موسوعة القرآن العظيم - ج ١

دكتور عبد المنعم الحفني

موسوعة القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

دكتور عبد المنعم الحفني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
ISBN: 977-208-442-2
الصفحات: ١٢٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

والحوت ، فهذه اثنا عشر برجا تكوّن معا ما يسمى بالفلك. وأصل البروج الظهور ، ومنه تبرّج النساء ، وسميت بها المنازل لأنها تظهر فى السماء ، ومن منافعها معرفة مواقع النجوم وأبوابها من أجل العلوم. وتزيين السماء بالنجوم ، وهى مصابيح تسرّ الناظرين ، وذكرى للمعتبرين والمتفكرين ، وحفظا من الشياطين ، أن يسترقّوا السمع فيرجمون بالحجارة عقابا وصدّا لهم.

* * *

٣٤١. اسمه تعالى «الله» ليس له سمّى

فى الآية : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (٦٥) (مريم) أنه تعالى ربّ كل شىء ومالكه ، لأنه خالق كل شىء ، فكما إليه تدبير الأزمان كذلك إليه تدبير الأعيان ، ولا يمكن صرف ذلك إلا إليه تعالى ، المتفرّد باسمه «الله» ، والمستحق للعبادة والصبر عليها ، فهل يعلم أيّنا أحدا سمّى باسم الله ، أو يقال له الله ، إلا هو؟

* * *

٣٤٢. الله هو اسمه تعالى الأعظم

الاسم «الله» هو رأس الأسماء الربّانية جميعها ، وهو علم على ذات الحق ، وجامع لكل صفات الجلال والكمال ، وهو اسمه الأعظم ، لأنه الذى استفتح به فقال : (بِسْمِ اللهِ) (الفاتحة ١ ، وهود ٤١ ، والنمل ٣٠) وذكر أنه إذا دعى به أجاب : (ادْعُوا اللهَ) (١١٠) (الإسراء) ، وإذا سئل أعطى ، كقوله : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٢٩) (الرحمن) ، ولم يوجد من سمّى به سواه ، كقوله : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (٦٥) (مريم). وهو اسم يوصف بكل الصفات ولا توصف به الصفات ، فلا يقال مثلا : «الرحمن الرحيم الله» ، وإنما يقال : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، وفى التنزيل : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) (٢٢) (الحشر) ، فأجرى الأسماء ـ التى هى صفاته ـ بعد اسمه الله كصفات له ، كما قال : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (٨) (طه) ، فالأسماء الحسنى تصفه ولا يصفها.

والاسم «الله» من الجوامد ، يعنى ليس له اشتقاق ، وقيل مشتق من : أله ، يأله ، ألوهة ، والجمع آلهة ، وإله. وقيل مشتق من ألهت إلى فلان ، أى سكنت إليه ، فهو الله لأن العقول لا تسكن إلا إلى ذكره تعالى ، فهى تأله إليه ، وهو لذلك الله ، كقوله تعالى : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (٢٨) (الرعد). أو أنه الله لأن له الإلهية ، ويستحق نعوت الجلال ، فإذا قلنا

٣٠١

«بسم الله» نقصد باسم من تفرّد بالقوة والقدرة ، فبسماعنا لاسمه تعالى «الله» ندرك معنى الإلهية ، فنستشعر الهيبة والاصطلام. وإذا تكلمنا فى اسمه تعالى ، فإنه تعالى ليس مجرد اسم ، وإنما هو موجود بذاته ، ونعرفه بأفعاله ، وبالعقل والمنطق عن أهل العلوم والحكمة ، وبالنقل عن الأنبياء ، وبالدلائل أو الحجج أو البراهين على وجوده وجودا عينيا وليس وجودا اسميا اصطلحنا على تسميتها باسم دلائل أو حجج أو براهين وجود الله ـ عن العلماء ؛ وهى علم قائم بذاته. واسمه الله يتردد فى القرآن ٢٦٩٧ مرة ، وأفعاله وآياته الدالة على وجوده عينيا لا تعد ولا تحصى. ومن صفات الاسم «الله» سهولته فى النطق وفى التذكّر ، وجرّبت ذلك بنفسى على طلّاب من الجامعات فى موسكو وفرانكفورت وباريس ولندن ونيويورك وروما ، فكان تذكّرهم للاسم ونطقهم له من أسهل الأمور عليهم ، وكان يعسر نطق الاسم التوراتى «ألوهيم» وهو المقابل العبرى لاسم الله العربى ، وفى ذلك بيان بفضل العربية على العبرية ، فكان اختياره تعالى للعربية لغة للقرآن لصفات فيها ليست فى العبرية ، ولهذا لم تتنزّل التوراة من الله مباشرة وإنما كتبها الكتبة ، وكذلك الأناجيل ، فأما القرآن فكان نزوله مباشرة من الله ، وكان حفظه منه تعالى ، لأنه كلامه المباشر ، ومن ثم فالدعوة فيه لله وليست لشعب اليهود كالتوراة ، وليست للمسيح كالأناجيل ، وهذا دليل ثبوتى على أن القرآن من عند الله. ولأن الله فيه يدعو لنفسه فكثر اسمه تعالى فى القرآن حتى بلغ هذا العدد الكبير الذى له فيه ، وبالمقارنة لم يزد عدد مرات المذكور من اسمه تعالى العبرى «ألوهيم» فى التوراة عن مائة وخمسين مرة أو نحو ذلك ، وتكاد الأناجيل يكون مدارها على اسم المسيح وقلما يذكر اسم الله ، والسبب أن التوراة ينصبّ فيها التأليه لشعب إسرائيل وليس لله ، وكذلك فإن الأناجيل لم تكن تحفل بذكر الله وإنما دعوتها للمسيح. وكذلك يرد فى التوراة اسم «يهوه» أكثر من اسم «ألوهيم» ، و «يهوه» ، يعنى «هو» يشيرون بها إلى الله تعالى بضمير الغائب ، وفى القرآن مثل ذلك كما فى قوله تعالى : (وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) (القصص ٧٠) ، و (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) (٢٢) (الحشر) ، والفرق فى العبرية بين «ألوهيم» وبين «يهوه» ، أن «ألوهيم» تعنى «ربّ العالمين» أى ربّ الأمم أو ربّ الأغيار ، و «يهوه» ، تعنى «ربّ اليهود» ، تمييزا له عن ربّ الأمم أو ربّ العالمين. وكذلك يرد اسمه تعالى فى العبرية «أدوناى» بمعنى «ربّنا» أو «ربّى» ، فإن أردت أن تشير إليه باعتباره «ربّ الناس» قلت «ألوهيم» ، وإن أردت الإشارة إليه «كربّ بنى إسرائيل» فهو «يهوه» ، وإن أردت أن تدعو به لنفسك أو تدعوه به جماعة ، تقول «أدوناى». «وصوفية المسلمين» الذين هم على علم بهذه الأسماء العبرية : «ألوهيم» و «يهوه» و «أدوناى» يعظّمونها ، وعندهم «الهو»

