستشرقون والنصارى واليهود ، والتنويريون حاليا ، يرددونها ، مع أن إجماع الأمة على أنه لا زيادة ولا نقصان ولا تحريف فى القرآن ؛ وكذلك التواتر شككوا فيه ، وفيما جمع أبو بكر وعمر وعثمان من القرآن بالتواتر ، مع أن عليا نفسه قد أثنى على أبى بكر لأنه جمع القرآن ، وقال إنه لو كان هو الوالى أيام عثمان ، لفعل مثلما فعل عثمان ، فلم يحدث إذن أن طعن علىّ فى جمع القرآن ، ولا فى مصحف عثمان ؛ ولمّا ولى علىّ الخلافة وكانت لديه الفرصة أن يظهر القرآن الحقيقى الذى تزعم الشيعة أنه فى حوزته ، لم ينشر شيئا من ذلك ، وولى بعده ابنه فلم يذع عن ذلك ، فبطلت دعاوى الشيعة مثلما بطلت دعاوى غيرهم فى القرآن.

* * *

٤١٢

٤٥٩. شبهة أن يكون القرآن متواترا وكانت بعض آياته مفقودة؟

لمّا عهد عثمان إلى زيد بن ثابت أن يجمع القرآن ، تتبعه من الرقاع والأكتاف وسعف النخل وصدور الرجال ، حتى وجد عند خزيمة بن ثابت الأنصارى آيتين من سورة التوبة لم يجدهما عند غيره ، هما : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (١٢٩) (التوبة) ، فكيف يكون القرآن متواترا مع قول زيد بأنه لم يجد هاتين الآيتين إلا عند خزيمة؟ وكذلك لم يجد الآية : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) (٢٣) (الأحزاب) إلا عنده وعند خزيمة؟ والجواب : أن قوله هذا لا يعنى أنه لم يجد هذه الآيات مكتوبة ، ولكنها كانت محفوظة ، بدليل أنه كان يبحث عنها ، فكيف يبحث عنها ولا أحد يعلم بأمرها؟ وإذن التواتر متوفر ، لأن القرآن محفوظ فى صدور الرجال وإن لم يكن بعضه مكتوبا.

* * *

٤٦٠. شبهة أن القرآن الحالى هو ما نزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

قالوا : إذا كان القرآن قد كتب على الحجارة وسعف النخل والعظام ، فلا بد أنه ضاع منه الكثير واندثر؟ والجواب : أنهم ظنوا أن الحجارة لم تكن مصقولة ، والصحيح أنهم كانوا يكشطونها حتى كانت كالصحائف ، وكانت الكتابة عليها سهلة كالكتابة على الجصّ الآن ، وأما سعف النخل والعظام فكان يكشط ويصنع منه ما يشبه الورق السميك ، فلما ذا إذن تضيع الكتابة عليه؟ ثم إن الكتابة لم يكن يقوم بها واحد ولكن جمعا كبيرا ، كل واحد يكتب وحده وهذا أحرى أن يحفظ المكتوب. وقولهم أنه لا بد أن يكون قد انمحى شىء منها ، يحتاج إلى سند ودليل ، ولا سند ولا دليل على أن شيئا من هذه الكتابة ضاع أو انمحى ، لأنهم بدءوها فى حياة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان يراجعها عليهم ، وجمعها أبو بكر ثم عمر ، وأتمّها وأكملها عثمان ، فمن أين يأتى القصور والفساد؟

* * *

٤٦١. شبهة أن لا يكون ترتيب القرآن كله بتوقيف

قالوا عن خزيمة بن ثابت أنه أتى بالآيتين : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (١٢٩) (التوبة) وقال : أشهد أنى سمعتهما من رسول الله ووعيتهما فقال عمر : وأنا أشهد لقد سمعتهما. وقال عمر : فانظروا آخر سورة من القرآن

٤١٣

فألحقوهما فى آخرها». قالوا : هذا الحديث يدل على أن ترتيب القرآن كله لم يكن بتوقيف ، وإنما كان بحسب رأى الصحابة وعن تصرّف من بعضهم لمن له الأمر؟

