موسوعة القرآن العظيم - ج ١

دكتور عبد المنعم الحفني

موسوعة القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

دكتور عبد المنعم الحفني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
ISBN: 977-208-442-2
الصفحات: ١٢٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

التفكير والتأمل والتحليل والشرح ، وربما كان الناس فى حاجة إلى هؤلاء أكثر من الأولين ، والمزاج الانفعالى أليق بالصوفية.

* * *

١٧٨. علامة أهل العلم إذا تلا القرآن

يقول تعالى : (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) (١٠٨) (الإسراء) ، ويقول : (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) (١٠٩) (الإسراء) ، وقوله : «إذا يتلى عليهم» يعنى القرآن ، وتسبيحهم ـ كما أثر عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو أن يقولوا : «سبحانك اللهم وبحمدك. اللهم اغفر لى» ، وقوله : (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ) مبالغة فى صفتهم ، ومدح لهم ، فحقّ على كل متعلم أن يفعل نفس الشيء ، فيخشع عند استماع القرآن ، ويذل ، وفى الحديث : «من أوتى من العلم ما لم يبكه لخليق ألا يكون أوتى علما ، لأن الله تعالى نعت العلماء فقال : (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ ..) (الآية). ومع ذلك ما نزال نرى أنه لا موجب للبكاء إلا للبكّائين ، وهذه طبقة مخصوصة عرفت بالبكاء ، كان منهم محمد بن واسع ، ويحيى البكّاء ، ومطرف بن طريف ، وكانوا يقولون على القارئ الذى يقرأ ويبكى إنه من قرّاء الرحمن ، تمييزا لهم عن قرّاء الدنيا.

* * *

انتهى باب القرآن والحمد لله

ونبدأ بإذن الله «باب النبوة والنبىّ فى القرآن».

* * *

١٤١
١٤٢

الباب الثانى

النبوّة والنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى القرآن

مقدمة

* * *

١٧٩. النبوة هل هى ضرورة؟

هل من الممكن أن نؤمن بالله دون وساطة نبىّ؟ وهل يمكن لعقولنا أن تحيط علما بما أخبرنا به الأنبياء دون أن تكون لنا حاجة إليهم؟

والعقل فعلا يمكن أن يهدينا إلى وجود إله لهذا الكون ثم يتوقف عن التفكير فيما هو وراء ذلك ، والدين وحده ـ كعلم ـ هو الذى نعرف بواسطته عن الآخرة والحساب والجنة والنار ، والدين لا بد فيه من النبىّ أيا كان هذا الدين. وفى القرآن فى وظائف النبىّ وضرورته للناس قوله تعالى : أنه شاهد ومبشّر ونذير (الأحزاب ٤٥) ، وأنه ما من أمة إلا خلا فيها نذير (فاطر ٢٤) ، ورسولنا أرسل بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كله (التوبة ٣٣) ، ورسالات الأنبياء الكبار تضمنتها كتبهم ، ونبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنزل عليه الكتاب : (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (٨٩) (النحل) ، ليتلو عليهم آياته ، وليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور (الطلاق ١١) والرسول إذن ضرورة ، وإرساله منّة من الله ، ليزكّينا ، ويعلّمنا الحكمة وما لم نكن نعلم (البقرة ١٥١). ولأنه من أنفسنا يعزّ عليه أن نعنت ويحرص علينا (التوبة ١٢٨) ، ويرأف بنا ويرحمنا. ولو كان غليظ القلب لانفض الناس من حوله (آل عمران ١٥٩) ، ولكنه دائم العفو عنهم ، ويستغفر لهم ، ويشاورهم فى الأمر (آل عمران ١٥٩) ، ويأمرهم بالمعروف ، وينهاهم عن المنكر ، ويحلّ لهم الطيبات ، ويحرّم عليهم الخبائث ، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم (الأعراف ١٥٧). ولو كان رسولا ملكا لمّا اتّبعوه ، ولكنه كان بشرا مثلهم (الأنعام ٩) ، وهو لذلك قدوة لهم ، وما يستطيعه هو ، فبوسعهم فعله.

* * *

١٨٠. اتباع النبىّ ضرورة

فإذا كان لا بد من نبىّ معلّم ، كقوله تعالى : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (٧) (الرعد) ، فإن طاعته تكون واجبة ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من أطاعنى فقد أطاع الله ، ومن عصانى فقد عصى الله» ، لأن النبىّ لا يقول إلا بما يعرفه ، ومعرفة الرسل ربانية ، وعلمهم علم ربّانى ، وكلامهم تبيان وتفصيل لما أمر به الله موجزا. وخلاصة تعليم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أوصيكم بتقوى الله» ، وأن يكونوا على سنته ، وأن يجتنبوا محدثات الأمور من البدع والضلالات ،

١٤٣

ومن كان على سنّته ، وأصبح وأمسى وليس فى قلبه غش لأحد ، فهو المسلم حقا ، ومن يحب سنّته ، فقد أحبه شخصيا وكان معه حيثما كان فى الآخرة. وإنه لمن قوانين الله أن تبدأ الأمة على الإيمان ومع الزمن تفسد ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من تمسك بسنتى عند فساد أمتى فله أجر مائة شهيد». ويقول : «المستمسك بسنّتى عند اختلاف أمتى كالقابض على الجمر».

* * *

١٨١. فما المقصود بالمصطفى؟ وما هو الاصطفاء فى النبوة؟

ولعظم رسالة النبىّ كان لا بد له من مواصفات ينفرد بها ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال عن نفسه لم يخرج من سفاح ، وهو من خيار قريش ، وقريش كانوا خيار العرب. ومعنى أنه من الخيار أو الصفوة : أنه يؤدى شرط الله منه ، وعن ابن مسعود قال : إن الله نظر فى قلوب العباد فاختار محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبعثه برسالته ، وانتخبه بعلمه». ولكن لما ذا اختاره أو اصطفاه؟ يقول ابن مسعود : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دائم البشر ، سهل الخلق ، لين الجانب ، ليس بفظ ، ولا غليظ ، ولا صخّاب ، ولا فحّاش ، ولا عيّاب ، ولا مزّاح ، يتغافل عمّا لا يشتهى ، ولا تؤيس منه راجية. وكان لا يذمّ أحدا ، ولا يعيّره ، ولا يطلب عورته ، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه. وإذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رءوسهم الطير ، فإذا سكت تكلموا. لا يتنازعون عنده. يضحك مما يضحكون منه ، ويتعجب مما يتعجبون منه ، ويصبر للغريب على الجفوة فى منطقه ومسألته ، ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ ، ولا يقطع على أحد حديثه». وكلها صفات بشر ولكنه فيها فى القمة ، وهو المثال والقدوة.