٣٠٢

الغير ، وفى حق الله هو إشارة إلى الله ذاته ، ويقولون «هو بلا هو» يعنى أنه المتفرّد المتوحّد ، وكأنما الذى يكتب أو يقول : «هو» لا يقولها نطقا ولا يكتبها أحرفا ، بالهاء والواو ، وإنما يكتبها أو ينطقها إشارة ، يقصده تعالى بها بدون حاجة إلى التنبيه إليه باسم أو حرف ، ومن ذلك تشتق «الهوية» : ، وهى الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة فى الغيب المطلق. فشتّان إذن بين مفهوم اليهود من قولهم «هو» ، ومفهوم متصوّفة الإسلام ، وهوية الحق عند متصوفة المسلمين هى عينه التى لا يمكن ظهورها إلا باعتبار جملة الأسماء والصفات ، فكأنها إشارة إلى باطن الأحدية. وفى القرآن فإن الإشارة إلى اسم الله تعالى تأتى بضمير الغائب «هو» تعبيرا عن مضمون اسمه تعالى «الله» ، وعلى ذلك فقوله تعالى (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) (٢٢) (الحشر) تنبيه إليه تعالى باعتبار اسمه «هو» مرة ، وباعتباره «الله» مرة ، فإن أردناه تعالى كهوية أو كمعنى باطن ، قلنا «هو» ، وإن أردناه كعلمية قلنا «الله» ، «فالله» هو الاسم المستحق لصفات الإلهية التى نعلمها ، وما لا نعلمه منها فاسمه «هو» ، ويقابل ذلك فى العبرية «ألوهيم» و «يهوه». واسم «الله» على ذلك من أسماء الأعلام ، لأنه مظهر الربوبية ، واسم «هو» باطن الربوبية. والاسم «الله» ينطق خماسيا ، مع أنه فى الكتابة رباعى ، والنطق حاكم على الكتابة ، ولذلك كانت بداية القرآن بقوله تعالى : «اقرأ» ، ولم يقل «اكتب» ، وكتابه المنزّل اسمه «القرآن» ، أى المخصوص للقراءة ، وهو اسمه الشائع وليس الاسم «الكتاب» ، واسم «القرآن» على ذلك حاكم على اسمه «الكتاب». واللطيفة فى الاسم العربى : أن الحرف الأول من اسمه تعالى «الله» المنطوق هو : «الألف الأولى» وتأويلها الواحد فى الحساب ، إشارة للأحدية ؛ والحرف الثانى هو : «اللام» الأولى تلتوى عن الألف فتعطيها جلالا ، والجلال أعلى تجليات الذات وأسبق من الجمال ، وفى الحديث : «العظمة إزارى والكبرياء ردائى» ، ولا أقرب من الرداء والإزار إلى الشخص ، فثبت أن صفات الجلال أسبق إليه تعالى من صفات الجمال ، والحرف الثالث : «اللام الثانية» : تأكيد للأولى ، وإظهار لما فى جلال اللام الأولى من الجمال ، والجمال الظاهر للخلق هو جمال الجلال ، كما أن الجلال الباطن هو جلال الجمال ، والاثنان الجلال والجمال متلازمان فى الاسم «الله» ؛ «والحرف الرابع» هو «الألف الثانية» التى تنطق قراءة وتنسى كتابة ، ولكنها ثابتة فى اللفظ الملفوظ باللسان ، وهى إذن ألف الكمال» ، لأن ثبوت الألف فى اللفظ إظهار للكمال فى ذاته تعالى. والحرف الخامس هو : «الهاء الأخيرة» إشارة إلى الهوية ، أو الهوهو فى قوله : «هو الله». والهوهو الباطن ، وهو الذات ، وهو عالم الغيب. وتستدير الهاء تحوط بالغيب عالم الخلق والشهادة ، إشارة إلى أنه تعالى هو الخالق ، والحافظ ،

٣٠٣

والرحمن ، والرحيم ، والولىّ ، والحميد إلخ ، فتجتمع فى الاسم «الله» كل صفات الألوهية أو الإلهية ، ولا يتحقق هذا الاجتماع إلا لذات واجبة الوجود. والخلاصة أن «الألف» فى الله» بها الابتداء ، و «الهاء» بها الانتهاء ، فهو تعالى «الأول والآخر» ، وقولنا ، «هو» كمقابل لاسمه «الله» ، مقابلة الباطن للظاهر ، فاسمه «الله» إشارة إلى ظاهر الذات ، واسمه «هو» إشارة إلى الذات نفسها ، فذلك تفسير قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) (٣) (الحديد). واعتقاد أهل السنّة فى الله : أنه تعالى واحد أحد ، قائم بنفسه ، ومستغن عن خلقه ، ليس له محل ، ولا مكان ، سميع ، بصير ، ليس كمثله شىء ، ولا يجوز عليه الحدّ ولا النهاية ، قديم ، ليس بجسيم ، ولا بجوهر ، ولا بعرض ، يستحيل عليه الولد والزوجة ، ولا يجوز له الشريك ، ولا الحركة والسكون ، ولا الذهاب والمجيء ، ولا الاجتماع والافتراق ، والقرب والبعد ، والاتصال والانفصال ، والحجم والجرم ، والجثة والصورة ، والحيّز والمقدار ، والنواحى والأقطار ، والجوانب والجهات ، ولا تجوز عليه الحوادث على ذاته ، ولا يجوز عليه النقص ، والآفة ، والكيفية ، والكمية ، والأينية ، وهو حىّ ، قادر ، عالم ، مديد ، وصفاته له ، وموجودة به ، وقائمة بذاته ، وعلمه بكل شىء ، وقدرته فى كل شىء ، وحكمته فى كل شىء. فهذا بعض ما نعرف عن الله ، وعرفناه بالقرآن ، وعايناه بالعقل ، والحمد لله على نعمة القرآن والإيمان والإسلام والعقل ، وعلى أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان نبيّنا ورسوله تعالى إلينا ، وكان معلّمنا ومرشدنا وهادينا.

* * *

٣٤٣. الله والربّ والإله

فى القرآن : (رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١٤) (الكهف) ، يعنى أنه تعالى المالك المتصرف ، والمدبّر لكل أمر فى السموات والأرض ، خلق كل شىء ، ويتعهده ويكفله ، وبنفس المعنى : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) (١٢٦) (النساء) ، (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) (٨٤) (الزخرف). والفرق بين الله والربّ والإله : أن الله علم على الإله المعبود بحق ، وأصله أله ، دخلت عليه أل ، ثم حذفت همزته وأدغم اللامان. غير أن الله لا يجمع ، لأنه لا إله إلا هو ، بينما الجمع لإله هو آلهة ، والإله هو كل ما يتخذ معبودا ؛ وكذلك الربّ تجمع على أرباب وربوب ، من ربّ بمعنى تعهد ونمّى وحفظ وأصلح ، والربّ هو المالك ، والسيد ، والمربى ، والقيّم ، والمنعم ، والمدبّر والمصلح. واسم الله تعالى ينفرد به المسلمون ، وله ما يقابله فى العبرية وهو «ألوهيم» ، بينما الرّب فى العبرية «يهوه». وكان للمصريين آلهة أو أرباب بلغت نحو العشرين ، وفى قول نحو المائة ، ومن أشهرهم رع ،

٣٠٤

وآمون ، وأتون. وكان لليونانيين آلهتهم كذلك ، وكبيرهم ربّ الأرباب زيوس. وفى التوراة فإن آلهة إسرائيل بلغت الخمسين إلها ، ومنهم بعل ، وأدونيا أو أدونيس ، وعشتار. وأرباب النصارى ثلاثة ، ومن أربابهم قديسون ورهبان ، ومن أرباب اليهود أحبار ، والربّ هو الذى يحلّل ويحرّم ، فجعل الرهبان والأحبار لأنفسهم ما لله. وعند استخدام «الله» ـ فالمقصود به «ربّ العالمين» ، فلا ينسب لهذا أو ذاك من الناس أو الأقوام ، على عكس «الرّب» و «الإله» ، فيقال ربّى ، وربّكم ، وربّنا ، وربّ الناس ، وربّ الشعرى ، وربّ العرش العظيم ، وربّ المشارق والمغارب ، وربّ المشرقين ، وربّ المغربين ، كما يقال إلهى ، وإلهنا ، وإلههم. وفى الدعاء : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) (٢٨) (نوح) ، (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) (١٠١) (يوسف). وفى اليونانية الله Theos ، والاعتقاد فى الله Theism ، والرّب Deos ، وفى اللاتينيةDeus ، والربوبيةDeism. وللربّ بمعنى الله كل صفات أو أسماء الجلالة. ومن الربّ تشتق الربّيون والربّانيون ، والفرق بين الاثنين هو أن الربّيين هم العلماء العبّاد المجاهدون ، كقوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) (١٤٦) (آل عمران) ، والربّانيون هم العلماء الراسخون فى العلم كقوله تعالى : (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) (المائدة ٦٣) ، فالربّيون رسالتهم العلم ، وتحقيق التعليم ، والدعوة إلى القتال ؛ والربّانيون رسالتهم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، لأنهم علماء الأمة ، والفرق بين الربّانى والحبر ، أن «الحبر» عالم متضلّع يعيش للعلم ، بينما «الربّانى» عالم متألّه ، سلوكه وفق علمه. والربوبية التى لله شاملة لكافة المجالات التى يكون بها المؤمن مؤمنا يترقّى فى الإيمان ، ليكون من المخلصين الصدّيقين المجاهدين فى سبيل إعلاء دينه وكلمته. وغاية الربوبية تعليمية ، وتربوية ، واجتماعية ، وسياسية ، واقتصادية ، وفكرية ، وعقلية ، ونفسية ، وروحية ، وتتوخى إصلاح البدن ، والعقل ، والقلب ، والنفس ، والروح ، والبيت ، والشارع ، والمصنع ، والحقل ، والمجتمع ، والدولة ، والعالم بأسره ، ويتهيأ بها الإنسان ليكون جديرا بخلافة الله فى الأرض. وربوبية الله فى قوله «ربّ العالمين» ، أنه تعالى هو السيد ، والعالمين جميع المخلوقات. واختصاص هذا الجمع بلفظ «العالمين» لاشتماله على العقلاء والجمادات ، فهو تعالى مالك الأعيان ومنشؤها ، وموجد الرسوم والديار بما فيها. واسم الربّ فيه تربية الخلق ، فهو تعالى مربّى نفوس العابدين بالتأييد ، ومربّى قلوب الطالبين بالتسديد ، ومربّى أرواح العارفين بالتوحيد ، ومربّى الأبدان بوجود النعم ، ومربّى الأرواح بشهود الكرم. والزاهدون يربّيهم بجميل رعايته ، والعابدون يريبهم بحسن كفايته ، والواجدون يربيهم بتقديم عنايته. وفى الدعاء ميّز الله تعالى أمة محمد بأن جعل دعاءهم منهم له مباشرة ،

