موسوعة القرآن العظيم - ج ١

دكتور عبد المنعم الحفني

موسوعة القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

دكتور عبد المنعم الحفني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
ISBN: 977-208-442-2
الصفحات: ١٢٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) (٤٤) (طه) ، والآية دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وإنما باللين ، واللين هو القول الذى لا خشونة فيه ؛ وإذا كان موسى قد أمر بالدعوة باللين ، فمن دونه أحرى بأن يقتدوا به ، كقوله تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) (٨٣) (البقرة) ، والحسن هو المعروف ، والصدق ، والطيّب من القول. والدعوة باللين من أصول السياسة ، ومن مكارم الأخلاق ، والقائم بالدعوة مهما يكن ليس بأفضل من موسى وهارون ؛ والملحد ، والعلمانى والليبرالى وأىّ من كان ليس بأخبث من فرعون.

* * *

٣٩٥. الأعمال بالخواتيم

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى قصة الرجل فى وقعة خيبر أصيب ولم يطق ألمه فانتحر : «لا يدخل الجنة إلا مؤمن» ، والله تعالى يقول : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (١٩٥) (البقرة) ، ويقول : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (٢٩) (النساء). ومعنى الحديث أن من يقتل نفسه ليس مؤمنا ، فالإيمان والانتحار لا يلتقيان ، وذلك أن الرجل استعجل الموت فقتل نفسه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة ، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار ، وإنما الأعمال بالخواتيم» ، وقال : «إذا أراد الله بعبد خيرا استعمله : يوقفه لعمل صالح ثم يقبضه عليه» ، وقال : «لا تعجبوا لعمل عامل حتى تنظروا بم يختم له» ، يعنى أن المرء قد يفسد على نفسه إيمانه بارتكاب حماقات تدرجه ضمن ناقصى الإيمان ، والعبرة بخواتيم الأعمال ، أى نهاياتها ونتائجها وليس بما تبدو ظاهريا فى أول أمرها.

* * *

٣٩٦. هدم الكعبة

الأحاديث فى هدم الكعبة ضمن ما يسمى «أحاديث آخر الزمان» ، تعارضها الآية : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) (٦٧) (العنكبوت) ، والآية : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً) (٥٧) (القصص) ، ومن واقع التاريخ أنه تعالى حبس عن مكة الفيل ، ولم يمكّن أصحابه من تخريب الكعبة ، ولم تكن وقتها قبلة للمسلمين ، فكيف يسلّط عليها من يخربها بعد أن صارت قبلة للمسلمين؟ وفى الحديث : «يغزو جيش الكعبة فيخسف بهم» ، وربما يقال : إن الآيتين تحكيان عن وضع الحرم فى أيام النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وليس فى المستقبل ، فأمّا فى آخر الزمان ، قرب قيام الساعة ، فالمفروض فعلا أن تخرب الكعبة ، وخرابها من علامات الساعة ، ووقتها لا يبقى فى الأرض أحد يقول الله الله ، كما ثبت فى صحيح مسلم : «لا تقوم الساعة حتى لا يقال فى الأرض الله الله» ، وفى البخارى عن هدم الكعبة :

٣٤١

«يقلعها حجرا حجرا» ، وبرواية أخرى : «لا يعمر ـ أى المسجد الحرام ـ بعده أبدا» ، وقد فعل ذلك فعلا القرامطة بعد سنة ٣٠٠ ه‍ ، فقتلوا من المسلمين فى المطاف من لا يحصى كثرة ، وقلعوا الحجر الأسود فحوّلوه إلى بلادهم ، ثم أعادوه بعد مدة طويلة ، ثم غزى البيت الحرام مرارا من بعد ، ولا يتعارض ذلك مع قوله تعالى : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً) ، لأن الغزو والتخريب إنما وقعا بأيدى المسلمين ، وهو مطابق لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ولن يستحل هذا البيت إلا أهله» ، فوقع ما أخبر به النبىّ ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو دليل على نبوته ، ودليل على أن ما أنزل عليهم من القرآن صدق.

* * *

٣٩٧. الفتن وعذاب العامة بسبب منكرات الخاصة

الفتن جمع فتنة ، وأصلها إدخال الذهب فى النار لتظهر جودته من رداءته ، وتطلق الفتنة على العذاب ، كقوله : (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) (١٤) (الذاريات) ، وعلى الاختبار ، كقوله : (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) (٤٠) (طه) ، وعلى الابتلاء ، كقوله : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) (٣٥) (الأنبياء). والفتنة كما تكون من الله تكون من البشر ، كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) (١٠) (البروج) ، وأصل الفتنة إذن هو الاختبار ، ثم استعلمت فيما يؤدى إليه الاختبار من مكاره ، ثم أطلقت على كل مكروه. وفى الحديث : «اللهم إنا نعوذ بك أن نفتن» ، وفى التنزيل : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (٢٥) (الأنفال) ، والآية تأمر بأن لا يقر المسلمون المنكر بين أظهرهم فيعمّهم العذاب ، وفى الحديث : «إن الله لا يعذّب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه ، فإذا فعلوا ذلك ـ أى لم ينكروه ـ عذّب الله الخاصة والعامة».

* * *

٣٩٨. التعارض بين الكثير من أحاديث الفتن والقرآن؟

الكثير من أحاديث الفتن يتعارض مع القرآن ، فالآية تقول : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) (١٩٣) (البقرة) ، والمعنى لا ينحصر فى مناسبة نزول الآية ، ولا يقتصر على مقاتلة الكفار وأهل الشرك ، وإنما قتال الظلمة والطغاة والمستبدين ، ومنازعة هؤلاء تفرضها آيات الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وأحاديث النصح لأصحاب السلطة ، وقد سأل المسلمون النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا رسول الله ، إن كان علينا أمراء يأخذون بالحق الذى علينا ، ويمنعونا الحق الذى لنا ، أنقاتلهم؟ قال : «لا ، عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم». وقال : «سيكون أمراء فيعرفون وينكرون ، فمن كره برىء ، ومن أنكر سلم ، ولكن من رضى وتابع ...» ، قالوا : أفلا نقاتلهم؟ قال : «لا ، ما أقاموا الصلاة»؟! وفى رواية قالوا : يا رسول الله ، أفلا ننابذهم عند

