موسوعة القرآن العظيم - ج ١

دكتور عبد المنعم الحفني

موسوعة القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

دكتور عبد المنعم الحفني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
ISBN: 977-208-442-2
الصفحات: ١٢٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

يطيعهم : أن لا يسمع منهم ولا يستشيرهم ، والله هو العليم الحكيم ، أى الأحق بأن تتّبع أوامره ، لأنه العليم بعواقب الأمور ، والحكيم فيما يريد ، ولذا قال بعد ذلك : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (٣) (الأحزاب). وهذا هو التفسير الصحيح لهذه الآيات ، إلا أن رواة الإسرائيليات ذهبوا بعيدا ، وربطوا نزول هذه الآيات بمناسبات ترجع القرآن إلى أسباب تتعلق باليهود خاصة ، وتهمّ اليهود أن تنتشر هذه الأسباب ليجعلوا مردّ آيات القرآن لأحداث ترتبط بهم ، فذكر أبو حيان فى البحر المحيط : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا هاجر إلى المدينة ، كان يحب إسلام اليهود : قريظة ، والنضير ، وبنى قينقاع ، وتابعه أناس منهم على النفاق ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يلين لهم جانبه ، ويكرم صغيرهم وكبيرهم! وإذا تحصّل منهم قبيح ، تجاوز عنه! وكان يسمع منهم! فنزلت هذه الآية تنهاه عن ذلك!! وكل ذلك غير صحيح ، والدليل عليه ، أن الروايات تباينت فى ذلك ، ففيما يذكر الواحدى ، والقشيرى ، والثعلبى ، والماوردى ، وغيرهم ، أن أبا سفيان بن حرب ، وعكرمة بن أبى جهل ، وأبا الأعور عمرو بن سفيان ، نزلوا المدينة بعد أحد ، على عبد الله بن أبى بن سلول رأس المنافقين ، وقد أعطاهم النبىّ الأمان على أن يكلّموه ـ أى يكلموا النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا له وعنده عمر بن الخطاب : ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزّى ومناة ، وقل إن لها شفاعة ومنعة لمن عبدها ، وندعك وربّك!. (أنظر حكاية الغرانيق من سورة النجم) قيل : فشقّ على النبىّ ما قالوا. فقال عمر : ائذن لى يا رسول الله فى قتلهم ، فقال النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنى قد أعطيتهم الأمان». فالتفت إليهم عمر مغضبا وقال : اخرجوا فى لعنة الله وغضبه. فأمر النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخرجوا من المدينة ، فنزلت الآية. وفى رواية أخرى يذكر الزمخشرى فى الكشاف : أن أبا سفيان بن حرب ، وعكرمة بن أبى جهل ، وأبا الأعور السلمى ، قدموا على النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الموادعة التى كانت بينه وبينهم ، وقام معهم عبد الله بن أبىّ ، ومعتب بن قشير ، والجد بن قيس ، فقالوا للرسول : ارفض ذكر آلهتنا ... القصة ، وأن الآية نزلت فى نقض العهد ونبذ الموادعة. وفى روايات أخرى يذكرها السيوطى فى الدرر ، وأبو حيان فى البحر : أن أهل مكة دعوه إلى أن يرجع عن دينه ويعطوه شطر أموالهم ، ويزوّجه شيبة بن ربيعة بنته ، وخوّفه منافقو المدينة أنهم يقتلونه إن لم يرجع ، فنزلت الآية. ومن الغريب أن بعض المفسرين يذكر : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يميل إليهم بدعوى أن يستدعيهم إلى الإسلام! ولذلك قالوا فى التفسير فى معنى قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) (١) (الأحزاب) أنه تعالى لو علم أن ميله إليهم فيه منفعة لما نهاه عنهم. وفى رواية أخرى : أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدم عليه وفد من ثقيف ،

٢٤١

فطلبوا منه أن يمتّعهم باللات سنة ، وهى الطاغية التى كانت ثقيف تعبدها ، وقالوا : لتعلم قريش منزلتنا عندك ، فهمّ النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك!! فنزلت الآية.

وكل تلك الروايات تطعن فى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهى من الإسرائيليات ، أى التفاسير التى ابتدعها اليهود والمنافقون ، وروّجوا لها حتى ردّدها أصحاب التفاسير وأدرجوها فى مؤلفاتهم ، والصحيح أن هذه الآيات من القواعد الأخلاقية التى يستنها الله تعالى للنّبيّ وللمسلمين من بعده ، والخطاب فيها للنّبى ولأفراد أمة الإسلام من بعده : ألّا يسمعوا لأعدائهم ، فالعدو لا يريد بنا سوى الهوان والخذلان ، وأن يكون سلوكنا مع أعدائنا بوحى كلام ربّنا ، نأخذ به ونتوكل على الله ، وهو يكفينا ما نخافه منهم ، ومن تعاليمه تعالى للمسلمين توعية وتحذيرا وإنذارا ، قوله : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (١٢٠) (البقرة) وقوله : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) (٨٢) (المائدة) ، وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٥١) (المائدة). ونشهد ان الله تعالى قد بلّغ ، وقد أعذر من أنذر.

* * *

٢٧٠. أذنب ذنبين

ذنب قديم وذنب أقدم جمعتهما الآية : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) (٢) (الفتح) ، فما تقدّم كان يوم بدر ، وما تأخّر كان يوم حنين ، ففي يوم بدر جعل يدعو : اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد فى الأرض أبدا» فأوحى الله إليه : من أين تعلم أنى لو أهلكت هذه العصابة لا أعبد أبدا؟ فكان هذا هو الذنب المتقدّم. ولمّا انهزم الناس قال لعمه العباس وابن عمه علىّ : «ناولانى كفا من حصباء الوادى» ، فناولاه ، فأخذه بيده ورمى به فى وجوه المشركين وقال : «شاهت الوجوه ، حم لا ينصرون» ، فانهزم القوم ولم يبق أحد إلا امتلأت عيناه رملا ، ثم نادى على أصحابه فرجعوا ، وقال لهم : «لو لم أرمهم لم يهزموا» فأنزل الله : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (١٧) (الأنفال) ، فكان هذا هو الذنب المتأخّر.

* * *

٢٧١. قولهم : الذى له قلبان يعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد

من الإسرائيليات قول مجاهد : إن آية (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) (٤) (الأحزاب) نزلت فى رجل من قريش كان يدعى «ذا

٢٤٢

القلبين» من دهائه ، وكان يقول : إن لى فى جوفى قلبين ، أعقل بكل واحد منهما ، أفضل من عقل محمد» ، وكان الرجل من فهر. وفى رواية الواحدى والقشيرى وغيرهما سمّياه «ذا القلبين» ، وقالوا : نزلت الآية فى جميل بن معمر الفهرى ، وكان رجلا حافظا لما يسمع ، فيقال عنه : ما يحفظ هذه الأشياء إلا وله قلبان ، وكان يقول عن نفسه معرّضا بالنّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لى قلبان أعقل بهما أفضل من عقل محمد!! فلما هزم المشركون يوم بدر ومعهم جميل هذا ، ورآه أبو سفيان فى العير وقد علّق إحدى نعليه فى يده ، والأخرى فى رجله ، قال له : ما حال الناس؟ قال : انهزموا. قال : فما بال إحدى نعليك فى يدك والأخرى فى رجلك؟ قال : ما شعرت إلا أنهما فى رجليّ! فعرفوا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسى نعله فى يده! وقيل : الرجل هو جميل بن معمر الجمحى ، وكان يدعى ذا القلبين ، فنزلت فيه الآية. وقال الزمخشرى : هو جميل بن أسد الفهرى. وقيل هو عبد الله بن خطل. ـ والقصة كما ترى مختلقة ، ولا أساس لها ، وجميل هذا أو عبد الله غير معروف واختلفوا فى اسمه ، ولكنهم ألّفوا القصة ليعرّضوا بالنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفى رواية ابن عباس : أن المنافقين قالوا : إن محمدا له قلبان ـ يعنى نسبوا مسألة القلبين هذه المرة للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيكون فى شىء فينزع إلى غيره ، ثم يعود إلى شأنه الأول! ـ يعنى كان مترددا لا يستقر على رأى ولا حال ، ولم يكن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك فى شىء ، فلو كان به هذا التردد لما تجمّع الناس حوله ، ولما نجحت الدعوة ، وللحقت به الهزيمة ، وإنما كان صاحب عزم ، ولذا قال له ربّه : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (١٥٩) (آل عمران) ، وقال : (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (١٨٦) (آل عمران) ، وقال : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ) (٣٥) (الأحقاف) ، فلو لم يكن له عزم ما خاطبه الله به ، ولكنه كان موفور العزم ، على عكس آدم الذى قال الله تعالى فيه : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (١١٥) (طه).