والجواب : الخبر لم يجمع عليه ، ومعارضه لذلك ساقط عن الاعتبار ، والذى أورده أبو داود ، وأخرج ما يعارضه عن أبىّ ، قال : فلما كانت سورة التوبة وقفوا عند الآية ١٢٧ ، وظنوا أنها آخر ما نزل منها ، قال أبىّ : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقرأني بعدها آيتين ـ ١٢٨ و ١٢٩» ، وعلى ذلك فالترتيب مضبوط ، وكذلك السياق متوافق تماما ، والآيتان متوافقتان مع ما قبلهما ما من الآيات ، ويترتّبان عليها ، ويختمانها خير ختام ، وهذا دليل على كذب المتقوّلين بما تقوّلوا ، لعنهم الله.

* * *

٤٦٢. الانتقاص من القرآن بين الزعم والحقيقة

توفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يترك إلا القرآن والسنة ، وعن محمد بن الحنفية : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما ترك إلّا ما بين الدفتين» ، أى ما ورّث إلا ما فى المصحف. وفى رواية عن ابن عباس : «لم يترك النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا ما بين الدفتين». وليس المراد أنه ترك القرآن مجموعا بين الدفتين ، لأن ذلك يخالف أن أبا بكر ، ثم عثمان ، قاما بجمع القرآن ، وإنما زعم كثير من المنافقين والشيعة ـ وكذلك الكثير من المستشرقين والعلمانيين ، أن الكثير من القرآن ذهب بذهاب حملته ، واختلقوا هذه الفرية تمشيا مع اعتقادهم ، بأن ما جرى على التوراة والإنجيل جرى على القرآن ؛ وقال الشيعة إنه كان ثابتا فى القرآن استخلاف علىّ بن أبى طالب ، وكتم الصحابة هذه النصوص. وبرواية الإسماعيلي قال : «لم يدع النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا ما فى هذا المصحف» ، أى لم يدع من القرآن ما يتلى إلا ما هو داخل المصحف الموجود.

* * *

٤٦٣. إذن فما هى صحة ما زعمه بعض الصحابة من ذلك؟

عن علىّ قال : «ما عندنا إلّا كتاب الله وما فى هذه الصحيفة» ، أراد بالصحيفة الأحكام التى كتبها عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يقل أن لديه «قرآنا آخر» خلاف القرآن الذى نعرفه. وأيضا فللصحابة أقوال عن آيات من القرآن نزلت فنسخت تلاوتها مثل الحديث المنسوب إلى عمر : «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة» ، والحديث المنسوب إلى أبىّ بن كعب : كانت الأحزاب ـ أى سورة الأحزاب ـ قدر البقرة» ، والحديث المنسوب إلى حذيفة : «ما يقرءون ربعها» ، يعنى سورة براءة. وكل هذه الأحاديث مدسوسة ولا أصل لها ، لا فى العقل ولا فى النقل! ونسب إلى ابن عمر أنه كان يكره أن يقول الرجل قرأت القرآن كله ،

٤١٤

ويقول : إن منه قرآنا قد رفع ـ وهذا غير صحيح فالمسلمون على الإجماع أن القرآن ما انتقص منه شىء ، وما نسخ منه شىء ، وما رفع منه شىء ، وأن الموجود منه هو ما أراده الله للمسلمين أن يبقى!