٣٤٢

ذلك؟ قال : «لا ، ما أقاموا الصلاة ، وقال : «وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه فاكرهوا عمله ، ولا تنزعوا يدا من طاعة»؟!! فهل نطيع فى الظلم والشرّ والمفسدة؟! وفى الحديث : أن جبريل قال للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن أمتك مفتتنة من بعدك. فقال : «من أين»؟ قال : من قبل أمرائهم وقرّائهم (أى علمائهم). يمنع الأمراء الناس الحقوق ، فيطلبون حقوقهم فيفتنون ، ويتبع القرّاء هؤلاء الأمراء فيفتنون. قال : «فكيف يسلم من سلم منهم»؟ قال : بالكفّ والصبر. إن أعطوا الذى لهم أخذوه ، وإن منعوه تركوه» ـ وأقول : أليست تلك دعوة إلى السلبية؟ وأين تاريخ الأمم فى النضال؟ والتاريخ ليس إلا تاريخ منازعات المضطهدين والمظلومين لظالميهم من سائر المجتمعات والدول والأنظمة والحكّام؟! وفى حديث آخر قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنكم سترون بعدى أثرة وأمورا تنكرونها» ، قالوا : فما تأمرنا؟ قال : «أدّوا إليهم حقّهم وسلوا الله حقّكم» ، وأقول : فكيف نؤدى إليهم حقّهم ، وهم لا يكتفون بحقهم ، وإنما يستولون أيضا على حقنا؟! وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كره من أميره شيئا فليصبر ، فإنه من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية»!! وقال : «من خلع يدا من طاعة لقى الله ولا حجة له ، ومن مات وليس فى عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» ، يعنى مات على ضلال وعاصيا ، وخلاصة هذه الأحاديث : وجوب طاعة الحاكم ، وترك الخروج عليه ، والكفّ عن استنكار أعماله ، ونبذ المصادمة مع الشرطة حقنا للدماء ، وقيل : مسالمة أمراء الجور إنما لتسكين الدهماء ـ وهذا هو تفسير الفقهاء ، فعامة الناس وجموع الشعب دهماء فى عرفهم! ولم يستثن هؤلاء من هذا الإذعان المشين إلا فى أحوال الكفر الصريح ، فلا تجوز فى الكفر طاعة الحاكم ونظامه وحكومته ، بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها ، ولم يعرّف لنا الفقهاء الكفر الصريح فى بلاد المفروض أنها تدين بالإسلام ، ويجعل ذلك الكثيرين يتشككون فى أحاديث الفتن هذه ويرتابون أن قائلها هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حقا ، حتى قيل إنه قال : «اسمع وأطع إلى أن يصل إليك حقك بغير خروج عن الطاعة!!» وزيد فى الحديث : «وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك»؟!! فهل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ذلك فعلا؟ ومن ناحية أخرى هناك أحاديث تحقّ الحق وتوافق مطالب الناس وما يرجونه من الإسلام ، كما فى الرواية : «إلّا أن يكون معصية لله بواحا» ، والرواية : «ما لم يأمروك بإثم بواح» ، والرواية : «فلا طاعة لمن عصى الله». وقيل : إنه لا يجوز الخروج على الحكام الطغاة ، ما دام فعلهم يحتمل التأويل. وقيل : الشأن فى أمراء الجور أنه إن قدر الشعب على خلع الرئيس الجائر بغير فتنة وجب خلعه ، وإلا فالواجب الصبر. وقيل : إن عقد الرئاسة لطاغية مستبد لا يجوز ابتداء ، فإن أحدث جورا بعد أن كان عدلا فإنه لا جدال يجب الخروج عليه والدعوة لإسقاط حكمه ، لعموم مصلحة المسلمين. وفى الحديث : «هلاك أمتى على يد

٣٤٣

أغيلمة سفهاء» ، والأغيلمة تصغير أغلمة ، ومفردها غلام ، ويطلق على الرجل المستحكم القوة المستبد ، تشبيها له بالغلام فى قوته وتقلّب مزاجه. وقيل إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم استعاذ من إمارة الصبيان ، فسألوه : وما إمارة الصبيان؟ قال : «إن أطعتموهم هلكتم ، وإن عصيتموهم أهلكوكم» ، فشبّه حكم الطاغية الظالم بحكم الصبى ، لأنه اعتبره غير ناضج فكريا ونفسيا ، ولذلك يلجأ إلى العنف ويميل إلى الأثرة ، والاستحواذ. وفى رواية أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو أن الناس اعتزلوهم» ، والمراد باعتزالهم أن لا يداخلوهم ، ولا ينضموا للجيش ولا للشرطة ، ولا يسمعوا لهم ، ولا يقاتلوا عنهم ، ولا يتعاونوا معهم ، ولا يجتمعوا بهم ، ولا يحادثوهم ، والأفضل اللجوء إلى الهجرة ، وترك البلاد التى تكثر فيها المظالم والإشاعات والفتن والصراعات والمعاصى ، والمنكر عموما ، كقوله تعالى : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) (٩٧) (النساء) ، وقوله : (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً) (١٠٠) (النساء) ، والآية دليل على أنه ليس لأحد المقام بأرض فيها الظلم والاضطهاد ويعمل فيها بغير الحق.

* * *

٣٩٩. ظهور الفتن من علامات الساعة

للساعة علم لا يعرفه إلا الله ، كقوله : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) (٦١) (الزخرف) ، ولها علاماتها التى تسبقها ، والأحاديث فيها كثيرة ، منها قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يتقارب الزمان ، وينقص العمل ويلقى الشحّ ، وتظهر الفتن ويكثر الهرج» (أى القتل) ، وقوله : «إن بين يدىّ الساعة لأياما ينزل فيها الجهل ، ويرفع فيها العلم ، ويكثر فيها الهرج» ، وقوله : «لا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والبخل ، ويخون الأمين ، ويؤتمن الخائن ، وتهلك الوعول وتظهر التحوت» ، قالوا : يا رسول الله ، وما التحوت والوعول؟ قال : «الوعول وجوه الناس وأشرافهم ، والتحوت الذين كانوا تحت أقدام الناس ليس يعلم بهم». وقيل فى قوله : «يتقارب الزمان» يعنى تقارب أحوال أهله فى قلة الدين حتى لا يكون فيهم من يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر ، لغلبة الفسق وظهور أهله. وجاء فى الحديث : «لا يزال الناس بخير ما تفاضلوا ، فإذا تساووا هلكوا» وهو حديث غريب يدعو إلى اللامساواة بين الناس ويحبّذها ، ويناقض تعاليم الإسلام والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل فى معناه : لا يزال الناس بخير ما كان فيهم أهل فضل وصلاح وخوف من الله ، يلجأ إليهم عند الشدائد ، ويستهدى بآرائهم ، ويتبرّك بدعائهم ، ويؤخذ بتقويمهم وآثارهم ، وإلا فإنهم إن تساووا فى الخسّة والدناءة ، هلكوا.

* * *

٣٤٤

٤٠٠. إذا اقتربت الساعة تنزع البركة من كل شىء

من حديثه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان ، فتكون السنة كالشهر ، والشهر كالجمعة ، والجمعة كاليوم ، ويكون اليوم كالساعة ، وتكون الساعة كاحتراق السعفة» ، أى كأنها لمحة ، والمراد نزع البركة من كل شىء حتى الزمان ، فتقصر الأيام ، وتمضى الشهور والسنون سراعا ، وهذا القصر معنوى ، وقال : «فإنه لا يأتى عليكم زمان إلا والذى بعده أشرّ منه» ، وقال : «ستكون فتن ، القاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشى ، والماشى فيها خير من الساعى. من تشرّف لها تستشرفه ، فمن وجد منها ملجأ أو معاذا فليعذ به» ، ومعنى تستشرفه تهلكه بأن يشرف منها على الهلاك. وهذه الأحاديث ينبغى أن نقابلها بالشك ، والصواب أن يقال : إن الفتنة أصلها الابتلاء ، وإنكار المنكر واجب على كل من قدر عليه ، فمن أعان المحقّ أصاب ، ومن أعان المخطئ أخطأ.

* * *

٤٠١. الإسلام والقرآن فى آخر الزمان

فى الحديث أن الإسلام فى آخر الزمان : «يدرس كما يدرس وشى الثوب ، حتى لا يدرى ما صيام ، ولا صلاة ، ولا نسك ، ولا صدقة ، ويسرى على الكتاب ـ يعنى القرآن ـ فلا يبقى فى الأرض منه آية» ؛ والقرآن : «ينزع من بين الظهور ويسرى عليه ليلا فيذهب فى أجواف الرجال فلا يبقى فى الأرض منه شىء» ، «فمن أنكر برىء ، ومن كره سلم». ومن علامات الساعة : «أن الهداة فى آخر الزمان يهدون بغير هدى ، وتعرفون منهم وتنكرون» ، فإذا عاينا ذلك : «فلنلزم جماعة المسلمين وإمامهم ، وإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ، فلنترك تلك الفرق كلها ، ولو أن نعض بأصل شجرة حتى يدركنا الموت ونحن على ذلك» ولزوم الجماعة : لأنه كما قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لم يكن الله ليجمع أمة محمد على ضلالة» والجماعة التى تلزمها ليست أى جماعة ، وإنما المقصود أنها الجماعة المستنيرة ، أو جماعة أهل العلم الرافضة للظلم ، والمطالبة بالإصلاح والتغيير وسئل صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فكيف إذا بقينا فى حثالة من الناس ، قد مرجت (أى فسدت) عهودهم وأماناتهم واختلفوا؟ قال : «عليك بخاصتك ودع عنك عوامهم». وسئل : فكيف تأمرنا؟ قال : «تأخذ بما تعرف وتدع ما تنكر ، وتقبل على خاصتك ، وتدع عوامهم» وكما ترى فالفتن فى آخر الزمان ابتلاء واختبار ، وفى الحديث : «لا تكرهوا الفتنة فى آخر الزمان ، فإنها تبير المنافقين» أى تهلكهم ، وربما كنا الآن فى زمن الفتنة التى تموج موج البحر ، والتى يصبح الناس فيها كالبهائم لا عقول لهم ، وفى زماننا هذا ذهبت عقول أكثر الساسة وأولى الأمر ، والمسلم لا تضرّه الفتنة ما عرف دينه ، والفتنة لا تقوم إلا إذا اشتبه الحق والباطل ، والذين

