موسوعة القرآن العظيم - ج ١

دكتور عبد المنعم الحفني

موسوعة القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

دكتور عبد المنعم الحفني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
ISBN: 977-208-442-2
الصفحات: ١٢٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

وصفت عائشة اللاتى وهبن أنفسهن فقالت : ألا تستحى المرأة أن تهب نفسها؟ وفى رواية قالت : أتهب المرأة نفسها؟ وعن ابن أبى حاتم قال : إن التى وهبت نفسها «خولة بنت حكيم». وعن عروة قال : كنا نتحدث أن خولة بنت حكيم كانت قد وهبت نفسها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم». والحق أن اللاتى وهبن أنفسهن كثيرات ، وقد نفى ابن العباس أن يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قبل واحدة منهن ، وقال : لم يكن عنده امرأة واحدة وهبت نفسها له». وميمونة كانت من العابدات ، ومع ذلك حاول المرجفون مرة أخرى أن ينسبوا لها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ بها وهو محرم ، والثابت ـ قبّحهم الله ـ أنه خطبها حلالا ، وبنى بها بسرف حلالا. ثم حاولوا أن يطعنوا فى خلقها ، فقالوا إن النبىّ تأخر فى ليلة من الليالى فجاء إلى بيتها فى ليلتها ، فوجدها قد أغلقت الباب دونه! ورفضت أن تفتح له! فقال لها : «أقسمت إلا فتحته لى!» فقالت : تذهب إلى أزواجك فى ليلتى هذه؟! قال : ما فعلت ، ولكن وجدت حفنا من بولى!» ـ (أى حبسا فى البول) ، مع أن ميمونة هذه بعد وفاة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان عمرها تسعا وعشرين سنة ، ولم تعاشر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا ثلاث سنوات فقط ، أبت إلا أن تتبتل ، وحلقت رأسها! وحدّثت عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولها فى كتب الحديث نحو الخمسين حديثا ، وماتت وعمرها سبعون سنة ، فلما دفنوها كان رأسها مجمما! أى أملسا. وكانت أوصت ابن العباس أن يدفنها بسرف ، فى المكان الذى تزوجت فيه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إجلالا للمكان ، ولذكرى زواجها من المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فحملها ابن عباس من مكة إلى سرف ودفنها كوصيتها!

وبعد ... فلقد كانت هذه أخبار زوجات النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الإحدى عشرة ، التى قيل إنهن كن زوجاته ، اثنتان توفيتا فى حياته ، ومات هو عن تسع كما قيل ، ولقد رأينا أنه من كل هؤلاء لم تكن له زوجة إلا خديجة التى توفيت ولم يتزوج عليها طيلة حياته ، ثم كانت عائشة ، وهذه هى الزوجة فعلا ، فقد تعلّمت عليه ، وأخذت عنه الفقه ، واشتغلت بالدعوة ، وجاهدت ، وغزت معه ، ونصبها حوارية له ، فكانت الداعية إلى الإسلام ، والمؤرّخة ، والمحدّثة والمفسّرة للقرآن ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعائشة أوحد الزوجة ، فإن توسّعنا فى معنى الزوجية ، فمن الممكن إدراج حفصة ، وأم سلمة ، وزينب بنت جحش مع عائشة ، فهؤلاء أربع طبقا للشرع ، وهؤلاء اللاتى آواهن ، وأما غيرهن فقد أرجاهن ، ولم يقسم لهن كغيرهن. وأما ريحانة اليهودية ومارية القبطية فكانتا ملك يمين. وأما من حطبهن ، مثل الكلابية ، والكندية ، وأم شريك ، وبنت الهذيل ، والجندعية ، والغفارية ، وبنت عامر ، وبنت بشامة ، وبنت الخطيم ، فهؤلاء لم يدخل عليهن. وأما خولة بنت حكيم فهذه وهبت له نفسها

٢٠١

فزوّجها عثمان بن مظعون. وما كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب النساء كالحديث المزعوم عن أنس ، وما كان يهمه إلا الدعوة إلى الله ، وأن يدخل الناس فى الإسلام ، وأما المستشرقون ومزاعمهم فسيظل ذلك دأبهم ، ولن يتوقفوا عن اللغط فى سيرته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسيرة زوجاته ما داموا يستهدفون الإسلام ، وحسبنا الله!

* * *

٢٤٨. ردّ القرآن على فرية أنه مزواج

حسد اليهود العرب أن تكون فيهم نبوة ، وحسدوا النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على القرآن والحديث ، وحسدوه على ما أحلّ الله له من النساء ، فردّ عليهم الله حسدهم ، فقال : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) (٥٥) (النساء) ، يعنى أن الملك والكتاب كانا فيهم فلم يحسدهم أحد ، وكان ملك داود وسليمان مضرب الأمثال ، وكانت لإبراهيم وداود ، وسليمان ، كثرة من النساء ، وبلغ عددهن عند سليمان : ألف امرأة : ثلاثمائة مهرية (يعنى بمهر) ، وسبعمائة سرّية ؛ وعند داود مائة امرأة ، وعند إبراهيم ثلاث ، وعند يعقوب أربع ، فهل فعل النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا ما فعل هؤلاء؟ وكان اليهود ، ومن بعدهم المستشرقون من اليهود والنصارى ، يعيبون على النبىّ زواجه من تسعة ، وحجّتهم : لو كان نبيا ، ما رغب فى كثرة النساء ، ولشغلته النبوة عن ذلك؟ وما يقدمونه من تبريرات لزواج داود وسليمان هى نفسها تبريرات زواجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكنهم يقبلون مبررات زواج داود وسليمان وحتى إبراهيم ، ولا يقبلون نفس التبريرات للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قالوا : إن هؤلاء ـ يقصدون إبراهيم وداود وسليمان ـ أرادوا بالزواج المصاهرة وكثرة العشيرة ، فكل امرأة يتزوجونها لها قبيلتان ، واحدة عن طريق الأب ، وواحدة عن طريق الأم ، فكلما تزوّج أىّ منهم امرأة توجهت قبائلها إليه ، وكانوا له عونا على أعدائه. فلما ذا يصحّ ذلك مع أنبيائهم ولا يصحّ مع نبيّنا؟! والذى حدث أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان فى بعض زيجاته يتألّف أعداءه ، وفى بعضها كان يأوى المسلمات المترملات باستشهاد أزواجهن وهم أصحابه. والآيتان السابقتان الآن لا تنصرف معانيهما إلا إلى ما تعظان به عموما من النهى عن الحسد.

* * *

٢٤٩. أغلب الرسل لهم أزواج وذرية

عاب اليهود على النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الزواج بأكثر من واحدة ، وعيّروه بذلك ، وقالوا : ما نرى لهذا الرجل همة إلا النساء والنكاح ، ولو كان نبيا لشغله أمر النبوة عن النساء ، فأنزل الله

٢٠٢

الآية : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) (٣٨) (الرعد) ، أى أنه تعالى جعل رسله بشرا يقضون ما أحل الله ، وإنما الفرق بين الرسل والبشر أنه تعالى خصّ الرسل بالوحى. والآية ترغّب فى النكاح وتحضّ عليه ، وتنهى عن التبتل وهو ترك النكاح ، والسنّة واردة فى معنى الآية : قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تزوجوا فإنى مكاثر بكم الأمم» ، وقال : «من تزوج فقد استكمل نصف الدين ، فليتق الله فى النصف الثانى» ، وقال : «تزوجوا الودود الولود فإنى مكاثر بكم الأمم».