وللزهرى وابن حبّان تفسير آخر مرتبط ببقية الآية ، وبقصة زيد بن حارثة لمّا تبنّاه النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكما لا يكون لرجل قلبان ، كذلك لا يكون ابن واحد لرجلين. ولكن الآية أكبر من أن تضرب كمثل لحالة زيد ، ففيها أيضا تكذيب للمظاهر لأمّه ، فكما لا يكون للرجل قلبان ، كذلك لا تكون للمظاهر لأمه أمّان ؛ وفى الآية أيضا تكذيب للمنافق ذى القلبين أو الوجهين. والصحيح أن الآية لا هى لهذا ولا لذاك ، ولكنها لتأكيد هذه الحقيقة : أنه لا يمكن أن يجتمع ضدان فى القلب الواحد ، كالكفر والإيمان ، والهدى والضلال ، والإنابة والإصرار ؛ وأن يدّعى أحدهم الإسلام ، وهو يضمر اليهودية أو النصرانية ، فإنما للإنسان قلب واحد ، فإما فيه إيمان أو فيه كفر ، ونفى الله تعالى التوسط بين الإيمان والكفر ، والنفاق من

٢٤٣

ذلك. والآية من خير ما يتمثل به المسلمون فى مثل هذه المواقف ، فيقولون لصاحب الاتجاهين والمتراوح بين الأمرين : ما جعل الله لرجل من قلبين فى جوفه.

* * *

٢٧٢. هل كان النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفاكا؟ وهل كتابه القرآن ليس سوى أساطير؟

كان النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم منذ بداية المبعث أفاكا عند اليهود العرب ، واتهمه أهل الكتاب فى أوروبا منذ بداية العصور الوسطى بالإفك ، وما يزال أفّاكا عند مفكرين من أمثال رودنسون اليهودى ، وقد تناول القرآن ذلك فى سورة الفرقان ، قال : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً) (٤) ، وكنا عند ما نقرأ هذه الآية نحسب أن ما يقولون به هو نفسه ما كان يظنه الأولون فى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعجبنا أن يذهب إلى نفس المذهب رغم الفارق الزمنى ، المحدثون من الأوروبيين ، ورغم مقالة القرآن فيمن رأى رأيهم ، قال : (جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً). والإفك : هو الكذب ، والحديث الإفك : هو الذى لا أصل صحيحا له. وأول من قال ذلك فى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : النضر بن الحرث ، ورغم أنه عربى وابن خالة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلا أن ثقافته لم تكن عربية ، وكان يقرأ بالفارسية ، وقرأ تاريخهم فى الحيرة ، وكان أول من غنّى على العود بألحان فارس. ولمّا أظهر النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإسلام وتلا على الناس القرآن ، كان الشّرك الفارسى مستحكما فيه ، فبادر النصّ القرآنى بالعداء ، واختصمه ، وهزأ به ، وندّد بالقرآن ، وتزعّم معسكر المخالفين ، وكان صاحب لواء المشركين فى بدر ، وكان النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا جلس مجلسا للتذكير بالله والتحذير من مثل ما لحق الأمم الخالية من نقمة الله تعالى ، جلس النضر بعده فحدّث بأخبار ملوك فارس ورستم وإسفنديار ، يقول : أنا أحسن من محمد حديثا ، وهو فى حديثه لا يأتيكم إلا بأساطير الأولين! ـ ونحن كثيرا ما نسمع اليوم مثل ذلك النقد للقرآن. وقيل إن المسلمين لما أسروا النضر ، قتلوه صبرا بعد انصرافهم من بدر ، فقالت ابنته قتيلة :

ما كان ضرّك لو منيت ، ربما

منّ الفتى وهو المغيظ المحنق

تريد بذلك لوم النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قتله ، وقال الجاحظ : إنها استوقفته وهو يطوف بالكعبة ، وجذبت رداءه حتى انكشف منكبه ، وأنشدته أبياتها هذه ، فرقّ لها حتى دمعت عيناه ، وقال : لو بلغنى شعرها قبل أن أقتله لوهبته لها! ـ والجاحظ كاذب ، فلا وجود لقتيلة التى أطلق عليها اسم ليلى ابنة النضر ، ولا قتيلة هذه قالت شعرا فيه ، والقصيدة كلها ملفقة ، وشعرها مصنوع ، والنضر لم يقتل صبرا وإنما أصابته جراح ، وامتنع عن الطعام والشراب لا يتناوله من أيدى المسلمين ، فمات! ـ وقيل : إنما قتيلة كانت أخت النضر ، والنضر لم يكن

٢٤٤

وحده الذى يتهم النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا الاتهام ، سواء فى الماضى أو فى الحاضر ، فلقد كان هناك أبو جهل أيضا ، وهذا لقبه ، وكان اسمه عمرو بن هشام المخزومى ، ويكنونه «أبا الحكم» ، فدعاه المسلمون «أبا جهل» ، وكان من أشد الناس عداوة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولمّا سأله الأخنس بن شريق الثقفى ـ وكان قد استمعا شيئا من القرآن : ما رأيك يا أبا الحكم فيما سمعت من محمد؟ قال : ما ذا سمعت؟! تنازعنا الشرف نحن وبنو عبد مناف : أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا. حتى إذا تحاذينا على الرّكب ، وكنا كفرسىّ رهان ، قالوا منا نبىّ يأتيه الوحى من السماء! فمتى ندرك هذه؟! والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه! ـ وشارك فى وقعة بدر وقتل. وهو الذى نسب إلى محمد أن جبرا مولى الحضرمى ، وعدّاسا غلام عتبة يمليان عليه!! ومن ثم كانت الآية : (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٥) (الفرقان) ، يعنى أنه ينقل من كتب الأولين ويستنسخها فى أول النهار حتى آخره. وفى الأثر عن مجاهد فيما ذكر الماوردى ، ثم أبو حيان : أن اليهود هم الذين اتهموه هذه التهمة ، ولذا قال بعضهم لبعض فيما روته الآية : (قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٧٦) (البقرة). وقال ابن عباس : المراد «بالقوم الآخرين» فى الرابعة من سورة الفرقان : الذين أعانوه وأملوا عليه : أبو فكيهة مولى بن الحضرمى ، وعدّاس ، وجبر ، وكان هؤلاء الثلاثة من أهل الكتاب. ويقول القرطبى فى الآية : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (١٠٣) (النحل) أنهم اختلفوا فى اسم هذا البشر الذى يعلمه ، فقيل هو غلام «الفاكه بن المغيرة» واسمه جبر ، وكان نصرانيا وأسلم. وكانوا إذا سمعوا من النبىّ ما مضى وما هو آت ـ مع أنه أمى لم يقرأ ، قالوا إنما يعلمه جبر ـ وهو أعجمى ، فقال الله تعالى : (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (١٠٣) (النحل) ، أى كيف يعلّمه جبر ـ وهو الأعجمى ، هذا الكلام الذى لم يستطع أحد أن يعارض منه ولو سورة واحدة؟ وقالوا : أن مولى جبر كان يضربه ويقول له : أنت تعلّم محمدا! فيقول : لا والله ، بل هو يعلمنى ويهدينى! ـ وقال ابن إسحاق : كان النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما بلغنى ـ كثيرا ما يجلس عند المروة إلى غلام نصرانى يقال له جبر ، عبد بنى الحضرمى ، وكان يقرأ الكتب ، فقال المشركون : والله ما يعلّم محمدا ما يأتى به ، إلا جبر النصرانى! وقال عكرمة : اسمه «يعيش» كان عبدا لبنى الحضرمى ، وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلقنه القرآن. وذكر الثعلبى عن عكرمة وقتادة : أنه غلام لبنى المغيرة اسمه يعيش ، وكان يقرأ الكتب الأعجمية ، فقالت قريش : إنما يعلّمه بشر ، فنزلت الآية. وقال المهدوى عن عكرمة : هو