* * *

٤٦٤. كذب من قال إن عثمان قصد جمع الناس على تأليف المصحف

عثمان هو الذى جمع الناس على مصحفه ، وسبقه أبو بكر ، ولم يقصد أن «يؤلف» مصحفا خاصا به ، وإنما أرسل إلى حفصة بنت عمر يسألها المصحف الذى جمعه أبو بكر واعتمده أبوها ، وبرر ذلك بأنه يريد أن ينسخه ثم يردّه إليها ، وكان الناس قد اختلفوا فى قراءاتهم للقرآن بسبب تفرّقهم فى الأمصار ، حتى أنهم لما اجتمع نفر منهم فى غزوة أرمينية ، ظهر اختلافهم ، وتنازعوا أمرهم ، وكفّروا بعضهم البعض ، وتلاعنوا ، وتبرأ بعضهم من بعض ، فأشفق حذيفة مما رأى ، وحذّر عثمان ، وقال له : أدرك هذه الأمة قبل أن تهلك! ورأى عثمان أن يكون اجتماع الأمة على قراءة واحدة ، وقيل إنه أمر أربعة : زيد بن ثابت ، وعبد الله بن الزبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، أن ينسخوا المصحف ، فإذا اختلفوا فى شىء فليكتبوه بلسان قريش ، فإنما نزل القرآن بلسانهم. فلمّا انتهوا ردّ المصحف إلى حفصة ، وأرسل إلى كل مصر بمصحف ، وأحرق ما سوى ذلك ، فأطلق عليه الحاقدون اسم «حرّاق المصاحف» ، وكان رأيه مع ذلك سديدا. ولم يختر لجمع المصحف عبد الله بن مسعود ، وآثر عليه زيد بن ثابت ، لأن زيدا كان الأحفظ للقرآن ، ووعاه كله ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حىّ ، وأما عبد الله بن مسعود فلم يكن حتى وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد حفظ القرآن ، ولم يكمل حفظه إلا بعد وفاته. وقيل إن نسخ عثمان من المصحف كانت سبعا ، وقيل أربعا ـ وهو الأصح ، وأنه أرسل بثلاث منها إلى العراق ، والشام ، ومصر ، فاتخذها القرّاء فيها مراجع لهم ، إلا من حروف قد يزيدونها أو ينقصونها فى قراءاتهم فاعتبرت قراءات جائزة. ورحم الله عثمان ، وأجزل له العطاء على ما أسدى للإسلام.

* * *

٤٦٥. شبهة اختلاف ترتيب مصاحف الصحابة عن مصحف عثمان

قالوا : لو كان ترتيب سور القرآن توقيفيا عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم كانت مصاحف بعض الصحابة مختلفة الترتيب؟ وقيل : إن مصحف أبىّ بن كعب كان يبدأ بالفاتحة ، ثم البقرة ، ثم النساء ، ثم آل عمران ، ثم الأنعام. وقيل : إن مصحف ابن مسعود كان يبدأ بالبقرة ، ثم النساء ، ثم آل عمران إلخ. وقيل : إن مصحف علىّ كان مرتبا على النزول ، فأوله «اقرأ» ، ثم «المدثر» ، ثم «ق» ، ثم «المزمل» ، ثم «تبّت» ، ثم «التكوير» ، وهكذا.

٤١٥

والجواب على ذلك : أن جمع الآيات فى السور وترتيبها كان بتوقيف من النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما أوحى إليه ، وأما تقسيم السور إلى طوال ، ومئين ، ومثانى ، ومفصّل ، فهذا تولته الصحابة. وأما اختلاف مصاحف الصحابة عن مصحف عثمان فى ترتيب السور ، فقد فعلوا ذلك قبل علمهم بالتوقيف. وأما عن السبب الذى من أجله جعل عثمان فصل سورة التوبة عن سورة الأنفال ، وجعل التوبة فى المصحف بعد الأنفال ، مع أن التوبة من المئين وليست من الطوال ، ولم يضع أمام سورة التوبة : «بسم الله الرحمن الرحيم» ، فذلك لأن الأنفال ، من أوائل ما نزل من السور بالمدينة ، بينما التوبة من أواخر ما نزل ، فالتوبة ليست جزءا من الأنفال ، إلا أن عثمان شابه بين قصتيهما ، ولمّا لم يجد الرسول قد أشار على الصحابة بشيء بشأن التوبة ، قرن عثمان بين السورتين باجتهاد منه ، ولا يعدّ ما فعله موضعا لاتهام فهو معروف ، ويمكن لعلماء المسلمين فى أى وقت أن يعدّلوا فيه ، ولا نرى مضرة أن يترك الأمر كما هو والكل يعرف هذا عن السورتين. ولمّا سئل الصحابة كيف يحزّبون القرآن؟ قالوا : نحزبه ثلاث سور ، وخمس سور ، وسبع سور ، وتسع سور ، وإحدى عشرة سورة ، وثلاث عشرة ، وحزب المفصّل من ق إلى آخر القرآن. وهذا يدل على أن هذا الترتيب كان فى عهد النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذلك ، وكان هو الذى أمر به ، وعلى هذا ترك الصحابة ترتيبهم فى مصاحفهم وأخذوا بترتيب عثمان ، لأنه الأصحّ ، وكان ذلك بالإجماع ، والإجماع حجة. ولا ينبغى أن يستدل بقراءة سور قبل سور ، على أن ترتيبها كان كذلك ، فليس صحيحا أن النساء تسبق آل عمران ، لأن ترتيب السور فى القراءة ليس بواجب ، ولكنه فى المصاحف لازم.

