موسوعة القرآن العظيم - ج ١

دكتور عبد المنعم الحفني

موسوعة القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

دكتور عبد المنعم الحفني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
ISBN: 977-208-442-2
الصفحات: ١٢٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

أو لباس الحرب الذى يتّقى به العدو ، والأصح أنه الخشية من الله ، شبّهها باللباس يستر صاحبه ، ويتّقى به غضبه تعالى ؛ وقيل لباس التقوى هو استشعار تقواه تعالى فيما أمر به ونهى عنه.

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) (٣٤) : القرآن مع القول بأن التاريخ دورات حياة ، وأن الأمم فى صعود وهبوط ، ولكل أمة أجل ، وأجل كل أمة مرة مع الصعود ، ومرة مع الهبوط ، والقاعدة فى القرآن : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران ١٤٠) ، وكثير من علماء وجهابذة التاريخ قالوا بدورات الحياة للأمم ، وبأن الأمم آجال ، وأبرزهم توينبى (١٨٨٩ ـ ١٩٧٥ م) ، وتوينبى بالقطع قرأ هذه العبارة فى القرآن واستوقفته ، وخلص إليها كحقيقة ثابتة ، وكان منهجه فى استخلاصها هو المنهج الاستقرائى ، وهو أحد مناهج التفكير التى يدعونا إليها القرآن كما قال : (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا) (النمل ٦٩) ، وكما قال : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا) (يوسف ١٠٩) ، وساق توينبى واحدا وعشرين مثلا على ما ذهب إليه ، وعنده أن التاريخ يسير فى دورات كبرى من الارتفاعات والانخفاضات ، وأنه محصّلة الحضارات المختلفة التى تمر بنفس المراحل ، من الميلاد إلى النمو ، فالتفكك والأفول والسقوط. ومن رأيه أن الأمم عند ما تنسى الله فإنها تسقط من التاريخ ، فإذا ذكرته ارتقت وقويت وسمت ، وعنده أن الدين قوة روحية لنجاة الأمم من الانحلال. ونظرية القرآن أن للأمم آجالا ، وأنها تتفاوت ، وقد يطول أجلها إذا تمسكت بالإيمان ، وفى القرآن أن نوحا ظل فى قومه ٩٥٠ سنة ، وربما المعنى أن الديانة التى دعا إليها ظلت هذا العمر ، وبمثل هذا الحساب الزمنى قد تتفاوت الأمم فى الآجال ، وحاول اليهود تحديد أجل أمة محمد بالحساب الأبجدى للحروف المقطّعة فى بداية السور ، فقالوا : إن (الم) بداية سورة البقرة ، الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، فهذه إحدى وسبعون سنة ، وهكذا تحسب كل الحروف المقطّعة فيكون مجموعها مدة ملك محمد وأجل أمته ، وذلك أشبه بقراءة الطوالع ، فاعتمادا على معرفة المدد يمكن استخراج أوقات الحوادث والفتن والملاحم ، فكأنهم حوّلوا الحقيقة الزمنية للحضارات والأمم إلى شىء يتكسّبون منه ، فمن قال منهم ذلك فقد ادّعى ما ليس له ، وطار فى غير مطاره. ويبقى الصحيح من ذلك كله : وهو أن الأمم آجال كما جاء فى القرآن : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (٣٤) (الأعراف) ، فالأمم تمرض وتشيخ وتموت كالأفراد ، وفى القرآن من الأمم البائدة : أقوام نوح ، ولوط ، وصالح ، وشعيب ، وثمود وعاد ، ومن الأمم التى لم تبد اليهود ، لأنهم ما يزالون يتمسكون بالتوراة ، وكذلك الأمة المسيحية ، وأمة الهندوس ، والأمة الصينية ، والأمة اليابانية ،

١٢٠١

وجميعها أمم عاشت لأن لكل منها «كتابه» ، والقاعدة تسرى على أمة الإسلام ، فطالما تمسّك المسلمون بكتابهم فهم فى حفظ وحياة.

(فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (٣٤) : هذا حكم عام ، والأجل الوقت المعلوم للموت ، و (لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً) لأن الساعة أقل أسماء الأوقات ، وقوله (وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) فيه أن المقتول إنما يقتل بأجله ، وأجل الموت هو وقت الموت ، كما أن أجل الدّين هو وقت حلوله ، وكل شىء وقّت به شىء فهو أجل له.

(حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ ...) (٤٠) : المثل يضرب لاستحالة أمر ما ، وجاء فى القول عن المكذّبين والمستكبرين أنهم غير مغفور لهم ، فإن كان الجمل يدخل فى سمّ الخياط ، فكذلك هؤلاء يدخلون الجنة ، والأمران مستبعدان ، والجمل من الإبل ، وهو زوج الناقة ، والجمع جمال ، وفى قراءة (الْجَمَلُ) وهو حبل السفينة الغليظ من القنب يستحيل أن يدخل فى سمّ الخياط. وقيل هو الحبل الذى يصعد به النخل ، وهو غليظ أيضا. وسمّ الخياط : ثقب الإبرة ، وكل ثقب لطيف هو سم ، وجمعه سموم ، وأما السّمّ القاتل فيجمع على سمام. والخياط ما يخاط به ، وهو مخيط أيضا.

(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً ...) (٥٨) : الآية مثل للقلوب ، فقلب يقبل الوعظ والذكرى ، وقلب فاسق ينبو عن ذلك ، ومثل للمؤمن والمنافق ، فالمؤمن يعمل محتسبا متطوعا ، والمنافق لا يحتسب ؛ والمعنى أن من بنى آدم الطيب والخبيث ، والطيب لا ينجب إلا طيبين ، والخبيث لا ينجب إلا خبيثين.

(وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) (٨٥) : البخس هو النقص ، ويكون فى السلعة بالتعييب والتزهيد فيها ، ويكون فى غير السلع بالمخادعة عن قيمتها ، والاحتيال فى النقصان من قدرها ، وذلك منهى عنه فى الأديان وفى الأخلاق ، ولا يفعله الناس إلا فى الدول والجماعات المتخلّفة ، ويأتيه الطغاة دائما.

(وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٨٥) : يقال للمفسدين فى أى مجال ، والمثل يعم دقيق الفساد وجليله.

(وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ ...) (٨٦) : والقعود بكل الطرق إنما يكون للإفساد والحضّ عليه ، والنهى عن الخير ، والعامة تقول : لا تقعد لى فى الساقطة واللاقطة ... أى فى كل كلمة ، شأن من يتمنى لك الخطأ.