وعن سكوته يقول ابن مسعود : كان سكوته على أربع : الحلم ، والحذر ، والتقدير ، والتفكّر ؛ فأما تقديره ففي تسويته النظر والاستماع بين الناس ؛ وأما تذكّره أو تفكّره ففيما يبقى ويفنى. وجمع له الحلم ، والصبر ، فكان لا يبغضه شىء ولا يستفزه ، وجمع له الحذر فى أربع : أخذهم بالحسنى ، والقيام لهم فيما جمع لهم الدنيا والآخرة. ـ وهذه صفات لا تجتمع لإنسان إلا إذا كان من صفوة الصفوة. وفى علم النفس التكاملى قد نجد صفة من هذه الصفات فى إنسان ويكون بها أميرا أو وزيرا أو قائدا أو زعيما ، وقلّ أن تجتمع كل الصفات فيه ، فذلك ما لا يكون إلا للأنبياء والرسل.

* * *

١٨٢. دعوة محمد ليست لدنيا يكسبها

فى الحديث عن ابن عباس : أن دعوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مدارها أن يؤمن الناس بالله ـ يقول : «أريدهم على كلمة واحدة : لا إله إلا الله». وأخرج الطبرانى والبخارى عن عقيل بن

١٤٤

أبى طالب أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعمه : «يا عم! لو وضعت الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فى طلبه». وأخرج عبد بن حميد عن ابن أبى شيبة عن جابر : أن عتبة بن ربيعة قال للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيها الرجل! إن كان إنما بك الحاجة ، جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا ، وإن كان إنما بك الباءة ، فاختر أى نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا». وفى رواية البيهقى عن الحاكم زاد : وإن كنت إنما بك الرئاسة ، عقدنا ألويتنا لك ، فكنت رأسا ما بقيت». وأخرج أبو نعيم عن ابن عمر أن عتبة قال له : يا ابن أخى : أراك أوسطنا بيتا ، وأفضلنا مكانا ، وقد أدخلت على قومك ما لم يدخل رجل على قومه مثله ، فإن كنت تطلب بهذا الحديث مالا فذلك لك على قومك ، أن يجمعوا لك حتى تكون أكثرنا مالا ؛ وإن كنت تطلب شرفا ، فنحن نشرّفك حتى لا يكون أحد من قومك أشرف منك ، ولا نقطع أمرا دونك ، وإن كان هذا عن ملم يصيبك فلا تقدر على النزوع منه ، بذلنا لك خزائننا حتى نعذر فى طلب الطب لذلك منك ، وإن كنت تريد ملكا ملّكناك». فبعد كل هذه العروض : المال ، والنساء ، والملك ، والرئاسة ، والشرف ، وأن يعالج من مرضه إن كان ما به بسبب مرض عضال ، ما ذا كان جواب النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ : «أفرغت يا أبا الوليد»؟ ثم قرأ عليه اثنتى عشرة آية من سورة فصّلت : (حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨) قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) (١٣). فارتج على عتبة ولم يستطع الاستمرار فى الاستماع ، وأمسك بفىّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وناشده الرحم أن يكف لمّا خاف الصاعقة ، وقال فى كلامه لما استعادته قريش الكلام : والله ما هو بسحر ـ يقصد القرآن ـ ولا بشعر ، ولا كهانة» وإذن فالنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يقصد إلى أعراض الدنيا ، وكانت دعوته إلى الله ، وفى الأخبار عنه ، وعن أحواله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الدعوة ، أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاش ٢٣ سنة ينادى أن لا إله إلا الله ، وإلى أن توفاه الله لم يحدث أن شبع هو ولا أهله

١٤٥

خبزا ، وكان يمر عليهم الشهر والشهران لا يطهون طعاما ، ولا يجدون إلا التمر والماء ، وكان يخصف نعله ، ويرتق جلبابه ، وينام على فراش من اللباد. وليس أصدق للداعى من أن تكون هذه هى حياته مع الدعوة ، فعهدنا بالزعماء والقادة والرؤساء والملوك والأمراء أن تعود الرئاسة عليهم بالخير والأبهة والعزّ والجاه ، وما كان فى حياة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم شىء من ذلك. وفى الرواية عن ابن إسحاق أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لما فتح مكة ، نظر أبو سفيان إلى جموع المسلمين وقال للعباس : يا عباس! من هؤلاء؟ قال : هذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى المهاجرين والأنصار. قال : ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة! والله يا أبا الفضل ، لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما! قال العباس : يا أبا سفيان! إنها النبوة!» وفى الحديث أن النبى خيّر بين أن يكون نبيا عبدا أو نبيا ملكا ، فالتفت إلى جبريل ، فأشار إليه أن تواضع ، فقال : «بل نبيا عبدا ، أشبع يوما ، وأجوع يوما». وهذه هى النبوة إذن ، وهؤلاء هم أصحاب الرسالات حقّا! وحسبنا الله!

* * *

١٨٣. الناس لا يحاسبون إلا إذا بعثت الرسل

قالت المعتزلة : إن العقل يقبّح ويحسّن ، ويبيح ويحظر ، ولا داعى للنبوة والأنبياء ، ولكن الله يقول : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١٥) (الإسراء) ، وفى ذلك دليل على أن الأحكام لا تثبت إلا بالشرع. والله تعالى لا يهلك أمة إلا إذا أرسل إليهم وأنذرهم ، والذى عليه العقل أنه مع الإيمان بوجود خالق للكون ، ومع رسالة الرسل بالتوحيد ، وبثّ المعتقدات فى الناس عبر الأجيال ، ونصب الأدلة الدالة على الصانع ، ومع سلامة الفطرة وعدم فسادها ، يتوجب على كل أحد من العالمين الإيمان واتباع شريعة الله.

* * *

١٨٤. كل رسول نبىّ وليس كل نبىّ رسولا

الرسول بخلاف النبىّ : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) (٥٢) (الحج) ، وعند البعض فإن الأنبياء فيهم مرسلون وفيهم غير مرسلين ، وعند غيرهم أنه لا يجوز أن يقال نبىّ حتى يكون مرسلا ، ومعنى «نبىّ» أنه الذى ينبئ عن الله ، والإنباء هو الإرسال ، غير أن الرسول : يرسل إلى الخلق عيانا بإرسال جبريل ، بينما النبىّ تكون نبوته إلهاما أو مناما ، فكل رسول نبىّ ، وليس كل نبىّ رسولا.