٣٠٥

كقوله : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (٦٠) (غافر) ، بينما جعل دعاء بنى إسرائيل ، أنهم طلبوا من موسى أن يتوسط لهم عند ربّه ، فقالوا : (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ) (٦٠) (البقرة) ، وفارق بين أمة لها التقريب وتدعو الله مباشرة ، وأمة بوعد بينها وبين ربّها فليس لها إلا الرجاء بالوساطة.

* * *

٣٤٤. الإله الحقّ لا يتعدّد

لا يتعدّد الإله الحق وكل إله يزعم أنه يتعدد فليس بإله ، وفى الآية : (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) (٥١) (النحل) يقتصر النفى على وجود إلهين اثنين ، والمقصود نفى التعدد إطلاقا ، فإنما هو إله واحد ، والواحدية وصف لذاته المقدّسة. والدليل العقلى والشرعى على وحدانيته : هو عجائب صنعه ، فلا بد لها من فاعل أو صانع أو محدث أو خالق لا يشبهه شىء ، وفى قوله «هو إله واحد» إثبات للوحدانية ، على عكس «لا إله إلا الله» ففيها النفى والإثبات معا ، وأولها كفر ، بقوله : «لا إله» ؛ وآخرها إيمان ، بقوله : «إلا الله» ، بينما : «هو إله واحد» كلها إيمان.

* * *

٣٤٥. التوحيد

التوحيد مصدر وحّد يوحّد ، ومعنى «وحّدت الله» اعتقدته متفرّدا بذاته وصفاته ، لا نظير له ولا شبيه ، كقوله تعالى : (قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) (١٩) (الأنعام) ، وقيل : معنى وحّدته : علمته واحدا ، كقوله : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) (١٦٣) (البقرة) ، وقيل : الواحدية تعنى أنه قد سلبت عنه الكيفية والكمية فهو واحد فى ذاته لا انقسام له ، وفى صفاته لا شبيه لا فى إلهيته ولا شريك له فى ملكه وتدبيره ، ولا شريك له ، ولا ربّ سواه ، ولا خالق غيره ، كقوله : (وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) (٥٢) (إبراهيم).

* * *

٣٤٦. لا إله إلا الله

فى «لا إله إلا الله» : نفى قاطع بالألوهية لغير الله ، قيل فى الآية : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) (٨٩) : (النمل) أن الحسنة هى قول «لا إله إلا الله» يوم الفزع ، فمن قالها فقد أحسن. وسأل أبو ذر الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : يا رسول الله : أمن الحسنات : «لا إله إلا الله»؟ قال : «من أفضل الحسنات» ، وفى رواية قال : «نعم ، هى أحسن الحسنات». وقيل الحسنة فى قوله تعالى «من جاء بالحسنة» وذلك يوم القيامة ـ هى الإخلاص والتوحيد. ولمّا اجتمع النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأكابر قريش عند أبى طالب قرب موت أبى طالب ، قال

٣٠٦

لهم : «قولوا لا إله إلا الله تملكوا بها العرب وتدين لكم بها العجم» ، فأبوا وأنفوا ، وفيهم أنزل الله تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) (٣٥) (الصافات) ، وقال : (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) (٢٦) (الفتح) ، وقيل «كلمة التقوى» هى : «لا إله إلا الله» استكبر عنها المشركون يوم الحديبية ، يوم كاتبهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الهدنة ، وأوصى الله تعالى بها نبيّه فقال : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) (١٩) (محمد) ، فأخبر أنه تعالى أعلم بها نبيّه لما علمها استدلالا أولا ، فأعلمه بها يقينا ثانيا. والعلم بها للمسلم أن يذكرها ، عبّر تعالى عن الذكر بالعلم ، لأن الذكر يترتب على العلم ، والذكر عمل ، فإذا علم المسلم وتيقن أنه «لا إله إلا الله» ، فعليه عندئذ بذكره تعالى ، أى بشكره على نعمه والثناء عليه ، وأن يتوجّه بالعبادة له ، ومن العبادة عمل الصالحات وإعمار الأرض. وكما أنه لا إيمان من غير عمل ، فكذلك لا عمل إلا من بعد معرفة وعلم. والكافر لو عرف الله لافتخر بعبوديته له ، ولما استكبر أن يقول «لا إله إلا الله» ، كقوله تعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ) (النساء ١٧٣) ، ومن عرف الله لا لذة له إلا فى طاعته ، والانقطاع إليه عن الخلق ، كما كان نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفعل. ومن قال «لا إله إلا الله» بعلم ، فإنه يذكر معناها ، ويتحقق بحقيقتها ، وذلك هو الإخلاص ، فالعبد يعلم أولا ربّه بدليل وحجة ، وعلمه كسبى ، وهو أصل الأصول ، وينبنى عليه العلم الاستدلالي ، ثم تزداد قوة علمه بزيادة البيان والحجج.

* * *

٣٤٧. شهادة الحق لا إله إلا الله

لا يشهد بالحق إلا الملائكة والأنبياء والمؤمنون ، وهؤلاء هم الذين يعلمون ولذلك يشهدون ، وشهادتهم هى الحق ، كقوله تعالى : (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٨٦) (الزخرف) ، وشهادة الحق هى قولهم : «لا إله إلا الله» ، يقولونها عن علم ، كقوله تعالى : (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) (٢٥) (النور) وعلمهم ب «لا إله إلا الله» هو علم بحقيقتها. وفقه ذلك : أن شرط سائر الشهادات فى الحقوق أن يكون الشاهد عالما بها.

* * *

٣٤٨. إله المسلمين إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم

قيل : إن كفّار قريش سألوا النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينسب لهم ربّه ، فأنزل الله تعالى : (قُلْ هُوَ

٣٠٧

اللهُ أَحَدٌ) (١) (الإخلاص) ؛ وسأله مسلمو المدينة أن ينسب لهم ربّهم ، فنزلت الآية : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) (١٦٣) (البقرة) و «لا إله إلا هو» نفى وإثبات ، أولها كفر : «لا إله» ، وآخرها إيمان : «إلا الله» ، ومعناها : لا معبود إلا الله. وكان بعضهم يذكر الله فلا يقول : «لا إله» ، ويقول : «الله» ، ويبررون ذلك بقولهم : نخشى أن نقبض ونحن نقول كلمة الجحود : «لا إله» ولم نصل إلى كلمة الإقرار : «الله» ، وفى الحديث : «من كان آخر كلامه (يعنى فى الدنيا) لا إله إلا الله ، دخل الجنة» أخرجه مسلم ، ولذا أوصى أحمد بن حنبل ابنه أن يكون معه فى الحشرجة ، فإن نسى أن يقول «لا إله إلا الله» ذكّره واستصرخه أن يقولها. وقول «لا إله إلا الله» مقصوده القلب لا اللسان ، فلو قال المؤمن «لا إله» ومات ، ومعتقده وضميره الواحدية وما يجب لله تعالى من الصفات ، لدخل بها الجنة. وقوله تعالى للمسلمين «وإلهكم» ، غاية التشريف ، ولقد قيل : علامة من يعدّه الله من خاص الخواص أن يقول له «عبدى» ، فأما من قصدهم بإلهكم ، فإن «إلهكم» أتمّ من «عبدى» ، لأنه فى قوله «عبدى» أضاف العبد إليه ، بينما فى قوله «إلهكم» أضاف الإله إليهم. ، وهذا تشريف ما بعده تشريف. ووصفه بأنه «الواحد» يعنى أنه لا مثل له يدانيه ، ولا شكل يلاقيه ، ولا قسيم يجانسه ، ولا شريك يعاضده ، ولا معين يساعده ، ولا منازع يعانده ، فهو الأحدىّ الحق ، الصمدىّ العين ، الديمومى البقاء ، الأبدىّ العزّ ، الأزلىّ الذات. والآية فيها أنه : «الرحمن الرحيم» ، ألحقها بلا إله إلا هو ، والاسمان «الرحمن» و «الرحيم» من الرحمة ، والرحمن ، أبلغ وأشدّ ، وهو الرحمن بما أولى المسلمين من الإيمان ؛ وهو الرحيم بما أسدى إليهم من العرفان. والحمد لله.