٢٤٥

غلام لبنى عامر بن لؤى ، واسمه يعيش». وقال عبد الله بن مسلم الحضرمى : كان لنا غلامان نصرانيان من أهل عين التمر ، اسم أحدهما يسار ، واسم الآخر جبر» ، وقال الثعلبى : يقال لأحدهما «نبت» ، ويكنى «أبا فكيهة» ، والآخر جبر ، وكانا صيقلين يعملان السيوف (يعنى يشحذانها) ، وكانا يقرءان كتابا لهما». قال الثعلبى : يقرءان التوراة والإنجيل». وقال الماوردى والمهدوى : يقرءان التوراة». فقالوا : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمر بهما ويسمع قراءتيهما. وقال المشركون : يتعلم منهما ـ فأنزل الله هذه الآية وأكذبهم. وقيل عنوا «سليمان الفارسى». ذكره الطبرى والبخارى وابن عطية والشوكانى وأبو حيان. وقال الضحاك : الذى يعلمه كان نصرانيا بمكة اسمه بلعام ، وكان غلاما يقرأ التوراة. وقال ابن عباس : وكان المشركون يرون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين يدخل عليه ويخرج من عنده ، فقالوا : إنما يعلمه بلعام. وقال القتبى : كان بمكة رجل نصرانى يقال له أبو ميسرة يتكلم بالرومية ، فربما قعد إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاتهمه به الكفار ، وقالوا : إنما يتعلم محمد منه ، فنزلت الآية. وفى رواية أنه عدّاس غلام عتبة بن ربيعة. وقيل هو : عابس غلام حويطب بن عبد العزّى ، ويسار ـ أبو فكيهة مولى ابن الحضرمى ، وكانا قد أسلما. والخلاصة أن رسول الله اتّهم بكل هؤلاء ، وربما يكون قد جلس إليهم ليعلّمهم مما علمه الله ، ويدعوهم بدعوته ، فقلبوا الأوضاع وقالوا إنه تعلّم منهم بدلا من أن يقولوا يعلّمهم ، وكأن الأدنى يمكن أن يعلّم الأعلى ، وكأن النصرانى المشرك يمكن أن يعلّم المسلم الموحّد!. ولا تناقض بين كل هذه الأقوال ، لأن المشركين متفرقون ، وكلّ اتهمه بواحد من هؤلاء فزعموا أنهم يعلّمونه ، ويسقط من ذلك قول القائلين بأنه سلمان ، لأن سلمان لم يلتق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا بالمدينة!! وكل ما سبق حدث بمكة! وهذه الآية : (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ ..) مكية! فكيف يعلمه سلمان؟! ثم كان وقتنا هذا ، فشهد على كذب الأقدمين والمحدثين ، أمثال رينان ، الذى قال : لقد كتب المسيحيون تاريخا عجيبا ، ملؤه الحقد والبغض للإسلام ولمحمد! ـ فشهد شاهد من أهلها!

ومن هؤلاء المحدثين المؤرّخ البيزنطى ثيوفانس Theophanes (٧٥٢ ـ ٨١٨ م) قال : إن محمدا ارتحل إلى فلسطين وتحدّث إلى اليهود والنصارى ، وتعلّم منهم مما تحويه كتبهم. وساعد ثيوفانس على هذه الفرية ما هو موجود للأسف فى الكتب العربية ، ففي طبقات ابن سعد حكايات كالأساطير ، قال : لمّا بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اثنتى عشرة سنة ، خرج به عمه أبو طالب إلى الشام فى العير التى خرج فيها للتجارة ونزلوا بالراهب بحيرا ، فقال لأبى طالب فى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبقى محمدا معه ، فرفض أبو طالب وردّ محمدا إلى مكة

٢٤٦

وفى رواية أخرى : أن أبا طالب فى مسيرته إلى الشام مرّ ببلدة بصرى ، وبها راهب يقال له بحيرا ، وكان كثيرا ما يمرون به فلا يكلمهم ، حتى إذا كان ذلك العام ونزلوا منزلا قريبا من صومعته كانوا ينزلونه كلما مروا ، التقوا به فدعاهم الى الغداء ، وصنع لهم طعاما ، وسبب ذلك أنه رأى فوقهم غمامة تظلل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بين القوم ، إلى أن بلغوا الشجرة التى ينزلون تحتها ، ونظر بحيرا فرأى الشجرة تخضّلّ أغصانها عليه (أى تكثر) حتى أظلته ، فدعاه إليه وحادثه ، ثم قال لعمه : ارجع بابن أخيك إلى بلده ، واحذر اليهود ، فو الله لئن رأوه وعرفوا منه ما أعرف ، ليبغنّه عنتا ، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم نجده فى كتبنا وما روينا عن آبائنا! ـ وقال لأبى طالب : لا تخرجن بابن أخيك إلى ما هاهنا ، فإن اليهود أهل عداوة ، وهذا نبىّ هذه الأمة ، وهو من العرب ، واليهود تحسده ، تريد أن يكون من بنى إسرائيل ، فاحذر على ابن اخيك! ـ فهذا إذن ما كان من بحيرا بحسب رواية ابن سعد ؛ وأما رواية ثيوفانس عن بحيرا فقد نسب إليه أنه علّم محمدا ما تحويه الكتب المقدسة ، وما كان ثيوفانس من علماء المسيحية ، وكان شخصية مكروهة كمسيحى ، وكتابه Chronographis لا يعدّ أبدا كتابا علميا فى التاريخ بأى مقياس من المقاييس ، وكان ما أخذه على محمد إنكاره التثليث ، وتحريمه للصور والتماثيل ، وكان شغل ثيوفانس الشاغل أن يحارب أعداء الصور والتماثيل حتى من بين المسيحيين ، وشدّد على أن اليهود وهم أيضا أعداء للصور والتماثيل ـ سمموا أفكار محمد ، واشترك عشرة منهم فى تسميمه! والنصارى واليهود تلقفوا ما قال ثيوفانس عن بحيرا ، وظهرت سلسلة من مؤرخيهم وكتّابهم ، تحدّثوا جميعا عن أن «بحيرا» هو معلّم محمد ، وأن محمدا فى الحقيقة كان نصرانيا تلقّى النصرانية على بحيرا ، وترهّب ، ولكنهم طردوه ، فأراد أن ينتقم من المسيحية بالدعوة إلى ديانة جديدة تنافسها ، فكانت دعوته للإسلام ، فالإسلام فى حقيقته لا يصحّح المسيحية ولا اليهودية كما يدّعى محمد ، وإنما الإسلام هرطقة يهودية نصرانية!!! والإجماع بين هؤلاء المتخرّصين على أن بحيرا ـ واسمه الحقيقى سيرجيوس ، كان من النساطرة الهراطقة ، ولجأ لذلك إلى الهروب إلى بلاد العرب ، فالتقى بمحمد ولقنه هرطقته النسطورية الإسلامية ، وعلمه اللغات والأساطير ، وتعلم محمد منه تحريم الخمر ، وامتهن قطع الطرق على القوافل ، وصار تجمّع أصحابه على البغى والعدوان باسم الدعوة لله ، وعلّمه بحيرا السحر والشعوذة ، وأن يزعم ان الوحى يأتيه هديرا فى أذنه ، وزعم أنه يصاب من ذلك بحالة تخشّب كالصرع ، وتلقف ذلك علماء اليهود ، فأطلقوا على هذا النوع من الصرع!!! اسم «صرع الأنبياء» ، يقصدون به صرع محمد! والغريب أنهم استطاعوا أن يروّجوا لهذا الاسم ، وأن