* * *

٢٥٠. نساؤه هن أهل بيته ولسن كأحد من النساء

فى الآيات : (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً) (٣٤) (الأحزاب) تقرير بأن نساء النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم هن أهل بيت النبوة ، وهن زوجاته المقصودات بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وأهل بيتى ، أذكّركم الله فى أهل بيتى ، أذكّركم الله فى أهل بيتى» ، قاله مرتين ، يوصى بهن. وفى قوله تعالى : (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) فيه إفراد لهن على النساء جميعا منزلة وشرفا وفضلا ، وقوله : (إِنِ اتَّقَيْتُنَ) ، ليس شرطا تتوقف عليه هذه الرفعة فى المنزلة والشرف والفضل ، فهن بالفعل لسن كأحد من النساء ، يعنى لا يشبههن أحد ، باعتبار تقواهن قولا وفعلا ، والتقوى هى التى تفاضل بين العربى والأعجمى ، فلا يتميز هذا عن ذاك إلا بها ، وكذلك فضل بيت النبوة ، لأنه البيت المؤسس على التقوى ، وأهله لهن الآداب المرعية والتعاليم المقضية ، فهن لا يخضعن فى القول بما يطمع فيهن من فى قلبه دغل ، ومن يتشوف الفجور ويتطلّع للفسق والغزل. وقوله (كَأَحَدٍ) فيه نفى من المذكر والمؤنث ، والواحد والجمع ، فهن بلا ضريب فى الآداب ، مما يجعلهن مثلا يحتذى ، وقدوة تقتدى ، فإذا تكلمن لا يقلن تهريفا ولا ينطقن هذرا ، وحديثهن هو الحديث الجزل ، وكلامهن هو الفصل ، لأن المرجعية فيه للسنّة ، ومداره الشروح على القرآن ، وحياتهن لذلك جدّ لا هزل فيه ، فواجباتهن جسام ؛ وكانت عائشة تؤم المسلمات ، وتؤذّن للصلاة ، وتفسّر القرآن وتعلّم الحديث ؛ وكذلك كانت أم سلمة ؛ وكانت زوجاته إما مصليات ، أو صائمات ، أو ذاكرات قانتات ، وفى قوله تعالى : (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) تنبيه إلى أنه ما كان قبل الإسلام كان جاهلية ، وذلك معنى وصفها بالأولى ، أى السابقة على

٢٠٣

نزول القرآن ، والتبرّج هو أن تظهر المرأة زينتها للأجانب ، ويسمونه فى علم النفس الاستعراضية وحب الظهور ، والمرأة الاستعراضية هى المتبرجة ، تعرض محاسنها على المتطلّعين والمتنظّرين ، تلفت إليها انتباههم لحاجة مرضية فى نفسها ، ولذلك وعظ الله المؤمنات ونساءه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خصوصا ، أن ينأين بأنفسهن عن ذلك ، والخروج للمرأة مشروط بالتستّر ، وأن لا يكون تبذّلا ، والنساء عفائف ، ونساء النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خصوصا عليهن واجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، فهن المعلّمات المصلحات بما حباهن الله من مصاحبة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واستماع دائم لتلاوة القرآن ، وأقواله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الدين. ويذكر التاريخ أن عائشة أم المؤمنين كان بيتها مدرسة للعلم ، ومنتدى أدبيا تلقى فيه الحكمة ، ويتذاكر التاريخ ، ولما خرجت إلى العراق ، ما دفعها إلى ذلك إلا لتصلح بين الناس ، وتردّ الرعاع ، وتطالب بدم عثمان ممن قتلوه ، وكان أهل المظالم قد تعلّقوا بها ، وشكوا إليها ما صاروا إليه من فتنة عظمى ، وما آل إليه الحال من تهارج الخصماء ، ورجا الناس بركتها ، وطمعوا فى الاستحياء منها ، فخرجت مقتوية بقوله تعالى : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (١١٤) (النساء) ، وبقوله تعالى (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) (٩) (الحجرات) ، والأمر بالإصلاح مخاطب به الناس جميعا من ذكر وأنثى ، وعائشة ، بل وزوجاته جميعا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كن يجتهدن ويتأوّلن القرآن والسنّة ، وهو ما ينبغى على كل مسلمة ، وإنما الخروج من البيت لا يكون إلا برّا ، وتقوى ، وجهادا ، وسعيا وراء لقمة العيش ، وتحصيلا للعلم ، وأمرا بمعروف أو نهيا عن منكر ، وبمثل ذلك التحرّج فضلت نساء النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على نساء العالمين ، فأذهب الله عنهن الرجس ـ وهو كل قول أو عمل قبيح ، وطهّرهن تطهيرا ، وكانت بيوتهن طاهرة بما يتلى فيها من آيات الله ، فذكّرهن بها مخاطبة ، فقال : (وَاذْكُرْنَ) على جهة الموعظة ، وتعديد النعمة بما يتلى فى بيوتهن من آيات الله ، وما يقال فيها من أحاديث رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهى المقصودة بالحكمة ، فكان عليهن أن يشكرن الله ويحمدنه ، وهو اللطيف الذى لطف بهن ، وخصّهن بكل هذا الفضل ، وكان خبيرا بهن ، فاختارهن لرسوله أزواجا ، واستحققن بذلك أن يقول فيهن كل مسلم وهو يسلّم فى صلاته : «اللهم صلّ وسلّم وبارك على محمد وعلى آل محمد» ، وآله هم أهل بيته ، وهم أزواجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

* * *

٢٥١. أهل بيت الرجل هن نساؤه

فى سورة هود حيّت الملائكة سارة زوجة إبراهيم ، فقالوا : (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ

٢٠٤

أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) (٧٣) (هود) فدلّت السورة على أن زوجة الرجل أو زوجاته هن أهل بيته ، كما دلت على أن أزواج الأنبياء هن أهل البيت ، ومن ثم كانت السيدة عائشة وغيرها من زوجات النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم هن أهل بيته ، ممن خاطبهن بقوله تعالى : (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (٣٢) (الأحزاب) وقوله (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (٣٣) (الأحزاب) إلى قوله (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً) (٣٤) (الأحزاب) ، وكلها آيات تثبت : أن أهل البيت هم نساء النبىّ لا غير.

* * *

٢٥٢. هل تزوج خديجة قسرا عن أهلها وخداعا لهم؟

رواة الإسرائيليات ، الذين يتخرّصون على النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى صارت تخرّصاتهم مؤلفات وكتبا ، روّجوا تشنيعات اليهود ومن لفّ لفّهم وادّعوا : أن خديجة بنت خويلد زوجة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم تآمرت مع أختها على التدليس على عمها كى تتزوج من محمد الفقير المعدم ، الذى لا يكافئها يسارا ومكانة ، وأنها سقت أباها خمرا حتى فعلت فعلها فيه ، فجعلته يدعو محمدا وزوّجه منها ، وأن محمدا سنّ على الشيخ حلّة ، فلما صحا من سكره قال : ما هذه الحلّة؟ قالت خديجة وأختها : كساكها ختنك محمد (أى زوج ابنتك)! فغضب أبوها ، وأخذ السلاح ، وانتصر بنو هاشم لمحمد وأخذوا السلاح بدورهم ، وقالوا لآل خديجة : ما كانت لنا فيكم رغبة! ثم اصطلحوا بعد ذلك!!!

وهذه الرواية اخترعها أوباش مكة لما بدأ النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعوته فى السنة الثالثة عشر قبل الهجرة ، أى بعد زواجه من خديجة بخمس عشرة سنة! وروّج لها سفهاء المشركين ، وأشاعها يهود المدينة من بعد ، وبثّها المفسّرون والمؤرخون فى مؤلفاتهم!. وللأسف منهم الكثير من المسلمين! وقالوا فى رواية أخرى : إن خديجة سقت أباها الخمر حتى ثمل ، ونحرت بقرة ، وخلّقته بخلوق ، وألبسته حلّة حبرة (والخلوق هو الطيب ، والحبرة هى البردة الموشاة) ، فلما صحا قال : ما هذا العقير؟ وما هذا العبير؟ وما هذا الحبير؟ (والعقير : متاع البيت ، والعبير : الطّيب ، والحبير : الجديد من الملابس) فقالت خديجة : زوّجتنى محمدا! قال منزعجا ينفى ذلك بشدة : ما فعلت! أنا أفعل هذا وقد خطبك أكابر قريش فلم أفعل؟!

والروايتان محض افتراء وغلط وو هل ، والثابت المحفوظ عند أهل العلم : أن أباها خويلد بن أسد مات قبل حرب الفجّار!! وأن عمها عمرو بن أسد هو الذى زوجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم!!!