٣٤٥

يثيرونها هم أهل الباطل ، أهل النفاق. وقد تشتد الفتن وتزيد وطأتها ، وربما يتمنى الناس لو ماتوا ، وقد يغبطون أهل القبور ، فإذا عاينت ذلك أيها المسلم ، فربما ما تعاينه من علامات الساعة ، وأنه من الفتنة ، وأن الناس ما ملأها الخوف إلا أن يروا دينهم قد ذهب ، بغلبة الباطل وأهله ، وظهور المعاصى والمنكر فلا أقل حينئذ أن يتمنوا الموت.

* * *

٤٠٢. ذهاب الدين من علامات الساعة

يقول تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) (٣) (سبأ) قيل : إن أبا سفيان فى زمنه كان يقول : واللات والعزّى لا تأتينا الساعة أبدا ، ولا نبعث» ، ولذلك نزلت الآية ، وكل وقت وفيه مثل أبى سفيان ، والآية يردّ الله بها على من ادّعى بطلان الساعة عامة ، وأبو سفيان يحلف باللات والعزى ، وأهل الباطل يقسمون بالباطل ، وفى ذلك الحديث : «لا تقوم الساعة حتى تعبد اللات والعزّى» أى عند ما لا يكون القسم إلا بالباطل تقوم الساعة ، وكأن الباطل سينتصر ، وكأننا ما فعلنا شيئا ، وكأن من مات فى سبيل الله مات من أجل قضية خاسرة ، فالانتصار مرة أخرى وعلى المدى الطويل ، وفى نهاية الأمر ، للّات والعزّى ـ أى للباطل والضلالة! وفى القرآن غير ذلك ، لأن الله قد وعد المسلمين أهل الحق أن يكون النصر لهم ولدينهم ، فكيف يعود الناس لعبادة الضلال من جديد؟ والثابت فى القرآن أن أهل الحق مستخلفون فى الأرض كقوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) (٥٥) (النور) ، وقوله : (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) (١٧٢) (الصافات) ، وقوله : (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) (٥٦) (المائدة) ، فكيف إذن يعود الناس لعبادة اللات والعزّى؟ وقال الفقهاء : ربما المعنى أن الدين لا ينقطع بالكلية من جميع أقطار الأرض ، فيبقى منه شىء ، إلا أن ما يبقى يكون مع ذلك ضعيفا ، ويعود الإسلام غريبا كما بدأ. ويناقض ذلك الحديث الآخر : «لا تزال طائفة من أمتى يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم ...» ، والمغزى العام أن الإسلام يبقى إلى قيام الساعة ، وأن القرآن لا يمكن أن يضيع من السطور ، ولا أن ينمحى من الصدور. وهناك الحديث : «لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق ، هم شرّ من أهل الجاهلية» ، ولا يعنى الحديث أن كل الناس أشرار ، ويقابله الحديث : «لا تزال عصابة من أمتى يقاتلون على أمر الله ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك» ، وفى القرآن فى وصفهم : (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَ

٣٤٦

حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢٢). وفى الحديث : إذا حانت الساعة يبعث الله ريحا كأنها المسك ، ومسّها من حرير ، فلا تترك أحدا فى قلبه مثقال حبّة من إيمان إلا قبضته ، ثم يبقى شرار الناس ، فعليهم تقوم الساعة». فربما المراد بالحديث : «لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق ، هم شرّ من أهل الجاهلية» يقصد إلى هذا المعنى ، وربما معنى حتى تأتيهم الساعة» هى ساعتهم هم ، وهى وقت موتهم. (انظر علامات الساعة ضمن باب «الموت والقيامة والساعة والحشر والجنة والنار».

* * *

٤٠٣. أحاديث الدّجّال من أحاديث آخر الزمان

الدّجال : من الدجل وهو التغطية ، وسمّى الكذّاب دجّالا لأنه يغطى الحق بباطله. وقيل : ظهور الدجّال من علامات الساعة ، والأحاديث فيه متخالفة فى عدة أمور ، منها تسميته ، وأصله ، ومتى يخرج ، ومن أين يخرج ، وما صفته ، وما الذى يدّعيه ، والخوارق المصاحبة لظهوره ، ومتى يهلك ، ومن يقتله؟ والاختلاف يصل إلى حدّ التضارب ، ويرد الدجّال عند اليهود كعلامة من علامات آخر الزمان ، والأحاديث النبوية أو بالأحرى المنسوبة للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تجعل المسحاء الدجّالين ثلاثين ، وربما أكثر ، وفى أسفار اليهود أن المسحاء الدجّالين كانوا أربعة وعشرين ، أشهرهم بار كوكبة الذى عاش فى أول القرن الثانى ، وادّعى أنه رئيس الأمة اليهودية وملكهم ، وتمرّد على الدولة الرومانية ، ومات فى هذه الفتنة خلق كثير بالآلاف. ويعتبر اليهود المسيح عيسى ابن مريم من المسحاء الدجّالين. وفى القرن الثانى عشر بعد المسيح ظهر نحو عشرة مسحاء دجّالين. وعقيدة المسيح الدجّال إذن عقيدة يهودية نصرانية ، يعنى غير إسلامية ، ومصدرها أنهم قالوا إن إيليا رفع إلى السماء ، ومن يرفع لا بد أن يعود ليموت ميتة البشر ، ومن ثم فإيليا هو المسيح العائد ، ولن يعدم الأمر أن يأتى أناس كذبة يدّعون أنهم هذا المسيح ، وميّزوهم باسم المسحاء الدجّالين أى الكذّابين. وكذلك قال النصارى ، فبما أن المسيح رفع فسيعود حتما ، وباسمه ، ومن بين النصارى ظهر مسحاء دجّالون كثيرون. وأحاديث الدجّال فى الإسلام لا تنسجم مع العقيدة الإسلامية ، ولذا لم يرد عن الدجال شىء فى القرآن ، ولو كان الدجّال حقيقة لكان الأولى أن يرد عنه فى القرآن. وقد حفل القرآن بوقائع من حياة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقل أهمية من هذا الحدث الجلل ـ حدث الدجّال! والحكايات فيه كثيرة ترقى إلى الخرافات ، ومنها أنه كان موجودا فى العهد النبوى ، وأنه محبوس فى بعض الجزائر ، وأنه يخرج عند فتح القسطنطينية ، ويخرج من غضبة يغضبها ، وخروجه من قبل المشرق ، من أصبهان ـ يعنى

٣٤٧

من إيران ، ويدّعى أولا الإيمان والصلاح ، ثم النبوة ، ثم الإلهية ، وبعد ذلك ينزل عيسى فيقتله. ومن ذلك أشياء كثيرة كالتى اخترعوها عن المهدى المنتظر وكلها من الخرافات!