٢٤٧

يبثوه فى المراجع العلمية فى الطب النفسى حتى أصبح من أصناف مرض الصرع ، مع أنه لم ترصد حالة واحدة يمكن أن ينطبق عليها ، ولم يكن لهم من مرجع إلا سرجيوس المزعوم ، وقالوا : أن بحيرا أو سرجيوس كان شهوانيا استباح النساء باسم تعدّد الزوجات ، وتابعه محمد وأصحابه حتى صار لمحمد ثمانى عشرة زوجة وسرية! وقال أحد مؤرخيهم واسمه باسكاسيو (١٢٢٨ ـ ١٣٠٠) : إن سيرجيوس كان من الموتورين ، فقد أراد أن يتقلد المناصب فى الكنيسة ولكنهم حرموه ، فذهب يثأر من المسيحية. وادّعى آخر هو «تاما سوتوسكا» (١٤٨٨) أن محمدا كان كاردنيالا مسيحيا يسمى نيقولا!! وكان عالما باللغات وبالكتب ، فأرسل إليه البابا ليخلفه ، فلما مثل أمامه لم يظهر الاحترام له ، فغضب عليه البابا ، وفرّ نيقولا أو محمد إلى بلاد العرب ، وألّف ديانة تنافس المسيحية ، إلا أن اليهود فى بلاد العرب قتلوه ـ أى قتلوا محمدا الذى هو نيقولا ، والقاتل واحد منهم يدعى مرزوقا (يقصدون سالم بن مشكم) ، وكان محمد يؤثر أصغر زوجاته وتدعى كاروفا (يقصدون عائشة) ، فقتل أصحاب محمد مرزوقا وكاروفا انتقاما لمحمد. وما قتل اليهود محمدا إلا لأنه أحب إحدى بناتهم (يقصدون زينب بنت الحارث) ، وكانت قد دعته إلى خدرها فقامت هى وأهلها بقتله. وراجت هذه الفرية وتطورت برواية الآخرين ، فقالوا إن السمّ الذى دسّته اليهودية لمحمد آتى أكله بعد سنوات حينما توفّى به ، وراجت هذه الفرية بين المسلمين بسبب مؤرخى المسلمين ووضّاع الأحاديث ، وفسّروا المعراج بأنه اختراع لمحمد قبل أن يموت ، جعل أصحابه يحملون جثته على سفينة محمولة على الهواء!! فكما ترى أن هؤلاء الناس بلغوا القمة فى كراهية الإسلام والنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنهم ذهبوا يؤلّفون أى شىء ينتقص منهما ، وقد قيل إن المسلمين يهوون المخدرات ، وهذا الكلام الذى لفّقوه لأحطّ من أى كلام يمكن أن يلفقه مدمنو المخدرات ، ويبدو أن العقلية الأوروبية لهؤلاء المتخرّصين جعلتهم يقولون عن كل من يصف عيسى بأنه مجرد نبىّ وليس ابنا لله ، وأنه محال أن يكون لله ابن ، أنه محمدى النزعة ، وأطلقوا على بحيرا أو سرجيوس اسم ورقة بن نوفل!! وتعددت صفات محمد عندهم فقيل هو «الموحّد» ، و «المطاع» ، و «مناجى الأرواح» ، و «المنجّم» ، و «مريض الصرع» ، و «الساحر» ، و «حارس ذهب بنى قريظة» ولذلك تزوج أرملة أميرهم (يقصدون صفية) لعله يعرف منها مخبأ الذهب!!!

وهكذا استمر هذا السيل الجارف من الأكاذيب والخرافات حتى أن فرنسيس بيكون ـ وهو من نعتبره الفيلسوف الشهير ومؤسس المذهب التجريبى (١٥٦١ ـ ١٦٢٦) ، قال عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه كذب على شعبه ، فادّعى أنه يستطيع أن ينادى على الجبل فيحضر الجبل ،

٢٤٨

ولما نادى ولم يمتثل الجبل لجأ إلى المغالطة فقال : إن لم يحضر الجبل إلى محمد فإن محمدا سيذهب إلى الجبل»! ـ وذهب هوجو دوجروت مؤلف الرسالة المشهورة «قانون الحرب والسلام» إلى أن محمدا كان قاطع طريق ، ومغتصب نساء ، وله فضائح ومهازل ، وزعم أنه ساحر ، وطبيب مزيف ، وادّعى أن حمامة تطير إلى أذنه وتهمس فيه أطلق عليها اسم الوحى ، وزعم أن البعير ركع له ، وأن الماء يفر من بين أصابعه ، وأنه أسرى به إلى أورشليم ، وعرّج به الى السماء ، وأن ديانته لم ترج إلا بالسيف ، وكان شديد التعطش إلى دماء مخالفيه ، وما كان يتيح لأتباعه أن يخالفوه أدنى مخالفة. وكان من بين الذين كتبوا عن القرآن ومحمد وقدحوا فيهما أشدّ القدح : هوتنجر (١٦٥١) ، وبالنجر (١٥٧٥) ، وبريدو (١٦٩٩) ، وأدريان رولاند (١٧١٨) ، وكيتانى ، وفلهوزون ، وجولد تسيهر ، وجريم ، وفوستفلد ، ورودنسون ، ووات ، وزويمر ، وبارت ، وباريز ، وتشامبر ، ونولدكه ، وعشرات غيرهم ، وأطلق هؤلاء عليه اسم المخادع ، والنصّاب ، والثرثار ، وهكذا ... وكما ترى أن كل هذه الصفات والترهات تطعن فى أصحابها وتشينهم ، وتكشف عن تعصّبهم المقيت ، وزيغهم عن الحق ، وبعدهم عن الموضوعية والعلمية ، وأن المغالطات هى دأبهم ، وأبرز مغالطاتهم أنهم تركوا الدعوة الإسلامية وما يتطرق إليه القرآن من موضوعات إلى الطعن فى محمد وخلقه ، والتشهير به فيما لا طائل منه ، وما لم تثبت صحته ، والتجافى عن الحق الصراح إلى الباطل الشائن ، يحاولون أن يظهروه على الحق ، والحقّ أبلج ، وفى القرآن : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٧١) (آل عمران) ، وسيظل هذا شأنهم ، يكتمون الحق ، ويكفرون بالإسلام ، وبالقرآن وبمحمد ، ويغلون فى دينهم ، ويتّبعون أهواءهم ، ويتكبّرون فى الأرض ، ويحكمون بالطاغوت ، ويجادلون فى الله ، ويبتغون الفتنة ، ويمترون ، والله بالغ أمره ، وسيقذف الحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ، حتى يكون الدين لله.