* * *

٤٦٦. شبهة الخطأ فى كتابه القرآن ورسمه اللحن فى القرآن

قيل : إنه بعد تمام كتابة المصحف ، عثر عثمان على أخطاء فى الكتابة ، إلا أنه تركها لقلّتها وقال : إن فى القرآن لحنا ، وستقيمه العرب بألسنتها. وهناك شكوى عامة من هذه الأخطاء ، وقيل إن عكرمة نبّه إليها ، واستعرض رأى عثمان فيها. والبعض يرى أنه من غير المعقول أن يتبينها عثمان ويتركها للظروف والأيام واجتهادات الناس. ومن ذلك أن سعد بن جبير لم يعجبه نصب كلمة «والمقيمين» فى الآية : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (١٦٢) (النساء) ، فكان ينبغى أن تكون «والمقيمون» ، لأنها

٤١٦

هكذا خطأ نحوى ، وقد رأى جماعة أن يصحّحوا الخطأ ، وقرءوها على ذلك بالواو ، والذين خافوا أن يغيّروا فيها استمروا فى قراءتها بالياء ، وقالوا مع سيبويه إنها منصوبة بالاختصاص ، وكأن «والمقيمون الصلاة» اعتراضية ، ومعناها. وأخصّ المقيمين الصلاة ـ ثم يستأنف الكلام. فهذا الرأى جائز وذاك الرأى جائز ، ومع ذلك فنحن مع التصحيح كما تنبّه إليه عثمان. وقد شكا كثيرون من لحن آخر فى الآية : «إن هذان لساحران (٦٣)» (طه) ، وعرضوا الأمر على عائشة ، وعرضوا عليها قوله تعالى : (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) (١٦٢) (النساء) ، وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ) (٦٩) (المائدة) حيث أنه كان ينبغى أن يقال «إن هذين لساحران» بدلا من «هذان» ، و «المقيمون» بدلا من «والمقيمين» ، «والصابئين» بدلا من «الصابئون» ، فقالت عائشة لمن سألها : هذا من عمل الكتّاب فقد أخطئوا فى الكتابة ـ يعنى : أقرّت بأنها أخطاء فى الكتابة بسبب الكتّاب قيل : إن عثمان نفسه قرأ : «إن هذين لساحران» ، وقرأها كذلك غفير من الصحابة ، وقرأها البعض بتخفيف إن ، فتجنبّت القراءة مخالفة المصحف وفساد الإعراب ، ويكون معناها ما هذان إلا ساحران. وأما «الصابئون» فقيل : إن الرفع محمول على التقديم والتأخير ، فيكون المعنى : «إن الذين آمنوا والذين هادوا ، من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا ، فلا خوف عليهم ، والصابئون والنصارى لا خوف عليهم كذلك».