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) (٩٦) : هو مثل يضرب لمن يمتحن من المؤمنين بضيق العيش يكفّر به الله عن ذنوبهم ؛ والقرية هى

١٢٠٢

المدينة ، سميت كذلك لاجتماع الناس فيها ، من قريت الماء أذا جمعته ، وبركات السماء هى المطر ، وبركات الأرض هى النبات والخصب والنماء ، كما قال لقوم لنوح : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) (١١) (نوح) ، وقوم هود (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) (هود ٥٢).

(أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ) (٩٨) : هذا مثل وحكمة بالغة فى صيغة استفهام للإنكار ، والخطاب فيه لكل الناس والدول والأمم والشعوب ، فعذاب الله إذا أتى كان فجأة ، لا يعلمون أيكون فى الليل وهم نائمون ، أو بالنهار وهم يلعبون ، ويقال لكل من يأتى ما يضرّه ولا يجدى عليه أنه لاعب : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) (٩٩) ، ومكره تعالى استدراجه بالنعمة والصحة.

(إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) (١٣١) هذا مثل يقال فى أحوال الطيرة ، وكان قوم فرعون يتطيّرون من موسى ومن معه ، فكلما جاءهم خير نسبوه لأنفسهم ، فإذا جاءهم شر نسبوه لموسى ، فردّ الله تعالى عليهم بأن طائرهم ـ أى سعدهم وشقاءهم ، وخيرهم وشرّهم ، هو من عند الله وليس لموسى يد فيه ، وهو من ذنوب وليس بأمانى موسى. والطيرة : هى زجر الطير ، كان يأتيه المتشائم ، فمن كان له نمط الشخصية المتشائمة مال إلى التطيّر ، والتفكير التطيّرى تفكير خرافى ، والشخصية التطيّرية تميل إلى الخرافة إذا كانت بسيطة ، والمجتمعات فى بداياتها كانت متطيرة ، وكانوا يتيمّنون بالسانح ، وهو الطير يطير جهة اليمين ، ويتشاءمون بالبارح ، وهو الطير الذى يطير جهة الشمال. وكانوا يتطيّرون بصوت الغراب ويتأوّلونه ، وكانوا يستدلون بمجاوبات الطيور بعضها بعضا على أمور ، وبأصواتها فى غير أوقاتها ، وأكثر تطيّرهم كان بالطير لا بالحيوانات أو الأشياء أو الطقس ، فسمّوا الجميع تطيّرا من هذا الوجه. وفى الحديث نهىّ عن ذلك : «أقروا الطير على وكناتها» أى فى أعشاشها وأوكارها ولا تفزعوها لتتطيروا ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الطيرة شرك» ، وقوله تعالى : (إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) أى ما قدر لهم وعليهم ، وهو ما لحق قوم فرعون من القحط والشدائد بذنوبهم لا من عند موسى.

(كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ...) (١٧٦) : يضرب هذا المثل لمن يحصّل العلم ولا يعمل به ، ويسمع بالدعوة ، ويكفر بها ، ويدعى إلى الآخرة فيخلد إلى الدنيا ولذّاتها ، ويلزمها ويتّبع الشيطان وما يزيّنه له ، فحاله كالكلب يلهث إن ضربته ، ويلهث إن لم تضربه ، وكذلك الجاحد يظل على كفره ، دعوته أو لم تدعه ، وعلم أو لم يعلم. وأهل

١٢٠٣

الحكمة يقولون فى الكلب : إنه لا نفس له ، فنفسه منقطع ، فيلهث فى الكلال وفى الراحة ، وفى المرض وفى الصحة ، وفى الرىّ وفى العطش ، فكذلك الكافر ، إن وعظته ضلّ ، وإن تركته ضلّ : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) (١٩٣) (الأعراف). والمثل عام فى كل من استمع إلى القرآن وعرف عن الإسلام ولم يؤمن ، وفى كل من عرف آيات الله ولم يعمل بأوامرها ونواهيها ، ومن يقرأ الكتب ولا يسلك بمقتضى حكمتها ، فمثله كمثل الكلب ، وهو تمثيل ، لأنه يعنى أن هواه قد غلبه حتى ما عاد يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ، كالكلب اللاهث أبدا حمل عليه أو لم يحمل عليه.

(لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (١٧٩) : المثل يضرب لمن لا ينتفع بما أعطاه الله من نعمة العقل والإبصار والسمع والحواس عموما ، فلا يفقه قولا ، ولا يعقل ثوابا ، ولا ليخاف عقابا ، فهم كالأنعام ، همّتهم انصرفت إلى الأكل والشّرب ، فصاروا أضل ، لأن الأنعام تبصر منافعها ومضارها ، وتتبع مالكها ، فكأنما بفطرتها تعرف ربّها ولم تجحده ، وهؤلاء لم يعرفوا ربّهم ، وغفلوا عن الحق.

(فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (١٨٥) : قول يؤثر ويردّ به على من يستهين بما يقال ، ويستقله.

(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) (١٩٩) : هذه الآية من ثلاث كلمات ، تضمنت قواعد الشريعة فى المأمورات والمنهيات ، فأما قوله : (خُذِ الْعَفْوَ) فأمر بصلة من يقطعك ، والعفو عمن يأثم فى حقك ، والرفق بالمؤمنين ، وأن لا تحمّل الناس إلا وسعهم ، وأن لا تكلفهم إلا ما كان فى استطاعتهم ؛ وقوله : (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) فالعرف ما اصطلح الناس عليه فى أمور الخير والبرّ والحق ؛ وقوله : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) فالجهل ضده العلم ، فأن تعرض عن الجاهلين ، لأن ما يصدرون عنه هو عدم الدراية ، وقلة المعرفة ، ومن شأن الجهل أن يردى صاحبه فى الظلم ، فيظلم الناس ويظلم نفسه ، والعاقل من تعلّم وعلّم ، والتعلق بالتعلّم من دأب أهل الحكمة ، وفى الإعراض عن الجاهلين إعراض عن أهل الظلم ، وتنزّه عن منازعة السفهاء والتنزل إلى مستوى الجهلة الأغبياء ، ولما سأل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل عن معنى هذه الآية ذهب فسأل ربّه وعاد إليه يقول : «إن الله تعالى يأمرك أن تعفو عمن ظلمك ، وتعطى من حرمك ، وتصل من قطعك» أخرجه الحاكم والبيهقى. وفى الحديث عن أبى هريرة قال : «إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق» أخرجه البزار. وفى الشعر :

١٢٠٤

مكارم الأخلاق فى ثلاثة

من كملت فيه فذلك الفتى

إعطاء من تحرمه ووصل من

تقطعه والعفو عمّن اعتدى

فهذه الآية هى أجمع آية لمكارم الأخلاق. وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو لها ، وقال عن نفسه : «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» وفى الحديث : «أمرنى ربّى بتسع : الإخلاص فى السرّ والعلانية ، والعدل فى الرضا والغضب ، والقصد فى الغنى والفقر ، وأن أعفو عمن ظلمنى ، وأصل من قطعنى ، وأعطى من حرمنى ، وأن يكون نطقى ذكرا ، وصمتى فكرا ، ونظرى عبرة».