* * *

٢٧٣. الفرق بين «يا أيها النبى» و «يا أيها الرسول»

فى القرآن صيغتان يخاطب بهما الله تعالى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الأولى : يا أيها النبىّ» ، ويتكرر ذلك ثلاث عشرة مرة ، ولم يحدث أن خاطبه ربّه باسمه مجردا مثلما خاطب إبراهيم ، ونوحا ، وموسى ، وعيسى ابن مريم ، فقال «يا إبراهيم» ، و «يا نوح» ، و «يا موسى» ، و «يا عيسى ابن مريم» وكل خطاب فيه «يا أيها النبىّ» : المقصود بالخطاب النبىّ ، وجماعة المؤمنين ، وأهل الإسلام جميعهم ؛ وكل خطاب فيه «يا أيها الرسول» : المقصود به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشخصه ، يخاطب باللفظ والمعنى جميعا ، ويتكرر ذلك فى القرآن مرتين.

* * *

٢٤٩

٢٧٤. (الكفّار لا يعذبون والنبىّ بينهم)

فى القرآن كله لم يحدث أن عذّب الله قوما إلا بعد أن يخرج النبىّ من بينهم والمؤمنون ، ويتوجهوا إلى حيث أمروا ، وذلك ما حدث مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأهل مكة ، قال تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (٣٣) (الأنفال) ، فلو لا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يساكنهم ، ومنهم من آمن أو سيؤمن ، وعندئذ سيستغفرون ، لأنزل بهم العذاب ، وقال : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٣٤) (الأنفال) ، يعنى أنهم استحقوا العذاب ، فقد صدوا المسلمين عن المسجد الحرام ، ولم يتّقوا الله فى أنفسهم ولا فى المؤمنين ، وفى تفسير الآية قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنزل الله علىّ أمانين لأمتى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (٣٣) (الأنفال). وقيل : كان رجل فى المدينة أيام النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد أسرف على نفسه ، ولم يكن يتحرّج ، فلما أن توفى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، زهد وتاب ، وأظهر الدين والنّسك ، فقيل له : لو فعلت هذا والنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حىّ لفرح بك! قال : كان لى أمانان ، فمضى واحد ، وبقى الآخر ، فقوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (٣٣) (الأنفال) فهذا أمان ، ومضى بوفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (٣٣) (الأنفال) أمان ثان ، وهو ما بقى للرجل ، فلزم أن يستغفر وإلا عذّب. وأما أهل مكة فإن الله عذّبهم بالسيف بعد خروج النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

* * *

٢٧٥. لما ذا لم يحاكم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم المنافقين مع علمه بنفاقهم؟

أمسك النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قتل المنافقين ، رغم أذاهم الشديد له ، وعلمه بنفاقهم ، وفى سورة البقرة وحدها ثلاث عشرة آية فيهم ، والسبب فى عدم قتلهم أنه يقصد إلى تأليف القلوب عليه لئلا تنفر عنه ، قال : «معاذ الله أن يتحدث الناس أنى أقتل أصحابى» أخرجه البخارى ومسلم ، وكان يعطى المؤلفة قلوبهم ما يتألف به قلوبهم مع علمه بسوء اعتقادهم. وفى قوله تعالى : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) (٦١) (الأحزاب) أنهم يقتلون إذا أعلنوا النفاق ، والنفاق أيام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعادل أقوال المدّعين للعلمانية والتنوير اليوم ، وكفّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنهم ليبيّن لأمته أن القاضى لا يحكم بعلمه بدون شهادة الشهود ، ولم يشهد على عبد الله بن أبىّ إلا زيد بن أرقم ، ولا على الجلاس بن سويد إلا ربيبه عمير بن سعد ، والواجب أن يكون الشهود اثنين ، والذى يعلن

٢٥٠

الإيمان ويتبرأ من كل دين سوى الإسلام لا يعتبر منافقا ، وهذا هو ما منعه من إيذائهم : أنهم كانوا يظهرون الإسلام ، والأحكام بين الناس على الظاهر ، وليس لأحد أن يحكم بخلاف ما ظهر ، لأنه يكون حكما بالظنون.

* * *

٢٧٦. محمد حجة وبرهان من الله

فى الآية : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) (١٧٤) (النساء) أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو حجة الله على الناس كافة ، وهو معجزته تعالى ، سمّاه برهانا ، وأنزل عليه القرآن وسمّاه نورا ، لأنه به تتبين الأحكام ، ويهتدى من الضلالة ، فالقرآن نور مبين ، وأما محمد فهو برهان مبين.

* * *

٢٧٧. لا تقولوا «راعنا» للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم

كان من جهالات اليهود أن يقولوا للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «راعنا» كما فى قوله فى سورة النساء الآية ٤٦ : (وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ) ، فنزلت الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٠٤) (البقرة) ، تنهى المسلمين عن تقليد اليهود ومخاطبة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا الخطاب الدال على جفاء الطبع. وحقيقة «راعنا» فى اللغة : أرعنا سمعك ، والأمر فى الآية يتضمن أن يتخيّر المسلم من الألفاظ أحسنها ، ومن المعانى أرقّها إذا تناول اسم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى شىء. وكان اليهود يعتبرون «راعنا» سبّا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويسبونه جهرا ، وكان سعد بن معاذ يعرف لغتهم ، فنهاهم عنها ، ونهى المسلمين ، ونزلت الآية فى سورة البقرة فى ذلك.

* * *

٢٧٨. أهل الكتاب يؤمنون بعيسى رسولا قبل موتهم

فى الآخرة تتوقف الظنون ويكون اليقين ، وفى الآخرة يدرك اليهود أن عيسى كان رسولا من عند الله ولكنهم أنكروه وجحدوه ، ويدرك النصارى أنه رسول بشر ولكنهم ألّهوه ، وفى الآية : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) (١٥٩) (النساء) أن ليس أحد من أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، إذا حان الأجل ، إلا ليؤمن قبل أن يموت ، بعيسى بشرا رسولا ، وليس إلها كما قالت النصارى ، يعنى أن النصرانى يظل يكابر طالما هو حىّ ، فإذا جاء الموت ذهبت عنه المكابرة ، وينقشع الظن ، ولا يبقى إلا اليقين ، ويوم القيامة يكون عيسى عليهم شهيدا ، يشهد على اليهود بأنهم كذّبوه ، وعلى النصارى بأنه دعوه ابن الله مرة ، والله مرة.

* * *

٢٥١

٢٧٩. مثل للكذب على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم

لما نزلت (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) (٢) (النصر) ، قال جابر عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان يبكى ـ أى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الناس دخلوا فى دين الله أفواجا ، وسيخرجون من دين الله أفواجا» ، والذى نقل عن جابر كاذب ، فالإسلام يدخله كل يوم مؤمنون جدد ، وتتسع رقعة بلاده ، ويزيدون عددا حتى زادوا على المليار نسمة!!

* * *

٢٨٠. الكثير من أحاديثه نبوءات ،

فلم لم يكن بوسعه أن يعلمنا عن الساعة؟

النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن إلا عبدا رسولا ، وبشرا من بشر ، فلا نصدّق من يزعم أنه كان عنده علم الساعة ، وعائشة زوجته رضى الله عنها تقول فيما أخرجه الترمذى : من أخبرك أن محمدا يعلم الخمس التى قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (٣٤) (لقمان) فقد أعظم الفرية»! وهذه الخمس أسماها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مفاتيح الغيب ، لا يعلمها إلا هو الله تعالى ، فالساعة لا يجلّيها لوقتها إلا هو ؛ وكذلك الغيب قد يتنبأ به متنبئ الطقس ، وقد يتوقع الأمطار الغزيرة ولكنه لا يعرف مقدارها ، وما ذا يكون من أمرها ؛ وكذلك ما فى الأرحام ، قد ييسر العلم للأطباء أن يروه ذكرا أو أنثى ، ولكنهم لا يعلمون إذا كان شقيا أم سعيدا ؛ وكذلك الكسب ، فقد تتوقع مكاسب الدنيا ، ولكن هل يمكن أن تجزم بذلك؟ ولا أن تحدد مقدارها؟ ولا أن تعرف ما ذا تكسب لآخرتك؟ وكذلك الموت ، فلا تدرى أتموت ببلادنا أو فى غيرها؟ وقد تحاول الانتحار ، أو تترقب الموت وتتنبأ به فى المرض ، وإنما يستحيل أن تحدد وقته ولا مجرياته. وروى مسروق عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت : من حدّثك أنه ـ أى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يعلم ما فى غد فقد كذب ، ثم قرأت : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) (لقمان ٣٤).