* * *

٤٠٤. لما ذا لم يذكر الدجّال فى القرآن؟

هذا سؤال مشهور ووجيه ، فمع شهرة الدجّال وما ذكر عنه من الشرّ وعظم الفتنة به ، والتحذير منه ، والأمر بالاستعاذة منه حتى فى الصلاة ، فلما ذا أهمل القرآن أمره؟ وقيل : إنه مذكور فى الآية : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) (١٥٨) (الأنعام) ، وفى ذلك أخرج الترمذى الحديث عن أبى هريرة : «ثلاثة إذا خرجن لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل : الدجّال ، والدابة ، وطلوع الشمس من مغربها». وليس هناك سبب يمنع التنصيص عليه فى القرآن ، سوى أنهم قالوا إن من ذكرت أسماؤهم فى القرآن من المفسدين إنما هم ممن مضى وانقضى أمرهم ، وأما من لم يجيئوا بعد فلم يذكر منهم أحد. وقيل : إنما ترك ذكره احتقارا : ونقول : كيف ، والنتائج المترتبة عليه خطيرة غاية الخطورة؟! وقيل : الدجّال مذكور فى القرآن فى الآية : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) (٥٧) (غافر) ، والمراد بالناس الدجّال ، من إطلاق الكل على البعض ، وعلى ذلك كان الدّجال من جملة ما تكفّل النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتعريف به والتنبيه إليه! وهذا تبرير متهافت ، والصحيح أن قصة الدجال والأحاديث فيه من الإسرائيليات ، وتنافى العقيدة الإسلامية تماما ، ومنقولة عن أسفار اليهود والنصارى.

* * *

٤٠٥. أحاديث نزول عيسى من أحاديث آخر الزمان

أحاديث نزول عيسى عند ما تحين الساعة مثل أحاديث الدجّال ، كلها ملفّقة ، ونزول نبىّ مثل عيسى حدث لا يمكن أن يغفله القرآن لو كان حقيقيا. وقيل : بل أورده فى قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) (١٥٩) (النساء) ، وقوله : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ) (٦١) (الزخرف) ، قيل فى معنى الآيتين : أنه ينزل فى آخر الزمان ، والأحرى بكم أن تتّبعوه وتؤمنوا به ، وفى الآية : (الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ) (١٥٧) (النساء) أن هذا الإيمان به ليس باعتباره ابن الله ، وإنما باعتباره نبيا لا غير ، ويرتبط الإيمان به بهذا الاعتبار بالقرآن وما جاء فيه عنه ، والآية إذن إخبار بأن النصارى فى آخر الزمان سيؤمنون بالقرآن وبما جاء به عن عيسى : (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) (١٥٨) (النساء). وأما آية سورة الزخرف : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا

٣٤٨

تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ) (٦١) فليس فيها أى دليل على نزول عيسى ، وقالوا الآية تقرأ : «وإنه لعلم للساعة» أى أمارة ، يعنى أنه من علامات يوم القيامة ، والذى قال ذلك هو الحبر ابن عباس ، وأما الجمهور فمع قراءة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لعلم للساعة» (بالكسر) ، والمقصود أن القرآن هو علم الساعة ، لأنه الكتاب الذى أجاب عن الساعة الجواب القاطع ، ووصف أهوالها وأحوالها ، وما قاله فيها بمثابة العلم ـ علم الساعة وليس المقصود نزول عيسى. وقد اقتضى تفسير الآية بحسب معتقد النصارى ، أن كانت هناك أحاديث كثيرة تخالف القرآن وتجعل من عيسى النبىّ الخاتم وليس محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبنزول عيسى يصبح هو آخر نبىّ يحكم فى الدنيا ، وتسود شريعته هو وتنتهى شريعة الإسلام. وأكثر من ذلك أن الأحاديث تجعل من عيسى قاتلا ، فيقتل الدجّال ، وتجعله محاربا يمسك بالسلاح ويقتل الأعداء ، وهى صورة مخالفة لطبيعة المسيح ، فهل يجوز أن تكون له الطبيعة التى نعرفها ثم يتغير هكذا تغيرا كليا إلى الضد؟ وفى الحديث : «أن عيسى أول نازل ، فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويقاتل الناس على الإسلام» ، وقيل : إنه يرفع التكليف!! مع أن البقاء فى الدنيا يقتضى ويحتّم التكليف! وفى الحديث : أن عيسى يؤم المسلمين بكتاب ربّهم وسنّة نبيّهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبناء عليه قال الفقهاء ، إن الحديث نصّ على أن عيسى ينزل مجدّدا لدين النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، للذى درس منه ، لا يشرّع مبتدأ ، والتكليف باق!! وهذا جميعه تلفيق من نوع الإسرائيليات. والصحيح أن العلم على الساعة ، أى الدليل والأمارة ، إما أنه القرآن باعتباره الكتاب الخاتم ، أو أنه النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم باعتباره النبىّ الخاتم ، فالقرآن بشارة ونذارة بالقيامة ، وكذلك محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن كان هناك كتاب يتحدث عن الساعة ، ونبىّ أقرب إلى الساعة ، فهو القرآن والنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى ذلك فلا شىء فى القرآن ينبئ عن نزول عيسى أو يشير إلى ذلك من قريب أو بعيد! ويكذب من يقول بغير ذلك.

* * *

٤٠٦. ما اختصاص النبىّ بالتنبيه إلى الدّجال ونزوله؟

قيل : إن سبب تنبيه النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الدجّال ونزوله ، مع أن ما تنزّل عليه من القرآن بهذا الخصوص ، لدليل أقوى دليل على تكذيب الدجّال ، بأنه إنما يخرج فى أمة محمد دون غيرها من الأمم. وقالوا : إن علم خروجه بهذه الأمة كان مطويا عنها كما طوى عنها علم الساعة ، فاختص النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتنبيه أمته ، كما اختص بالجواب عليها فى السؤال عن علم الساعة. والأحاديث تترى تعرّف بالدجّال أنه أعور العين اليسرى ، وبعينه اليمنى عنبة ناتئة ، أو ظفرة غليظة ، ومكتوب بين عينيه كافر! ومن فتنته أن معه مثل الجنة والنار ،

٣٤٩

يمنّى بالجنة من يصدّقه ، ويتوعّد من يكذّبه بالنار ، والتى يقول إنها الجنة هى أيضا نار ، والمؤمنون يلقون منه شدّة ، وهو مختص ببلاد الإسلام ، ويدخلها جميعا إلا مكة والمدينة؟! وأخيرا يقتله المسيح فى بيت المقدس ويخلّص الناس منه ، وكل ذلك خرافات من الإسرائيليات.

* * *

٤٠٧. أحاديث يأجوج ومأجوج من أحاديث آخر الزمان

يأجوج ومأجوج اسمان أعجميان ، وقصتهما فى هذه الموسوعة ضمن باب القصص فى القرآن ، وفى الحديث أن سدّ يأجوج ومأجوج يفتح وحينئذ يكون الويل للعرب ، الصالحين والطالحين ، فالهلاك للجميع عند ما يكثر الخبث ، وهذا هو المعنى وليس كما يروّجون له من الإسرائيليات. ويأجوج ومأجوج كما فى التنزيل : (مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) (٩٤) (الكهف) وقصتهما مع ذى القرنين. ونبوءة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم هى قوله : «ويل للعرب من شرّ قد اقترب» ، فخصّ العرب لأنهم كانوا حينئذ المسلمين ، إلا أن الحديث يعنى كل المسلمين ـ الأفغان والإندونيسيين والنيجيريين إلخ ، والمراد بالشر مثلما يقع الآن ، فإن الفتن تحاصرهم وتأخذ بتلابيبهم حتى يصيروا بين الأمم كالقصعة بين الأكلة ، لقوله : «يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها» ، فالأحاديث وآيات القرآن للتحذير ، وليست تنبؤات لأحوال المسلمين مستقبلا كما يقولون. وهى اختبار لإيمان المؤمنين ، ومن يصدّق مثل هذه الأحاديث من الإسرائيليات فلن يصمد فى الاختبار وسيفشل ، ومن يحذرها ولا ييأس فلن يحبط عمله وسيكون من الناجين ، والإيمان دائما منج.