* * *

٣٤٩. الكفر

الكفر خلاف الإيمان ، وهو إنكار وجود الله ، من كفر ضد آمن ، والكافر : الجاحد لنعم الله ، والكفّار فى جمع الكافر وهو المضاد للإيمان ، أكثر استعمالا فى القرآن ، والكفرة فى جمع كافر النعمة الأكثر استعمالا. وفى القرآن من ذلك كمثل على الكفر : (الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) (البقرة ٢٥٨) فى قوله تعالى : (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) (البقرة ٢٥٨). والناس صنفان : إما مؤمنون وإما كفّار ، كقوله : (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) (٢٥٣) (البقرة) ، والنصارى من الكفّار بقوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) (٧٢) (المائدة) ، وبقوله : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) (٧٣) (المائدة). وفى القرآن عن الكافرين : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) (٥٥) (الأنفال) ، وتوعدهم الله تعالى

٣٠٨

فقال : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً) (٤) (الإنسان). والكافرة مؤنث الكافر ، وجمعها كوافر ، كقوله : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) (١٠) (الممتحنة) ، والكفر عليه أغلب الناس ، كقوله : (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) (٥٠) (الفرقان) ، والكفور (بالضم) شدّة الكفر ، والإنسان عموما مطبوع على الكفر ، كقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) (١٥) (الزخرف) ، والكفور (بالفتح) شديد الكفر ، سمّى كذلك لأنه ولد من خطيئة ، هى عصيان آدم وحواء لربّهما. ومع كفره فإن جسم الكافر وعرقه طاهران ، ولو غمس يده فى الماء لا تزول طهورية الماء ، ما لم تكن على يده نجاسة. ولا يكلّف الكافر بالصلاة ؛ ولا يصحّ أن يغسّل المسلم ، ولو لم يوجد من يغسله من المسلمين ييمّم ؛ ولا يصح لمسلم أن يغسّل كافرا ولو كان قريبا ، فإذا خاف الضرر ببقائه ، أو أن يعيّر به ، فلا بأس أن يغسّله ويواريه التراب ، ولكن لا يصلّى عليه ، ولا على أطفاله لو ماتوا ؛ ولا يصلّى عموما على أهل الحرب من الكفار ، ولا يستغفر لهم. وإذا أسلم الكافر فى رمضان ، فعليه الصيام بقية الأيام ، ولا قضاء لما مضى قبل إسلامه. وكفّارته فى الظهار بالتصدّق بما يساوى عتقا أو بالإطعام ، ولا يجوز بالصيام. ولا تعطى زكاة الأموال لكافر والمسلمون فى حاجة إليها ، إلا أن يكون الكافر من المؤلفة قلوبهم وقد انتهى أمر هؤلاء. ويجوز استئجاره ليتولى حاجة للمسلمين ، كبناء مسجد أو قناطر ، إذا لم يوجد المسلم الصالح لذلك ، وإن أجّر مسلم نفسه من ذمىّ لعمل صحّ ، وإن استأجره لمدة صحّت الإجارة ؛ وإن وكل مسلم كافرا صحّ توكيله ، سواء كان ذميا ، أو مستأمنا ، أو حربيا ، أو مرتدا ؛ ويحرم نكاح المسلم للكافرة والمشركة ، والكافر والمشرك للمسلمة ، لقوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) (٢٢١) (البقرة) ، والكفر والشرك يستويان. ويكره الارتضاع بلبن المشركة ، ولا حقّ لكافر فى حضانة مسلم. وللكافر أن ينظر إلى قريبته المسلمة ويحرم سفره معها ؛ وليس له ولاية تزويج مسلمة. وفى الدعاوى يصحّ الحكم للمدّعى عليه بيمينه إن كان كافرا ، فاليمين من الكافر صحيحة ، وإن حنث وجبت الكفّارة عليه. وتثبت له الشفعة ؛ ويحرم التوارث بين الكافر والمسلم ، ويقتصّ للكافر من المسلم ـ أى كافر كان ، ويقتل به ، كقوله تعالى : (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ) (٧٤) (الكهف) ، وقوله : (وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) (٦٨) (الفرقان) ، وقوله : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) (٤٥) (المائدة) ، وقوله : (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) (٣٢) (المائدة) فلم يفرّق بين كافر ومسلم فى القتل. ولا دية فى قتل الحربىّ الكافر ، وتجب الدية على الكافر

٣٠٩

سواء كان المقتول مسلما أو كافرا. ولقيط دار الإسلام محكوم بإسلامه ، فإن كان أهل البلد جميعا أهل ذمة حكم بكفره ، وإن كانت البلد أصلها للمسلمين وغلب عليها الكفّار فاللقيط مسلم. ويحرم صيد المشرك على المسلم ، لأنه ليس من أهل الزكاة. ويكفر المسلم إن ترك الصلاة أو أيا من مبانى الإسلام ، جاحدا لوجوبها ، وإن اعتقد حلّ شىء أجمع على تحريمه كلحم الخنزير ، والزنا ، والخمر ، وإن ادّعى النبوة أو صدّق من ادّعاها ، أو سبّ الله ، أو استهزأ بآياته ورسله وكتبه ، أو تعلم السحر ومارسه واعتقد إباحته. ويثبت إسلام الكافر بنطق الشهادتين ، والإقرار برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتبرؤ من كل دين يخالف دين الإسلام ؛ ولا يحكم بإسلامه بأداء الزكاة والحج وممارسة الصيام دون الشهادتين ؛ وكذلك المرتد ؛ وإن أكره الذمىّ أو المستأمن على الإسلام فأسلم ، لم يثبت له الإسلام ، حتى يوجد منه ما يدل على إسلامه طوعا. وأما المرتد والحربى إذا أسلما ، فإن إسلامهما ظاهرى. ومن أكره على الكفر فأتى بكلمة الكفر لم يصر كافرا ، ومتى زال عنه الإكراه أمر بإظهار إسلامه وإلا فهو قد كفر حقا ، والأفضل لمن يكره على الكفر أن يصبر على الأذى.

* * *

٣٥٠. الشّرك

أصل الشرك : أن تعتقد أن لله شريكا فى ألوهيته ، وهذا هو الظلم العظيم أو الشرك العظيم فى الآية : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (١٣) (لقمان) ، وهو الشرك الذى لا يغفره الله كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (١١٦) (النساء). والشرك مراتب ، وكان شرك الجاهلية الأولى من أعظم الشرك ، وكذا شرك الجاهلية الثانية فى عصر العولمة والأحكام الليبيرالية ، يليه فى الرتبة أن يعتقد المشرك أن لله شريكا له فى فعله ، من ثم يستحق العبادة مثله ، كشرك النصارى ، فقد عبدوا المسيح وجعلوه ندا لله ، وادّعوا أنه ابنه ، وقالوا إنه يخلق ويغفر ويقضى بين الناس مثل الله ، كقوله : (جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) (١٦) (الرعد) ، ويليه فى الرتبة الشرك الأفكارى أو الإيديولوجى ، وهو شرك اليهود ، فجعلوا أنفسهم أحباء لله وأبناء له ، وادّعوا أنهم شعب الله المختار ، وأنه اصطفاهم على العالمين ، واختصّهم بنعمه ، وحصر فيهم الجاه والسلطان والعقل والعلم ، وانتقاهم ليعبدوه إلها واحدا ، فجعلهم شعبه الأوحد ، والله تعالى نفى شرك النصارى وشرك اليهود ، فقال : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) (١١١) (الإسراء). ومن الشرك ما هو ظاهر وما هو باطن أو خفىّ ، كقوله تعالى فى الفواحش وهى من الشرك الظاهر : (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) (١٥١) (الأنعام) ،