* * *

٢٨١. آية المباهلة من أعلام نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

هى الآية : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) (٦١) (آل عمران) ، فإنه لمّا شابه النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين عيسى وآدم من حيث الخلقة من غير أب بقوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٥٩) (آل عمران) ، وجادله

٢٥٢

النصارى ، ذهب أبعد من المشابهة ودعا إلى المباهلة ، فأبوا منها ، ورفضوا المباهلة ، وهى الابتهال إلى الله والتضرع فى الدعاء له ، والرضا باللعن للمبتهل إن كان كاذبا.

* * *

٢٨٢. أشد وأشق آية على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم

هى الآية (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) (١١٢) (هود) والخطاب فيها للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومعنى «استقم» يعنى اطلب الإقامة على الدين ، وامتثل لله. ولمّا سئل عن قول فى الإسلام لا يسأل عنه أحد بعده ، قال : «قل آمنت بالله ثم استقم» أخرجه مسلم ، ولذلك قال ابن عباس : ما نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية هى أشدّ ولا أشقّ من هذه الآية عليه». ولذلك قال لأصحابه ـ أى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حين قالوا له : لقد أسرع إليك الشيب! ـ قال : «شيّبتنى هود وأخواتها» ، وهذه الآية من سورة هود التى وصفها هذا الوصف.

* * *

٢٨٣. الكوثر : هل هو نهر وعد به النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم

سورة الكوثر مكية ، وبعض القراء قالوا إنها مدنية كما سيأتى عن ذلك فى «باب سور القرآن». وقوله تعالى : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) (١) روى أنس وعائشة أن الكوثر نهر فى بطنان الجنة ، اختص الله به نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبطنان الجنة هو وسطها ، وحافتا النهر قصور اللؤلؤ والياقوت ، وترابه مسك ، وماؤه أبيض من اللبن ، وأحلى من العسل ، إلى غير ذلك من الأوصاف. وإنّا لنتساءل : وما ذا يفعل النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنهر؟ وهل هو يحتاج إلى نهر بكامله ليشرب منه ويرتوى؟ ثم إن القول بذلك مادى بحت ، وحسّى للغاية ، وقد آن الأوان للمسلمين أن يفيقوا من أمثال هذه التفسيرات والأحاديث المتعلقة بها ، والحق أن الكوثر كما قال البخارى عن ابن عباس : هو الخير الذى أعطاه الله للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولما قيل لسعيد بن جبير : فإن ناسا يزعمون أنه نهر فى الجنة؟ فقال سعيد : النهر الذى فى الجنة من الخير الذى أعطاه الله إياه. وروى سعيد عن ابن عباس قال : الكوثر الخير الكثير. وهذا التفسير لأن الكوثر من الكثرة وهى الخير الكثير. وقال مجاهد : الكوثر هو الخير الكثير فى الدنيا والآخرة. وقال عكرمة : الكوثر منه الكثرة ، وهى النبوة والقرآن وثواب الآخرة. وقال عطاء : الكوثر حوض فى الجنة ـ يقصد حوضا يرد عليه المسلمون يوم القيامة. والحق أن السورة كلها كما يرد فى سياقها نزلت فى العاص بن وائل ، وقيل فى عقبة بن معيط ، وقيل فى أبى لهب أو أبى جهل ، وذلك أنه لما مات إبراهيم ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مارية ، ذهب أبو لهب إلى المشركين فقال : بتر محمد الليلة! فأنزل الله فى ذلك : (إِنَ

٢٥٣

شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) (٣) أى مبغضك هو الأبتر ، والأبتر : منقطع الذرية ، فلا أحد من صلبه بعد مماته يذكّر به ، يتوهّم أبو لهب أنه بوفاة ابنه سيبتر النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وينقطع ذكره ، قيل فعوّضه الله تعالى وأعطاه الكوثر ، أى الكثرة ـ وهى أمة الإسلام ، تمتد من الصين إلى القارة الأمريكية ، ومن أوروبا إلى إفريقيا ، فهى كثرة كاثرة ، كلما ذكر اسمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، جلّوه ، وعظّموه ، وصلّوا عليه ، وسلّموا تسليما ، فهؤلاء هم بنوه حقا وصدقا ، يذكرونه على رءوس الأشهاد ، ويوجبون شرعه على كافة العباد ، وبهم يظل اسمه خفّاقا كالعلم على دوام الآباد ، وإلى يوم الحشر والمعاد ، صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم التناد.

* * *

٢٨٤. أصرح دليل على عموم بعثه

من أصرح الدلالات على عموم بعثة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جميع الخلق ، هذه الآية : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) (١٥٨) (الأعراف) ، والآية : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) (١) (الفرقان) ، وفى الصحيحين ثبت أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث كتبه يدعو إلى الله ملوك الآفاق ، وطوائف بنى آدم ، من عرب وعجم ، سواء كانوا من أهل الكتاب أو من الأميين ، امتثالا لأمر الله تعالى ، وقال : «والذى نفسى بيده ، لا يسمع بى أحد من هذه الأمة ، يهودى ولا نصرانى ، ومات ولم يؤمن بالذى أرسلت به ، إلا كان من أهل النار» ، وقال : «بعثت إلى الأحمر والأسود» ، وقال : «كان النبىّ يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس عامة».

* * *

٢٨٥. هل رأى ربّه؟

ينسب بعض المسلمين إلى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم صفات تخرجه عن البشرية ، وهو القائل : «أنا بشر من بشر» ، ومن مزاعم أصحاب هذه الدعوى ، تفسيرهم للآيات من سورة النجم : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) (١٤). ومن هؤلاء ابن عباس قال : وقد رأى ربّه مرتين» أخرجه الترمذى ، وقال : «إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى ، فكلم موسى مرتين ، ورآه محمد مرتين»!! ومن يقل ذلك فقد أغرب. والشيخ الشعراوى ذهب إلى ذلك. وعن عائشة زوجة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم برواية مسروق : أنه دخل عليها وسألها : هل رأى محمد ربّه؟ فقالت : لقد تكلمت بشيء وقف له شعرى! قال : قلت : رويدا ، ثم قرأت : (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) (١٨) (النجم) ، فقالت : أين يذهب بك؟! إنما هو جبريل!! من أخبرك