٢٠٥

وإزاء بطلان هاتين الروايتين نزع الوشاة الحاقدون من أهل الكتاب والمشركين ، ومن بعدهم المستشرقون من اليهود والنصارى ، ومن المسلمين أنفسهم أصحاب الدعوات العلمانية الليبرالية ، إلى رواية يطعنون بها زواج النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويصنعون منه ومن خديجة قصة ، أظهروا فيها النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخادعا يدبّر الزواج من أرملة ثرية ، وصوّروا خديجة امرأة تبحث عن المتعة لدى شاب يصغرها سنا. وقالوا : إن عمّ خديجة عمرو بن أسد الذى زوّجها ، كان يومئذ شيخا كبيرا لا يدرى ، ولم يكن له أولاد يدفعون عنه ، وأن خديجة ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خدعاه ، وأحضراه العرس وهو لا يفهم ولا يعى!! ... هكذا!!!

فذلك ما افتأتوا به على النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى خديجة فى زواجهما ، وردّده من قريب ذلك المستشرق اليهودى رودنسون ، وتقرر كتابه فى الجامعة الأمريكية باسم حرية البحث ، ووزّعت منشورات عن ذلك فى مصر يتقوّلون فيها نفس المقالة ، وما كانت سيرة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا امتثال القرآن ، ولو فرضنا ما افترضوا أن القرآن من وضعه ، فلا بد أن يكون نتاج طبعه الجبلّى ، وقد تصوّره بسجيته وخلقه كما تعلمنا فى علم النفس وفى التحليل النفسى ، وليس فى القرآن إلا الحقّ والخير والجمال والعدل ، وهو حىّ يشهد له لا عليه ، وجميعه مواقف ، ومن دأبها أن تكشف عن باطن أصحابها ، ومكنون صدورهم ، والمكبوت من مشاعرهم وأحاسيسهم ، والدفين من مواجيدهم ، وما تكشّف من مواقف القرآن من شخصية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الحياء الشديد وكريم المحتد ، والحلم والصفح ، والشجاعة ، وميله الغالب إلى المسالمة والسلام ، ويشهد له المحيطون به والذين عملوا معه ، فما قال لأنس بن مالك ، خلال عشر سنوات خدمه فيها : أفّ قط ؛ ولا قال لشىء فعله لم فعلته؟ ولا لشىء لم يفعله ألا تفعله؟ وشهدت زوجاته أنه ما شتم إحداهن يوما ، ولا لعنها ، ولا ضربها ، وما ضرب خادما ولا امرأة ، ولا ضرب بيده شيئا قطّ ، إلا أن يجاهد فى سبيل الله ، ولا خيّر بين شيئين إلا كان أحبّهما إليه أيسرهما ، إلا أن يكون إثما ، ولا انتقم من شىء يؤتى إليه إلا أن تنتهك حرمات الله.

وأما خديجة : فكانت امرأة حازمة ، وجلدة ، وشريفة ، فلما تزوجته كان اختيارها صائبا ، ودللت على رجاحة عقل ، ووعت عنه طبعه وميوله ، واكتشفت أنه ينشد الوحدة أحيانا ، ويروم التأمل ، فهيأت له أسباب ذلك ، وكانت تعدّه لرحلته إلى حراء يتحنّث فيه الليالى ، وكان نزول الوحى عليه حدثا وأى حدث ، فخشى أن يكون قد أصيب فى عقله وتشتتت نفسه ، فطمأنته ، لعلمها عنه ، وقالت مقالتها الشهيرة : إن الله لا يفعل بك ذلك يا ابن عبد الله! إنك تصدق الحديث ، وتؤدى الأمانة ، وتصل الرحم. ـ ولما اضطهده أهل مكة ،

٢٠٦

ما تركته يجاهد وحده ، وشاركته فيما يعانى ، وظلت وفية صادقة ، وكلما شهدته يتألم ، فيسألها وبه خشية أن يكون على غير الحق ، فتقول له ـ تستحثه وتشجعه وتصبّره : لم يكن الله ليفعل بك ذلك يا ابن عبد الله!

فهل مثل هذين يمكن أن يخادعا ويصانعا ويمكرا ويحتالا كما تقول الرواية الإسرائيلية؟ والعقول خلقها الله أجهزة أعدّها لنوعيات من الإنتاج يناسبها ، والعقلية والمزاج النفسى ونمط شخصية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن منها المخادعة على ما رووا ، فمثل ذلك أليق بالعقلية اليهودية ، وفى سفر التكوين حكاية مشابهة يرويها عزرا كاتب التوراة فى الفصل العشرين ، عن ابنتى لوط ، فقد أسكرا أباهما وضاجعتاه ، فذلك الشيء إذن من التراث اليهودى وليس من التراث العربى ، وهو دليل أى دليل ، على أن مخترع القصة عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يهودى ، يستحضر لا شعوره الجمعى ، ويكشفه هذا المكبوت فيه فيما يتقوّل ويختلق من قصص وروايات ، فيكاد المريب يقول خذونى!

* * *

٢٥٣. هل طلق زينب من زوجها ليتزوجها؟

وهل كانت بينه وبينها قصة حب؟!

كلام المستشرقين فى قصة زواج النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من زينب كثير ، ومؤلفاتهم حول هذا الموضوع بالعشرات ، بدءا من القرن السادس عشر وحتى الآن! ولم يتفقوا فيما بينهم فى شىء بقدر اتفاقهم فى هذا الموضوع بالذات ، فكان زواجه من زينب تكأتهم فى الطعن على نبىّ الإسلام ، والاستدلال بذلك على كذب نبوّته ، فقد ورد فى القرآن فى آية تحريم المحارم من النسب والصهر والرضاع ، أن الأب يحرم عليه أن يتزوج مطلقة ابنه ، بقوله تعالى : (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (٢٣) (النساء) ، ولكن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوج امرأة زيد بن حارثة ، المعروف بأنه ابنه ، واشتهر باسم زيد بن محمد ، ويقول عطاء فى تفسير الآية : كنا نحدّث أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نكح امرأة زيد ، قال المشركون بمكة فى ذلك ، فأنزل الله عزوجل : (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) وكان يقال لزيد أنه «زيد بن محمد» ، والصحيح أن زيدا لم يكن ابنه على الحقيقة ، ولكنه بالتبنى ، فنزلت الآية : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) (٤) (الأحزاب) ، والآية : (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) (٣٧) (الأحزاب). والأدعياء جمع دعىّ ، وهو الملتحق بنسب غيره ، فاشترط للتحريم : أن يكون

٢٠٧

الابن من الصلب وليس بالتبنى ، وبذلك ينتفى ركن اتهامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه انتهك التحريم ، ويتأكد هذا الانتفاء بالآية : (ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) (٣٨) (الأحزاب). ومعنى (سُنَّةَ اللهِ) أى حكمه تعالى فيمن سبقه من الأنبياء ، فما كان الله تعالى يأمرهم بشيء وعليهم فى ذلك حرج ، وهو ردّ على من توهم من المنافقين نقصا فى تزويجه امرأة زيد ، مولاه ودعيّه الذى كان قد تبنّاه ، وفى ذلك يقول الله تعالى : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (٤٠) (الأحزاب) ، فنهى أن يقال بعد ذلك عن زيد أنه «زيد بن محمد» ، فهو ليس أباه وإن كان قد تبنّاه ، ولم يحدث أن عاش للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولد ذكر حتى بلغ الحلم ، فأولاده الذكور من خديجة ماتوا صغارا ، وابنه من مارية القبطية (أى المصرية) مات رضيعا. ولما حرم زيد من شرف أن يقال عليه ابن محمد عوّضه الله أن ذكر اسمه فى القرآن ، وصار يتلى اسمه فى المحاريب ، ونوّه به غاية التنويه ، فكان فى هذا تأنيس له. والإنعام الذى أنعم به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على زيد بن حارثة كما فى الآية هو أنه أعتقه من الرّق ، فعند ما كان زيد طفلا يفعة قد أوصف ، أغارت خيل لبنى القين بن جسر فى الجاهلية على أبيات بنى معن من طىء ، وكان زيد وأمه عندهم فى زيارة لقومها ، فاحتملوه ، ووافوا به سوق عكاظ ، فباعوه لحساب خديجة بنت خويلد ، فلما تزوّجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهبته زيدا ، فنشأ فى كنف النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان بينهما عشر سنوات ، وأحبه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما فيه من خصال طيبة ، حتى كان يكنيه «الحبّ» ، ويكنّى ابنه أسامة : «الحبّ ابن الحبّ» ، وقالت فيه عائشة : ما بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى سرية إلا أمره عليهم ، ولو عاش بعده لاستخلفه.