* * *

ثانيا : الإسلام فى القرآن

٤٠٨. ما هو الإسلام

فى الآية : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (١٤) (الحجرات) ، أن الإيمان أخصّ من الإسلام ، ومن ذلك حديث جبريل حينما سئل عن الإسلام ، ثم عن الإيمان ، ثم عن الإحسان ، فترقى من الأعمّ إلى الأخصّ ، فكان الإسلام أولا ، ثم يكون الإيمان ، ثم يأتى الإحسان فى القمة. وكذلك فى الحديث ردا على سعد بن أبى وقّاص حينما قال : يا رسول الله! أعطيت فلانا وفلانا ولم تعط فلانا شيئا وهو مؤمن؟ فقال النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أو مسلم»؟ (يعني أو مسلم هو؟) فأعاد سعد السؤال ، وأعاد النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجواب : أو مسلم؟ ففرّق النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المؤمن والمسلم ، فدلّ على أن الإيمان أخصّ من الإسلام ، وفي الآية اللاحقة على الآية السابقة يأتى تعريف الإيمان بتعريف المؤمنين ، يقول : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا

٣٥٠

وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (١٥) (الحجرات) ، فالأعراب أسلموا ولكنهم لم يصلوا إلى حقيقة الإيمان بعد ، ثم فى الآية اللاحقة أن المؤمنين الكمّل هم الذين لم يتشككوا ، ولا تزلزلوا ، ولكنهم ثبتوا وصدّقوا ، ومقامهم مقام التصديق المحض ، ولذلك جاهدوا بالمال والأنفس فصدقوا أنهم مؤمنون ، ولم يتجاوزا الصدق عند ما قالوا إنهم مؤمنون. فكل من توقف عند الإسلام ولم يترقّ إلى الإيمان فهو من الأعراب ، وأما تاريخيا فهؤلاء كانوا رهطا من بنى أسد بن خزيمة ، قدموا إلى المدينة فى سنة جدبة ، وأظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين حقا ، وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات ، وأغلوا أسعارها ، وقالوا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أسلمنا وقاتلتك العرب ولم نقاتلك ، فقال : «إن فقههم قليل والشيطان ينطلق على ألسنتهم» أو قالوا : أتيناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان ، فأعطنا من الصدقة ، وجعلوا يمنون عليه فأنزل الله هذه الآية والتى تليها ، قال : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٧) (الحجرات). وسواء نزلت الآية فى هؤلاء من بنى أسد ، أو فى أعراب مزينة وجهينة وأسلم وغفار والدّيل وأشجع ، ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم ، فلما استنفروا تخلّفوا ، فإن هذه الآيات عامة يقصد بها المنافقون الذين يظهرون الإيمان ولم تؤمن قلوبهم ، فحقيقة الإيمان : التصديق بالقلب ؛ وأما الإسلام : فحقيقته قبول ما أتى به النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفى الحديث عند البخارى : «بنى الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والحجّ ، وصوم رمضان» والمراد بالشهادة تصديق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما جاء به. وصحة الإسلام لا تقوم إلا بالإقرار بالتوحيد. والإسلام لغة هو الطاعة والانقياد ، وفى الحديث فإن حاصل الإسلام شرعا هو الأعمال الظاهرة ، والتلفّظ بالشهادة ، والإتيان بالواجبات ، والانتهاء عن المنهيّات. والإسلام والإيمان متلازمان فى المفهوم ، سوى أن الإسلام علانية ، والإيمان فى القلب. أو أن الإسلام والإذعان مترادف ، لأن الإسلام هو الخضوع والانقياد للأحكام ، أى قبولها والإيمان بها ، وذلك نفسه حقيقة التصديق ، ومن ثم فإن الإسلام والإيمان يترادفان ، وكلما أفرد أحدهما دخل فيه الآخر ، ودلّ انفراده على ما يدل عليه الآخر ، وإن قرن بينهما تغايرا.

وأصل الإسلام : أن المسلم هو الذى يحفظ الشيء سالما بتجديده وصيانته ، أى صيانة التوحيد ، وتجديد الإيمان بالله الواحد. وفى التصوف الإسلامى : المسلم هو المستسلم لله ، والمسلم نفسه لله.

والخلاصة : أن الإسلام هو خلوص العقيدة. غير أن مفهومه كان دائم التطور مع

٣٥١

الاستعمال ، فشمل القول بالإسلام الأصول الاعتقادية والفروع العملية. والأصول يقينيه ، والفروع ظنية ، والآراء فى المعتقدات تسمى مذاهب ، وكل أصحاب المذاهب وأتباعهم يعتقدون أنهم على صواب يحتمل الخطأ ، وغيرهم على خطأ يحتمل الصواب ، وقد يرى البعض أن الحقّ يتعدد فى المسائل الاجتهادية.

والإسلام يفرّق بين الجاهلية والعالمية ، فقبل الإسلام كان العرب فى بداوة جاهلية ، وبعده صاروا إلى حضارة عالمية.

* * *

٤٠٩. الدين واحد والفرق كثيرة

كان الناس أمة واحدة ، أى على دين واحد ، أو رأى واحد ، اجتمعوا عليه وأخذوا به : أنه لا إله إلا الله ، يقول تعالى : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (٩٢) (الأنبياء) فاختلفوا وتفرّقوا ، لمّا تباين فهمهم ، وعند ما تشعبت مفاهيمهم ، فقال تعالى : (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) (٩٣) (الأنبياء) ، يعنى تفرّقوا ، وادّعى كل منهم أنه على الحق وغيره على الباطل. وقوله «تقطّعوا» يعنى جعلوا ما كان واحدا قطعا صغيرة ، وقنع كل واحد بقطعة بعد أن كان معه الكل ، فالموحّد هو من معه الكل ، واليهودى والنصرانى ، أو المجوسى ، أو الصابئ ، إلخ ، كلّ منهم قد اجتزأ جزءا واعتقد أن معه كل الصواب ، بل أن النصارى مثلا اختلفوا فيما بينهم فصار منهم الأرثوذكسى ، والكاثوليكى ، والبروتستانتى إلخ ، وكفّر بعضهم البعض وكل هؤلاء مآلهم فى النهاية إلى الله فيقضى بينهم فيما فيه يختلفون. والآية عامة ، والحق ليس فى الدين وحده ولكنه فى كل شىء ، والتباين فيه قد يكون ظاهرة صحية ، وقد يجلّيه ، غير أن هناك اختلافا وليس تباينا ، وفيه يكون الصراع والحرب والمكيدة.

* * *

٤١٠. كان الناس أمّة واحدة

لمّا نزل آدم إلى الأرض عمرت بالبشر ، وكانوا أمة واحدة ، وقيل كان ذلك بعد نوح ، وكانوا على الإسلام لله ، ثم بعد وفاة نوح اختلفوا ، فبعث الله النبيين ، يقول تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) (البقرة ٢١٣) ؛ وقيل : كان الناس أمة واحدة فى خلّوهم من الشرائع ، وجهلهم بالحقائق ، لو لا أن منّ الله عليهم بالنبيين ؛ وقيل : كان النبيّون كثرا ، وقيل : جملتهم مائة وأربعة وعشرون ألفا ، ولا ندرى مصدرا لهذا العدد ؛

٣٥٢

وقيل : الرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر ، وما من مصدر لهذا العدد أيضا ، والمذكورون فى القرآن بالاسم خمسة وعشرون ، أولهم آدم ، وقيل : نوح ، وقيل : إدريس ؛ وكان لكل رسول كتاب أو وصية ، واختلفت الأمم والشرائع بغيا بينهم ، إلا أمة محمد ، وذلك لأن كتابهم ظل بلا تغيير ، فى الوقت الذى حرّفت فيه الكتب الأخرى. وقيل إن الأمم كذّبت بعضها البعض ، إلا أمة محمد ، فإنها تصدّق بها جميعا. وقيل : إن الله هدى أمة محمد لمّا ضل الآخرون ، فاليهود قالوا : نحن أصفياء الله ؛ وصحّح ذلك مع أمة محمد ، فقال تعالى : إن أصفياءه هم المتقون ، ولا فرق بين أعجمى وعربى إلا بالتقوى ؛ والنصارى قالوا : المسيح ابن الله ، ولقد خلّصنا من كل خطايانا ، فلا أحد منا إلا ويدخل الجنة ، فصحّح الله تعالى ذلك مع أمة محمد فقال : إنه تعالى لا ولد له ولا زوجة ، وأنه لا يدخل الناس الجنة إلا أعمالهم ، وأن المسيح عبد من عباد الله آتاه النبوة ، فذلك هو الحق الذى أعطاه الله تعالى أمة محمد وهداهم إليه.