* * *

١٤٦

١٨٥. عدد الأنبياء إجمالا لا يعلمه إلا الله

الرسل كثيرون ، بعضهم ذكره القرآن ، وبعضهم لم يذكره ، ومن لم يذكرهم لا نعلم عنهم ، ولا نعلم عن عدد الرسل إجمالا ، كقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) (٧٨) (غافر) ، وقوله : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) (١٦٤) (النساء) وفى الحديث عن أبى ذر أن عدد الأنبياء ثلاثمائة وثلاثة عشر ، أولهم آدم وآخرهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

* * *

١٨٦. أنبياء القرآن خمسة وعشرون نبيا

الأنبياء الذين ذكرهم القرآن هم : آدم ، وإدريس ، ونوح ، وصالح ، وهود ، وإبراهيم ، ولوط ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، ويوسف ، وأيوب ، وشعيب ، وموسى ، وهارون ، وذو الكفل ، وداود ، وسليمان ، وإلياس ، واليسع ، ويونس ، وزكريا ، ويحيى ، وعيسى ، ومحمد ، فهؤلاء عددهم خمسة وعشرون.

* * *

١٨٧. ما جعل الله الرسل إلا من الرجال

ثبت بالتواتر أن الرسل كانوا من البشر : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) (٧) (الأنبياء) وهو ردّ على الذين قالوا معترضين أن يكون النبىّ بشرا : (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (٣) (الأنبياء) ، أى قبل النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن الرسل إلا رجالا ، فليس للمنكرين أن يبدءوا إنكارهم بقولهم ينبغى أن يكون الرسول ملكا طالما هو قادم من طرف الله وببلاغ من السماء ، ولا يصحّ تفسير «رجال» بالملائكة ، لأن الرجل يقع على ما له الضد من لفظه ، فتقول رجل وامرأة ، ورجل وصبى ، فقوله «إلا رجالا» يعنى من البشر.

* * *

١٨٨. ما جعل الله الرسل جسدا لا يأكلون الطعام

الرسل قبل النبىّ لم يكونوا إلا بشرا ، لهم طباع البشر ، ولم يخرجوا عليها ، كقوله تعالى : (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ) (٨) (الأنبياء) والنصارى أخطئوا الخطأ كله عند ما ادّعوا أن عيسى وهو الرسول ، كان ابن الله ، فأخرجوه عن البشرية ، ودليل بشرية عيسى : أنه لم يستغن عن الطعام والشراب ، ولا عن الغائط والتبوّل ، وكذلك كل الأنبياء. وقوله «جسدا» اسم جنس ، ولهذا لم يقل أجسادا ، وجعل الله تعالى الأنبياء أجسادا ، والجسد هو البدن ، تقول تجسّد من الجسد ، كما تقول تجسّم من الجسم. والجسد

١٤٧

هو المتجسّد الذى فيه الروح فيحتاج للطعام ، وأن يأكل ويشرب ، ويتغوّط ، وله حاجاته الفسيولوجية ، وأما الذى لا يأكل ولا يشرب فهو مجرد جسم ، فالجسم هو التمثال ، والجسد هو هذا التمثال قد دبّت فيه الحياة ، ويحتاج للطاقة ، وأن يحرق طعاما ليكون له سعرات معينة تعينه على الحركة والتفكير ... إلخ. والجسد على ذلك هو ما نسميه النفس. والآية تعنى أنه تعالى لم يحدث أن أرسل نبيا لا يأكل ، ولا يشرب ، ولا ينام ، فكلهم كذلك بلا استثناء ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هؤلاء.

* * *

١٨٩. كلامه تعالى للأنبياء

أغلب كلامه تعالى للأنبياء وحى ، والوحى : إعلام فى خفاء ، وأنواعه : الإشارة ، والكتابة ، والرسالة ، والإلهام ، والكلام الخفى. والوحى فى الطب النفسى : كل ما تلقيه على غيرك بغرض التأثير عليه. يقال : وحيت إليه الكلام ، وأوحيت ، ووحى وحيا. والوحى يكون للإنسان ولغيره ، يقول تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) (١٦٣) (النساء) ، ويقول : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) (٦٨) (النحل) ، ويقول : (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) (١٢) (فصلت). وفى قوله تعالى (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٥١) (الشورى) ، أى ينفث الكلام فى قلبه فيكون إلهاما ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن روح القدس نفث فى روعى». والوحى للرسل ، إما من وراء حجاب ككلامه تعالى مع موسى ، وإما أن يرسل رسولا هو جبريل ، فيوحى الرسول بإذنه ما يشاء ، فيكون الوحى خطابا من الرسول إلى النبىّ يسمعه نطقا ، ويراه عيانا ، وكان جبريل ينزل بالوحى على النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا يراه أحد. والأنبياء الذين كان الوحى إليهم رسولا أربعة : محمد ، وعيسى ، وموسى ، وزكريا ، فأما غيرهم فكان وحيا إلهاما فى المنام.

* * *

١٩٠. أوحى إليه روح

الوحى للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان جبريل ، وفيه قال تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٤) (النجم) ، وسمّاه الله تعالى أيضا (بِرُوحِ الْقُدُسِ) (٨٧) (البقرة) ، و (الرُّوحُ الْأَمِينُ) (١٩٣) (الشعراء) ، وروح الله ، قال : (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) (٩١) (الأنبياء) ، وقال : (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) (٩) (السجدة) ، وقال : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) (٥٢) (الشورى) ، والروح من أمر الله هو جبريل.

* * *

١٤٨

١٩١. ما كان يدرى من قبل ما الكتاب ولا الإيمان

الأنبياء معصومون قبل النبوة من الجهل بالله وبصفاته ، وبالتشكّك فى شىء من ذلك. والآثار والأخبار تتعاضد بتنزيههم عن هذه النقيصة منذ ولدوا. ونشأة كل الأنبياء على التوحيد والإيمان ، وإشراق نور المعارف ، ونفحات ألطاف اليقين. ومن يطالع سير الأنبياء منذ صباهم إلى مبعثهم يتحقق من ذلك ، وهو ما عرفناه من أحوال إبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ويحيى ، وسليمان ، فقال تعالى فى يحيى : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (١٢) (مريم) ، أى أن يحيى أعطى العلم بالله منذ صباه ، ووصفه فقال : (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) (٣٩) (آل عمران) ، يعنى أنه صدّق بعيسى وهو ما يزال صبيا ؛ وقال تعالى فى عيسى أنه كلّم أمه لما ولد ، قال : (وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي) (٧) (القصص) ، وقال : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) (٣٠) (مريم) ، وقال فى سليمان وكان صبيا : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) (٧٩) (الأنبياء) ، وأما إبراهيم فقد ألقى فى النار وهو ابن ست عشرة سنة ، وإسماعيل ابتلى بالذبح وهو صبى يافع ؛ وكان استدلال إبراهيم بالكواكب والشمس والقمر وعمره خمس عشرة سنة ؛ وأوحى إلى يوسف وهو صبى.