وخطب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لزيد زينب بنت جحش ، ابنة عمته أميمة بنت عبد المطلب ، وكانت قد هاجرت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة ، وهنا يبدأ الاختلاف فى الروايات حول بعض الآيات ، وكلها روايات من الإسرائيليات التى دلّسها اليهود على رواة المسلمين الأوائل ، أو أن هؤلاء الرواة أخذوا هذه التفسيرات مباشرة من اليهود ، من أمثال كعب الأحبار ، وابن سلام ، وابن منبّه ، والذين نقلوا هذه الروايات عن السلف نقلوها من غير منهج ، وبلا تمحيص ولا مناقشة ، ويبدو أن طريقتهم كانت تعتمد أساسا على سرد كل الروايات ، وللقارئ أن يأخذ بها أو يرفضها ، غير أن بعضهم كانت تفسيراته منكرة ، وعرف عنه الكذب!!

وفى رواية ابن عباس عن الآية : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (٣٦) (الأحزاب) : أن

٢٠٨

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب زينب لزيد بن حارثة فاستنكفت منه ، وقالت : أنا خير منه حسبا ، وكانت امرأة فيها حدّة ، فأنزل الله تعالى الآية ـ يعنى أنها رفضت الخطبة ، وبحدّة ، واستنكرتها.

ومع ذلك ففي تفسير الآية السابقة روايات أخرى تختلف تماما عن الرواية السابقة ، فعبد الرحمن بن أسلم قال فيها : نزلت الآية فى أم كلثوم بنت عقبة بن معيط ، وكانت أول من هاجر من النساء ، فوهبت نفسها للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقبل ذلك منها ، وزوّجها لزيد بن حارثة بعد فراقه زينب ، فسخطت هى وأخوها ، وقالا : إنما أردنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فزوّجنا عبده!! فنزلت الآية.

وفى رواية أخرى عن أنس : أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب امرأة لصحابىّ يقال له جلبيب ، فلم يردّ عليه أبوها ، وذهب يستشير زوجته وابنته ، فأما زوجته فعابت على هذا الاختيار ـ وقالت : ما وجد إلا جلبيبا وقد منعناها من فلان وفلان؟! والابنة فى خدرها تسمع ، وانطلق الأب يريد أن يخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت الابنة : أتريدون أن تردّوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم توصيته بصاحبه؟ إن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد رضى صاحبه لكم فأنكحوه. فنزلت هذه الآية.

وفى رواية أخرى : أن ابن عباس قال فى هذه الآية : إنها عامة فى جميع الأمور ، فإذا حكم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشيء ، فليس لأحد من مخالفته ، ولا اختيار لأحد هاهنا ، ولا رأى ولا قول.

وهذا الرأى الأخير فى أسباب نزول الآية هو الأصحّ ، والقول بغير ذلك طعن فى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو الذى قضى بأن يؤخذ رأى المرأة فى زواجها ، وأن لا تكره على زواج لا ترضاه!؟

وأما الآية : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) (٣٧) (الأحزاب) فهى الأخرى تعرضت لمختلف التفاسير من الإسرائيليات ، مع أن المراد بها واضح تماما. وفى رواية ابن كثير : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زوّج زيدا بابنة عمته زينب ، وأصدقها عشرة دنانير وستين درهما ، وخمارا وملحفة ودرعا ، فمكثت عنده قريبا من سنة أو فوقها ، ثم وقع بينهما ، فجاء زيد يشكوها إلى رسول الله ، فجعل يقول له : «أمسك عليك زوجك واتق الله».

٢٠٩

وأما قوله تعالى (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ) ، ففي رواية ابن أبى حاتم عن علىّ بن الحسين : أن الله تعالى قد أعلم نبيّه أنها ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها! فلما أتاه زيد يشكوها قال له : «أمسك عليك زوجك» ، ـ والرواية كما ترى ، أخفّ الروايات وطأة ، ومن الميثولوجيا الدينية. وعند ابن جرير أن الوطر فى الآية هو الحاجة وقيل هو الزواج ، وقيل هو الجماع ، والمعنى عموما أن زيدا لمّا تزوجها زيد وفشل زواجهما وفارقها ، أمرناك بالزواج منها بعد انقضاء عدّتها.

وفى رواية أنس غير ذلك ، فقد ذكر أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا طلقها زيد ، طلب منه أن يذهب إليها ويذكرها عليه ـ أى على النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد ولى زيد تزويجها منه! ويذكر أنس شيئا عجيبا ، يقول : إنه لما ذهب إليها كانت تخمّر عجينا ، فلما رآها عظمت فى صدره حتى ما يستطيع أن ينظر إليها! فولّاها ظهره ونكص على عقبيه ، وقال لها : يا زينب أبشرى ، أرسلنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكرك. قالت زينب : ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤمر أو أوامر ربّى عزوجل (يعنى تصلى لله تستخيره فى هذا الزواج) ، فقامت إلى مسجدها ، ونزل القرآن. وأطعم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخبز واللحم احتفالا لأول مرة بزواج له. ولما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنسا يلازمه كظله ألقى الستر بينهما ، ونزلت آية الحجاب : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً) (٥٣) (الأحزاب) ، ووعظ الناس الذين ظلوا فى البيت بعد الوليمة بالآية (لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) (الأحزاب).

وفى رواية الزمخشرى قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبصرها بعد ما أنكحها زيدا ، فوقعت فى نفسه ، فقال : «سبحان الله مقلب القلوب»!! ويبرر الزمخشرى قوله ذلك بأنه كان قبل ذلك يجفو عنها ولا يريدها! ويستطرد الزمخشرى : وسمعت زينب تسبيحته ـ أى قوله سبحان الله ـ فذكرتها لزيد ، ففطن وألقى الله فى نفسه كراهة صحبتها والرغبة عنها لرسول الله! وقال مثل ذلك الثعلبى ، والنسفى ، والجلال المحلى وغيرهم!

وروى القرطبى عن مقاتل : أن زينب تزوجت من زيد فمكثت عنده حينا ، ثم إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى زيدا يوما يطلبه ، فأبصر زينب قائمة ، وكانت بيضاء ، جميلة ، جسيمة ، من أتم نساء قريش!! فهويها ، وقال : «سبحان الله مقلب القلوب»! فسمعت زينب التسبيحة ، فذكرتها لزيد ، ففطن

٢١٠

زيد ، فاستأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى طلاقها ، وذكر أسباب ذلك فقال : إن فيها كبرا وتتعظّم علىّ ، وتؤذينى بلسانها ، فقال النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أمسك عليك زوجك واتق الله. وقيل : إن الله بعث ريحا فرفعت الستر وزينب متفضّلة فى منزلها ـ (أى فى ملابس البيت)! فرأى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب ، فوقعت فى نفسه! ووقع فى نفس زينب أنها وقعت فى نفس النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك لما جاء يطلب زيدا ، فلمّا جاء زيد أخبرته ، فوقع فى نفسه أن يطلقها. وإذن فقوله تعالى : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) هو الحب لها!!