٢٥٤

أن محمدا رأى ربّه .. فقد أعظم على الله الفرية ، ولكنه رأى جبريل ، لم يره فى صورته إلّا مرتين : مرة عند سدرة المنتهى ، ومرة فى أجياد». ولقد وهم ابن عباس عند ما قال : «رأى محمد ربّه مرتين» ، ووهم عكرمة إذ يقول مؤكدا : قد رآه ، ثم قد رآه!! ـ وعائشة كذّبت ذلك ، وقالت الحق فيما أخرجه الشيخان عند ما سألها مسروق هذا السؤال : سبحان الله! لقد قفّ شعرى لما قلت! أين أنت من ثلاث ، من حدّثكهن فقد كذب؟ : من حدّثك أن محمدا أسرى به ببدنه وفى اليقظة فقد كذب ـ ثم قرأت : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) (٦٠) (الإسراء) والرؤيا هى ما يتراءى فى المنام ، وتكون بالنفس وليس بالجسد ؛ ومن حدثك أن محمدا رأى ربّه فقد كذب ـ ثم قرأت : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١٠٣) (الأنعام) ، و (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٥١) (الشورى) ؛ ومن أخبرك أن محمدا قد كتم فقد كذب ، ثم قرأت (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) (٦٧) (المائدة). ولكنه رأى جبريل فى صورته مرتين. وفيما أخرجه أحمد ، أن مسروقا قال لعائشة : «أليس الله يقول : (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) (٢٣) (التكوير) ، و (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) (١٣) (النجم)؟ فقالت : أنا أول هذه الأمة سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنها فقال : «إنما ذاك جبريل» ، لم يره فى صورته التى خلق عليها إلا مرتين : رآه منهبطا من السماء إلى الأرض سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض» أخرجه الشيخان. وهو ما ينبغى أن يكون عليه اعتقادنا ، وإلا كنا نؤلّه نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما فعل النصارى مع عيسى عليه‌السلام! ثم إن عائشة أنكرت شرعا أن يرى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ربّه رأى العين ، لأنه تعالى قال : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٥١) (الشورى) وهو دليل ثان على نفى الرؤية عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ أنه تعالى حصر تكليمه للبشر فى ثلاثة أوجه : إما بالوحى ، أو الكلام من وراء حجاب ، أو يرسل إليه رسولا فيبلّغه عنه ، وفى جميع الأحوال يستلزم ذلك نفى الرؤية عنه حال التكليم ، ومن ثم نفى الرؤية مطلقا. ولا موجب من ثم أن يقول كعب الأحبار : إن الله قسم رؤيته وكلامه بين موسى ومحمد ، فكلم موسى مرتين ، ورآه محمد مرتين!!

* * *

٢٨٦. كيف يكون نبيا بينما الشيعة يؤكدون أنه

كتم بعض ما أمر به ولم يطلع عليه أحدا سوى على؟

أيما رسول فهو مبلغ عن ربّه ، وفى القرآن : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ

٢٥٥

وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (٦٧) (المائدة) ، وأخرج البخارى عن عائشة فى تفسير هذه الآية : من حدثك أن محمدا كتم شيئا مما أنزل الله عليه فقد كذب. وفى الصحيحين عنها أيضا قالت : لو كان محمد كاتما شيئا من القرآن لكتم هذه الآية : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) (٣٧) (الأحزاب). وقد نفى ابن عباس ذلك ـ فيما يرويه ابن أبى حاتم ـ لمّا جاءه الرجل فقال له : إن ناسا يأتون فيخبرونا أن عندكم شيئا لم يبده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للناس؟! فقال ابن عباس : ألم تعلم أن الله تعالى قال : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (٦٧) (المائدة)؟

وفى صحيح البخارى عن وهب بن عبد الله قال : قلت لعلىّ بن أبى طالب : هل عندكم (يقصد الشيعة) شىء من الوحى مما ليس فى القرآن؟ قال : لا والذى فلق الحبّة وبرأ النسمة ، إلا فهما يعطيه رجلا فى القرآن! ـ يعنى أنه لا علىّ ولا فاطمة كان عندهما شىء من القرآن كتمه النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم واختصهما به كما يزعم بعض الشيعة. والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد منّ الله عليه بالرسالة ، وعليه البلاغ ، وعلينا التسليم. والأمة الإسلامية قد شهدت للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أبلغ الرسالة وأدّى الأمانة ، وقد استنطقهم هو نفسه بذلك فى أعظم المحافل وهو خطبته يوم حجة الوداع ، وكان هناك من أصحابه نحو الأربعين ألفا. وكما ثبت فى صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قال فى خطبته تلك : «أيها الناس! إنكم مسئولون عنى ، فما أنتم قائلون»؟ قالوا : نشهد أنك قد بلّغت وأدّيت ونصحت. فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرفع إصبعه إلى السماء وينكّسها إليهم ويقول : «اللهم هل بلّغت»؟

* * *

٢٨٧. هل على المسلم ، مهما علا فى العلم ، أن يمتثل أقوال النبىّ

فى القرآن : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٧) (الحشر) ، وقد ثبت أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه». وأهل السنة على القول بوجوب الامتثال.

* * *

٢٨٨. ألا يمكن أن يستغنى المسلم بالقرآن عن السنة؟ هل للسنة ضرورة؟

تشرح السنّة القرآن وتفسّره ، ومن يطالب اليوم بالاستغناء عن السنّة بالقرآن ، فقد

٢٥٦

يدعو غدا إلى الاستغناء عن القرآن بالعقل والعلم والحضارة. ولا يعيب السنّة أن يكون ضمن أحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عدد من الأحاديث الموضوعة والمنسوبة إليه ، والتى غايتها إحداث البلبلة ، وصرف الأمة الإسلامية عن دينها ومقصود هذا الدين فى الحياة ، وأن : تقسم المسلمين طوائف وشيعا وفرقا. وأحكام القرآن جامعة وعامة ، وحتى ما كان منها مفصّلا ، فإنه يحتاج أن يصرف إلى ما يناسب الأمصار والأحوال والأزمان ، والسنة هذه وظيفتها ، وذلك هو عمل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن يشرح ، ويفسر ، ويبيّن ، ويبلّغ ، وينافح عن الدين. وفى القرآن يأتى عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) (٩٩) (المائدة) ، فأى بلاغ عليه؟ يقول تعالى : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) (٥٢) (إبراهيم) ، يعنى بالبلاغ القرآن ، ويقول : (إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) (٢٣) (الجن) يعنى ليس علىّ النبىّ إلا التبليغ عنه تعالى ، وإلا ما أوكله بإبلاغه. ويشرط هذا التبليغ بأن يكون مبينا ، كقوله تعالى : (أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (٩٢) (المائدة) ولم يختص النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبيان دون الرسل كافة : (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (٣٥) (النحل) أى البلاغ الذى يفصح ويظهر ويوضح ، وأصل أبان : وضّح ، تقول : هذا الشيء بيّن : أى واضح ، والبيان : هو الكلام الذى يكشف عن حقائق الأمور ، والبيّنة : هى الحجة الواضحة ، فإذا قال الله تعالى : (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) (٥٦) (الكهف) وقال لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) (٨) (الفتح) فإن عليه أن يبيّن هذه الشهادة وتلك البشارة والنذارة ، وهو ما تناوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى أحاديثه ، وفيما يقال له السنة النبوية ؛ والسنة : هى الطريقة والسيرة ؛ وسنة الله : هى فطرته التى خلق الخلق عليها ، وهى حكمه السارى فيهم ، وسنة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم هى ما ينسب إليه من قول أو فعل أو تقرير ، وهى طريقته صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فى فهم نصوص القرآن ، وهى طريقة مرضية من غير افتراض ولا وجوب ، ونسبة السنّة إلى القرآن كنسبة القوانين إلى الدستور ، والسنّة تفصّل مجمل القرآن ، وتقيّد مطلقه ، وتوضّح متشابهه ، وتشرح ما فيه من تعاليم وما جاء به من حكم ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال عن نفسه : «بعثت معلما» ، وجاء عنه فى كتاب الله : (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) (٥) (النجم) ، إعدادا له لرسالته التى يقول فيها : (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (١٥١) (البقرة) ، فأما آياته تعالى فهى القرآن ، وأما التزكية فهى تعاليمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الآداب التى مفادها اكتساب مكارم الأخلاق وتطهير النفوس من أدناسها ومن أفعال الجاهلية ، ويندرج ذلك تحت