* * *

٩٥٥. أمثال وحكم فى سورة الأنفال

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) (٥٦) : شبّه الله تعالى من ينقض العهد بالدابة ، بل إنهم من شرّ الدواب : لأنهم لا يؤمنون بالله فليس لهم عهد ، ودائما ينقضونه ، وهؤلاء هم اليهود ، كانوا أيام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بنى قريظة والنضير ، وهم اليهود عموما ، وخير مثال لذلك ما يوقعون مع الفلسطينين من مواثيق ينقضونها بسرعة. والدابة هى التى تدب على الأرض وما فى حكمها.

* * *

٩٥٦. أمثال وحكم فى سورة التوبة

(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) (٣٢) : ونور الله هو دينه ، فجعل الدين بمنزلة النور.

(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٠٥) (التوبة) : وفى الحديث عن عائشة : «إذا أعجبك حسن عمل امرئ مسلم فقل .. الآية» ، يعنى العمل الطيب يرضى عنه الله ورسوله والمؤمنون ، والعمل السيئ لا يرضى أحدا ، وفى الحديث : «لو أن أحدكم يعمل فى صخرة ليس لها باب ولا كوة ، لخرج عمله للناس كائنا ما كان» ، يعنى مصير كل عمل وإن خفى أن يظهر وينكشف ويعلم به. ويوم القيامة تعرض الأعمال على الله تعالى ورسوله ، والمؤمنون الموتى يعلمون بها فى الدنيا ، وفى الحديث : «إن أعمالكم تعرض على أقاربكم من الأموات ، فإن خيرا استبشروا به ، وإن كان غير ذلك قالوا : اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا».

* * *

١٢٠٥

٩٥٧. أمثال وحكم فى سورة يونس

(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١١) : المثل يقال لمن يتعجّل الشر كاستعجاله للخير ، فلا يستجاب له ، فلو عجّل الله للناس العقوبة كما يستعجلونه الثواب ، لأهلكهم وعجّل لهم قضاء آجالهم ليتعجّل لهم عذاب الآخرة ؛ والآية نزلت فى الرجل يدعو على نفسه أو على ولده ، فلو استجيب له كما يستجاب للناس الخير ، لهلك.

(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ...) (٢٤) : الآية لتشبيه وتمثيل صفة الحياة الدنيا فى فنائها وزوالها بالماء ـ أى مثل الماء يختلط بالأرض فيحيى الزروع ، وتعمّ الخضرة ، وتتزين الدنيا ، ويغتر الناس ، فيفعلون المعاصى ويكفرون ، فيأتيها عذاب الله ، ويهلك كل شىء ويستأصل ، وكأنه ما كان ، وكأنها لم تكن عامرة بالأمس.

(وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (٨٢) : مثل يعنى أن الحق مآله للنصرة ، ومعنى «يحقّ» يبيّنه ويوضّحه ؛ و «بكلماته» أى بكلامه وحججه وبراهينه ، وبعدالته بالنصر ؛ و «المجرمون» هم الظلمة أعداء الحق. والمثل يقال فقط : «ويحق الله الحق بكلماته».

* * *

٩٥٨. الأمثال والحكم فى سورة هود

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) (٧٧) : وفى الآية من الأقوال البليغة كالأمثال : «ضاق بهم ذرعا» ، و «هذا يوم عصيب» وفى الآية أنه ضاق صدره بمجيئهم وكرهه ، ويقولون : ضاق وسعه ، وأصل ذلك أن يذرع البعير بيديه فى سيره ذرعا على قدر سعة خطوه ، فإذا حمّل على أكثر من طوقه ضاق عن ذلك وضعف ومدّ عنقه ، فضيق الذرع عبارة عن ضيق الوسع.

(وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) (٩٣) : والمكانة هى الطريقة ، والمعنى اثبتوا على ما أنتم عليه ، فأنا ثابت على ما أنا عليه. وهذه الآية تكررت فى الأنعام (١٣٥) ؛ فإن قيل : كيف يجوز أن يؤمروا بالثبات على ما هم عليه وهم كفّار ، فالجواب أن هذا تهديد ، كقوله تعالى : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) (التوبة ٨٢) ، ومن الأقوال البليغة كالأمثال : «اعملوا على مكانتكم إنى عامل سوف تعلمون» ، «وارتقبوا إنى معكم رقيب».

١٢٠٦

(يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) (٩٨) : المثل فى الآية قوله : «وبئس الورد المورود» ، ومعنى الورد المورود المدخل المدخول ، وأوردهم أى أدخلهم ، يقال عن النار : بئس الورد المورود ، يعنى بئس المكان الذى ينتهى إليه الكفار مستقرا ومقاما ، وهو مورود لأنهم جميعا يردونه حتما ، ومثل ذلك قوله تعالى : (بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) (٩٩) (هود) ، والرّفد هو الجزاء ، ويقال رفدته أى أعنته وأعطيته ، والمعنى بئس ما يجزى به الكافرون فى النار من أنواع الجزاء.

(إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ...) (١١٤) : اللفظ عام فى الحسنات والسيئات ، والحسنة تكفّر السيئة.

* * *

٩٥٩. الأمثال والحكم فى سورة يوسف

(فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) (١٨) : كقوله تعالى : (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) (٥) (المعارج) ، والصبر الجميل هو الذى لا جزع فيه ولا شكوى لغير الله ، فيكون صاحب المصيبة فى القوم فلا تدرى من يكون من شدّة صبره على ما أصابه.

(قَدْ شَغَفَها حُبًّا ...) (٣٠) : والشغف باطن القلب ، وشغفها حبا غلبها ودخل حبه فى شغافها ، والمثل يقال بمعنى ذهب بها كل مذهب.

(قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) (٤٤) (يوسف) : وأضغاث الأحلام هى الأحلام المختلطة ، والضغث هو المختلط من البقل أو الحشيش أو غير ذلك.

(الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ) (٥١) : يعنى تبين وظهر الحق ، وأصله حصص ثم قيل حصحص ، والحصّ هو استئصال الشيء ، وكأنه أراد أن يقول : بانت حصة الحق من حصة الباطل.

(وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) (٦٧) : هو كقولنا : لا ينفع الحذر مع القدر.

(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ...) (٦٧) : هو تسليم لله بالحكم لا يشاركه أحد ، ولا يمانعه شىء.

(وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (٧٦) : حكمة غالية ، ومثل جامع ، فليس عالم إلا فوقه عالم ، حتى ينتهى إلى الله عزوجل ، وهو تعالى العليم فوق كل عالم ، وإليه ينتهى العلم ، ومنه بدئ ، وإليه يعود.

(لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (٨٧) : والمعنى : «لا تيأسوا من روح الله» ، أى من فرج الله ؛ واليأس أشد من القنوط ، واليأس من الكبائر.

* * *

١٢٠٧

٩٦٠. لأمثال والحكم فى سورة الرعد

(وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ...) (٤) (الرعد) : المراد بهذه الآية المثل ، ضربه الله تعالى لبنى آدم ، أصلهم واحد ، رهم مختلفون فى الخير والشر ، والإيمان والكفر ، كاختلاف الثمار التى تسقى بماء واحد ، ومنه قول الشاعر :

الناس كالنبت ، والنبت ألوان

منها شجر الصندل والكافور والبان

ومنها شجر ينضح طول الدهر قطران

(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) (٥) : قول فى التعجب استنكارا ، يعنى إن تعجب يا محمد من إنكارهم لك ، فأعجب منه تكذيبهم بالبعث.

(إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ...) (١١) (الرعد) : هذه قضية دينية ، وأخلاقية ، وسياسية ، واجتماعية ، واقتصادية : أن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يقع منهم التغيير لأنفسهم. ومثل ذلك قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (الأنفال ٥٣) ، يعنى أنه ينتزع منهم النعمة لأنهم غيّروا وبدّلوا. والآية معجزة علمية فى مجال علم التمدّن للمجتمعات.

(إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ ...) (١٤) : يضرب لمن يسعى فيما لا يدركه مثلا بالقابض على الماء بيده يريد أن يبلغ به فاه فلا يبلغه ، ومثله كالظمآن على شفّة بئر ، فلا هو يبلغ بيده قعر البئر ، ولا الماء يرتفع إليه.

(أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) (١٧) : هذا مثل ضربه الله للحق والباطل ، والإيمان والكفر ، والعدل والظلم ، والخير والشر ، فمثل الحق فى ثباته ، والباطل فى اضمحلاله ، مثل الماء الذى ينزل مطرا ويكون سبيلا تمتلئ به الأودية ، ويحمل السيل زبدا عاليا ، فالحقّ هو الماء الباقى الذى يمكث فى الأرض ، والزبد هو الذى ينقشع ويتلاشى مما لا ينتفع به وهو الباطل. والمثل الآخر : هو الزبد الآخر الذى يكون على المنصهر من مختلف المعادن كالذهب والفضة والنحاس ، مما يسبك فى النار لتصنع منه زينة أو أدوات ينتفع بها ، كالأوانى ، فهذا الزبد ـ زبد المعادن ـ يشبه زبد السيل ، لا ينتفع به مثله ، ولذلك يتخلّص منه ويلقى به ، فكذلك الحق والباطل ، فالحقّ ثابت والباطل إلى زوال.

(فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) (١٧) : والزبد هو

١٢٠٨

الغثاء الذى يحمله السيل ، وجفاء : يعنى يضمحل ويتلاشى ، لأنه لا منفعة فيه ، فلا بقاء له ، يقال جفا الماء بالزبد : إذا قذفه ورمى به. والمثل يعنى أن ما ينفع الناس هو الذى له الدوام والبقاء ، وما لا نفع فيه ينسى ويضمحل وينتهى أمره.

(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى) (١٩) : هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر. والمراد بالعمى عمى القلب ، والجاهل بالدين أعمى القلب ، وكذلك المنكر للقرآن وأنه نزل على النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الله تعالى.

(عُقْبَى الدَّارِ) (٢٤) العقبى آخر كل شىء ، والعقبى هى الآخرة ، وعقبى الدار هى عاقبة الآخرة ، وقد تكون الجنة ، وقد تكون النار ، وإنما الجنة للمتّقين ، والنار للمزدرين المنكرين ، والعقبى للمتقين من أعقب يعنى جازى بالخير ، ومن عاقب أى جازى بالشّر. وفى الآية مثل الآخرة بالدار التى فيها الإقامة ، وجعلها عاقبة أى تتمة المطاف.

(أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (٢٨) : الذكر باللسان ، والاطمئنان محله القلب ، والقلوب تطمئن بذكر فضله تعالى وإنعامه ، كما توجل بذكر عدله وانتقامه وقضائه ، ويذكرونه بتأمل آياته فيعرفون كمال قدرته عن بصيرة.

(وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ) (٣١) : المثل يقال عن كل ظالم أو جاحد ، فما زالت تصيبهم الدواهى المهلكة من العذاب والبلاء لسوء عملهم ، تفجئهم بعتوهم ، وتنزل بساحتهم بالقرب منهم.

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها ...) (٣٥) : مثل الجنة التى وعد المتقون كمثل ما يعرفه أهل الأرض عن الجنان ، فإن بها أنهارا وأكل ، ولها ظل ولكنه دائم وليس كالظلال فى الأرض.

(لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) (٣٨) (الرعد) : المثل كقوله : (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) (الأنعام ٦٧) ، والمعنى لكل أمر مقدّر وقت معلوم. وقيل : إن خاتم موسى فى إصبعه كان مكتوبا عليه :

(لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) (٣٨) ، تذكيرا له ووعظا.

* * *

٩٦١. الأمثال والحكم فى سورة إبراهيم

(لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) (١) : هذا على التمثيل ، فجعل الكفر بمنزلة الظلمة ، والإسلام بمنزلة النور.

(وَيَبْغُونَها عِوَجاً) (٣) : أراد بها الدنيا ، يطلب لها الكافر الزيغ والميل لأنهما يوافقان هواه.

١٢٠٩

(لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) (٧) : الآية نصّ فى أن الشكر سبب المزيد ، والمعنى : لئن شكرتم أنعامى ، لأزيدنكم من فضلى.

(فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) (٩) : كقوله تعالى (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) (آل عمران ١١٩) أى جعل أولئك القوم أيدى أنفسهم فى أفواههم ليعضّوها غيظا مما جاء به الرسل.

(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا) (١٨) : مثلهم كمثل رماد ذرته الرياح ، يعنى حبطت أعمالهم ، والرماد ما بقى بعد الاحتراق ، فضرب الله هذه الآية مثلا لأعمال الكافرين أنه تعالى يمحقها كما تمحق الريح الشديدة الرماد فى اليوم العاصف.

(ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) (٢١) : أى ما لنا من مهرب وملجأ ، من حاص فلان عن كذا ، أى فرّ وزاغ ، يحيص حيصا وحيوصا.