٣١٠

وفى الإثم : (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) (١٢٠) (الأنعام). والشرك الخفى : من مصطلحات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «الشرك الخفى أن يقوم الرجل يصلى فيزيّن صلاته لما يرى من نظر رجل» أخرجه ابن ماجة ، يقصد شرك المرائين والمنافقين ، ومنه عبادة أبطال التاريخ ، كتأليه الأتراك لكمال أتاترك ، وتأليه الرعاع للطغاة والحكّام المستبدّين ، كفرعون موسى. ودليل القرآن على نفى الشرك عن الله تعالى قوله : (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) (٣٥) (يونس). ويقال لمن يعتقد الشرك «مشرك». والشرك نجس ، أى قذر ، وفى التنزيل قوله : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) (٢٨) (التوبة) ، وقوله : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٣) (التوبة) ، والمشركون يحقّ قتالهم لو قاتلوا المسلمين ، كقوله : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) (٣٦) (التوبة). والمسلم منهىّ عن الزواج من المشركة ، كقوله : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) (٢٢١) (البقرة) ، والمسلمة من المشرك كقوله : (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) (٢٢١) (البقرة) ، ولا يقبل الزواج من المشرك أو المشركة إلا الزانية أو الزانى ، فمن لا يؤمن بالله يستوى عنده أن يزنى أو يتزوج من زانية ، أو أن تزنى أو تتزوج من زان ، كقوله تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (٣) (النور).

* * *

٣٥١. البرهان على تزييف طريقة المشركين

الدليل على تفرّده تعالى بالخالقية واضح ، يقول تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) (٣٨) (الزمر) ، وفى الآية البرهان الكافى على تزيف طريقة المشركين. فالعلم بوجوده تعالى لا نزاع فيه بين جمهور الخلائق سواء كانوا مشركين أو غير مشركين ، وفطرة العقل تشهد بصحة هذا العلم.

* * *

٣٥٢. برهان إبراهيم لمن حاجّه فى ربّه

يقول تعالى مخاطبا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تعليما بطريقة السؤال والجواب عند الجدل فى الدين : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٢٥٨) (البقرة) ، ومعنى «ألم تر» الألف للتوقيف ، والكلام للتعجب ، يقول هل رأيت الذى حاجّ إبراهيم ، يلفته إلى قصته ، وقيل

٣١١

إن الذى حاجّه هو النمرود وكان جبارا فى الأرض ، والناس يدخلون عليه ساجدين له ، ولم يفعل إبراهيم ، واعتلّ بأنه لا يسجد إلا لربّه ، فسأله عن ربّه ، فوصفه إبراهيم بأنه الذى يحيى ويميت ، قيل أتى النمرود برجلين فأمر بقتل أحدهما وأرسل الآخر ، وقال : وأنا أحيي وأميت ، فقد أحييت هذا وأمتّ هذا. وهذه مغالطة ، فاعتراضه لم يكن دحضا لقول إبراهيم ، ولا جوابا على ما قاله ، ولا هو فى معناه ، ولا يمنع من وجود الصانع ، ومع ذلك ضرب إبراهيم صفحا عن عوار الجواب ، وحمقه ، واعتبر النمرود لم يفهم ، فساق إليه دليلا ومثالا آخرين أوضح من الأولين ، وآثر أن يسوق دليلا مفحما لا يحتمل سوء فهم المعاند ، فكان دليل الشمس : أنها تأتى من المشرق فأت بها من المغرب. والدليل ـ كما ترى ـ مبهت ، أى قاطع للحجة ، فما كان بوسعه ولا بوسع أحد أن يأتى بالشمس من المغرب ، إلا أن النمرود كذلك لم يكن مجادلا ، لأنه كان بوسعه أن يطلب أن يسأله :

وهل يستطيع ربّك أن يأتى بها من المغرب؟ وأن يتحدّاه أن يطلب ذلك من ربّه ، وهكذا تستمر المناظرة بلا نهاية ، إلا أن الرجل اقتنع ، لأن ما لا يقدر أحد على استحداثه ، لا بد أن يكون له محدث يتولى إحداثه وحفظه ، فإن كان دأب الشمس أن تظهر من المشرق وتختفى فى المغرب ، فذلك لأن من صنعها جعلها على هذه الهيئة واستن لها هذا الناموس. والنمرود بوسعه أن يأمر بقتل إنسان أو يعفو عن آخر ولكنه ليس بوسعه أن يخلق من عدم ، والله وحده هو الخالق من عدم. والآية تدل على إثبات المناظرة والمجادلة وإقامة الحجة.

* * *

٣٥٣. الاحتجاج بدليل العقل على أن الجماد لا يخلق أحياء ولا أشياء

ينفى العقل أن يكون الله جمادا ، وأن يكون هناك إله دون الله ـ يقول تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٤) (الأحقاف) ، وقوله : «ما ذا خلقوا» هو احتجاج بدليل العقل : أن الصنم الحجر يصحّ أن يكون إلها من دون الله ، لأن الحجارة لا تضر ولا تنفع. و «الأثارة من علم» هى الأثر مما كان يعلمه الأقدمون ، مما يقال له العلم المأثور ، أو مأثور العلم. ودعاوى الألوهية لغير الله أو أنهم شركاؤه فى خلق السموات والأرض ، دعاوى متهافتة لأنه لم يحدث أن أيا مما يدعون آلهة خلقت شيئا ، فلا عيسى خلق ، ولا اليهود خلقوا ، ولا بوذا ، ولا كونفوشيوس خلق ، ولا أى مما يزعمون ، باستطاعته أن يخلق كائنا تدب فيه الحياة ويتكاثر ويصبح له نسل وذرية.

٣١٢

* * *

٣٥٤. بطلان الزعم بتعدد الآلهة

يثبت هذا البطلان شرعا وعقلا بقوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٢٢) (الأنبياء) ، يقصد بذلك السموات والأرض ، فلو كان فيهما غير الله يعبد لفسد التدبير ، لأن أحدهما إن أراد شيئا والآخر ضده ، كان أحدهما عاجزا ، ويقع التنازع بالاختلاف بين الشركاء ، فسبحانه نزّه نفسه ، وأمر عباده أن ينزّهوه عن أن يكون له شريك أو ولد.

* * *

٣٥٥. دليل الألوهية أنه لا يسأل وهم يسألون

الله تعالى لا يسأله الخلق عن قضائه فى خلقه ، وهو يسأل الخلق عن أعمالهم : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (٢٣) (الأنبياء) ، وإذن فالمسيح والملائكة والأنبياء لا يصلحون للإلهية ، لأنهم مسئولون غدا.

* * *

٣٥٦. ضلّ من ظنّ أن الله من جنس النور المحسوس

معنى (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٣٥) (النور) أنه الهادى لأهل السموات والأرض ، يدبّر الأمر فيهما ، نجومهما وشموسهما وأقمارهما. ونوره تعالى هدى ، فالذين يتوهمون أن الله تعالى من جنس النور والضياء المحسوس ضلّوا ، فهو متعال عن مشابهة المحسوسات ، وهو منوّر السموات والأرض ، يعنى أن كل نور منه تعالى خلقا وإنشاء.