٢٥٧

الحكمة : وهى السنة النبوية المطهرة ، ووصفنا لها بالمطهرة تنقية لها من الأحاديث الموضوعة ، وهى التى تخالف القرآن ، وتتخالف والعقل ، وينكرها القلب المؤمن. وقوله تعالى : (وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسّع مداركهم حتى صاروا أعمق الناس علما ، وأبرّهم قلوبا ، فكانت تعاليمه أو سنّته صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١٦٤) (آل عمران). فكأن السنّة منّة من الله تعالى ، ومن لم يعرف قدر هذه النعمة فهو المذموم المدحور ، ويقول فيه الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) (٢٨) (إبراهيم) يعنى بنعمة الله محمدا المجسّد للسنة المطهّرة ، ولهذا ندب المؤمنين إلى الاعتراف بهذه النعمة وأن يقابلوها بالذّكر والشكر ، فقال (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) (١٥٢) (البقرة) ـ ولما ذا؟ والجواب : (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ) (١٥١) (البقرة) ، يعنى كما فعلت ذلك فاذكرونى. والمسلم إذن عليه الأخذ بالسنّة فهذا من الإيمان بالله ، والرسول فى تعاليمه هو الأسوة لنا بنصّ القرآن : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (٢١) (الأحزاب) ، والأنبياء عموما قدوة ، كقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) (٨٩) (الأنعام) ، وقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) (٩٠) (الأنعام) ، والقدوة اتباع للهدى ، وهدى نبينا هو السنة ، ونبيّنا ليس عمله التبليغ فقط ، وإنما هو المقيم للإسلام ، وهو يجسّد القرآن ، وكانوا يسألون عائشة رضى الله عنها عن خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتقول : «هو القرآن» ، وكان المسلمون الأوائل يقولون : إنهم لا يقرءون القرآن قراءة وإنما يتدبرونه ويعايشون آياته ، كما كان يفعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد كان ربّانيا يعايش القرآن فى حياته وواقعه ، فيساوى بين النظرية والتطبيق ، ويحيل الآيات واقعا ممكنا.

والسنة نظرية وعملية ، وهى واقع فكرى واعتقادى ، وفلسفى ، وأخلاقى وجمالى ، واقتصادى واجتماعى ، وتربوى وقانونى ، وتشمل كل مجالات الحياة ونواحى الحضارة. والأخذ بها طاعة لله أولا ولرسوله ثانيا ، وقد ورد الأمر بطاعة الله ورسوله معا سبع مرات فى القرآن ، ووردت طاعة الله فقط خمس مرات ، وطاعة الرسول ست مرات ، وقرنت طاعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتقوى الله إحدى عشرة مرة ، وجاء الأمر باتّباعه تعالى واتباع رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإضافة إلى أولى الأمر مرة واحدة فى قوله : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٥٩) (النساء). وعدم الطاعة لله تعالى ولرسوله تؤذن بالتنازع والفشل (الأنفال ٤٦) ، والطاعة لهما على العكس مردودها الرحمة (آل عمران ١٣٢) ، وفيها الفوز العظيم

٢٥٨

(الأحزاب ٧١) ، وثوابها الجنة (الفتح ١٧) ، والذين يطيعون : هم الذين أنعم الله عليهم (النساء ٦٩) ، وعدم الطاعة مآلها العنت (الحجرات ٧) ، وطاعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم من طاعة الله (النساء ٨٠) ، والأمر بها لأن الرسول هو الأمين على دعوة الله (النساء ١٢٦) ، والسمع والطاعة واجبة على الجميع (التغابن ٦) ، وهى على النساء كما على الرجال (الأحزاب ٣٣) ، ولم يكن إرسال الرسل إلا ليطيعهم الناس بإذن الله (النساء ٦٤) ، والرسل صادقون لأنهم لا يتقاضون أجرا على البلاغ ، وإنما أجرهم على ربّ العالمين (الشعراء ١١٠) ، وبرهان محبة الله اتّباعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣١) (آل عمران) ، والسمع والطاعة والاتّباع لتعاليم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الأخذ بالسنّة ، فالسنة على ذلك هى لب الإسلام ، وجوهر الدين ، ومناط المسلم ، والاعتقاد فيها ، والعمل بمقتضاها ضرورة قرآنية ، وإنكارها أو إهدار العمل بها هو إنكار للإسلام ، وإهدار للقرآن نفسه ، وتضييع للدين ، وقانا الله شرّ ذلك ، وجعلنا من أوائل العاملين بها آمين.

* * *

٢٨٩. طاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من طاعة الله

يقول تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (٨٠) (النساء) ، فاعلم يا أخى أن طاعة رسوله طاعة له تعالى ، وفى الحديث : «من أطاعنى فقد أطاع الله ، ومن عصانى فقد عصى الله».

* * *

٢٩٠. أحكامه وأحاديثه الصحيحة واجبة

من دلائل ضرورة السنّة الصحيحة ووجوب الأخذ بأقوال وأحكام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الآية : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) (١٣٢) (آل عمران) فقرن طاعته تعالى بطاعة رسوله ؛ والآية : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ) (٦٤) (النساء) ، فقضى بطاعة كل الرسل ، وقال : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) (٤) (إبراهيم) ، فحدد مهمة الرسول بأنها لبيان ما أنزله الله ، فال الله تعالى فرض الصلاة ، فطاعة الله أن يصلى الناس ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيّن لنا ماهية الصلاة ، وعدد الصلوات ، وكيفيتها ، وما يقال فيها ، والتجهيز لها ، وعدد ركعاتها ، وطاعة الله إذن تكملها طاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما فى قوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٦٥) (النساء) ، فشرط الإيمان بالرضا بأحكام النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتسليم بأقواله ، والمصادقة

٢٥٩

على ما حدّث به ، وكل من طعن فى حكم أو حديث صحيح للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو ردّه ويستتاب. وكان نزول هذه الآية الأخيرة لنفى الادعاء بأن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحكم على الناس من أجل قرابته ، وفى الآية : (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (١٠٨) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) (١٠٩) (النساء) كادت تقطع يد يهودى فى سرقة اتّهم بها ظلما ، فقضى الله تعالى بأن يحكم رسوله بما أراه الله ـ أى بقوانين الشرع ، وبالنصّ الموحى به ، أو بالنظر الجارى على سنن الوحى ، فاستنّ بذلك أصلا للقياس ، وهو دليل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا رأى رأيا وقضى بحكم أصاب ، لأنه الله تعالى أفهمه إياه ووعّاه به ، وضمن له العصمة كأنبيائه. وفى الآية إضمار ، وهو أن يمضى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما عرّفه ربّه من غير اغترار باستدلال الآخرين ، وفى ذلك دستور للقضاة من بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ليحكموا بين الناس بما أراهم الله ، وللمحامين فلا يجادلون عن الخائنين ، ولا يعاضدون أهل التّهم ويدافعون عنهم بالحجج ، وفى هذا دليل على أن النيابة عن المتهم فى الخصومة لا تجوز ، إلا إذا علم أنه محق. والمحامى الذى يدافع عن خصم خوّان ، يأثم أشد الإثم ، وكذلك شهود الزور الذين يبيّتون ما لا يرضى الله من القول ، والله يعلم بما يبيّتون.

* * *

٢٩١. الطاعة لله وللرسول وأولى الأمر

الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (٥٩) (النساء) دستور إسلامى ، وللأمم دساتير ترجع إليها فى أحكامها ، والدستور مبادئ عامة ، ودستور أمة الإسلام هو القرآن والسنّة ، ومن هذين يستنبط أولو الأمر ، وعلى هدى ما فيهما يقيسون ، وإلى نصوصهما يحتكمون ويقضون بما فهموه عقلا وموضوعا. والطاعة للحاكم إذن ، ولأية قوانين تصدرها المجالس النيابية ، واجبة فيما كان لله فيه طاعة ، ولا تجب فيما كان لله فيه معصية. وأولو الأمر هم أهل الاختصاص الذين يدبّرون أمور الناس وسياسة الحكم ، ويصدرون القوانين وينفذونها ويقضون بين الناس ، ويفرقون بين الحق

٢٦٠