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٢٥) : قيل : مثل الإيمان كمثل شجرة ثابتة : الاعتقاد عروقها ، والصلاة أصلها ، والزكاة فروعها ، والصيام أغصانها ، والتأذّى فى الله ساقها ، وحسن الخلق ورقها ، والكفّ عن محارم الله ثمرتها. وقيل : مثل الإيمان كالنخلة ، أصلها ثابت فى الأرض وتشرب منها ، وتسقيها السماء من فوقها فهى زاكية نامية. وقيل : (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ) (٢٦) (إبراهيم) ، والشجرة الخبيثة هى شجرة الحنظل أو المرّ. وقيل : الكلمة الخبيثة هى كلمة الكفر ، وقيل هى المشرك نفسه ، واجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار : أى ليس للمشرك أصل يعمل عليه. والكلمة يفهم منها القول والدعاء ، فالكلمة الطيبة هى الدعاء بالخير ، والكلمة الخبيثة هى الدعاء بالشرّ.

(وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) (٤٦) : والمعنى : استعظام مكرهم ، أى ولقد عظم مكرهم حتى كادت الجبال تزول منه ، والجبال لا تزول ولكن العبارة عن تعظيم الشيء.

* * *

٩٦٢. الأمثال والحكم فى سورة الحجر

(وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) (١٥) : والمعنى إجمالا : إنهم لو أجيبوا إلى ما اقترحوا من الآيات

١٢١٠

تتنزل على النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ربّه دليلا على أنه نبىّ ، لأصرّوا على الكفر وتعلّلوا بالخيالات ، كما قالوا للقرآن المعجز أنه سحر ؛ ويعرجون يصعدون ، وسكّرت أبصارنا سدّت بالسحر وأغشيت وعميت.

(وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) (٥٦) : استفهام إنكارى ، أى لا يقنط من رحمة الله إلا من ضل طريقه وأخطأ الصواب ، وجهل ربّ الأرباب ؛ وأما القلب المؤمن المتصل بالرحمن فلا ييأس ولا يقنط. وتعجّب إبراهيم كان بسبب بشارة الملائكة له أنه سينجب إسحاق ، والله خلق آدم بلا أبوين ، أفيعجز عن أن يخلق من شيخ فان وعجوز عاقر؟ ولذلك ردّ عليهم بهذا الجواب الذى صار مثلا.

(دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) (٦٦) : نظيره قوله تعالى : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) (الأنعام ٤٥) ، أى استأصلهم عن آخرهم فلم يبق منهم أحد. والدابر آخر الشيء.

(وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٨٨) : يعنى ألن جانبك لمن آمن بك ، وتواضع لهم ، وهذا عام لكل المسلمين ، يقال فلان خافض الجناح أى وقور ساكن ، والجناحان من ابن آدم جانباه.

* * *

٩٦٣. الأمثال والحكم فى سورة النحل

(وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) (٨) : مثل يقال لدى رؤية العجيب والغريب من الأشياء والخلق مما لم يره بشر.

(وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) (٩) : وقصد السبيل : هو الطريق القاصد إلى المطلوب ، فعلى الله بيانه للناس ليهتدى به ، وهو يعين على بيانه بالرسل والحجج والبراهين ؛ ومنه «السبيل الجائر» أى الذى يحيد عن الحق.

(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) (١٨) : يعنى لا تقوموا بحصرها لكثرتها ، كالسمع والبصر ، والكلام ، والفهم ، والعقل ، والرزق ... إلخ.

(أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) (٢٥) : المعنى بئس الوزر الذى يحملونه.

(فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) (٢٦) : الآية تمثيل ، والمعنى أنه تعالى أهلكهم فكانوا بمنزلة من سقط عليه بنيانه.

(فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (٥٥) : المثل لبيان عاقبة الانغماس فى المتع ونسيان الله.

(لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) (٦٠) : يقال لفلان (مَثَلُ السَّوْءِ) يعنى له كل الصفات السيئة التى يمكن أن تكون لإنسان سيّئ ، (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) أى الوصف الأعلى بأنه الواحد ، والرازق ، والقادر ... إلخ.

١٢١١

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ) (٦١) : المراد بالآية العموم ، أى لو أخذ الله الخلق بما كسبوا ما ترك على ظهر الأرض من دابة ، ولو أخذ الخلائق بذنوب المؤمنين لأصاب العذاب جميع الخلق.

(وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) (٧١) : والمعنى جعل الغنى والفقير ، لأنه فضل بعضا على بعض فى القدرات ، فاختلفت الأرزاق ، وهو مبدأ هام فى اشتراكية الإسلام.

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٧٦) : هذا المثل لاثنين أحدهما لا يصلح لشىء وعبء على من يستخدمه ، والآخر عاقل وقادر وله الأمر ، هل يستويان؟ وهل يستوى الكافر والمؤمن ، ومن يرضى بالظلم ومن يأمر بالمعروف؟ ومثل ذلك المثل الآخر فى الآية : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٧٥) ، يعنى لا يستوى العبد المملوك الذى لا يقدر من أمره على شىء ، والرجل الحر الذى يرزق الرزق الحسن فينفق منه فى وجوه الخير سرا وجهرا ، فكذلك من جعلتم شركاء لله وهم لا يستطيعون شيئا ، فهل يقارنون بالله تعالى؟

(وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) (٩٢) : شبّهت الآية الذى يعزم على عمل ويعاهد عليه ويبرم عهده ، ثم ينقضه ، بالمرأة تغزل غزلها وتفتله محكما ثم تحلّه. ويروى أن امرأة حمقاء كانت بمكة تسمى ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة كانت تفعل ذلك ، فبها وقع التشبيه. وقيل إنما الآية تضرب مثلا وليست عن امرأة بعينها. وهذا المثل نفسه يصدق على بنيلوبى Penelope من نساء الأدب الغربى الإغريقى ، وكانت زوجة أوديسيوس الذى ذكر قصته وقصتها هومر فى الإلياذة ، وكان زوجها قد ذهب للمشاركة فى حرب طروادة ، وغاب عنها عشرين سنة ، واجتمع عليها خمسون من أعيان أتيكا ، يقنعونها أن زوجها مات ، وأن عليها أن تتزوج ، ويتوددون إليها ، ويغازلونها ، ويتقربون منها ، ويفرضون أنفسهم عليها فى بيتها كل ليلة ، لعلها تقع فى حب أحدهم ، أو تختار واحدا منهم زوجا لها ، ولم يفلحوا فى إغوائها ، وتمنعت عليهم ، وكانت تؤثر أن تنتظر زوجها يعود إليها ، وأن تربى ابنها منه. وكان الابن طفلا حين ارتحل أبوه ، وتخشى أن تصدّ مغازلات أعيان أتيكا فيغضبون عليها ويكيدون لها ويجاهرونها العداء ، فاحتالت عليهم واحضرت خيوط صوف تغزلها فى المساء والأعيان حضور ، وتدّعى أنها تصنع كفنا

١٢١٢

للايرتيس المريض ، والد أوديسيوس ، وأنها بعد وفاة لايرتيس ستصبح حرّة تتزوج من تشاء ، ولكنها فى الصباح وخلال النهار كانت تنقض غزلها ، لتحكمه المرة بعد المرة فى المساء ، فلا هى تنهى غزل الكفن ، ولا هى تتوقف عن إحكام الغزل ونقضه يوميا ، إلى أن جاء زوجها وخلّصها من ورطتها. ومثل بنيولوبى تصدق عليه الآية القرآنية : (كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً).