* * *

٣٥٧. صفات الله عزوجل

وصف الشيء يعنى نعته بما فيه ؛ والصفة هى النعت ، وهى ما يقوم بالموصوف ، كالعلم والجمال. والصفة : هى الأمارة التى يعرف بها الموصوف ؛ والصفاتية : فرقة ينكرون أن لله صفات ، ولا يقرّون إلا بذات الألوهية. وإنكار صفات الله تعالى هو ما يسمى بالتعطيل ، والصفاتية هم المعطّلة. والصفات ليست بأجسام ولا أعراض ولا جواهر. والمسلمون على القول بأنه تعالى سميع بصير على الحقيقة ، ولكن ليس كسمع وبصر البشر ، وإثبات الصفات له لا يعنى أنه يحتاجها ، وأنه يفعل بها ، وإنما معناه نفى أضدادها ، وإثباتها فى نفسها له ، وأنها قائمة به. وما يتضمنه القرآن من الصفات لله تعالى على أربعة أقسام ، فقسم منها صفات جمال ، مثل : العليم ، والرحيم ، والسلام ، والمؤمن ، والبارئ ، والمصوّر ، والغفّار ، والوهّاب ، والرزّاق ، والوكيل ، والحميد ، والمبدئ ، والمعيد ، والمحيى ، والمميت ، والواجد ، والدائم ، والباقى ، والبرّ ، والمنعم ، والعفوّ ، والغفور ، والرءوف ،

٣١٣

والمغنى ، والمعطى ، والنافع ، والهادى ، والبديع ، والقريب ، والمجيب ، والكفيل ، والحنّان ، والمنّان ، والكامل ، والجميل ، ولم يلد ولم يولد ، والكافى ، والجواد ، وذو الطّول ، والشافى ، والمعافى ؛ وقسم منها صفات جلال ، مثل : الكبير ، والمتعال ، والعزيز ، والعظيم ، والجليل ، والقهّار ، والقادر ، والمقتدر ، والماجد ، والولىّ ، والجبّار ، والمتكبّر ، والقابض ، والخافض ، والمذلّ ، والرقيب ، والواسع ، والشهيد ، والقوى ، والمبين ، والمهيب ، والمعيد ، والمنتقم ، وذو الجلال والإكرام ، والمانع ، والضّار ، والوارث ، والصبور ، وذو البطش ، والبصير ، والديّان ، والمعذّب ، والمفضّل ، والمجيد ، ولم يكن له كفوا أحد ، وذو الحول ، والشديد ، والقاهر ، والقهّار ، والغيور ، وشديد العقاب ؛ وقسم منها صفات كمال وفيها من صفات الجمال والجلال معا ، مثل : الرحمن ، والملك ، والربّ ، والمهيمن ، والخالق ، والخلّاق ، والسميع ، والبصير ، والحكم ، والولىّ ، والقيوم ، والمقدّم ، والمؤخّر ، والأول ، والآخر ، والظاهر ، والباطن ، والوالي ، والمتعالى ، ومالك الملك ، والمقسط ، والجامع ، والغنىّ ، والذى ليس كمثله شىء ، والمحيط ، والمريد ، والمتكلّم. وتتعلق الصفات الجلالية بالقهر ، والعزة ، والعظمة ، والسعة ، بينما تتعلق الصفات الجمالية باللطف والرحمة. وأما الصفات الذاتية فيوصف بها ولا يوصف بضدها ، كالقدرة ، والعزة ، والعظمة ؛ ويجوز فى الصفات العقلية أن يوصف بها وبضدها ، كالرضا وضده السخط ، وفى القرآن الكثير منها ، مثل : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) (١١٩) (المائدة) ، (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) (٦) (الفتح) ، (وَلَعَنَهُمُ اللهُ) (٦٨) (التوبة) (يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) (٧٤) (غافر) و (سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ) (٨٠) (المائدة) ، و (آسَفُونا) (٥٥) (الزخرف) (لَمَقْتُ اللهِ) (١٠) (غافر) ، وكلها أفعال يراد لازمها وليس ظاهرها ، وتتعلق بإرادته ومشيئته ، فأن يرضى معناه أن يريد الخير للعباد ، وأن يغضب ويسخط معناه أن يريد للمسيء العقاب. ومنها صفة المجيء فى مثل قوله : (وَجاءَ رَبُّكَ) (الفجر ٢٢) ، وصفة الإتيان فى مثل قوله : (يَأْتِيَهُمُ اللهُ) (٢١٠) (البقرة) ، وصفة الاستواء فى مثل قوله : (اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) (٥٤) (الأعراف) ، وصفة القول فى مثل قوله : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) (٣٠) (البقرة) ، وصفة الكلام فى مثل قوله : (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) (١٤٣) (الأعراف) ، وصفة الإباء فى مثل قوله : (وَيَأْبَى اللهُ) (٣٢) (التوبة).

ومن صفاته تعالى ما يخص الأعضاء ، كصفة الوجه : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) (٢٧) (الرحمن) ، وصفة اليد : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) (٦٤) (المائدة) ، وصفة السمع والبصر : (اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (٦١) (الحج) ، وصفة المعية : (وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ) (١٢) (المائدة) وأهل السنّة على الاعتقاد بهذه الصفات جميعا كما جاءت بلا تأويل ، فهو تعالى كما

٣١٤

وصف نفسه فى القرآن ، وكما وصفه أنبياؤه ، فهو يجيء ، وينزل ، ويأتى ، ويستوى ، ويحب ، ويكره ، وله الوجه ، واليدان ، والبصر ، والسمع ، وإنما كل ذلك ليس مما نعرف منه لنا وللحيوان ، وليس من باب التشبيه ، ولا التجسيم ، فهو تعالى عند المسلمين ، وإن كانت له هذه الصفات ، إلا أنه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (١١) (الشورى) ، والمتشابهات فى القرآن : هى الآيات التى تعرضت لصفات الله ، كقوله تعالى : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) (٧) (آل عمران) ، وهى التى يحاول الكثيرون أن يتعرضوا لها بالتأويل. والمسلمون على الاعتقاد بأن المحكم والمتشابه كلاهما من القرآن ، وجميعهما من الله : (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) (٧) (آل عمران). والأولى أن نعتقد أن التشبيه لله تعالى بأفعال أو أعضاء الإنسان هو من باب التمثيل بما نستطيع أن نفهمه ، وأحرى بمن يعقل : أن يفكر فى آلائه تعالى من أفعاله وصفاته المرئية والمشاهدة ، من أن يفكر فى ذاته تعالى ، أو أن يتساءل هل لله يد؟ وهل له مقعدة يستوى بها؟ وهل له عينان يرى بهما؟ وأذنان يسمع بهما؟ والتساؤل فى مثل ذلك مما ورد فى القرآن من نوع المتشابهات ، قد يؤدى إلى الشك ، وقد فعل ذلك بالكثيرين ، ومثله هذا الشك الإيجابى عند إبراهيم ، عند ما قال : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (٢٦٠) (البقرة) ، والشك السلبى عند الآخر فى قوله تعالى : (كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) (٢٥٩) (البقرة) ، وعند موسى ، كقوله تعالى : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) (١٤٣) (الأعراف) ، فمثل هذه الأسئلة عند هؤلاء الثلاثة ، ما كان من الممكن أن ترد أصلا على خواطرهم ، لأن الاستدلال على أن الله خالق ، ممكن من غير طريق البيان العملى ، وذلك باستخبار إبداعه فى الكون ، وما أكثر آيات الخلق فى القرآن ، وليس استجلاء هذه الآيات فى الكون أو فى القرآن هو عمل أهل العلم وحدهم ، بل إن الطفل الصغير ليعبر عن الدهشة إزاء ما يرى من إبداع فى الكون ، وقد يلجأ إلى الرسم ليصوره ، وإنما «الراسخون فى العلم» هم المنوط بهم استجلاء حقيقة هذه الآيات والتنويه بما فيها من إعجاز. فما ذا عن «العامة» وهم الناس البسطاء الذين ليست لهم عقول العلماء ولا أدواتهم؟ وتدبّر القرآن هو ما يناسبهم ، والقرآن فى آياته يكتفى بالإشارة إلى آيات الله المقروءة ، ويلفت إليها الأسماع والأنظار ، ويستثير بها التفكير. وآياته تعالى دليل صفاته ، وصفاته دليل وجوده وتصدير له ، ومن يعرف صفاته يعرفه تعالى ، فكأن الله تجلّى له ، تماما كبراهين «إبراهيم» و «موسى» و «الذى مرّ على القرية» مما عاينوه فعرفوا الله به. والناس عموما فى معرفته تعالى أصناف ، وهم إما أهل تقليد : يقلدون آباءهم ، فالنصرانى نصرانى