غير أنه فى هذه الآية : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) (٥٣) (الشورى) قد يظن أن الله تعالى قد نفى أن يكون نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يدرى شيئا عمّا يكون معنى أن يتنزل كتاب من عند الله ، أو معنى الإيمان بالله ، فهل كان هذا صحيحا؟ وهل النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده بين الأنبياء الذى لم يكن يدرى ذلك؟ والمتأمل لسيرة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يجد أن ذلك حق ، والنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لمّا نشأت بغّضت إلىّ الأوثان ، وبغّض إلىّ الشعر ، ولم أهمّ بشيء مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين ، فعصمنى الله منهما ثم لم أعد». فلم يحدث فى كل ما رمته به قريش من تهم وأكاذيب ، أن قال واحد منهم أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلى معهم يوما إلى الأصنام ، ولو كان قد فعل ، لكانوا أول من يبادرون إلى إعلانه وتعييره به. فبما ذا كان يتعبّد النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذن فى الجاهلية؟ والجواب من السيرة النبوية ، فلم ينسب النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى واحد من الأنبياء كموسى وعيسى ، بحيث يكون من أمته ، ولا سجد لصنم ، ولا أشرك بالله ، ولا زنى ، ولا شرب الخمر ، ولا كانت له مع المشركين مسامرات وسهرات ، ولا حضر حلفا من أحلاف الجاهلية ، كحلف المطر ، وحلف المطيبين. فبما ذا إذن كان يؤمن قبل

١٤٩

الإسلام؟ نقول : إنه كان على ملة إبراهيم ، يعنى حنيفا لا يتابع أيا من الديانات ، فآمن بالله من غير شريعة ، وكثيرون كانوا مثله ، وعدم درايته بالإيمان ولا بالكتاب ، المقصود بهما الإيمان بطريقة اليهود والنصارى ، والمقصود بالكتاب التوراة والإنجيل ، وما كان يعرف مضمون ذلك ، ولا الشرائع ولا الفروض والأحكام ، فلما بعث رسولا عرف الإيمان بالله على طريقة الإسلام ، وتلا كتاب الله وهو القرآن ، وأحاط بالأحكام والفروض لمّا تنزّلت عليه تباعا. والإيمان الذى لم يعرفه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يافع هو الإسلام ، وعرفه بعد النبوة ، وكان من قبل ذلك أميّا ، والأميون ما كانوا يعرفون الإيمان ، ولا كان عندهم كتاب ، ومثله قوله : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) (٤٨) (العنكبوت) ، فلما عرف ، وتحصّلت له المعارف بالكتاب ، جعله الله نورا يهدى به الناس ، وإنه ليدعوهم ويرشدهم إلى الدين القويم ، وكان كتاب الله هو القرآن ، ودينه تعالى هو الإسلام ، ونسبتهما إليه تعالى لأنه ربّ كل ما فى السموات وما فى الأرض ، وإليه تصير الأمور. فهذا هو إيمان النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بربّه وبدينه وكتابه ، وكان فى البداية إيمانا حدسيا ، وفطريا ، ثم صار من بعد الرسالة إيمانا حقيقيا واقعيا ، له مضمون ، ومضمونه هو رسالته ، فإن قال عنه تعالى قبل المبعث ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان ، فهذا حقّ ، فما كان يدرى بذلك كله قبل المبعث ، فلما كان المبعث صار يدرى.

* * *

١٩٢. دعوة الرسل جميعا : لا إله إلا الله

تشهد أدلة العقل أنه لا إله إلا الله ، وثبت بالنقل عن جميع الأنبياء أنه تعالى موجود ، ودليل ذلك إما معقول وإما منقول ، ولم يرسل نبىّ إلا بالتوحيد ، كقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (٢٥) (الأنبياء) ، فجميع ما جاء به الرسل من شرائع فى التوراة والإنجيل والقرآن ، على الإخلاص والتوحيد.

* * *

١٩٣. الرسل استهزئ بهم من قبل محمد

يقول الله تعالى لنبيّه : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٤١) (الأنبياء) ، والآية لتسليته وتعزيته ، فلقد استهزئ بالرسل من قبله ، فليصبر كما صبروا ، ووعده النصر.

* * *

١٩٤. سمّوه ابن أبى كبشة استهزاء

كان العرب يعبدون كوكب الشّعرى ، ومن لم يكن يعبدها كان يعظّمها ، وقيل أول

١٥٠

من دعا إلى عبادتها رجل يقال له أبو كبشة ، وقيل : كان أبو كبشة أحد أجداد النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جهة الأمهات ، فلما أراد مشركو قريش أن يستهزءوا بالنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمّوه «ابن أبى كبشة»! يذكّرونه بجدّه هذا الذى خرج على إجماع العرب ودعا إلى عبادة الشعرى ، مثلما فعل النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودعا إلى الله من باب الآية : (قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) (٧٧) (يوسف) ، يعنى ليس هذا بجديد فى عائلته! وكانوا كلما يسألون عن أخبار النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجعلون سؤالهم تحقيرا وازدراء ، يقولون : ما لقينا من ابن أبى كبشة؟! ويوم فتح مكة قال أبو سفيان بينما عساكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تمر عليه : لقد أمر أمر ابن أبى كبشة! ـ أى صارت له الإمارة! فلم يفهم أبو سفيان كدأبه ، فما كان ما أعطاه الله لابن أبى كبشة إمارة وإنما نبوة ، وشتّان بينهما ، الإمارة والنبوة! وحسبنا الله.

* * *

١٩٥. حجّة الكافرين ضد الرسل

يقولون إن الرسل بشر ، وما كان لبشر أن يدعو إلى الله : (قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١١) (إبراهيم). ودليل الرسل على الله : الفطرة السليمة ، فهى التى تشهد بوجوده ، وجبلت على الإقرار به ، والاعتراف به ضرورة لهذه الفطرة ، إلا أن الشك قد يعرض لها اضطرارا فتحتاج إلى النظر فى الدليل الموصّل إلى وجوده ، والرسل أرشدوا الأمم إلى هذا الدليل ، فهذا العالم الماثل أمامهم ، وهذه الأرض والسماء ، وشواهد الحدوث والخلق والتسخير التى لا أول لها ولا آخر فى الكون ، كلها تقضى بأن لا بد لهذا الكون من صانع ، وهو الله لا إله إلا هو ، دعا الناس إليه ليغفر لهم ، ولم يعجّل عذابهم. وكانت الحجة الثانية للمنكرين : أن الأنبياء بشر : أفبشر وتعرفون الله وهو من ليس ببشر؟ وطالبوهم ثالثا بالدليل : أن تكون لهم معجزة ، مع أن مطلبهم داحض ، بأنهم ليسوا سوى بشر مثلهم ، وليست لبشر معجزات إلا أن يأذن له الله بها. والرسل منهم أصحاب المعجزات ، ومنهم من يخاطبون الفطرة ، والمعجزات لا تلزم إلا من رآها رأى العين ، ودليل الإقناع أولى وأهم ، فكيف إن كان هذا الدليل مكتوبا فى كتاب ليقرأه الدانى والقاصى ، والمستقدم والمستأخر؟! وذلك هو القرآن ، وهو الدليل هنا.