وقيل : إن عائشة سئلت أيضا عن الآية : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا) (٦٠) (المؤمنون) ، كيف كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرؤها؟ هل كان يقرأها «آتوا» أم «أتوا» وهناك فرق كبير فى المعنى؟ وقال لها السائل : أنه يرجّح أنها «ما أتوا» وليس «ما آتوا» فأقرّته على ما قال ، وقيل : إنها قالت : أشهد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذلك كان يقرؤها ، وكذلك أنزلت ، ولكن الهجاء حرّف»!! وقال ابن عباس مقالة عائشة : أشهد أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأها كذلك : «والذين يأتون ما أتوا» من الإتيان ، أى يعملون ما عملوا : ويستنكر العرب أن يقال «ما آتوا» ، بدلا من «ما أتوا». وكان ابن عباس من أكثر الناس نقدا للحن فى القرآن ، وروى عنه أنه لم يصدّق أن الآية : (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا) (٢٧) (النور) نزلت هكذا ، وقال : إن كانت الآية لا بد قد أخطأ ، وأن الصحيح أن يقال «حتى تستأذنوا» فذلك مقتضى الآية وليس «تستأنسوا». وابن عباس لم يفعل شيئا ، فإنّ «تستأنسوا» معناها «تستأذنوا» ، فأن يستأنسوا من صاحب البيت لا يعنى إلا أن يستأذنوه. ولم ير قارئو القرآن أن ابن عباس قد صحّح شيئا ، أو أضاف شيئا ، ولذلك لم يأخذوا بكلامه ولم يجدوا فرقا فى المعنى ، ولا موجبا للتغيير والتبديل. وكذلك أخذ ابن عباس على الآية : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ

٤١٧

جَمِيعاً) (٣١) (الرعد) ، استخدامها لكلمة «ييأس» ، وقال إنها لا تصح فى السياق ، وتعطى غير المعنى المراد ، ثم قال أغرب كلام ، قال : ويبدو أن الكاتب كتبها وهو ناعس! وأن الصواب أن يقال : «أفلم يتبين» بدلا من «أفلم ييأس». ـ غير أن ابن عباس أخطأ ، لأن معنى «أفلم ييأس» هو «أفلم يعلم» ، يعنى أن «ييأس» معناها أن «يعلم» ، وهذه لغة هوازن ، ومن ذلك فى الشعر :

أقول لهم بالشّغب إذ يأسروننى

ألم تيأسوا أنى ابن فارس زهدم

وقوله إذن : «ألم تيأسوا» ، تعنى «ألم تعلموا» ، وإذن فكاتب القرآن لم يخطئ كما ادّعى ، والآية هكذا أنزلت ، ولا محل للمؤاخذة.

وعاب ابن عباس على كتبة المصاحف أنهم أخطئوا فى الآية : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (٣٣) (الإسراء) ، وكان أحرى بهم أن تكون الآية : «ووصّى ربّك ..» ، إلا أنهم فيما يبدو كتبوا «ووصّى» فلزقوا الواو الثانية بالصاد ، فقرأ الناس الكلمة «وقضى». غير أن الإجماع على أن الكلمة «وقضى» معناها «ووصّى» «وأمر» ، وإذن لا موجب لردّ الكلمة المتواترة.

وقال ابن عباس : وثمة خطأ آخر فى الآية : (لَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ) (٤٨) (الأنبياء) ، فإن الواو فى كلمة «وضياء» زائدة ، وكان المفروض أن تكتب الآية : «ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضياء وذكرا للمتقين». غير أن كلمة «وضياء» ، مثلها مثل كلمة «وحفظا» فى الآية : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً) (٧) (الصافات) ، وعلى ذلك لا يكون ثمة خطأ ـ واللّبس عند ابن عباس أنه فسّر كلمة «الفرقان» فى الآية بأنه التوراة ، وإنما «الفرقان» فى الآية هو «النصر» مثل قوله تعالى : (ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ) (٤١) (الأنفال) ، فيوم الفرقان هو يوم بدر ، وهو يوم النصر ، والفرقان هو النصر ، فيكون معنى الآية أنه تعالى أنزل على موسى وهارون النصر ، وعلى ذلك تكون كلمة «ضياء» بمعنى التوراة أو الشريعة ، وتكون الواو للتغاير.