وفى رواية ابن سعد : أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء يطلب زيدا لأمر ، فجاء منزله فلم يجده ، وقامت إليه زينب عجلى فضلا (يعنى فى ملابس البيت) ، تريد أن تلبس لمّا قيل لها رسول الله ، وأعرض عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأجابت : أن زيدا ليس هنا وطلبت إليه أن يدخل ، ولكنه ولّى وهو يهمهم بشيء لا يكاد يفهم منه ، ربما كان : سبحان الله العظيم! سبحان مصرّف القلوب! فجاء زيد إلى منزله ، وأخبرته زوجته ، وسألها : ألا قلت له أن يدخل؟ قالت : أبى. وقالت سمعته حين ولّى يتكلم بكلام لا أفهمه ، يقول : سبحان الله العظيم! سبحان مصرّف القلوب! فذهب إليه زيد فقال : يا رسول الله! بلغنى أنك جئت منزلى ، فهلا دخلت؟ بأبى أنت وأمى يا رسول الله! لعل زينب أعجبتك فأفارقها؟ فقال له : أمسك عليك زوجك واتق الله. قيل : فما استطاع زيد إليها سبيلا بعد ذلك اليوم (يعنى لم يقربها) ، واعتزلها ثم فارقها ، وحلّت (يعنى انقضت عدتها) ، وقيل : فبينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتحدث مع عائشة ، أخذته غشية ، فلما سرى عنه ، ابتسم وقال : من يذهب إلى زينب يبشّرها أن الله زوّجنيها من السماء؟ وتلا الآية. فكانت زينب تفخر على سائر زوجاته بأن زواجها كان من السماء ، وقالوا : لما أعلمه الله بذلك دخل عليها بغير إذن ، ولا تجديد عقد ، ولا صداق ، وهذا من خصوصياته!! وكما ترى أن الرواية متهافتة ، ولا يمكن أن يحلل النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حراما ، ولا ينقض القرآن بسلوكه.

وفى روايات لقتادة ، وابن عباس ومجاهد : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب زينب بنت جحش ، وكانت بنت عمته ، فظنت أن الخطبة لنفسه ، فلما تبين أنه يريدها لزيد ، كرهت وأبت وامتنعت. فنزلت الآية : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (٣٦) (الأحزاب) ، فأذعنت وتزوجته ، وفى رواية : فامتنعت وامتنع أخوها عبد الله ، لنسبها من قريش ، وقال : أن زيدا كان بالأمس عبدا ... إلى أن نزلت هذه الآية. ونسب المدّعون إلى عائشة أنها قالت : إن آية : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) ليس أشدّ على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم منها»!!! يعنى أن

٢١١

الرواية التى يتقولونها صحيحة ، ونزلت قرآنا ، ولم يكتمه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقالوا : إن زيدا لمّا سمع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوى إلى فراشه ، وقالت زينب : ولم يستطعنى زيد ـ يعنى أنه لم يستطع أن يأتيها بعد ما عرف من رغبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها!! وقالت : ما أمتنع منه غير ما منعه الله منى ، فلا يقدر علىّ. وفى بعض الروايات : أن زيدا تورم ذلك منه حين أراد أن يقربها ـ يعنى أغضبه أن يعجز عن إتيانها ، ولذلك فإنه توجّه من بعد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يشكو إليه زينب تؤذيه بلسانها وتفعل وتفعل ، وأنه يريد طلاقها!!

وفى رواية القرطبى : أن قتادة وجماعة من المفسّرين ، ومنهم الطبرى وغيره ، ذهبوا إلى أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقع منه استحسان لزينب وهى فى عصمة زيد ، وأنه حرص على أن يطلقها منه ويتزوجها ، وأنه أخفى الحرص على طلاق زيد إياها ، وهذا معنى (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ) ؛ وقوله : (وَتَخْشَى النَّاسَ) أى تستحييهم ، وتخاف لائمة المسلمين ، فيقولون أمر أحد أصحابه أن يطلق امرأته ليتزوجها هو!!

وفى تفسير الزهرى وابن العربى : أن المراد بقوله : (وَتَخْشَى النَّاسَ) هو إرجاف المنافقين بأنه نهى الآباء عن الزواج من نساء الأبناء ، وتزوّج مع ذلك زوجة ابنه! وروى أيضا : أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم هوى زينب امرأة زيد ، وربما أطلق بعض المجان لفظ عشق. وليؤكد أنس الرواية قال : ما رأيت رسول الله أو لم على امرأة من نسائه ما أو لم على زينب ، فإنه ذبح شاة!! والغالب أن رواية أنس وغيرهم قد دسّت دسّا فى كتب المسلمين ، وكلها أراجيف ، وقيل : إن زينب كانت فى الخامسة والثلاثين ، وكانت ما تزال بكرا لم تتزوج ، يعنى أنها صارت من العوانس ، ومن عادة العرب أن تتزوج البنت صغيرة السن ، وربما تطلق فتزوّج بعد انقضاء عدّتها مباشرة. وأما زينب فلم تكن قد تزوجت قط ، ثم إنها اشتهرت بحدّة الطبع ، وسلاطة اللسان ، حتى كانوا يخافون بأسها ، ونالت من عائشة ومن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد زواجها منه ، وكثيرا ما كان يهجرها لذلك. وكشأن الضرائر ، فإن عائشة قالت إن النبىّ كان يستكثر منها وأم سلمة ـ ولا يمكن طبعا أن تقول عائشة مثل ذلك عنها وعن أم سلمة والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم! ومن أين لها أن تعرف أنه يستكثر أولا يستكثر من هذه أو تلك؟ وقيل ضمن رواية المؤرخين : وربما السبب من استكثاره من زينب وأم سلمة أنهما كانتا أقرب إليه عمرا ، فزينب تزوجها فى السنة الخامسة من الهجرة فى مرجعه من غزوة المريسيع أو بعدها بيسير ، وظلت معه ست سنوات ، وكان النبىّ وقت أن تزوجها فى السابعة والخمسين ، بينما زينب فى الخامسة والثلاثين ، وفى رأى فى الثامنة والثلاثين. وحتى عمر نسبوا لزينب أنها نالت منه ، ولم يكن يعجبها ما يرسله إليها من رواتب. وكانت

٢١٢

زينب من حزب أم سلمة ضد عائشة وحفصة ، وطالبت بحقها فى هدايا المسلمين للنّبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. هكذا قالوا. وعند ابن سعد أنها توفيت وعمرها ٥٣ سنة ، يعنى تزوجته وكانت فى الثامنة والثلاثين كما قلنا. ولم تكن جميلة كما قالوا ، فقد كانت سمينة ، وقصيرة ، ولم يكن زيد مناسبا لها فعلا ، فرغم أن سنه كان متقاربا معها ، فقد كان فى السابعة والأربعين ، إلا أنه كان قصير القامة ، وآدم شديد الأدمة ـ يعنى شديد السّمرة ، وفى أنفه فطس ، ولهذا قالت زينب أنه كان بالأمس عبدا ، بينما كانت هى بتعبيرها أيّم قريش ـ يعنى أنها كانت الوحيدة من قريش التى لا زوج لها ولكنها موسرة تعول نفسها. وكان من رفض أخيها لهذا الزواج ، أنه ترك المدينة ، وكانت غاية النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هذا الزواج أن يسترها بزوج هو أعرف الناس بخلقه الطيب ، وأراد الرسول أن يكافئ زيدا بأن يزوجه ابنة عمته ، فكان كما قيل ، بعيد النظر ، وحسب أن زينب ستتلقى اقتراحه بالترحاب ، فلمّا غصبت على الزواج ، كانت تسبّ زيدا ، ويبدو أنه من كثرة تطاولها عليه أصيب بالعنّة النسبية معها فكان يعجز أن يأتيها ، وفى ذلك كانت تقول : لم يستطعنى ، وما امتنع منه غير ما منعه الله منى ، فلا يقدر علىّ!