* * *

١٥١

١٩٦. ما من نبىّ إلا وقد أخطأ أو همّ بخطيئة

كل الأنبياء إما أخطئوا أو هموا بخطيئة ، ومنهم موسى ، وعيسى ، ونبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل إن يحيى بن زكريا لم يخطئ ، إلا أن خطأه كان نقده الشديد لهيروديا وهيرودس بلا روية وباندفاع ، واتهامه لهيروديا بالزنا ، فتسبب ذلك فى قتله على النطع بالسيف ، وفصلوا رأسه عن جسده وقدموها لهيروديا فى طبق. (متى ١٤ / ٣ ـ ١١ ، لوقا ٣ / ١٩ ـ ٢٠ ، مرقس ٦ / ١٦ ـ ٢٨). ولأن الأنبياء كانوا جميعا من البشر ، بما فيهم عيسى ، وبدءا من آدم ، فكان عليهم أن يخطئوا ، وإلا ما كانوا بشرا ، ووصّف الله تعالى خطأ الأنبياء وهو يوصف خطأ آدم ، فقال : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (١١٥) (طه) فأطاع إبليس وانصاع لهواه ، ومع أنه عاهد الله فلم يحفظ العهد ، فالسبب إذن فى خطأ الأنبياء أنه لم يكن لهم العزم ، أى القوة والمثابرة على الالتزام والوفاء بالعهد ، إلا أنه شتّان بين خطأ نبىّ وخطأ إنسان عادى ، وعلى العموم فإن آفة الإنسان تهافت العزم.

* * *

١٩٧. أخطأ كما يخطئ الناس

أخطأ النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذه حقيقة ، وخطؤه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه بشر ، وهذا واقع ، والقرآن سجّل فى بعض آياته أخطاء للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووجّه إليه بسببها العتاب ، فأحيانا يشتد العتاب ويقسو ، وأحيانا يلطف ويرق ، والعتاب فى القرآن للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم دليل على أن القرآن ليس من عند محمد ، فلو كان هذا العتاب من كلامه لما عاتب نفسه ونشر خطأه على الناس يقرءون عنه فى كل وقت ، ويرتلونه فى المساجد وعلى الملأ. وكانت أخطاؤه من نوع أخطاء الأحكام ، كهذا الخطأ الذى تحكى عنه هذه الآية : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١) (التحريم) ، قيل إنه حلف أن ماريا القبطية عليه حرام ، وأقسم أن لا يقربها ؛ وقيل حلف أن لا يشرب العسل عند زينب بنت جحش ولا عند غيرها ؛ وما كان له أن يحرّم على نفسه ما أحل الله له. وفى حكاية خولة بنت ثعلبة حرّم عليها زوجها أوس بن الصامت لما ظاهرها ، وقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حرمت عليه» ، فما زالت تراجعه ويراجعها وهو يقول : «هو ما قلت لك» ، فقالت : إلى الله أشكو لا إلى رسوله!. فنزلت الآية : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (١) (المجادلة). وأمثال هذين الخطأين من دلائل بشريته وعبوديته لله ، ورغم مقامه المحمود عند ربّه ، إلا أنه لم يخرج عن أن يكون عبدا لله ،

١٥٢

وكان يقول لأصحابه إذا أطروه : «لا تطرونى كما أطرت النصارى ابن مريم ، إنما أنا عبد ، فقولوا : عبد الله ورسوله». رواه البخارى ، وقال : «إنما أنا بشر مثلكم ، وإن الظن يخطئ ويصيب ، ولكن ما قلت لكم قال الله ، فلن أكذب على الله» رواه أحمد وابن ماجة. وقال : «إنما أنا بشر تختصمون إلىّ ، فلعل بعضكم أن يكون ألحن (يعنى أبلغ) بحجته من بعض ، فأحسب أنه صادق ، فأفضى له على نحو ما أسمع. فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هى قطعة من النار ، فليأخذها أو ليتركها». رواه مالك والشيخان وأصحاب السنن.

وليست أخطاؤه من النوع الفاحش ، ولا المبتذل ، ولا القبيح ، ولا المرذول ، ولا هى مخالفة لأوامر الله ، وإنما هى أخطاء ليس فيها نصّ قرآنى ، وأعمل فى أحداثها نظره فحكم بما وسعه ، ومن ذلك ما رواه الحسن البصرى قال : جاءت امرأة إلى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم تشكو زوجها أنه لطمها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القصاص» ، فأنزل الله : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) (٣٤) (النساء) ، فأبطلت الآية حكم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فثبت أنه تعالى لا يقرّه على الخطأ ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخضع فورا لحكم الله ويأخذ بالصحيح ، ويفرح به ويسرّ. ولما أذن لبعض المنافقين أن يتخلفوا عن غزوة تبوك حين استأذنوه فأعذرهم ، عاتبه الله شديد العتاب فقال : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) (٤٣) (التوبة) وعلمه ان يتحرّى ويتثبت ولا ينخدع بظواهر ما يقولون ، فوراء أعذارهم مقاصد دنيّة بيّتوا لها.

وفى وقعة بدر استطاع المسلمون أن يأسروا سبعين من أشراف قريش ، وكان من رأى عمر أن يقتلوا ، فالحرب لم تضع أوزارها ، ورأى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرضى منهم الفداء ، لعل المسلمين ينتفعون بالمال ، فنزلت الآية تعتب عليه بشدة إطلاقه سراح الأسرى ، وقال له ربّه يعلمه : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦٩) (الأنفال).

واشتهر عتاب سورة عبس ، وقوله تعالى له فيه : (كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ) (١١) فهذا أكبر تعنيف للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى القرآن كله ، وسبب ذلك أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم انشغل يوما مع جماعة من أشراف قريش يحاجيهم ويناقشهم ويحاورهم لعلهم يهتدون ، وجاءه عبد الله بن أم مكتوم ، وهو يجادلهم ، وكان أعمى يتلمس طريقه ، ودخل على النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلا استئذان ، وقاطع

١٥٣

النقاش يريد أن يسأله فى دينه ، فلم يردّ عليه النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستمر فى كلامه ، وابن أم مكتوم من حين لآخر يأتيه من شماله ثم من يمينه ويقطع عليه كلامه ، ولا شىء على لسانه إلا عبارة «يا رسول الله ، علمنى مما علمك الله» ، وفى السورة يقول تعالى يصف الموقف : (عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ) (١١) (عبس) ، فنفهم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبس فى وجهه ، وابن أم مكتوم أعمى ، ولن يرى العبوس ، فلا بد إذن أنه ظهر فى كلامه ، ونفهم أنه تولى عنه وانصرف لا يجيبه ، فكان هذا العتاب القاسى من الله تعالى لنبيّه ، لأنّه ما كان له أن يقبل على كفّار لدرجة أن يهمل المؤمن ، ولا أن يعرض عن هذا المؤمن الضعيف من أجل كفرة عتاة فى الكفر ، ولا أمل فى هدايتهم ، فكان النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلما التقى بابن أم مكتوم من بعد ، يقول له هاشا باشا : «أهلا بمن عاتبنى فيه ربّى» ، وكان من عتابه تعالى لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أنزل عليه هذه الآية ، يعلمه أن لا يعرض أبدا عن مؤمن يطلبه للدين ، قال : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (٢٨) (الكهف).