* * *

٤١١. الإسلام هو الخضوع والانقياد لله

فى قوله تعالى لإبراهيم : (أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (البقرة ١٣١) : أن الإسلام : هو إخلاص الدين لله بالتوحيد. «وأسلم» يعنى اخضع واخشع. وما جرى لإبراهيم فى إسلامه ينفرد به القرآن دون التوراة ، فليس من ذلك شىء فى التوراة. والإسلام فى كلام العرب : هو الاستسلام. وإسلام إبراهيم لذلك على أتم وجوهه ، لأنه استسلام لله. وليس كل إسلام إيمانا ، وليس كل إيمان إسلاما ، لأنه من يؤمن يستسلم لله ، ولكن ليس كل من يستسلم يؤمن ، فلربما يبدى الإسلام نفاقا ، أو لغرض كالزواج من مسلمة ، أو خوفا على حياته ، فلا يكون ذلك إيمانا. وفى الآية : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) (الحجرات ١٤) ، فأخبر أنه ليس كل من أسلم مؤمنا. ولما قال سعد بن أبى وقّاص للنّبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أعط فلانا فإنه مؤمن. قال له : «أو مسلم؟» الحديث ، (يعني أو مسلم هو؟) فدلّ على أن الإيمان ليس الإسلام ، لأن الإيمان باطن ، والإسلام ظاهر. ومع ذلك فقد يطلق الإيمان بمعنى الإسلام ويراد به الإيمان ، للزوم أحدهما الآخر. وصدوره عنه ، كقوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) (آل عمران ١٩).

* * *

٤١٢. أسلمت لربّ العالمين وصية إبراهيم

لما قال الله تعالى لإبراهيم : «أسلم» قال : (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (البقرة ١٣١) ، فكان

٣٥٣

الإسلام ميراثه لذريته ، كقوله تعالى : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (البقرة ١٣٢) ، ووصيته كانت بقوله : (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) ، فوعظهم أن يقولوا «أسلمنا». وقوله وصّى فيه تكثير ، فظل يردد عليهم ذلك ويكثر من التوصية. وفى الآية أن يعقوب زاد على إبراهيم توصيفا لهذا الدين ، أنه الإسلام : الدين الصافى المصفّى ، أى الخالص من كل شائية ، والمستصفى ، أى المختار لصفاته من أى شرك. وقوله «فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون» إيجاز بليغ وفيه جماع الخير كله ، والمعنى : الزموا الإسلام ، وداوموا عليه ، ولا تفارقوه حتى الموت ، والخطاب توجيه يتضمن الوعظ والتذكير بالموت ، وأن تكون ملازمتهم للإسلام من وقت أن أمرهم به دائبا ، فلا يفاجئهم الموت إلا وهم مسلمون. وهذا الكلام عن إسلام إبراهيم ووصيته إلى بنيه لا شىء منها فى التوراة ، والاهتمام فى التوراة ليس بالدين وإنما بتاريخية شعب اليهود.

* * *

٤١٣. وصية يعقوب بالإسلام

وفى الآية : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة ١٣٣). رصد دينى لمشهد موت يعقوب ، والاهتمام فيه بالملّة وليس بشيء آخر ، على عكس ما يرد من ذلك فى سفر التكوين ، الفصل التاسع والأربعين : أن يعقوب أوصى بنيه ، أن كل واحد منهم ، بحسب شخصيته يكون نصيبه من الدنيا ، وباركهم وأوصاهم أن يدفنوه فى القبر الذى دفن به إبراهيم وسارة وإسحاق فى مكفيلة من أرض كنعان : «فلما فرغ يعقوب من وصيته لبنيه ضم رجليه على السرير وفاضت روحه وصار إلى قومه (تكوين ٤٩ / ٢٩) ، فالاهتمام بهم كجماعة وليس بالدين ، ولاحظ قوله «وصار إلى قومه» وليس «وصار إلى الله»؟! ولا نجد من مؤلف التوراة فى موقف الموت أى اهتمام بالديانة وماهيتها ، وأما فى القرآن فالقضية مختلفة تماما ، والاهتمام منصب على الدين دون غيره. والآية القرآنية ليست للتأريخ ليعقوب ، ولكنها لتصحيح الفكرة عن يعقوب كما يطرحها التوراة ، ثم إنّ أى قصة ترد فى القرآن إنما هى للوعظ والتفكّر والتدبّر ، والآية احتجاج على يهود المدينة : بأن يعقوب لما حضرته الوفاة ، قد ذكر قومه ولم يذكر الله ، ووصيته لا يمكن أن تكون وصية نبىّ. وكاتب التوراة نسى هذه الحقيقة ، ولم يذكر سوى أن يعقوب مؤسس أمة يقال لها بنو إسرائيل. فلما كانت بعثة محمد ذكر اليهود بالرسالة وهى التوحيد ، وفى الآية القرآنية خير تذكير ، والتوحيد هو فحوى شهادة الأنبياء ومضمون كلامهم. وقول أولاد

٣٥٤

يعقوب : «ونحن له مسلمون» تأكيد على أصل رسالة محمد ، وأنها الإسلام ، جعله الله الدين : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (٨٣) (آل عمران ٨٣) ، (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) (النساء ١٢٥) ، فكان الإسلام إذن ديانة إبراهيم ، ثم ديانة إسماعيل وإسحاق ويعقوب بوصية أبيهم إبراهيم ، ثم بوصية يعقوب. والتذكير لليهود فى المدينة ربما يفيد. ولم يدع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا بالتوحيد ، فلما ذا ينكرونه؟ والشرائع قد تتباين ولكن الملة واحدة عند كل الأنبياء ، وهكذا كانت عند الآباء : إبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، والأسباط ، وهى كذلك عند محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إسماعيلىّ من نسل إسماعيل ، فهو من النسل الكريم ، والدعوة ما تزال فى سلالة إبراهيم الذى جاء فيه قوله تعالى : (أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) (الأنعام ١٤). وفى الحديث : «نحن معشر الأنبياء أولاد علّات ، ديننا واحد» ، وأولاد علّات : بنو أمهات شتى ، والعلّة هى الضّرّة ، والجمع علّات ، سميت كذلك لأنها تعل بعد صاحبتها ، والمقابل لأولاد أو بنى العلّات : أولاد أو بنو الأخياف ، أى أمهم واحدة والآباء شتى ، يقال : خيّفت المرأة بأولادها ـ أى جاءت بهم أخيافا ، من آباء شتى. وقول النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الأنبياء أولاد علّات ودينهم واحد» هو قول موجز معجز ويلخص قضية الكلام فيها يطول. فلما ذكر القرآن ليهود المدينة أصل التوحيد ثنّى فقال تعالى : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (البقرة ١٣٤) ، فنبّههم إلى أن انتسابهم لأسلافهم لن ينفعهم إذا لم يظهروا الإيمان ويفعلوا الصلاح ، فالأسلاف أمة ، ويهود المدينة أمة ، ولكل أمة أعمالها ، ولا يسألون عن أعمالهم ، فما جدوى أن ينسبوا أنفسهم لإبراهيم ويعقوب دون أن يظهروا بأعمالهم أنهم مؤمنون؟ وفى الأمثال : «من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه». واليهودية والنصرانية ليستا فى الحقيقة ملّة ، كردّه تعالى عليهم فى الآية : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (البقرة : ١٣٥) ، يعنى : يا أيها اليهود والنصارى : إن التعلّل باليهودية أو النصرانية كمنجاة لن يفيد ما لم تكونوا على الملّة الصحيحة : ملة إبراهيم وهى الحنيفية ، وما كان إبراهيم مشركا كشرككم. فهذه إذن وصية يعقوب من بعد إبراهيم ، وهى وصية محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بعد الآباء.