وفى الرواية كما سبق نسبوا لزينب أنها قالت : تورّم زيد ذلك ـ يعنى غضب لما أراد أن يقربها فعجز. وقيل : ومع ذلك حاول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يصلح بينهما ، وافتروا وقالوا : إنه كان حريصا على أن يطلقها من زوجها : ونتساءل : فمن أين علموا ذلك ، وما جاءت كلمة الطلاق على لسانه؟! وقوله «سبحان الله ، سبحان مصرّف القلوب» إنما هو قول المتخرّصين ، قيل : إن زينب هى التى صرّحت به ، وهو كلام مرسل ومنقطع ، ولا يعنى سياقه إنه يتمنّاها ، وربما كان معنى مصرّف القلوب أنه صرف قلب زينب عن زوجها ، فلما ذا يكون المعنى صرف قلبه إليها؟ وكانت زينب تطالعه دوما بحكم القرابة ، وإنه لأعرف الناس بشكلها وسمتها ، فكيف يعجب بها فجأة وكأنه ما رآها من قبل؟! وطبيعى أن يؤرقه حال زينب إذا طلقت ، وهو يعلم أن أحدا لن يتزوجها بعد زيد ، لأنه عبد ، والعرب لا يتزوجون مطلقات العبيد ، وما كان هناك إلا حل واحد : هو أن يتزوجها هو ويضمها إلى حريمه ، فيحفظ عليها مكانتها ، وما كان يمنعه من تنفيذ ذلك فورا ، بعد شكوى زيد المستمرة واعتزاله امرأته وفراقها ، إلا أن يقول العرب إنه تزوج امرأة ابنه ، وليس من منقذ من هذه الورطة إلا أن ينزل حلها بالقرآن ، وهو الحل الذى تعنيه الآية : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ) ، وهو الذى ارتآه فورا ، وهو الزواج بها فيريح ويستريح ، وليس ثمة مبرر لافتراض أنه تزوّجها لأنه كان يحبها كما أشاعوا! وفى حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما ذكر

٢١٣

يوما الحب إلا مع عائشة ، فهى حبيبته وزوجته فى الدنيا وفى الآخرة. وإن قيل فلأى شىء قال النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أمسك عليك زوجك؟ قلنا إنه من أجل أن تبقى زينب متزوجة ، لأن البديل صعب وهو أن يتزوجها هو. وإن قيل وما معنى «فلما قضى زيد منها وطرا» أليس معناه أن زيدا دخل عليها وجامعها؟ قلنا إن المعنى هو : فلما استنفد زواج زيد من زينب كل أهدافه ، ليتنزّل بسببه تشريع جديد ، زوجناكها ، أى زوّجها له الله تعالى ، ليس زواجا من السماء كما قالوا ، وإنما بالآيات التى حللت له أن يتزوجها ، ففي ضوء التشريع الجديد صار له أن يتزوجها ولا تثريب عليه. ويكفى أن نقول : إن زينب ما كان يمكن أن يتزوّجها ويتحملها آخر بخلاف النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بدليل ما كانت تقوله له مما لا ينبغى لها ، كقولها : إنى لأدلّ عليك بثلاث ، ما من نسائك امرأة تدلّ بهن : أن جدّى وجدّك واحد! وأن الله أنكحك إياى من السماء! ـ (يعنى أنزل التشريع الذى مكّن لك الزواج منى) ، وأن السفير فى ذلك جبريل! (لأن جبريل كان هو الوحى الذى ينزل إليه بالقرآن). وقوله تعالى : (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) (٣٨) (الأحزاب) يقصد بها تحليل الزواج للأنبياء ، فمحمد لم يأت نكرا ، ولا كان بدعا بين الرسل ، وإنما تزوج على سنة الله.

فهذه هى قصة زينب وزيد ، وما كان من ذلك مع النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وليس فيها أىّ ما يعيب على الثلاثة ، أو يطعن فى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما ادّعى الأولون والآخرون. وليس فى زواجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من زينب معجزة من السماء كما ادّعت زينب ، وما كان يشغل النبىّ أمر النساء وإنما كان شغله بالدعوة ، وقد قيل : ما أفلح من جعل وسادته أفخاذ النساء ، وهذا النبىّ كان بمنأى عن كل ذلك ، وكان سيد الأنبياء ، واهتماماته كانت أكبر من اهتمامات أى نبىّ ، وما كان عمله مجرد الهداية ، وإنما تكوين أمة ، وخلق مجتمع ، وإنشاء إنسان جديد ، وحسبنا الله.

* * *

٢٥٤. ما أحلّ له من النساء

ما حلله الله تعالى لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من النساء تتضمنه هذه الآية : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٥٠) (الأحزاب) ، والمعنى أن الله تعالى أحلّ له هؤلاء النساء ويستطيع أن يتزوج منهن ، ومن يتزوجها عليه أن يمهرها ، وقد أمهر زوجاته جميعا ، باستثناء أم حبيبة ، قيل : أمهرها عنه النجاشى! لما ذا؟ ربما

٢١٤

لتتناسب الفرية مع مكانة أم حبيبة وأنها بنت أبى سفيان. وجويرية أصدقها بأن أدّى عنها كتابها إلى ثابت بن قيس بن شماس ، لما ذا وهى سبيّة ، وابن قيس أخذ سبيّة أخرى عوضا عنها؟ وصفية : أصدقها بإعتاقها ، لما ذا أيضا وهى سبيّة وملك يمين وليس لها صداق؟ وجميع من تزوج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إحدى عشرة ، توفيت منهن خديجة ، وزينب بنت خزيمة فى حياته ، وتوفى هو عن تسع زوجات كما قيل. وبالمقارنة فإن النبىّ داود كانت له بحبرون سبع زوجات بخلاف السرارى ، وفى أورشليم تزوج بأخريات واتخذ السرارى ، وكانت لسليمان : سبعمائة زوجة وثلاثمائة سرية! وفى الآية أبيح للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم التسرّى ممن أخذ من المغانم ، وقد ملك صفية وجويرية فأعتقهما وتزوجهما ، لما ذا؟ وملك ريحانة بنت شمعون النضرية ، ومارية القبطية أم ابنه إبراهيم وكانتا من السرارى ، ولا يوجد فى الإسلام ، ما يسمى سرارى الآن والحمد لله ولا ملك يمين. وفى قوله : (وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ) الآية ، أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم تكن تحته واحدة من بنات عمه ، ولا من بنات عمّاته ، ولا من بنات خاله ، ولا من بنات خالاته ، فثبت

أنه أحل له التزوج بهذا ابتداء ، قيل : لذلك خطب من بعد نزول هذه الآية أم هانئ ابنة عمه ، ولكنها اعتذرت إليه ، وقالت عن ذلك : فلم أكن أحلّ له ، فلم أكن ممن هاجرن معه ، وكنت من الطلقاء» ، وهو تفسيرها للآية (اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) ، وهن قريباته ممن أسلمن وهاجرن ، وأمّ هانئ لم تكن قد أسلمت ولا هاجرت معه ، وكان إسلامها عام الفتح فكيف يخطبها وهى لم تكن معه فى المدينة؟ وكيف يخطب مشركة؟. وقولها أنها كانت من الطلقاء ، أى الذين أطلق سراحهم يوم فتح مكة ومنّ عليهم بقوله : اذهبوا فأنتم الطلقاء ، وفى الآية بنات خاله وبنات خالاته ، ولم نجد مرجعا يذكر أن له بنات خال وبنات خالات! وربما الآية لأنها تحلل وتحرّم عموما وليس للنبىّ وحده صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وكان من زواج الأقارب عند النصارى أنهم لا يتزوجون المرأة إلا إذا كان الرجل بينه وبينها سبعة أجداد فصاعدا ، بينما كان اليهود يتزوج أحدهم بنت أخيه وبنت أخته ، فتوسطت هذه الآية بين إفراط النصارى وتفريط اليهود ، وأباحت ما حظره النصارى وهو الزواج من بنت العم والعمّة ، وبنت الخال والخالة ، وحرّمت ما جرى عليه اليهود وهو الزواج من بنت الأخ والأخت. والإحلال فى الآية يقتضى أن يتقدمه الحظر ، مما يدل على أن ذلك كان محظورا فى السابق : وقوله (أَحْلَلْنا لَكَ) يعنى أزواجك ، لأنهن اخترنه زوجا فى الدنيا والآخرة ، ولو تزوج كان يشق عليهن ، فلما نزلت الآية وحرّمت عليه النساء إلا من سمى ، سررن بذلك. وفى قوله : (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ

٢١٥

يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ) (٥٠) (الأحزاب) أن من تفوّضه الزواج منها له إن شاء أن يتزوجها ، والوهب هو أن تتزوجه بلا مهر ، وذلك خصيصا له دون غيره ، ومع ذلك كما قال ابن عباس : لم يكن عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم امرأة وهبت نفسها له» ، وقال : لم يكن عنده امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين ، فأما الهبة فلم يكن عنده منهن أحد». ولم يكن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقبل واحدة ممن وهبن أنفسهن له وكن كثيرات ، منهن أم شريك غزية بنت جابر الدوسية ، وخولة بنت حكيم ، والمرأة التى حكى عنها أنس والتى جاءت إلى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا نبى الله! هل لك فىّ حاجة؟ وعلّقت ابنة أنس على قول أبيها : ما كان أقلّ حياءها! والمرأة التى روى عنها سهل بن سعد الساعدى : أنها جاءت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله! إنى وهبت نفسى لك» ، وظلت قائمة طويلا ، إلى أن طلب أحد الصحابة أن يتزوجها ، ولم يكن معه من مال ليمهرها فزوّجها له بما يحفظ من قرآن يعلّمه لها.