* * *

١٩٨. أوذى كما أوذى موسى

موسى كثيرا ما أوذى ، وكذلك النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقول تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) (٦٩) (الأحزاب) ، وموسى اتهموه بأنه آدر (يعنى له خصية منتفخة) وأبرص ، وأنه تزوج حبشية وحلل حراما ، وأنه لم ينفّذ كلام ربّه فى ضرب الحجر ليخرج منه الماء ، وأنه شكّ فى قدرة الله على أن يؤكل بنى إسرائيل ، ولم يعظهم قبل نزول السلوى ، وأنه خاصم هارون ودعاه إلى الجبل ليقتله هناك. والنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم آذوه فكانوا يرفعون صوتهم على صوته ، كقوله تعالى : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) (٢) (الحجرات) ؛ وكانوا ينادون عليه باسمه ، كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (٤) (الحجرات) ، ويدخلون بيته بلا استئذان ، كقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَ) (٥٣) (الأحزاب) ، وقالوا إذا مات محمد سنتزوج أزواجه ، فنزلت الآية : (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا

١٥٤

رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً) (٥٣) (الأحزاب) ، وقالوا إنه سمّاع للناس ، فرد تعالى عليهم يقول : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٦١) (التوبة) ، ومن أذاهم قولهم فيه أنه «ساحر» ، و «شاعر» ، و «كاهن» ، و «مجنون» ، وشجّوا رباعيته ووجهه يوم أحد ، وألقوا السلى (خلاص الحيوانات بعد ذبحها) على ظهره فى مكة وهو ساجد ، وطعنوا عليه حين اتخذ صفية بنت حيى ، وفى تأميره لزيد بن حارثة ، ثم لأسامة بن زيد ، ونزلت فيمن يؤذونه فى زمنه أو مستقبلا ، الآية العظيمة : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً) (٥٧) (الأحزاب).

* * *

١٩٩. محمد لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا

ما كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلها ، وما تميّز عن الناس إلا بأنه رسول ، كقوله تعالى : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١٨٨) (الأعراف) ، وهو رسول بشر ، لا يملك أن يجلب إلى نفسه خيرا ، ولا يدفع عنها شرا ، إلا ما يشاء الله أن يملكه ويمكّنه.

* * *

٢٠٠. كل أمة همّت بنبيّها

فى القرآن أن كل الأمم سواء ، وأنهم جميعا أرسل إليها الرسل فحاولوا العدوان عليهم وألحقوا بهم الأذى ، كقوله تعالى : (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) (٥) (غافر) ، قيل : «الأخذ» هو السجن والتعذيب ، والعرب كانوا يسمون الأسير الأخيذ ، أخذوه لتعذيبه أو فدائه أو قتله. وقيل الأخذ : هو الإهلاك ، بمعنى القتل ، يعنى أن كل أمة حاولت قتل نبيّها ، ونبيّنا حاولوا قتله عشر مرات كما سيجىء لاحقا. و «أخذ كل أمة لرسولها» ، يكون إما فى أول الدعوة ، وإما عند نزول العذاب بهم.

* * *

٢٠١. مكروا به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه

فى الآية : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (٣٠) (الأنفال) ، إخبار بما اجتمع عليه المشركون من المكر بالنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى دار الندوة ، فاجتمع رأيهم على قتله ، فبيّتوه ، ورصدوه على باب منزله طوال

١٥٥

ليلتهم ليقتلوه إذا خرج ، فأمر النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم علىّ بن أبى طالب أن ينام على فراشه ، ودعا أن يعمى عليهم أثره ، فطمس على أبصارهم وغشى عليهم النوم ، فخرج ، فلما أصبحوا فتح لهم علىّ ، فعلموا منه أنه قد رحل ، والخبر مشهور فى السيرة ، ومعنى «ليثبّتوك» يقال أثبته إذا حبسه وسجنه ، و «المكر» التدبير فى الأمر خفية ، والمكر من الله هو إفشال مخططهم.

* * *

٢٠٢. ابن جحاش اليهودى يحاول قتله

هو عمرو بن جحّاش من بنى النضير ، وكان النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد جاء بنى النضير يستعينهم فى دية فهمّوا بقتله ، وحاول ذلك ابن جحاش ، تقدّم واخترط سيف النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أى اختطفه وجرّده منه ، وقال : من يعصمك منى يا محمد؟ فعصمه الله منه ، وقيل ضرب اليهودى من بعد برأسه فى ساق شجرة حتى مات.

* * *

٢٠٣. حاولوا قتله عشر مرات؟

المؤامرات على الإسلام قديمة وليست بنت اليوم ، وما يفعله اليهود والمسيحيون ، والإمبرياليون ، والمستشرقون ، والعلمانيون ، والملاحدة ، اليوم وغدا ، من التنكيل بالمسلمين ، وإيقاع الفتن بينهم ، والتأليب عليهم ، والغدر بهم ، إنما هو تكرار لما فعله أجدادهم بالأمس. فلما كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المسلمين حاولوا قتله كرمز للإسلام ، وبلغ عدد محاولاتهم عشر مرات :

* ففي المرة الأولى لمّا عرفوا أن الإسلام انتشر اعتناقه ، وكثر أتباعه ، خافوا أن تصير للمسلمين منعة ، فأجمعوا على الكيد لهم ، وأن يحاربوهم نفسيا ، وسياسيا ، وعسكريا ، واقتصاديا ، فوضعوا أعينهم على النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلو قتلوه لتفرّق أشياعه أيدى سبا ، وتحلّقوا لذلك فى دار كانت لقريش اسمها دار الندوة ، وهى دار قصىّ بن كلاب التى كانت اجتماعهم تعقد فيها ، وتشاوروا هناك فيما يصنعون فى أمر هذا الدعىّ ـ كما كانوا يسمونه ، وكان مجيئهم من كل حدب وصوب ، وكانوا جميعهم من الكبار ، منهم من بنى عبد شمس : عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو سفيان بن حرب ؛ ومن بنى نوفل بن عبد مناف : طعيمة بن عدى ، وجبير بن مطعم ، والحارث بن عامر بن نوفل ؛ ومن بنى عبد الدار بن قصىّ : النضر بن الحارث بن كلدة ؛ ومن بنى أسد بن عبد العزى : أبو البخترى بن هشام ، وزمعة بن الأسود بن الحطاب ، وحكيم بن حرام ؛ ومن بنى مخزوم : أبو جهل بن هشام ؛ ومن بنى سهم ، : نبيه ومنبّه ابنا الحجاج ؛ ومن بنى جمح : أمية بن خلف ، وغيرهم كثير وإن