وأيضا عاب ابن عباس الآية : (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ) (٣٥) (النور) ، وقال إنها خطأ من الكاتب ، فالله تعالى أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة ، وإنما المقصود بالضمير فى «نوره» المؤمن ، فمثّل نور المؤمن بالمشكاة ، وعلى ذلك ذهب ابن عباس بعيدا ، لأن الآية تتحدث عن نور الله وليس نور المؤمن ، ولا نور النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا نور القرآن ، وليس فى الآية مقابلة جزء من المثال بجزء من الممثّل به ، ولكنها تمثّل نور الله الذى هو هداه ، بأنه كالنور الذى نعرفه نحن بصفاته ، وهى أبلغ صفات عندنا عن النور عند الإنسان ، وبذلك كملت الصورة ولم يكن فى الآية أى عيب!

٤١٨

وقيل : أنهم نبّهوا زيد بن ثابت إلى الخطأ فى كتابته للقرآن فى الآية : (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (٣٩) (القيامة) وقالوا لزيد : يا أبا سعيد ، أوهمت! إنما هى ثمانية أزواج : من الضأن اثنين اثنين ، ومن المعز اثنين اثنين ، والإبل اثنين اثنين ، ومن البقر اثنين اثنين. يعنى أن الزوج اثنان ، ولكنك كتبت فى القرآن أن الاثنين زوجان ، فقال زيد : لا ، إن الله تعالى يقول : (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (القيامة ٣٩) ، يعنى هما زوجان ، وكل واحد منهما زوج ، وليس أنهما الاثنين معا زوج. وقال الغالطون : إن كتابة زيد لهذه الآية بشكلها يدل على أن النسّاخ كانوا يتصرّفون باختيارهم ، وبما شاءوا أن يكتبوه ، وهذا منهم خطأ فاحش ، لأن الزوج يقال للرجل ، ويقال للمرأة أيضا زوج ، فهما زوجان ، والقرآن هو الصحيح ، والغالطون على غير الحق.

وقالوا : خطأ آخر هو كتابة «مالك يوم الدين» من سورة الفاتحة هكذا : «ملك يوم الدين» ، فالنّسّاخ فعلوا ذلك من أنفسهم» ، وهذا خطأ ، لأن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأها «مالك» و «ملك» ، بالألف وبدونها ، وكذلك فعل الصحابة. ومن قواعد رسم المصحف الحذف ، و «مالك» يصحّ فيها حذف الألف فى الرسم.

وبعد فهذه جملة ما أخذ على كتابة المصحف من اللحن ، وقد رددنا عليها جميعا.

* * *

٤٦٧. شبهة أن يكون إعجاز القرآن بسبب الصّرفة

الصّرفة : يعنى أن العرب صرفوا أن يعارضوا القرآن ، فلذلك بدا كما لو كان معجزا ، وإنما من اليسير معارضته ، وقال المستشرقون وكثير من المسلمين بالصرفة لمّا عجزوا عن تفسير قصورهم عن معارضته بالأسباب المعروفة ، فادّعوا أن العرب لم يكترثوا بهذه المعارضة ، فلم يحاولوها ، وينقض ذلك أن القرآن تحدّاهم غير مرة ، والعرب معروفون بشدة الحمية لمن يتحدّاهم ، وكانت صناعتهم البيان ، وأسواقهم الأدبية كثيرة ، ليظهروا فيها براعتهم ، ويعلنوا عن تفوّقهم ، فلم لم يعبئوا بالتحدّى إلا إذا كانوا عاجزين عن المعارضة؟ وكان الأحرى بهم أن يولوا ذلك عنايتهم ، لأن القرآن سفّه أحلامهم ، واستهزأ بعقائدهم وعوائدهم ، وقد اتفقوا جميعا على مناهضته ، ومحاربة الإسلام ، وقتال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وألّبوا كل القبائل عليه ، وأجبروه على الهجرة هو وأصحابه ، واستولوا على أموالهم ، وقبل ذلك قاطعوهم وسبّوهم ، وساوموه أن يترك دينه فيجمعوا له الأموال ، وينصبّوه ملكا عليهم ، ويزوّجوه من بناتهم ، واتّهموه مرة بالسحر ، ومرة بالكهانة ، ومرة أنه شاعر ، ومرة نسبوا إليه أنه مجنون ، وتآمروا عليه ، وحاولوا عشر مرات أن يقتلوه ، وأهانوه فى عرضه ، وتقوّلوا عليه ، ثم قامت الحرب بينه وبينهم فجيّشوا له الجيوش ، فهل بعد ذلك يقال أنهم