والخلاصة : أن هذه الآية لبيان من يحلّ أن يتزوجهن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهى مرتبطة بالآية التى بعدها والتى تقول : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) (٥٢) (الأحزاب) ، وتؤكد أن من أحللن له هن زوجاته اللاتى فى عصمته وما ملكت يمينه ، وحرّم عليه ما سوى ذلك من النساء.

* * *

٢٥٥. زوجاته يخيّرن

مبدأ تخيير الزوجة بين أن يفارقها زوجها فتذهب إلى غيره ، وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال ، من مبادئ الإسلام التى ينفرد بها عن بقية الأديان والأعراف الوضعية فى الزواج ، والرسول ـ وهو القدوة ـ نزل تخيير الله لأزواجه بين الاستمرار معه أو الطلاق فى الآية : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) (٣٠) (الأحزاب) ، وقد ثبت أن البكر تسأل عند الزواج ، وأن الثيّب لها أن تزوّج نفسها ، وفى هذه الآية يثبت أن المسلمة لها أن تبقى مع زوجها أو أن يطلقها إذا شاءت ، إذا كان فى استمرارها معه ضرر لها ، يعنى أن المرأة المسلمة مخيّرة فى الأول والآخر فى كل الأحوال.

ومناسبة هذه الآية أن نساءه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قيل إن واحدة منهن سألته أن يصوغ لها حلقة من

٢١٦

ذهب ، فصاغ لها حلقة من فضة وطلاها بالذهب أو بالزعفران ، فأبت إلا أن تكون من الذهب : يعنى سألته شيئا من عرض الدنيا ، وقيل : سألنه زيادة فى النفقة ؛ وقيل : آذينه بغيرة بعضهن على بعض. وهذه الخلافات وأمثالها هى من الأمور العادية بين الأزواج ، وقد تكره المرأة زوجها لسوء معاملته ، ولكن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أساء لزوجة ، ولا كرهته أىّ منهن ، وهو الذى قال : «خيركم خيركم لأهل بيته ، وأنا خيركم لأهل بيتى». ولم يحدث أن شتم زوجة أو ضربها ، وكان يعدل بينهن ، وأوصى بالنساء خيرا فقال : «واتقوا الله فى النساء فإنهن عندكم عوان» أى فى رعايتكم وكنفكم ، وكان يعطيهن كل ما يملك ، وما كان يملك من الدنيا شيئا ، وهو الذى خيّره ربّه بين أن يكون نبيا ملكا وبين أن يكون نبيا عبدا ، فاختار أن يكون نبيا عبدا ـ أو مسكينا. ولما أفاء الله عليه بعد خيبر ، كان يوزع عليهن الفيء فيعطيهن على السواء. وفى الحديث عند أحمد : أن عمر بن الخطاب ذكرت له امرأته أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم تراجعه أزواجه ، فسأل فى ذلك ابنته حفصة ، قال : أتراجعين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قالت : نعم. وسألها : وتهجره إحداكن؟ قالت : نعم. ـ ومعنى المراجعة المحاورة ، وأن تستعيده الرأى والنظر فيه. وفى قول حفصة : أن زوجاته كن يغاضبنه ، يعنى يهجرنه. وفى مناسبة هذه الآية عند أحمد برواية جابر ، أن أبا بكر وعمر أقبلا ، يستأذنان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد جلس حوله نساؤه وهو ساكت ، وقال عمر يضاحكه : لو رأيت ابنة زيد ـ امرأة عمر ـ سألتنى النفقة آنفا فوجأت عنقها! (أى كسرته يقول ذلك مداعبا) ، فضحك النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «هن حولى يسألننى النفقة»! فقام أبو بكر إلى عائشة ليضربها ، وقام عمر إلى حفصة ، كلاهما يقولان : تسألان النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما ليس عنده؟!! فنهاهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقلن ـ أى نساؤه : والله لا نسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد هذا المجلس ما ليس عنده! فأنزل الله عزوجل الخيار ، فبدأ النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعائشة ، يقول لها مترفقا : «إنى أذكر لك أمرا ما أحب أن تعجلى فيه حتى تستأمرى أبويك». قالت : وما هو؟ فتلا عليها : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ ..) الآية ، قالت عائشة : أفيك استأمر أبوى؟! بل اختار الله تعالى ورسوله! ـ وكذلك قالت كل نسائه.

وإذن فتخيير النساء فى البقاء على الزوجية أو الطلاق من آداب الزواج فى الإسلام ، فربما كانت الزوجة تكره المقام مع زوجها على الشدّة. ومشاورة المرأة لأبويها أو استئمارهما إذا اعتزمت الطلاق واجبة ، بحسب قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعائشة ، ومعنى المشاورة أو الاستثمار : أن لا تحمّل المرأة وحدها مسئولية فراق زوجها دون إعمال فكر ونظر بمساعدة من أهلها. وقوله تعالى (أُمَتِّعْكُنَ) يعنى أن تعوّض المرأة إذا طلّقت ، وتعويضها هو عمّا يلحقها أو يفوتها بالطلاق ، بحسب حال الزوج ، وعلى الموسع قدره ، وعلى المقتر قدره. والسراح الجميل فى

٢١٧

الآية : هو أن يعطى الرجل مطلقته حقوقها كاملة ؛ وقيل : هو أن يطلقها طلاقا بائنا من غير ضرار ولا منع واجب لها ؛ وقيل : هو التسريح البات ، أى الطلقة الثالثة ، والاختيار الموجب لذلك هو أن يقول الرجل لزوجته : اختارينى أو اختارى نفسك ، فإذا اختارت نفسها يقتضى ألا يكون عليها سبيل ، ولا يملك منها شيئا. وقوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) (٢٩) (الأحزاب) دليل على أن لزوجاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم مراتب متفاوتة ، أعلاها مرتبة الإحسان ، وفى الحديث عن أبى موسى الأشعرى وصف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم زوجته خديجة بالكمال ، وقال عن عائشة : «وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» ومن ثم فهاتان هما المقصودتان بالمحسنات اللاتى لهن الأجر العظيم.

* * *

٢٥٦. ما معنى (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) (٦) (الأحزاب)

بهذه الآية شرّف الله تعالى المؤمنين بأن نسبهم إلى أزواج النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأمهات ، وشرّف أزواجه بأن جعلهن أمهات المؤمنين ، ومثلما الشأن بين الأمهات والأبناء من وجوب التعظيم ، والبرّ ، والإجلال ، وحرمة النكاح ، فكذلك الحال بين المؤمنين وأزواجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللاتى صرن لهم كالأمهات ، فشفقة المؤمنين على أزواجه ينبغى أن تكون كشفقة الأبناء بأمهاتهم ، ويتوجب عليهم أن ينزلوهن منزلة الأمهات ، وهى أمومة أخرى خلاف الأمومة الرحمية أو الرضاعية ، أو أمومة التبنى ، ولكنها أمومة دين ، كقوله تعالى فى المؤمنين وعلاقاتهم ببعضهم البعض (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (١٠) (الحجرات).