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) (١١٢) : قيل : القرية هى مكة ، ضرب بها المثل لغيرها من البلاد ، فمع أنها إلى جوار بيت الله ، ولأهلها عمارته ، فقد كفر أهلها ، فأصابهم القحط ، فكيف بغير مكة من البلاد؟!! والصحيح أن المثل مضروب بأى قرية أو مدينة ، أو بأى شعب أو دولة ، تكون على هذه الصفة من الجحد بأنعم الله وينصرف أهلها عن عبادته.

* * *

٩٦٤. أمثال وحكم سورة الإسراء

(إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) (٧) : المعنى أن النفع للإحسان ، والضرر من الإساءة ، مرجعهما إلى من يفعلهما.

(وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) (٨) المثل فى الآية معناه : إن عدتم عاد الله عليكم ، وقيل فى بنى إسرائيل حلّ العقاب بهم مرتين ، حين عاودهم العصيان.

(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) (١١) : هذا المثل يضرب لمن يدعو فى طلب المحظور كما يدعو فى طلب المباح.

(وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) (١١) يعنى طبعه العجلة ، ونظيره قوله : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) (الأنبياء ٣٧) ، وبتفسير عائشة قالت : أن يؤثر العاجل وإن قلّ ، على الآجل وإن جلّ.

(وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) (١٣) : طائره هو عمله ، وكل إنسان مسئول عن عمله ، وتتلازم المسئولية والعمل ، ويلزمان صاحبهما كما تلزم القلادة العنق ، ويوم القيامة يلقى كل إنسان كتاب عمله هذا منشورا ، قلمه هو لسانه ، ومداده هو ريقه ، وقرطاسه هو أعضاؤه ، وجميعه يشهد عليه ، ولات حين مناص.

(وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) (٢٤) : هذه استعارة فى الشفقة والرحمة بالوالدين ، والتذلل لهما تذلل الخادم من السيد ، وضرب خفض الجناح ونصبه مثلا لجناح الطائر حين ينصبه لولده. والذل هو اللين.

١٢١٣

(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (٢٩) : هذا مجاز عبر به عن البخيل الذى لا يقدر على إخراج شىء بخلا وشحا ، فضرب له مثل الغلّ الذى يمنع التصرف باليد.

(وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) (٦٤) : يقال فى الأمثال : «أتى بخيله ورجله» يعنى أتى بفرسانه ومشاته ، أى أنه استعان بكل ما عنده ، واستنفد كل حيله وإمكاناته ، والمثل يقال للتحديّ ، والإجلاب من جلبة السوق ، يعنى جمع كل ما يستطيع جمعه ، وسياق الآية عن إبليس وكل من تابعه ، يأمره الله تعالى أمر إهانة ، أن يجهد نفسه فقد أنظره ، وأن يجمع كل ما يقدر عليه من المكايد ، ويجنّد كل من بوسعه تجنيده من الناس ، الماشى منهم والراكب ، والفقير والغنى ، فالنتيجة واحدة ، أن الحق على المدى الطويل يزهق الباطل ، وينتصر الخير على الشر.

(وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) (٨١) : الآية عامة ، والله يحقّ الحقّ ويبطل الباطل.

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٨٢) : القرآن شفاء للقلوب والأمراض الباطنة ، وللأجسام والأمراض الظاهرة ، والأمراض منها النفسى الجسمى ، فالعلة النفسية تعطّل الجسم ، وكذلك العلّة الجسمية تعطل النفس ، والقرآن يعالج الجسم بعلاج النفس.

(قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) (٨٤) : المثل يعنى كلّ يعمل على ما هو أشكل عنده وأولى بالصواب فى اعتقاده ، مأخوذ من الشكل ، يقال : لست على شاكلتى ولا شكلى ، فالشكل هو المثل والنظير والضريب. وكل أحد يعمل على ما يشاكل أصله وأخلاقه.

* * *

٩٦٥. أمثال وحكم سورة الكهف

(كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) (٥) : هو قول حسن وردّ مفحم ، ويعنى قولهم بأن لله ولدا هو قول مستشنع مستبشع مستفظع ، وفى غاية الفساد والبطلان. والكلمة تكبر أى تعظم ، وهى قولهم اتخذ الله ولدا.

(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) (٦) : الآية من وجيز القرآن ، وفيها تسلية للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهى جواب على من لا يؤمن ، وسلوى لمن يدعو الداعية إلى الإيمان ولا يجد صدى لدعوته.

(إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (٧) : الآية بسط فى

١٢١٤

التسلية ، أى لا تهتم يا محمد للدنيا وأهلها فإنّا إنما جعلنا ذلك امتحانا واختبارا لهم ، فمنهم من يتدبّر ويؤمن ، ومنهم من يكفر. وفى الحديث من ذلك : «إن الدنيا خضرة حلوة ، والله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون» ، والآية قول حسن وجيز فى ألفاظه ، بليغ فى معناه.

(فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) (١١) : الآية من فصيحات القرآن التى أقرّت قصور العرب عن الإتيان بمثل ما تضمنه القرآن من حقائق علمية ، ومعناها ضربناهم على آذانهم بالنوم ، أى سددنا آذانهم عن نفوذ الأصوات إليها ، فما عادوا يسمعون ؛ والنوم لا يستحكم إلا إذا تعطّل السمع ، فهذه حقيقة علمية لم يكن العرب يعرفونها ، ولا اليونان ، وكانوا يقولون فى تفسير ظاهرة عدم السماع أثناء النوم بأن الشيطان يبول فى أذن النائم فلا يسمع ، ومن أمثالهم فى ذلك قولهم : ذاك رجل بال الشيطان فى أذنه.

(وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ..) (٢٤) : الآية فيها أن تعد بفعل شىء إلا لو قلت : إن شاء الله ، وذكر مشيئة الله من الإيمان.

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) (٢٤) : يعنى اذكره بعد النسيان ، وكل من يعد بشيء ولا يقول إن شاء الله ، عليه أن يقول عسى ربى أن يهدينى لأقرب من هذا رشدا ، وهى كفّارة لنسيان إن شاء الله ، والآية دعاء دون تخصيص ، والمعنى إذا نسيت شيئا فاذكره تعالى يذكّرك به. واذكره تعالى إذا نسيت غيره ، أو نسيت نفسك ، فذلك حقيقة الذكر.

(أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) (٢٦) : قول موجز فيه حكمة ، يعنى لا أحد أبصر من الله ولا أسمع منه.