٤١٩

صرفوا همّتهم عن معارضة القرآن؟ ولما ذا إذن كان القتال لو كانوا غير مهتمين؟ وربما يقال : إنهم لم يعادوا القرآن ولكنهم كانوا يعادون محمدا؟ والواقع يقول إن علاقتهم بمحمد لم تنقطع ، وإنما كان غضبهم من القرآن ، وثورتهم عليه ، فكان الأحرى بهم أن يعارضوه. وربما يقال : أن ما غاظهم من القرآن هو مخالفته لعقيدتهم بقطع النظر عن إعجازه؟ والجواب : أنه كان بينهم النصارى واليهود على غير دينهم فلم يهمهم ذلك ، وإذن فالسبب حقيقة هو القرآن نفسه ، وليس مخالفته لدينهم ، ولقد حاولوا أن يعارضوه وفشلوا ، لأن القرآن ليس بيانا فقط ، ولكنه علوم وفنون ، وتاريخ وأدب وقصص ، وتشريع وقانون ، وفيه من كل مثل ، فكيف يعارضونه؟! ولقد حاول المستشرقون أن يردّوا المعلومات فى القرآن إلى مختلف اللغات والحضارات ، فاستوجب ذلك أن يكون محمد قد أحاط بكل اللغات القديمة ، وقرأ كل المعارف والمؤلفات ، ووعى كل العلوم والآداب! وثبت لهم من ذلك أن القرآن يحتاج إلى مؤسسة علمية كبرى ، فيها من كل التخصصات ، وينتظم فى سلكها مئات من الخبراء ليكتبوا كتابا مثله. والقول بالصرفة إذن ـ أى بأنهم صرفوا همّتهم عن معارضة القرآن ، ولم يحفلوا بذلك ، عجز بواح لا شك فيه ، من نوع ما يقول به علماء النفس من «تبرير العجز» بأسباب واهية وغير علمية ، كلما أعوزهم السبب الحقيقى.

* * *

٤٦٨. البدعة والضلالة

فى القرآن أن الرهبانية ابتدعها النصارى ، كقوله تعالى : (رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) (٢٧) (الحديد) ، أى كانت لهم بدعة ، والبدعة : لا تصدر إلا من البشر ، غير أنه لا بد أن يكون لها أصل فى الشرع أولا ، والرهبانية من ذلك ، فالاعتزال كان فى الدين ، فطوّروه إلى نظام الرهبانية ، فإذا كانت البدعة تحت عموم ما ندب الله إليه ، فهى فى حيّز المدح ، ويعضد هذا قول عمر : نعمت البدعة هذه! يقصد قيام رمضان ، لمّا كانت من الأفعال الحسنة وداخلة فى حيز المدح. وإن كانت البدعة خلاف ما أمر الله به فهى فى حيز الذّم والإنكار ، وفى الحديث : «وشرّ الأمور محدثاتها ، وكلّ بدعة ضلالة» أخرجه البخارى ، «فالبدعة الضلالة» : هى ما يخالف الكتاب ، أو السنّة ، أو عمل الصحابة ، وفى الحديث : «من سنّ فى الإسلام سنّة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده ، من غير أن ينقص من أجورهم شىء. ومن سنّ فى الإسلام سنّة سيئة ، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده ، من غير أن ينقص من أوزارهم شىء» أخرجه مسلم.

* * *

٤٢٠