وقيل فى قوله تعالى (أُمَّهاتُهُمْ) ، يعنى للرجال ، فهل هن أمهات الرجال فقط دون النساء؟ أم أنهن أمهات للجميع؟ وقيل : لمّا نادت امرأة عائشة أم المؤمنين وقالت لها : يا أمّه ، قالت عائشة : لست لك بأم ، إنما أنا أمّ رجالكم». والصحيح أن الآية عامة ، وكذلك حكمها ، واختصاص الحصر فى الإباحة للرجال دون النساء لا يفيد الرجال ولا أمهات المؤمنين ، والأكثر معقولية أنهن أمهات الجميع ، فإذا كن أمهات للرجال فلم لا يكنّ أمهات للنساء أيضا؟ وهل يمكن أن تكون عائشة أما لرجل ويناديها يا أمّه ، ولا تكون أمّا لشقيقة هذا الرجل ويحرّم عليها أن تناديها : يا أمّه؟ وأمومتهن إذن للجميع : شيوخا وولدانا ، رجالا ونساء ، وهو التعظيم لحقهن على الجميع ، وتدل عليه الآية : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) (٦) (الأحزاب) ، فولاية النبىّ على الجميع ، ومثلها أمومة أزواجه للجميع ، وقرأ ذلك أبىّ بن كعب فقال : وأزواجه أمهاتهم وهو أبّ لهم» وهو تفسير ظنه البعض ضمن المتن ، ونسبوا لأبيّ بن كعب مصحفا به هذه العبارة كآية!! وكذلك قرأ ابن

٢١٨

عباس الآية : النبىّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم» ، فظنوه يتلو قرآنا ، وأن هذه القراءة من مصحف خاص به ، وهى روايات تصلح كتفاسير ولكنها ليست قرآنا. والدليل أن البعض لم يكن يرى أن يسمّى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا لقوله تعالى : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (٤٠) (الأحزاب) ، ولكنه «مثل الأب» كما فى الحديث : «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد ...» أخرجه أبو داود ؛ وفى الآية نفى أن يكون محمد أبا لرجال المؤمنين بالنسب ، وفى الحديث هو أب لهم فى الدين ، كقول لوط فى الآية : (قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي) (٧٨) (هود) لم يقصد بناته على الحقيقة ، وإنما بناته جوازا يعنى المؤمنات ، يدعو الناس الذين اجتمعوا عليه وعلى الملائكة ضيوفه ، أن يتزوجوا من بعضهم البعض ، يعنى من البنات المؤمنات ، بدلا من ممارسة اللواط ، فاعتبر المؤمنات بنات له. وأيضا فإن البعض كان يقول عن معاوية إنه خال المؤمنين ، باعتباره أخا لأم حبيبة زوجة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقصدون بذلك أنه خال لهم فى الدين لا فى النسب. وبالمثل فى أمهات المؤمنين ، فهن أمهات فى الدين.

* * *

٢٥٧. ما معنى المشيئة مع زوجاته

نزلت الآية : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً) (٥١) (الأحزاب) فى تعامل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع زوجاته ، وكان يقسم بينهن بالعدل ، لكل واحدة منهن يوم وليلة ، أو ليلة دون النهار ، ولا يسقط هذا الحق لهن فى مرض أىّ منهن ، ولا فى مرضه ، وكان يعدل فى المقام عندهن فى أى من أحواله ، ولا يجور على حق واحدة بدعوى أنها أمة أو كتابية ، وما كان يجمع بينهن فى منزل واحد إلا برضاهن ، وإذا دخل عند إحداهن فى يوم الأخريات وليلتها ، ذهب يساوى بينهن ويزورهن جميعا. وكان يعدل فى النفقة والكسوة. وفى مرضه الذى توفى فيه كان يطاف به محمولا على بيوت أزواجه إلى أن استأذنهن أن يقيم فى بيت عائشة ، لأنها الأقدر على تمريضه لصغر سنها ، ولأنه لم يعد يستطيع أن يحمل كل يوم إلى بيت من البيوت مع كل هذا الألم الذى يتألمه والأوجاع التى كانت تأتيه ، حتى كان يقول : «أين أنا اليوم؟ أين أنا غدا؟ استبطاء ليوم عائشة. وكان هذا العدل كأنما هو مفروض عليه وليس نابعا من ذاته ، وكأنما لم تكن له المشيئة فيه. والتربية الإسلامية تتوجه إلى الضمير أولا ، وليس الخير ولا الحق ولا العدل بالقيم المفروضة دائما ، ولكنها مع الأخذ بالخلق المسلم تكون من مقوّمات الشخصية

٢١٩

الإسلامية ، وتنبّه الآية إلى ذلك ، وتجعل من حالة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدوة للمسلمين. ولم يكن زواجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من زوجاته إلا لأسباب اجتماعية وسياسية شرحناها فى مكانها ، فلا أقل من أن ينبّه الله زوجاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أن ما يفرضه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على نفسه من الالتزامات والأدبيات إنما مرجعها إليه ولم يفرضها الله عليه. ومعنى ترجى فى الآية أى تؤخر ، وتئوى أى تضم إليك ، وممن ابتغيت ممن عزلت ، أى ممن طلبت من زوجاتك بعد أن عزلتهن عن القسمة ، فلك المشيئة أن ترفع عنهن العزلة وتقسم لهن كأخواتهن. وتنفى الآية أن المشيئة تعنى الجناح أو الميل ، وتؤكد على العدل الذى توخّاه مع زوجاته دائما ، فالعدل جزء من شخصيته ، ومن العدل أن يحطن علما بأن عدله فيهن مرجعه لمشيئته ، أى ضميره الخالص وخلقه ، ولم يفرض عليه ، وبذلك يصير العدل مع الزوجات هو بالتبعية من الخلق الذى يتميّز به الإسلام على الديانتين الكتابيتين الأخريين. وفى اليهودية لا يندب الرجل للعدل مع زوجاته حيث تعدد الزوجات معمول به ، ومن ثم يكون من الأفضل أن لا يستكثر الرجل من النساء لئلا يزيغ قلبه (تثنية الاشتراع ١٧ / ١٨) ، وفى المسيحية لا طلاق للمرأة مهما اشتكت (بولس الثانية ٧ / ١١) ، ويخضع النساء للرجال خضوعا كاملا (بولس الخامسة ٦ / ٢٣ ، والسادسة ٣ / ١٩). وفى الإسلام النموذج فى المعاملة الزوجية هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع زوجاته ، وهذه الآية إنما نزلت لتقرّ بها أعينهن ، وللتأكيد على أن العدل لم يفرض عليه ولكنه مشيئته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا كان يعدل بينهن فلأنه عادل بطبعه وبخلقه المسلم ، ولأنه يدعو إلى العدل كركن من أركان الإسلام الاجتماعى. فإذا علمت زوجاته أن الله تعالى قد فوّض الأمر إليه فى أحوال أزواجه رضين ، لأنهن لو علمن أن لهن الحق فى هذا العدل لم يقنعن بما أوتين ، وتشتد غيرتهن عليه ، ويجد المشقة فى أن يعدل بينهن ، وأما المسألة قد تركها الله له ، فذلك أدعى إلى أن يقبلن بما يسمح لهن ولا تتعلق قلوبهن بما هو أكثر منه. ومن ناحية أخرى فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ يعلم أن المسألة صارت موكولة إليه فقد شدّد على نفسه فى رعاية التسوية بينهن ، تطييبا لقلوبهن ، ولذلك قال فيما أخرجه النسائى : «اللهم هذه قدرتى فيما أملك فلا تلمنى فيما تملك ولا أملك». وما يملكه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو أن يحاول العدل ، وما يملكه الله تعالى هو قلبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أى الحب والبغض ، والشعور الوجدانى بأنه مع هذه يستريح نفسيا ، ومع تلك لا يحسّ راحة نفسية ، وإلى ذلك أشارت الآية : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) (١٢٩) (النساء) ، والآية : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ) (الأحزاب) وفيها تذكير على علم الله من الميل إلى البعض من النساء دون البعض ، وهو سبحانه العالم بكل شىء ، كقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا

٢٢٠