٣١٥

لأنه ولد هكذا ، وعرف النصرانية بالوراثة ، ومعرفته بالله خبرية ، كذلك اليهودى ، وكذلك المسلم ، وطالما أننا نتكلم عن الإسلام والقرآن ، فإن المسلم المقلّد دليله القرآن ، كقوله : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) (١٦٣) (البقرة) ، وقوله : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (١) (الإخلاص) ، وقوله : (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (٨) (طه) وغير ذلك من الإخبار عنه تعالى وعن صفاته وأسمائه وأفعاله. فمعرفته بالله تكون عن هذا الطريق ، ومن خلال التربية فى البيت والتلقى على الأبوين. وهناك صنف آخر هم أهل النظر ، وهؤلاء طريقهم مختلف ، ويستدلون بالصنعة على الصانع ومعرفتهم جدلية ، أو يستدلون بالصانع على الصنعة ومعرفتهم قياسية. وأهل النظر من المسلمين على الزعم بأن طريقتهم هى المثلى ، فما أكثر الآيات التى تحضّ على التفكّر والتدبّر فى القرآن ، كقوله : (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) (٥٠) (الأنعام) ، وقوله : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١٩١) (آل عمران) ، وقوله : (نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٢٤) (يونس) ، وقوله : (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (١٧٦) (الأعراف). وبقدر ما يشاهد هؤلاء ويرون ويفهمون من عظمة الخلق ، بقدر ما يعقلون عن عظمة الخالق ، وبقدر ما يقدّرون الله بالقياس على مخلوقاته ، والله موجود لا شك فى ذلك ، فما كانت السموات والأرض وما بينهما ، والشمس والقمر ، والفلك والأنعام ، والذكر والأنثى ، والإنسان والبيان ، والموت والحياة ، والزروع والنبات ، والحيوان والطير ، والجبال والسحاب والمطر ، والماء والعيون ، والأنهار والبحار ، والليل والنهار ، إلى آخر ما نعرف ـ وما لم نعرف ـ ما كان كل ذلك باطلا ، ولم يوجد فى الكون عبثا ، وما كان هذا المخطّط الكبير للكون إلا ووراءه مخطّط ، وما كانت له كل هذه العمارة إلا لأنه مهندس كبير بتعبير العصر ، فالله موجود ، وهو واحد وإلا لاختلف الآلهة وتصارعوا ، ودلائل وجوده ووحدانيته وصفاته كلها فيما حولنا ، وما تحتنا ، وما فوقنا ، وما يحيط بنا من كل جانب ، فلا سبيل إلى إنكاره تعالى ، أو تجاهل صفاته ، فالذى خلق هو خالق ، والذى أوجد هو واجد ، والذى يرزق هو رازق وهكذا. وأهل النظر إذن : هم طبقة أرقى وأعلى وأسمى ، ومنهم من يبلغ تفكيرهم إلى الذرى ، فينزّهون الله عن كل اللواحق ، كقوله : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (٤) (الإخلاص) ، وهؤلاء صنف ثالث هم أهل التنزيه ، والنصارى ليسوا منهم لأن تفكيرهم أدنى من أن يتسامق بهم ، فهم ماديون يكتفون بما يشاهدون ثم يلجئون إلى التأويل ، ويتوهون فى الخرافات والخزعبلات والتلفيقات ، وكذلك اليهود ، هم أهل ماديات ، وليست عبادتهم للعجل إلا كرمز للمادة ؛ والمادة جعلوها مجالهم واختصاصهم ، فانتهوا إلى أن عبدوا أنفسهم واعتقدوا أنهم أولاد الله ، وشعبه المختار ،

٣١٦

وصفوة الخلق والبشرية. وأما المسلمون فهؤلاء أهل التنزيه عن حقّ ، كانوا كذلك ، منذ إبراهيم ، وكل الأنبياء دعوا إلى الإسلام ، والمسلمون عن حق هم الذين يقولون فى الله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (١١) (الشورى) ، ويتبرءون مما يقوله النصارى واليهود ، يقولون : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٩١) (المؤمنون) ، ويقولون : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) (٣٢) (البقرة) ، ويقولون : (ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) (١٦) (النور). وأهل العلم والدراية يسمون اليهود والنصارى أهل تشبيه ، وهؤلاء لا يرون أنهم يدركون الله إلا إذا شبّهوه ، ويقولون : فكما آثر يعقوب ابنه يوسف ، فكذلك آثر إبراهيم ابنه إسحاق دون إسماعيل ، وكذلك آثر الله إبراهيم دون الناس جميعا ، وكذلك آثر شعب إسرائيل ، فهو شعب الله سواء اتقى أو فسق ، وسواء عبد العليم أو عبد نفسه. وعندهم أن الله خلق آدم على صورته ، أى على صورة الله ، فكما الله كان آدم ، وآدم له صاحبة وولد ، وكذلك كان الله ، فاتخذ مريم صاحبة ، والمسيح ابنا ، وعبد النصارى الله فى الثالوث ، وقالوا المسيح ابن الله ، ودليل كل هؤلاء المشبّهين مادى ، فإن قال الله إن له يدا فله يد وتشبه أيدينا ، وإن قال له وجه فله وجه يماثل وجوهنا ، والمعرفة عندهم مادية تشبيهية ، أى تمثّل عيانا ما لا يمكن معرفته حسّا وعقلا. وهؤلاء نسميهم ، نحن المسلمون ، أهل العجز ، يعنى عجزوا عن معرفته تعالى عن بحث ونظر واستبصار ، وحجتهم أن الله قد أورد أن المعرفة به لا تكون إلا خبرية ، وأن الإيمان به تصديق ، وأن التفكير فيه إنما هو تفكير فى آلائه دون ذاته ، فذاته غيب ، والتفكير فى ذاته يثير الشكوك ، والعجز عن درك الإدراك هو إدراك. ولهذا صاروا أهل حلول واتحاد ، فلم يفرّقوا بين الله وخلقه ، فالله عند اليهود هو الكون قد حلّ فيه واتحد به ، فلا وجود لإله إن حلّ فى شىء ليجسّمه ويوجده فعلا ، ولا وجود مشخص لإله مفارق ، فالله هو مصنوعاته ، والعالم الذى يضجّ بالحياة هو من فيوضه ، ومتخارج منه وامتداد له ، وفلاسفتهم على أن معرفة الله من طريق معرفة العالم من حولنا ، فهو تعالى فيه ، وفيك أنت نفسك ، وفى قلبك ، وفلاسفة الوجودية منهم على هذا الاعتقاد ، ولكن أهل التحقيق من بين المسلمين ، يجمعون بين الخبر والنظر ، وبين النقل والعقل ، وبين الدين والفلسفة ، فالله تعالى هو كما يقول عن نفسه ، وكما أخبر عنه أنبياؤه فى القرآن ، وكما ينتهى إليه العقل والتفكير فى الخلق. والقرآن دون التوراة والأناجيل ، له خطاب ، والخطاب القرآنى يتوجه إلى أصحاب العقول ، وأولى الألباب والنهى ، الذين يتفكّرون ويتعقّلون. فإن أنت يا أخى المسلم ، فعلت فعل الفلاسفة المحض ولم تأخذ بالدين ، أو قلت كما يقول اليهود ، أو قلّدت النصارى ، وقلت مثل هؤلاء وهؤلاء : فأين

٣١٧

هذا الإله المشخص الذى يقول به القرآن؟ فإنك تكون قد طالبت القرآن ، أو طالبته تعالى ، بالأينية. وإن قلت مثلهم : فكيف؟ فقد طالبته تعالى بالكيفية. وإن قلت : فمتى كانت بداية العالم والخلق ، أو متى تكون الساعة؟ فقد زاحمته تعالى بالوقتية. وإن قلت : «ليس» ، فقد عطّلته عن الكونية. وإن قلت : «لو» ، فقد قابلته بالنقصية. وإن قلت : «لم»؟ فقد عارضته فى الملكوتية. وإذن فما ذا يقول المسلم؟ ..

المسلم يقول : سبحانه وتعالى ، هو الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد. ستار للعيوب ، غفّار للذنوب ، قادر ، قدير ، مقتدر ، حكم ، عدل ، صادق ، متكلم ، لا خالق لكلامه ، تنزّه عن الزيف ، وتقدّس عن الحيف ، خلق خلقه فى أحسن فطرة ، ويميتهم ، ويعيدهم للحساب كما بدأهم أول مرة. فهذا ما أخبرنا به ، وما عقلناه مما نرى ونشهد ونسمع ونعقل ، وما تحصّل لنا بالبحث بالمناظير والتلسكوبات ، وبالعلوم والمنطق ، وكلما زدنا علما ، نزداد إيمانا به تعالى كما يخبرنا القرآن ، فالقرآن هو كتابنا ، ونصدقه فى كل ما يقول ، وله إشراقات بقدر عقل كلّ منا ، فهو الكتاب الذى يخاطبنا ويناسبنا جميعا ، لأنه من ربّ العزة إلى الناس كافة ، عربيّهم وأعجميّهم ، وشيوخهم وشبابهم ، ونسائهم ورجالهم ، ونحن نؤمن به تعالى كما قال عن نفسه فى القرآن ، وبما له من صفات وأفعال وأقوال طرحها وشرحها وفسّرها القرآن.