١٥٦

كانوا نكرات ، وبلغ عدد كبار المتآمرين أربعة عشر ، وتداولوا فيما بينهم ، وأشار عليهم أبو جهل أن يأخذوا من كل قبيلة فتى ، شابا ، جليدا ، نسيبا ، وسيطا ، ويعطون كلا منهم سيفا صارما ؛ فيعمدون إليه فيضربونه بها ضربة رجل واحد ، فيقتلوه ، فيستريحون منه ، فإن فعلوا ذلك تفرّق دمه بين القبائل جميعا فلم يقدر أهله بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا. واجتمع من اختاروهم على بابه يقودهم أبو جهل ، وخرج عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفى يده حفنة من تراب ، فجعل ينثرها فى وجوههم ويتلو : (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (٩) (يس) ، فلم يبق منهم من لم يصبه التراب ، وانسلّ هو من بينهم إلى حيث أراد ، وتطلّعوا حولهم وقد شاهت وجوههم وكساها التراب ، وتسلقوا الجدار يفتشون عنه بعيونهم ، فرأوا على بن أبى طالب ينام مكانه ، ويتسجّى ببرده. ونزل القرآن فى هذه المؤامرة التى أفشلها الله تعالى قال : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (٣٠) (الأنفال) ، وقال (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) (٣١) (الطور). والبرد عباءة ويلتحف بها ، وتسجّى تغطّى ؛ وتربّص انتظر ؛ والمنون الموت ؛ وريب المنون ما يريب ويعرض منها.

* وكانت المحاولة الثانية أثناء خروجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة مهاجرا إلى المدينة ، يصحبه أبو بكر ومولاه عامر بن فهيرة ، وكان المتربصون به قد جعلوا مائة ناقة جائزة لمن يردّه عليهم ، فخرج سراقة بن مالك بن جعشم على فرسه وراء ركب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد لبس لأمته ، واشتد فى أثرهم ، واستقسم بقداحه يقرأ طالعه ، فخرج السهم «لا يضرّه» ، وعثر به فرسه وأسقطه عنه ، وعاد إليه يشتد فى أثرهم ، واستقسم قداحه مرة ثانية فخرج السهم فى هذه المرة أيضا «لا يضره» ، وعثر الفرس من جديد وسقط سراقة ، ثم عاد إلى الركوب ، واستقسم قداحه فخرج السهم للمرة الثالثة «لا يضره» ، واشتد مع ذلك فى أثرهم ، فعثر الفرس ، وسقط سراقة عنه ، وتعجّب ، ولكنه أصر السعى خلف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلى أن تراءى له ركبهم ، فعثر به فرسه وغاصت رجلاه فى الرمال ، وسقط هو على الأرض ، وقام يستنهض الفرس ، ونظر فرأى دخانا كالإعصار قد حال بينه والركب ، فنادى بأعلى صوته : أنه سراقة بن جعشم ، لا يريبهم ولا يأتيهم منه شىء يكرهونه ، وأنه يريد أن ينظروه ليكلّمهم ، وطلب أن يكتب له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتابا يكون آية بينهم وبينه ، وكتب له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكتاب على عظم أو فى رقعة ، أو خرقة ، وألقاه إليه ، فجعله سراقة فى كنانته ثم رجع. فلما كان فتح مكة ، ثم حنين والطائف ، خرج إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلقاه فى الجعرانة ، وأسلم سراقة وحسن إسلامه.

١٥٧

* والمحاولة الثالثة لقتله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام بها عمير بن وهب الجمحى ، وكان من شياطين قريش ، وممن آذوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشد الأذى ، ولقى منه أصحابه من مكة أشد العنت ، وخطط لها معه صفوان بن أمية بعد مصاب أهل بدر من قريش. وكان ابنه وهب بن عمير من أسارى بدر ، فقال لصفوان : لو لا دين علىّ ، له عندى قضاء ، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدى ، لركبت إلى محمد حتى أقتله ، فإن لى قبلهم علّة : ابني أسير فى أيديهم! واغتنمها صفوان وقال : علىّ دينك أقضيه عنك! وعيالك مع عيالى أواسيهم ما بقوا ، لا يسعنى شىء ويعجز عنهم! فقال له عمير : فاكتم شأنى وشأنك! ـ وتمت المؤامرة. وشحذ عمير سيفه وسمّه وقدم المدينة ، فرآه عمر ينيخ على باب المسجد متوشحا السيف ، وللتو قال : هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب! والله ما جاء إلا لشر ، وهو الذى حرّش بيننا وحززنا للقوم يوم بدر! (يعنى أفسد بيننا وبينهم وحدد لهم عددنا تخمينا). وأسرع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلنه بالأمر ، ولم يفعل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أن قال له : «أدخله علىّ». وأقبل عمر على عمير ، وأخذ بحمالة سيفه فى عنقه فلبّبه بها ، وأمر بعض الأنصار أن يدخلوا على النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويحيطوا به حذر هذا الخبيث ، ثم إنه أتى به إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمر أن يرسله ، وخاطب عمير قال : «ادن يا عمير» ، فدنا وقال له : انعموا صباحا! وهى تحية الجاهلية ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير ، بالسلام ـ تحية أهل الجنة. فما جاء بك يا عمير؟» قال : جئت لهذا الأسير فى أيديكم فأحسنوا فيه. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فما بال السيف فى عنقك؟» قال : قبّحها الله من سيوف! وهل أغنت عنا شيئا! قال : «أصدقنى ما الذى جئت له»؟ قال : ما جئت إلا لذلك. قال : «بل قعدت أنت وصفوان بن أمية فى الحجر ، فذكرتما أصحاب القليب من قريش ، ثم قلت : لو لا دين علىّ وعيال عندى ، لخرجت حتى أقتل محمدا ، فتحمّل لك صفوان بدينك وعيالك ، على أن تقتلنى له ، والله حائل بينك وبين ذلك»! قال عمير : أشهد أنك رسول الله ، قد كنا نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحى ، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان ، فو الله إنى لأعلم ما أتاك به إلا الله! فالحمد لله الذى هدانى للإسلام وساقنى هذا المساق ، ثم إنه شهد شهادة الحق ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فقّهوا أخاكم فى دينه ، وأقرئوه القرآن ، وأطلقوا له أسيره»! ففعلوا ، ثم إن عمير استأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقدم مكة يدعو الناس إلى الله لعلّهم يهتدون ، وإلّا آذاهم كما كان يؤذى أصحاب النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى دينهم ، وأذن له ، فكان يدعو الناس بمكة إلى الإسلام ، ويؤذى من يخالفه أذى شديدا ، وأسلم على يديه ناس كثير.