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) (٣٤) : هذا مثل لمن يتعزز بالدنيا ويستنكف عن مجالسة المؤمنين ، نزلت فى أخوين من أهل مكة مخزوميين ، أحدهما مؤمن والآخر كافر ، وقيل نزلت فى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأهل مكة. وقيل : هو مثل لجميع من آمن بالله وجميع من كفر. وقيل هو مثل لعيينة بن حصن وأصحابه مع سلمان وصهيب وأصحابهما.

(وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) (٣٩) : هو توبيخ ووصية من المؤمن للكافر ، وكل من دخل منزلا ينبغى أن يقوله. وفى الحديث : «لا حول ولا قوة إلا بالله إذا قالها العبد ، قال الله : أسلم عبدى واستسلم» أخرجه مسلم.

١٢١٥

(الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) (٤٦) : فى المال جمع ونفع ، وفى البنين قوة ودفع ، فصارا زينة الحياة الدنيا.

(وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) (٤٦) : الآية كلها : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) (٤٦) ، يعنى أن المال هو عصب الدنيا ، والبنون قوتها ، ولكنهما غرور يمر ولا يبقى ، والذى يبقى هو الصالحات ، فهى زاد القبر وعدّة الآخرة ، وكان يقال : لا تعقد قلبك مع المال لأنه فيء ذاهب ، ولا مع النساء لأنها اليوم معك وغدا مع غيرك ، ولا مع المناصب والجاه والسلطان لأن ذلك اليوم لك وغدا لغيرك. والله تعالى يقول : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) (التغابن ١٥) ، ويقول : (إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) (التغابن ١٤).

(وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) (٥٤) : يجادل فى الحق والباطل ، وينسب القرآن حبّ المجادلة فى الإنسان إلى الكبر فيه : (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ) (غافر ٥٦) ، وأكثر الجدال فى الله وآياته ، يقول تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الحج ٣) ، ويقول : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) (غافر ٤). والقرآن لا يحرّم الجدل إطلاقا ولكنه يفرّق بين الجدل عن حق ، والجدال عن باطل ، وشرط الجدل أن يكون بالمنطق : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (العنكبوت ٤٦) ، قيل (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) هو المنطق.

(لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) (٧١) كقوله : (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) (٧٤) ، واختلف الناس أيهما أبلغ : إمرا أو نكرا ، قالوا : نكرا أبلغ لأن الخضر قتل الولد ، والقتل منكر لا شك فيه ؛ وقالوا : امرا أبلغ لأن خرق سفينة فيه قتل لجماعة وليس لواحد.

(قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) (١٠٩) (الكهف) : المثل يعنى : إن كان البحر مدادا لكلمات الله ، لنفذ البحر قبل أن تنقذ العبارات والدلالات التى تدل على مفهومات معانى كلامه ، كقوله : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) (لقمان ٢٧).

* * *

٩٦٦. أمثال وحكم سورة طه

(اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) (٣٢) : هذا القول من الأمثال ، ويقال عمن نتوسم فيه الخير ويرجى به الصلاح ، والأزر هو الظهر ، والشراكة فى الأمر بالنصح والإرشاد ، وهو قول موسى عن أخيه تبريرا لاستوزاره.

* * *

١٢١٦

٩٦٧. أمثال وحكم سورة الأنبياء

(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) (١٨) : أصل الدمغ شجّ الرأس حتى يبلغ الدماغ ، والحق هو القرآن ، والباطل الشيطان والمعاصى ، ووصفهم الله بغير صفاته من الولد وغيره من الباطل ، والحق الحجة ، أو المواعظ. وزاهق يعنى هالك وتالف.

(لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (٢٣) : المثل يعنى أنه تعالى لا يؤاخذ على أفعاله والناس يؤاخذون.

(وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) (٣٥) : الشدّة والرخاء ، والحلال والحرام ، فتنة وابتلاء واختبار.

(خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) (٣٧) : معنى المثل أنه طبع على الاستعجال ، والمراد بالإنسان الناس كلهم ، كقوله : (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) (الإسراء ١١).

(وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ) (٩٧) : هو : يوم القيامة.

(قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) (١١٢) : الآية فى تفويض الأمور إلى الله ، وتوقع الفرج من عنده.

* * *

٩٦٨. أمثال وحكم سورة الحج

(مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ) (١٥) : يقال استهزاء على جهة المثل السائر : «دونك الحبل فاشنق نفسك إن كان ذلك يريحك». والآية تعنى أن من يتشكك أن الله يمكن أن يعينه أو يرحمه ، أو يرزقه ، أو يشفيه ، أو ينصره ... إلخ ، أو يستبطىء الرحمة أو العون أو الرزق ، فليقتل نفسه إذن ـ طالما يئس من ربّه ، وليعلّق حبلا فى سقف حجرته ويربطه حول عنقه وينتحر إن كان فى انتحاره ما يذهب غيظه!

(وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ..) (١٨) : من أهانه بالشقاء والكفر لا يقدر أحد على دفع الهوان عنه ، ومن تهاون بعبادته لحقه الخزى والخسران.

(وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) (٣١) : المعنى : من يشرك بالله فهو يوم القيامة بمنزلة من لا يملك لنفسه نفعا ، ولا يدفع عن نفسه قهرا ولا عذابا ، فهو بمنزلة من خرّ من السماء ، فهو لا يقدر أن يدفع عن نفسه. وتخطفه الطير أى تقطعه بمخالبها ، وقيل ذلك عند خروج روحه.

(وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٤٠) : وعد بنصرة من ينصر الحق ، ومن ينصر دينه ونبيّنه.

١٢١٧

(وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) (٤٥) : يقال وصفا للمكان بالخراب.

(فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) (٤٦) : أضاف العقل إلى القلب لأنه محله ، كما أن السمع محله الأذن. والمعروف علميا أن العقل محله الدماغ ، فإن قلت عقليا فالمقصود ما بالدماغ وهى عملياته الإدراكية ، وإن قلت قلبيا فالمقصود الإيمان وهو من أعمال القلوب.

(فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٤٦) : قيل : لكل إنسان أربع أعين ، عينان فى رأسه لدنياه ، وعينان فى قلبه لآخرته ، فإن عميت عينا رأسه وأبصرت عينا قلبه فلم يضرّ ما عداه. وإن أبصرت عينا رأسه وعميت عينا قلبه فلم ينفعه نظره شيئا.

(ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) (٧٣) : هذا المثل بمقياس عصرنا هو إعجاز علمى ، وبمقياس الأقدمين هو إعجاز بلاغى ، يعنى ما تقدسونه وتتعاملون معه كأنما هو إله ، لا يقدر أن يخلق ذبابة ، ولو حتى ساعدوه وأعانوه جميعهم بعقولهم وعلومهم وآلاتهم ، وإن سلبهم الذباب شيئا ما استطاعوا أن يستنقذوه منه ، ضعف الطالب والمطلوب ، والطالب هم الناس الذى أغربوا فى التعبّد لغير الحق ، وانصرفوا إلى الباطل ، ولا حجة لديهم ولا برهان على ما يعتنقون من فلسفات علمانية أو إلحادية ، أو ليبرالية ، أو إمبرالية ، أو تنويرية. والمطلوب : هو الذباب بكل ما يمثله من ضعف وحقارة وقذارة ومهانة ، فهم بما يدّعون لأنفسهم ولعلومهم وعقولهم واختراعاتهم ، لا يقدرون على خلق ذبابة ، أو دفع أذية الذباب ، فكيف يدّعون لأنفسهم ما ليس لهم ، ويجعلون من عقولهم وعلومهم أربابا؟ والتمثيل رائع ، وقوله الطالب والمطلوب من مصطلحات المنطق ، ولا أحسب أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم درس المنطق ليتحدث كأهله ، وهو ما يثبت أن الكلام هو كلام الله. والمقارنة بين الإنسان والذبابة باعتبار زمان النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم متقدمة جدا ، لأننا لم نكتشف إلا حديثا جدا (من سنة ١٩٢٠ إلى سنة ٢٠٠١) التشابه فى التركيب الجينى بين الإنسان والذبابة (ذبابة الدروسوفيل تحديدا وهى ذبابة الفاكهة)! وتم هذا الاكتشاف من خلال علماء أمريكيين أساسا ، وعلق وزير البحث العلمى الفرنسى آنذاك (روجر جيرار) بأنه درس للإنسان فى التواضع!

* * *

٩٦٩. أمثال وحكم سورة المؤمنون

(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (٩٦) : أمر بالصفح ومكارم الأخلاق.

١٢١٨

* * *

٩٧٠. مثال وحكم سورة النور

(مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ..) (٣٥) : هذا مثل ضربه الله لنوره ، والتشبيه فيه الجملة بالجملة ، والنور المشبه ليس كنور الدنيا ، ولا الشجرة كشجر الدنيا ، ولو كانت الشجرة مثلا من شجر الدنيا لكانت شرقية أو غربية ، لكنها لا هذه ولا هذه ، ولو لا ذلك ما فهم الناس ولا عرفوا الله. والمثل ليس فيه مقابلة جزء من المثال بجزء من الممثل به ، والآية تشابه بين نوره تعالى الذى هو هداه بجملة الأنوار التى يعرفها البشر ، فهذا أقصى ما يمكن أن يتصوروا به نوره تعالى.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ..) (٣٩) هذا مثل ضربه الله تعالى للكفرة ، أو الفسقة ، أو الظلمة ، أو لأىّ من كانوا طالما هم من الأشرار ، فأعمال الخير طالما هم كذلك كأنما هى الماء يجرى على أرض منبسطة ويتسرّب منها فلا ينبت زرعا ، أو كسراب يحسبونه ماء ثم يتبين لهم أنه لا شىء ، فأى عمل خير لا ينجيهم طالما هم على ما هم عليه من الشرّ.

(أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (٤٠) : هذا مثل آخر ضربه تعالى للأشرار أو الكفّار ، فمثّل فى الآية السابقة أعمالهم فى الخير بالسراب ، وفى هذا المثل مثّلها بالظلمات.

* * *

٩٧١. أمثال وحكم سورة الفرقان

(حِجْراً مَحْجُوراً) (٢٢) : الحجر الحرام ، والمحجور المحرم ، وهى كلمة الكفار للملائكة ، يقولونها استعاذة ، وكانت معروفة فى الجاهلية ، وتعنى حجر الله عليك ، كقولنا أعوذ بالله منك.

* * *

٩٧٢. أمثال وحكم سورة الشعراء

(إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) (٤) : مثل يضرب عند ما يراد أن يأتى الفعل من الآخرين اختيارا لا اضطرارا.

(وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) (١٣٠) : هو القتل فى غير حق ، وعلى الغضب من غير تثبت ، وقد صار ذلك فى بلادنا ، فتبطش الشرطة بالناس ، ويتحكم الحاكم الجبّار المتسلّط

١٢١٩

العاتى فى غير حق.

(وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) (٢٢٦) : هذا أوجز كلام عن الشعراء وأحوالهم.

* * *

٩٧٣. أمثال وحكم سورة النمل

(إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) (٣٤) : هو قول فى الملوك والطغاة صار مثلا ، وهو قول بلقيس ملكة سبأ ، يعنى أنهم إذا فتحوا بلدا وغزوها أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة. وصدق الله تعالى على كلامها وقال : (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ).

(قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) (٤٧) : يقال اطيّرنا بك : تشاءمنا ؛ والطيرة : هى الشؤم والنحس ، وما يتشاءم به ، ولا شىء أضر بالرأى ، ولا أفسد للتدبير من اعتقاده الطيرة. ومن ظن أن خوار بقرة ، أو نهيق حمار ، أو مواء قطة ، أو نعيق غراب ، يردّ قضاء ، أو يدفع مقدورا ، أو ينبئ عن معيبة ، فقد جهل :

طيرة الدهر لا تردّ قضاء

فاعذر الدهر لا تشبه بلوم

أى يوم يخصّه بسعود

والمنايا ينزلن فى كل يوم

ليس يوم إلا وفيه سعود

ونحوس تجرى لقوم فقوم

والطيرة : من زجر الطير ، جمع طائر ، وكان الناس قديما إذا أرادوا السفر نفّرت طائرا ، فإذا طار يمنة سارت وتيمنت ، وإن طار شمالا رجعت وتشاءمت ، ونهى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، وقال : «أقرّوا الطير على وكناتها» ، والوكنات بضم الكاف وسكونها جمع وكنة بالسكون ، وهى عش الطائر ووكره ، وفى القرآن : (قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) (٤٧) ، وهؤلاء كانوا قوم النبىّ صالح ، والرّد على من يقول ذلك هو كما فى الآية : طائرك عند الله ، أى ما قد يأتيك من المصائب ليس من عندى بل من عند الله. أو تقول : طائرك معك ، يعنى هذا قدرك وقضاؤك ، أو هذا من تصوّرك وتخيّلك وليس منى ، كقوله تعالى : (إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) (١٩) (يس) يعنى أكلما ذكّرتم تطيّرتم؟! وأما قوله تعالى : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) (الإسراء ١٣) فهذا مثل آخر ، يعنى : أن عمل كل إنسان ، وما قدّر له من الخير والشر يلازمه أينما كان. يعنى ما يطيّر من خير أو شر على التمثيل ، يلزمه فى عنقه كما تلزمه القلادة ،

١٢٢٠