* * *

٣٥٨. النفس والوجه والعندية والمعية صفات لله

من يقرأ قوله تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) (٣٠) (آل عمران) ، وقوله : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) (١١٦) (المائدة) ، وقوله : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) (٥٤) (الأنعام) ، وقوله : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (٤١) (طه) ، وقول النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخاطب ربّه : «أنت كما أثنيت على نفسك» ، وقوله تعالى فى الحديث القدسى : «إنى حرّمت الظلم على نفسى» ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سبحان الله رضا نفسه» ، قد يظن أن الله تعالى له نفس ـ وهو ـ المنزّه عن الاثنينية. والنفس فى اللغة الاصطلاحية على أوجه ، كقولك : «فى نفس الأمر» ، مع أن الأمر ليس له نفس. وقوله تعالى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) (١١٦) معناه تعلم ما أسرّه ولا أعلم ما تسرّه عنى ، وذكر النفس للمقابلة والمشاكلة. وقوله : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) (آل عمران ٣٠) يعنى يحذركم إياه. وإذن فالمراد بالنفس شىء آخر : وقد يكون المراد بها ذات الله ، وذاته ليست بأمر مزيد عليه بل هى هو. وبالمثل فى الحديث : «أنا عند ظن عبدى بى» : «العند» فى اللغة المكان ، ومع ذلك فالله منزّه عن الحلول

٣١٨

فى المواضع ، لأن الحلول عرض حادث ، والحادث لا يليق بالله. و «العند» يستعمل فى الاعتقاد ، تقول : عندى كذا ، أى فى رأيى ، أو ما اعتقده ؛ ويستعمل فى المرتبة ، ومنه : (أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) (آل عمران ١٦٩) ، ومنه : (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) (الأنفال ٣٢) فمعناه من حكمك. وإذن فالعندية كما نعرفها مستحيلة فى حق الله ، ولا بد لها معان أخرى. وكذلك المعية كما فى قوله : (يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ) (١٠٨) (النساء) ، وقوله : (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) (٤٦) (طه ٤٦) ، وهذه المعية أخصّ من المعية فى قوله : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) (المجادلة ٧) ـ إلى قوله : (إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) (المجادلة ٧) أى فى ذكرهم طالما ذكروه. ومثل ذلك الآية : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) ، (القصص ٨٨) ، والله تعالى ليس له وجه كالوجه المعروف ، فتعين التأويل أو التفويض. والآية : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) (٣٩) (طه) ، والآية : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) (القمر ١٤) ، ليس المقصود عضو العين ، وإنما المعنى تجرى بحفظى ، والمراد نفى النقص عنه تعالى ، وجميع ذلك صفات من صفات ذاته تعالى.

* * *

٣٥٩. هل لله تعالى يدان؟

يقول تعالى : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) (٧٥) (ص) ، ويقول : (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) (الزمر ٦٧) ، وفى الحديث : «وبيده الأخرى الميزان» ، وفى ذلك إثبات «يدين» لله ، وهما صفتان من صفات ذاته وليستا بجارحتين.

* * *

٣٦٠. أسماء الله الحسنى

يأتى عن الله تعالى فى القرآن قوله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (٨) (طه) ، وقوله : (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (الحشر) ، وقوله : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) (١٨٠) (الأعراف) ، وقوله : (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (١١٠) (الإسراء). وحسن الأسماء يقتضى لها أفضل الأوصاف وأشرف المعانى ، ولكل اسم مسمى وتسمية يصدقان عليه. والأسماء جمع اسم ، وكان النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لى خمسة أسماء ...» الحديث. والاسم من أسمائه تعالى هو المسمى ، ولو كان غيره لكانت أسماؤه تعالى لغيره كذلك. ويقال المراد بالاسم التسميات ، لأنه سبحانه واحد والأسماء جميع. والإجماع على أن الأسماء بمعنى التسميات ، وقوله : «له الأسماء الحسنى» يعنى التسميات الحسنى ، وهى «حسنى» لأنها حسنة فى الأسماع والقلوب ، ودالة على توحيده ،

٣١٩

وكرمه ، وجوده ، ورحمته ، وإفضاله. وعن أبى هريرة فى الحديث المشهور : «إن الله تسعا وتسعين اسما ، مائة إلا واحدا» ، وقال : «هو الله الذى لا إله إلا هو ، الرحمن ، الرحيم ، الملك ، القدوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبّار ، المتكبّر ، الخالق ، البارئ ، المصوّر ، الغفّار ، القهّار ، الوهّاب ، الرزّاق ، الفتّاح ، العليم ، القابض ، الباسط ، الخافض ، الرافع ، المعزّ ، المذلّ ، السميع ، البصير ، الحكم ، العدل ، اللطيف ، الخبير ، الحليم ، العظيم ، الغفور ، الشكور ، العلىّ ، الكبير ، الحفيظ ، المقيت ، الحسيب ، الجليل ، الكريم ، الرقيب ، المجيب ، الواسع ، الحكيم ، الودود ، المجيد ، الباعث ، الشهيد ، الحق ، الوكيل ، القوى ، المتين ، الولىّ ، الحميد ، المحصى ، المبدئ ، المعيد ، المحيى ، المميت ، الحىّ ، القيّوم ، الواجد ، الماجد ، الواجد ، الصمد ، القادر ، المقتدر ، المقدّم ، المؤخّر ، الأول ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، الوالى ، المتعالى ، البرّ ، التواب ، المنتقم ، العفوّ ، الرءوف ، مالك الملك ، ذو الجلال والإكرام ، المقسط ، الجامع ، الغنى ، المغنى ، المانع ، الضار ، النافع ، النور ، الهادى ، البديع ، الباقى ، الوارث ، الرشيد ، الصبور». وهذه الأسماء جميعها لها أصولها فى القرآن ، غير أن لله تعالى أسماء أخرى تتجاوز هذه الأسماء التسعة والتسعين ، وجمعها بعضهم فتجاوزت ألف اسم ، وكل اسم منها يدل عن كون الله تعالى على أوصاف شتّى ، ومنها ما يستحقه لنفسه ، ومنها ما يستحقه لصفة تتعلق به. وأسماؤه العائدة إلى نفسه هى هو ، وما تعلّق بصفة له هى أسماء له. ومن هذه الأسماء صفات لذاته ، ومنها صفات أفعال. والدعوة بها هى أن نطلب منه تعالى ما نتمنى من حوائج بهذه الأسماء ، ولكل اسم ما يليق به ، تقول : «يا رحيم ارحمنى ، ويا حكيم احكم لى ، ويا رزّاق ارزقنى ، ويا هادى اهدنى ، ويا فتّاح افتح لى ، ويا توّاب تب علىّ إلخ» فإن دعونا باسم عام قلنا : «يا مالك ارحمنى ، ويا عزيز احكم لى ، ويا لطيف ارزقنى». وإن دعونا بالأعمّ الأعظم قلنا : «يا الله» ، واسمه تعالى «الله» متضمن لكل اسم. ولا يصحّ أن نقول : يا رزّاق اهدنى ، إلا أن نريد : يا رزّاق ارزقنى».

ومن أسمائه تعالى بخلاف ما سبق : متمّ نوره ، وخير الوارثين ، وخير الماكرين ، ورابع ثلاثة ، وسادس خمسة ، والمعلّم ، ومن ذلك الكثير من الأسماء من القرآن ومن الحديث ، وفى الحديث القدسى : «وأنا الدهر بيدى الأمر ، أقلّب الليل والنهار» ، أن من أسمائه تعالى «الدهر» ، ومعنى : «أنا الدهر» : أنا مصرّف الدهر وخالقه ، وخالق الحوادث فيه ، وخالق أيامه ولياليه. وهو تعالى يحب ويحب ، كقوله : (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) (٣١) (آل عمران). وأورد «مسلم اسم «الطيّب» ولم يرد فى التنزيل ولا فى السنّة. وعند الترمذى ورد اسم النظيف. وبعض الأسماء يجوز أن يسمى بها ويدعى ، وبعضها

٣٢٠