١٥٨

* وجرت المحاولة الرابعة يوم أحد ، وقام بها ثلاثة : عتبة بن أبى وقّاص ، رمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكسر رباعيته اليمنى السفلى ، وهى السن التى بين الثنية والناب ، وجرح شفته السفلى ؛ وعبد الله بن شهاب الزهرى شجّه فى جبهته ؛ وعبد الله بن قمئة جرح وجنته فدخلت حلقتان من حلق المغفر فى وجنته ؛ والمغفر درع من حديد يوضع عند الرأس ليحميه من ضرب السلاح فى الحرب. ووقع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى حفرة كانوا قد احتفروها ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون. واجتمع خمسة من الأنصار يزودون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رأسهم زياد بن السكن ، أو عمارة بن يزيد بن السكن ، وقتلوا دونه ، وقاتلت عنه أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية ، وكانت تذبّ بالسيف ، وترمى عن القوس ، حتى أصابها بن قمئة ، وكان قد أقبل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : دلّونى على محمد فلا نجوت إن نجا! فاعترضت له أم عمارة ومصعب بن عمير ، وأناس ممن ثبتوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وضربها ابن القمئة وجرحها جرحا غائرا ، وترّس دون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبو دجانة ، ورمى سعد بن أبى وقاص دون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يناوله النبل وهو يقول : إرم فداك أبى وأمى!» حتى كان يناوله السهم ما له نصل فيقول : «إرم به». ورمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوسه حتى اندقّت ، وظن أنس بن النضر ، عم أنس بن مالك ، أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قتل ، وذهبت الإشاعة أنه قد قتل ، ورآه كعب بن مالك فأشار إليه ، وزعق يبشّر المسلمين ، واندفع رهط من المسلمين إلى حيث أشار ، ومنهم أبو بكر ، وعمر ، وعلىّ بن أبى طالب ، وطلحة بن عبيد الله ، ومالك بن سنان ، وأبو عبيدة الجرّاح ، والزبير بن العوام ، والحارث بن الصّمة ، وأسرع إليه علىّ بن أبى طالب يأخذ بيده ، وأنهضه طلحة ، ومسح مالك بن سنان الدم عن وجهه وكان يلعقه ويزدرده تبركا ، ونزع أبو عبيدة بثنيته إحدى الحلقتين من وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسقطت الثنية ، ثم نزع الحلقة الأخرى بثنيته الأخرى فسقطت هى أيضا ، فكان أبو عبيدة ساقط الثنيتين.

* وأما المحاولة الخامسة لقتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد جرت فى الشّعب يوم أحد ، ذلك أن أبىّ بن خلف كان يقابل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيام مكة فيقول له : يا محمد! إن عندى العوذ ، فرسا أعلفه كل يوم فرقا (والفرق مكيال) من ذرة ، أقتلك عليه! فيقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بل أنا أقتلك إن شاء الله! فلما كان يوم أحد وما جرى فيه ، وتراجع المسلمون إلى الشّعب ، والنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثخن بالجراح وقد أسندوه ، أدركه ابن خلف هذا وهو ينادى عليه : أى محمد! لا نجوت إن نجوت! فقال القوم : يا رسول الله! أيعطف عليه رجل منا؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «دعوه» ـ فلما دنا تناول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحربة من الحارث

١٥٩

بن الصّمة ، واستقبله بها وانتفض بشدة ثم طعنه فى عنقه ، وخدشته الطعنة ولم تقتله ، ودأدأته عن فرسه ، فلما كان فى طريق عودته إلى مكة مات من الجرح بسرف وهم قافلون إلى مكة.

* وجرت المحاولة السادسة لقتله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى العام الرابع الهجرى ، وقام بها بنو النضير من اليهود. وكان النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أرسل بعثة من أربعين رجلا من أصحابه من خيار المسلمين إلى أهل نجد يدعوهم إلى الإسلام ، فغدر بهم عامر ، بن الطفيل وقتلهم ، إلا عمرو بن أمية الضّمرى ورجلا من الأنصار ، وكان ابن طفيل قد حاول أن يستعين عليهم أولا ببنى عامر ، فرفضوا للعقد الذى بينهم وبين النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلجأ إلى بنى سليم فقاموا معه وأجهزوا على البعثة. وصمم عمرو بن أمية على الانتقام ، وقد ظن أن بنى عامر هم الذين قتلوا أصحابه ببئر معونة ، والتقى قرب المدينة برجلين من بنى عامر نزلا فى ظل هو فيه فقتلهما ، وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بنى النضير يستعينهم فى دية القتيلين من بنى عامر اللذين قتلهما عمرو بن أمية ، فطبقا للجوار الذى كان قد عقده لبنى عامر يحقّ لهم الدية عن القتيلين. وكان بين بنى النضير وبنى عامر عقد وحلف ويحق له من ثم أن يستعينهم. فلما أتاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعرض عليهم الأمر رضوا ، ثم إنهم خلوا إلى بعضهم البعض ، وكانت فرصة لهم أن يقتلوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عندهم وهو فى نفر من أصحابه قليل ، منهم أبو بكر وعمر وعلىّ ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قعد إلى جنب جدار من بيوتهم ، فائتمروا أن يعلو رجل البيت الذى يقعد تحته فيلقى عليه صخرة ، وانتدبوا لذلك عمرو بن جحّاش بن كعب أحدهم ، «ليريحهم منه» كما قالوا ، ولكن الله ألهم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينهض راجعا إلى المدينة ، وأعلمه بأمرهم ، فلما بلغ المدينة أخبر أصحابه وأمرهم بالتهيؤ لحرب بنى النضير جزاء وفاقا ، ثم سار بأصحابه لحصارهم ، وكان ذلك فى شهر ربيع الأول ، واستمر الحصار ست ليال ، وكانت جماعة من الخزرج ـ منهم عبد الله بن أبىّ بن سلول ، ووديعة ، ومالك بن أبى نوفل ، وسويد ، وداعس قد بعثوا إلى بنى النضير : أن اثبتوا وتمنّعوا فإنا لن نسلمكم. إن قوتلتم قاتلنا معكم ، وإن أخرجتم خرجنا معكم» ، وأنزل الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ

١٦٠