* * *

٤١٤. الحنيفية ملة إبراهيم هى الإسلام

لم تكن اليهودية ولا النصرانية ديانة إبراهيم كقوله تعالى : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (البقرة ١٣٥) ، وكان اليهودى

٣٥٥

عبد الله بن صوريا يقول للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما الهدى إلا ما نحن عليه ، فاتّبعنا يا محمد تهتد! وقالت النصارى مثل ذلك ، فأنزل الله الآية ، بطريقة الحوار الذى هو منهج القرآن فى التعليم والتعلّم ، على شكل سؤال وجواب ، والسؤال هو دعوتهم إلى اليهودية أو النصرانية ، والجواب : هو دعوة مضادة للعودة إلى دين الآباء الذى هو ملة إبراهيم ، سمّى حنيفا لأنه حنف إلى دين الله وهو الإسلام. والحنف : هو الميل ، ومنه رجل حنفاء ، ورجل أحنف ، وهو الذى تميل قدماه كل واحدة منهما إلى أختها بأصابعها. والحنف إذن : هو الاستقامة ، وسمّى المعوج الرجلين أحنف تفاؤلا بالاستقامة ، كما يقال للمهلكة : المفازة. وإبراهيم الحنيف لذلك : هو المائل عن دين الضلال إلى دين الحق ؛ والحنيفية : هى الديانة التى اشتهرت منسوبة إلى إبراهيم أبى الأنبياء ، وهى الإيمان بما جاء به ودعا إليه ومن سبقه وخلفه من الرسل ، من أولهم إلى آخرهم.

* * *

٤١٥. الحنيفية ديانة الفطرة

يقال للمؤمن : الحنيف ، والجمع حنفاء كقوله تعالى : (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ) (البينة ٥) ، أى مائلين عن الأديان كلها إلى الإسلام ، والتحنّف إلى الإسلام هو الميل إليه كقوله : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (الروم ٣٠) ، والدين الحنيف : هو فطرة الله التى فطر الناس عليها ، وسميت الفطرة دينا لأن الناس خلقوا ليعبدوا الله ، كقوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات ٥٦) ، والعبادة ديانة ، وأنت لن تعبد إلا ما تعرف ، والعبادة معرفة أولا ، ومستحيل أن تعرف ذات الله ، أو تعرف الله ، ولكن يمكنك أن تعرف «عن» الله ، و «عن» أوصافه ، والمعرفة «عنه» تكون بتتبع مخلوقاته وإبداعاته ، وباستكناه أسبابه فى الكون.

«وإقامة الوجه للدين حنيفا» يعنى أن تتوجه بجميع حواسك إلى هذه المعرفة التى هى حق ، فالحنيفية ميل عن الضلال إلى الحق ، وهى ملّة المؤمنين.

* * *

٤١٦. صبغة الله الإسلام

وفى الآية : (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) (البقرة ١٣٨) سمّى الدين صبغة ، من حيث تظهر أعماله وسمته على المتديّن ، كما يظهر أثر الصبغ فى الثوب ، ومثلما يقال الدين فطرة الله ، فكذلك هو صبغة الله. وصبغة فى الآية منصوبة على تقدير «اتّبعوا» أو «الزموا» ، ولو قرئت بالرفع لجاز. واليهود والنصارى يولد لهم ، فيصبغون

٣٥٦

أبناءهم يهودا أو نصارى ، أى يطبّعونهم ، وأما «صبغة الله» فهى الإسلام ، لأنه دين الفطرة ، فكان ابتداء الخلق بالإسلام : يستسلمون لله. وأصل استخدام اصطلاح «صبغة» ، أن اليهود والنصارى كانوا يصبغون أولادهم فى الماء ، وهو ما يسمونه المعمودية بمختلف اللغات : Baptismus; baqtismos; baptism; baptisme; ، ثم آلت المعمودية للنصارى دون اليهود ، وكان هؤلاء وهؤلاء يقولون إن المعمودية تطهير للأبناء ، والنصارى يفعلون ذلك بعد سبعة أيام من الولادة ، بغمس الطفل فى الماء : ماء المعمودية ، فيطهّر به ، فإذا فعلوا ذلك صار الطفل نصرانيا حقا ، فردّ الله تعالى ذلك بأن الماء لا يطهّر طفلا فيجعله على دين معين ، وأن الإيمان بالدين يكون فى الرشد ، وجعل الإيمان فى الإسلام بنطق الشهادة لمن بلغ سن النضج ، فمن أراد الإسلام فليقل : «لا إله إلا الله» فهذه هى الصبغة ، وقوله لا يصح منه إلا إذا رشد وصارت له الإرادة ، وأصبح له الاختيار ، ومن ثم انتهت الآية بقوله : (وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) (البقرة ١٣٨) ، حيث العبادة لا تكون إلا عن فهم ووعى ورشد ، وبعد النطق بالشهادة.

* * *

٤١٧. الله تعالى سمّى المسلمين

فى قوله تعالى : (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) (الحج ٧٨) : أنه تعالى سمّى المسلمين بهذا الاسم ، وأجراه على لسان الأمم (الأعراف ٢١٦ ، والأنبياء ١٠٨ ، والمائدة ١١١ ، والجن ١٤) ، وحتى فرعون شهد بأنه من المسلمين (الأعراف ٩٠) ، ودعا إبراهيم وإسماعيل ربّهما أن يجعلهما مسلمين له ، ومن ذريتهما أمة مسلمة له (البقرة ١٢٨). غير أن سبق التسمية «بالمسلمين» كان لأمة محمد ، وكان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أول المسلمين» ، قال : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام ١٦٣). ومعنى قوله تعالى : (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) (الحج ٧٨) : أنه أعطاهم هذا الاسم قبل أية أمم أخرى ، فلم يكن لأتباع أى نبىّ اسم إلا أتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يذكر أى كتاب سماوى اسما لاتباع ديانة هذا الكتاب إلا القرآن ، وقبل القرآن لم يأت ذكر لاسم أية ديانة. وفى القرآن أيضا ورد لأول مرة اسم الإسلام : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) (آل عمران ١٩).

* * *

٤١٨. الإسلام يعولم الديانة

الديانة العالمية هى دعوة المسلمين والإسلام ؛ وعالمية الإسلام توجزها الآية : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى

٣٥٧

وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة ١٣٦) ، والخطاب فيها لأمة الإسلام ، يعلّمهم ربّهم الإيمان ، وكما فى الشعار «الدين لله» ، فإن الإيمان هو التصديق بكل الأنبياء والرسل الداعين إليه تعالى ، وعن ابن عباس أنه جاء إلى النبىّ نفر من اليهود يسألونه عمن يؤمن به من الأنبياء ، فنزلت الآية تعولم الدين globalizing religion ، أى تجعله واحدا وعالمياuniversal ؛ قيل : البراهمة أتباع إبراهيم ؛ والسماعلة : أتباع إسماعيل ؛ والأساحقة : أتباع إسحق ؛ واليعاقبة أو الإسرائلية أتباع يعقوب أو إسرائيل ؛ والموسوية أتباع موسى ؛ والعيسوية أو النصارى أو المسيحيون : أتباع المسيح عيسى الناصرى ؛ فأما أتباع محمد : فهم الذين يؤمنون بالله ، وما أنزل إلى محمد ، وإلى إبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، والأسباط ، وما أوتى موسى وعيسى وسائر النبيين ، لا يقدّمون أحدا منهم على أحد ، ولا يعلون أحدا منهم على أحد ، وهم المسلمون لله ، ودينهم لذلك جماع كل الديانات السابقة ، ويوجزها ويحيط بها ويختمها ، وهو الإسلام ، ونقول : إن الإسلام يعولم الديانات ، أى يجعلها ديانة واحدة ، عالمية ، وجامعة شاملة ، ويجعل إلهها واحدا.

* * *

٤١٩. أمة الإسلام شهداء على الناس

فى الآية : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة ١٤٣) أن أمة الإسلام تتوسط الأمم ، فهى بين اليهودية التى قصّرت ، وبين النصرانية التى فرّطت ، ولذا كانت هى الأمة التى يمكن أن تشهد فى الآخرة على غيرها من الأمم ، كما أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكون هو الشاهد على أمة الإسلام. وعن أنس أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّت به جنازة ، فأثنى الناس على صاحبها خيرا فقال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وجبت» ثلاث مرات ؛ ثم مرّت جنازة فأثنوا على صاحبها شرّا ، فقال : «وجبت» ثلاث مرات ، ثم قال : «أنتم شهداء الله فى الأرض» قالها ثلاثا : «من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة ، ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار» ، وتلا قوله تعالى : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة ١٤٣). وقال : «أعطيت أمتى ثلاثا لم تعط إلا الأنبياء : كان الله إذا بعث نبيا قال ادعنى استجب لك ، وقال لهذه الأمة : ادعونى استجب لكم ؛ وكان الله إذا بعث نبيا قال له : ليس عليك فى الدّين من حرج ، وقال لهذه الأمة : وما جعل عليكم فى الدّين من حرج ؛ وكان الله إذا بعث نبيا جعله شهيدا على قومه ، وجعل هذه الأمة شهداء على الناس». أخرجه الترمذى. فإن كانت أمة الإسلام آخر الأمم فى المجيء إلا أنها أول الأمم فى الأفضلية ، وكما قال

٣٥٨

بلسانها النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نحن الآخرون الأولون». والقول بشهادة هذه الأمة الوسط ، لأن وسطيتها تعنى عدولها ، ولا تكون الشهادة إلا للعدول من الناس ، أى المعروف عنهم العدل ، وبإجماعهم ، يعنى أن يشهد ثقات العصر ككل على من بعده من العصور ، فقول الصحابة حجّة على التابعين ، وقول التابعين حجّة على من بعدهم ، وهكذا.

* * *

٤٢٠. أركان الإسلام الخمس

فى الحديث عند البخارى عن ابن عمر : بنى الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والحج ، وصوم رمضان» وهذه الخمس هى الأركان ، أو الأصول ، وتستفاد من الآيات المتناثرة فى القرآن ، كقوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) (آل عمران ١٨) ، وقوله : (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) (المنافقون ١) ، وقوله : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) (إبراهيم ٣١) ، وقوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) (البقرة ٤٣) ، وقوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) (البقرة ١٨٣) ، وقوله : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (آل عمران ٩٧). والركن الأول هو أهمها جميعا ، لأن الأربعة الأخرى سواه مبنية على الشهادة ، فلا يصحّ شىء منها إلا بعد الشهادة ، ومجموعها غير من حيث الانفراد ، وهى عين من حيث الجمع ، ومثال ذلك بيت الخيمة ، يجعل على خمسة أعمدة ، أحدها أوسط ، والبقية أركان ، وما دام الأوسط قائما فمسمى البيت موجود ولو سقط مهما سقط من الأركان ، فإذا سقط الأوسط سقط مسمى البيت ، فالبيت بالنظر إلى مجموعه شىء واحد ، وبالنظر إلى أفراده أشياء ، والأساس فيه يسمى الأسّ ، وغير الأساس هو الأركان ، وهى تبع وتكملة. والمراد بالشهادة : تصديق الرسل فيما جاءوا به ، فيستلزم جميع ما ذكر من المعتقدات ، كالجهاد فى سبيل الله ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وعمل الصالحات ؛ واقتصاره على هذه الخمس من باب تسمية الشيء ببعضه ، كما تقول قرأت الحمد وتقصد الفاتحة ، أو تقول : شهدت بمحمد وتريد جميع ما ذكر. وإقامة الصلاة تعنى المداومة عليها ، أو مطلق الإتيان بها ؛ وإيتاء الزكاة إخراج جزء من المال على الوجه المخصوص لذلك ؛ والحج : قدّم فى الحديث على الصوم ، وعند مسلم قدّم الصوم على الحج ، ولما قال رجل لابن عمر : والحج وصيام رمضان ، قال له : لا ، «صيام رمضان والحج» ، هكذا سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والخلاصة : أن الحديث يخصص عموم مفهوم السنّة بخصوص منطوق القرآن ، فمن يباشر ما عدّده الحديث فإسلامه صحيح ، ومن لم يباشره لم يصحّ إسلامه ، وهذا العموم

٣٥٩

مخصوص بقوله تعالى : (وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ) (الطور ٢١) ، وبقوله : (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) (آل عمران ٣٤).

* * *

٤٢١. الإسلام : أيّه أفضل؟ وأيّه خير؟

فى الحديث عن ابن عمرو أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» رواه البخارى ، وقيل الألف واللام فى المسلم : للكمال ، كقولنا : «زيد الرجل» أى الكامل الرجولة. وفى الحديث : أن من يسلم الناس من لسانه ويده ـ مع مراعاة باقى أركان الإسلام ـ فهو من أفضل المسلمين ؛ أو أن من علامات المسلم التى يستدل بها على إسلامه أن يسلم الناس من لسانه ويده ؛ أو أن الحديث تنبيه إلى أن من يحسن التعامل مع الله فأولى به أن يحسن معاملة الناس. والحديث يخصّ المسلمين بهذه المعاملة الكريمة من المسلم ، لأنه وقت الرسول كان الكفار يؤذون المسلمين ولم يكفّوا عن إيذائهم ، فقصر القول على المسلمين دونهم ، وفى غير ذلك فإن الحديث عام ويشمل الناس جميعا ومنهم المسلمون. والإتيان بجمع التذكير فى الحديث لا ينفى شموله للمسلمات وللنساء جميعا ، وليس اقتصاره على جمع التذكير إلا للتغليب ، حيث الذكور أكثر من الإناث دائما. واختصاص اللسان بالذكر لأنه المعبّر عمّا فى النفس ، وكذلك اليد دون بقية الجوارح لأن أكثر الأفعال بها. واللسان يقول فى الماضين والموجودين والحادثين ؛ واليد تشارك اللسان بالكتابة ؛ وقد يضرب بها صاحبها دفاعا عن نفسه أو زودا عن حق ؛ وقد يخرج المرء لسانه دون القول استهزاء ؛ ومن معانى اليد المعنوية الاستيلاء على حق الغير. وفى معنى «المسلم المهاجر» أن الهجرة ضربان : ظاهرة وباطنة ، فالباطنة هى ترك ما تدعو إليه النفس الأمّارة بالسوء ، والظاهرة هى أن يفر المرء بدينه فرار المسلمين الذى هاجروا من مكة إلى المدينة ، أو فرارهم عموما بدينهم من الفتن أيا كانت. والحديث ينبّه إلى أن حقيقة الهجرة تحصل لمن هجر ما نهى الله عنه. وفى رواية أخرى عند ابن حبان : «المهاجر من هجر السيئات ، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده» ، والمراد «بالناس» هنا كل الناس ، مسلمين وغيرهم ، وإن كان الإطلاق يحمل عادة على الكامل وهم المسلمون ، لأن الكمال فيهم ، والأولى أن يحمل المعنى على العموم.

وفى رواية أخرى للحديث عند البخارى ومسلم عن أبى موسى ، وعن أبى ذر عند ابن حبّان ، قال : قالوا : يا رسول الله ـ أىّ الإسلام أفضل؟ قال : «من سلم المسلمون من لسانه ويده» ، فبحسب الجواب فإن سؤالهم كان : أى المسلمين أفضل؟ لأنه فى الإسلام

٣٦٠